ﰡ
(١) - يَحْمَدُ اللهُ تَعَالى نَفْسَهُ الكَرِيمةَ عَلَى ابْتِدَائِهِ خَلْقَ السَّمَاواتِ وَالأَرْضِ، عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ سَبَقَ (فَاطِرِ)، فَأَبْدَعَ الخَلْقَ، وَأَحْكَمَ نَظْمَهُ وَتَدْبِيرَهُ، وَهُوَ تَعَالى الذِي جَعَلَ المَلاَئِكَةَ وُسَطَاءَ وَرُسُلاً بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَنْبِيَائِهِ، يُبَلِّغُونَهُمْ رِسَالاتِ رَبِّهِمْ. وَقَدْ جَعَلَ مِنَ المَلاَئِكَةِ مَنْ لَهُ جَنَاحَانِ، وَمَنْ لَهُ ثَلاَثَةُ أَجْنِحَةٍ، وَمَن لَهُ أَرْبَعَةٌ، وَمَنْ لَهُ أَكْثَرُ مِنْ ذلِكَ، وَيَزِيدُ تَعَالى فِي خَلْقِ الأَجْنِحَةِ مَا يَشَاءُ، وَهُوَ تَعَالى قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيءٍ، وَلاَ يُعْجِزُهُ شَيءٌ.
فَاطِرِ - مُبْدْعِ وَمُخْتَرِعِ.
مَا يَفْتَحِ - يُرْسِلْ أَوْ مَا يُعْطِ.
(٣) - يَا أَيُّها النَّاسُ اذكُروا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ عَلَيكُم، واحْفَظُوها بِمَعْرِفَةِ حَقِّها، وَالاعْتِرِافِ بِهَا، والشُّكْرِ عَليها، وَخُصُّوهُ تَعَالى بِالعِبَادَةِ والطَّاعَةِ، فَهُوَ الذِي يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ، بِمَا يُنْزِلُهُ مِنَ المَطَرٍ، وَمِنَ الأَرْضِ، بِمَا يُخْرِجُهُ مِنْ زُرُوعٍ وَثِمَارٍ، فَكَيفَ تُصْرِفُونَ عَن الحَقِّ، وَهُوَ عِبَادَةُ اللهِ الخَالِقِ الرَّازِقِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَتَعْبُدُونَ الأَصْنَامَ وَالأَوْثَانَ؟
فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ - فَكَيفَ تُصَْفُونَ عَنْ تَوْحِيدِهِ.
(٥) - يَا أَيُّها النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ بِالبَعْثِ وَالنُّشُورِ وَالحِسَابِ وَالجَزَاء.. هُوَ وَعْدٌ حَقٌّ لاَ شَكَّ فِيهِ وَلاَ مِرْيَة، فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الحَيَاةُ الدُّنيا، وَلاَ تُلْهِيَنَّكُمْ بِزُخْرُفِها وَزينتِها، عَنْ طَلَبِ مَا يَنْفَعُكُمْ يَوْمَ حُلُولِ مَوْعِدِ الحَشْرِ، وَبَعْثِ الخَلائِقِ، وَلاَ تَدَعُوا الشَّيطَانَ يَغُرَّكُمْ، وَيَفْتِنْكُمْ، وَيَصرِفْكُمْ عَن اتِّبَاعِ رُسُلِ اللهِ، وَتَصْدِيقِ كَلِمَاتِهِ، فَإِنهُ غَرَّارٌ كَذَّابٌ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمْ - فَلاَ تَخْدَعَنَّكُمْ وَلاَ تُلْهِيَنَّكُمْ.
الغَرُورُ - الذِي يَغُرُّ النَّاسَ وَيَغشُّهُمْ وَهُوَ هُنَا الشَّيَطانُ.
(٦) - إن الشَّيطَانَ عَدُوٌّ لَكُمْ يَا أَيَّها النَّاسُ، وَهُوَ يُوَسْوِسُ لَكُمْ لِيُضِلَّكُمْ وَيَدْفَعَ بِكُمْ إِلى هَاوِيةِ الجَحِيمِ، فَاحْذَرُوا مِنْهُ وَكُونُوا أَنْتُمْ أَعْدَاءَهُ، وَخَالِفُوهُ وَكَذِّبُوهُ فِيما يَغُرَّكُمْ بِهِ، وَهُوَ يَدْعُو حِزْبَهُ وَأَوْليَاءَهُ وَشِيعَتَهُ، إِلى اتِّبَاعِ الهَوى، والرُّكُونِ إِلى اللذَّاتِ، وَالتَّسْوِيفِ بِالتَّوْبَةِ، لِيُضِلهُمْ وَيُلْقِيَهمْ فِي العَذَابِ الدَّائِمِ، فِي سَعيرِ جَهَنَّمَ.
(٧) - والذينَ كَفَرُوا باللهِ وَرُسُلِهِ وَأَطَاعُوا الشَّيطَانَ، وَعَصَوْا الرَّحْمَنَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ يومَ القِيَامَةِ، أَمّا الذِينَ آمنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ، وَعَمِلُوا الأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ التِي تُرْضِي اللهِ، فَإِنَّ اللهَ يَعِدُهُمْ بِأَنْ يَغْفِرَ لَهُمْ ذُنُوبَهُمْ وَيثُيِبَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الثَّوَابَ العَظِيمِ.
(٨) - أَفَمَنْ حَسَّنَ لَهُ الشَّيطَانُ عَمَلَهُ السَّيِّءَ، مِنْ مَعَاصِي اللهِ، وَالكُفْرِ بِهِ، وَالإِشْرَاكِ فِي عِبَادَتِهِ مَنْ هُمْ دُونَهُ.. فَرَأى ذَلِكَ حَسَناً، وَظَنَّ قَبِيحَهُ بِهِ جَمِيلاً، هَلْ لَكَ يَا مُحَمَّدُ فِيهِ حِيلةٌ؟ وَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْتَ أَنْ تَهْدِيَهُ إِلى الحَقِّ والصَّوَابِ؟ وَهَلْ يَسْتَوِي هَذا الضاَّلُّ مَعَ مَنْ هَدَاهُ اللهُ، وَوَفَّقَهُ إِلى الإِيمَانِ فَرَأَى الحَسَنَ حَسَناً فَفَعَلَهُ، وَالقَبيحَ قَبِيحاً فَاجِتَنَبَهُ؟ إِنَّ ذَلِكَ إِنَّما يَتِمُّ بِقَدرٍ مِنَ اللهِ، فَهُوَ تَعَالى الذِي يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ، وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ، وَلاَ رَادَّ لأَمْرِهِ، وَقَدَرِهِ، فَلاَ تَأْسَفْ أَنْتَ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِدَعْوَتِكَ، وَعَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ، فَإِنَّ اللهَ حَكِيمٌ فِي قَدَرِهِ، وَهُوَ تَعَالى عَليمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ، وَسَيَجِزِيهِمِ بِهِ.
فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيهِمْ حَسَرَاتٍ - فَلاَ تُهْلِكْ نَفْسَكَ عَلَيهِمْ هَمّاً وَحُزْناً.
(٩) - يَلْفِتُ اللهُ تَعَالى نَظَرَ المُشْرِكينَ، المُنْكِرِينَ لِلبَعْثِ والحِسَابِ وَالعِقَابِ، إِلى أَنَّهُ يُرْسِلُ الرَّياحَ فَتُثيرُ السَّحَابَ، وَتجْعَلُهُ يَتَكَوَّنُ في جَوِّ السَّمَاءِ، ثُمَّ تَسُوقُهُ الرِّياحُ إِلى الأَرْضِ المَوَاتِ، التِي لاَ نَبَاتَ فِيها، فَيُفْرِغُ السَّحَابُ مَا فِيهِ مِنْ فَوْقَ هذِهِ الأَرْضِ المَيِّتَةِ، فَتَحْيا الأَرْضُ بِالمَاءِ، وَتَهْتَزُّ وَتَرْبُو، وَيَخْرُجُ مِنْها النَّبَاتُ. وَكَمَا أحيَا اللهُ تَعَالى الأَرْضَ المَيِّتَةَ، وَأَخْرَجَ مِنْهَا النَّبَاتَ النَّضِيرَ، كَذَلك يُحْيِي اللهُ الأَمْوَاتَ مِنَ البَشَرِ، وَيُخْرِجُهُمْ مِنْ قُبُورِهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ لِيُحَاسِبَهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ.
تُثيرُ سَحَاباً - تُحَرِّكُهُ وَتُهَيِّجُهُ.
النُّشُورُ - بَعْثَ المَوْتَى مِنَ القُبُورِ.
(١٠) - مَنْ كَانَ يُريدُ أَنْ يَكُونَ عَزِيزاً فِي الدُّنْيا وَالآخِرَةِ، فَلْيَلْزَمْ طَاعَةَ اللهِ، فَإِنَّهُ يُدْرِكُ بِذَلِكَ مَا يُريدُ، لأنَّ اللهَ مَالكُ الدُّنيا والآخِرَةِ، سوَلَهُ العِزَّةُ جَميعاً. واللهُ تَعَالَى يَقْبَلُ طَيِّبَ الكَلامِ (كَالتَّوحِيدِ وَالذِّكْرِ وَقِرَاءَةِ القُرآنِ). وَالعَمَلُ الصَّالِحُ الذِي أَخْلَصَ العَبْدُ فِيهِ النِّيَّةَ يَرْفَعُ الكَلِمَ الطَّيِّبَ إِلى اللهِ، لِيُثِيبَ العَبْدَ عَلَيهِ (أَوْ وَاللهُ يَرْفَعُ العَمَلَ الصَّالِحَ فَيَقْبَلُهُ) أَمَّا العَمَلُ الذِي لا إِخلاصَ فِيهِ فَلاَ ثَوَابَ عَليهِ. والذينَ يَمْكُرُونَ المَكْرَ السَّيِّءَ بِالمُسْلِمِينَ، وَيَعْمَلُونَ مَا يُسيءُ إِلَيْهِمْ، وَمَا يُضْعِفِ أَمَرَهُمْ وَيُشَتِّتُ جَمْعَهُمْ وَيُفَرِّقُ كَلِمَتَهُمْ، فَإِنَّ اللهَ يُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً أليماً وَمَكْرُهُمْ يَذْهَبُ وَيَضْمَحِلُّ، وَلا يُحَقِّقُ غَرَضاً، لأَنَّهُ سَيَنْكَشِفُ عَمَّا قَريبٍ.
الكَلِمُ الطِّيِّبُ - كَلِمَةُ التَّوْحِيدِ وَعِبَادَاتُ اللِّسَانِ.
العَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ - يَرْفَعُ اللهُ العَمَلَ الصَّالِحَ وَيَقْبَلُهُ.
يَبُورُ - يَفْسُدُ وَيَبْطُلُ.
(١١) - وَاللهُ تَعَالى خَلَقَ آدَمَ أَبَ البَشَرِ مِنْ تُرابٍ، ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ يَتَنَاسَلُونَ عَنْ طَريقِ التَّزَاوُجِ فَيُخْلَقُونَ مِنْ مَاءٍ مَهِينِ يُصَبُّ فِي الأَرْحَامِ، ثُمَّ جَعَلَ البَشَرَ أصنَافاً (أَزْوَاجاً) ذُكُوراً وَإِنَاثاً، وَجَعَلَ للأَنْفُسِ أَزْوَاجاً مِنْ جِنْسِها لِيَسْكُنَ بَعْضُها إِلى بَعْضٍ وَيَطْمَئِنَّ، وَجَعَلَ عَدَدَ الإِنَاثِ مُقَارِباً عَدَدَ الذُّكُورِ لِحِفْظِ النَّوعِ، وَلاَ تَكُونُ المُقَارَبَةُ فِي العَدَدِ إِلاّ بِعِلْمٍ وَتَقْدِيرٍ وَتَدْبيرٍ، وَلا تَحْمِلُ الإِنَاثُ وَلاَ تَضَعُ، إِلاَّ بِعِلْمِ اللهِ وَتَقْدِيرِهِ لاَ يَخْفَى عَلَيهِ شيءٌ مِنْ ذَلِكَ. وَلاَ يَقْضِي عَلَى أَحَدٍ بِطُولِ العُمُرِ إِلاَّ بَلَغَ مَا قَدَّرَهُ اللهُ لَهُ، لاَ يَزِيدُ عَلَيهِ وَلاَ يَنْقُصُ، وَلا يَقْضي عَلَى أَحَدٍ بِقِصَرِ العُمْرِ إِلا اسْتَوفَى مَا قُدِّرَ لَهُ بِدُونِ زِيَادَةٍ وَلا نُقْصَانٍ. وَكُلُّ ذلِكَ مَكْتُوبٌ فِي أُمِّ الكِتَابِ عِنْدَ اللهِ.
وَضَبْطُ هذا النِّظَامِ البَديعِ القَائِمِ فِي الكَوْنِ هُوَ أَمْرٌ هَيِّنٌ عَلَى اللهِ، لأَنَّهُ تَعَالى عَالِمٌ بِكُلِّ شَيءٍ، وَقَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيءٍ.
أَزْوَاجاً - ذُكُوراً وَإِناثاً.
مُعَمَّرٍ - طَوِيلِ العُمْرِ.
(١٢) - يُنَبِّهُ اللهُ تَعَالى العِبَادَ إِلى قُدْرَتِهِ العَظِيمَةِ عَلَى خَلْقِ الأَشْياءِ المُخْتَلِفَةِ: فَخَلَقَ المِيَاهَ: مِنْهَا مَا هُوَ عَذْبٌ صَافٍ شَدِيدُ العُذُوبَةِ، تَقْبَلُ النَّفْسُ تَنَاوَلَهُ بِسُهُولَةِ (سَائِغٌ شَرَابُهُ)، وَهِيَ المِيَاهُ التِي تَحْويها الأَنْهَارُ وَأَكْثَرُ البُحَيْراتِ وَالآبَارِ.. فَيَشْرَبُها الإِنْسَانُ وَالحَيَوَانُ، زَتُسْقَى مِنْهَا النَّبَاتَاتُ. وَمِنْهَا مَا هُوَ مِلْحٌ شَدِيدُ المُلُوحَةِ (أُجَاجٌ)، كمِياهِ البِحَارِ وَبَعْضِ البُحَيراتِ.
ثُمَّ يَقُولُ تَعَالى إِنَّ البَشَرَ يَسْتَخْرِجُونَ مِنْ كِلاَ المَاءَيْنِ: العَذْبِ وَالمِلْحِ، لَحْماً طَرِيّاً يَتَغَذَّوْنَ بِهِ هُوَ لَحْمُ الأَسْمَاكِ والحَيَوانَاتِ المائِيَّةِ.
وَيَسْتَخرِجُونَ حِلْيَةً (لآلِئَ وَمَرْجَاناً وَغَيرَها) يَلْبَسُها النّاسُ. وَتَجْرِي السُّفُنُ فِي كَلا المَاءَيْنِ (تَمْخُرُ) وَهِيَ تَحْمِلُ النَّاسَ وَالأَنْعَامَ والأَقْوَاتَ والبِضَائِعَ مِنْ قُطْرٍ إِلى قُطْرٍ، لِينْتَفِعَ بِهَا النَّاسُ، وَيَتَكَسَّبُوا بِالاتِّجَارِ بِها.
وَلاَ يَسْتَوي فِي عِلْمِ اللهِ البَحْرَانِ المِلْحُ وَالعَذْبُ، وَإِنِ اشْتَرَكَا فِي بَعْضِ خَصَائِصِهِمَا وَمَنَافِعِهِمَا، وَقَدْ سَخَّرَ اللهُ تَعَالى كُلَّ ذَلِكَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ وَيَعْتَبِرُونَ، وَيَشْكُرُونَ اللهَ عَلَى أَنْعِمِهِ وَآلائِهِ.
عَذْبٌ فُراتٌ - حُلْوٌ شَدِيدُ العُذُوبَةِ.
سَائِغٌ شَرَابُهُ - مَرِيءٌ سَهْلٌ ابْتِلاعُهُ.
مِلْحٌ أُجَاجٌ - مِلْحٌ شَدِيدُ المُلُوحَةِ.
مَوَاخِرَ - تَشُقُّ عُبَابَ المَاءِ بِحَيَازِيمِهَا.
(١٣) - وَمِنْ عَظِيمِ قُدْرَتِهِ تَعَالى: أَنَّهُ جَعَلَ اللَيْلَ وَالنَّهارَ يَتَنَاوَبَانِ الطُّولَ والقِصَرَ، فَيأخُذُ أَحَدِهِمَا لِيُضيفَهُ إِلى الآخَرِ، ثُمَّ يَعْتَدِلاَنِ، ثُمَّ يَطُولُ الذِي كَانَ مِنْهُمَا قَصيراً، وَيَقْصُرُ الآخَرُ، وَسَخَّرَ الشَّمْسَ والقَمَرَ لِلْخَلقِ فِي جَرَيَانِهِما، لِمَعْرِفَةِ عَدَدِ السِّنينَ وَالحِسَابِ، وَلِمَدِّ الأَرْضِ بِالحَرَارةِ والنُّورِ والدِّفْءِ المُعْتَدِلِ، لِتَبْقَى الحَيَاةُ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ، وَلا تَزَالُ الشَّمْسُ وَالقَمَرُ يَجْرِيَانِ هكَذَا إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، وَهُوَ الأَجَلُ المُسَمَّى لَهُمَا. وَالذِي فَعَلَ هذَا كُلَّهُ هُوَ اللهُ تَعَالى رَبُّ الخَلْقِ كُلِّهِ، الذِي لا تَصِحُّ العِبَادَةُ إِلاَّ لَهُ، فَهُوَ صَاحِبُ الخَلْقِ، وَصَاحِبُ المُلْكِ. أَمَّا مَنْ يَدْعُوهُمُ المُشْرِكُونَ آلِهَةً مِنْ دُونِهِ، مِنْ أَصْنَامٍ وَأَوْثَانٍ فإَنَّهُمْ لاَ يَمْلِكونَ شَيئاً، حَتَّى الحَقِيرَ مِنَ الأَشْيَاءِ، وَلِذَلِكَ فإِنَّهُمْ لاَ يسْتَحِقُّونَ العِبَادَةَ.
لأَجَلٍ مُسَمى - لأَجِلٍ مُقَدَّرٍ لِفَنَائِهِمَا، وَهُوَ يَوْمُ القِيَامَةِ.
قَِطمِيرٍ - غِلاَلةٍ رَقِيقَةٍ تَلُفُّ نَوَاةَ التَّمْرِ.
(١٤) - أَمَّا الذِينَ يَدْعُوهُمُ المُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَصْنَامٍ وأَوْثَانٍ، فَإٍِنَّهُمْ لاَ يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ، وَلاَ لِمَنْ يَعْبُدُونَهُمْ نَفْعاً وَلا ضَرّاً. وَإِذا دَعَاهُمْ عَابِدُوهُم لَمْ يَسْمَعُوا دُعَاءَهُمْ، وَإِذا سَمِعُوا الدُّعاءَ فإِنَّهُمْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ الاسْتِجَابَةَ إِلى شَيءٍ مِمّا يَطْلُبُونَ. وَيَومَ القِيَامَةِ يَتَبَرَّأُ المُعْبُودُونَ مِنْ شِرْكِ العَابِدِينَ، وَيَقُولُونَ لَهُمْ: مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ، بَلْ كُنْتُم تَعْبُدُونَ أَهْوَاءَكُمْ وَشَهَواتِكُمْ، وَلا يُخْبرُكَ عَنْ حَقِيقَةِ أمرِ هذِهِ الآلِهَةِ، وَأَمرِ مَنْ عَبَدُوها يَوْمَ القِيَامَةِ، إِلا ذٌو خِبْرةٍ وَمَعْرِفَةٍ بالذِي سَيَقَعُ هُنَاكَ، وَهُوَ اللهَ تَعَالى وَحْدَهُ.
(١٥) - يَا أَيُّها النَّاسُ أَنْتُم مُحْتَاجُونَ إِلى اللهِ تَعَالى فِي جَمِيعِ أُمُورِكُمْ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ غَنِيٌّ عَنْكُم، وَعَنْ عِبَادَتِكُمْ، فَكُلُّ نِعْمَةِ بِكُمْ فَهِيَ مِنْهُ، فَلَهُ الحَمْدُ والشُّكرُ عَلَى كُلِّ حَالٍ.
(١٨) - وَيَوْمَ القِيَامَةِ لاَ تَحْمِلُ نَفْسٌ مُذْنِبَةٌ ذَنْبَ نَفْسٍ أُخْرَى، بَلْ تَحْمِلُ كُلُّ نَفْسٍ وِزْرَهَا فَحَسْبُ، وَإِنْ تَسْأَلْ نَفْسٌ تُثْقِلُهَا الذُّنُوبُ نَفْساً أُخْرى، لِتَحْمِلَ عَنْهَا شَيْئاً مِنْ ذُنُوبِها لَمْ تَجِدْ مَنْ يُجِيبُها إِلى مَا تَطْلُبُ، وَلَوْ كَانَ المَدْعُوُّ إلى الحَمْلِ قَريباً مِنَ النَّفْسِ السَّائِلَةِ: كَأَبٍ أَوْ أَخٍ، لأنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مَشْغُولٌ فِي ذَلِكَ اليَومِ بِمَا فِيهِ ﴿لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾ وَلا يَحْزُنْكَ أَيُّها النَّبِيُّ عِنَادُ قَوْمِكَ، فَإِنَّما يَنْفَعُ النُّصْحُ مَعَ الذِينَ يَخْشَوْنَ اللهَ، وَيَخَافُونَ شَدِيدَ عِقَابِهِ يَومَ القِيَامَةِ، إيمَاناً وَتَصدِيقاً بِمَا جِئْتَهُمْ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَعَايِنُوه بِأَنْفُسِهِم (يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالغَيبِ)، وَهُمْ يُؤَدُّونَ الصَّلاَةَ بِخُشُوعٍ تَامٍّ، وَيِتُمُّونَها بِرُكُوعِها وَسُجُودِها (أَقَامُوا الصَّلاة). وَمَنْ تَطَهّرَ مِنْ أَرْجَاسِ الشِّرْكِ، وَجَانَبَ المَعَاصِي فَإِنَّمَا يَعُودُ نَفْعُ ذَلِكَ عَلَيهِ. وَيَصِيرُ الخَلْقُ جَميعاً إِلى اللهِ تَعَالى يَوْمَ القِيَامَةِ، لِيجْزِيَ كُلَّ وَاحِدٍ بعَمَلِهِ فِي الدُّنيا.
لاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ - لاَ تَحْمِلُ نَفْسٌ آثِمَةٌ.
مُثْقَلَةٌ - نَفْسٌ أَثْقَلَتْها الذُّنُوبُ.
تَزَكَّى - تَطَهَّرَ مِنَ الكُفْرِ وَالمَعَاصِي.
(٢٠) - وَلاَ تَسْتَوِي ظُلْمَةُ الكُفْرِ، ولا نُورُ الإِيمَانِ.
الحَرُورُ - شِدَّةُ الحَرِّ لَيلاً كالسَّمُومِ.
(٢٢) - وَلاَ يَسْتَوي أَحْيَاءُ القُلُوبِ بِالإِيمَانِ، مَعَ أَمْواتِ القُلُوبِ بِغَلَبةِ الكُفْرِ عَلَيْها، حَتَّى صَارَتْ لاَ تَعِي، وَلاَ تَعْقِلُ، وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلى سَمَاعِ الحُجَّةِ سَمَاعَ قَبُولٍ. وَكَمَا أَنَّكَ يَا مُحَمَّدُ لاَ تَسْتَطِيعُ إِسْمَاعَ الأَمْوَاتِ فِي قُبُورِهِمْ، كَذَلِكَ فَإِنَّكَ يَا مُحَمَّدُ لاَ تَسْتَطِيعُ إِسْمَاعَ الأَمْوَاتِ فِي قُبُورِهِمْ، كَذَلِكَ فَإِنَّكَ لاَ تَسْتَطِيعُ إِسْْمَاعَ المُعَانِدينَ الذِينَ مَاتَتْ قُلُوبُهُمْ بِالكُفْرِ وَالعِنَادِ.
(٢٤) - وَقَدْ أَرْسَلَكَ اللهُ تَعَالى بِالحَقِّ والصِّدْقِ، لِتُبَشِّرَ المُؤْمِنينَ بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ، وَتُنْذِرَ الكَافِرينَ المُكَذِّبينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أليماً مِنَ اللهَ. وَليسَ فِي الأُمَمِ السَّالِفَةِ البَائِدَةِ أُمةٌ إِلا وَجَاءَها مُنْذِرٌ مِنَ اللهِ يَدْعُوهَا إِلى عِبَادَةِ رَبِّها وَتَوْحِيدِهِ، وَيُنْذِرُها بِعَذَابٍ أَلِيمٍ إِنْ استَمَرَّتْ مُقِيمَةً عَلَى مَا هِي عَليهِ مِنْ كُفْرٍ وَطُغْيانٍ وَضَلالٍ، لِكَيلاً يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ.
(٢٥) - وَيُسَلِّي اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ ﷺ لِمَا يُلاَقِيهِ مِنْ تَكْذِيبِ قَوْمِهِ، وَمِنْ إِصْرَارِهِمْ عَلَى الكُفْرِ وَالعِنَادِ، فَيَقُولُ لَهُ: إِنْ كَانَ قَوْمُكَ قَدْ كَذَّبُوكَ، فَلا تَحْزَنْ لِذَلِكَ، فَقَدْ كَذَّبَتِ الأُمَمُ السَّالِفَةُ رُسُلَهَا لَمَّا جَاؤُوهُمْ بِالبَيِّنَاتِ، وَالمُعْجِزَاتِ، وَالدَّلاَلاَتِ، والكُتُبِ الواضِحَةِ التِي أنْزَلها اللهُ عَلَى رُسُلِهِ (كالتَّورَاةِ والإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ وَصًحًفِ إِبراهيمَ) التِي تَدُلُّ كُلُّها عَلَى وُجُودِ اللهِ تَعَالى، وَوَحْدَانِيَّتِهِ، وَعَلى صِحَّة مَا جَاءَتْهُمْ بِهِ النُّبُوَّاتُ.
الزُّبُر - الكُتُبُ المَكْتُوبَةُ كَصُحُفِ إِبراهِيمَ وَمُوسَى.
الكِتابِ المُنِيرِ - الكِتَابِ الوَاضِحِ.
كَانَ نَكِيرِ - إِنكَارِي عَلَيْهِمْ بِالتَّدْمِيرِ.
(٢٧) - يُنَبِّهُ اللهُ تَعَالَى العِبَادَ إِلى قُدْرَتِهِ العَظِيمَةِ عَلَى خَلقِ الأَشياءِ المُخْتَلِفَةِ، المُتَنَوِّعَةِ المُظَاهِرِ وَالأِشْكالِ، مِنَ الشَّيءِ الوَاحِدِ، فَيَقُولُ تَعَالى إِنَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَطَراً فَأَرْوَى بِهِ الأَرْضَ، فَأَخْرَجَتْ ثِمَاراً مُخْتَلِفَةَ الألوانِ والطُّعُومِ والرُّوَائِحِ، وَإِنَّه خَلَقَ الجِبَالَ كَذَلِكَ مُخْتَلِفَةَ الأَلْوَانِ، فَمِنْهَا الأَبْيَضُ وَمِنْهَا الأَحْمَرُ وَمِنْهَا الأَسْوَدُ الغِرْبِيْبُ.
جُدَدٌ - ذَاتُ طُرُقٍ وَخُطُوطٍ مُخْتَلِفَةِ الأَلْوَانِ.
غَربيب أسود - شَدِيدُ السَّوادِ كَالأًغْرِبَةِ.
(٢٨) - وَجَعَلَ اللهُ تَعَالى النَّاسَ والدَّوابَّ والأَنْعَامَ مُخْتَلِفِي الأَلوَانِ والأَشْكَالِ في الحِنْسِ الوَاحِدِ، فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاس لاَ يَعْرِفُونَ ذَلِكَ حَقَّ المَعْرِفَةِ، والذِي يَعْرِفُهُ منْهُمْ هُم العَالِمُونَ بأَسْرَارِ الكَوْنِ، العَارِفُونَ بِعَظِيمِ قُدْرَةِ اللهِ تَعَالى، فَهَؤُلاءِ هُمُ الذِينَ يَخْشَوْنَ اللهَ، وَيتَّقُونَ عِقَابَهُ، فَيَعْمَلُونَ بِطَاعَتِهِ. واللهُ عَزيزٌ فِي انتِقَامِهِ مِمَّنْ كَفَرَ بِهِ، غَفُورٌ لِذُنُوبِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَأَطَاعَهُ.
(٢٩) - إِنَ عِبَادَ اللهِ المُؤْمِنينَ الذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ، وَيُؤْمِنُونَ بِهِ، وَيَعْمَلُونَ بِمَا فِيهِ مِنْ أَوَامِرَ: مِنْ إِقامَةِ الصَّلاةِ وأَدائها بِخُشُوعِها، وَإِتْمَامِها بِرُكُوعِها وسُجُودِها، وَمِنَ الإِنْفَاقِ مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ سِراً وَعَلاَنِيةً فِي سَبيلِ اللهِ عَلَى الفُقَراءِ والمُحْتَاجِينَ، وفيمَا فِيهِ خيرُ الجَمَاعَةِ المُسلِمَةِ، إِنَّ هؤلاءِ العِبَادَ المُؤْمِنينَ، الذِينَ يَقُومُونَ بِذَلِكَ، يَرْجُونَ الثَّوَابَ عَلَى أَفْعَالِهِمْ، عِنْدَ اللهِ، وَسَتَكُونُ تِجَارَتُهُمْ رَابِحَةً عِندَ اللهِ، وَلَنْ تَكْسُدَ.
لَنْ تَبُورَ - لَنْ تَكْسُدَ، أَوْ لَنْ تَفْسُدَ وَتَهْلِكَ.
(٣١) - وَهذَا القُرآنُ الذِي أَوْحَاهُ اللهُ إِليكَ، يَا مُحَمَّدُ، هُوَ الحَقُّ، وَهُوَ يُصَدِّقُ الكُتُبَ السَّابِقَةَ فِيما جَاءَتْ بِهِ، وَهِيَ بَشَّرَتْ بِهِ، وَنَوَّهَتْ بِذِكْرِهِ فَعَلى المُؤمِنينَ أَنْ يَعْمَلُوا بِما جَاءَ فِي القُرآنِ لِيَفُوزُوا وَيَنْجُوا مِنَ العَذَاب الأََلِيمِ، وَاللهُ خَبِيرٌ بأَحْوَالِ العِبَادِ، بَصِيرٌ بِما يَصْلُحُ لَهُمْ مِنْ شَرْعٍ وَأَحْكَامٍ.
(٣٢) - ثُمَّ جَعَلَ اللهُ تَعَالى القَائِمِينَ بالقُرآنِ العَظيمِ، هُمُ الذِينَ اصْطَفَاهُمْ مِنْ عِبَادِهِ، مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ، وَأَوْرَثَهُمُ الكِتَابَ. وَقَالَ تَعَالى في مَكَانٍ آخَرَ: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الذِينَ اصْطَفَاهُمُ اللهُ لِلقِيَامِ بِالقُرآنِ هُمْ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَجَعَلَهُمْ أقسَاماً ثَلاَثَةً:
- مِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُفَرِّطٌ فِي فِعْلِ بَعْضِ الوَاجِبَاتِ، مُرْتَكِبٌ بَعْضَ المُحَرَّمَاتِ.
- وَمِنْهُمْ مُقَتَصِدٌ، وَهُوَ القَائِمُ بِالوَاجِبَاتِ، التَّارِكُ لِلْمُحَرَّمَاتِ، وَقَدْ يُقَصِّرُ في فِعْلِ بَعْضِ المُسْتَحَبَّاتِ، وَيَفْعَلُ بَعْضَ المَكْرُوهَاتِ.
- وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالخَيْرَاتِ - وَهُوَ الفَاعِلُ لِلْوَاجِبَاتِ، وَالمُسْتَحَبَّاتِ، التَّارِكُ لِلْمُحَرَّماتِ والمَكْرُوهَاتِ.
وَذَلِكَ المِيرَاثُ، وَذَلِكَ الاصْطِفَاءُ، فَضْلٌ عَظِيمٌ مِنَ اللهِ لاَ يُقَدَّرُ قَدْرُهُ.
(٣٣) - وهؤلاءِ الكِرَامُ الذِينَ اصْطَفَاهُمْ اللهُ من عباده، الذين أُوْرِثُوا القُرآنَ، والكُتُبَ السَّابِقَةَ، سَتَكُونُ جَنَّاتُ الإِقَامَةِ (جَنَّاتُ عَدْنٍ) هِيَ مأْوَاهُمْ، يَوْمَ القِيَامَةِ، وَيَلْبَسُونَ فِيها حَلِيّاً مِنْ ذَهَبٍ، وَلُؤْلُؤٍ، وَيَلْبَسُونَ فِيهَا ثِيَاباً مِنْ حَرِيرٍ، وَهذِهِ الجَنَّاتُ هِيَ الفَضْلُ الكَبِيرُ الذِي مَنَّ اللهُ بِهِ عَلَيْهِمْ.
الحَزَنَ - مَا يُغِمُّ وَيُحْزِنَ وَيُخِيفُ.
دَارَ المُقَامَةِ - دَارَ الإِقَامَةِ الدَّائِمَةِ (الجَنَّةَ).
النَّصَبُ والُّلغُوبُ - التَّعَبُ والإِعْيَاءُ.
(٣٧) - وَفِي النَّارِ يَذُوقُ الكَافِرُونَ المُجْرِمُونَ حَرَّ النَّارِ وَلَهيبَها، فَيَأْخَذُونَ فِي الاسْتِغَاثَةِ والاصْطِرَاخِ والضَّجِيجِ وَيَقُولونَ: رَبَّنا أَخْرِجْنا مِن النَّارِ، وَأَعِدْنا إلى الدُّنيا، لِنَعْمَلَ صَالِحاً، وَنَتَّبعَ الرُّسُلَ، وَنُقْلِعَ عَمَّا كُنَّا فِيهِ مِنَ الكُفْرِ وَالمَعَاصِي وَالإِجْرَامِ. وَلكِنَّ الله تَعَالى يَعْلَمُ أَنَّهُمْ إِنْ عَادُوا إِلى الدًُّنيا عَادُوا إِلى ما كَانُوا عَلَيهِ مِنَ الكُفْرِ وَالمَعَاصِي، وَلِذَلِكَ يَرُدُّ عَلَيهِمْ قَائِلاً وَمُقَرِّعاً (أَوْ تَرُدُّ عَلَيهِمُ المَلائِكَةُ بِأَمْرِ اللهِ تَعَالى) : أَلَمْ نَجْعَلْكُمْ تَعِيشُونَ فِي الدُّنيا أَعْماراً؟ وَلَوْ كُنْتُم مِمَّنْ يَنْتَفِعُونَ بِالحَقِّ لانْتَفَعْتُمْ بِهِ مَدَّةَ عُمْركُمْ في الدُّنيا. وَجَاءَكُمُ الرَّسُولُ وَمَعَهُ كِتَابٌ يُنْذِرُكُمْ بِالعِقَابِ إِنْ خَالَفْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ، وَتَرَكْتُمْ طَاعَتَهُ، فَلَمْ تَعْتَبِرُوا، وَلَمْ تَتَّعِظُوا، وَلِذلِكَ فَلاَ سَبيلَ لَكُمْ إِلى الخُرُوجِ مِمَّا أَنْتُم فِيهِ مِنَ العَذَابِ، فَذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ عِقَاباً لَكُمْ عَلَى كُفْرِكُمْ ومُخَالَفَتِكُمْ الأَنْبِياءَ، وَلَنْ تَجِدُوا لَكُمْ نَاصِراً يَنْصُرُكُمْ مِنْ بأسِ اللهِ، وَلاَ مُنْقِذاً يُنْقِذُكُمْ مِمّا أَنْتُمْ فِيهِ مِنَ العَذابِ.
يَصْطَرِخُونَ - يَسْتَغِيثُونَ وَيَضِجُّونَ وَيَصِيحُونَ بِشِدَّةٍ.
(٣٨) - واللهُ عَالِمٌ بِما انْطَوَتْ عَلَيهِ ضَمَائِرُ المُجْرِمينَ الظَّالِمينَ، مِنْ تَصْمِيمٍ عَلَى الكُفْرِ وَالضَّلاَلِ، فَمَهْمَا طَالَتْ أعْمَارُهُمْ فَلَنْ تَتَغَيَّر حَالُهم، وَلَوْ أَعادَهُمْ إِلى الدُّنيا لَعَادُوا إِلى فِعْلِ مَا نُهُوا عَنْهُ، لأَنَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، وَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّهُ السَّرَائِرُ، وَمَا تَنْطَوي عَلَيهِ الضَّمَائِرُ، وَسَيُجَازِي كُلَّ عَامِلٍ عَلَى عَمَلِهِ.
(٣٩) - وَهُوَ تَعَالى الذِي جَعَلَكُمْ فِي الأَرْضِ خُلَفَاءَ، يَخْلُفُ جِيلٌ مِنْكُمْ جِيلاً آخَرَ، وَيَنْتَفِعُ فِي الأَرْضِ، وَيَتَصَرَّفُ بِما فِيها، لِتَشْكُرُوهُ بالطَّاعَةِ والتَّوْحِيدِ والعِبَادَةِ، فَمَنْ عَصَى أَمْرَ رَبِّهِ وَجَحَج بِآيَاتِهِ، وَكَفَر بِخَالِقِهِ، وَبِمَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيهِ، فَإِنَّما يَعُودُ وَبَالُ ذَلِكَ عَليهِ، لأَنَّهُ هُوَ الذِي سَيَلْقَى العِقَابَ عَلَى ذَلِكَ يَوْمَ القِيَامَةِ.
وَاسْتِمْرَارُ هؤُلاءِ فِي الكُفْرِ يَزِيدُ فِي كُرْهِ اللهِ، وَبُغْضِهِ لَهُمْ، وَكُلَّمَا اطْمَأَنُّوا إِلى كُفْرِهِمْ زَادَتْ خَسَارَتُهُمْ لأَنْفُسِهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَحَقَّ عَلَيهِمْ سُوءُ العَذَابِ.
جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ - خُلَفَاءَ مِنْ كَانَ قَبْلَكُمْ.
مَقْتاً - أَشَدَّ البُغْضِ وَالغَضَبِ والاحْتِقَارِ.
خَسَاراً - هَلاَكاً وخُسْرَاناً.
(٤٠) - قلْ يَا مُحَمَّدُ لِهؤلاَءِ المُشْرِكينَ: أَخْبِرُونِي، أَيُّها المُشْرِكُونَ بِاللهِ، عَنْ شُرَكَائِكُمُ الذِينَ تَدْعُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ، مِنَ الأَصْنَامِ والأَوْثَانِ: أَيُّ شيءٍ خَلَقُوهُ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَمِنَ الأَرْضِ، أَوْ مِنَ البَشَرِ وَالمَخْلُوقَاتِ حَتَّى استَحَقُّوا أَنْ يَكُونُوا آلِهَةً تَعْبُدُونَهُمْ؟ أَمْ لَهُمْ شَرِكَةٌ مَعَ اللهِ فِي خَلْق السَّمَاوَاتِ حَتَّى اسْتَحَقُّوا مَا زَعَمْتُمْ؟
أَمْ أَنَّ الله أَنْزَلَ عَلَيهِمْ كِتَاباً يَقُولُ لَهُمْ فِيهِ إِنَّ اللهَ تَعَالى اتَّخَذَ هذِهِ المَعْبُودَاتِ شُرُكَاءَ لَهُ فِي الأُلُوهِيَّةِ، فَكَانَ ذَلِكَ الكِتَابُ حُجَّةً لِلْمُشْرِكِينَ عَلَى أَنَّ مَعْبُودَاتِهِمْ لَهَا شَرِكَةٌ مَعَ اللهِ؟ وَفِي الحَقِيقَةِ إِنَّهُمْ إِنَّما اتَّبَعُوا فِي ذَلِكَ أَهْوَاءَهُمْ، وَأَمَانِيِّهُم التِي تَمَنَّوها لأَنْفُسِهِمْ، وَهِيَ غُرُورٌ وُبَاطِلٌ وَزورٌ.
أَرَأَيْتُم شُرَكَاءَكُمْ - أَخْبِرُوني عَنِ شُرَكَائِكُمْ.
أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ - بَلْ أَلَهُمْ شَركَةٌ مَعَ اللهِ فِي الخَلْقِ.
غُرُوراً - خِدَاعاً وَبَاطِلاً.
(٤١) - إِنَّ اللهَ تَعَالى بِقُدْرَتِهِ العَظِيمَةِ جَعَلَ السَّمَاوَاتِ والأَرْضَ مُسْتَقِرَّةً، تَسيرُ فِي أَفْلاَكِها بِانْتِظَامٍ وَهُدوءٍ، وَقُدْرَتُهُ تَعَالى هِيَ التِي تَمنَعُها مِنَ الاضْطِرَابِ وَالخُرُوجِ عَنْ مَسَارَاتِها، والانفلاتِ في الفَضَاءِ عَلَى غَيرِ هُدَى. وَإِذا أَشْرَفَتْ عَلَى الزَّوَالِ، مَا اسْتَطَاعَ أَحَدٌ غَيْرُ اللهِ أَنْ يُمْسِكَها، وَهُوَ تَعَالَى مَعَ عَظيمِ قُدْرَتِهِ، وَوَاسِعِ سُلْطَانِهِ، حَلِيمٌ غَفورٌ يَرَى عِبَادَهُ يَعْصُونَهُ، وَيَكْفُرُونَ بِهِ، فَيَحْلُمُ عَلَيهِمْ، وَيُؤَخِّرُ عِقَابَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَتُوبُونَ إِليهِ فَيَغْفِرَ لَهُمْ، وَيَتَجَاوَزَ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ.
(٤٣) - وَلَمْ يَزِدْهُمْ مَجِيءُ الرَّسُولِ إِلاّ اسْتِكْبَاراً فِي الأَرْضِ عَنِ اتِّبَاعِ آياتِ اللهِ، وَمَكَرُوا بِالنَّاسِ مَكْراً سَيِّئاً فَصَدُّوهُمْ عَنْ سَبيلِ اللهِ، وَالمَكْرُ السَّيِّئُ لا تَعُودُ نَتَائِجُهُ وَعَوَاقِبُهُ إِلاَّ عَلَى أَصْحَابِهِ أَنْفُسِهِمْ.
فَهَلْ يَنْتَظِرُ هؤلاءِ المُشْرِكُونَ إِلاَّ أَنْ يُنْزِلَ اللهُ بِهِمْ نِقْمَتَهُ وَعَذَابَهُ، جَزَاءً لَهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ، وَمَكْرِهِمْ، وَتَكْذِيبِهِمْ رَسُولَ رَبِّهمْ، كَمَا أَنْزَلَ نِقْمَتَهُ وَعَذَابَهُ بِمَنْ سَبَقَهُمْ مِنَ المكذِّبينَ؟ وتِلْكَ سُنَّةُ اللهِ في كُلِّ كَافرٍ مُسْتَكْبِرٍ مُكَذِّبٍ، ولا تبديلَ لِسُنَّةِ اللهِ، وَلا تَحوِيلَ لها، فَلَنْ يَجْعَلَ الرَّحْمَةَ موضعَ العذابِ، ولنْ يُحوِّلَ العَذَابَ مِنْ شَخْصٍ إِلى آخرَ.
وَمَكْرُ السَّيءِ - والمَكْرُ السَّيءُ - وهوَ هنا الكَيدُ للرَّسُولِ ﷺ.
لا يَحِيقُ - لاَ يُحِيطُ أو لا يَنْزِلُ.
فَهَلْ يَنْظُرُونَ - فما يَنْتَظِرُونَ.
سُنَّةُ الأولينَ - سُنَّةُ اللهِ فِيهِمْ بِتَعْذِيبِهِمْ لِتَكْذِيبِهِمْ رُسُلَ رَبِّهِمْ.
(٤٤) - أَوْ لَمْ يَسِرْ هؤُلاءِ المُشْرِكُونَ المُكَذِّبُونَ مِنْ قَوْمِكَ يَا مُحَمَّدُ في الأَرْضِ التِي أًهْلَكْنا أَهْلَها بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ وَتَكْذِيِبِهم رُسُلَ رَبِّهم، أثناءَ رِحْلاَتِهم في تِجَارَاتِهم، فينظروا كَيْفَ أَهْلَكْنَا المُكَذِّبينَ السَّالِفِينَ، وَدَمَّرْنَا عَليهم تَدْميراً، وَلَمْ نَتْرُكْ لَهُمْ مِنْ بَاقيةٍ؟ وَكَانَ أُولئِكَ السَّالِفُونَ أَكْثَرَ قُوَّةً مِنْ مُشْرِكِي قومِكَ فكانَ حَرِيّاً بِمُشْرِكِي قُريشٍ أَنْ يَتَّعِظُوا بِمَا رَأَوْه، وأَنْ يَزْدَجِرُوا عِمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ الْكُفْرِ والطُّغْيَانِ والتَّكْذِيبِ. واللهُ تَعالى لا يُعجزُه إِدراكُ شيءٍ في السَّمَاواتِ أَوْ في الأَرْضِ، لذَلِكَ فإِنَّ هؤلاءِ لا يُمْكِنُ أَنْ يَفُوتُوا اللهَ، ولا أَنْ يُفْلِتُوا منْ عِقَابِهِ، إِنْ أَرَادَ إهْلاَكَهُم وَعِقَابَهم. وَهُوَ يَعْلَمُ مَنْ يَسْتَحِقُّ أن تُعَجَّلَ لَهُ العُقُوبَةُ، فَيُعَجِّلُهَا لَهُ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهِ اسْتِعْدادٌ للتَّوْبَةِ، فَيَؤخِّرُهُ لِيَتُوبَ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلى الانْتِقَامِ مِمَّنْ شَاءَ، وَعَلَى هِدَايَةِ مَنْ شَاءَ إلى الإِيمانِ.