سورة النحل
مائة وثمانية وعشرون آية مكية إلا ثلاث آيات من آخرها
روى ابن إسحاق وابن جرير عن عطاء بن يسار قال : نزلت النحل كلها بمكة إلا ثلاث آيات من آخرها نزلت بالمدينة بعد أحد حين قتل حمزة ومثل به فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( لئن ظهرنا عليهم لنمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب بأحد قط ) فأنزل الله { وإن عاقبتم ) إلى آخر السورة.
ﰡ
﴿ أتى أمر الله ﴾ أي دنا وقرب، قال ابن عرفة يقول العرب أتاك الأمر وهو متوقع بعد، فالإتيان مجاز من الدنو أو من وجوب الوقوع فإن الأمر الواجب الوقوع في المستقبل بمنزلة الماضي في كونه متيقنا وجوده، والمعنى أن أمر الله الموعود وهو قيام الساعة على ما قاله الكلبي وغيره واجب وقوعه استيقنوا به ولا ترتابوا فيه وأعدوا له كأنه قد أتى ﴿ فلا تستعجلوه ﴾ أي لا تستعجلوا وقوعه إذ لا خير لكم فيه ولا خلاص لكم عنه، قال البغوي قال ابن عباس رضي الله عنهما لما نزل قوله تعالى :﴿ اقتربت الساعة ﴾ قال الكفار بعضهم لبعض إن هذا الرجل يزعم أن القيامة قد قربت فأمسكوا عن بعض ما كنتم تعملون حتى ننظر ما هو كائن فلما لم ينزل شيء قالوا : ما نرى شيئا مما تخوفنا به فنزل قوله تعالى :﴿ اقترب للناس حسابهم ﴾ فأشفقوا فلما امتدت الأيام قالوا : يا محمد ما نرى شيئا مما تخوفنا به فأنزل الله تعالى :﴿ أتى أمر الله ﴾ فوثب النبي صلى الله عليه وسلم ورفع الناس رؤسهم وظنوا أنها قد أتت حقيقة فنزل :﴿ فلا تستعجلوه ﴾ فاطمأنوا، أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال لما نزلت أتى أمر الله ذعر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلت فلا تستعجلوه، والاستعجال طلب الشيء قبل أوانه، قال البغوي ولما نزلت هذه الآية قال النبي صلى الله عليه وسلم :( بعثت أنا والساعة كهاتين فأشار بإصبعيه كادت لتسبقني ) قلت : وفي الصحيحين عن أنس ( بعثت أنا والساعة كهاتين ) وروى الترمذي عن المستورد بن شداد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( بعثت في نفس الساعة فسبقتها كما سبقت هذه هذه ) وأشار بإصبعيه السبابة والوسطى ) وقال البغوي قال ابن عباس كان بعث النبي صلى الله عليه وسلم من أشراط الساعة ولما مر جبرئيل عليه السلام بأهل السماوات مبعوثا إلى محمد صلى الله عليه وسلم قالوا الله أكبر قامت الساعة، وقال قوم المراد بالأمر ههنا عقوبة المكذبين والعذاب بالسيف وذلك أن النضر بن الحارث قال :﴿ اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء ) فاستعجلوا العذاب فنزلت هذه الاية وقتل النضر يوم بدر صبرا { سبحانه ﴾ أي أسبح الله سبحانا وأنزهه تنزيها ﴿ وتعالى ﴾ يعني تعاظم وترافع بالأوصاف الجليلة ﴿ عما يشركون ﴾ عن أن يكون له شريك فيدفع ما أراد بهم أو عما يصفه به المشركون، قرأ حمزة والكسائي بالتاء على الخطاب في الموضعين مطابقا لقوله تعالى فلا تستعجلوه والباقون بالياء على الإلتفات أو على أن الخطاب للمؤمنين أو لهم ولغيرهم لما مر في الحديث أنه وثب النبي صلى الله عليه وسلم ورفع الناس رؤوسهم فنزلت ﴿ فلا تستعجلوه ﴾.
﴿ ينزل الملائكة ﴾ قرأ العامة بضم الياء وكسر الزاء من الأفعال ونصب الملائكة على المفعولية وبعقوب بالتاء الفوقانية وفتح الزاء على صيغة المضارع من التفعيل بحذف إحدى التائين ورفع الملائكة على الفاعلية ﴿ بالروح ﴾ أي بالوحي أو القرآن فإنه يحيي به القلوب الميتة بالجهل ﴿ من أمره ﴾ أي بأمره ومن أجله ﴿ على من يشاء ﴾ أن يتخذه رسولا ﴿ من عباده أن أنذروا ﴾ أي أعلموا من نذرت هكذا إذا علمته وأن مفسرة لأن الروح بمعنى الوحي الدال على القول أو مصدرية في موضع الجر على البدل من الروح أو النصب بنزع الخافض، أو مخففة من الثقيلة ﴿ أنه ﴾ أي الشأن ﴿ لا إله إلا أنا فاتقون ﴾ رجوع إلى مخاطبتهم بما هو المقصود أو يقال أنذروا بمعنى خوفوا أهل الشرك والمعاصي بالعذاب وأعلموا أنه لا إله إلا أنا فاتقون أي خافون، وفي الآية تنبيه على أن الوحي حاصله التنبيه على التوحيد وهو منتهى كمال القوة العلمية والأمر بالتقوى الذي هو أقصى كمالات العلمية والآيات الآتية دالة على الواحدية من حيث أنها تدل على أنه تعالى هو الموجد لأصول العالم وفروعه على وفق الحكمة والمصلحة ولو كان له شريك لقدر على ذلك وأمكن التمانع، وفي تعقيب هذه الآية لقوله تعالى :﴿ أتى أمر الله ﴾ إشارة إلى الطريق الذي علم الرسول بذلك إتيان الساعة وإزاحة لاستبعادهم باختصاصه بالعلم.
﴿ خلق السماوات والأرض ﴾ متلبسا ﴿ بالحق ﴾ أوجدهما على مقدار وشكل وأوضاع وصفات مختلفة بحيث يدل على صانع قديم واحد قدير حكيم ﴿ تعالى ﴾ تعاظم وارتفع ﴿ عما يشركون ﴾ منهما أو يفتقر في وجوده أو بقائه عليهما وهما لا يقدران على خلقها وفيه دليل على أنه تعالى ليس قبيل الإجرام.
﴿ خلق الإنسان من نطفة ﴾ جماد لا حس لها ولا حركة سيالة لا يحفظ الوضع والشكل حتى صار قويا شديدا ﴿ فإذا هو خصيم ﴾ منطيق مجادل ﴿ مبين٤ ﴾ للحجة على نفي البعث بقوله :﴿ من يحي العظام وهي رميم ﴾ أو ظاهر الجدال بخالقه قال البغوي نزلت في أبي بن خلف الجمحي وكان ينكر البعث فجاء بعظم رميم فقال أتقولون أن الله يحيي هذا بعدما رم ونزلت فيه أيضا :﴿ وضرب لنا مثلا ونسي خلقه ﴾ وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي هذه القصة في قوله تعالى :﴿ أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة ﴾ الآية، والمعنى أن هذا المنكر لم يتفرس بأن الله تعالى خلقه وقد كان نطفة فأي استبعاد في خلقه مرة أخرى بعدما رم ولفظ عام وإن كان المورد خاصا والله أعلم.
﴿ والأنعام ﴾ يعني الإبل والبقر والغنم منصوب بمضمر يفسره قوله :﴿ خلقها لكم ﴾ وبالعطف على الإنسان وجملة خلقها لكم بيان لما خلق لأجله وما بعده تفصيله ﴿ فيها دفئ ﴾ في القاموس أنه نقيض حدة البرد يعني تستدفئون من أبارها وأشعارها وأصواتها ويجعل منها ملابس ولحفا ﴿ ومنافع ﴾ من النسل والدر والركوب والحمل وسقي الزرع والبيع ﴿ ومنها تأكلون ﴾ ما يؤكل منها كاللحوم والشحوم والألبان، وتقديم الظرف للمحافظة على رؤوس الآي أو لأن الأكل منها هو المعتاد المعتمد عليه في المعاش بخلاف الأكل من سائر الحيوانات المأكولة فإنها إما على سبيل التفكه أو التداوي
﴿ ولكم فيها جمال ﴾ زينة ﴿ حين تريحون ﴾ تردونها من مراعيها إلى مراحيها بالعشي ﴿ وحين تسرحون ﴾ أي تخرجونها بالغداة إلى المراعي فإن الأفنية تتزين بها في الوقتين ويجل أهلها في أعين الناظرين إليها وتقديم الإراحة لأن الحال فيها أظهر فإنها تروح ملأ البطون حاقلة الضروع
﴿ وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه ﴾ فضلا من أن تحملوها على ظهوركم إليه ﴿ إلا بشق الأنفس ﴾ بالمشقة والجهد، قرأ أبو جعفر بفتح الشين والجمهور بكسرها، وهما لغتان نحو رطل ورطل ﴿ إن ربكم لرؤوف رحيم ﴾ حيث خلقها لانتفاعكم بها
﴿ والخيل والبغال والحمير ﴾ عطف على الأنعام ﴿ لتركبوها وزينة ﴾ أي لتركبوها ولتتزينوا بها زينة، وقيل هي معطوفة على محل لتركبوها وتغير النظم لأن الزينة بفعل الخالق والركوب فعل اختياري للمخلوق ولأن المقصود من خلقها الركوب كما أن المقصود من خلق البقر الحرث وإنما يحصل التزيين بالدواب بالعرض، احتج هذه الآية أبو حنيفة على حرمة لحوم الخيل أو كراهتها قال صاحب الهداية هذه الآية خرج مخرج الامتنان والأكل من أعلى منافعها والحكيم لا يترك الامتنان بأعلى النعم ويمتن بأدناها، قلت أكل لحوم الشاة والدجاجة ونحوها أطيب جدا من لحوم ويتيسر ذلك بأدنى مؤنة بخلاف لحوم الخيل فلذلك لم يعتبر أكل لحوم الخيل من منافعها فالقول بأن الأكل أعلى منافعها ممنوع بل أعلى منافعها ما لا يحصل إلا به كالركوب والزينة ولأجل ذلك ذكر الله سبحانه المنفعتين المذكورتين في الامتنان والله أعلم، وكيف يدل الآية على حرمة الخيل والحمر والبغال مع أن الآية مكية وكلها كانت حلالا حينئذ وإنما حرمت لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر سنة ست من الهجرة وقد مر المسألة في تفسير سورة المائدة في قوله تعالى :﴿ اليوم أحل لكم الطيبات ﴾ ﴿ ويخلق ما لا تعلمون ﴾ يعني ما أعد للمؤمنين في الجنة وللكافرين في النار مما لم يره عين ولم يسمعه أذن ولم يخطر على قلب بشر
﴿ وعلى الله ﴾ بيان ﴿ قصد السبيل ﴾ أي الطريق المستقيم الموصل إلى الحق رحمة وتفضلا، أو عليه قصد السبيل يعني يصل إلى الله تعالى من يسلكه لا محالة يقال سبيل قصد وقاصد أي مستقيم كأنه يقصد الوجه الذي يقصده السالك لا يميل عنه والمراد بالسبيل الجنس ولذلك أضاف إليها والإضافة بمعنى من ﴿ ومنها ﴾ أي من السبيل ﴿ جائر ﴾ مائل عن القصد أو عن الله وتغير الأسلوب لأن المقصود بيان سبيله وتقسيم السبيل إلى القصد والجائر إنما جاء بالعرض فالقصد من السبيل السنة والجائر منها الأهواء والبدع وملل الكفر كلها ﴿ ولو شاء ﴾ الله هدايتكم أجمعين ﴿ لهداكم أجمعين ﴾ إلى قصد السبيل والمراد بالهداية ههنا الإيصال إلى المطلوب ومن قوله على الله قصد السبيل إراءة الطريق.
﴿ هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ﴾ أي ماء تشربونه ولكم صلة أنزل أو خبر شراب ومن تبعيضية متعلقة به وتقديمها يوهم الحصر ووجه الحصر أن مياه الآبار والعيون منه لقوله تعالى :﴿ فسلكه ينابيع ﴾ وقوله :﴿ فأسكناه في الأرض ﴾ ﴿ شراب ﴾ أي من ذلك الماء ﴿ شجر ﴾ أي شرب أشجاركم وحياة نباتكم ﴿ فيه ﴾ أي في الشجر ﴿ تسيمون ﴾ أي ترعون مواشيكم من سامت الماشية وأسامها صاحبها وأصلها السومة وهي العلامة لأنها تؤثر بالرعي علامة
﴿ ينبت ﴾ قرأ أبو بكر عن عاصم بالنون على التكلم والباقون بالياء على الغيبة أي ينبت الله ﴿ لكم به ﴾ أي بالماء الذي أنزل ﴿ الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات ﴾ أي بعض كل ما يمكن من الثمار وإنما ذكر لفظ التبعيض لأن كل الثمرات لا يكون إلا في الجنة وخلق في الدنيا بعضها ليكون تذكرة لها، ولعل تقديم ما يسأم فيه على ما يؤكل منه لأنه سيصير غذاء حيوانيا وهو أشرف الأغذية ومن هذا القبيل تقديم الزرع والتصريح بالأجناس الثلاثة وترتيبها ﴿ إن في ذلك لآية ﴾ أي دلالة واضحة على وجود الصانع وعلمه وحكمته ﴿ لقوم يتفكرون ﴾ فإن من تأمل أن الحبة تقع في الأرض ويتصل إليها ندوة ينفد فيها فينشق أعلاها ويخرج منه ساق الشجر وينشق أسفلها فيخرج منه عروقها ثم ينمو ويخرج منه الأوراق والأزهار والأكمام والثمار في بعض الأزمنة دون بعض، ويشتمل كل منها الأجسام المختلفة الأشكال والطبائع مع اتحاد المواد واتحاد نسبة الطبائع السفلية والعلوية إلى الكل علم أن ذلك ليس إلا بفعل فاعل مختار تقدس عن منازعة الأضداد والأنداد.
﴿ وسخر لكم الليل والنهار ﴾ أي هيأ هما لمنافعكم ﴿ والشمس والقمر والنجوم مسخرات ﴾ قرأ ابن عامر الأربعة بالرفع على أنها مبتدأ وخبر وقرأ أهل الحجاز والشام والكوفة غير حفص بنصب الأربعة الثلاثة عطفا على النهار ﴿ مسخرات ﴾ على أنه حال من الجميع أي جعلها بحيث ينفعكم حال كونها مسخرات لله تعالى خلقها ودبرها كيف شاء أو مسخرات لمن خلقن وقرأ حفص ﴿ الشمس والقمر ﴾ بالنصب على العطف ﴿ والنجوم مسخرات ﴾ بالرفع على الابتداء ﴿ بأمره ﴾ أي بإيجاده وتقديره أو بحكمه، وفي الآية إيذان بالجواب لمن يقول أن المؤثر في تكوين النبات حركات الكواكب وأوضاعها فإن ذلك إن سلم فلا شك أنها حادثة ممكنة الذات والصفات واقعة على بعض الوجوه المحتملة فلا بد لها من مخصص مختار واجب الوجود دفعا للدور والتسلسل، والتحقيق أن تأثيرات الأشياء الفلكية أو العنصرية كلها أمور عادية جرى عادة الله تعالى على خلق بعض الأشياء عقيب بعض منها ولا يتصور نسبة الإيجاد على الحقيقة إلى ما هو معدوم في حد ذاته لا يقتضي ذاته وجوده فإنه كيف يقتضي وجود غيره ﴿ إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون ﴾ جمع الآية وذكر العقل لأنها تدل أنواعا من الدلالات الظاهرة لذوي العقول السليمة غير محوجة إلى استيفاء فكر كأحوال النبات
﴿ وما ذرأ ﴾ أي خلق ﴿ لكم ﴾ عطف على الليل أي سخر لأجلكم ما خلق ﴿ تفسدوا الأرض ﴾ من الحيوانات والنباتات والمعادن ﴿ مختلفا ﴾ نصب على الحال ﴿ ألوانه ﴾ أي أصنافه فإن الأصناف يتخالف باللون غالبا ﴿ إن في ذلك لآية لقوم يذكرون ﴾ يعتبرون أن اختلافها في الطباع والهيئات والمناظر ليس إلا بصنع صانع حكيم.
﴿ وهو الذي سخر البحر ﴾ أي جعله بحيث يتمكنون من الانتفاع به بالركوب والاصطياد والغوص ﴿ لتأكلوا منه لحما طريا ﴾ أي غضا جديدا يعني السمك وصفه بالطراوة لأنه أرطب اللحوم فيسرع إليه الفساد فيسارع إلى أكله ووجه كثرة العطش بعد أكل السمك أنها بالطبع ملتزق بالأمعاء فالطبيعة لدفعه من الأمعاء تطلب الماء لا لكونها حارا أو يابسا، وفي وصفه بالطراوة إظهار لقدرته تعالى في خلقه عذبا طريا في ماء زعاق مر مالح، وتمسك مالك والثوري بهذه الآية على أنه من حلف لا يأكل لحما حنث بأكل السمك وأجيب عنه أن مبنى الإيمان على العرف وهو لا يفهم منه عند الإطلاق ألا ترى أن الله تعالى قال :﴿ شر الدواب ﴾ في الكفار ولا يحنث الحالف بأن لا يركب دابة بركوبه على الكافر ﴿ وتستخرجوا منه حيلة تلبسونها ﴾ كاللؤلؤ والمرجان تلبس نساؤكم فأسند إليهم لأنهن من جملتهم ولأنهن تتزين بها لأجلهم ﴿ وترى الفلك ﴾ أي السفن عطف على قوله لتأكلوا لأنه في قوة لتركبوا الفلك وجاز أن يكون استينافا ﴿ مواخر فيه ﴾ أي جواري، وقال قتادة مقبلة ومدبرة إحداها تقبل وأخرى تدبر تجريان بريح واحدة، وقال الحسن أي مملوة، وقال الفراء والأخفش شقاق تشق الماء بجناحيها والمخرشق الماء، وقيل المخر صوت جرى الفلك وقال أبو عبيدة المخر صوت هبوب الريح عند شدتها، وقال مجاهد تمخر السفن الرياح أي تستقبل، وفي القاموس مخرت السفينة كمنع مخرا ومخورا جرت واستقبلت الريح في جريها ومخر السابح شق الماء بيديه والفلك المواخر التي يسمع صوت جريها أو تشق الماء بجاجئها أو المقبلة والمدبرة بريح واحدة، وفي الحديث :( إذا أراد أحدكم البول فليتمخر الريح ) وفي لفظ استمخروا الريح ( أي اجعلوا ظهوركم إلى الريح كأنه إذا ولاها شقها بظهره وأخدت عن يمينه وعن يساره ﴿ ولتبتغوا من فضله ﴾ أي من سعة رزقه بركوبها للتجارة إن كان قوله تعالى :﴿ وترى الفلك ﴾ معطوفا على لتأكلوا فهذا معطوف عليه وإن كان مستأنفا فهذا معطوف على محذوف تقديره لتعتبر وأو لتبتغوا ﴿ ولعلكم تشكرون ﴾ الله إذا رأيتم صنعه فيما سخر لكم ولعل تخصيصه بتعقيب الشكر لأنه أقوى في باب الإنعام من حيث أنه جعل المهالك سببا لتحصيل المعاش، قلت : وجعل الأشياء المذكورة بحيث يفضي إلى الشكر من أعظم الإنعامات حيث يفيد مزيد النعمة في الدنيا والثواب الجزيل في دار القرار فهو من تتمة الإحسانات.
﴿ وألقى في الأرض رواسي ﴾ أي جبالا ثوابت ﴿ أن تميد بكم ﴾ أي لئلا تميد بكم أو كراهة أن تميد بكم والميد الاضطراب وذلك أن الأرض قبل أن يخلق فيها الجبال كانت كروية تتحرك بأدنى سبب للتحريك فلما خلقت الجبال على وجهها توجهت الجبال بثقلها نحو المركز فصارت كالأوتاد التي تمنعها عن الحركة، قال البغوي قال وهب لما خلق الله الأرض جعلت تمور فقالت الملائكة إن هذه غير مقرة أحدا على ظهرها فأصبحت وقد أرسيت بالجبال فلم تدر الملائكة مما خلقت الجبال، وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق قتادة عن الحسين عن قيس بن عباد قال : إن الله تعالى لما خلق الأرض جعلت تمور فقالت الملائكة ما هذه مقرة على ظهرها أحدا فأصبحت صبحا وفيها رواسي فلم يدروا من أين خلقت، فقالوا : ربنا هل من خلقك شيء هو أشد من هذا ؟ قال : نعم الحديد، فقالوا : هل من خلقك شيء هو أشد من الحديد ؟ قال : نعم النار، قالوا : ربنا هل من خلقك شيء هو أشد من النار ؟ قال : نعم، الماء قالوا : ربنا هل من خلقك شيء هو أشد من الماء ؟ قال : نعم الريح، قالوا : ربنا هل من خلقك شيء هو أشد من الريح ؟ قال : نعم الرجل، قالوا : ربنا هل من خلقك شيء هو أشد من الرجل ؟ قال : نعم المرأة انتهى. فإن قيل : هل ينتهي هذا السؤال إلى حد ؟ قلت : لا وذلك لأن الله هو القوي المتين ذو مرة والممكنات بأسرها عاجزة بل عديمة في حد ذواتها فحيثما يتجلى قوته يشتد أمره على غيره فالفيل قوي من النملة لكن إذا شاء الله تعالى أن يظهر عجز الفيل جعل النملة مظهرا ومجلا لتجلي قوته فيشتد أمره على الفيل، والشدة والقوة قد يكون لأحد الأشياء زائدا على غيره بجميع الوجوه وقد يكون بوجه من الوجوه وهذا هو المتحقق في الأشياء المذكورة والله أعلم ﴿ وأنهارا ﴾ أي جعل فيها أنهارا لأن ألقى فيه معنى الجعل ﴿ وسبلا ﴾ أي طرقا لنيل مقاصدكم ﴿ ولعلكم تهتدون ﴾ إلى مقاصدكم أو إلى معرفة الله بالاستدلال بها.
﴿ وعلامات ﴾ على السبل من الأشجار والجبال والأبنية والنجوم وغير ذلك يستدل بها السابلة ومنها الأسباب والعلل الشرعية كالأوقات لوجوب الصلاة والصوم والزكاة والأسكار للحرمة، ومنها الأدلة الطبيعية العقلية كسرعة النبض على الحمى والعالم على الصانع والمعجزة على وفق الدعوة للنبوة وغير ذلك ﴿ وبالنجم هم يهتدون ﴾ ليلا في الصحاري والبحار والمراد بالنجم الجنس، وقال محمد بن كعب أراد بالعلامات الجبال فالجبال علامات النهار والنجوم علامات الليل، وقال الكلبي أراد بالكل النجوم منها ما يكون علامات ومنها ما يهتدون بها، وقال السدي أراد بالنجوم الثريا وبنات النعش والفرقدين والجدي يهتدي بها إلى الطرق والقبلة، قلت : وذلك لكونها قريبة من القطب الشمالي فقلما تتحرك عن أماكنها لصغر دوائرها والضمير لقريش لأنهم كثيرا ما كانوا يسافرون بالليل للتجارة وكانوا مشهورين بالاهتداء في أسفارهم بالنجوم، فلذلك قدم النجم وأقحم الضمير وأخرج عن سنن الخطاب للتخصيص كأنه قيل وبالنجم خصوصا هؤلاء يهتدون فالاعتبار بذلك والشكر عليه ألزم عليهم.
﴿ أفمن يخلق ﴾ وهو الله سبحانه ﴿ كمن لا يخلق ﴾ أي ما يعبدون من دون الله مغلبا فيه أولوا العلم، أو المراد بها الأصنام وأجريت مجرى أولي العلم لأنهم سموها آلهة ومن حق الإله أن يعلم أو للمشاكلة بينه وبين من يخلق أو للمبالغة كأنه قيل إن من يخلق ليس كمن لا يخلق من أولي العلم فكيف بما لا يعلم ولا يشعر، والهمزة للإنكار والفاء للتعقيب يعني بعد هذه الأدلة الواضحة المتكاثرة على كمال علم الله وقدرته وتناهي حكمته وتفرده بالخلق لا معنى لإشراك من ليس مثله في خلق الأشياء بل لا يقدر على خلق شيء من الأشياء الجواهر والإعراض حتى لا يقدر على تحريك الذباب ولا حتى منعه :﴿ وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه ﴾ وكان حق الكلام أفمن لا يخلق كمن يخلق لكنه عكس تنبيها على أنهم بالإشراك بالله جعله من جنس المخلوقات العجزة شبيها بها ﴿ أفلا تذكرون١٥٥ ﴾ إنكار على عدم التذكر والاعتبار بعد مشاهدة ما يوجب التذكرة
﴿ وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها ﴾ أي لا تضبطوا عددها فضلا أن تطيقوا القيام بشكرها يعني ليس نعماء الله تعالى منحصرة فيما ذكر بل هي غير محصورة فحق عبادته تعالى غير مقدور لأحد وإنما المطلوب منكم التوجه بشر أشركم إليه وحده والاعتراف بالتقصير ﴿ إن الله لغفور ﴾ لتقصيركم في أداء شكرها ﴿ رحيم ﴾ بكم حيث وسع عليكم النعم قبل استحقاقكم ولا يقطعها عنكم بالتقصير والمعاصي ولا يعاجلكم بالعقوبة على كفرانها
﴿ والله يعلم ما تسرون ﴾ من العقائد والنيات والشكر ومعرفة قصور أنفسكم عن أداء حقوق العبودية أو الغفلة والاستكبار ﴿ وما تعلنون ﴾ من الأعمال الصالحة أو الفاسدة فيجازيكم عليه
﴿ والذين يدعون ﴾ أي تدعونها آلهة كائنة ﴿ من دون الله ﴾ قرأ عاصم ويعقوب يدعون بالياء التحتانية والباقون بالتاء ﴿ لا يخلقون شيئا ﴾ أصلا وإن كان محقرا من الجواهر والإعراض فضلا أن يشاركونه في خلق السماوات والأرضين وأمثال ذلك فكيف يدعونها آلهة وشركاء لله تعالى ﴿ وهم يخلقون ﴾ يعني وجوداتهم مستعارة من غيرها لا يقتضي ذواتها وجوداتها فكيف يتصور منها خلق شيء من الأشياء واقتضاء وجود غيرها
﴿ أموات غير أحياء ﴾ خبر مبتدأ محذوف يعني هم أموات فإن كان المراد بالموصول الأصنام فالمعنى هم أموات لم يعتبرهم الحياة أصلا وإن كان المراد به كلما عبد غير الله فالمعنى هم أموات في أنفسهم غير أحياء بالذات بل حياتهم مستعارة من الحي القيوم وكلما هذا شأنه لا يكون إلها ﴿ وما يشعرون ﴾ لكونهم أمواتا مخلوقين ﴿ أيان ﴾ أي متى ﴿ يبعثون ﴾ يعني ليس بعثهم ولا بعث عبدتهم باختيارهم ولا في حيز علمهم فكيف يقدرون على جزاء من عبدهم فأي فائدة في عبادتهم فلا يستحقون العبادة وفيه تنبيه على أن البعث من لوازم التكليف.
﴿ إلهكم إله واحد ﴾ تكرير للمدعى بعد إقامة الحجة يعني ثبت بالحجة أن إلهكم واحد ﴿ فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة ﴾ لما أنعم الله عليهم مما لا يحصى عدها مع ظهورها بالبداهة والبرهان وإنما إنكار قلوبهم ذلك لأن الله تعالى ما ألقى فيها نور المعرفة فهم عمهون عن عبد الله بن عمرو قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :( إن الله خلق خلقه في ظلمة فألقى عليهم من نوره فمن أصاب من ذلك النور اهتدى ومن أخطأه ضل فلذلك أقول جف القلم على علم الله ) رواه أحمد والترمذي ﴿ وهم مستكبرون ﴾ عن عبادة الله تعالى لا يرون عليهم له تعالى استحقاق العبادة حيث ينكرون نعماءه ويستكبرون عن إتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو أنهم كانوا يعرفون نعماء الله تعالى واستحقاق العبادة له تعالى عليهم لآمنوا بالآخرة التي فيها جزاء العبادة والإنتقام على تركها ولم يستكبروا على إتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم بل اجتهدوا في طلب سبيل الرشاد.
﴿ لا جرم ﴾ أي حق حقا أو لا بد لولا محالة، أو المعنى ليس على ما يبتغي ما هم عليه من الإنكار والاستكبار كسب الكاسب الحكم ﴿ أن الله يعلم ما يسرون ﴾ من إنكار النعم واستحقاق العبادة ﴿ وما يعلنون ﴾ من الاستكبار عن العبادة وإتباع الرسول فإن مع جملته على التأويلات السابقة في موضع الرفع بلا جرم وعلى التأويل الأخير في محل النصب على المفعولية وفاعل جرم مضمر ﴿ إنه ﴾ تعالى ﴿ لا يحب المستكبرين ﴾ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( لا يدخل الجنة مثقال ذرة من كبر ولا يدخل النار مثقال ذرة من إيمان، فقال رجل يا رسول الله إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا، قال إن الله جميل يحب الجمال الكبر من بطر الحق وغمط الناس ) رواه مسلم عن ابن مسعود، قال في النهاية معنى بطر الحق هو أن يجعل ما جعله الله حقا من توحيده وعبادته باطلا، وقيل هو أن يتجبر عند الحق فلا يراه حقا، وقيل : هو أن يتكبر عن الحق فلا يقبله قلت حاصل الأقوال أن لا يرى عبادة الله عليه واجبا حيث ينكر إنعامه عليه بل يرى ما أنعم الله عليه حقا له على الله تعالى ومعنى غمط الناس أي احتقرهم، قلت : وجه مقابلة الكبر بالإيمان في الحديث أن المؤمن يرى وجوده وما استتبعه من الكمالات مستعارة من الله تعالى حتى يرى نفسه عارية عنها ولا يستكبروا الكافر يرى وجوده وتوابعه من نفسه فيرى نفسه كبيرا وينسى الكبير المتعال، والفناء المصطلح في التصرف عبارة عن رؤية نفسه فانيا عاريا عن الوجود وتوابعه برؤيتها مستعارة من الله تعالى والله أعلم.
﴿ وإذا قيل لهم ﴾ أي لهؤلاء الذين لا يؤمنون بالآخرة، وذلك أن أحياء العرب كانوا يبعثون أيام الموسم من يأتيهم بخبر النبي صلى الله عليه وسلم حين بلغهم دعواه النبوة فكان إذا جاء الوافد سأل عن مشركي مكة الذين اقتسموا عقابها أيام الموسم ﴿ ماذا أنزل ربكم ﴾ ماذا منصوب بأنزل يعني أي شيء أنزل أو مرفوع بالابتداء يعني أي شيء أنزله ربكم ﴿ قالوا ﴾ يعني مشركي مكة هو ﴿ أساطير الأولين ﴾ السطر الصف من الشيء من الكتاب أو الشجر المغروس أو القوم الوقوف جمعه أسطر أسطر وسطور وأسطار وجمع الجمع أساطير وأسطرة والمعنى أن ذلك المسؤول عنه ليس بمنزل بل شيء كتبه الأولون كذبا لا تحقيق لها نحو قوله :﴿ اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا ﴾
﴿ ليحملوا ﴾ متعلق بقوله تعالى قالوا يعني قالوا ذلك ليضلوا الناس فيحملوا ﴿ أوزارهم ﴾ أي ذنوب ضلال أنفسهم ﴿ كاملة ﴾ فإن إضلالهم نتيجة رسوخهم في الضلال ﴿ يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم ﴾ يعني بعض أوزار الذين ضلوا بإضلالهم فإن من ذنوبهم ما يخصهم ليس لهؤلاء المضلين فيها تسبيب ومنها ما حصل بإضلالهم فهم يحملون هذا القسم الأخير مثل ذنوب من تبعهم قال رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم :( من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا ) رواه أحمد ومسلم في الصحيح وأصحاب السنن الأربعة عن أبي هريرة ﴿ بغير علم ﴾ أي بغير حجة فهو حال من فاعل يضلونهم، أو المعنى يضلون من لا يعلم أنهم ضلال فهو حال من المفعول وفيه تنبيه على أن جهلهم لا يصلح لهم عذرا إذ كان عليهم أن يبحثوا ويميزوا بين الحق والباطل ﴿ ألا ساء ما يزرون ﴾ أي بئس شيئا يزرونه أي يحملونه فعلهم أو بئس الذي يزرونه فعلهم فمحل ما رفع على الفاعلية أو نصب على التميز من الضمير المبهم والمخصوص محذوف.
﴿ قد مكر الذين من قبلهم ﴾ أي سووا حيلا ليمكروا بها رسل الله ﴿ فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم ﴾ يعني أتى أمر الله لإبطال حيلهم من الأصول ﴿ وأتاهم العذاب ﴾ المهلك ﴿ من حيث لا يشعرون ﴾ أي لا يحتسبون ولا يتوقعون فصارت تلك الحيل أسبابا لهلاكهم كمثل قوم بنوا بنيانا ليحرزوا أنفسهم ويأخذوا فيها عدوهم بالحيل فأتى البنيان من الأساطين بأن ضعضعت فسقط عليهم السقف فهلكوا فالكلام وارد على التمثيل، وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس وذكر البغوي عنه وعن وهب أن المراد بالذين من قبلهم نمرود بن كنعان الذي حاج إبراهيم في ربه بنى الصرح ببابل ليصعد إلى السماء وكان طول الصرح في السماء خمسة آلاف ذراع، وقال كعب ومقاتل كان طوله فرسخان فهبت الريح وألقت رأسها في البحر وخر عليهم الباقي فهلكوا.
﴿ ثم يوم القيامة يخزيهم ﴾ أي يذلهم ويعذبهم عذاب الخزي سوى ما عذبوا في الدنيا قال الله تعالى :﴿ ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته ﴾ ﴿ ويقول ﴾ لهم الله على لسان الملائكة توبيخا ﴿ أين شركائي ﴾ أضاف إلى نفسه استهزاءا أو حكاية لأضافتهم زيادة في توبيخهم، قرأ البزي بخلاف عنه شركاي بغير الهمزة والباقون بالهمزة ﴿ الذين كنتم ﴾ أيها الكفار ﴿ تشاقون فيهم ﴾ الرسول والمؤمنين، قرأ الجمهور تشاقون بفتح النون أي يخالفون فيهم وقرأ نافع بكسر النون الدال وعلى حذف ياء المتكلم يعني تشاقوني فإن مشاقة المؤمنين مشاقة الله سبحانه ﴿ قال الذين أوتوا العلم ﴾ أي الأنبياء والملائكة والمؤمنون إظهارا للشماتة وزيادة للإهانة وشكرا على ما أنعم الله عليهم من الهداية وفي هذه الحكاية لطف من الله سبحانه بمن سمعه ﴿ إن الخزي ﴾ أي الذل والهوان ﴿ اليوم ﴾ يوم القيامة ﴿ والسوء ﴾ أي العذاب ﴿ على الكافرين ﴾
﴿ الذين تتوفاهم الملائكة ﴾ يعني ملك الموت وأعوانه، قرأ حمزة يتوفاهم في الموضعين بالياء على التذكير والباقون بالتاء لتأنيث الفاعل لفظيا غير حقيقي ﴿ ظالمي أنفسهم ﴾ بالكفر حيث عرضوها للعذاب المخلد منصوب على الحال ﴿ فألقوا السلم ﴾ فسالموا أو انقادوا قائلين ﴿ ما كنا نعمل من سوء ﴾ من كفران ولا عدوان ويجوز أن يكون تفسيرا للسلم على أن المراد به القول الدال على الاستسلام فيجيبهم ملائكة الموت ﴿ بلى ﴾ كنتم تعملون السيئات ﴿ إن الله عليم بما كنتم تعملون ﴾ من السيئات فهو يجازيكم عليه ولا ينفعكم إنكارهم، قال عكرمة عنى بذلك من قتل من الكفار ببدر، وقيل : قوله فألقوا السلم إلى آخر الآيات استئناف ورجوع إلى شرح حالهم يوم القيامة ويحتمل أن يكون الراد عليهم هو الله سبحانه وأولو العلم
﴿ فادخلوا أبواب جهنم ﴾ كل صنف بابا أعد له وقيل : أبواب جهنم أصناف عذابها ﴿ خالدين فيها ﴾ أي مقدرين الخلود فيها ﴿ فلبئس مثوى المتكبرين ﴾ أي الكافرين جهنم.
﴿ وقيل للذين اتقوا ﴾ عن الضلال والإضلال قال لهم الوافد من أحياء العرب ﴿ ماذا أنزل ربكم قالوا ﴾ أي المؤمنون ﴿ خيرا ﴾ أي أنزل ربنا خير الكلام ما فيه صلاح الدين والدنيا والآخرة ونصبه دليل على أنهم لم يتوقفوا في الجواب وأطبقوا على السؤال معترفين بالإنزال بخلاف الكفرة فإنهم قطعوا الكلام عن الجواب وأتوا بالرفع على الابتداء ولم يعترفوا بالإنزال حيث قالوا هو أساطير الأولين يعني ليس بمنزل ﴿ للذين أحسنوا ﴾ العقائد والأعمال ﴿ في هذه الدنيا ﴾ متعلق بأحسنوا ﴿ حسنة ﴾ قال ابن عباس هي تضعيف الأجر إلى العشر، وقال الضحاك هي النصر والفتح، وقال مجاهد هي الرزق الحسن، قلت : هي الحياة الطيبة في الدنيا بحيث يرتضيه الخالق وكل من له عقل سليم وطبع مستقيم من الخلق وذلك أن لا يعبد ممكنا عاجزا مثل نفسه بل الله الواحد القهار ويكتسب معرفة الله ودرجات قربه ويستحل الطيبات ويستحرم الخبائث ولا يؤذي أحدا بغير حق ويعمل أعمالا يثمر له إلى الأبد ﴿ ولدار ﴾ الحياة ﴿ الآخرة خير ﴾ من دار الحياة الدنيا للمتقين حيث يرى هناك ثمرات ما اكتسبه في الحياة الدنيا ويبقى قي كرامة الله أبد الآبدين وهو عدة للذين اتقوا على قولهم ويجوز أن يكون بما بعده حكاية بقولهم بدلا وتفسيرا لخير على أنه منتصب بقالوا يعني قالوا هذا القول فقدم عليه تسميته خيرا ﴿ ولنعم دار المتقين ﴾ قال الحسن في الدنيا لأن أهل التقوى يتزودون فيها إلى الآخرة، وقال أكثر المفسرين هي دار الآخرة فحذف المخصوص بالمدح لتقدم ذكرها، قلت وجاز أن يكون الإضافة للجنس يعني نعم دار المتقين أي دار كانت الدنيا أو الآخرة
﴿ جنات عدن ﴾ مبتدأ خبره محذوف أي لهم جنات عدن، أو خبر مبتدأ محذوف أي هي أو دارهم جنات عدن ويجوز أن يكون هذا مخصوصا بالمدح ﴿ يدخلونها تجري من تحتها الأنهار لهم فيها ما يشاءون ﴾ من أنواع المشتهيات وفي تقديم الظرف تنبيه على أن الإنسان لا يجد جميع ما يشتهيه إلا في الجنة ﴿ كذلك ﴾ أي مثل لهذا الجزاء المذكور ﴿ يجزي الله المتقين ﴾ من الشرك وسوء الأعمال
﴿ الذين تتوفاهم الملائكة طيبين ﴾ أي طاهرين من ظلم أنفسهم بالكفر والمعاصي لأنه في مقابلة ظالمي أنفسهم وهؤلاء هم الذين حيوا حياة طيبة، وقال مجاهد زاكية أفعالهم وأقوالهم، وقالوا معناه فرحين ببشارة إياهم بالجنة أو طيبين بقبض أرواحهم لتوجه نفوسهم بالكلية إلى حضرة القدس
﴿ يقولون ﴾ أي الملائكة لهم ﴿ سلام عليكم ﴾ وقيل تبلغهم سلام الله ﴿ ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون٣٢ ﴾ حين تبعثون فإنها معدة لكم على أعمالكم أو المعنى يقول لهم الملائكة عند التوفي سلام عليكم ويقال في الآخرة ﴿ ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون٣٢ ﴾.
﴿ هل ينظرون ﴾ أي ما ينتظر الكفار الذين مر ذكرهم شيئا ﴿ إلا أن تأتيهم الملائكة ﴾ لقبض أرواحهم، قرأ حمزة والكسائي بالياء والباقون بالتاء ﴿ أو يأتي أمر ربك ﴾ القيامة أو العذاب المستأصل ﴿ كذلك ﴾ أي مثل ذلك الفعل من الشرك والتكذيب ﴿ فعل الذين من قبلهم ﴾ فأصابهم ما أصابهم ﴿ وما ظلمهم الله ﴾ بتعذيبه إياهم عذاب الاستئصال ﴿ ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ﴾ بكفرهم ومعاصيهم المؤدية إليه.
﴿ فأصابهم سيئات ما عملوا ﴾ أي جزاء سيئات أعمالهم على حذف المضاف وتسمية الجزاء باسمها، أو المعنى عقوبات ما عملوا من الكفر والمعاصي ﴿ وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون٣٤ ﴾ أي نزل وأحاطهم جزاء استهزائهم والمعنى نزل بهم العذاب الذي كانوا به يستهزءون ويقولون على سبيل الاستهزاء :﴿ لولا يعذبنا الله بما نقول ﴾.
﴿ وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء ﴾ إنما قالوا ذلك استهزاء ومنعا لبعثة الرسل والتكليف متمسكين بأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لا يكون فما الفائدة فيهما أو إنكار لقبح ما هم عليه من الشرك وتحريم البحائر والسوائب ونحو ذلك متمسكين بأنه لولا أن الله رضيها لنا لما شاء الله صدورها عنا، ومبنى الشبهتين أن الرضاء يلازم المشيئة وليس كذلك ﴿ كذلك فعل الذين من قبلهم ﴾ فأشركوا بالله وحرموا حله وردوا له وقالوا مثل قول هؤلاء ﴿ فهل على الرسل إلا البلاغ المبين ﴾ يعني ليس عليهم الهداية فإنها بيد الله تعالى وعلى مشيئة إنما عليهم التبليغ الموضح لمرضاة الله تعالى.
ثم بين أن البعثة أمر جرت السنة الإلهية في الأمم كلها بكونها سببا لهدى من شاء هدايته وزيادة الضلال لمن شاء ضلاله وكالغذاء الصالح ينفع المزاج الصالح ويقويه ويضر المنحرف ويعينه في الانحراف بقوله ﴿ ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله ﴾ يعني أرسله الله إليهم بأن اعبدوا الله ﴿ واجتنبوا الطاغوت ﴾ أي لا تطيعوا الشيطان الطاغي في معصية الله ﴿ فمنهم من هدى الله ﴾ أي شاء هدايتهم ووفقهم للإيمان بإرشادهم ﴿ ومنهم من حقت ﴾ أي وجبت بالقضاء السابق ﴿ عليه الضلالة ﴾ فلم يوفقهم ولم يرد هداهم فأهلكهم الله على كفرهم وأخلى ديارهم فتركوا بئرا معطلة وقصرا مشيدا ﴿ فيسيروا في الأرض ﴾ يا معشر قريش ﴿ فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين ﴾ للرسل من عاد وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة، وفيه حل لإشكالهم المبني على كون المشيئة والرضاء متلازمين إذ لو كان كذلك لما عذبهم الله بكفرهم المبني على مشيئة الله ثم بين الله سبحانه لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن هؤلاء الكفار من قريش ممن حقت عليهم الضلالة حتى لا يتعب نفسه ولا يحرص على هداهم فقال :﴿ إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل ﴾
﴿ إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل ﴾
قرأ الكوفيون لا يهدي بفتح الياء وكسر الدال على البناء للفاعل يعني لا يهدي الله من يرد ضلاله وهو المعنى لمن حقت عليه الضلالة والباقون بضم الياء وفتح الدال على البناء للمفعول فقوله ﴿ من يضل ﴾ مبتدأ خبره لا يهدي يعني من يضله الله لا يهدي أي لا هادي له أحد والجملة خبران والله اسمه ﴿ وما لهم ﴾ أي لمن أضلهم الله ﴿ من ناصرين ﴾ يمنعونهم من جريان حكم الله عليهم ويدفعون عنهم عذابه الذي أعد لهم وتقدير الكلام أن تحرص وتتعب نفسك يا محمد على هداهم وقد أضلهم الله فلا ينفعك حرصك إتعابك نفسك ولا تقدر عليه لأن الله تعالى قوي قاهر لا هادي لمن شاء أن يضله ولا ناصة لمن شاء أن يعذبه فحذف الجزاء وأقيم السبب مقامه والله أعلم.
أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي العالية قال : كان لرجل من للمسلمين على رجل من المشركين دين فأتاه يتقاضاه فكان فيما تكلم به والذي أرجوه بعد الموت لكذا وكذا، فقال له المشرك إنك لتزعم أنك تبعث بعد الموت فاقسم بالله جهد يمينه لا يبعث الله من يموت فأنزل الله تعالى :﴿ وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت ﴾
﴿ وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت ﴾معطوف على ﴿ وقال الذين أشركوا ﴾ إيذانا بأنهم كما أنكروا التوحيد أنكروا البعث مقسمين عليه زيادة في القطع على فساده، قال الله تعالى ردا عليهم بأبلغ الوجوه ﴿ بلى ﴾ يبعثهم ﴿ وعدا ﴾ مصدر مؤكد لنفسه وهو ما دل عليه بلى أعني يبعثهم وعد من الله ﴿ عليه ﴾ إنجازه لامتناع الخلف في وعده ولاقتضاء الحكمة والبعث ﴿ حقا ﴾ صفة أخرى للوعد ﴿ ولكن أكثر الناس لا يعلمون ﴾ إن وعد الله حق أو لا يعلمون البعث لعدم علمهم بأنه مقتضى الحكمة التي جرت العادة بمراعاتها ولقصور نظرهم بالمألوف فيتوهمون امتناعه.
﴿ ليبين لهم ﴾ متعلق بما دل عليه بلى أي يبعثهم فيبين لهم والضمير لمن يموت وهو يشتمل المؤمنين والكافرين ﴿ الذين يختلفون فيه ﴾ أي الحق ﴿ وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين ﴾ في قولهم ﴿ لا يبعث الله من يموت ﴾ وفيه إشارة إلى السبب الداعي إلى البعث المقتضى له من حيث الحكمة وهو التميز بين الحق والباطل والمحق والمبطل بالثواب والعقاب وجاز أن يكون ليبين وليعلم متعلقا بقوله :﴿ ولقد بعثنا في كل أمة رسولا ﴾ يعني بعثنا رسولا ليبين لهم الرسول ما اختلفوا فيه قبله وأنهم كانوا على الضلالة مفترين على الله الكذب.
﴿ إنما قولنا لشيء إذا أردناه ﴾ أي أردنا وجوده في المبدأ والمعاد قولنا مبتدأ خبره ﴿ أن نقول له كن فيكون ﴾ أي فهو يكون قرأ ابن عامر والكسائي هنا وفي يس ﴿ فيكون ﴾ بالنصب عطفا على نقول أو جوابا لقوله كن وقد ذكرنا كلاما على تقدير الجواب في سورة البقرة، وفي هذه الآية بيان لإمكان البعث وتقريره أن تكوين الله تعالى بمحض قدرته ومشيته لا توقف له على شيء آخر وإلا لزم التسلسل ولا على تعب وتجشم وإلا لزم العجز المنافي للألوهية، ولما أمكن تكوين الأشياء ابتداء بلا سبق مادة ومثال أمكن له تكوينها إعادة بعده، عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( قال الله عز وجل كذبني عبدي ولم يكن له ذلك وشتمني عبدي ولم يكن له ذلك فأما تكذيبه إياي فقوله لن يعيدني كما بدأني وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته، وأما شتمه إياي فقوله اتخذ الله ولدا وأنا الأحد الصمد الذي لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كفؤا أحد ) وفي رواية ابن عباس ( وأما شتمه إياي فقوله لي ولد فسبحاني أن اتخذ صاحبة أو ولدا ) رواه البخاري.
﴿ والذين هاجروا في الله ﴾ أي في سبيله وحقه ولوجهه ﴿ من بعد ما ظلموا ﴾ أي عذبوا وأوذوا وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس وداود ابن هند قال نزلت هذه الآية في أبي جندل بن سهيل، وقال البغوي نزلت في بلال وصهيب وخباب وعمار وعائش وجبير وأبي جندل بن سهيل أخذهم المشركون بمكة وعذبوهم، وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وعبد بن حميد عن قتادة هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ظلمهم أهل مكة فأخرجوهم من ديارهم حتى لحق طائفة منهم بالحبشة ثم بوأهم الله المدينة بعد ذلك فجعلها لهم دار هجرة وجعل لهم أنصارا من المؤمنين ﴿ لنبوئنهم في الدنيا حسنة ﴾ أي مباءة حسنة وهي المدينة أو تبوية حسنة ﴿ ولأجر الآخرة أكبر ﴾ مما يجعل لهم في الدنيا قال البغوي روى أن عمر بن الخطاب كان إذا أعطى رجلا من المهاجرين عطاء يقول : خذ بارك الله فيه هذا ما وعدك الله في الدنيا وما ذخر لك في الآخرة أفضل ثم تلا هذه الآية، وقيل : معناه لنحسنن إليهم الدنيا حسنة، وقيل الحسنة في الدنيا التوفيق والهداية ﴿ لو كانوا يعلمون ﴾ الضمير للكفار أي لو علموا إن الله يجمع لهؤلاء المهاجرين خير الدارين لما ظلموهم ولوافقوهموا أو للمهاجرين أي لو علموا ذلك لزادوا في اجتهادهم وصبرهم
﴿ الذين صبروا ﴾ على الشدائد كأذى الكفار ومفارقة الأوطان ومحله النصب أو الرفع على المدح ﴿ وعلى ربهم يتوكلون ﴾ ينقطعون إلى الله يفوضون أمورهم إليه.
ولما أنكر كفار قريش نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وقالوا الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا فهلا بعث إلينا ملكا فأنزل الله سبحانه ﴿ وما أرسلنا من قبلك ﴾ إلى الناس ﴿ إلا رجالا ﴾ دون الملائكة ﴿ رجالا نوحي إليهم ﴾ على السنة الملائكة، قرأ حفص نوحي بالنون للمتكلم على البناء للفاعل والباقون بالياء على الغيبة ﴿ فسئلوا أهل الذكر ﴾ يعني إن شككتم في إرسال الله الرجال فسئلوا أهل العلم بالكتب السابقة من اليهود والنصارى هل أرسل إلى بني إسرائيل موسى وعيسى وغيرهم من أنبياء بني إسرائيل ومن قبلهم إبراهيم ونوحا وآدم وغيرهم فإنهم يشهدون بذلك ﴿ إن كنتم لا تعلمون ﴾ وفي الآية دليل على وجوب المراجعة إلى العلماء للجهال فيما لا يعلمون وأن الأخبار مفيدة للعلم إن كان المخبر ثقة يعتمد عليه.
﴿ بالبينات والزبر ﴾ متعلق بقوله أرسلنا أي ما أرسلنا بالبينات أي المعجزات الواضحات والزبر أي الكتب إلا رجالا، ويجوز أن يتعلق بأرسلنا داخلا في الاستثناء أي ما أرسلنا إلا رجالا بالبينات، أو متعلق بمحذوف صفة لرجالا يعني ما أرسلنا إلا رجالا متلبسين بالبينات والزبر، أو منصوب على المفعولية أو على الحال من قائم مقام الفاعل ليوحي على قراءة المبني للمفعول وعلى التقادير كلها فاسئلوا اعتراض أو هو متعلق بلا تعلمون على أن الشرط للتبكيت والإلزام ﴿ وأنزلنا إليك الذكر ﴾ أي القرآن سمي ذكرا لأنه موعظة ﴿ الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ﴾ في الذكر بتوسط إنزاله إليك من الوعد والوعيد والأحكام والشرائع المجملة أو مما تشابه عليهم، والبيان قد يكون صريحا بالقول أو الفعل أو التقرير وقد يكون غير صريح كالأمر بالقياس ﴿ ولعلهم يتفكرون ﴾ إشارة إلى البحث في نظم الكلام ووجوه دلالاته حتى يظهر لهم المراد من غير حاجة إلى بيان من الشارع كما أن لفظ الحرث يشعر أن المراد في قوله :﴿ فأتوا حرثكم ﴾ الإتيان في القبل دون الدبر لأنه ليس بمحل للحرث وفي لفظ ثلاثة في قوله تعالى :﴿ ثلاثة قروء ﴾ يشعر أن المراد بها الحيض دون الطهر لأن الطلاق المسنون يكون في الطهر إجماعا فإطهار العدة لا يكون إلا أكثر من الثلاثة أو أقل منها والله أعلم.
﴿ أفأمن الذين مكروا السيئات ﴾ أي المكرات السيئات هم الذين قصدوا برسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقتلوه أو يثبتوه أو يخرجوه وأزادوا صد الناس عن الإيمان ﴿ أن يخسف الله بهم الأرض ﴾ كما خسف بقارون ﴿ أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون ﴾ بغتة من جانب السماء كما فعل بقوم لوط وأصحاب الأيكة وغيرهم
﴿ أو يأخذهم ﴾ بالعذاب ﴿ في تقلبهم ﴾ أي تصرفهم في الأسفار قال ابن عباس في اختلافهم وقال ابن جريج في إقبالهم وإدبارهم ﴿ فما هم بمعجزين ﴾ أي سابقين الله.
﴿ أو يأخذهم على تخوف ﴾ حال من الفاعل أو المفعول أي على تنقص من تخوفته إذا تنقصته وذلك بأن يهلك بعضهم ثم بعضهم حتى يهلك جميعهم ويقال تخوفه الدهر أي تنقصه في ماله وجسمه، قال البغوي يقال هذه لغة هذيل، وقال الضحاك والكلبي هو الخوف، قلت : بأن يهلك قوما قبلهم فيتخوفوا فيأتيهم وهو متخوفون أو بأن يظهر إمارات الهلاك قبل هلاكهم فيهلكوا كما فعل بثمود في ثلاثة أيام اصفرت وجوههم في الأول واحمرت في الثاني واسودت في الثالث ثم أهلكوا وعلى هذا التأويل حاول من المفعول ﴿ فإن ربكم لرءوف رحيم ﴾ ومن ثم لا يعجل في العقوبة وذلك هو الباعث على كونهم آمنين ولا ينبغي ذلك فإنه تعالى مع ذلك قهار منتقم ذو البطش الشديد لا يطاق انتقامه ولأجل ذلك أنكر الله على أمنهم وقال :﴿ أفأمن الذين مكروا السيئات ﴾ الآية، والفاء للتعقيب عطف على قوله :﴿ وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا ﴾ يعني إذا علموا أن المرسلين لم يكونوا إلا رجالا فمكرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وأمتهم على ذلك المكر مع كونه مثل من سبق من الرسل ليس على ما ينبغي.
﴿ أولم يروا ﴾ بالياء على الغيبة ب على قراءة الجمهور والضمير إلى الذين مكروا السيئات، وقرأ حمزة والكسائي بالتاء على الخطاب إليهم على سبيل الالتفات من الغيبة وكذلك في سورة العنكبوت، والاستفهام للإنكار يعني أنهم قد رأوا ﴿ إلى ما خلق الله من شيء ﴾ فما بالهم لا يدركون كمال قدرته تعالى وقهرمانه ولا يخافون من عذابه وما موصولة مبهمة بيانها من شيء يفيد عموم خلقه جميع الأشياء ﴿ يتفيؤا ﴾ قرأ أبو عمرو ويعقوب بالتاء الفوقانية والباقون بالياء التحتانية ﴿ ظلاله ﴾ يعني أولم ينظروا إلى المخلوقات التي لها ظلال متفيئة يرجع ظلالها بارتفاع الشمس وانحدارها أو باختلاف مشارقها ومغاربها بتقدير الله تعالى ﴿ عن اليمين والشمائل ﴾ يعني عن أيمانها وشمائلها يعني عن جانبي كل واحد منها استعارة عن يمين الإنسان وشماله، وتوحيد اليمين وجمع الشمائل باعتبار لفظه ما ومعناه كتوحيد الضمير في ظلاله وجمعه في قوله :﴿ سجدا لله وهم داخرون ﴾ أي أذلة وهما حالان من الضمير في ظلاله والمراد بالسجود والاستسلام طبعا أو اختيارا، يقال سجدت النخلة إذا مالت بكثرة الحمل وسجد البعير إذا طأطأ رأسه ليركب، أو سجدا حال من الظلال وهم داخرون وهو داخرون حال من الضمير يعني يرجع ظلها منقادة لما قدر لها من التفيؤ، أو واقعة على الأرض ملتصقة بها على هيئة السجود والأجرام في أنفسها أيضا صاغرة ذليلة منقادة لأفعال الله تعالى، وجمع داخرون بالواو ولأن من جملتها من يعقلها أو لأن الدخور من أوصاف العقلاء.
﴿ ولله يسجد ما في السماوات ﴾ من الشمس والقمر والنجوم ﴿ وما في الأرض من دابة ﴾ وقيل من دابة بيان لهما لأن الدبيب هي الحركة الجسمانية سواء كانت في أرض أو سماء ﴿ والملائكة ﴾ عطف على ﴿ ما في السماوات وما في الأرض ﴾ فإن المراد بها ما في السماوات من جنسها من الشمس ونحوها وما في الأرض من جنسها من الدواب وأما الملائكة فليست من جنس شيء منهما ومنهم من ليسوا في السماء ولا في الأرض كحملة العرش وغيرهم، وقيل خص الملائكة بالذكر تشريفا كعطف جبرئيل على الملائكة، وما يستعمل للعقلاء وغير العقلاء فكان استعمالها حيث اجتمع القبيلتان أولى من استعمال من تغليبا، والمراد بالسجود الانقياد أعم من الانقياد لإرادته وتأثيره طبعا والانقياد لتكليفه وأمره طوعا ليصح إسناده إلى عامة الخلائق حتى الكفار الذين هم شر الدواب وقيل المراد بسجود الأشياء كلها ظهور أثر الصنع فيها بحيث يدعو الغافلين إلى السجود، والأولى أن يقال المراد بالسجود الطاعة والأشياء كلها مطيعة لله رضي الله عنه من حيوان وجماد فإنها وإن كانت لا تعقل طواعا عندنا لكنها عند الله تعالى مطيعة عاقلة غير خالية عن نوع من الحياة، قال الله تعالى :﴿ قالتا أتينا طائعين ﴾ وقال الله تعالى :﴿ وأذنت لربها وحقت٢ ﴾ وقال الله تعالى :﴿ يومئذ تحدث أخبارها٤ بأن ربك أوحى لها٥ ﴾ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( أطت السماء وحق لها أن تأط ) لكن على هذا التأويل الآية مخصوصة بما عد الكفار من الجن والإنس فإنها غير مطيعة فال الله تعالى في أية السجدة في سورة الحج :﴿ وكثير من الناس ﴾ ويدل على هذا التخصيص قوله تعالى :﴿ وهم لا يستكبرون ﴾ عن عبادته
﴿ يخافون ربهم من فوقهم ﴾ أي يخافونه أن يرسل عليهم عذابا من فوقهم أو يخافونه وهو فوقهم أي غالب عليهم بالقهر كقوله :﴿ وهو القاهر فوق عباده ﴾ والجملة حال من الضمير المستكن في لا يستكبرون أو بيان له لأن من خاف الله لا يستكبر عن عبادته ويفعلون ما يؤمرون به من الطاعة ما يليق بهم فإن هذه الصفات هو عدم الاستكبار والخوف وإتيان الأوامر لا توجد في الكفار، اللهم إلا أن يقال إن كان المراد بالسجود الانقياد العام أو ظهور أثر الصنع بحيث يدعو إلى السجود، كان قوله وهم لا يستكبرون إلى آخره بيانا لحال الملائكة خاصة والله أعلم. عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إني أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون أطت السماء أطا وحق لها أن تأط والذي نفسي بيده ما فيها موضع أربعة أصابع إلا وملك وأضع جبهته ساجدا لله والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا وما تلذذتم بالنساء على الفرشات ولخرجتم إلى الصعدات تجئرون إلى الله، قال أبو ذر يا ليتني كنت شجرة تعضد ) رواه أحمد والترمذي وابن ماجه والبغوي.
﴿ وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين ﴾ ذكر العدد مع أن المعدود يدل عليه دلالة على أن مساق النهي إليه أو إيماء بأن الاثنينية ينافي الألوهية كما ذكر الواحد في قوله :﴿ إنما هو إله واحد ﴾ للدلالة على أن المقصود إثبات الوحدانية دون الإلهية والتنبيه على أن الوحدة من لوازم الإلهية ﴿ فإياي فارهبون ﴾ فيه التفات من الغيبة إلى الخطاب مبالغة في الترهيب وتصريحا بالمقصود، كأنه قيل : فأنا ذلك الإله الواحد فإياي ارهبوا فارهبوني لا غير قرأ يعقوب فارهبوني بإثبات الياء والباقون بحذفها.
﴿ وله ﴾ أي لله المتوحد في الإلهية ﴿ ما في السماوات والأرض ﴾ خلقا فلا يمكن خلق شيء من الأشياء من غيره، خلافا للمعتزلة في أفعال العباد، وملكا فلا يتصور الظلم منه ؛ لأنه هو التصرف في ملك غيره بغير إذنه، ولا يجوز لأحد تصرف في شيء من الأشياء إلا بإباحته وإذنه ﴿ وله الدين ﴾ أي الطاعة والإخلاص ﴿ واصبا ﴾ أي دائما ثابتا، لا يحتمل سقوطه ؛ لأنه هو الإله وحده، والحقيق بأن يرهب منه، فحق العباد أن يطيعوه دائما في جميع الأحوال، كما وصف به الملائكة حيث قال :﴿ لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ﴾ حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ) رواه أحمد والحاكم بسند صحيح عن عمران والحكيم بن عمرو الغفاري، وفي الصحيحين وسنن أبي داود والنسائي عن علي بلفظ ( لا طاعة لأحد في معصية الله إنما الطاعة في المعروف ) وفي معناه وله الدين ذا كلفة يعني لا يجوز لأحد تكليف أحد إلا بإذنه ؛ لأنه هو المالك لا غيره، والمالك يتصرف في ملكه كيف يشاء، وليس ذلك لغير المالك إلا بإذنه، وقيل : الدين الجزاء على أعمال العباد دائما لا ينقطع ثوابه لمن آمن، ولا ينقطع عقابه لمن كفر، وقيل : المراد بالدين العذاب على الكفر، ومعنى الواصب : المرض والسقم اللازم ؛ يقال : وصب فلان يوصب إذا توجع، قال الله تعالى :﴿ ولهم عذاب واصب ﴾ وفي حديث عائشة أنها وصبت رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي : مرضته، وفي القاموس : الوصب : المرض، وأوصبه الله : أمرضه، ووصب يصب وصوبا : دام وثبت، كأوصب، ووصب على الأمر : واظب، وأحسن القيام عليه، فالمراد بالآية : الوعيد لمن اتخذ إلهين اثنين، يعني : من فعل ذلك فله العذاب الشديد الدائم ﴿ أفغير الله تتقون ﴾ استفهام إنكار، يعني : لا تخافوا غيره، إذ لا ضار سواه، كما لا نافع غيره، كما قال :﴿ وما بكم من نعمة ﴾
﴿ وما بكم من نعمة ﴾ ما : إما شرطية، أو موصولة متضمنة معنى الشرط، يعني : أي شيء اتصل بكم، أو الذي اتصل بكم من عافية أو غنى، أو خصب أو غيرها ﴿ فمن الله ﴾، أي : فهو من الله. ومعنى الشرط إنما هو باعتبار الإخبار دون الحصول ؛ فإن استقرار النعمة بهم يكون سببا للإخبار بأنها من الله، لا حصولها منه، فإنه مقدم على الاستقرار. ﴿ ثم إذا مسكم الضر ﴾ من مرض أو فقر أو جدب أو غيرها، ﴿ فإليه تجئرون ﴾ أي : لا تتضرعون إلا إليه. والجؤار رفع الصوت في الدعاء والاستغاثة.
﴿ ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون٥٤ ﴾ في العبادة غيره، وكلمة " من " للتبعيض إن كان الخطاب عاما، وإن كان خاصا بالكفار ف " من " للبيان، كأنه قال :" فإذا فريق وهم أنتم "، ويجوز أن يكون " من " على هذا أيضا للتبعيض، على أن بعضهم يعتبرون، قال الله تعالى :﴿ فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد ﴾
﴿ ليكفروا بما آتيناهم ﴾ من النعماء، خصوصا نعمة الكشف. واللام للعاقبة، يعني : صار عاقبة أمرهم الكفر بنعماء الله ؛ لأنهم لما عبدوا غيره، فكأنهم أثبتوا الأنعام منه. ﴿ فتمتعوا ﴾ : أمر تهديد. ﴿ فسوف تعلمون ﴾ أغلظ وعيد.
﴿ ويجعلون لما لا يعلمون ﴾، أي للأصنام التي هي جماد لا علم لها، فيكون الضمير لما، أو المعنى : يجعلون لما لا يعلمونها مستحقة للعبادة، لا نافعة ولا ضارة، بل يسمونها آلهة، ويقولون جهلا منهم : إنها آلهة تضر وتنفع وتشفع، أو لا يعلمون لها حقا، فالضمير إلى الكفار، والعائد إلى " ما " محذوف، و " ما " على التأويلين موصولة، أو المعنى : يجعلون لجهلهم، على أن " ما " مصدرية، والمفعول له محذوف للعلم به ؛ يعني يجعلون لجهلهم للأصنام، ﴿ نصيبا مما رزقناهم ﴾، من الحرث والأنعام. ﴿ فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا ﴾، ﴿ تالله لتسئلن ﴾، التفات من الغيبة إلى الخطاب يوم القيامة. ﴿ عما كنتم تفترون ﴾، من أنها آلهة، وهو وعيد لهم عليه.
﴿ ويجعلون لله البنات ﴾، أي : يحكمون بثبوت البنات لله تعالى، وهم خزاعة وكنانة، قالوا : الملائكة بنات الله. ﴿ سبحانه ﴾، تنزيها لذاته، أي : أسبحه سبحانا من نسبة الولد، أو تعجب من قولهم. ﴿ ولهم ما يشتهون ﴾، يعني البنين، ويجوز في " ما " الرفع على الابتداء، و " لهم " خبره. والنصب عطفا على البنات، على أن الجعل، بمعنى : الاختيار، وعلى هذا ضمير الفاعل والمفعول لشيء واحد، لكن لا يبعد تجويزه في المعطوف، وسبحانه حينئذ، اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه.
﴿ وإذا بشر أحدهم بالأنثى ﴾، أي : بولادة الأنثى. ﴿ ظل وجهه ﴾، أي : صار دوام النهار كله ؛ فإن النهار : زمان الاغتمام والسرور، لأجل المذاكرة واختلاط الناس، وأما الليل : فزمان النوم والغفلة. ﴿ مسودا ﴾، من الكآبة والحياء من الناس، واسوداد الوجه، كناية عن الاغتمام. ﴿ وهو كظيم ﴾، ممتلئ حزنا وغيظا، فهو يكظمه، أي : يمسكه ولا يظهره.
﴿ يتوارى من القوم ﴾، أي : يستخفي من قومه،
﴿ من سوء ما بشر به ﴾، أي : من أجل سوء المبشر به، مترددا فيما يفعل به،
﴿ أيمسكه ﴾، أي : يبقيه حيا،
﴿ على هون ﴾، ذل،
﴿ أم يدسه في التراب ﴾، أم يخفيه فيه ويدفنه، وتذكير الضمير نظرا إلى لفظة " ما "، قال البغوي إن مضر وخزاعة وتميما كانوا يدفنون البنات أحياء، خوفا من الفقر عليهن، وطمع غير الأكفاء فيهن، وكان الرجل من العرب إذا ولدت له بنت وأراد أن يستحييها، ألبسها جبة من صوف أو شعر، ترعى له الإبل والغنم في البادية، وإذا أراد أن يقتلها، تركها حتى إذا صارت سداسية، قال لأمها : زينيها حتى أذهب بها إلى أحمائها، وقد حدر لها بئرا في الصحراء، فإذا بلغ بها البئر قال لها : انظري إلى هذا البئر، فيدفعها من خلفها في البئر، ثم يهيل على رأسها التراب، حتى يستوي البئر بالأرض، وكان صعصعة جد الفرزدق، إذا أحس بشيء من ذلك، وجه إلى والد البنت إبلا يحييها بذلك، فقال الفرزدق مفتخرا :
وجدي الذي منع الوائدات | فأحيا الوئيد فلم يؤد |
﴿ ألا ساء ما يحكمون ﴾، حيث يجعلون لمن هو متعال عن الولد، أسوء الفريقين، ولا يختارون ذلك لأنفسهم ويختارون لأنفسهم الذكور، نظيره قوله تعالى :
﴿ ألكم الذكر وله الأنثى٢١ تلك إذا قسمة ضيزى٢٢ ﴾.
﴿ للذين لا يؤمنون بالآخرة ﴾، أي : الذين يصفون لله البنات، ﴿ مثل السوء ﴾، أي : صفة السوء، وهي الحاجة إلى الولد لبقاء النسل بعد موته، واستبقاء الذكور استظهارا بهم، وكراهية الإناث ووأدهن خشية إملاق. ﴿ ولله المثل الأعلى ﴾، وهو : الوجوب الذاتي، والغنى المطلق، وأنه لا إله إلا هو، والاتصاف بجميع صفات الجلال والكمال ؛ من العلم والقدرة والبقاء وغيرها، والتنزه عن صفات المخلوقين، قال ابن عباس مثل السوء، النار، ومثل الأعلى، شهادة أن لا إله إلا الله. ﴿ وهو العزيز الحكيم ﴾، المتفرد بكمال القدرة والحكمة.
﴿ ولو يؤاخذ الله ﴾، أي : يعاجل بالعقوبة، ﴿ الناس ﴾، اللام للعهد، والمراد بهم : الكفار، بقرينة المؤاخذة، وإضافة الظلم إليهم في قوله :﴿ بظلمهم ﴾، أي : بكفرهم وعصيانهم، وعبارة البيضاوي تشعر بأن المراد بالناس : كلهم، حيث قال : ولا يلزم من عموم الناس، وإضافة الظلم إليهم أن يكون كلهم ظالمين، حتى الأنبياء عليهم السلام ؛ لجواز أن يضاف إليهم لما شاع فيهم، وصدر عن أكثرهم، قلت : ويلزم على هذا، أن يؤاخذ الناس كلهم بظلم أكثرهم، وهذا مردود بقوله تعالى :﴿ ولا تزر وازرة وزر أخرى ﴾، ﴿ ما ترك عليها ﴾، أي : على الأرض، كناية عما دل عليه لفظ الناس والدابة، ﴿ من دابة ﴾، إما أن يكون المراد به : من دابة ظالمة، كما ذكر صاحب المدارك عن ابن عباس، أو يكون المراد به : دابة من دواب الأرض غير المؤمنين الصالحين، فإنه لا يجوز أن يهلك المؤمنون بظلم الظالمين وذنبهم، إلا إذا تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فحينئذ يعذبون معهم ؛ لرضائهم بذنبهم، أو لتركهم ما وجب عليهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إن الناس إذا رأوا منكرا فلم يغيروه، يوشك أن يعمهم الله بعاقبه )، رواه ابن ماجه والترمذي، وصححه من حديث أبي بكر الصديق، وروى أبو داود وجرير بن عبد الله بمعناه، وأما غير المؤمنين الصالحين من دواب الأرض، فجاز أن يهلك بذنب ابن آدم تبعا لهم ؛ لأن خلقتها تبع لخلقة الإنسان، ونفع وجودها يعود إليهم، حيث قال الله تعالى :﴿ خلق لكم ما في الأرض جميعا ﴾، قال قتادة في هذه الآية : إن الله تعالى قد فعل ذلك في زمن نوح، فأهلك من على الأرض، إلا من كان في سفينة نوح عليه السلام، وروى البيهقي عن أبي هريرة أنه سمع رجلا يقول : إن الظالم لا يضر إلا نفسه. قال أبو هريرة : بلى والله، حتى الحبارى لتموت في وكرها هزلا بظلم الظالم، وأخرج ابن أبي شيبة وعبد ابن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي، في شعب الإيمان عن ابن مسعود قال : إن الجعل تعذب في حجرها بذنب ابن آدم، وقيل : معنى الآية : لو أخذ الله آباء الظالمين بظلمهم، انقطع النسل، ولم يوجد الأبناء، فلم يبق في الأرض أحد، ومن أجل ذلك لم يدع نوح على قومه حتى علم بالوحي أن الله تعالى إن يذرهم لا يلدوا إلا فاجرا كفارا، ﴿ ولكن يؤخرهم ﴾، أي : يمهل الظالمين بحلمه، ﴿ إلى أجل مسمى ﴾، سماه لأعمارهم، أو لعذابهم ؛ كي يتوالدوا، ﴿ فإذا جاء أجلهم لا يستئخرون ساعة ﴾، بعد بلوغ الأجل، ﴿ ولا يستقدمون ﴾، الآجال عطف على إذا جاء.
﴿ ويجعلون لله ما يكرهون ﴾، لأنفسهم من البنات، والشركاء والرياسة، والاستخفاف بالرسل وأراذل الأموال. ﴿ وتصف ﴾، أي : تقول ﴿ ألسنتهم الكذب ﴾، مع ذلك ﴿ أن لهم الحسنى ﴾، منصوب على أنه بدل من الكذب. قال يمان : يعني بالحسنى : الجنة في المعاد، وذلك أنهم كانوا يقولون : نحن في الجنة إن كان محمدا صادقا في البعث. ﴿ لا جرم ﴾ حقا ولا محالة، وقال البغوي : قال ابن عباس : بلى، قلت : هذا على ما قيل أن " لا " في " لا جرم "، رد لما سبق، وكان فيما سبق زعمهم، إن لهم الحسنى، ومقتضى ذلك أنهم لا يدخلون النار، فرد الله قولهم، ﴿ أن لهم النار وأنهم مفرطون ﴾، قرأ نافع بكسر الراء مخففا من الإفراط في المعاصي. في القاموس : مفرطون، أي : مجاوزون لما حد لهم، وقال البغوي : المسرفون، وقرأ أبو جعفر بكسر الراء والتشديد، من التفريط، بمعنى التقصير والتضييع، أي : المقصرون في الطاعات، والمضيعون لأمر الله، والباقون بفتح الراء مخففا، قال في القاموس : أي : منسيون متروكون في النار، أو مقدمون معجلون إليها، قال البغوي : قال ابن عباس : منسيون في النار، وقال مقاتل : متروكون في النار، وقال قتادة : معجلون إلى النار، وقال الفراء : مقدمون إلى النار، منه قوله صلى الله عليه وسلم :( أنا فرطكم على الحوض )، أي : مقدمكم، وقال سعيد بن جبير : مبعدون.
﴿ تالله لقد أرسلنا ﴾، رسلا من الناس، ﴿ إلى أمم من قبلك ﴾، كما أرسلناك إلى هذه الأمة. ﴿ فزين لهم ﴾، أي : للأمم، أي : لأكثرهم، ﴿ الشيطان أعمالهم ﴾ الخبيثة، من الإشراك بالله، وتكذيب الرسل، فأصروا عليها. ﴿ فهو وليهم ﴾، الضمير لكفار قريش ؛ لأن سوق الكلام فيهم، والولي الناصر والقرين، يعني : الشيطان قرين لهؤلاء يزين لهم أعمالهم الخبيثة. ﴿ اليوم ﴾، كما كان يزين لمن كان قبلهم، ناصرا لهم في معاداة المؤمنين، وجاز أن يكون الضمير للأمم السابقة، على أنه حكاية حال ماضية، يعني : فالشيطان كان وليهم في الدنيا حين كان يزين لهم، وجاز أن يكون المراد باليوم : يوم القيامة، والكلام حكاية حال آتية، والمعنى : فالشيطان قرين لهم يوم القيامة في الأصفاد، أو المعنى : فالشيطان ناصر لهم يوم القيامة، يعني لا ناصر لهم غيره، وهو عاجز عن نصر نفسه فكيف ينصرهم، فهو نفي الناصر لهم على أبلغ الوجوه، وجاز أن يقال بحذف المضاف، تقديره : فهو ولي أمثالهم من الكفار اليوم، يعني : كفار قريش، ﴿ ولهم عذاب أليم ﴾، يوم القيامة.
﴿ وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم ﴾، أي : للناس. ﴿ الذي اختلفوا فيه ﴾، من التوحيد والصفات والقدر، وأحوال المعاد، وأفعال العباد، وأحكام الله تعالى. ﴿ وهدى ﴾ من الضلالة. ﴿ ورحمة لقوم يؤمنون ﴾، معطوفان على محل " لتبين "، منصوبان على العلية ؛ لكونهما فعلان لفاعل على أنزلنا، بخلاف " لتبين " ؛ لأنه فعل المخاطب.
﴿ والله أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض ﴾، أي : نباتها، يعني : جعلها خضرا ناميا. ﴿ بعد موتها ﴾، أي : يبسها وانخلاعها عن الروح النباتي. ﴿ إن في ذلك لآية ﴾، على جواز البعث. ﴿ لقوم يسمعون ﴾، سماع تدبر وإنصاف.
﴿ وإن لكم في الأنعام لعبرة ﴾، دلالة يعتبر بها من الجهل إلى العلم. ﴿ نسقيكم ﴾، قرأ نافع، وابن عامر، وأبو بكر، ويعقوب، ههنا، وفي المؤمنين : بفتح النون من المجرد. والباقون : بضمها من الأفعال، وهما لغتان. ﴿ مما في بطونه ﴾، استئناف ؛ لبيان العبرة، ذكر الضمير ووحده ههنا نظرا إلى اللفظ، وأنثه في المؤمنين نظرا إلى المعنى ؛ لأن الأنعام اسم جمع لفظه مفرد، عده سيبويه في المفردات المبنية على " أفعال " كأخلاقه وأكباش، كذا قال الفراء، وأبو عبيدة، والأخفش : إن النعم والأنعام واحد، يذكر ويؤنث، فمن أنث : فلمعنى الجمع، ومن ذكر : فلحكم اللفظ، وقال الكسائي : رده إلى ما يعني : في بطون ما ذكرنا. وقال المؤرخ : الكناية راجعة إلى البعض ؛ فإن اللبن لبعضها دون جميعها، وقيل : المراد به الجنس. ﴿ من بين فرث ﴾، وهو : ما في الكرش من السفل، فإذا خرج منه لا يسمى فرثا. ﴿ ودم لبنا خالصا ﴾، من الدم والفرث، ليس عليه لون دم ولا رائحة فرث، مع كونه متولدا منهما. ﴿ سائغا للشاربين ﴾، أي : سهل المرور في الحلق، قال البغوي : قال ابن عباس رضي الله عنهما : إذا أكلت الدابة العلف فاستقر في كرشها، وطحنته، فكان أسفله الفرث، وأوسطه اللبن، وأعلاه الدم، والكبد مسلطة عليها، يقسمها بتدبير الله، فيجري الدم في العروق، واللبن في الدروع، ويبقى الفرث كما هو، قال البيضاوي : لعل المراد : في أوسطه تكون مادة اللبن، وأعلاه مادة الدم، الذي يغذي البدن، وقال : الكبد يجدب صفاوة الطعام المنهضم في الكرش، ويبقى ثفله، ثم يمسكها، ثم يهضمها هضما ثانيا، فيحدث أخلاط أربعة معها مائية، فيميز القوة المميزة المائية بما زاد على قدر الحاجة، فيدفعها إلى الكلية والمرارة والطحال، ثم يوزع الباقي على الأعضاء، فيجري إلى كل حقه، على ما يليق به، بتقدير الحكيم العليم، ثم إن كان الحيوان أنثى : زاد أخلاطها على قدر غدائها ؛ لاستيلاء البرودة والرطوبة على المزاج، فيندفع الزائد أولا إلى الرحم ؛ لأجل الجنين، فإذا انفصل، انصبت ذلك الزائد أو بعضه إلى الضروع، فيبيض بمجاورة لحومها العذبة البيض، فيصير لبنا، ومن تدبر صنع الله تعالى في إحداث الأخلاط والألبان، وإعداد مقارها ومجاريها، والأسباب المولدة لها، والقوى المتصرفة فيها، كل وقت على ما يليق، اضطر إلى الإقرار بكمال حكمته، وتناهي رحمته. و " من "، الأولى تبعيضية ؛ لأن اللبن بعض ما في بطونها، والثانية : ابتدائية، كقولك : سقيت من الحوض، لأن بين الفرث والدم المحل الذي يبتدأ منه الاسقاء، وهي متعلقة ب " نسقيكم " أو حال من لبنا، قدمت عليه ؛ لتنكيره والتنبيه على أنه موضع العبرة.
﴿ ومن ثمرات النخيل والأعناب ﴾، أي : عصيرهما متعلق بمحذوف، أي : ونسقيكم من ثمرات النخيل والأعناب. وقوله :﴿ تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا ﴾، استئناف لبيان الإسقاء، أو هو متعلق بتتخذون، ومنه تكرير الظرف تأكيدا، أو " من ثمرات النخيل " خبر لمحذوف صفته تتخذون، تقديره : ومن ثمرات النخيل والأعناب ثم تتخذون منه، وتذكير الضمير على الوجهين الأولين ؛ لأنه للمضاف المحذوف الذي هو العصير ؛ أو لأن الثمرات بمعنى الثمر، والسكر : اسم لما يكون من السكر، أو هو مصدر رسمي به الخمر، قال في القاموس : سكر كفرح، سكرا و سكرا و سكرا و سكرا وسكرانا : نقيض صحا، والسكر محركة : الخمر، ونبيذ يتخذ من النص والكشوث، وكل ما يسكر وما حرم من ثمره، والخل والطعام، قال صاحب الهداية : السكر هو التي من ماء التمر، أي : الرطب، قال شريك بن عبد الله أنه مباح بهذه الآية ؛ فإن الله تعالى امتن علينا به، وهو بالمحرم لا يتحقق، ولنا إجماع الصحابة رضي الله عنهم على تحريمه. والآية محمولة على الابتداء. وكانت الأشربة مباحة كلها، يعني : في ابتداء الإسلام، انتهى كلامه. وقال البغوي : قال قوم : السكر والخمر والرزق الحسن : الخل والرب والتمر والزبيب، قالوا : وهذا قبل تحريم الخمر، وإلى هذا ذهب ابن مسعود وابن عمر وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد، وقال : روي عن ابن عباس قال : السكر ما حرم من ثمرها، والرزق الحسن ما أحل، وقال أبو عبيدة : السكر : الطعم، يقال : هذا سكر لك، أي : طعم لك، وقال الشعبي : السكر ما شربت، والرزق الحسن ما أكلت، وروى العوفي عن ابن عباس أن السكر هو الخل بلغة الحبشة، وقال بعضهم : السكر هو بلغة الحبشة : هو النبيذ المسكر، هو نقيع التمر والزبيب إذا اشتد، والمطبوخ من العصير، وهو قول الضحاك والنخعي، ومن يبيح شرب النبيذ ومن حرمه، يقول : المراد : الإخمار، لا الإحلال، وأولى الأقاويل أن قوله :﴿ تتخذون منه سكرا ﴾، منسوخ، انتهى كلام البغوي. وقال البغوي في موضع آخر : وجملة القول أن الله أنزل في الخمر أربع آيات، نزلت بمكة :﴿ ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا ﴾، فكان المسلمون يشربونها، وهي حلال لهم يومئذ، ثم نزلت في المدينة :﴿ يسئلونك عن الخمر والميسر ﴾، ثم نزلت :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ﴾، وآخر الآيات نزولا ما في المائدة، وقد ذكرنا قصة نزول الآيات الأربعة في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى :﴿ يسئلونك عن الخمر والميسر ﴾. ﴿ إن في ذلك لآية لقوم يعقلون ﴾، أي : يستعملون عقولهم بالنظر والتأمل في الآيات.
﴿ وأوحى ربك إلى النحل ﴾، أي : ألهمها وقذف في قلوبها. ﴿ أن اتخذي ﴾، أن : مفسرة ؛ لأن في الوحي معنى القول. ﴿ من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون ﴾، قرأ ابن عامر وأبو بكر بضم الراء، والباقون بكسرها، أي : مما يجعلونه سقفا للبيت يستظل به، أو يجعل للكرم، وأصل العرش السقف، وذكر بحرف التبعيض ؛ لأنه لا يبنى في كل جبل، وكل شجرة، وكل سقف أو كرم، ولا في مكان منها، وإنما سمي ما تبنيه للعسل بيتا تشبيها ببناء الإنسان ؛ لما فيه من حسن الصنعة وصحة القسمة، التي لا يقوى عليها حذاق المهندسين، ولعل ذكره للتنبيه على ذلك.
﴿ ثم كلي من كل الثمرات ﴾، اللام للجنس، أي : من كل ثمرة تشتهيها، وتتيسر لها، مرها وحلوها، وليس معنى الكل، الاستغراق. ﴿ فاسلكي سبل ربك ﴾، يعني : كوني سالكة في الطرق التي الهمك ربك، وأفهمك في عمل العسل، أو إذا أكلت الثمار في المواضع البعيدة من بيوتك، فاسلكي راجعة إلى بيوتك سبل ربك لا تضليني، أو فاسلكي، يعني : ادخلي ما أكلت في مسالك، التي يستحيل فيها بقدرته النور عسلا من أجوافك، ﴿ ذللا ﴾، جمع ذلول، حال من السبل، أي : مذللة، ذللها الله، وسهلها لك، أو حال من الضمير في اسلكي، يعني : اسلكي، أنت منقادة لأمر ربك، ويقال إن أربابها ينقلونها من مكان إلى مكان، ولها يعسوب إذا وقف وقفت، وإذا سار سارت. ﴿ يخرج من بطونها ﴾، فيه التفات من الخطاب إلى الغيبة، كأنه عدل به عن خطاب النحل إلى خطاب الناس ؛ لأنه محل الأنعام عليهم، والمقصود من خلق النحل وإلهامه : انتفاعهم. ﴿ شراب مختلف ألوانه ﴾، أبيض، وأحمر، وأصفر، وأخضر. ﴿ فيه ﴾، أي : في ذلك الشراب، ﴿ شفاء للناس ﴾، وقال مجاهد " فيه "، أي : في القرآن الكريم شفاء، والظاهر هو : الأول، ولفظ الآية يشعر أن في العسل شفاء، ولو في الجملة، ولو في بعض الأمراض ؛ لكونها نكرة، وسياق الكلام يقتضي نوعا من التعميم، وإلا فما من شيء من الأشياء إلا وفيه شفاء لبعض الأمراض، حتى السموم : فإنها تستعمل في الأدوية، فيقال : التنوين للتعظيم، والمعنى : فيه شفاء عظيم للناس، يعني : في أكثر الأمراض، وأكثر الأوقات، ويؤيده حديث ابن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( عليكم بالشفائين : العسل والقرآن )، رواه ابن ماجه، والحاكم بسند صحيح، فإن هذا الحديث يدل على كونه شفاء غالبا، وذكر البغوي قول ابن مسعود أن العسل شفاء من كل داء، والقرآن شفاء لما في الصدور، فكأنه فهم ابن مسعود من الحديث المرفوع التعميم، فقال البيضاوي : إن العسل شفاء، إما بنفسه، كما في الأمراض البلغمية، أو مع غيره، كما في سائر الأمراض ؛ إذ قل ما يكون معجون إلا والعسل جزء منه، وما في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري أنه جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال :( إن أخي استطلق بطنه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( اسقه عسلا )، فسقاه، ثم جاء فقال : إني سقيته فلم يزده إلا استطلاقا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( صدق الله وكذب بطن أخيك )، فسقاه فبرئ، يدل على كونه شفاء منفردا، فيقال أنه من شربه منفردا بحسن النية لأي مرض كان، شفاه الله تعالى إن شاء الله تعالى، كذا قال السيوطي. ﴿ إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون ﴾، فإن من تدبر اختصاص النحل بتلك العلوم الدقيقة والأفعال العجيبة حق تدبر، علم قطعا أنه لا بد له من قادر حكيم يلهمها ذلك ويحملها عليه.
﴿ والله خلقكم ثم يتوفاكم ﴾، صبيانا أو شبانا أو كهولا أو شيوخا، ﴿ ومنكم من يرد إلى أرذل العمر ﴾، أي : أخسه، وهو : الهرم، قال قتادة : أرذل العمر : تسعون سنة، وروي عن علي عليه السلام أنه قال : أرذل العمر : خمس وسبعون سنة، وقيل ثمانون، وقد كان في دعائه صلى الله عليه وسلم :( اللهم إني أعوذ بك من سوء العمر ). وفي رواية ( من أن أرد إلى أرذل العمر )، ونحو ذلك، روي في الصحيحين وغيرهما :﴿ لكي لا يعلم بعد علم شيئا ﴾، أي : ينسى معلوماته كلها، فيصير له حالة مشابهة بحال الأطفال، في عدم العلم وسوء الفهم. قال عكرمة : من قرأ القرآن، لم يصر بهذه الحالة، ﴿ إن الله عليم ﴾، بمقادير أعمارهم، ﴿ قدير ﴾ على كل شيء، يميت الشاب القوي، ويبقي الهرم الفاني، وفيه تنبيه على أن تفاوت أحوال الناس ليس إلا بتقدير قادر حكيم عليم، ولو كان ذلك مقتضى الطباع، لم يبلغ التفاوت هذا المبلغ.
﴿ والله فضل بعضكم على بعض في الرزق ﴾، فمنكم غني ومالك، وملك ينفق ألوف آلاف، ومنكم مملوك، أو عسكري، أو فقير، لا يقدر على شيء. ﴿ فما الذين فضلوا ﴾، يعني : الأغنياء والملاك، ﴿ برادي رزقهم ﴾، أي : معطى فضل رزقهم الذي أعطاهم الله ﴿ على ما ملكت أيمانهم ﴾ أي مماليكهم ﴿ فهم فيه سواء ﴾ يعني حتى يستووا هم وعبيدهم في ذلك فهذه جملة اسمية وقعت في موضع الجواب للنفي كأنه قيل فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فيستووا في الرزق فهو رد وإنكار على المشركين حيث يشركون بالله بعض مخلوقاته في الألوهية مع عدم صلاحيتهم لأن يشاركوه في شيء من الأشياء بوجه من الوجوه ولا يرضون أن يشاركهم عبيدهم فيما أنعم الله عليهم فيساويهم فيه مع أن مماليكهم من جنسهم مرزوقين الله تعالى، وجاز أن يكون المعنى ما هم برادي رزقهم يعني رزق أنفسهم على ما ملكت أيمانهم بل كل ما يردون على المماليك من الرزق فهو رزق لمماليكهم جعله الله تعالى في أيديهم فهم فيه سواء، يعني أن الموالي والمماليك سواء في أن الله رزقهم جميعا فالجزاء لازمة للجملة المتقدمة أو مقرر لها ﴿ أفبنعمة الله يجحدون ﴾ حيث يتخذون له شركاء فإنه يقتضي أن يضاف إليهم بعض ما أنعم الله عليهم وجحود كونها من عند الله أو حيث أنكروا أمثال هذه الحجج بعدما أنعم الله عليهم بإيضاحها والباء لتضمن الجحود معنى الكفر، قرأ أبو بكر بالتاء الفوقانية للخطاب لقوله ﴿ والله فضل بعضكم ﴾ والباقون بالتحتانية لقوله ﴿ فهم في سواء ﴾.
﴿ والله جعل لكم من أنفسكم ﴾، أي : من جنسكم، ﴿ أزواجا ﴾، لتستأنسوا بها، وليكون أولادكم مثلكم، وقيل : معناه : خلق حواء من آدم، وسائر النساء من نطف الرجال والنساء، ﴿ وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ﴾، وهم : أولاد الأولاد، أو المسرع في الخدمة يعمهم، قال في القاموس : حفد يحفد حفد أو حفدانا : خف في العمل وأسرع، كاحتفد وخدم، والحفدة : محركة الخدم والأعوان، جمع حافد، وحفدة الرجل : أولاد أولاده، كالحفيد والأصهار والبنات، قال البغوي : قال ابن مسعود والنخعي : الحفدة، يعني في الآية : الأختان على بناته، وعن ابن مسعود أيضا : أنهم الأصهار، فيكون معنى الآية على هذا القول : وجعل لكم من أزواجكم بنين، وبنات تزوجوهن فيحصل بسببهن الأختان والأصهار، وقال عكرمة والحسن والضحاك : هم : الخدم، وقال مجاهد : هم : الأعوان، وقال عطاء : هم : ولد الرجل الذين يعينونه ويخدمونه، قلت : فالمراد في الآية بالحفدة على هذه الأقوال : هم : البنون أنفسهم، والعطف ؛ لتغاير الوصفين، كذا قال البيضاوي إحدى التأويلات، وقال مقاتل والكلبي : البنين : الصغار، والحفدة : كبار الأولاد الذين يعينونه على عمله، وقال قتادة : مهنة يمتهنونكم ويخدمونكم من أولادكم، وروى مجاهد وسعيد بن جبير عن ابن عباس : أنهم ولد الولد، وروى العوفي عنه : أنهم : بنوا امرأة الرجل ليسوا منه، يعني : الربائب، قلت : لعل ذلك التسمية، لأجل أن الرجل أن ربى أولاده غيره يستخدمهم ما لا يستخدم من أولاده، وقال البيضاوي إحدى التأويلات أن المراد بالحفدة في الآية : البنات إذ البنات يخدمن في البيوت أتم خدمة، ﴿ ورزقكم من الطيبات ﴾، من اللذائد أو من الحلالات، و " من "، للتبعيض، فإن المرزوق في الدنيا أنموذج منها، ﴿ أفبالباطل يؤمنون ﴾، حيث يقولون : الأصنام ينفعهم ﴿ وبنعمت الله هم يكفرون٧٢ ﴾ حيث أضافوا نعمته إلى الأصنام، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( قال الله تعالى : إني والجن والإنس في نبأ عظيم أخلق ويعبد غيري، وأرزق ويشكر غيري )، وتقديم الصلة على الفعل ؛ لإيهام التخصيص مبالغة، ولمحافظة الفواصل، وقيل : الباطل : ما أمرهم الشيطان، من تحريم البحيرة، والسائبة، والوصيلة، يؤمنون به، " وبنعمة الله "، أي : بالطيبات من الرزق التي أحل الله لهم يكفرون، ويجحدون تحليله، وقيل : الباطل : الشيطان، ونعمة الله : محمد صلى الله عليه وسلم.
﴿ ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا من السماوات والأرض ﴾، يعني : من مطر ونبات. ﴿ شيئا ﴾ : قال الأخفش : هو بدل من الرزق والمراد به المرزوق، والمعنى : لا يملكون من المرزوقات شيئا قليلا ولا كثيرا. وقال الفراء : رزقا : مصدر، وشيئا : منصوب به على المفعولية. ﴿ ولا يستطيعون ﴾ أن يتملكوه، أو لا استطاعة لهم أصلا. وجمع الضمير فيه وتوحيده في " لا يملك " نظرا إلى لفظة " ما " ومعناه، ويجوز أن يعود الضمير إلى الكفار، يعني : لا يستطيع هؤلاء الكفار مع كونهم أحياء، فكيف بالجمادات ؟ !.
﴿ فلا تضربوا لله الأمثال ﴾، فإن ضرب المثل تشبيه حال بحال، وأنتم لا تعرفون الله تعالى ولا تعلمون صفاته، ولا ما يجوز وصفه به وما لا يجوز، فكيف يصح منكم ضرب المثل ؟ وقياسكم عليه في هذا المقام باطل ؛ لكونه قياسا للغائب على الشاهد، ومن غير جامع، ﴿ إن الله يعلم ﴾، ضرب الأمثال وكنه الأشياء، ﴿ وأنتم لا تعلمون ﴾، كنه الأشياء، أو المعنى : أنه تعالى يعلم خطاء ما تضربون من الأمثال، وفساد ما تقولون عليه بالقياس، كقولهم عبادة عبيد الملك أدخل في التعظيم من عبادته، ويعلم عظم جرمكم فيما تفعلون وأنتم لا تعلمون ذلك، ولو علمتموه لما جرأتم عليه، فهو : تعليل للنهي.
﴿ ضرب الله مثلا ﴾، لنفسه ولمن عبد دونه، ﴿ عبدا ﴾، بدلا من " مثلا "، ﴿ مملوكا ﴾، احترازا عن الحر، فإنه أيضا عبد الله، ﴿ لا يقدر على شيء ﴾، احتراز عن المكاتب والمأذون، ﴿ ومن رزقناه منا رزقا حسنا ﴾، " من " موصولة لكونه معطوفا على عبد قسيم له، فالمعنى : وحرا غنيا كثير المال، ﴿ فهو ينفق منه سرا وجهرا ﴾، مثل ما يشرك به بالمملوك العاجز عن التصرف رأسا، ومثل نفسه بالحر الغني السخي، ينفق ما يشاء كيف يشاء، واحتج بها على امتناع الإشراك والتسوية بين الأصنام التي هي أعجز المخلوقات وبين الله الغني القادر، ﴿ هل يستوون ﴾، جمع الضمير، ولم يقل يستويان ؛ لأنه للجنسين فإن المعنى : هل يستوي الأحرار والعبيد، ﴿ الحمد لله ﴾، يعني : الحمد كله لله تعالى، لا يستحقه غيره، فضلا عن استحقاق العبادة ؛ لأنه مولى النعم كلها دون غيره، ﴿ بل أكثرهم لا يعلمون ﴾، فيضيفون نعمة الله إلى غيره فيعبدونه لأجلها، وقيل قوله :﴿ عبدا مملوكا لا يقدر ﴾ : مثل للكافر، حيث لم يقدر الله تعالى له أن يقدم خيرا أو ينفق شيئا في سبيل الله، فهو العاجز، ومن رزقناه إلى آخره مثل للمؤمن المنفق، روى ابن جريج عن عطاء :﴿ عبدا مملوكا ﴾، أي : أبو جهل، ﴿ ومن رزقناه منا رزقا حسنا ﴾، أبو بكر، ﴿ الحمد لله ﴾، الذي ميز المحق من المبطل، ﴿ بل أكثرهم لا يعلمون ﴾.
﴿ وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم ﴾، ولد أخرس، لا يفهم ولا يتكلم، ﴿ لا يقدر على شيء ﴾، من الصنائع والتدابير ؛ لنقصان عقله، ﴿ وهو كل ﴾، ثقيل، ووبال ﴿ على مولاه ﴾، أي : على من يلي أمره، ﴿ أينما يوجهه ﴾، حيثما يرسله مولاه في أمر، ﴿ لا يأت بخير ﴾، أي : لا ينجح لعامة مهمه، فهو مثل للصنم، لا يسمع ولا ينطق ولا يعقل، وهو كل على عابده، يحتاج إلى أن يحمله ويضعه، وهو لا ينفعه أصلا، ﴿ هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل ﴾، أي : هو سليم فهيم مطيق ذو كفاية ورشد، ينفع الناس، يحثهم على العدل الشامل لجميع الفضائل، ﴿ وهو على صراط مستقيم ﴾، وهو في نفسه على طريق مستقيم، لا يتوجه إلى مطلب إلا يبلغه بأقرب ما ينبغي، هذا مثل ضربه تعالى لنفسه، وقيل : ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم : رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل : كلا المثلين للمؤمن والكافر، يرويه عطاء عن ابن عباس، وقال عطاء في هذه الآية الأبكم : أبي بن خلف، ومن يأمر بالعدل : حمزة، وعثمان بن عفان، وعثمان بن مظغون، وقال مقاتل : نزلت في هاشم بن عمرو بن الحارث من ربيعة القرشي، كان قليل الخير، يعادي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخرج ابن جرير، عن ابن عباس، في قوله :﴿ ضرب الله مثلا عبدا مملوكا ﴾، قال : نزلت في رجل من قريش وعبده، وفي قوله :﴿ رجلين أحدهما أبكم ﴾، قال : نزلت في عثمان ومولى له كافر، وهو : أسيد بن أبي العيص، كان يكره الإسلام ويأباه، وينهاه عن الصدقة والمعروف.
﴿ ولله غيب السماوات والأرض ﴾، يعني : لا يعلم الغيب أحد غيره تعالى إلا بتعليمه. وقد ذكرنا شرح الغيب والشهادة في تفسير سورة الجن. ﴿ وما أمر الساعة ﴾، أي : أمر قيام الساعة في سرعته وسهولته إذا أراد الله تعالى ﴿ إلا كلمح البصر ﴾. في القاموس : لمح، كمنع : اختلاس النظر. قلت : فمعناه كاختلاس البرق البصر. وقال البيضاوي : إلا كرجع الطرف من أعلى الحديقة إلى أسفلها، ضرب الله تعالى بها المثل ؛ لأنه لا يعرف زمان أقل منه في العرف، ثم قال ﴿ أو هو أقرب ﴾، يعني : بل هو أقرب، فإنه تعالى محيي الخلائق دفعة، إذا قال له كن فيكون، وما يوجد دفعة كان في آن غير ممتد. ﴿ إن الله على كل شيء قدير ﴾، يقدر أن يحيي الخلائق دفعة واحدة، كما قدر أن أحياهم في الدنيا متدرجا، قال البغوي : نزلت الآية في الكفار الذين استعجلوا القيامة استهزاء، ثم دل على قدرته فقال :﴿ والله أخرجكم من بطون أمهاتكم ﴾.
﴿ والله أخرجكم من بطون أمهاتكم ﴾، قرأ الكسائي : بكسر الهمزة على لغة أو إتباعا لما قبلها. وحمزة : بكسرها وكسر الميم. والباقون : بضم الهمزة وفتح الميم، والهاء زائدة كما في إهراق. ﴿ لا تعلمون شيئا ﴾، جهالا مستصحبين جهل الجمادية، ﴿ وجعل لكم السمع ﴾، أي : الأسماع، ﴿ والأبصار والأفئدة ﴾، أداة تتعلمون بها، فتحسون بمشاعركم جزئيات الأشياء، فتدركونها، ثم تنبهون بقلوبكم لمشاركات ومبائنات منها بتكرير الإحساس حتى يتحصل لكم بعض العلوم البديهية، وتتمكنوا من تحصيل العلوم الكسبية بالنظر فيها، ﴿ لعلكم تشكرون ﴾، كي تعرفوا ما أنعم الله عليكم طورا بعد طور فتشكرونه.
﴿ ألم يروا إلى الطير ﴾، قرأ ابن عامر ويعقوب وحمزة : بالتاء الفوقانية ؛ لتغليب الخطاب على الغيبة. والباقون : بالتحتانية ؛ لقوله تعالى :﴿ يعبدون ﴾، ﴿ مسخرات ﴾، مذللات للطيران بما خلق لها من الأجنحة والأسباب المواتية، ﴿ في جو السماء ﴾، وهو : الهواء بين السماء والأرض، قال البغوي : روي عن كعب الأحبار أن الطير يرتفع في الهواء اثنا عشر ميلا، ولا يرتفع فوق ذلك، ﴿ ما يمسكهن ﴾ في الهواء ﴿ إلا الله ﴾، بقدرته ؛ فإن ثقل جسدها يقتضي سقوطها، ولا علاقة فوقها، ولا دعامة تحتها تمسكها، ﴿ إن في ذلك ﴾، أي : في تسخير الطير بأن خلقها خلقة يمكن معه الطيران في الجو، وأمسكها في الهواء على خلاف طبعها، ﴿ لآيات لقوم يؤمنون ﴾ ؛ لأنهم هم المنتفعون بها.
﴿ والله جعل من بيوتكم ﴾، التي بني من الحجر والمدر، ﴿ سكنا ﴾، أي : موضعا تسكنون فيه وقت إقامتكم، فعل بمعنى مفعول. ﴿ وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا ﴾، يعني : خياما وأخبية، والقباب من الأدم. ويجوز أن يتناول المتخد من الوبر والصوف والشعر، فإنها من حيث إنها نابتة على جلودها منها. ﴿ تستخفونها ﴾، أي : تجدونها خفيفة في الحمل والثقيل. ﴿ يوم ظعنكم ﴾، أي : رحلتكم في سفركم. قرأ ابن عامر والكوفيون : بسكون العين، والباقون : بفتحها، وهما لغتان. ﴿ ويوم إقامتكم ﴾، أي : وقت الحضر أو النزول. ﴿ ومن أوصافها ﴾، أي : أصواف الأنعام من الضأن. ﴿ وأوبارها ﴾، من الإبل. ﴿ وأشعارها ﴾ من المعز. وإضافتها إلى الأنعام ؛ لأنها من جملتها. ﴿ أثاثا ﴾ : وهو متاع البيت من الفرش والأكسية واللباس، لا واحد له، أو المال أجمع، كذا في القاموس. ﴿ ومتاعا ﴾ : ما يتجر به. ﴿ إلى حين ﴾، إلى مدة أراد الله تعالى بقاءها.
﴿ والله جعل لكم مما خلق ﴾، من الشجر والجبل والأبنية وغيرها، ﴿ ظلالا ﴾ تتقون بها حر الشمس. ﴿ وجعل لكم من الجبال أكنانا ﴾، أي : مواضع تستترون بها وتسكنون فيها من الكهوف والبيوت المنحوتة فيها، جمع كنّ. ﴿ وجعل لكم سرابيل ﴾، أي : قمصا من القطن والصوف والكتان والقز. ﴿ تقيكم الحر ﴾، أي : والبرد، خص أحد الضدين بالذكر والمراد كلاهما ؛ لدلالة الكلام على الآخر. ﴿ وسرابيل ﴾ من حديد أو قز أو غير ذلك. ﴿ تقيكم بأسكم ﴾، من السلاح أن يصيبكم في الحرب. ﴿ كذلك ﴾، يعني : كما أتم عليكم النعماء المذكورة، ﴿ يتم نعمته عليكم ﴾، حيث أرسل إليكم رسوله وأيده بالمعجزات، وأنزل عليكم كتابه، وأوضح لكم الحجة وأعز الإسلام. ﴿ لعلكم تسلمون ﴾، لكي يسلم أكثر الناس ويخلصون لله الطاعة، قال عطاء الخرساني : إنما نزل القرآن على قدر معرفتهم فقال ﴿ وجعل لكم من الجبال أكنانا ﴾، وما جعل لهم من السهول أعظم وأكثر، لكنهم كانوا أصحاب جبال، كما قال :﴿ ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها ﴾ ؛ لأنهم كانوا أصحاب وبر وشعر وصوف، كما قال :﴿ وينزل من السماء من جبال فيها من برد ﴾، وما أنزل من الثلج أكثر، لكنهم كانوا لا يعرفون الثلج، وقال :﴿ تقيكم الحر ﴾، وما تقي من البرد أكثر، ولكنهم كانوا أصحاب حر.
﴿ فإن تولوا ﴾، أي : أعرضوا عن الإسلام ولم يقبلوا منك، ﴿ فإنما عليك البلاغ المبين ﴾، يعني : إن تولوا فلا تهتم ولاتك في ضيق ؛ لأنه ما عليك أن يؤمنوا، إنما عليك البلاغ، وقد ﴿ بلغت ﴾ كمال الإبلاغ، أقيم السبب مقام المسبب، أخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد :( أن أعرابيا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله، فقرأ عليه :﴿ والله جعل لكم من بيوتكم سكنا ﴾، قال الأعرابي : نعم، قال :﴿ وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ﴾، قال : نعم، ثم قرأ كل ذلك يقول : نعم، حتى بلغ :﴿ كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون ﴾، فولى الأعرابي، فأنزل الله تعالى :﴿ فإن تولوا فإنما عليك البلاغ المبين٨٢ ﴾.
﴿ يعرفون نعمت الله ﴾، التي عدها عليهم وغيرها، حيث يعترفون بها وبأنها من عند الله، ﴿ ثم ينكرونها ﴾، حيث أعرضوا عن عبادة الله مخلصين له الدين حنفاء غير مشركين، وقال السدي : يعرفون نعمة الله، يعني : نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، عرفوها بالمعجزات ثم أنكروها عنادا ومعنى " ثم "، استبعاد الإنكار بعد المعرفة، قال البغوي : قال مجاهد وقتادة يعرفون ما عد عليهم من النعم في هذه السورة، ثم إذا قيل لهم : تصدقوا وامتثلوا أمر الله فيها، ينكرونها ويقولون : ورثناها من آبائنا، وقال الكلبي : هو أنه إذا ذكر لهم هذه النعم، قالوا : نعم هذه كلها من الله ولكنها بشفاعة آلهتنا، وقال عون بن عبد الله : هو قول الرجل : لولا فلان لكان كذا، لولا فلان لما كان كذا، ﴿ وأكثرهم الكافرون ﴾، بعد اعترافهم بالنعماء عنادا، وذكر الأكثر إما لأن بعضهم لم يعرف الحق لنقصان العقل، أو التفريط في النظر أو لم يقم عليه الحجة ؛ لأنه لم يبلغ حد التكليف، وإما لأنه قال الأكثر وأراد به الكل.
﴿ ويوم نبعث ﴾، تقديره : اذكر، أو خوفهم، أو يحيق بهم ما يحيق يوم نبعث :﴿ من كل أمة شهيدا ﴾، وهو رسولها يشهد عليهم ولهم بالكفر والإيمان. ﴿ ثم لا يؤذن للذين كفروا ﴾، في الاعتذار ؛ إذ لا عذر لهم، وقيل : في الكلام مطلقا، وقيل : في الرجوع إلى الدنيا، و " ثم " لزيادة ما يحيق بهم من شدة المنع عن الاعتذار لما فيه من الإقناط الكلي بعد شهادة الرسل عليهم. ﴿ ولا هم يستعتبون ﴾، أي : ولا هم يسترضون، يعني : لا يطلب منهم رضاء ربهم ؛ إذ لا يمكن ذلك حينئذ ؛ فإن الآخرة ليست بدار التكليف، ولا يرجعون إلى الدنيا حتى يتوبوا ويعملوا موجبات مرضاته تعالى.
﴿ وإذا رأى الذين ظلموا العذاب ﴾، عذاب جهنم، ﴿ فلا يخفف عنهم ﴾، أي : العذاب بعد الدخول، ﴿ ولا هم ينظرون ﴾، أي : لا يمهلون قبل الدخول.
﴿ وإذا رأى الذين أشركوا شركائهم ﴾، أوثانهم، ﴿ قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعو من دونك ﴾، أربابا نعبدهم أو نطيعونهم، وهو اعتراف بأنهم كانوا مخطئين في ذلك، أو التماس بأن ينصف عذابهم. ﴿ فألقوا إليهم القول ﴾، أي : قالوا لهم، يعني : أوثانهم ينطقهم الله :﴿ إنكم لكاذبون ﴾، في أنهم شركاء الله، أو في أنهم عبدوهم حقيقة، بل إنما عبدوا أهواءهم. وحاصل قولهم : إنا ما دعوناكم إلى عبادتنا، نظيره قوله تعالى :﴿ سيكفرون بعبادتهم ﴾، أو في أنهم حملوهم على الكفر وألزموهم إياه، كقوله :﴿ وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي ﴾.
﴿ وألقوا ﴾، يعني : الذين ظلموا. ﴿ إلى الله يومئذ السلم ﴾ : الاستسلام لحكمه بعد الاستكبار في الدنيا. ﴿ وضل ﴾، أي : ضاع وبطل ﴿ عنهم ما كانوا يفترون ﴾، من أنها تشفع لهم.
﴿ الذين كفروا وصدوا ﴾ الناس ﴿ عن سبيل الله ﴾، بالمنع عن الإسلام، والحمل على الكفر، ﴿ زدناهم عذابا ﴾، بصدهم، ﴿ فوق العذاب ﴾ المستحق بكفرهم، قال عبد الله بن مسعود : عقارب لها أنياب أمثال النخل الطوال، أخرج ابن مردويه عن البراء عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه، وقال سعيد بن جبير : حيات أمثال البخت، وعقارب أمثال البغال، تلسع إحداهن اللسعة يجد صاحبها حمتها أربعين خريفا، وقال ابن عباس ومقاتل : يعني : خمسة أنهار من صفر مذاب كالنار، تسيل من تحت العرش، يعذبون بها ثلاثة على مقدار الليل، واثنان على مقدار النهار، وقيل : إنهم يخرجون من حر النار إلى الزمهرير، فيبادرون من شدة الزمهرير إلى النار، مستغيثين بها، ﴿ بما كانوا يفسدون ﴾، في الدنيا بالكفر والصد.
﴿ ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم ﴾، يعني : نبيهم ؛ فإن نبي كل أمة بعث منهم. ﴿ وجئنا بك شهيدا على هؤلاء ﴾، على أمتك. ﴿ ونزلنا عليك الكتاب ﴾، استئناف، أو حال بإضمار قد. ﴿ تبيانا ﴾ : بيانا بليغا، ﴿ لكل شيء ﴾، مفصلا أو مجملا، كما في قوله تعالى :﴿ وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ﴾، ﴿ ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ﴾، وقوله تعالى :﴿ فاعتبروا يا أولي الأبصار ﴾. ﴿ وهدى ﴾، من الضلالة، ﴿ ورحمة ﴾، للجميع، وإنما حرم من حرم من تقصيره. ﴿ وبشرى للمسلمين ﴾، خاصة.
﴿ إن الله يأمر بالعدل والإحسان ﴾، لفظ العدل يقتضي المساواة، ومنه يقال للفدية والجزاء عدلا، باعتبار معنى المساواة، ومنه قوله تعالى :﴿ أو عدل ذلك صياما ﴾، ﴿ أن تعدلوا بين النساء ﴾، يعني : تسووا بينهن في كل شيء، فمعنى الآية :﴿ إن الله يأمر بالعدل ﴾، أي : بالمساواة في المكافآت إن خيرا فخير وإن شرا فشر. والإحسان أن يقابل الخير بأكثر وأفضل منه، والشر بأقل وأسهل منه، وبالمساواة بين المدعي والمدعى عليه إذا حكم بينهما، يعني : لا يميل إلى أحدهما، بل يسوي بينهما ويحكم بما قضى الله تعالى، قلت : أو المراد بالعدل : الاستقامة على الحق، ضد الجور : وهو الميلان عن الحق، في القاموس : العدل : ضد الجور، وما قام في النفوس أنه مستقيم، وقيل : المراد بالعدل : التوسط بين الأمور، كالتوحيد المتوسط بين التعطيل والتشريك، والقول بالكسب المتوسط بين الجبر والقدر، والتعبد بالواجبات والنوافل بحيث لا يفوت حقا من حقوق الله، والعبادة المتوسطتين البطالة والترهب، والجود المتوسط بين البخل والتبذير، والشجاعة المتوسط بين الجبن والتهور، والعفة المتوسطة بين الفجور والحصر، قال البغوي : وروي عن ابن عباس : العدل : التوحيد، والإحسان : أداء الفرائض، وعنه : الإحسان : الإخلاص في التوحيد، وذلك معنى قوله صلى الله عليه وسلم :( الإحسان أن تعبد ربك كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك )، رواه الشيخان في الصحيحين في حديث سؤال جبرئيل عن عمر بن الخطاب. وقال مقاتل : العدل : التوحيد، والإحسان : العفو عن الناس، وقيل : العدل الفريضة ومنه قوله صلى الله عليه وسلم :( لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا )، لا يعني نافلة ولا فريضة، الإحسان النافلة ؛ لأن الفرض أن يقع فيه تفريط تجبره النافلة. ﴿ وإيتاء ذي القربى ﴾، أي : إعطاء ذي قرابته ما يحتاج إليه، يعني : صلة الرحم. ﴿ وينهى عن الفحشاء ﴾، أي : ما اشتد قبحه قولا أو فعلا، وقال ابن عباس : الزنى. ﴿ والمنكر ﴾، أي : ما أنكره الشرع والعقل السليم. ﴿ والبغي ﴾، أي : الكبر والظلم، قال البيضاوي : الفحشاء : الإفراط في متابعة القوة الشهوية كالزنى، فإنه أقبح أحوال الإنسان وأشنعها، والمنكر : ما ينكر عن تعاطيه في آثاره القوة الغضبية، والبغي : هو الاستعلاء والاستيلاء على الناس والتجبر عليهم، فإنها الشيطنة التي هي مقتضى القوة الوهمية، ولا يوجد من الإنسان شر إلا وهو مندرج في هذه الأقسام، صادر بتوسط إحدى هذه القوى الثلاث، ولذلك قال ابن مسعود : أجمع آية في القرآن هذه، قلت : أخرجه سعيد بن منصور، والبخاري في الأدب، ومحمد بن نصر، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، والحاكم وصححه، والبيهقي في شعب الإيمان، وأخرج أحمد والبخاري في الأدب، وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه، عن ابن عباس : إن تلك الآية صارت سببا لإسلام عثمان بن مظعون، وقال البغوي : قال ابن عيينة : العدل : استواء السر والعلانية، والإحسان أن يكون سريرته أحسن من العلانية، والفحشاء والمنكر : أن يكون علانيته أحسن من سريرته. ﴿ يعظكم ﴾، بالأمر والنهي، والتمييز بين الخير والشر. ﴿ لعلكم تذكرون ﴾، تتعظون، قال البيضاوي : لو لم يكن في القرآن غير هذه الآية، لصدق عليه أنه تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة للمسلمين. قال البغوي : قال أيوب عن عكرمة : إن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية على الوليد، فقال له : يا ابن أخي أعد، فأعاد عليه، فقال : إن له والله لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وما هو قول البشر.
﴿ وأوفوا بعهد الله ﴾، أي : بميثاقه، ﴿ إذا عاهدتم ﴾، أخرج ابن جرير عن بريدة قال : نزلت الآية في بيعة النبي صلى الله عليه وسلم، وقال البغوي : العهد ههنا اليمين، قال الشعبي : العهد يمين، وكفارته كفارة يمين، ﴿ ولا تنقضوا الأيمان ﴾، أي : أيمان البيعة، أو مطلق الأيمان. ﴿ بعد توكيدها ﴾، أي : توثيقها بذكر الله، ﴿ وقد جعلتم الله عليكم كفيلا ﴾، شاهدا على تلك البيعة ؛ فإن الكفيل مراع بحال المكفول به رقيب عليه، والجملة حال، ﴿ إن الله يعلم ما تفعلون ﴾، من الوفاء بالعهود أو نقضها، وقال مجاهد : نزلت الآية في حلف الجاهلية، ثم ضرب الله مثلا لنقض العهد فقال :﴿ ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة ﴾.
﴿ ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة ﴾، متعلق بنقضت، أي : نقضت غزلها من بعد إبرامه وإحكامه فجعلته ﴿ أنكاثا ﴾، جمع نكث، وهو ما ينكث قتله، أخرج ابن أبي حاتم عن أبي بكر ابن أبي حفص قال : كانت سعيدة الأسدية، مجنونة تجمع الشعر والليف فنزلت هذه الآية، وقال البغوي : قال الكلبي ومقاتل : هي امرأة خرقاء حمقاء من قريش، يقال لها : ربطة بنت عمر بن سعد بن كعب بن زيد بن مناة بن تميم، وتلقب بجعر، وكانت بها وسوسة، فكانت اتخذت مغزلا بقدر ذراع أو صنارة مثل الأصبع، وفلكة عظيم على قدرها، وكانت تغزل الغزل من الصوف والوبر والشعر، وتأمر جواريها بذلك، فكن يغزلن من الغداة إلى نصف النهار، فإذا انتصف النهار تنقض جميع ما غزلن، فهذا كان دأبها، ومعنى الآية : لا تكونوا كما كانت، أنها لم تكف عن العمل وبعدما عملت لم تكف عن النقض، فأنتم إما أن لا تعهدوا، وإما ألا توفوا إذا عاهدتم، ولا تكونوا إن تعاهدوا كل مرة فتنقضوا العهود كلما عاهدتم، ﴿ تتخذون أيمانكم دخلا بينكم، حال من الضمير في لا تكونوا، أو في الجار والمجرور الواقع موقع الخبر، أي : لا تكونوا مشبهين بامرأة هذا شأنها، متخذي إيمانكم مفسدة ودغلا وخديعة وخيانة بينكم، وأصل الدخل، ما يدخل في الشيء ولم يكن منه لأجل الفساد، وقيل : الدخل والدغل، أن يظهر الوفاء ويبطن النقض، { أن تكون ﴾، أي : لأن تكون ﴿ أمة ﴾، أي : جماعة، ﴿ هي أربى ﴾، يعني : هي أكثر عددا وأوفر مالا، ﴿ من أمة ﴾ أخرى، قال مجاهد : وذلك أنهم كانوا يحالفون الحلفاء، وإذا رأوا قوما أكثر منهم وأعز نقضوا حلف هؤلاء وحالفوا أعدائهم الأكثرين، فمعناه : طلبتم العز بنقض العهد من الضعفاء والعهد من الأقوياء، ولا ينبغي ذلك، أو المعنى : تتخذون أيمانكم دخلا بينكم، تكون أمة أنتم فيه، ﴿ أربى من أمة ﴾، عاهدتم منهم فما باليتم بنقض العهد، كما أن قريشا عاهدوا المؤمنين عام الحديبية على وضع الحرب بينهم عشر سنين، ثم نقضوا العهد بعد سنتين لما رأوا جماعة قريش أزيد عددا وأوفر مالا من جماعة المؤمنين، هي أربا، مبتدأ، أو خبر في موضع الرفع صفة لأمة، وأمة فاعل تكون، وهي تامة وهي ليست بفصل لوقوعها بين نكرتين. ﴿ إنما يبلوكم الله به ﴾، الضمير لأن تكون أمة، يعني : يختبركم الله بكون أمة أربى من أمة، فينظر هل تمسكون بحبل الوفاء بعهد الله وبيعة رسوله، أم تنقضون بكثرة قريش وشوكتهم وقلة المؤمنين وضعفهم، وقيل : الضمير للربو، والمعنى قريب مما ذكر، قيل : للأمر بالوفاء، يعني : يختبركم الله بأمره بالوفاء بالعهد، ﴿ وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون٩٢ ﴾، في الدنيا إذا جازاكم على أعمالكم، فيظهر الذين وفوا عهودهم بالثواب، والذين نقضوا أيمانهم بالعذاب.
﴿ ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ﴾، متفقة على الإسلام، موفون العهود، غير مختلفين. ﴿ ولكن يضل من يشاء ﴾، بالخذلان، ﴿ ويهدي من يشاء ﴾، بالتوفيق. ﴿ ولتسئلن عما كنتم تعملون٩٣ ﴾، سؤال تبكيت ومجازاة
﴿ ولا تتخذوا أيمانكم دخلا ﴾، خديعة وفسادا. ﴿ بينكم ﴾، فتغرون به الناس ؛ حيث يعتمدوا على أيمانكم ويأمنون ثم تنقضونها، تصريح بالنهي عنه بعد التضمين تأكيدا ومبالغة في قبح المنهى. ﴿ فتزل قدم بعد ثبوتها ﴾، يعني : فتهلكوا بعدما كنتم آمنين، والعرب تقول لكل مبتلى بعد عافية أو ساقط في ورطة بعد سلامة زلت قدمه، أو المعنى : فتزل قدم عن الصراط المستقيم ومحجة الإسلام بعد ثبوتها، وذلك أن بيعة النبي صلى الله عليه وسلم كان محجة الإسلام والوفاء به والاستقامة عليه، ونقضه زلة القدم، والمراد : فتزل أقدامكم بعد ثبوتها، لكن وحد ونكر ؛ للدلالة على استعظام مزلة قدم واحد عن طريق الحق مع الثبوت عليها، فكيف بأقدام كثيرة ؟ ﴿ وتذوقوا السوء ﴾، في الدنيا. ﴿ بما صددتم ﴾، أي : بصددكم، ﴿ عن سبيل الله ﴾، وخروجكم عن الدين، أو بصدكم غيركم ؛ لأنهم لو نقضوا أيمان البيعة وارتدوا، لجعلوا نقضها سنة لغيرهم يستنون بها، أو المعنى : بما سهلتم طريق نقض العهد على الناس بنقضكم العهد ؛ فلا يعتمد أحد على عهدكم قط، ويغركم غيركم بالعهود، فيصيبكم مصيبة في الدنيا. ﴿ ولكم ﴾، في الآخرة، ﴿ عذاب عظيم ﴾، بنقض العهود ونكث الأيمان.
﴿ ولا تشتروا بعهد الله ﴾، أي : لا تستبدلوا بعهد الله وبيعة رسوله ﴿ ثمنا قليلا ﴾، تطلبون بنقض العهود والبيعة والأيمان نيلا من الدنيا. ﴿ إنما عند الله ﴾ على الوفاء بالعهود من النصر والنعيم في الدنيا والثواب في الآخرة، ﴿ هو خير لكم ﴾ مما تطلبون ﴿ إن كنتم تعلمون ﴾ فضل ما بين العوضين، أو المعنى : إن كنتم من أهل العلم والتميز ما اخترتم الأدنى على الأعلى.
﴿ ما عندكم ﴾ من الدنيا ﴿ ينفذ ﴾، أي : ينقضي وينفى، ﴿ وما عند الله ﴾ من خزائن رحمته، ﴿ باق ﴾ لا ينفد، وهو تعليل للحكم السابق عن أبي موسى الأشعري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( من أحب دنياه أضر بآخرته، ومن أحب آخرته أضر بدنياه، فآثروا ما يبقى على ما ينفى ) رواه أحمد بسند صحيح والحاكم. ﴿ ولنجزين ﴾، قرأ ابن كثير وأبو جعفر وعاصم بالنون على التكلم، والباقون بالياء التحتانية على الغيبة، والضمير راجع إلى الله تعالى، ﴿ الذين صبروا ﴾ على مصائب الدنيا، من المرض والفقر وأذى الكفار ومشاق التكليف وللاستقامة في الجهاد، ﴿ أجرهم ﴾، أي : يعطيهم ثواب صبرهم ﴿ بأحسن ما كانوا يعملون ﴾، أي : بأحسن أجور أعمالهم، يضاعف الحسنات إلى عشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، إلى ما شاء الله. وقيل : المراد ﴿ بأحسن ما كانوا يعملون ﴾ : الواجبات والمندوبات ؛ فإنها أحسن من المباحات والممنوعات.
﴿ من عمل صالحا من ذكر أو أنثى ﴾، بينه بالنوعين لدفع توهم التخصيص،
﴿ وهو مؤمن ﴾، إذ لا اعتداد بأعمال الكفار في استحقاق الثواب، وإنما المتوقع عليها تخفيف العذاب ؛ لأن مبنى الثواب عند الله إلا خلاص وحسن النية وذا مفقود لهم.
﴿ فلنحيينه ﴾ في الدنيا
﴿ حياة طيبة ﴾، قال سعيد بن جبير وعطاء : هي الرزق الحلال، وقال الحسن : هي القناعة، وقال مقاتل ابن حبان : هي العيش في الطاعة، وقال أبو بكر الوراق : هي حلاوة الطاعة، وقال البيضاوي : يعيش عيشا طيبا ؛ فإنه إن كان موسرا فظاهر، وإن كان معسرا يطيب عيشه بالقناعة والرضاء بالقسمة وتوقع الأجر العظيم في الآخرة، بخلاف الكافر، فإنه إن كان معسرا فظاهر، وإن كان موسرا لم يدع الحرص وخوف الفوات أن يتهنأ بعيشه، قلت : ذلك هو المعنى من قوله تعالى :
﴿ فإن له معيشة ضنكا ﴾.
قلت : والأولى أن يقال : إن العبد إذا أحب الله تعالى، فكل ما وصل إليه من المحبوب من حلاوة أو مرارة يلتذ به، قال المجدد : إيلام المحبوب ألذ للمحب من إنعامه، فإن المراد بالإنعام كائن على مراده، وفي الإيلام كائن على مراد المحبوب، ومراد المحبوب أحب عنده من مراد نفسه، قال الفاضل الرومي قدس سره :
عاشقم بر لطف وبر قهرت بجد | أي عجب من عاشقم بر برو ضد |
ناخوش أزوى خوش بودور جان من | جار فدائي ياردل رنجان من |
قلت : أو يقال قد قال : الله تعالى في أوليائه :
﴿ لهم البشرى في الحياة الدنيا ﴾، وقد مر تفسيره في سورة يونس عليه السلام، فالمؤمن إذا بشر برضاء الله تعالى وعلو مقامه عنده، ورفع درجاته لديه حصل له في الدنيا أفضل ما يرجوه في الجنة، حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إن الله تعالى يقول لأهل الجنة هل رضيتم ؟ فيقولون ما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من الخلق، فقال : أما أعطيتكم أفضل من ذلك ؟ فيقول : أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبدا ) متفق عليه من حديث أبي سعيد، وعند الطبراني في الوسط بسند صحيح عن جابر نحوه، ومن ههنا قال بعض الكبراء كتاب أبيات وترجمتها، كان شيخي وسندي الشيخ محمد عابد المجددي يقول : لو علم الملوك والأمراء من أهل الدنيا ما للفقراء من اللذة والراحة لحسدوهم وأغبطوهم، لا يقال هذه الحالة ينافي الخوف، والخوف والرجاء في الدنيا من لوازم الإيمان، لأنا نقول هذه الحالة المترتبة على الإنس والمحبة لا ينافي في الخوف، فإن الخوف مبني على رؤية عظمة الله تعالى وكبريائه، وهو لا ينفك عن المؤمن في شيء من الأحوال، بل الأنبياء الذين هم قاطعون بحسن الخاتمة ورضوان الله تعالى يرون عظمة الله وكبريائه فوق ما يراه غيرهم، ويخافونه فوق ما يخافونه غيرهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إن أعلمكم وأتقاكم بالله أنا )، والصحابة الذين كانوا مبشرين بالجنة بالوحي القاطع حيث قال الله تعالى :
﴿ لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة ﴾، ونحو ذلك كانوا يخافون الله تعالى كمال الخوف، فما بال قوم بشروا برضوان الله بالكشف الظني والله أعلم، قلت : وجاز أن يكون المراد بالحياة الطيبة حياة يثمر البركات، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، من إن أصابته سراء شكر، فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرا له ) رواه أحمد ومسلم في الصحيح عن صهيب وأحمد وابن حبان، في الصحيح نحوه عن أنس والبيهقي بسند صحيح نحوه عن سعد، وقال مجاهد وقتادة : المراد بالحياة الطيبة : الحياة في الجنة، ورواه عوف عن الحسن، وقال : لا يطيب الحياة لأحد إلا في الجنة، والظاهر هو المعنى الأول.
﴿ ولنجزينهم ﴾، في الآخرة،
﴿ أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ﴾.
﴿ فإذا قرأت القرآن ﴾، يعني : إذا أردت قراءة القرآن ﴿ فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم ﴾، كيلا يوسوس في القراءة ولا يلقى في الأمنية، فإن شأنه أنه ما أرسل الله ﴿ من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته ﴾، عبر عن إرادة الفعل بالفعل المسبب عنها للإيجاز والتنبيه على أن من أراد العبادة فليبادر إليها بحيث لا ينفك الإرادة عن الفعل، وحكى عن النخعي وابن سيرين أن يتعوذ بعد القراءة نظرا إلى ظاهر هذه الآية ؛ ولأن الدعاء بعد العبادة أقرب إلى الإجابة والتعوذ من الشيطان مطلوب دائما، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يصلي قبل القراءة، وعليه انعقد الإجماع من السلف والخلف، لكنه سنة عند جمهور العلماء، وذهب عطاء على كونه واجبا قبل القراءة احتجاجا بهذه الآية، فإن حقيقة الأمر للوجوب، وكونه لدفع الوسوسة في القراءة لا يصلح صارفا عنه، بل يصح شرع الوجوب معه، فلا بد من حمله على الوجوب، قال ابن الهمام : والله أعلم بالصارف عن الوجوب على قول الجمهور، قلت : الصارف عنه أنهم رأوا والنبي صلى الله عليه وسلم ترك التعوذ قبل القراءة في بعض الأحيان، ولولا ذلك لما أجمعوا على جواز ترك ما لم يتركه النبي صلى الله عليه وسلم قط، وقد روي في كثير من الأحاديث قراءته صلى الله عليه وسلم من غير ذكر التعوذ. في الصحيحين عن ابن عباس :( أنه صلى الله عليه وسلم قعد الثلث الأخير من الليل فنظر إلى السماء فقال :﴿ إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب١٩٠ ﴾، العشر الأواخر من آل عمران حتى ختمها، ثم قام فتوضأ، الحديث ). وروى مسلم عن أنس قال :( بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم بين أظهرنا، إذ أغفى إغفاءة، ثم رفع رأسه مبتسما فقلنا : ما أضحكك يا رسول الله ؟ قال : أنزلت علي آنفا سورة فقرأ : بسم الله الرحمن الرحيم إنا أعطيناك الكوثر، فصل لربك وأنحر، إن شانئك هو الأبتر ) الحديث.
مسألة : اختلفوا في التعوذ قبل القراءة في الصلاة ؟ فقال أبو حنيفة وأحمد يتعوذ في أول ركعة، وقال الشافعي : في كل ركعة، قال الشيخ ابن حجر : استحب التعوذ في كل ركعة الحسن وعطاء وابن سيرين، وقال مالك : لا يتعوذ في المكتوبة، قال البيضاوي : حجة الشافعي : أن الحكم المرتب على شرط يتكرر بتكرره قياسا، فالآية دليل على أن المصلي يستعيذ في كل ركعة، واحتج مالك بحديث أنس قال :( كنا نصلي خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان، وكانوا يستفتحون بأم القرآن فيما يجهر به. ) وفي لفظ أخرج في الصحيحين :( كانوا يفتتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين )، قلنا : هذا الحديث لا ينافي التعوذ سرا. ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ بعد الثناء في الركعة الأولى، ولم يرو عنه صلى الله عليه وسلم التعوذ في ركعة غير الأولى، وروى ابن ماجه وابن السني عن جبير بن مطعم قال :( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل في الصلاة قال : الله أكبر كبيرا، ثلاثا، والحمد لله كثيرا، ثلاثا، وسبحان الله بكرة وأصيلا، ثلاثا، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ). وروى أحمد وابن حبان وأبو داود عنه : من نفخه ونفثه وهمزه، وروى الحاكم نحوه، وروى أحمد وأهل السنن والحاكم عن أبي سعيد الخذري قال :( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام للصلاة بالليل كبر ثم يقول :" سبحانك اللهم بحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك، ثم يقول : لا إله إلا الله "، ثلاثا، ثم يقول :" الله أكبر "، ثلاثا، ثم يقول :" أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من نفخه ونفثه وهمزه ). وروى أحمد من حديث أبي أمامة نحوه، وفيه :( أعوذ بالله من الشيطان الرجيم )، وفي إسناده من لم يسم، وروى ابن ماجه وابن خزيمة من حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول :( اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه )، ورواه الحاكم والبيهقي بلفظ :" كان إذا دخل في الصلاة "، وعن أنس ونحوه، رواه الدارقطني، وفيه الحسين بن علي بن الأسود، وفيه مقال، وفي مراسيل أبي داود عن الحسن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. فائدة : قال صاحب الهداية : الأولى أن يقول : أستعيذ بالله ؛ ليوافق القرآن، ويقرب منه أعوذ بالله، قلت : لكن المستعمل عند الحذاق من أهل الأداء والفقهاء في لفظها : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، دون غيره ؛ لما ذكرنا من الأحاديث، وأخرج الثعلبي والواحدي عن ابن مسعود قال : قرأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت : أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، قال :( قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، هكذا أقرانيه جبرئيل عن القلم عن اللوح المحفوظ ). قال أبو عمرو الداني في التيسير : بهذا اللفظ بعينه قرأت، وبه آخذ، ولا أعلم خلافا بين أهل الأداء في الجهر بها عند افتتاح القرآن، يعني : خارج الصلاة، وعند الابتداء برؤوس الأجزاء وغيرها في مذهب الجماعة، إتباعا بالنص واقتداء بالسنة، وكذلك الرواية عن أبي عمرو، يعني : ابن العلاء، وروي عن حمزة أنه كان يجهر بها في أم القرآن خاصة، ويخفيها بعد ذلك في سائر القرآن، كذا قال خلف عنه، وقال خلاد عنه، أنه كان يخير الجهر والإخفاء جميعا، والباقون لم يأت عنهم في ذلك شيء منصوص.
﴿ إنه ﴾، أي : الشأن، ﴿ ليس له ﴾، أي : للشيطان، ﴿ سلطان ﴾، أي : تسلط واستيلاء، ﴿ على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون ﴾، فإنهم لا يطيعون أوامره بحفظ الله تعالى، ولا يقبلون وسواسه، إلا فيما يحتقرون على ندورو غفلة، ولذلك أمروا بالاستعاذة، فذكر السلطنة بعد الأمر بالاستعاذة ؛ لئلا يتوهم منه أن له سلطانا، كذا قال البيضاوي، قلت : وجاز أن يكون هذه الآية في مقام التعليل للأمر بالاستعاذة ؛ لأن معنى قوله :﴿ وعلى ربهم يتوكلون٩٩ ﴾، إنهم يلتجؤن إلى الله تعالى، ويحرزون أنفسهم بعزة الله تعالى من تسلط الشيطان، إذ لا حول ولا قوة إلا به تعالى، وذلك معنى الاستعاذة، فالاستعاذة : وهو الالتجاء إلى الله تعالى، والاعتماد عليه، من صفات قلوب المؤمنين المخلصين لا ينفك عنهم، لكنهم أمروا بالاستعاذة باللسان أيضا حتى يتأدى سنة الدعاء، ويطابق الباطن الظاهر في التضرع والابتهال، فيحصل الأمان من الشيطان على وجه الكمال.
﴿ إنما سلطانه على الذين يتولونه ﴾، أي : يحبونه ويطيعونه، فيجعلونه مسلطا على أنفسهم باختيارهم، من غير أن يكون له عليهم سلطان يضطرهم إلى اتباعه، فلا منافاة بين هذا وبين قوله :﴿ إلى الصراط العزيز الحميد ﴾، والله أعلم. ﴿ والذين هم به ﴾، أي : بالله تعالى، أو بسبب الشيطان، ﴿ مشركون ﴾.
﴿ وإذا بدلنا آية مكان آية ﴾، يعني : نسخنا تلاوة آية وأنزلنا مكانها أخرى، أو نسخنا حكم آية بحكم آية أخرى.
﴿ والله أعلم بما ينزل ﴾، أنه كان مصلحة ثم صار مفسدة، أو كان مفسدة ثم صار مصلحة، والجملة حال من فاعل بدلنا، واسم الله على ظاهر موضع المضمر، واستئناف لفظا، لكنه في مقام التعليل سببا للتبديل، يعني : بدلنا ؛ لأني أعلم بما هو أصلح للخلق في وقت دون وقت. قرأ أبو عمرو وابن كثير :" ينزل " بالتخفيف، من الأفعال، والباقون : بالتشديد، من التفعيل.
﴿ قالوا ﴾، يعني : الكفار،
﴿ إنما أنت ﴾ يا محمد
﴿ مفتر ﴾، أي : متقول على الله. قال البغوي : قالت المشركون : إن محمدا يسخر بأصحابه، بأمرهم اليوم بأمر وينهاهم عنه غدا، ما هو إلا مفتر يتقوله من تلقاء نفسه، وجملة " قالوا " جواب إذا.
﴿ بل أكثرهم لا يعلمون ﴾ حكمة الأحكام، ولا يميزون الخطأ والصواب، أو المعنى : أكثرهم ليسوا من أهل العلم والتميز، ولو كانوا أهل التميز لعرفوا أن القرآن ليس مما يمكن أن يقوله بشر، ومحمد صلى الله عليه وسلم أمين لا يصح أن يتهم بالافتراء :
تبارك الله ما وحي بمكتسب | ولا نبي على غيب بمتهم |
﴿ قل ﴾ يا محمد ردا لما قالوا :﴿ نزله روح القدس ﴾، يعني : جبرئيل، وإضافة الروح إلى القدس : وهو الطهر، بمعنى : الطاهر، كقولهم : حاتم الجود، قرأ ابن كثير : القدس، بسكون الدال، والباقون : بضمها، وفي ينزل ونزله تنبيه على أن إنزاله مدرجا على حسب المصالح مما يقتضي التبديل. ﴿ من ربك بالحق ﴾، أي : متلبسا بالحكمة البالغة. ﴿ ليثبت الذين آمنوا ﴾ على الإيمان بأنه كلام الله ؛ فإنهم إذا سمعوا الناسخ وتدبروا ما فيه من رعاية الصلاح والحكمة رسخت عقائدهم واطمأنت قلوبهم، أو المعنى : ليبلوهم بالنسخ حتى إذا قالوا هو الحق من ربنا وهو الحكمة ؛ لأن الحكيم لا يفعل إلا ما هو الحكمة، حكم لهم بثبات القدم. ﴿ وهدى وبشرى للمسلمين ﴾ المنقادين لحكمه، وهما معطوفان على محل " ليثبت "، أي : تثبيتا وهداية وبشارة، وفيه تعريض بحصول الأضداد لغيرهم.
﴿ ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر ﴾، آدمي وما هو من عند الله. قال البغوي : اختلفوا في هذا البشر، قال ابن عباس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم قينا بمكة اسمه بلعام، وكان نصرانيا أعجمي اللسان، وكان المشركون يرون رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل عليه ويخرج، فكانوا يقولون : إنما يعلمه بلعام، كذا أخرج ابن جرير في مسنده بسند ضعيف عنه، وقال عكرمة : كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرئ غلاما لبني المغيرة، يقال له : يعيش، وكان يقرأ الكتب، فقالت قريش إنما يعلمه يعيش، وقال الفراء : قال المشركون إنما يتعلم من عائيش مملوك كان لحويطب بن عبد العزى، وكان قد أسلم وحسن إسلامه وكان أعجمي اللسان، وقال ابن إسحاق : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغني كثيرا ما يجلس عند المروة إلى غلام رومي نصراني عبد لبعض بني الحضرمي، يقال له : جبر، وكان يقرأ الكتب، وقال عبد الله بن مسلم الحضرمي : كان لنا عبدان من أهل عين باليمن، يقال لأحدهما : يسار، ويكني : أبا فكيهة، وجبر، وكانا يصنعان السيوف بمكة، وكانا يقرآن التوراة والإنجيل، فربما مر بهما النبي صلى الله عليه وسلم وهما يقرآن فيقف ويسمع، كذا أخرج ابن أبي حاتم من طريق حصين بن عبد الله ابن مسلم، قال الضحاك : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أذاه الكفار يقعد إليهما فيستروح بكلامهما، فقال المشركون : إنما يتعلم محمد منهما، فنزلت هذه الآية، وقال الله تعالى تكذيبا لهم :﴿ لسان ﴾، أي : لغة الرجل ﴿ الذي يلحدون إليه ﴾، قرأ حمزة والكسائي بفتح الياء والحاء من المجرد، والباقون بضم الياء وكسر الحاء من الأفعال، قال في القاموس : لحد إليه، مال إليه، كالتحد وألحد، مال وعدل، يعني : يميلون إليه، أي : يشيرون إليه، أو المعنى : يميلون قولهم عن الصدق والاستقامة إليه. ﴿ أعجمي ﴾، غير فصيح بالعربية، قال في القاموس : رجل وقوم أعجم، والأعجم من لا يفصح كالأعجمي والأخرس، والعجمي من جنسه العجم وإن أفصح، والعجم خلاف العرب، وقال بعض المحققين : العجمة خلاف الإبانة، والإعجام الإبهام، يقال : استعجمت الدار إذا مات أهلها ولم يبق فيها عريب، أي : من يبين جوابا. ﴿ وهذا ﴾، أي : القرآن، ﴿ لسان ﴾، لغة، ﴿ عربي مبين ﴾، فصيح ذو بيان واضح، والجملتان مستأنفتان لأبطال طعنهم، لا محل لهما من الإعراب، تقديره من وجهين : أحدهما : أن ما يسمع محمد صلى الله عليه وسلم منه كلام أعجمي لا يفهمه هو ولا أنتم، والقرآن عربي يفهمونه، فكيف يكون هذا ذاك ! وثانيهما : أن معنى القرآن كما هو معجز، فلفظه أيضا معجز ؛ فالقرآن وإن كان مطابقا لما كان الرجل الأعجمي يقرأه من التوراة والإنجيل في المعنى، لكن تعبير تلك المعاني المنزلة في الكتب بعبارة مثل عبارة القرآن ليس في وسع البشر لما ظهر عجزهم بالتحدي بقوله :﴿ فأتوا بسورة من مثله ﴾، على أن تعلم العلوم الكثيرة المطوية في الكتب السماوية لا يتصور إلا بملازمة معلم فائق في تلك العلوم مدة متطاولة، فكيف يتصور تعلم جميع ذلك من رجل سمع منه في بعض أوقات مروره عليه بلسان أعجمي لا يفهم معناه.
﴿ إن الذين لا يؤمنون بآيات الله ﴾، لا يصدقون إنها من عند الله. ﴿ لا يهديهم الله ﴾، لا يرشدهم إلى الحق أو إلى سبيل النجاة أو إلى الجنة، ﴿ ولهم عذاب أليم ﴾ في الآخرة، ثم رد أمر الافتراء على الكفار، بعدما رد طعنهم وشبهتهم بأحسن الوجوه، فقال :﴿ إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله ﴾.
﴿ إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله ﴾ ؛ لأنهم لا يخافون عقابا حتى يردعهم عنه بخلاف المؤمنين. ﴿ وأولئك ﴾، إشارة إلى الكفار أو إلى قريش، ﴿ هم الكاذبون ﴾، أي : الكاذبون على الحقيقة لا غيرهم، فإن المؤمنين حينئذ كلهم كانوا صدوقا عادلين خير القرون، أو الكاملون في الكذب ؛ لأن تكذيب آيات الله تعالى ورسوله المعصوم والطعن فيهما بهذه الخرافات بعدما ظهر أمره بالمعجزات أعظم الكذب، أو الذين عادتهم الكذب لا يصرفهم عنه دين ولا مرؤة، أو الكاذبون في قولهم : إنما أنت مفتر، إنما يعلمه بشر، الجملة الفعلية تدل على انحصار صدور الافتراء عليهم والإسمية على كونها وصفا لازما لهم، روى البغوي بسنده عن عبد الله بن حراد قال : قلت : يا رسول الله " المؤمن يزني ؟ قال : قد يكون ذلك، قلت : المؤمن يسرق ؟ قال : قد يكون ذلك، قلت : المؤمن يكذب ؟ قال :( لا، قال الله :﴿ إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله ﴾ )، وروى أحمد عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( يطبع المؤمن على الخلال كلها إلا الخيانة والكذب ) ورواه البيهقي في شعب الإيمان عن سعد بن أبي وقاص، وروى مالك واليهقي في شعب الإيمان مرسلا أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أيكون المؤمن جبانا ؟ قال : نعم، فقيل له : أيكون المؤمن بخيلا ؟ قال : نعم، فقيل له أيكون المؤمن كذابا ؟ قال : لا. قلت : الظاهر إن المراد بالمؤمن المذكور في الأحاديث، الموجودون في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ولأجل ذلك انعقد الإجماع على كون الصحابة كلهم صدوقا عدولا لا يطعن في حديث أحد منهم، أو المراد به : المؤمن الكامل، وهو الصوفي الفاني الباقي.
﴿ من كفر بالله من بعد إيمانه ﴾، مبتدأ تضمن معنى الشرط، وخبره المتضمن للجواب محذوف، وهو فعليهم غضب من الله ولهم عذاب أليم، دل عليه جواب من شرح، وجاز أن يكون بدلا من :
﴿ إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله ﴾، ويكون :
﴿ وأولئك هم الكاذبون ﴾، اعتراضا بين البدل والمبدل منه، يعني : إنما يفتري من كفر إلا من أكره، وجاز أن يكون بدلا من المبتدأ الذي هو أولئك، أو من الخبر وهو الكاذبون، يعني : من كفر بالله هم الكاذبون، أو أولئك هم من كفر بالله، وجاز أن يكون منصوبا على الذم.
﴿ إلا من كره ﴾، قال البغوي : قال ابن عباس : نزلت هذه الآية في عمار بن ياسر : وذلك أن المشركين أخذوه وأباه وأمه سمية وصهيبا وبلالا وخبيبا وسالما وعذبوهم، فأما سمية فإنها ربطت بين بعيرين، ووجئت قبلها بحربة فقتلت، وقتل زوجها ياسر، وهما أول قتيلين في الإسلام عليهما السلام، وأما عمار فإنه أعطاهم ما أرادوا بلسانه مكرها على ذلك، وقال قتادة : أخذ بنوا المغيرة عمارا وغطوه في بئر ميمون، وقالوا له : اكفر بمحمد، فتابعهم على ذلك وقلبه كاره، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن عمارا كفر فقال : كلا إن عمارا ملئ إيمانا من قرنه إلى قدمه، واختلط الإيمان بلحمه ودمه. فأتى عمار رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبكي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما وراءك ؟ قال : شر يا رسول الله، نلت منك وذكرت قال : كيف وجدت قلبك ؟ قال : مطمئنا بالإيمان، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يمسح عينيه وقال : إن عادوا لك فعد لهم بما قلت، فنزلت هذه الآية. وكذا أخرج الثعلبي والواحدي وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يهاجر إلى المدينة، أخذ المشركون بلالا وخبيبا وعمار بن ياسر، فأما عمار فقال لهم كلمة أعجبتهم تقية، فلما رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثه فقال : كيف كان قلبك حين قلت، أكان منشرحا بالذي قلت ؟ قال : لا، فأنزل الله هذه الآية. وذكر البغوي وكذا أخرج ابن أبي حاتم أنه قال مجاهد : نزلت في ناس من أهل مكة آمنوا، فكتب إليهم بعض أصحاب رسول الله أن هاجروا، فإنا لا نراكم منا حتى تهاجروا إلينا، فخرجوا يريدون المدينة فأدركتهم قريش في الطريق، ففتنوهم فكفروا كارهين، وقال البغوي : قال مقاتل : نزلت في جبر مولى عامر بن الحضرمي أكرهه سيده على الكفر فكفر مكرها
﴿ وقلبه مطمئن بالإيمان ﴾.
﴿ وقلبه مطمئن بالإيمان ﴾، أي : ساكن به لم يتغير عقيدته، وفيه دليل على أن الركن اللازم للإيمان هو التصديق بالقلب، قال البغوي : ثم أسلم مولى جبر وحسن إسلامه، وهاجر جبر مع سيده.
﴿ ولكن من شرح بالكفر صدرا ﴾، أي : شرح وفتح صدره للكفر بالقبول، وطاب نفسه واختاره.
﴿ فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم ﴾.
اعلم على أن الإكراه عبارة عن حمل الغير على فعل يكرهه، وذلك على نوعين : أحدهما : ما ينتفي به رضاه ولا يفسد اختياره، كالإكراه بالضرب أو الحبس. ثانيهما : ما يكون ملجئا يفسد اختياره بالإكراه بالقتل، أو قطع العضو، ويشترط في كلا القسمين من الإكراه : قدرة المكره على ما يهدد به، وأن يغلب على ظن المكره على ما يهدد به، وأن يغلب على ظن المكره أنه يفعل به، فالقسم الأول من الإكراه غير مراد بالآية، وغير مؤثر أصلا إلا في البيع والشراء والإجارة والاستئجار والإقرار ونحو ذلك، فمن أكره على بيع ماله، أو شراء سلعة، أو على أن يقر لرجل بألف، أو يآجر داره، أو يستأجر، فالمكره بالخيار إن شاء أمضى العقد بعد زوال الإكراه، وإن شاء فسخه ؛ لأن هذه العقود تحتمل الفسخ، واشترط لصحتها التراضي بقوله تعالى :
﴿ بالباطل أن تكون تجارة عن تراض منكم ﴾، وقد فات الرضاء بالإكراه، فإن شاء أجاز، وإن شاء فسخ، فإن قبض الثمن طوعا فقد أجاز البيع، والمراد بالآية هو القسم الثاني، فقد أجمع العلماء على أنه من أكره على الكفر إكراها ملجئا، يجوز له أن يتلفظ بما أكره عليه مطمئنا قلبه بالإيمان بهذه الآية وقصة عمار، فلا يكفر بالتلفظ من غير اعتقاد، ولم تبن منه امرأته، وإن أبى أن يقول كان أفضل لقصته أبوي عمار وقد مر، وقصة خبيب وزيد بن الدثنة وعبد الله بن طارق، إنهم اختاروا القتل على الارتداد، ذكر أصحاب السير في سرية الرجيع أن خبيبا حين قتل صلى ركعتين. وروى البخاري عن أبي هريرة :( أنه أول من سن الركعتين عند القتل، انتهى. ) فلما صلى الركعتين جعلوه على الخشبة، ثم وجهوه إلى المدينة وأوثقوه رباطا، ثم قالوا : ارجع عن الإسلام نخل سبيلك، قال والله ما أحب أني رجعت عن الإسلام وإن لي ما في الأرض جميعا، قالوا : أفتحب أن محمدا مكانك وإنك جالس في بيتك ؟ قال : لا والله ما أحب أن يشاك محمد صلى الله عليه وسلم شوكة وأنا جالس في بيتي، فجعلوا يقولون : ارجع خبيب، فقال لا أرجع أبدا، قالوا : لئن لم ترجع لقتلناك، قال : إن قتلي في الله لقليل. روى البخاري عن أبي هريرة :( أن خبيبا حين قتل قال أبياتا منها قوله :
فلست أبالي حين أقتل مسلما | على أي شق كان في الله مصرعي |
وذلك في ذات الإله وإن يشاء | يبارك في أوصال شلو ممزع |
ذكر ابن عقبة أن زيدا وخبيبا قتل في يوم واحد، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع يوم قتلا وهو يقول : وعليكما السلام. وأخرج ابن أبي سيبة عن الحسن مرسلا، وعبد الرزاق في تفسيره عن معمر مفصلا، أن مسيلمة أخد رجلين فقال لواحد : ما تقول في محمد ؟ فقال : رسول الله، فقال : ما تقول في ؟ فقال : أنت أيضا. وقال للآخر ما تقول في محمد ؟ فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال : ما تقول في ؟ قال : أنا أصم، فأعاد إليه ثلاثا، فأعاد جوابه، فقتله، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :( أما الأول فقد أخد برخصة الله، وأما الثاني فقد صدع بالحق، فهنيئا له ).
مسألة : ومن أكره على إتلاف مال مسلم وسعه أن يفعل ذلك ؛ لأن مال الغير يستباح للضرورة كما في حالة المخمصة، وقد تحققت، ولصاحب المال أن يضمن المكره بالكسر ؛ لأن المكره بفتح آلة له فيما يصلح آلة له، والإتلاف من هذا القبيل.
مسألة : وإن أكره على قتل غيره لم يسعه أن يقدم عليه، ويجب أن يصبر حتى يقتل، فإن قتله كان آثما ؛ لأن قتل المسلم لا يستباح لضرورة ما، فكذا لهذا الضرورة. واختلف العلماء في القصاص : هل هو على المكره أو المكره ؟ ولا يسع المقام في الكلام فيه.
مسألة : وإن أكره على أن يأكل الميتة أو يشرب الخمر جاز له أن يقدم على ما أكره عليه إجماعا، واختلفوا أنه إن صبر ولم يأكل حتى قتل هل يجوز له ذلك أم لا ؟ فقال أبو حنيفة يجب عليه أكله، ولا يسعه أن يصبر، كما لو أكره على أكل شيء مباح، يجب عليه أكله، فإن صبر وقتل أثم ؛ لأنه صار معاونا للمكره في إتلاف نفسه بلا ضرورة. وعن أبي يوسف أنه لا يأثم، وهو أصح قولي الشافعي ؛ لأنه رخصة لا إباحة ؛ لأن الحرمة قائمة، فيكون آخذا بالعزيمة. وقال أبو حنيفة : حالة الاضطرار مستثناة بقوله :
﴿ إلا من اضطررتم إليه ﴾، وهو تكلم بالباقي بعد الثنيا فلا محرم، فكان إباحة لا رخصة، فصار الميتة حينئذ مباحا، كالزكية بخلاف أكل مال الغير، فإنه لو صبر ولم يأكل حتى قتل كان مأجورا إجماعا ؛ لأن الحرمة هناك قائمة، فمن ههنا ظهر أن الإكراه لا يزيل الخطاب حتى يباح مرة ويفترض ويحرم أخرى، فلأجل ذلك قال أبو حنيفة : كل تصرف ينسحب حكمه على التلفظ ولا يتوقف على الرضاء يترتب عليه حكمه إن فعل مكرها، وهي عشرة تصرفات : النكاح والطلاق والرجعة والإيلاء والفيء، والظهار والعتاق والعفو عن القصاص، واليمين والنذر. وبه قال الشعبي والنخعي والثوري، وقال مالك والشافعي وأحمد : لا يرتب الحكم على شيء من تصرفات المكره، محتجين بحديث عائشة، قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :( لا طلاق ولا عتاق في إغلاق )، رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه والحاكم وابن الجوزي وأبو يعلي والبيهقي، من طريق صفية بنت عثمان عن شيبة عنها، صححه الحاكم، وفي إسناده محمد بن عبيد المكي، ضعفه أبو حاتم الرازي، وجه الاحتجاج أنه قال ابن الجوزي : قال قتيبة : الإغلاق : الإكراه على الطلاق والعتاق، وهو من أغلقت الباب، كأن المكره أغلق حتى يفعل. قال الحافظ : وهو قول الخطابي وابن السيد، ويرد عليه أن في تفسير الإغلاق اختلافا، فقد قيل كما ذكر ابن الجوزي، وقيل : الإغلاق : الجنون، فإن المجنون مستور عليه، كأنه أغلق عليه. وقيل : الغضب، وقع ذلك في سنن أبي داود، وكذا فسره ابن أحمد، لكن تفسيره بالغضب غير مرضي، رده ابن السيد وقال : لو كان كذلك لم يقع على أحد طلاق ؛ لأن أحدا لا يطلق حتى يغضب، وبحديث الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم :( إن الله عز وجل غفر لكم عن الخطأ والنسيان وما استكرهتم عليه )، رواه ابن الجوزي، ولا يجوز الاحتجاج بهذا الحديث في هذه المسألة ؛ لأنه لا يدل إلا على مغفرة ما فعله مكرها من المعاصي، ولا يدل على عدم ترتب الأحكام الدنيوية على ما فعله مكرها، وقد يحتج في المسألة بما رواه الطبراني عن ثوبان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه )، وكذا روي من حديث أبي الدرداء، قال الحافظ : في إسنادهما ضعف. وروى ابن ماجة وابن حبان والدارقطني والطبراني والبيهقي، والحاكم في المستدرك من حديث الأوزاعي، فقيل عنه : عن عطاء عن عبيد بن عمير عن ابن عباس، وروى الوليد بن مسلم عن الأوزاعي ولم يذكر عبيد بن عمير، وللوليد إسنادان آخران : روى عن محمد بن المصفى، عنه عن مالك عن نافع عن ابن عمرو عن ابن لهيعة، عن موسى بن داود عن عقبة بن عامر قال ابن أبي حاتم : سألت أبي عنها فقال : هذه الأحاديث منكرة، كأنها موضوعة. وقال عبد الله بن أحمد : سألت أبي عنه فأنكره جدا. ورواه ابن ماجة من حديث أبي ذر، وفيه شهر بن حوشب، وفي الإسناد انقطاع أيضا، فلو صح هذا الحديث، فالجواب عنه : هذا الحديث ليس على ظاهره ؛ إذ لا معنى لرفع الخطأ والنسيان، فإن ما وجد من الأفعال خطأ أو نسيانا فهي واقعة لا محالة، فالمعنى : رفع عن أمتي إثم الخطأ والنسيان، ولا يجوز تقدير الحكم الذي يعم أحكام الدنيا والآخرة ؛ إذ لا عموم للمقتضى، فالمراد إما أحكام الدنيا وإما حكم الآخرة، والإجماع على أن حكم الآخرة، وهو رفع المؤاخدة، مراد، فلا يراد الآخر معه، وإلا عمم، كذا قال ابن همام، واحتج ابن الجوزي أيضا بما روى أن رجلا على عهد عمر بن الخطاب فأقبلت امرأته فجلست على الجبل فقلت : ليطلقها ثلاثا وإلا قطعت الجبل عليه، فذكرها الله والإسلام، فأبت فطلقها ثلاثا، ثم خرج إلى عمر بن الخطاب فذكر ذلك له فقال : ارجع إلى أهلك فليس هذا بطلاق.
واحتج أبو حنيفة بأحاديث منها حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( ثلاث جدهن جد وهزلهن جد : النكاح والطلاق والرجعة. ) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة وأحمد والحاكم والدارقطني، قال الترمذي : حسن، وقال الحاكم : صحيح، قال ابن الجوزي : فيه عطاء بن عجلان متروك الحديث، قال الحافظ ابن حجر : وهم ابن الجوزي حيث قال : هو
﴿ ذلك ﴾، الكفر بعد الإيمان أو الوعيد، ﴿ بأنهم استحبوا ﴾، أي : بسبب أنهم آثروا ﴿ الحياة الدنيا على ﴾ الحياة ﴿ الآخرة وأن الله ﴾، وبسبب أن الله ﴿ لا يهدي القوم الكافرين ﴾، في علمه إلى ما يوجب الثبات على الإيمان، ولا يعصمهم عن الزيغ، ذكر الله سبحانه وتعالى لأجل كفرهم وعذابهم سببين : سبب ظاهري، وهو اختيارهم الكفر وعدم التدبير في الآيات، وسبب حقيقي، وهو عدم إرادة الله تعالى فيهم الهداية ؛ فالآية دليل على أن أفعال العباد بين الجبر والقدر.
﴿ أولئك الذين طبع الله على قلوبهم ﴾، فلا يدركون الحق حقا، ﴿ وسمعهم ﴾، فلا يسمعون الحق سماع قبول، ﴿ وأبصارهم ﴾، فلا يبصرون الآيات نظر الاعتبار، ﴿ وأولئك هم الغافلون ﴾، الكاملون في الغفلة ؛ حيث غفلوا صانعهم، ولم يغفل عنه البهائم والجمادات.
﴿ لا جرم أنهم في الآخرة هم الخاسرون١٠٩ ﴾، حيث ضيعوا أعمارهم وصرفوها فيما أمضى بهم إلى العذاب المخلد، ولم يكتسبوا شيئا ينجيهم من العذاب ويفضي بهم إلى الفلاح، بخلاف عصاة المؤمنين فإنهم وإن ضيعوا أكثر أعمارهم في الشهوات والمعاصي لكنهم تشبثوا بالتوحيد حتى ينجيهم من عذاب الله إلى الجنة.
﴿ ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ﴾، قرأ العامة بضم الفاء وكسر التاء على البناء للمفعول، أي : منعوا من الإسلام وعذبوا، و " ثم " ؛ لتباعد حال هؤلاء عن حال أولئك، أخرج ابن سعد في الطبقات عن عمر بن الحاكم قال : كان عمار بن ياسر يعذب حتى لا يدري ما يقول، وكان صهيب يعذب حتى لا يدري ما يقول، وكان أبو فكيهة يعذب حتى لا يدري ما يقول، وبلال وعامر بن فهيرة وقوم من المسلمين وفيهم نزلت هذه الآية، وقال البغوي : نزلت في عياش بن أبي ربيعة أخي أبي جهل من الرضاعة وفي أبي جندل بن سهيل بن عمرو والوليد بن الوليد بن المغيرة وسلمة بن هاشم وعبيد الله بن أسيد الثقفي فتنهم المشركون، فأعطوهم بعض ما أرادوا ليسلموا من شرهم وهاجروا إلى المدينة، ﴿ ثم جاهدوا ﴾ مع النبي صلى الله عليه وسلم الكفار، ﴿ وصبروا ﴾ على الإيمان والطاعات والجهاد والمشاق وعن المعاصي، وقال الحسن وعكرمة : نزلت الآية في عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وكان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم، فاستزله الشيطان فلحق بالكفار، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله يوم فتح مكة، فاستجار له عثمان وكان أخاه لأمه، فأجاره رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم إنه أسلم وحسن إسلامه فأنزل الله هذه الآية، وقرأ ابن عامر :﴿ الذين هاجروا من بعد ما فتنوا ﴾، بفتح الفاء والتاء على البناء للفاعل، يعني : هاجروا بعدما كفروا أو عذبوا المؤمنين، نزلت في عامر الحضرمي، أكره مولاه جبر أو عذبه حتى ارتد، ثم أسلم عامر وحسن إسلامه، وأسلم جبر حيث كان ارتداده مكرها، وهاجروا جميعا ثم جاهدوا الكفار مع النبي صلى الله عليه وسلم وصبروا. ﴿ إن ربك من بعدها ﴾، أي : بعد الهجرة والجهاد والصبر، ﴿ لغفور ﴾ لما فعلوا قبل ذلك، ﴿ رحيم ﴾ ينعم عليهم في الدنيا والآخرة على ما صنعوا بعد ذلك، خبر " إن " الأولى محذوف دل عليه خبر " إن " الثانية، أو يقال : إن ربك من بعدها، تأكيد لفظي لما سبق.
﴿ يوم تأتي كل نفس ﴾، منصوب ب " رحيم " أو ب " اذكر ". ﴿ تجادل عن نفسها ﴾، يعني : تسعى كل نفس في خلاصها لا يهمها شأن غيرها، فالكافر يقول :﴿ ربنا هؤلاء أضلونا ﴾، ﴿ ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا ﴾، ﴿ والله ربنا ما كنا مشركين ﴾، ﴿ فارجعنا نعمل صالحا ﴾ والمؤمن يقول : رب أسئلك نفسي نفسي، ﴿ ولا تجعلني مع القوم الظالمين ﴾، أخرج ابن جرير في تفسيره عن معاذ قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم من أين يجاء بجهنم يوم القيامة ؟ قال :( يجاء بها من الأرض السابعة، لها ألف زمام، لكل زمام سبعون ألف ملك تسبح، فإذا كانت من العباد مسيرة ألف سنة زفرت زفرة فلا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا جثى على ركبتيه يقول : رب نفسي نفسي ). وقال البغوي، وروي أن عمر بن الخطاب قال لكعب الأحبار : خوفنا، قال : يا أمير المؤمنين والذي نفسي بيده، لو وافيت القيامة بمثل عمل سبيعن نبيا، لأتت عليك تارات وأنت لا يهمك إلا نفسك، وإن لجهنم زفرة لا يبقى ملك مقرب ولا نبي منتخب إلا وقع جاثيا على ركبتيه، حتى إبراهيم خليل الرحمان يقول : يا رب لا أسئلك إلا نفسي، وتصديق ذلك في الذي أنزل الله عليكم :﴿ يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها ﴾، وروى عكرمة عن ابن عباس في هذه الآية قال : ما تزال الخصومة بين الناس يوم القيامة حتى يخاصم الروح الجسد، فيقول الروح : يا رب، لم يكن لي يد أبطش بها، ولا رجل أمشي بها، ولا عين أبصر بها، ويقول الجسد : خلقتني كالخشب، ليس لي يد أبطش بها، ولا رجل أمشي بها، ولا عين أبصر بها، فجاء هذا كشعاع النور، فبه نطق لساني، وأبصرت عيني، ومشت رجلي، قال : فضرب الله لهما مثل أعمى ومقعد دخلا حائطا فيه ثمار، فالأعمى لا يبصر الثمر، والمقعد لا يناله، فحمل الأعمى المقعد فأصابا من الثمر، فعليهما العذاب، أضيف النفس إلى النفس في قوله تعالى :" عن نفسها " ؛ لأنه يقال لعين الشيء وذواته نفسه، ولنقيضه غيره، كأنه قال : يوم تجادل كل أحد عن ذاته، ﴿ وتوفى كل نفس ﴾، أي : كل أحد جزاء، ﴿ ما عملت وهم لا يظلمون ﴾، أي : لا ينقصون أجورهم.
﴿ وضرب الله مثلا قرية ﴾، أي : جعل الله قرية كما وصف مثلا لكل قوم أنعم الله عليهم فأبطرتهم النعمة فكروا فأنزل به نقمته، فيجوز أنه تعالى أراد بها قرية مقدرة على هذه الصفة، أو قرية من قرى الأولين قد كان بهذه الصفة، فضربها الله مثلا لمكة إنذارا من مثل عاقبتها، وقال البغوي : أراد بالقرية مكة، فعلى هذا معنى الآية جعل الله تعالى مكة بحال يضرب بها مثلا لغيرها، فإنها ﴿ كانت آمنة ﴾ لا يهاج أهلها ولا يغار عليها، ﴿ مطمئنة ﴾، قارة بأهلها لا يحتاجون إلى الانتقال لضيق أو خوف كما يحتاج إليه سائر العرب. ﴿ يأتيها رزقها ﴾ : أقواتها، ﴿ رغدا ﴾ : واسعا، ﴿ من كل مكان ﴾ : من نواحيها من البحر والبر. ﴿ فكفرت ﴾، أهلها، ﴿ بأنعم الله ﴾، أي : بنعمه، جمع نعمة على ترك الاعتداء بالتاء، كدرع وأدرع، أو جمع نعم، كبؤس وأبؤس. ﴿ فأذاقها ﴾، أي : أذاق أهلها، ﴿ الله لباس الجوع والخوف ﴾، استعار الذوق لإدراك أثر الضرر، واللباس لما اشتمله من أثر الجوع والخوف، وهو الهزال وتغير اللون، وأوقع الإذاقة عليه بالنظر إلى المستعار له. ﴿ بما كانوا يصنعون ﴾، من الكفر والكفران، قال البغوي : ابتلى الله أهل مكة بالجوع سبع سنين، وقطعت العرب عنهم الميرة بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جهدوا، فأكلوا العظام المحرقة والجيف والكلاب الميتة والعلهز، وهو الوبر يعالج بالدم، حتى كان أحدهم ينظر إلى السماء فيرى شبه الدخان من الجوع، ثم إن رؤساء مكة كلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا : هذا عاديت الرجال، فما بال النساء والصبيان، فأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس بحمل الطعام إليهم وهم بعد مشركون، قلت : السورة مكية، وإنما أذاق الله أهل مكة الجوع إذا قحطوا سبع سنين، والخوف من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة، فإما أن يقال بنزول هذه الآيات بعد الهجرة، وإما أن يقال بالتوجيه الأول، يعني : أن المراد قرية غير مكة ضربها الله مثلا لأهل مكة إنذارا لأهلها من مثل عاقبتها، فلما لم يعتبروا به ولم يسمعوا ما ضرب الله لهم من المثل عوقبوا بمثل ما عوقب به أولئك.
﴿ ولقد جاءهم رسول منهم ﴾، يعني : محمد صلى الله عليه وسلم، والضمير لأهل مكة عاد إلى ذكرهم بعدما ذكر مثلهم، ﴿ فكذبوه فأخذهم العذاب وهم ظالمون ﴾، أي : حال إلتيامهم بالظلم، والمراد بالعذاب ما أصابهم من الجدب الشديد، أو وقعة بدر وهذه الآية أيضا تدل على كون نزولها بعد الهجرة، ويمكن أن يقال أن قوله :﴿ ولقد جاءهم ﴾، في محل النصب على الحال من فاعل كفرت، أو مستأنفة لبيان حال تلك القرية التي ضرب بها المثل، والمراد بالرسول الرسول المبعوث إلى تلك القرية.
﴿ فكلوا ﴾ أيها المؤمنون، الذين أنجاهم الله من الكفر وهداهم للإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، ﴿ مما رزقكم الله حلالا طيبا واشكروا نعمت الله ﴾، يعني : نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وما أنعم عليهم في الدنيا، ﴿ إن كنتم إياه تعبدون ﴾، دون غيره، أمر الله سبحانه بأكل ما أحل الله سبحانه، وشكر ما أنعم الله عليهم بعدما زجر وهدد على الكفر، وذكر من التمثيل والعذاب الذي حل بكفار قومهم صدا لهم عن صنيع الجاهلية ومذاهبها الفاسدة، وقيل : المخاطبون بهذا الكلام هم المخاطبون بما سبق، أمرهم بأكل ما أحل لهم وشكر ما أنعم عليهم، بعدما زجرهم عن الكفر وهددهم عليه، والمعنى : إن كنتم إياه تعبدون في زعمكم كانوا يزعمون أنا نعبد الله وحده، والأصنام شفعاؤنا عند الله.
﴿ ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم ﴾، أي : ألسنة قومكم من الكفار.
﴿ الكذب هذا حلال وهذا حرام ﴾، كما :﴿ وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ﴾ الآية، وقالوا بتحريم البحائر والسوائب ونحوها، والحصر المستفاد من سياق الكلام، وتصدير الجملة بإنما حصر إضافي بالنسبة إلى ما قالت الكفار بتحريمها، فلا مرد لتحريم ما ثبت حرمتها بالأحاديث الصحيحة، وقد بسطنا الكلام فيها في سورة المائدة والله أعلم. الكذب منصوب ب " لا تقولوا " أي : لا تقولوا الكذب بما تصفه ألسنتكم من البهائم بالحل أو الحرمة على خلاف ما هي عليه من استناد ذلك الوصف إلى علة موجبة للحل أو الحرمة من الله تعالى، وقوله :﴿ هذا حلال وهذا حرام ﴾، بدل من الكذب، أو متعلق ب " تصف "، و " ما " مصدرية، أي : لا تقولوا هذا حلال وهذا حرام لوصف ألسنتكم الكذب، أي : لا تحلوا أولا تحرموا بمجرد قول ينطق به ألسنتكم من غير دليل، ووصف الألسنة بالكذب مبالغة في وصف كلامهم بالكذب، كأن حقيقة الكذب كانت مجهولة وألسنتهم تصفها وتعرفها بكلامهم، ولذلك عد من فصيح الكلام كقولهم : وجهها يصف الجمال وعينها تصف السحر. ﴿ لتفتروا على الله الكذب ﴾، أن الله حرم لهذا، واللام لتعليل لا يتضمن الغرض، ﴿ إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون١١٦ ﴾.
﴿ متاع قليل ﴾، خبر مبتدأ محذوف، أي : ما هم فيه متاع، أي : منفعة قليلة تنقطع عن قريب، يفترون من لأجله، أو مبتدأ خبره محذوف، يعني : لهم متاع قليل في الدنيا، ﴿ ولهم عذاب أليم ﴾ في الآخرة ؛ لأجل افترائهم.
﴿ وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل ﴾، هذا في سورة الأنعام بقولنا :﴿ وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ﴾، وقوله :﴿ من قبل ﴾، متعلق ب " قصصنا " أو ب " حرمنا "، ﴿ وما ظلمناهم ﴾، بتحريم بعض الطيبات، ﴿ ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ﴾، ببغيهم فعوقبوا بتحريمها، فيه تنبيه على أن التحريم قد يكون للمضرة في الفعل والمصلحة في الترك، وقد يكون للعقوبة.
﴿ ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة ﴾، أي : بسببها، متلبسين بها ليعم الجهل بالله وبعقابه وعدم التدبر في العواقب لغلبة الشهوة والسوء يعم الكفر والمعاصي، ﴿ ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا ﴾ العمل، ﴿ إن ربك من بعدها ﴾، أي : بعد التوبة، ﴿ لغفور ﴾ لذلك السوء، ﴿ رحيم ﴾ يثيب على الإنابة.
﴿ إن إبراهيم كان أمة ﴾، قال في القاموس : الأمة بالضم الرجل الجامع للخير، والإمام من هو على الحق ومخالف لسائر الأديان والنشاط والطاعة، والعالم وغير ذلك من المعاني ذكرت منها ما يناسب المقام، وكان إبراهيم عليه السلام رجلا جامعا لفضائل لا تكاد توجد في أشخاص كثيرة، وجعله الله إماما للناس، وكان هو على الحق مؤمنا وحده مخالفا لسائر الأديان إذ كان حينئذ سائر الناس كفارا، وكان متصفا بالنشاط والطاعة فكان نشاطا وطاعة على طريقة : زيد عدل، وكان عالما بالله وأحكامه، قال ابن مسعود كان معلما للخير يأتم به أهل الدنيا، فهو فعله بمعنى المفعول كالرحبة من أمه إذا قصده، وقال مجاهد كان مؤمنا وحده والناس كلهم كفار، ﴿ قانتا لله ﴾، أي : مطيعا لله قائما بأوامره، ﴿ حنيفا ﴾، مائلا من الباطل، وقيل : مستقيما على دين الإسلام، وقيل : مخلصا، ﴿ ولم يك من المشركين ﴾ رد لما زعمت قريش إنهم على دين إبراهيم.
﴿ شاكرا لأنعمه ﴾، ذكر بلفظ القلة للتنبيه على أنه لم يترك الشكر على القليل من النعم فكيف على الكثير. ﴿ اجتباه ﴾ الله، ﴿ وهداه إلى صراط مستقيم ﴾، إلى دين الإسلام ودعوة الخلق إلى الله.
﴿ وآتيناه في الدنيا حسنة ﴾، يعني : الرسالة والخلة، قال المجدد : المراد بها الخلة، فإن كل أحد يظهر على خليله كل سر له بمحبه أو محبوبه، ولأجل ذلك طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة مثل الصلاة عليه فقال : اللهم صل على محمد وآل محمد، كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم، ولما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتقيا إلى أعلى درجات المحبوبية الصرفة، لم يتركه المحبوبية أن يستقر في مقام الخلة، وإن كانت في الطريق لكونها أسفل وأحط مرتبة من المحبوبية الصرفة، ولكن أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطيه الله تعالى استقرار ذلك المقام علاوة على مقامه، ولما لم يتصور ذلك لما ذكرنا من المحبوبية أعطاه الله ذلك المقام بأن أعطى لفرد من أفراد أمته بطفيل اتباعه، وهو المجدد للألف الثاني الشيخ أحمد السرهندي قدسنا الله تعالى بسره، وذلك أن كل كمال للتابع فهو كمال لمتبوعه ؛ لأنه كالجزء من كماله وحاصل بمتابعته، فالله سبحانه أجاب دعوته صلى الله عليه وسلم بعد ألف سنة من هجرته، حتى تم دولته وسلطانه كما يتم دولة السلاطين بفتح بعض أمرائه القلاع المغلقة بسطوته وقهرمانه صلى الله تعالى عليه وآله وأتباعه كما صلى على إبراهيم وآله وأتباعه، وقيل : هي اللسان الصدق، والثناء الحسن، فإن جميع أهل الأديان يثنون عليه، وقال مقاتل بن حبان : يعني الصلاة عليه في قول هذه الأمة : اللهم صل على محمد وآل محمد كما صليت على إبراهيم، وقيل : أولادا أبرارا على الكبر، ﴿ وإنه في الآخرة لمن الصالحين ﴾، أي : من الأنبياء المعصومين، فإن كمال الصلاح بالعصمة، ومقتضى العصمة في الآخرة بقاء ثواب كل حسنة بلا احتمال حبط شيء منها، وذلك مختص بالمعصومين، فإن من عمل سيئة صغيرة أو كبيرة يحتمل ذهاب بعض حسناته في مقابلة تلك السيئة في الميزان إن لم يتداركه رحمة الله ومغفرته، كأن هذه الآية بيان لاستجابة دعوته حيث قال ألحقني بالصالحين.
﴿ ثم أوحينا إليك ﴾ يا محمد، ﴿ أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا ﴾ في التوحيد والدعوة إلى الله بالرفق، وإيراد الدلائل مرة بعد أخرى، والمجادلة مع كل أحد على حسب فهمه، وفي التوجه إلى قبلته في الصلاة والتشرع بشرائع دينه، ولهذه الجملة من تتمة ما أنعم الله على إبراهيم على قنوته وشكره على ما أنعم الله عليه، وفي كلمة ثم تعظيم لمنزلة نبينا صلى الله عليه وسلم، وإجلال محله، والإيذان بأن أشرف ما أوتي خليل الله من الكرامة إتباع رسولنا ملته صلى الله عليه وسلم.
فائدة : أمر الله تعالى رسولنا صلى الله عليه وسلم بإتباع ملة إبراهيم عليه السلام ؛ لأن نبينا صلى الله عليه وسلم كان شائقا لمرتبة الخلة وكان كثير المحبة به عليه السلام يدل عليه قوله تعالى :﴿ قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها ﴾، قال البغوي : كان النبي صلى الله عليه وسلم مأمورا بشريعة إبراهيم عليه السلام إلا ما نسخ في شريعته، وما لم ينسخ صار شرعا له. ﴿ وما كان من المشركين ﴾، كرر هذا ردا على زعم اليهود والنصارى وأهل مكة إنهم على دينه.
﴿ إنما جعل السبت ﴾، يعني : إنما جعل تعظيم السبت وتحريمه، والتخلي فيه للعبادة مفروضة ﴿ على الذين اختلفوا فيه ﴾، يعني : خالفوا نبيهم، قال الكلبي أمرهم موسى عليه السلام بالجمعة، وقال : تفرغوا لله تعالى في كل سبعة أيام يوما، فاعبدوه يوم الجمعة ولا تعملوا فيه لصنعتكم، وستة أيام لصناعتكم، قالوا : لا نريد إلا اليوم الذي فرغ الله فيه من الخلق يوم السبت، فجعل الله ذلك اليوم عليهم وشدد عليهم، ثم جاءهم عيسى عليه السلام بيوم الجمعة فقالوا : لا نريد أن يكون عيدهم بعد عيدنا فاتخذوا الأحد، فأعطى الله الجمعة هذه الأمة فقبلوها وبورك لهم فيها، روى الشيخان في الصحيحين من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم، ثم هذا يومهم الله فرض عليهم، يعني : الجمعة، فاختلفوا فيه فهدانا له، والناس لنا فيه تبع، اليهود غدا والنصارى بعد غد ) وروى البغوي هذا الحديث وزاد في أخره قال الله تعالى :﴿ إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه ﴾، وفي رواية لمسلم عنه وعن حذيفة ونحوه وقالا في آخر الحديث :( نحن الآخرون من أهل الدنيا الأولون يوم القيامة المقضى لهم قبل الخلائق ) وقيل : معنى الآية : ما فرض الله تعظيم السبت وتحريمه إلا على الذين اختلفوا فيه، يعني : اليهود، فقال قوم : هو أعظم الأيام ؛ لأن الله فرغ من خلق الأشياء يوم الجمعة ثم سبت يوم السبت، وقال قوم : بل أعظم الأيام يوم الأحد ؛ لأن الله ابتدأ فيه خلق الأشياء فاختاروا تعظيم غير ما فرض عليهم، وقد افترض الله عليهم تعظيم يوم الجمعة، وقيل : معنى الآية : إنما جعل السبت لعنة ومسخا على الذين اختلفوا فيه، قال قتادة : هم اليهود استحله بعضهم، يعني : اصطادوا فيه السمك، وحرمه بعضهم. ﴿ وإن ربك ليحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ﴾، بالمجازاة على الاختلاف، فيجازي كل فريق بما يستحقه.
﴿ ادع ﴾ الناس يا محمد، ﴿ إلى سبيل ربك ﴾، أي : إلى الإسلام، ﴿ بالحكمة والموعظة الحسنة ﴾، يعني : بالقرآن الذي هو محكم المقالات، لا يتطرق إليه الطعن والمعارضة، وهو الدليل الموضح للحق المزيح للشبهات، وهو الموعظة الحسنة بالترغيب والترهيب وقيل : الموعظة الحسنة هي القول اللين الرقيق من غير غلظة ولا تعسف. ﴿ وجادلهم ﴾، أي : خاصم الناس وناظرهم، ﴿ بالتي هي أحسن ﴾، أي : بالخصومة التي هي أحسن الخصومات، وهي المناظرة على وجه لا يتطرق إليه طغيان النفس ولا وسواس الشيطان بل يكون خالصا لوجه الله وإعلاء كلمته. ﴿ إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين ﴾، يعني : إنما عليك البلاغ والدعوة، وإما حصول الهداية والمجازاة عليها وعلى الضلالة فلا إليك بل الله أعلم بالضالين والمهتدين وهو المجازي لهم والله أعلم.
روى الحاكم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال : فقد رسول الله صلى الله عليه وسلم حمزة حين فاء الناس من القتال يوم أحد، فقال رجل رأيته عند تلك الصخرة وهو يقول : أنا أسد الله وأسد رسوله، اللهم أبرأ إليك مما جاء به هؤلاء يعني : أبا سفيان وأصحابه، وأعتذر إليك مما صنع هؤلاء بانهزامهم، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم نحوه، فلما رأى جثته بكى، فلما رأى ما مثل به شهق ثم قال : ألا كفن، فقام رجل من الأنصار فرمى بثوبه عليه، ثم قام أخوه فرمى بثوبه عليه، فقال يا جابر هذا الثوب لأبيك وهذا العمى، وقال صلى الله عليه وسلم :( رحمة الله عليك، فإنك كنت كما علمتك فعولا للخيرات وصولا للرحم، لولا أن تحزن صفية وفي لفظ نساؤنا وفي لفظ لو لا حزن ما بعدك عليك وتكون سنة، من بعدك أتركتك حتى تحشر في بطون السباع وحواصل الطير )، ثم قال :( أبشروا جاءني جبرئيل فأخبرني أن حمزة مكتوب في أهل السماوات السبع حمزة بن عبد المطلب أسد الله وأسد رسوله )، وقال :( لأن ظفرني الله تعالى على قريش في موطن من المواطن لأمثلن بسبعين منهم مكانك )، فلما رأى المسلمون حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيظه على من فعل بعمه ما فعل قالوا : والله لئن ظفرنا الله تعالى يوما بهم من الدهر لنمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب )، قال أبو هريرة، كما رواه ابن سعد والبزار وابن المنذر والبيهقي في الدلائل والحاكم، فنزل جبرئيل والنبي صلى الله عليه وسلم واقف بخواتيم سورة النحل.
﴿ وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ﴾ العقوبة والعقاب هو جزاء السيئة وإنما سمى الفعل الأول عقوبة وإنما هي الثانية لإزدواج الكلام كما في قوله تعالى :﴿ وجزاء سيئة سيئة مثلها ﴾ مع أن الثانية ليست بسيئة والمعنى لا تجاوزوا في جزاء السيئة عن المماثلة ﴿ ولئن صبرتم ﴾ عن الانتقام والمعاقبة ﴿ لهو ﴾ أي الصبر ﴿ خير للصابرين ﴾ من الانتقام وضع المظهر موضع المضمر والتقدير فهو خير لكم ثناء من الله عليهم بأنهم صابرون على الشدائد، حث الله سبحانه على العفو تعريضا بقوله :﴿ وإن عاقبتم ﴾، وتصريحا على الوجه الآكد بقوله :﴿ ولئن صبرتم ﴾ الآية.
ثم صرح بالعفو لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه أولى الناس به لوفود علمه ووثوقه عليه فقال :﴿ واصبر ﴾، على أذى الكفار، ﴿ وما صبرك إلا بالله ﴾، أي : بتوفيقه وإعانته، ﴿ ولا تحزن عليهم ﴾، أي : على الكافرين أو على المؤمنين وما فعل بهم، ﴿ ولا تك في ضيق ﴾، أي : ضيق صدر، ﴿ مما يمكرون ﴾، أي : الكفار بالمؤمنين يعني : تهتم بمكرهم، فأنا ناصرك عليهم وعلينا جزاؤهم، قرأ ابن كثير ههنا وفي النمل ضيق بكسر الضاد، والباقون بالفتح في الموضعين، وهما لغتان كالقول والقيل، وقال أبو عمرو : الضيق بالفتح الغم وبالكسر الشدة، وقال أبو عبيدة : الضيق بالكسر قلة في المعاش والمساكر، وأما ما كان في القلب والصدر فإنه بالفتح، وهذان القولان يأبى عنهما كتاب الله، فإن القرائتين متواترتين والمراد إنما هو الغم فالصحيح ما قالوا إنهما لغتان بمعني، وقال أبو قتيبة الضيق بالفتح تخفيف ضيق مثل هين وهين ولين ولين، فعلى هذا هو صفة كأنه قال : فلا تكن في أمر ضيق من مكرهم.
﴿ إن الله مع الذين اتقوا ﴾ المعاصي، ﴿ والذين هم محسنون ﴾ في أعمالهم، أو مع الذين اتقوا الله بتعظيم أمره والذين هم محسنون بالشفقة على خلقه، أو مع الذين اتقوا العدوان في المعاقبة والذين هم محسنون إلى الناس بالعفو، فالله معهم بالولاية والفضل والعون، والنصر معية ذاتية لا كيف لها، قال أبو هريرة في الحديث المذكور الذي رواه ابن سعد وغيره :( فكفر النبي صلى الله عليه وسلم عن يمينه، وأمسك عن الذي أراد وصبر )، يعني : لما نزلت هذه الآيات، وروى ابن المنذر والطبراني والبيهقي عن ابن عباس نحو ما روى عن أبي هريرة رضي الله عنهم في شأن نزول الآية، وقد ذكرنا في صدر السورة رواية ابن إسحاق وابن جرير عن عطاء في نزول الآية نحوه، وروى الترمذي وحسنه، وعبد الله بن الإمام أحمد في زوائد المسند، والنسائي وابن المنذر وابن خزيمة وابن حبان والضياء في صحيحيهما، عن أبي بن كعب قال : لما كان يوم أحد أصيب من الأنصار أربعة وستون رجلا ومن المهاجرين ستة منهم حمزة فمثلوا بهم، فقالت الأنصار : لأن أصبنا منهم يوما مثل هذا لنربين عليهم، فلما كان فتح مكة أنزل الله تعالى :﴿ وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين١٢٦ ﴾، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نصبر ولا نعاقب، كفوا عن القوم إلا أربعة، وقال البغوي : نزلت الآية في شهداء أحد، وذلك أن المسلمين لما رأوا ما فعل المشركون بقتلاهم يوم أحد من تبقير البطون والمثلة السيئة حتى لم يبق أحد من قتلى المسلمين إلا مثل به، غير حنظلة بن الراهب غسيل الملائكة فإن أباه أبا عامر الراهب، قلت : الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا عامر الفاسق كان مع أبي سفيان فتركوا حنظلة لذلك، فقال المسلمون حين رأوا ذلك : لأن أظهرنا الله عليهم لنزيدن على صنيعهم ولنمثلن بهم مثلة لم يفعلها أحد من العرب بأحد، فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على عمه حمزة وقد جدعوا أنفه وأذنه وقطعوا مذاكيره وبقروا بطنه، وأخذت هند بنت عتبة قطعة من كبده فمضغتها ثم اشترطتها لتأكلها فلم تلبث في بطنها حتى رمت بها، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أما أنها لو أكلتها لم تدخل النار أبدا، حمزة أكرم على الله من أن يدخل شيئا من جسده النار، فلما نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمه حمزة نظر إلى شيء لم ينظر إلى شيء قط كان أوجع لقلبه منه، فقال صلى الله عليه وسلم : رحمة الله عليك أبا السائب، فإنك ما علمت ما كنت إلا فعالا للخيرات، وصولا للرحم، ولولا حزن من بعدك عليك لسرني أن أدعك حتى تحشر من أفواج شتى، أما والله لأن ظفرني الله بهم لأمثلن منهم بسبعين مكانك، فأنزل الله تعالى هذه الآيات، فقال صلى الله عليه وسلم : بل نصبر، وأمسك عما أراد وكفر عن يمينه.
فائدة : حديث أبي بن كعب يدل على تأخر نزول الآيات إلى الفتح، وفي حديث أبي هريرة وابن عباس وعطاء بن يسار رضي الله عنهم نزولها بأحد، وجمع ابن الحصار بأنها نزلت أولا بمكة ثم بأحد ثم ثالثا بعد الفتح تذكيرا من الله لعباده، قال البغوي : قال ابن عباس والضحاك رضي الله عنهم : كان حكم هذه الآية قبل نزول براءة حين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتال من قاتله ومنع من الابتداء بالقتال، فلما أعز الله الإسلام وأهله ونزلت براءة وأمروا بالجهاد نسخت هذه الآية، وقال النخعي والثوري والسدي ومجاهد وابن سيرين رحمهم الله : الآية محكمة نزلت فيمن ظلم بظلامة، فلا يحل أن ينال من ظالمه أكثر مما نال الظالم منه أمر بالجزاء أو العفو ومنع من الاعتداء، مسألة : المثلة لا يجوز إجماعا، روى ابن إسحاق عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال : ما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في مقام قط ففارقه حتى أمر بالصدقة ونهى عن المثلة، وقد روى في النهي عن المثلة أحاديث كثيرة والله أعلم.
تم تفسيره سورة النحل من التفسير المظهري، ويتلوه إن شاء الله تعالى تفسير سورة بني إسرائيل ثاني رجب من السنة الثانية بعد المائتين وألف سنة ١٢٠٢ من الهجرة، والحمد لله والصلاة والسلام على رسوله و آله وأصحابه أجمعين.