تفسير سورة سورة فاطر من كتاب التفسير المظهري
.
لمؤلفه
المظهري
.
المتوفي سنة 1216 هـ
سورة الملائكة
آياتها خمس وأربعون وهي مكية
ﰡ
﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ أي خالقهما ومبدعهما من غير مثال سبق من الفطرة بمعنى الشق العدم بإخراجها منه والإضافة محضة لأن فاطرا بمعنى الماضي فهو صفة لله ﴿ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا ﴾ وسائط بين الله وأنبيائه والصالحين من عباده ﴿ يبلغون ﴾ إليهم رسالاته بالوحي أو الإلهام أو الرؤيا الصالحة أو بينه وبين خلقه يوصلون إليهم آثار صنعه، وإضافة جاعل إلى الملائكة لفظية لأن جاعلا قد عمل في رسلا ولا يجوز إعماله في المفعول الثاني إلا أن يكون عاملا في الأول لأنه من ملحقات أفعال القلوب لا يجوز اقتصارها على أحد المفعولين والمعنى يجعل الملائكة رسلا في الحال أو الاستقبال إلى محمد صلى الله عليه وسلم وخواص أمته فقوله جاعل بدل من الله وليس بصفة ﴿ أولي أجنحة ﴾ بدل من رسلا ﴿ مثنى وثلاث ورباع ﴾ صفات لأجنحة قال قتادة ومقاتل بعضهم له جناحان وبعضهم له ثلاثة أجنحة وبعضهم له أربعة أجنحة وليس هذا للحصر ولدفع توهم الحصر قال الله تعالى ﴿ يزيد في الخلق ﴾ في الملائكة وغيرها ﴿ ما يشاء إن الله على كل شيء قدير ﴾ روى مسلم في الصحيح عن ابن مسعود في قوله تعالى :﴿ لقد رأى من آيات ربه الكبرى{ ١٨ ﴾ } قال رأى جبريل في صورته له ست مائة جناح " ورواه ابن حبان بلفظ " رأيت جبرئيل عند سدرة المنتهى له سبع مائة جناح ينشر من ريشه الدر والياقوت " والجملة مستأنفة للدلالة على أن تفاوتهم في ذلك إنما هو مقتضى مشيئته تعالى ومؤدى حكمته لا أمر يستدعيه ذواتهم والآية متناولة لزيادات الصور والمعاني كملاحة الوجه وحسن الصوت وسماحة النفس والعقل والفهم وغير ذلك فما قال ابن شهاب أن المراد به حسن الصوت، وقال قتادة الملاحة في العينين، وقيل هو العقل والتميز كل ذلك على سبيل التمثيل.
﴿ ما يفتح الله للناس ﴾ أي ما يعطي أطلق الفتح وهو الإطلاق وأراد به الإعطاء تجوزا إطلاقا للسبب على المسبب ﴿ من رحمة ﴾ نعمة دينية كالإيمان والعلم والنبوة وتوفيق الحسنات أو دنيوية كالمطر والرزق والأمن والصحة والجاه والمال والولد ﴿ فلا مرسل له ﴾ واختلاف الضميرين لأن الموصول الأول فسر بالرحمة فروعي معناه والثاني مطلق يتناولها والغضب فروعي لفظه وفيه إشعار بأن رحمته سبقت غضبه ﴿ من بعده ﴾ أي بعد إمساكه ﴿ وهو العزيز ﴾ الغالب على ما يشاء لا يقدر أحد أن ينازعه ﴿ الحكيم ﴾ لا يفعل إلا بعلم وإتقان روى الشيخان في الصحيحين عن المغيرة بن شعبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول دبر كل صلاة " لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير لا مانع أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد " ولما بين الله سبحانه أنه خالف لجميع الأشياء متصرف فيها على ما يشاء أمر الناس بشكر إنعامه فقال ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُو فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ﴾
﴿ يا أيها الناس ﴾ يا أهل مكة ودخل في العموم غيرهم ﴿ اذكروا نعمت الله عليكم ﴾ حيث أسكنكم الحرم ومنع منكم الغارات وجعل الأرض كمهد ورفع السماء بلا عمد وخلقكم وزاد في الخلق ما شاء وفتح أبواب الرزق ولا ممسك له، ثم أنكر أن يكون لغيره في ذالك مدخل حتى يستحق الإشراك به فقال ﴿ هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء ﴾ المطر ﴿ والأرض ﴾ النبات، من الأولى زائدة فإن الاستفهام للإنكار بمعنى النفي وخالق مبتدأ وغير الله فاعله على قراءة الرفع أو خالق مبتدأ محذوف الخبر تقديره هل لكم من خالق غير الله أو خبره غير الله أيضا على قراءة الرفع أو خبره يرزقكم وغير الله وصف له أو بدل منه، قرأه حمزة والكسائي بالجر حملا على لفظه والباقون بالرفع حملا على محله أو خالق فاعل لفعل محذوف تقديره هل يرزقكم من خالق غير الله ويرزقكم في محل الجر أو الرفع صفة لخالق أوفي محل النصب حال منه أو تفسير لما أضمر أو استئناف لا محل له من الإعراب ﴿ لا إله إلا هو فأنى تؤفكون ﴾ فمن أي وجه تصرفون من التوحيد إلى الإشراك مع اعترافكم بأنه الخالق والرازق لا غير.
﴿ وإن يكذبوك ﴾ في البعث والتوحيد والعقاب فقاس بمن قبلك من الرسل يعني اصبر ولا تحزن حذف الجزاء وأقيم مقامه ﴿ فقد كذبت رسل من قبلك ﴾ إقامة للسبب مقام المسبب وتنكير الرسل للتعظيم لزيادة التسلية والحث على الصبر يعني كذبت رسل ذو عدد كثيرة وآيات واضحات وأعمار طوال وأصحاب حزم وعزم ﴿ وإلى الله ترجع الأمور ﴾ فيجازيك على الصبر بالنصر والثواب وإياهم على التكذيب في الدارين بالعذاب، قرأ حمزة والكسائي وخلف ويعقوب بفتح التاء وكسر الجيم على البناء للفاعل والباقون بضم التاء وفتح الجيم على البناء للمفعول.
﴿ يا أيها الناس إن وعد الله حق ﴾ بالبعث والجزاء حق كائن لا يحتمل الخلف ﴿ فلا تغرنكم الحياة الدنيا ﴾ أي لا يلهيكم الاشتغال بزخارف الدنيا من طلب الآخرة والسعي لها ﴿ ولا يغرنكم بالله ﴾ في حلمه وإمهاله ﴿ الغرور ﴾ يعني الشيطان بأن ينسيكم عذاب الآخرة أو يمنيكم المغفرة مع الإصرار على المعصية فإنها وإن أمكنت لكن ارتكاب الذنب بهذا الاحتمال يشبه تناول السم على احتمال الترياق أو رفعه الطبيعة
﴿ إن الشيطان لكم عدو ﴾ عداوة عامة قديمة حيث قال وعزتك لأغوينهم أجمعين ﴿ فاتخذوه عدوا ﴾ يعني استيقنوا بعداوته وكونوا على حذر من إتباع وسوسته في مجامع أحوالكم ولا تطيعوه وأطيعوا الله على رغم أنفه فإن مقتضى المحبة أن يفعل ما يرضاه المحبوب ويرضيه منه ومقتضى العداوة أن يفعل ما لا يرضاه ويغيظه والجملة تعليل للنهي السابق ﴿ إنما يدعو حزبه ﴾ أي أتباعه من الإنس إلى المعاصي وإتباع الهوى والركون إلى الدنيا ﴿ ليكونوا من أصحاب السعير ﴾ متعلق بيدعو تقرير لعداوته، وبيان لغرضه،
ثم بين حال موافقيه ومخالفيه فقال ﴿ الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ﴾﴿ الذين كفروا ﴾ بالله وأتبعوا الشيطان لهم ﴿ عذاب شديد والذين آمنوا ﴾ بالله ﴿ وعملوا الصالحات ﴾ وخالفوا الشيطان ﴿ لهم مغفرة وأجر كبير ﴾.
﴿ أفمن زين له سوء عمله فرآه ﴾ أي رأى عمله السيئ حسنا معطوف على زين تقرير له يعني من زين له قبح عمله يعني خذله الله حتى غلب همه وهواه على عقله واختل رأيه ووسوس له الشيطان فرأى السيئ حسنا والباطل حقا كمن لم يزين له وهداه الله إلى الحق، ولم يجد الشيطان إليه سبيلا حتى عرف الحق من الباطل واستحسن الأعمال واستقبحها على ما هي عليه فحذف الجواب لدلالة قوله ﴿ فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء ﴾ الهمزة في أفمن زين للإنكار والفاء للعطف على المحذوف تقديره أتطمع أن تهتدي كل رجل فيكون المخذول من الله والمهدي سواء لا تطمع ذلك فأن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء ﴿ فلا تذهب نفسك ﴾ يعني لا تهلك نفسك ﴿ عليهم ﴾ أي على ضلالهم ﴿ حسرات ﴾ منصوب على العلية أي للحسرات على غيهم وضلالهم والحسرة شدة الحزن على ما فات من الأمر وجمع الحسرات للدلالة على تضاعف اغتمامه على أحواله أو كثرة مساوئ أفعالهم المقتضية للتأسف، وعليهم ليس صلة لها لأن صلة المصدر لا تتقدمه بل صلة تذهب أو بيان للمتحسر عليه وقيل تقدير الكلام أتغتم بكفرهم فمن زين له سوء عمله فأضله الله تذهب نفسك عليهم حسرة يعني لا تغتم فلا تذهب عليهم حسرات فقوله تعالى فلا تذهب تدل على الجواب المحذوف وقوله تعالى :﴿ فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء ﴾ معترضة في مقام التعليل، قال الحسين بن الفضل فيه تقديم وتأخير مجازه أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا فلا تذهب نفسك عليهم حسرات فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء، قال البغوي قال ابن عباس نزلت الآية في أبي جهل ومشركي مكة وأخرج جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال نزلت الآية حين قال النبي صلى الله عليه وسلم :" اللهم أعز دينك بعمر بن الخطاب أو بأبي جهل بن هشام " فهدى الله عمر وأضل أبا جهل ففيهما نزلت، وقال سعيد بن جبير نزلت في أصحاب الأهواء والبدع، قال قتادة منهم الخوارج الذين يستحلون دما المسلمين وأموالهم وأما أهل الكبائر فليسوا منهم فإنهم لا يستحلون الكبائر بل يعتقدون الباطل باطلا وإن كانوا مرتكبين به ﴿ إن الله عليم بما يصنعون ﴾ فيجازيهم عليه.
﴿ وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ ﴾ عطف على ﴿ إن وعد الله حق ﴾ يعني وعد الله بالبعث حق والله أرسل الرياح وأحيا الأرض بعد موتها كذلك نشوركم بالبعث قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي الريح على إرادة الجنس والباقون بصيغة الجمع ﴿ فتثير سحابا ﴾ على حكاية الحال الماضية استحضارا لتلك الصورة البديعة الدالة على كمال الحكمة ولأن المراد بيان إحداثها بهذه الخاصة ولذلك أسند إليها ويجوز أن يكون اختلاف الأفعال للدلالة على استمرار الأمر ﴿ فسقناه ﴾ فيه التفات من الغيبة إلى التكلم لأنه أدخل في الاختصاص لما فيها من مزيد الصنع إلى ﴿ بلد ميت ﴾ قرأ نافع وحمزة والكسائي وحفص بتشديد الياء والباقون بالتخفيف ﴿ فأحيينا به ﴾ أي بالمطر النازل منه وذكر السحاب كذكره أو بالسحاب فإنه سبب السبب ﴿ الأرض ﴾ أي جعلناها مخضرة ذات نبات ﴿ بعد موتها ﴾ أي بعد اغبرارها ويبس نباتها أسند موت نباتها وحياتها إليها مجازا ﴿ كذلك ﴾ أي مثل إحياء النبات بعد اليبس ﴿ النشور ﴾ للأموات من القبور لاستوائهما في المقدورية إذ ليس بينهما إلا اختلاف المادة في المقيس عليه وذلك لا ندخل له فيها، وقيل التمثيل في كيفية الإحياء لما ورد في حديث عبد الله بن عمرو عند مسلم في كيفية البعث حيث قال :" ثم يرسل الله مطرا كأنه الطل فينبت منه أجساد الناس "
الحديث، وأخرج أبو الشيخ في العظمة عن وهب قال البحر المسجور أوله في علم الله وآخره في إرادة الله فيه ماء ثخين شبه ماء الرجل يمطر الله منه على الخلق أربعين يوما بين الراجفة والرادفة فينبتون نبات الجنة في حميل السيل ويجمع أرواح المؤمنين من الجنات وأرواح الكافرين من النار فيجعل في الصور يأمر الله إسرافيل فينفخ فيه فيدخل كل روح في جسده الحديث، وأخرج الشيخان عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما بين النفختين أربعون ؟ قالوا يا أبا هريرة أربعون يوما ؟ قال أبيت، قالوا أربعون شهرا ؟ قال أبيت، قالوا أربعون عاما ؟ قال : أبيت ثم ينزل الله من السماء ماء فينبتون كما ينبت البقل وليس من الإنسان شيء إلا يبلى إلا عظما واحدا وهو عجب الذنب ومنه يركب الخلق يوم القيامة " وأخرج ابن المبارك عن سليمان قال يمطر الناس قبل البعث أربعين يوما ماء خاثرا، أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال يسيل واد من أصل العرش من ماء فيما بين الصيحتين ومقدار ما بينهما أربعين عاما ينبت منه كل خلق بلي من إنسان أو طير أو دابة ولو مر عليهم مار قد عرفهم قبل ذلك لعرفهم على وجه الأرض فينبتون ثم يرسل الأرواح فتزوج بالأجساد.
﴿ من كان يريد العزة فلله العزة جميعا ﴾ أي في الدنيا والآخرة قال الفراء من كان يريد أن يعلم لمن العزة فلله العزة جميعا والظاهر أن معناه من كان يطلب لنفسه العزة فليطلبها من عند الله وليتعزز بطاعة الله فإن العزة كلها له ملكا وخلقا يِؤتيها من يشاء وفيه رد على الكفار حيث طلبوا العزة بعبادة الأصنام قال الله تعالى :﴿ واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا كلام ﴾ وعلى المنافقين حيث طلبوا العزة من الكفار وقال الله تعالى :﴿ أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا ﴾. . . . . . . ثم بين أن ما يطلب به العزة إنما هو التوحيد والعمل الصالح فقال ﴿ إليه ﴾ أي إلى الله ﴿ يصعد الكلم الطيب ﴾ وهي سبحان الله والحمد لله والله اكبر ولا إله إلا الله وتبارك الله ونحو ذلك وصعودها مجاز عن قبوله إياها كذا روي عن قتادة، أو المراد بها صعود الكتبة بصحيفتها إلى عرشه كما يدل عليه حديث ابن مسعود قال :" ما من عبد يقول خمس كلمات سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر وتبارك الله إلا أخذهن ملك فجعلهن تحت جناحه ثم صعد بهن فلا يمر بهن على جمع من الملائكة إلا استغفروا لقائلهن حتى يجيء بها وجه رب العالمين ومصداقه من كتاب الله عز وجل إليه يصعد الكلم الطيب " رواه البغوي والحاكم وغيره، وروى الثعلبي وابن مردويه حديث أبي هريرة نحوه مرفوعا ﴿ والعمل الصالح يرفعه ﴾ قال الكلبي ومقاتل الضمير المستكن في يرفعه راجع إلى الكلم والمنصوب إلى العمل المعنى أن العمل لا يقبل إلا أن يكون صادرا عن التوحيد، وقال سفيان بن عيينة إن المستكن راجع إلى الله عز وجل يعني أن العمل الصالح أي ما كان خالصا لوجه الله لا يكون مشوبا برياء وسمعة يرفعه الله أي يقبله فإن الإخلاص سبب لقبول الأقوال والأعمال، والظاهر أن الضمير المستكين راجع إلى العمل الصالح لقربه والمنصوب إلى الكلم.
وهو مفرد ليس بجمع أريد به الجنس ولذا وصفه بالطيب أو يقال تقديره إليه يصعد بعض الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه وذلك البعض ما كان منهن بالإخلاص وإرجاع الضمير هكذا قول ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن وعكرمة وأكثر المفسرين.
قال الحسن وقتادة الكلم الطيب ذكر الله والعمل الصالح أداء الفريضة فمن ذكر الله ولم يؤد الفريضة رد كلامه على علمه وليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي ولكن ما وقر في القلوب وصدقه الأعمال فمن قال حسنا وعمل غير صالح، رد الله عليه قوله ومن قال حسنا وعمل صالحا يرفعه القول ذلك بأن الله يقول :﴿ إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه ﴾ وجاء في الحديث " لا يقبل قولا إلا بعمل ولا قولا ولا عملا إلا بنية " قلت : ليس المراد بهذه الآية إن الأيمان بغير عمل لا يعتد به كيف وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله وأن عيسى عبد الله ورسوله وابن أمته وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه والجنة حق والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من عمل "
رواه الشيخان في الصحيحين عن عبادة بن الصامت، بل المراد أن الكلم الطيب يصعد إلى الله فإن كان معه عمل يرفع شأن تلك الكلمة ويزيد في ثوابها ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم " لا يقبل الله قولا إلا بعمل " يعني قول المنافق بلا عمل من القلب والجوارح لا يعتد به وكذا القول القرون بالعمل لا يعتد بهما إلا بنية أي باعتقاد وإخلاص من القلب، وقيل معنى الآية والعمل الصالح يرفع القائل أي درجته.
﴿ والذين يمكرون السيئات ﴾ صفة لمصدر محذوف لأن الفعل لازم ليس بمعتد إلى مفعول به، أي يمكرون المكرات السيئات، قال أبو العالية يعني مكرات قريش للنبي صلى الله عليه وسلم في دار الندوة كما مر في سورة الأنفال في قوله تعالى :﴿ وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ﴾ وقال الكلبي معنى الآية الذين يعملون السيئات وقال مجاهد وشهر بن حوشب هم أصحاب الرياء ﴿ لهم عذاب شديد ومكر أولئك هو ﴾ أي الله سبحانه ﴿ يبور ﴾ أي يبطل حيث قال الله تعالى :﴿ يمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين ﴾ والمعنى الله يبطل أعمال المرائين.
﴿ والله خلقكم ﴾ معطوف على والله أرسل وهذا أيضا دليل على القدرة على البعث فإن بدء الخلق ليس بأهون من إعادته ﴿ من تراب ثم من نطفة ﴾ يعني أصلكم البعيد تراب حيث خلق آدم منه وأصلكم القريب نطفة ﴿ ثم جعلكم أزواجا ﴾ أصنافا ما ذكرانا وإناثا ﴿ وما تحمل من أنثى ولا تضع ﴾ إلا متلبسا ﴿ بعلمه ﴾ حال يعني إلا معلوما له ﴿ وما يعمر من معمر ﴾ يعني ما يقدر عمر أحد ﴿ ولا ينقص من عمره ﴾ أي لا ينقضي من عمر أحد شيء ﴿ إلا في كتاب ﴾ يعني كل ذلك مكتوب في اللوح أو الصحائف الكرام الكاتبين.
قال سعيد بن مكتوب في أم الكتاب عمر فلان كذا سنة ثم يكتب أسفل من ذلك ذهب يومان ذهب ثلاث أيام حتى ينقطع عمره، وقيل معناه لا يزاد في عمر أحد ولا ينقص إلا في كتاب يعني كتب في اللوح المحفوظ أن عمر فلان كذا سنة ثم يزاد عمره بعض الحسنات أو ينقص ببعض السيئات كل ذلك مكتوب في اللوح يؤيده قول صلى الله عليه وسلم " لا يرد القضاء إلا الدعاء ولا يزيد في العمر إلا البر " ورواه الترمذي عن سلمان الفارسي، وقيل : معناه لا يمد في عمر من هو طويل العمر ولا ينقص عمر غيره من عمره أي عمر طويل العمر بأن يعطي له عمر ناقص من عمره أولا ينقص عمر المنقوص عمره بجعله ناقصا، والضمير له وإن لم يذكر لدلالة مقابله عليه وللمعمر على التسامح إعتمادا على السامع كقولهم لا يثبت الله عبدا ولا يعاقبه إلا بحق ﴿ إن ذلك ﴾ أي كتابة الآجال والأعمال ﴿ على الله يسير ﴾.
﴿ وما يستوي البحران هذا ﴾ يعني أحدهما ﴿ عذب فرات ﴾ أي شديد العذوبة وقيل هو ما يكسر العطش ﴿ سائغ ﴾ سهل الانحدار﴿ شرابه ﴾ جملة ﴿ هذا عذب فرات ﴾ مع ما عطف عليه صفة للبحرين على طريقة، ولقد أمر على اللئيم يسبني ﴿ وهذا ملح أجاج ﴾ شديد الملوحة وقيل هو ما يحرق بملوحته، ضرب مثل المؤمن والكافر وبيان لكمال قدرته تعالى حيث خلق من جنس وآخر شيئان مختلفان في الخواص ﴿ ومن كل ﴾ أي من كل واحد من البحرين ﴿ تأكلون لحما طريا ﴾ إستطراد في صفة البحرين وما فيها من النعم أولا على سبيل الاستطراد بل لتمام التمثيل والمعنى أنه كما أنهما وإن اشتركا في بعض الفوائد لا يتساويان فيما هو المقصود بالذات من الماء كذلك المؤمن والكافر إن اشتركا في بعض خواص الإنسانية لا يتساويان فيما هو المقصود من خلق الإنسان، وهم معرفة الله وعبادته حيث قال الله تعالى :﴿ ما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ﴾ أو لتفضيل الأجاج على الكافر بما يشارك العذب في المنافع ﴿ وتستخرجون ﴾ أي من الملح دون العذب ﴿ حلية ﴾ يعني اللؤلؤ والمرجان ﴿ تلبسونها ﴾ قيل نسب اللؤلؤ إلى البحرين لأنه يكون في بحر الأجاج عيون عذبة يمتزج بالملح فيكون اللؤلؤ من بين ذلك ﴿ وترى الفلك ﴾ عطف على ﴿ ومن كل تأكلون ﴾ ﴿ فيه ﴾ أي في كل منهما ﴿ مواخر ﴾ جمع ماخرة على وزن فاعلة من المخر وهو الشق يعني شاقات للماء تجريها مقبلات ومدبرات ﴿ لتبتغوا من فضله ﴾ أي من فضل الله بالتجارة فيهما واللام متعلق بمواخر ويجوز أن يكون متعلقا بفعل دل عليه الأفعال المذكورة يعني جعل الله البحر هكذا لتبتغوا من فضله ﴿ ولعلكم ﴾ أي ولكي ﴿ تشكرون ﴾ الله على ذلك عطف على لتبتغوا لأن حرف الترجي استعير لمعنى اللام وإيراد حرف الترجي باعتبار ما يقتضيه ظاهر الحال.
﴿ يولج الليل في النهار ﴾ صيفا متصل بقوله ﴿ والله خلقكم من تراب ﴾ وبما في سياقه وجملة ما يستوي معترضة ﴿ ويولج النهار في الليل ﴾ شتاء، حيث يقصر النهار ويمد الليل ﴿ وسخر الشمس والقمر كل ﴾ أي كل واحد منهما ﴿ تجري ﴾ في السماء ﴿ لأجل مسمى ﴾ هي مدة دوره أو منتهاه أو يوم القيامة حين ينقطع جريها وجملة ﴿ كل يجري ﴾ بيان للتسخير ﴿ ذلكم ﴾ مبتدأ أي الذي فعل هذه الأشياء ﴿ الله ربكم له الملك ﴾ أخبار مترادفة وكونه تعالى فاعلا لما ذكر موجب لثبوت تلك الأخبار ويحتمل أن يكون له الملك كلاما مبتدءا ﴿ والذين تدعون ﴾ أي الذين تعبدونها من الأصنام وغيرها كائنة ﴿ من دونه ﴾ تعالى :﴿ ما يملكون من قطمير ﴾ من زائدة على المفعول به فضلا أن يملك شيئا آخر وهو لفافة دقيقة على النواة فمن لم يملك كيف يستحق العبادة
﴿ إن تدعوهم ﴾ لقضاء حاجتكم ﴿ لا يسمعوا دعاءكم ﴾ لأنها جمادات، الجملة الشرطية مع ما عطف عليه، خبر ثان للموصل ولم يعطف للدلالة على استبداده لنفي الألوهية ﴿ ولو سمعوا ﴾ على سبيل الفرض أو على تقدير كون بعضهم ذا شعور كإبليس ﴿ ما استجابوا لكم ﴾ لعدم قدرتهم على الإنفاع أو لتبرئهم منكم ومما تدعون لهم من الألوهية كعيسى وعزير والملائكة ﴿ ويوم القيامة يكفرون بشرككم ﴾ أي ينكرون إشراككم إياهم يقولون ﴿ ما كنت إيانا تعبدون ﴾ ﴿ ولا ينبئك ﴾ أي لا يخبرك بحقيقة الأمر مخبر ﴿ مثل خبير ﴾ أي عالم وهو الله سبحانه فإنه هو الخبير بكل شيء على ما هو عليه، أو المعنى ولا ينبئك أيها المفتون بأسباب الغرور كما ينبئك الله الخبير بحقائق الأشياء.
﴿ يا أيها الناس أنتم الفقراء ﴾ المحتاجون ﴿ إلى الله ﴾ دائما في الوجود وتوابعه وفي البقاء وفي النجاة من النار والإثابة بالجنة وغير ذلك وتعريف الفقراء نظرا إلى افتقار سائر الخلائق بالإضافة إلى فقرهم غير معتد به فإنه حمل الأمانة مع كونه ضعيفا ظلوما جهولا، فهو أجوع من غيره ﴿ والله هو الغني ﴾ اللام للعهد أي المعروف بالاستغناء على الإطلاق والإنعام العام على الموجودات ﴿ الحميد ﴾ في نفسه مستحق الحمد من جميع خلقه
﴿ إن يشأ يذهبكم ﴾ إلى العدم دليل على كونه غنيا عنكم ﴿ ويأت بخلق جديد ﴾ بقوم آخرين بدلكم أطوع منكم أو بعالم آخر غير ما تعرفونه
﴿ وما ذلك على الله بعزيز١٧ ﴾ بمتعذر ولا متعسر.
﴿ ولا تزر وازرة ﴾ أي لا تحمل نفس آثمة ﴿ وزر ﴾ أي ثقل يعني إثم نفس ﴿ أخرى ﴾ أما قوله تعالى :﴿ وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم ﴾ ففي الضالين المضلين فإنهم حملوا أثقال ضلالهم مع أثقال ضلال أنفسهم لأنهم أضلوهم فكل ذلك أوزارهم وليس شيء منها من أوزار غيرهم، وأما ما رواه مسلم عن أبي موسى يرفعه " أنه يجيء يوم القيامة ناس من المسلمين بذنوب أمثال الجبال يغفرها لهم ويضعها على اليهود والنصارى " وما روي أيضا من وجه آخر بلفظ " إذا كان يوم القيامة رفع الله إلى كل مسلم يهوديا أو نصرانيا فيقول هذا فداك من النار ".
وروى الطبراني والحاكم وصححه أيضا عن أبي موسى نحو الرواية الأولى وابن ماجه والطبراني أيضا نحو الرواية الثانية، وأخرج ابن ماجه والبيهقي عن أنس " إذا كان يوم القيامة رفع إلى كل رجل من المسلمين رجل من المشركين فيقال هذا فداك من النار " فتأويل هذه الأحاديث عندي أن المراد بالذنوب التي توضع على الكفار أنهم ارتكبوا بتلك السيئات قبل أمة محمد صلى الله عليه وسلم وسنوا سنة سيئة واقتفى المتأخرون آثارهم في إرتكاب السيئات فلما غفرت سيئات المؤمنين تفضلا من الله تعالى بقيت سيئات الذين سنوا تلك السنة عليهم مضاعفة لأجل الإرتكاب ولأجل إبداع السنة السيئة فالوضع كناية عن إبقاء ما لحق الكافر بما سنه من عمله السيئ الذي عمل بها فاقتفاه مسلم والله أعلم.
﴿ وإن تدع ﴾ نفس ﴿ مثقلة ﴾ أثقلها أوزارها أحدا غيرها ﴿ إلى حملها ﴾ أي ليتحمل بعض أوزارها
﴿ لا يحمل منه شيء ﴾ أي لم تجب تحمل شيء منه نفي الله سبحانه أن يحمل عنها غيرها ذنبه كما نفى أن يحمل عليها ذنب غيرها ﴿ ولو كان ﴾ أي المدعو دل عليه قوله إن تدع ﴿ ذا قربى ﴾ أي ذا قرابتها، قال البغوي قال ابن عباس يلقى الأب والأم ابنهما فيقول يا بني احمل عني بعض ذنوبي فيقول لا أستطيع حسبي عملي ﴿ إنما تنذر ﴾ قال الأخفش معناه إنما تنفع بإنذارك ﴿ الذين يخشون ربهم بالغيب ﴾ غائبين عن عذابه أو عن الناس في خلواتهم أو غائبا عنهم عذابه ﴿ وأقاموا الصلاة ﴾ يعني الذين اجتنبوا المعاصي وأتوا بالواجبات خشية من عذاب الله هم المنتفعون بإنذارك واختلاف الفعلين للدلالة على استمرارهم على ذلك في جميع الأزمنة ﴿ ومن تزكى ﴾ أي تطهر من دنس المعاصي ﴿ فإنما يتزكى لنفسه ﴾ إذ نفعه لها، جملة معترضة مؤكدة لخشيتهم ﴿ وإلى الله المصير ﴾ فيجازيهم على تزكيته
﴿ وما يستوي الأعمى ﴾ عن الهدى أي الكافر أو الجاهل ﴿ والبصير ﴾ أي المؤمن والعالم
﴿ ولا الظلمات ﴾ أي الكفر ﴿ ولا النور ﴾ أي الإيمان
﴿ ولا الظل ﴾ أي الجنة والثواب ﴿ ولا الحرور ﴾ أي النار والعقاب
﴿ وما يستوي الأحياء ولا الأموات ﴾ تمثيل آخر للمؤمنين والكافرين أبلغ من الأول ولذلك كرر الفعل وقيل مثل للجهال والعلماء ﴿ إن الله يسمع من يشاء ﴾ أن يهديه فيوفقه لفهم آياته والاتعاظ بعظاته ﴿ وما أنت بمسمع من في القبور ﴾ ترشيح لتمثيل المصرين على الكفر بالأموات ومبالغة في الإقناط عنهم
﴿ إن أنت ﴾ يا محمد ﴿ إلا نذير ﴾ تخوفهم بالنار ولا تقدر على هدايتهم
﴿ إنا أرسلناك بالحق ﴾ حال من الضمير المرفوع والمنصوب أوصفة لمصدر محذوف أي محقين أو محقا إرسالا متلبسا بالحق ويجوز أن يكون صلة لقوله ﴿ بشيرا ﴾ للمؤمنين بالوعد الحق ﴿ ونذيرا ﴾ أي نبي أو من ينوبه من العلماء والاكتفاء بالنذير للعلم بأن النذارة قرينة للبشارة قد قرن به من قبل أو لأن الإنذار لهم فإن دفع الضرر أهم من جلب النفع
﴿ وإن يكذبوك ﴾ يا محمد فلا تغتم واصبر على أذاهم كما صبر قبلك من الأنبياء ﴿ فقد كذب الذين من قبلهم ﴾ أي كفار الأمم الخالية قبل كفار مكة ﴿ جاءتهم رسلهم ﴾ حال من فاعل كذب بتقدير قد ﴿ بالبينات ﴾ المعجزات الواضحات الشاهدات على نبوتهم ﴿ وبالزبر ﴾ كصحف إبراهيم ﴿ وبالكتاب المنير ﴾ كالتوراة والإنجيل على إرادة التفصيل دون الجمع أو المراد بها واحد والعطف لتغاير الوصفين يعني فصبروا على تكذيبهم
﴿ ثم أخذت الذين كفروا فكيف كان نكير٢٦ ﴾ أي إنكاري بالعقوبة أي هو واقع موقعه، قرأ ورش بإثبات الياء في الوصل فقط والباقون بحذفها وصلا ووقفا.
﴿ ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا ﴾ فيه التفات من الغيبة إلى التكلم ﴿ به ثمرات مختلفا ألوانها ﴾ أجناسها أو أصنافها على أن كلا منها مختلفة أو مختلفا هيئتها من الصفرة والخضرة والحمرة ﴿ ومن الجبال جدد ﴾ أي ذو جدد أي خطط وطرائق، جملة اسمية هي مع ما عطف عليه حال من فاعل أخرجنا على طريقة أتيتك والشمس طالعة ﴿ بيض وحمر ﴾ وصفر ﴿ مختلف ألوانها ﴾ بالشدة والضعف ﴿ وغرابيب سود ﴾ أي صخور شديدة السواد عطف على بيض أي جدد بيض وحمر وسود غرابيب فغرابيب تأكيد لسود مضمر يفسره ما بعده لأنه تأكيد وحق التأكيد باعتبار الإضمار والإظهار كذا قال البيضاوي، وقال الجلال المحلي يقال كثيرا سود غربيب وقليلا غربيب وسود، قلت : لعل ذلك القليل عند إرادة مزيد التأكيد وجاز أن يكون عطفا على جدد كأنه قيل من الجبال ذو جدد مختلف ألوانها ومنها غرابيب متحدة اللون
﴿ ومن الناس ﴾ عطف على من الجبال ﴿ والدواب والأنعام مختلف ألوانه ﴾ ذكر الضمير لأجل من وقيل تقديره ومن الناس والدواب والأنعام ما هو مختلف ألوانه ﴿ كذلك ﴾ صفة لمصدر محذوف أي اختلافا مثل اختلاف الثمار والجبال.
ولما قال : ألم تر أن الله أنزل من السماء إلى آخره ذكر أنواع المخلوقات المختلفة والأجناس والأنواع الدالة على صانعها وصفاته أتبعه بقوله ﴿ إنما يخشى الله من عباده العلماء ﴾ يعني الذين تفكروا في خلق الله واستدلوا به على ذاته وصفاته وأفعاله وآلائه بخلاف الجهال ككفار مكة والذين تجاهلوا ولم يخلص علومهم إلى قلوبهم وأنفسهم كأحبار اليهود والنصارى، قال الشيخ العارف الأجل شهاب الدين السهروردي في هذه الآية تعريض إلى أنه من لا خشية له فهو ليس بعالم.
قلت : فإن معرفة المخشي بعظمته وجلاله والعلم بصفات كماله يستلزم الخشية وانتفاء اللازم يدل على انتفاء الملزوم، قال البغوي قال ابن عباس يريد إنما يخافني من خلقي من علم جبروتي وعزني وسلطاني فكل من كان أعلم بالله وصفاته كان أخشى منه، روى الشيخان في الصحيحين عن عائشة قالت : صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا فرخص فيه فتنزه عنه قوم فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فخطب فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :" ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه فوالله إني أعلمهم بالله وأشدهم له خشية " وروى الدارمي عن مكحول مرسلا قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم ثم تلا هذه الآية ﴿ إنما يخشى الله من عباده العلماء ﴾ ".
وروى البخاري في الصحيح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" والذي نفسي بيده لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيرا ولضحكتم قليلا " فكمال الخشية للأنبياء ثم للأولياء وهم علماء الحقيقة ثم الأمثل فالأمثل قال مسروق : كفي بخشية الله علما وكفى بالاغترار جهلا، قال الشعبي العالم من يخشى الله ﴿ إن الله عزيز غفور ﴾ تعليل لوجوب الخشية لدلالة على أنه عزيز في ملكه معاقب للمصر على طغيانه غفور للتائب من عصيانه.
﴿ إن الذين يتلون كتاب الله ﴾ أي يداومون على قراءته وإتباع ما فيه حتى صارت عنوانا لهم والمراد بكتاب الله القرآن أو جنس كتب الله فيكون ثناء على المصدقين من الأمم والقراء والعلماء منهم بعد اقتصاص حال المكذبين ﴿ وأقاموا الصلاة ﴾ أي أداموها مع رعاية حقوقها ﴿ وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية ﴾ يعني كيف ما أتفق من غير قصد إليهما، وقيل السر في النافلة والعلانية في المفروضة ﴿ يرجون تجارة ﴾ أي يرجون تحصيل الثواب بالطاعة ﴿ لن تبور ﴾ أي لن تكسر ولن تهلك بالخسران صفة للتجارة
﴿ ليوفيهم ﴾ الله متعلق بمعنى لن تبور يعني يرجون تجارة نافعة ليوفيهم بإنفاقها ﴿ أجورهم ﴾ أي أعمالهم أو متعلق بفعل محذوف دل عليه ما عد من أعمالهم يعني فعلوا ذلك ليوفيهم أو بيرجون، واللام للعاقبة يعني يرجون تجارة لن تبور حتى يوفيهم الله أجورهم ﴿ ويزيدهم من فضله ﴾ على ما يقابل أعمالهم، أخرج ابن أبي حاتم وأبو نعيم عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" يوفيهم أجورهم يدخلهم الجنة ويزيدهم من فضله الشفاعة لمن وجب له النار ممن صنع إليهم المعروف في الدنيا " ﴿ إنه غفور شكور ﴾ هذه الجملة في مقام التعليل لما سبق ويرجون خبر إن وجاز أن يكون لهذا خبران بتقدير الرابط يعني أنه غفور لفرطاتهم شكور لطاعاتهم، قال ابن عباس يغفر العظيم من ذنوبهم ويشكر القليل من أعمالهم أي يجازيهم عليه وعلى هذا يرجون حال من فاعل أنفقوا، أخرج عبد الغني أن هذه الآية نزلت في حصين بن الحارث بن عبد المطلب بن عبد مناف
﴿ والذي أوحينا إليك من الكتاب ﴾ يعني القرآن ومن للبيان أو الجنس أو للتبعيض ﴿ هو الحق مصدقا لما بين يديه ﴾ أي أحقه مصدقا لما تقدمه من الكتب السماوية حال مؤكدة لأن حقيقته يستلزم موافقته إياها في العقائد وأصول الأحكام والأخبار ﴿ إن الله بعباده لخبير بصير ﴾ عالم بظواهر الأشياء وبواطنها فهو عالم بأنك حقيق لأن يوحى إليك هذا الكتاب المعجز الذي هو عيار على سائر الكتب.
﴿ ثم أورثنا ﴾ منك ذلك
﴿ الكتاب ﴾ والإرث انتقال الشيء من أحد إلى غيره، وقيل معنى أورثنا أخرنا ومنه الميراث لأنه آخر من سالف، ومعنى الآية أخرنا القرآن من الأمم الماضية وأعطينا
﴿ الذين اصطفينا من عبادنا ﴾ من للتبعيض متعلق باصطفينا أو بيان للموصول ظرف مستقر حال من الضمير المنصوب المحذوف الراجع إلى الموصول يعني اصطفيناهم من عبادنا وإضافة العباد إلى نفسه للتشريف والمراد بالموصول علماء أمة محمد صلى الله عليه وسلم من الصحابة ومن بعدهم أو الأمة بأسرها كذا قال ابن عباس، فإن الله اصطفاهم على سائر الأمم وجعلهم أمة وسطا ليكونوا شهداء على الناس وخصهم بكرامة الانتماء إلى سيد الأنبياء :
طوبى لنا معشر الإسلام إن لنا | من العناية ركنا غير منهدم |
لما دعا الله داعينا لطاعته | بأكرم الرسل كنا أكرم الأمم |
وقيل الجملة معطوفة على إن الذين يتلون والذي أوحينا اعتراض وعندي أن الجملة معطوفة على مضمون والذي أوحينا إليك هو الحق يعني أنزلنا إليك الكتاب الحق ثم أورثناه منك الذين اصطفيناهم من عبادنا
﴿ فمنهم ﴾ من هو
﴿ ظالم لنفسه ﴾ مقصد في العمل قال الله تعالى في حقهم :
﴿ وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم ﴾
وقال الله تعالى :
﴿ يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم ﴾ ﴿ ومنهم ﴾ من هو
﴿ مقتصد ﴾ يعمل على ظاهر الكتاب ولا يفوز إلى حقيقته قال الله تعالى فيهم :
﴿ وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم{ ١٠٢ ﴾ }
﴿ ومنهم ﴾ من هو
﴿ سابق بالخيرات بإذن الله ﴾ أي بإرادته فائز إلى حقائق القرآن قال الله تعالى :
﴿ والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار الذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه ﴾ وقال الله تعالى :
﴿ والسابقون السابقون أولئك المقربون ﴾ والصنفان الأولان هم أصحاب الميمنة، وقيل المقتصد من يعمل بالقرآن في غالب الأوقات والسابق من ضم إلى العمل التعليم والإرشاد.
روى البغوي بسنده عن أبي عثمان النهدي قال سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقرأ هذا فقال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" سابقنا سابق ومقتصدنا ناج وظالمنا مغفور له " قال أبو قلابة
﴿ من رواة الحديث ﴾ : فحدثت به يحيى بن معين فجعل يتعجب منه، ورواه البغوي أيضا مرفوعا، وأخرجه سعيد ابن منصور والبيهقي موقوفا على عمر. وروى البغوي بسنده عن أبي ثابت أن رجلا دخل المسجد فقال اللهم إرحم غربتي وآنس وحشتي وسق إلي جليسا صالحا، فقال أبو الدرداء رضي الله عنه : لئن كنت صادقا لأنا أسعد بك منك سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية فقال " أما السابق فيدخل الجنة فيدخل الجنة بغير حساب أما المقتصد فيحاسبه حسابا يسيرا وأما الظالم لنفسه فيحبس في المقام حتى يدخله الهم ثم يدخله الجنة ثم قرأ هذه الآية :
﴿ الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور ﴾ " ورواه أحمد وابن جرير والطبراني والحاكم والبيهقي وفيه " فأما الذين ظلموا فأولئك الذين يحبسون في طول المحشر ثم الذين تلافاهم الله برحمته لهم الذين يقولون الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور "، قال البيهقي له طرق عن أبي الدرداء قال وإذا كثرت طرق الحديث ظهر أن للحديث أصلا، قال البغوي وروي عن أسامة بن زيد في هذه الآية قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" كلهم من هذه الأمة " وكذا أخرج البيهقي عن أسامة وأخرج مثل ذلك عن كعب وعطاء أن الأصناف الثلاثة في الجنة، وأخرج ابن أبي الدنيا والبيهقي عن ابن عباس في الآية قال هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم ورثهم الله كل كتاب أنزله فظالمهم مغفور له ومقتصدهم يحاسب حسابا يسيرا وسابقهم يدخل الجنة بغير حساب، وأخرج أحمد والترمذي وحسنه والبيهقي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية قال :" هؤلاء كلهم بمنزلة واحدة وكلهم في الجنة " وأخرج الفريابي عن البراء بن عازب في قوله تعالى :
﴿ فمنهم ظالم لنفسه ﴾ الآية قال أشهد على الله أنه يدخلهم الجنة جميعا.
وأخرج ابن أبي عاصم والأصبهاني عن أبي موسى قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" يبعث الله العباد يوم القيامة ثم يميز العلماء فيقول يا معشر العلماء إني لم أضع علمي فيكم إلا لعلمي بكم ولم أضع علمي فيكم لأعذبكم انطلقوا قد غفرت لكم " وأخرج الطبراني بسند رجاله ثقات عن ثعلبة بن الحكم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يقول الله تعالى : للعلماء إذا قعد على كرسيه لفصل عباده :" إني لم أجعل علمي وحكمي إلا وأنا أريد أن أغفر لكم على ما كان منكم ولا أبالي " وأخرج ابن عساكر عن أبي عمر الصنعاني " اسمه حفص بن ميسرة " قال إذا كان يوم القيامة عزلت العلماء فإذا فرغ الله تعالى من الحساب قال لم أجعل حكمتي فيكم إلا بخير أريدكم، أريدكم أدخلوا الجنة بما منكم، وقال عقبة بن صهبان سألت عن عائشة عن قوله تعالى :
﴿ أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا ﴾ فقالت يا بني كلهم في الجنة أما السابق بالخيرات فمن مضى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة وأما المقتصد فمن اتبع أثره حتى لحق به وأما الظالم لنفسه فمثلي ومثلكم فجعلت نفسها معنا، قلت : ويمكن حمل هذه الأصناف الثلاثة على المصطفين الأخيار من هذه الأمة أي الأولياء فمنهم ظالم لنفسه وهو من يمنع نفسه عن حقوقه كما يمنعه عن حظوظه كأهل الرياضات والمجاهدات الشاقة رهبانية ابتدعوها ومنهم مقتصد يمنع نفسه عن حظوظه ويعطيه حقوقه فيصوم ويفطر ويصلي ويرقد وينكح ويأكل ويشرب ما أبيح له على ما هو السنة هم الذين قال عائشة فيهم من اتبع أثره حتى لحق به، ومنهم سابق
﴿ بالخيرات ﴾ المستغرق في كمالات النبوة وهم الصحابة رضي الله عنهم والصديقون كما قالت عائشة وزعمت عائشة نفسها من الظالمين هضما وزعمت المخاطبين منهم لأجل رياضاتهم، وبالجملة فالأحاديث كلها تدل على أن الأصناف الثلاثة من المؤمنين أومن العلماء فمن قال أريد بالظالم الكافر أو المنافق فقوله مردود. سئل أبو يوسف عن هذه الآية فقال كلهم مؤمنون وأما صفة الكفار فبعد هذا وهو قوله
﴿ والذين كفروا لهم نار جهنم ﴾ وأما الطبقات الثلاث فمن الذين اصطفى من عباده لأنه قال فمنهم ومنهم والكل راجع إلى الذين اصطفى من عباده وهم أهل الإيمان وعليه الجمهور، وقدم الظالم في الذكر لكثرة الظالمين وقلة السابقين وتوسط المقتصدين أو لأن الظلم بمعنى الميل إلى الهوى مقتضى الجملة والإقتصاد والسبق عارضان لكن الاقتصاد متوسط بين المنزلتين
﴿ ذلك ﴾ التوريث أو الاصطفاء
﴿ هو الفضل الكبير ﴾
﴿ جنات عدن ﴾ خبر مبتدأ محذوف أي هو أو مبتدأ خبره محذوف تقديره لهم جنات عدن وقوله ﴿ يدخلونها ﴾ صفة لجنات أوجنات مبتدأ ويدخلونها خبره قرأ أبو عمر وبضم الياء وفتح الخاء على البناء للمفعول من الأفعال، والباقون بفتح الياء وضم الخاء من المجرد والضمير المرفوع في يدخلونها راجع إلى الأصناف الثلاثة لما مر من الأحاديث ﴿ يحلون فيها ﴾ حال مقدرة من فاعل يدخلونها أو بدل اشتمال من يدخلون أو مستأنفة أو خبر بعد خبر لجنات عدن أوصفة بعد صفة له ﴿ من أساور من ذهب ولؤلؤا ﴾ عطف على محل أساور ﴿ ولباسهم فيها حرير ﴾ عطف على يحلون أو على جنات عدن أوحال من فاعل يحلون أو معترضة، عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم " تلا قوله تعالى :﴿ جنات عدن يدخلونها ﴾، الآية فقال " إن عليهم التيجان إن أدنى لؤلؤ منها ليضيء ما بين المشرق والمغرب " رواه الترمذي والحاكم وصححه والبيهقي قال القرطبي قال المفسرون ليس أحد من أهل الجنة إلا وفي يده ثلاثة أسورة سوار من ذهب وسوار من فضة وسوار من لؤلؤ، وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء " متفق عليه، وعن حذيفة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" لا تلبسوا الحرير ولا الديباج ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافها فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة } متفق عليه، وعن عمر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة " متفق عليه، وروى الطيالسي بسند صحيح وابن حبان والحاكم عن أبي سعيد الخدري نحوه وفي آخره " وإن دخل الجنة لم يلبسه " في الدنيا لصعق من ينظر إليه وما حملته أبصارهم.
﴿ وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن ﴾ أي يقولون ذلك كما دل عليه ما تقدم من الأحاديث ودل عليه قوله تعالى :﴿ الذي أحلنا دار المقامة ﴾ ويقولون ذلك أيضا عند البعث من القبور لحديث ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ليس على أهل لا إله إلا الله وحشة في الموت ولا في القبور ولا في النشور كأني أنظر إليهم عند الصيحة ينفضون رؤوسهم من التراب يقولون الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن " رواه الطبراني، قال ابن عباس حزن النار وقال قتادة حزن الموت، وقال مقاتل لأنهم كانوا لا يدرون ما يفعل بهم، وقال عكرمة خوف الذنوب والسيئات وخوف رد الطاعات، وقال الكلبي ما كان يحزنهم في الدنيا من أمر يوم القيامة، وقال سعيد بن جبير هم الخبز في الدنيا وقيل هم المعاش والمعاد، والحق أن المراد به جنس الحزن مطلقا ﴿ إن ربنا لغفور ﴾ للذين ظلموا على أنفسهم ﴿ شكور ﴾ للمقتصدين والسابقين
﴿ الذي أحلنا دار المقامة ﴾ مصدر ميمي أي دار الإقامة من فضله أي من إنعامه وتفضله إذ لا واجب عليه شيء، أخرج البيهقي في البعث وابن أبي حاتم من طريق نفيع بن الحارث عن عبد الله بن أبي أوفى قال : قال رجل يا رسول الله إن النوم مما يقر الله به على أعيننا في الدنيا فهل في الجنة من نوم ؟ قال لا إن النوم شريك الموت وليس في الجنة موت، قال فما راحتهم ؟ فأعظم ذلك صلى الله عليه وسلم وقال ليس فيها لغوب كل أمرهم راحة فنزلت ﴿ لا يمسنا فيها نصب ﴾ أي تعب ﴿ ولا يمسنا فيها لغوب ﴾ كلال وأعياء من التعب : ذكر الثاني التابع للأول للتصريح بنفيه ومزيد التأكيد وجملة لا يمسنا حال من مفعول أحلنا.
﴿ والذين كفروا ﴾ عطف على ثم أورثنا ﴿ لهم نار جهنم لا يقضى عليهم ﴾ أي لا يحكم عليهم بالموت ﴿ فيموتوا ﴾ أو يستريحوا منصوب بأن مقدرة في جواب النفي تقديره لا يكون عليهم قضاء بالموت فيموتوا، روى الشيخان في الصحيحين عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إذا صار أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار جيء بالموت حتى يجعل بين الجنة والنار ثم يذبح ثم ينادى يا أهل الجنة لا موت ويا أهل النار لا موت فيزداد أهل الجنة فرحا إلى فرحهم ويزداد أهل النار حزنا إلى حزنهم " وأخرج الشيخان عن أبي سعيد نحوه وفيه " يجاء بالموت يوم القيامة كأنه كبش أملح " الحديث ﴿ ولا يخفف عنهم من عذابها ﴾ طرفة عين بل ﴿ كلما نضجت جلودهم بدلوا بجلود غيرها ليذوقوا العذاب ﴾ وكلما خبت زيدوا سعيرا ﴿ كذلك ﴾ أي جزاء مثل ذلك الجزاء ﴿ نجزي كل كفور ﴾ أي كافر بالله تعالى فإنه أشد كفر من كفر نعمة منعم غير الله تعالى، قرأ أبو عمرو يجزي بضم الياء المثناة من تحت وفتح الزاء ورفع كل على غير تسمية الفاعل والباقون بالنون وفتحها وكسر الزاء ونصب كل المفعولية
﴿ وهم يصطرخون فيها ﴾ أي في النار عطف على ﴿ لهم نار جهنم ﴾ أوحال من الضمير المجرور في لهم يعني يستغيثون بشدة وعويل يفتعلون من الصراخ وهو الصياح استعمل في الاستغاثة لجهد المغيث صوته يا ﴿ ربنا أخرجنا ﴾ من النار ﴿ نعمل صالحا غير ﴾ بدل من صالحا ﴿ الذي كنا نعمل ﴾ جملة ربنا إلى آخره مقول ليقولون محذوف بيان ليصطرخون وتقييد العمل الصالح بالوصف المذكور للتحسر على ما عملوه من غير صالح أو الاعتراف به والإشعار بأن استخراجهم لتلافيه وأنهم كانوا يحسبونه صالحا والآن ظهر خلاف ذلك، يقول الله تعالى في جوابهم :﴿ أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر ﴾ الهمزة للإنكار والواو للعطف على محذوف تقديره ألم نترككم في دار التكليف ولم نعمركم ما يتذكر أي عمرا يتذكر فيه من تذكر من المؤمنين.
وقال ابن عباس ستون سنة ويروى ذلك عن علي وهو العمر الذي أعذر الله إلى ابن آدم لحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" أعذر الله إلى امرئ أخر أجله حتى بلغ ستين سنة " رواه البخاري، وكذا أخرج البزار وأحمد وعبد ابن حميد عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرج الطبراني وابن جرير عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إذا كان يوم القيامة قيل أين أبناء الستين وهو العمر الذي قال الله أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر " قلت : الظاهر أن ما يتذكر فيه من تذكر متناول لكل عمر يمكن للمكلف التفكر والتذكر فيه، ولعل معنى الحديث سلب كل عذر لكل امرئ أخر أجله حتى بلغ ستين سنة فإنه لم يبق من عمره الطبيعي الأكثر في شيء لما رواه الترمذي عن أبي هريرة وأبو يعلى في مسنده عن أنس كلاهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين وأقلهم من يجوز ذلك " وإلا فبعد البلوغ ليس له عذر معقول في ترك الصلاة وغيرها من الفرائض لاسيما الإيمان بالله ولولا كان ما يتذكر متناولا لكل عمر يمكن فيه التفكر لما كان هذا القول جوابا لكل كافر بل لمن أدرك ستين سنة فما زاد والله أعلم.
﴿ وجاءكم النذير ﴾ فما أجبتموه والنذير محمد صلى الله عليه وسلم كذا أخرج ابن أبي حاتم عن السدي وابن أبي حاتم وابن جرير عن زيد وهو قول أكثر المفسرين، وقيل القرآن، والمراد من تفسيرهم أن النذير محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن لهذه الأمة وغيرهما من الأنبياء والكتب لغيرهم، وقيل العقل وهذا على رأي من قال أن مجرد العقل كاف لوجوب الإيمان بالله حتى يحكمون بكفر شاهق الجبل إذا بلغ عاقلا ولم يبلغه دعوة نبي وهذه الجملة معطوفة على مضمون ما سبق يعني عمرنا كم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير وهذا العطف يقتضي أن النذير ليس المراد به العقل لأن العطف يقتضي المغايرة ولا مغايرة بين مجيء العقل وعمر يصلح للتفكر إلا في المفهوم فإن المعقل مأخوذ في ذلك العمر وعديم العقل لم يعمر ما يتذكر فيه من تذكر، وقال عكرمة وسفيان بن عيينة ووكيع المراد بالنذير الشيب أخرجه عن عكرمة عبد بن حميد وابن المنذر وأخرجه ابن مردويه والبيهقي في سننه عن ابن عباس يقال الشيب بريد الموت، قال البغوي وفي الأثر ما من شعرة تبيض إلا قالت لأختها استعدي فقد قرب الموت، وقيل النذير موت الأقارب والأقران ﴿ فذوقوا ﴾ العذاب ﴿ فما للظالمين من نصير ﴾ يدفع عنهم العذاب.
﴿ إن الله عالم غيب السماوات والأرض ﴾ فلا يخفى عليه أحوالهم جملة مستأنفة ﴿ إنه عليم بذات الصدور ﴾ تعليل له لأنه إذا كان عالما بمضمرات الصدور وهي أخفى ما يكون كان أعلم بغيره.
﴿ هو الذي جعلكم خلائف في الأرض ﴾ يخلف بعضكم بعضا وعلى هذا خطاب لجميع الناس، وقيل معناه لجعلكم أمة خلفت من قبلها ورأت فيمن قبلها ما ينبغي أن يعتبر به، وقيل الخليفة بمعنى المستخلف يعني جعلكم خلفاء في أرض خليفة بعد خليفة وقد ملككم مقاليد التصرف فيها وسلطكم على ما فيها وخلائف جمع خليفة والخلفاء جمع خليف ﴿ فمن كفر ﴾ منكم فعليه وبال كفره ﴿ ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم إلا مقتا ﴾ أي أشد غضبا وبغضا ﴿ ولا يزيد الكافرين كفرهم إلا خسارا ﴾ في الآخرة والتكرير للدلالة على أن إقتضاء الكفر لكل واحد من الأمرين مستقل باقتضاء قبحه ووجوب التجنب عنه.
﴿ قل ﴾ يا محمد لكفار مكة ﴿ أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله ﴾ يعني الأصنام أضاف الشركاء إليهم لأنهم جعلوهم شركاء لله أو لأنفسهم فيما يملكونه ﴿ أروني ﴾ تأكيد أو بدل اشتمال أرأيتم لأنه بمعنى أخبروني ﴿ ماذا خلقوا ﴾ مفعول ثان لرأيتم محمول على شركائهم ﴿ من الأرض ﴾ أي من أجزاء الأرض بيان لما كأنه قال أخبروني عن هؤلاء الشركاء أخبروني أي جزء من الأرض استبدوا بخلقه ﴿ أم لهم شرك ﴾ أي شركة مع الله ﴿ في خلق السماوات ﴾ فاستحقوا بذلك شركة في ألوهية ذاتية أم منقطعة بمعنى بل، والهمزة إضراب عن خلق بعض الأرض بالاستقلال واستفهام عن الشركة في السماوات ثم اضرب عنه واستفهم فقال ﴿ أم ﴾ يعني بل ﴿ أتيناهم ﴾ قال مقاتل أعطينا كفار مكة ﴿ كتابا ﴾ ينطق على ما اتخذناهم شركاء ﴿ فهم ﴾ الفاء في جواب شرط محذوف تقديره إن كان الأمر كذلك فهم يعني كفار مكة كائنون ﴿ على بينة ﴾ قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحفص وحمزة على التوحيد والباقون بينات على الجمع يعني على حجج واضحات كلها بقوله ﴿ إن يعد ﴾ أي ليستدل عليه به بل ما يعد الأسلاف الأخلاق إلا غرورا باطلا ما يغرهم إلا بلا سند يشهد عليه ﴿ يقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله ﴾
﴿ إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ﴾ أي لئلا تزولا أو كراهة أن تزولا أو يمنعهما أن تزولا فإن الممكن حال بقائه لا بد له من علة تحفظه كما لا بد له في إيجاده من علة ﴿ ولئن زالتا ﴾ بمقتضاه إمكانها إن لم يوجد من الله سبحانه إفاضة الوجود اللام للقسم ﴿ إن أمسكهما ﴾ يعني ما أمسكهما ﴿ من أحد من بعده ﴾ أي من بعد الله أي سواه أو بعد الزوال وجملة إن الله يمسك إلى آخره سد مسد الجوابين يعني لم يخلق شيئا أحد غيره وليس لأحد شركة معد من الأولى زائدة والثانية للإبتداء ﴿ إنه كان حليما غفورا ﴾ فبحلمه أمهل الكفار ولم يستعجل في عقوبتهم وبغفرانه غفر المسلمين ولولا إمهاله وغفرانه لم يمسك السماوات والأرض فيسقط السماء عليهم وينخسف بهم الأرض بذنوبهم.
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن أبي هلال أنه بلغه أن قريشا كانت تقول لو أن الله بعث منا نبيا ما كانت أمة من الأمم أطوع لخالقها ولا أسمع لنبيها ولا أشد تمسكا بكتابها منا فأنزل الله تعالى :﴿ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا ﴾
﴿ وأقسموا بالله جهد أيمانهم ﴾ منصوب على المصدرية من أقسموا لأن الأيمان بمعنى الإقسام يعني أقسموا إقساما بليغة أو من المحذوف تقديره أقسموا بالله جهدوا جهد أيمانهم أوحال من فاعل أقسموا يعني جاهدين في إيمانهم على طريقة مررت به وحده، قال البغوي بلغ قريشا قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم أن أهل الكتاب كذبوا رسلهم قالوا لعن الله اليهود والنصارى أتتهم رسلهم فكذبوهم فأقسموا ﴿ لئن جاءهم نذير ﴾ رسول من الله ﴿ ليكونن أهدى ﴾ جواب قسم في اللفظ وجواب شرط أيضا في المعنى ﴿ من إحدى الأمم ﴾ السالفة يعني من كان من الأمم السالفة على هدى فنحن نكون أهدى منهم قالوا ذلك لما رأوا تكذيب اليهود والنصارى بعضهم بعضا ﴿ قالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء ﴾ ﴿ فلما جاءهم نذير ﴾ من الله يعني محمدا صلى الله عليه وسلم ﴿ ما زادهم ﴾ مجيئه ﴿ إلا نفورا ﴾ أي تباعدا من الحق وهذا إسناد مجازي
﴿ استكبارا في الأرض ﴾ عن الإيمان بدل من نفور أو مفعول له أوحال ﴿ ومكر السيئ ﴾ أي العمل القبيح.
قال الكلبي هو اجتماعهم على الشرك، قلت : هو إرادتهم بالنبي صلى الله عليه وسلم أن يثبتوه أو يقتلوه أو يخرجوه، أصلة وإن مكروا المكر السيئ فحذف الموصوف استغناء بوصفه ثم بدل أن مع الفعل بالمصدر ثم أضيف، قرأ حمزة السيئ ساكنة الهمزة في الوصل لتوالي الحركات تخفيفا كما سكن أبو عمرو والهمزة في بارئكم وإذا وقف أبدلها ياء ساكنة أيضا وهي قراءة الأعمش والباقون بخفض الهمزة ويجوز رومها وإسكانها في الوقف ﴿ ولا يحيق ﴾ أي لا يحل ﴿ المكر السيئ إلا بأهله ﴾ يعني بمن مكروا قد حاق بهم يوم بدر فقتلوا، قال ابن عباس لا يحيق عاقبة الشرك إل بمن أشرك يعني وبال شركهم راجع إليهم ﴿ فهل ينظرون ﴾ أي ينتظرون ﴿ إلا سنت الأولين ﴾ أي سنة الله فيهم يعني استبصارهم إن أصروا على الكفر ﴿ فلن تجد لسنة الله تبديلا ﴾ يعني سنة الله لا يتبدل ولا يتغير فلم يبق من أهل مكة إلا من أمن منهم ﴿ ولن تجد لسنت الله تحويلا ﴾ بأن ينقله من المكذبين إلى غيرهم.
﴿ أولم يسيروا ﴾ الاستفهام للإنكار والواو للعطف على محذوف تقديره ألم يشاهدوا آثار الماضين ولم يسيروا ﴿ في الأرض فينظروا ﴾ مجزوم عطفا على يسيروا أو منصوب بتقدير أن بعد النفي ﴿ كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ﴾ يعني قد شاهدوا في مسيرهم إلى الشام واليمن والعراق آثار الماضين ﴿ وكانوا ﴾ حال بتقدير قد يعني والحال أنه قد كان الذين قبلهم ﴿ أشد منهم ﴾ أي من أهل مكة ﴿ قوة ﴾ ومع ذلك قد أهلكوا ولم يغني عنهم قولهم شيئا فما لهم أي لأهل مكة لا يعتبرون بهم ﴿ وما كان الله ليعجزه ﴾ أي ليسبقه ويفوته ﴿ من شيء ﴾ من زائدة وشيء في محل الرفع فاعل ليعجزه ﴿ في السماوات ولا في الأرض ﴾ ظرف مستقر صفة لشيء أو ظرف لغو متعلق بيعجزه ﴿ إنه كان عليما ﴾ بالأشياء كلها وبما يستحقها ﴿ قديرا ﴾ على كل شيء بما يشاء.
ولما سبق من أن كفرهم يقتضي استئصالهم كما هو سنة الله في الذين من قبلهم وقد كانوا أشد منهم قوة ذكر سبب إمهالهم فقال﴿ ولو يؤاخذ الله الناس ﴾ في الدنيا عاجلا ﴿ بما كسبوا ﴾ من المعاصي ﴿ ما ترك على ظهرها ﴾ أي ظهر الأرض ﴿ من دابة ﴾ نسمة تدب عليها بشؤم معاصيهم أومن دابة عاصية وهو الأظهر لقوله تعالى :﴿ ولكن يؤخرهم ﴾ أي يؤخر مؤاخذتهم ﴿ إلى أجل مسمى ﴾ وهو ما بعد الموت أو يوم القيامة ﴿ فإذا جاء أجلهم فإن الله كان بعباده ﴾ قال ابن عباس يريد به جميع العباد أهل طاعته وأهل معصيته ﴿ بصيرا ﴾ فيجازيهم على حسب أعمالهم.