ﰡ
وتسمى: سورة الملائكة، مكية، وآيها: خمس وأربعون آية، وحروفها: ثلاثة آلاف ومئة وثلاثون حرفًا، وكلمها: سبع مئة وسبع وسبعون كلمة.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١)﴾.[١] ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ تقدم الكلام فيه أول سورة سبأ وقبلها ﴿فَاطِرِ﴾ أي: خالق ﴿السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ والمراد: الانفراد بالابتداء؛ لخلقها على غير مثال سبق.
﴿جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا﴾ وسائطَ بينه وبين أنبيائه في تبليغ رسالاته بالوحي.
﴿أُولِي﴾ أي: أصحاب ﴿أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ﴾ لبعضهم جناحان، ولبعضهم ثلاثة، ولبعضهم أربعة، وروي أن لجبريل عليه السلام ستَّ مئة جناح، منها اثنان تبلغ من المشرق إلى المغرب (١).
﴿إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ من الزيادة والنقصان. واختلاف القراء في الهمزتين من (يَشَاءُ إِنَّ) كاختلافهم فيهما من (نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمَّى) في سورة الحج [الآية: ٣٣].
﴿مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢)﴾.
[٢] ﴿مَا يَفْتَحِ﴾ أي: ما يرسل ﴿اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ﴾ نعمة، ونُكِّرت؛ لتشيع في جميع النعم ﴿فَلَا مُمْسِكَ لَهَا﴾ لا يستطيع أحد حبسها، وأنث الضمير؛ ردًّا إلى لفظ الرحمة ﴿وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ﴾ أي: من بعد إمساكه تعالى له، وذكر الضمير؛ ردًّا إلى معناها؛ لأن الرحمة بمعنى الخير ﴿وَهُوَ الْعَزِيزُ﴾ فيما أمسك.
﴿الْحَكِيمُ﴾ فيما أرسل.
[٣] ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا﴾ احفظوا ﴿نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾ بشكرها، ولا تنسوها بكفرها، والخطاب لقريش، وهو متجه لكل كافر، ولا سيما لعبَّادِ غيرِ الله، و (نِعْمَت) رسمت بالتاء في أحد عشر موضعًا، وقف عليها بالهاء: ابن كثير، وأبو عمرو، والكسائي، ويعقوب.
﴿هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ﴾ قرأ أبو جعفر، وحمزة، والكسائي، وخلف: (غَيْرِ اللهِ) بخفض الراء نعتًا لـ: (خَالِقٍ) على اللفظ، وخبرُ الابتداء: ﴿يَرْزُقُكُمْ﴾ وقرأ الباقون: برفعها نعتًا لـ (خَالِقٍ) محلًا (١)؛ لأن (خالق) مبتدأ محذوف الخبر، و (مِنْ) زائدة، تقديره: هل خالقٌ غيرُ الله يرزقكم ﴿مِنَ السَّمَاءِ﴾ المطر ﴿وَالْأَرْضِ﴾ النبات والاستفهام على طريق التقرير؛ أي: لا خالقَ غيرُ الله يرزقكم.
﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ﴾ فكيف تُصرفون عن الإيمان؟!
﴿وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٤)﴾.
[٤] ثم سلَّى نبيه - ﷺ - بما سلف من حال الرسل مع الأمم، فقال تعالى:
﴿وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾ وتنكير الرسل يؤذن بكثرة من كُذِّب منهم. قرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي، ويعقوب، وخلف: (تَرْجِعُ) بفتح التاء وكسر الجيم، والباقون: بضم التاء وفتح الجيم (١).
﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (٥)﴾.
[٥] ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ﴾ بالبعث وغيره ﴿حَقٌّ﴾ لا خُلْفَ فيه.
﴿فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ﴾ الشيطان بتزيينه، وقوله: إن الله يغفر الذنوب جميعًا، اعملوا ما شئتم.
﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (٦)﴾.
[٦] ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ﴾ قديمًا ﴿فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا﴾ فاحذروه.
﴿إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ﴾ أتباعه ﴿لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾ يسوقهم إلى النار.
[٧] ثم بين حال موافقته ومخالفته، فقال: ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ﴾.
ونزل في أبي جهل ومشركي مكة، وقيل: في أصحاب الأهواء والبدع:
﴿أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (٨)﴾.
[٨] ﴿أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ﴾ (١) أي: لُبس عليه ومُوِّه ﴿سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا﴾ جميلًا؛ بوسوسة الشيطان. واختلاف القراء في قوله: (فَرَآهُ) كاختلافهم في قوله: ﴿وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ في سورة الأنبياء [الآية: ٣٦]، والاستحسان لغة: هو اعتقاد الشيء حسنًا، وعرفًا: العدول بحكم المسألة عن نظائرها لدليل شرعي، وقال به الحنفية، والإمام أحمد في مواضع، وكتب أصحاب مالك مملوءة منه، ولم ينص عليه، وأنكره الشافعي.
﴿فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ تلخيصه: أفمن ضل، كمن هُدي؟!
﴿فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ﴾ والحسرة: شدة الحزن على ما فات من الأمر؛ أي: لا تغتمَّ بكفرهم وهلاكهم إن لم يؤمنوا. قرأ أبو جعفر:
﴿إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ﴾ فيجازيهم عليه.
﴿وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ (٩)﴾.
[٩] ﴿وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ﴾ قرأ ابن كثير، وحمزة، والكسائي: (الرِّيحَ) بغير ألف على الإفراد، والباقون: بألف على الجمع (٢).
﴿فَتُثِيرُ سَحَابًا﴾ هذه آية احتجاج على الكفرة في إنكارهم البعث من القبور، فدلهم تعالى على المثال الذي يعاينونه، وهذا سواء مع إحياء الموتى.
﴿فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ﴾ هو الذي لا نبت فيه قد اغبرَّ من القحط. قرأ نافع، وأبو جعفر، وحمزة، والكسائي، وخلف، وحفص عن عاصم: (مَيِّتٍ) بتشديد الياء، والباقون: بتخفيفها (٣) ﴿فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ يبسها.
﴿كَذَلِكَ النُّشُورُ﴾ أي: مثل إخراج النبات من الأرض تخرجون من القبور.
(٢) انظر: "التيسير" للداني (ص: ٧٨)، و"الكشف" لمكي (١/ ٢٧٠)، و "معجم القراءات القرآنية" (٥/ ١٧٦).
(٣) انظر: "التيسير" للداني (ص: ٧٨)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣٦١)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ١٧٧).
[١٠] ولما تعزز الكفار بأصنامهم، نزل قوله تعالى:
﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا﴾ المعنى: عزةُ الدارين مختصة بالله سبحانه وتعالى، فلا تُطلب إِلَّا منه بتقواه، ومن أراد التعزز، فليتعزز بطاعته تعالى ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ﴾ هو: لا إله إِلَّا الله، ونحوها.
﴿وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾ اختلف في الضمير في (يَرْفَعُهُ) على من يعود؟ فقيل: يرجع إلى الكَلِم، فيكون المعنى: أن الكلم الطيب يرفع العمل الصالح؛ بأن يُتقبل منه بسببه؛ لأنّ الطّاعة إنّما تقبل مع التوحيد؛ لأنّ طاعة الكافر مردودة، وقيل: يرجع إلى (العمل)، فيكون المعنى: أن العمل الصالح يرفع الكلم الطيب، فكأن التّوحيد إنّما قُبل بسبب الطّاعة؛ لأنّ التّوحيد مع المعصية لا ينفع؛ لأنّه يعاقب على المعصية، وقال بعضهم: الفعل مسند إلى الله تعالى؛ أي: والعمل الصالح يرفعه الله تعالى، بأن يتقبله، قال ابن عطية -رحمه الله-: وهذا أرجح الأقوال (١).
﴿وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ﴾ أي: مكروا المكرات ﴿السَّيِّئَاتِ﴾ والمراد: مكر المشركين به - ﷺ - حين اجتمعوا في دار الندوة، وتقدم ذكر القصة في الأنفال، المعنى: المحتالون في هلاكك.
* * *
﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (١١)﴾.
[١١] ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ﴾ يعني (١): آدم ﴿ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ﴾ يعني: بالتناسل من مَنِيِّ (٢) الرجال ﴿ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا﴾ أنواعًا، وقيل: ذكرانًا وإناثًا.
﴿وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ﴾ إِلَّا معلومة له.
﴿وَمَا يُعَمَّرُ﴾ أي: ما يطول عمر ﴿مِنْ مُعَمَّرٍ﴾ أي: طويل العمر، سمي بما يؤول إليه ﴿وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ﴾ أي: من عمر معمر آخر. قرأ يعقوب: (يَنْقُصُ) بفتح الياء وضم القاف، والباقون: بضم الياء وفتح القاف (٣).
﴿إِلَّا فِي كِتَابٍ﴾ هو اللوح المحفوظ.
﴿إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ وقوله: ﴿إِنَّ ذَلِكَ﴾ إشارة إلى تحصيل هذه الأعمار، وإحصاء دقائقها وساعاتها.
(٢) "مني" زيادة من "ت".
(٣) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٥٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ١٧٨).
[١٢] ثمّ ضرب مثلًا للمؤمن والكافر فقال: ﴿وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ﴾ يعني: العذب والمالح، ثمّ ذكرهما.
فقال: ﴿هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ﴾ طيب يكسر العطش.
﴿سَائِغٌ شَرَابُهُ﴾ لذيذ سلس الدخول في الحلق.
﴿وَهَذَا﴾ أحدُهما ﴿مِلْحٌ أُجَاجٌ﴾ شديد الملوحة.
﴿وَمِنْ كُلٍّ﴾ منهما ﴿تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا﴾ هو السمك، وصف بالطراة؛ لتسارع الفساد إليه، فيسارع إلى أكله طريًّا.
﴿وَتَسْتَخْرِجُونَ﴾ من الملح خاصّة.
﴿حِلْيَةً﴾ زينة ﴿تَلْبَسُونَهَا﴾ وهي اللؤلؤ والمرجان، فدل على أنّهما من الحلي، ولم يقل هنا: منه؛ لأنّه معلوم، وقد ذكر في سورة النحل.
﴿وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ﴾ تمخر الماء؛ أي: تشقه بجريها فيه مقبلة ومدبرة بريح واحدة.
﴿لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ﴾ تعالى بالتجارة، وكلِّ سفر له وجهٌ شرعي.
﴿وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ اللهَ على نعمه، استطراد في صفة البحرين وما فيهما من النعم، والمعنى: كما أنّهما وإن اشتركا في بعض الفوائد لا يتساويان من حيث إنهما لا يتساويان فيما هو المقصود بالذات من الماء، فإنّه خالط أحدهما ما أفسده وغيره عن كمال فطرته، وكذلك لا يتساوى
* * *
﴿يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (١٣)﴾.
[١٣] ﴿يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ﴾ معنى يولج: يُدْخِل، وهذه عبارة عن أن ما نقص من اللّيل زاد في النهار، فكأنّه دخل فيه، وكذلك كلّ ما نقص من اللهار يدخل في اللّيل.
﴿وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى﴾ هي مدة دوره.
﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ﴾ الإشارة إلى الفاعل لهذه الأشياء.
﴿وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ﴾ تعالى من الأصنام.
﴿مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ﴾ هي القشرة الرّقيقة الملتفة على النواة، وتقدم تفسير الفتيل والنقير في سورة النِّساء [الآية: ٥٣ و ٧١].
* * *
﴿إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (١٤)﴾.
[١٤] ﴿إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ﴾ لأنّهم جماد.
﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ﴾ أي: بإشراككم لهم، وعبادتكم إياهم، ويتبرؤون منكم.
﴿وَلَا يُنَبِّئُكَ﴾ بأحوال الدارين ﴿مِثْلُ خَبِيرٍ﴾ عالمٍ به، وهو الله تعالى.
* * *
﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (١٥)﴾.
[١٥] ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ﴾ بكل حال.
﴿وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ﴾ عن جميع خلقه ﴿الْحَمِيدُ﴾ المحمود على صنعه.
واختلاف القراء في الهمزتين من (الْفُقَرَاءُ إِلَى) كاختلافهم فيهما من (نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) في سورة الحجِّ [الآية: ٥].
* * *
﴿إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٦)﴾.
[١٦] ﴿إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ﴾ بإهلاككم.
﴿وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ بدلَكم.
* * *
﴿وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (١٧)﴾.
[١٧] ﴿وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ﴾ بمتعذر.
* * *
[١٨] ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ أي: لا يحمل أحد ذنب غيره، وأمّا قوله: ﴿وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ﴾ [العنكبوت: ١٣]، فالمراد: الضالون والمضلون، وإضلال تابعيهم من جملة ذنوبهم، فلذلك حملوه.
﴿وَإِنْ تَدْعُ﴾ نفس ﴿مُثْقَلَةٌ﴾ وبالذنوب ﴿إِلَى حِمْلِهَا﴾ الّذي عليها من الذنوب.
﴿لَا يُحْمَلْ مِنْهُ﴾ من حملها ﴿شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ﴾ المدعو ﴿ذَا قُرْبَى﴾ ذا قرابة؛ كأم وأب وأخ.
﴿إِنَّمَا تُنْذِرُ﴾ إنّما ينتفع بإنذارك ﴿الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ﴾ أي: يخافونه، ولم يروهُ، وخص الخاشون بالإنذار. لأنّهم هم المنتفعون به ﴿وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ﴾ خص من الأعمال إقامة الصّلاة؛ تنبيهًا عليها، وتشريفًا لها، ثمّ أومأ تعالى إلى غناه عن خلقه بقوله:
﴿وَمَنْ تَزَكَّى﴾ تَطهَّر عن دنس المعاصي، وأصلح العمل.
﴿فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ﴾ فصلاحُه مختصٌّ به.
﴿وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ﴾ فيجازيهم على تزكيتهم.
* * *
﴿وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (١٩)﴾.
[١٩] ﴿وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ﴾ المؤمن والكافر، وقيل: الجاهل والعالم.
[٢٠] ﴿وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ﴾ أي: الشرك والإيمان؛ أي: لا تساوي بينهما، وقوله: (وَلَا النُّورُ) دخول (لَا) فيها وفيما بعدها إنّما هو على نيّة التكرار؛ كأنّه قال: ولا الظلمات والنور، ولا النور والظلمات، فاستغنى بذكر الأوائل عن الثواني، ودل مذكور الكلام على متروكه.
* * *
﴿وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (٢١)﴾.
[٢١] ﴿وَلَا الظِّلُّ﴾ الجنَّة.
﴿وَلَا الْحَرُورُ﴾ النّار، وقال ابن عبّاس: الحرور: الريح الحارة ليلًا، والسموم نهارًا (١).
* * *
﴿وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (٢٢)﴾.
[٢٢] ﴿وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ﴾ المؤمنون ﴿وَلَا الْأَمْوَاتُ﴾ الكفار، وقيل: العلماء والجهال، كلها أمثال ضُربت للمؤمن والكافر.
﴿إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ﴾ الإنذارَ سماعَ هداية (٢) ﴿مَنْ يَشَاءُ﴾ إيمانَه.
﴿وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ﴾ يعني: الكفار، شبههم في عدم الانتفاع بالمقبور.
(٢) "الإنذار سماع هداية" زيادة من "ت".
[٢٣] ﴿إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ﴾ ما أنت إِلَّا منذر تخوفهم بالنار، ونُسخ معناها بآية السيف.
* * *
﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (٢٤)﴾.
[٢٤] ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ﴾ محققين (١) ﴿بَشِيرًا﴾ بالوعد ﴿وَنَذِيرًا﴾ بالوعيد.
﴿وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ﴾ من الأمم الماضية ﴿إِلَّا خَلَا﴾ مضى ﴿فِيهَا نَذِيرٌ﴾ نبي يُنذر من عذاب الله، واكتفى بنذير هنا عن ذكر بشير؛ لدلالته عليه؛ لأنّ النذارة قرينة البشارة، وهما مذكوران قبل، وأمّا فترة عيسى، فلم يزل فيها من هو على دينه، وداعٍ إلى الإيمان.
* * *
﴿وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (٢٥)﴾.
[٢٥] ﴿وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ وقد.
﴿جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ﴾ بالمعجزات.
﴿وَبِالزُّبُرِ﴾ كصحف إبراهيم ﴿وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ﴾ الواضح، وهو التوراة والإنجيل، والبينات والزبر والكتاب المنير شيء واحد، لكنه أكد
* * *
﴿ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (٢٦)﴾.
[٢٦] ثمّ توعد قريشًا بذكر الأمم الكافرة فقال: ﴿ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ﴾ أي: إنكاري بالعقوبة، وتقدم اختلاف القراء في (نَكِيرِ) في آخر سبأ [الآية: ٤٥].
* * *
﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (٢٧)﴾.
[٢٧] ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ المراد: رؤية القلب ﴿أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً﴾ ورجع من خطاب بذكر الغائب إلى المتكلم بنون العظمة؛ لأنّه أهيبُ في العبارة.
فقال: ﴿فَأَخْرَجْنَا بِهِ﴾ بالماء ﴿ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا﴾ كالخضرة والصفرة والحمرة والبياض والسواد، وغير ذلك، وقيل: المراد: أجناسها وأصنافها، قدم النعت على الاسم، فلذلك نصب.
﴿وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ﴾؛ أي: طرق تكون في الجبال ﴿بِيضٌ وَحُمْرٌ﴾ واحدتها جُدَّة.
﴿مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا﴾ بالشدة والضعف.
* * *
﴿وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (٢٨)﴾.
[٢٨] ﴿وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ﴾ أي: كاختلاف الثمرات والجبال، وتم الكلام هاهنا، ثمّ ابتدأ.
فقال: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ قال ابن عبّاس: "يريد: إنّما يخافني من خلقي من علم جبروتي وعزتي وسلطاني (١) "، وتقديم اسم الله تعالى وتأخير العلماء يؤذن بأنّه لا يخشى اللهَ تعالى إِلَّا العلّماءُ، ولو عكس، لكان المعنى: أن العلماءَ لا يخشون الله (٢) نحو ﴿وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ﴾ [الأحزاب: ٣٩].
﴿إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ﴾ في ملكه ﴿غَفُورٌ﴾ لذنوب عباده. واختلاف القراء في الهمزتين من (العُلَمَاءُ إِنَّ) كاختلافهم فيهما من ﴿الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ﴾ (٣) [فاطر: ١٥].
* * *
(٢) في "ت": "لا يخشون أحدًا إِلَّا الله".
(٣) انظر "تفسير البغوي" (٣/ ٦٢٢).
[٢٩] ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ﴾ يداومون على قراءة القرآن، ﴿وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ﴾ بجميع شروطها.
﴿وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً﴾ في الصدقات ووجوه البرّ، فالسر من ذلك هو التطوع، والعلانيّة هو المفروض، وخبر (إِنَّ): ﴿يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ﴾ أي: تكسد ويتعذر ربحها.
* * *
﴿لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (٣٠)﴾.
[٣٠] ﴿لِيُوَفِّيَهُمْ﴾ بالإنفاق ﴿أُجُورَهُمْ﴾ أي: ثواب التلاوة وإقامة الصّلاة وإنفاقهم.
﴿وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ﴾ سوى الثّواب ما لم تر عين، ولم تسمع أذن.
﴿إِنَّهُ غَفُورٌ﴾ لهم ذنوبهم ﴿شَكُورٌ﴾ مثيب لأعمالهم.
* * *
﴿وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (٣١)﴾.
[٣١] ﴿وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ﴾ يعني: القرآن، و (مِن) للتببين.
﴿هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا﴾ حال مؤكدة.
﴿لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ لما تقدمه من الكتب المنزلة.
* * *
﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٣٢)﴾.
[٣٢] ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا﴾ أي: أعطيناه ﴿الْكِتَابَ﴾ القرآن، و (ثُمَّ) للترتيب، تقديره: والذي أوحينا إليك، ثمّ أورثناه ﴿الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا﴾ هم أمتك يا محمّد، ثمّ قسمهم.
فقال: ﴿فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ﴾ هو الّذي رجحت سيئاته ﴿وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ﴾ هو الّذي ساوت حسناته سيئاته ﴿وَمِنْهُمْ سَابِقٌ﴾ إلى الجنَّة ﴿بِالْخَيْرَاتِ﴾ بالأعمال الصالحة، وهو الّذي رجحت حسناته ﴿بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ بتوفيقه، والأصناف الثّلاثة في الجنَّة، قال - ﷺ -: "سابقُنا سابق، ومقتصدُنا ناجٍ، وظالمنا مغفورٌ له" (١).
قلت: وهو ما رواه سعيد بن منصور في "سننه" (٢/ ١٥١ - ١٥٢) من طريق فرج ابن فضالة، عن الأزهر بن عبد الله الحرازي، عن عمر، به. وبإسناده ليس بالقوي، كما ذكر البيهقي في "البعث والنشور". وانظر: "تخريج أحاديث الكشاف" للزيلعي (٣/ ١٥٢ - ١٥٣). قال الزمخشري في "الكشاف" (٣/ ٦٢٢) =
* * *
﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (٣٣)﴾.
[٣٣] ومما يدلُّ على دخولهم جميعهم الجنَّة قوله تعالى: ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ﴾ مبتدأ، خبره ﴿يَدْخُلُونَهَا﴾ قرأ أبو عمرو: بضم الياء وفتح الخاء مجهولًا، فالواو قام مقام الفاعل، والباقون: بنصب الياء وضم الخاء معلومًا (١)، فالواو الفاعل.
﴿يُحَلَّوْنَ﴾ نساءً ورجالًا ﴿فِيهَا﴾ أي: في الجنَّة ﴿مِنْ أَسَاوِرَ﴾ جمع أسورة، و (مِنْ) تبعيض ﴿مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا﴾ روي أن ذلك الذهب في صفاء اللؤلؤ (٢)، هذه حليتهم.
﴿وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ﴾ قرأ نافع، وعاصم، وأبو جعفر: (وَلُؤْلُؤًا) بالنصب على معنى: ويحلَّون لؤلؤًا، فأبو جعفر يترك الهمزتين، فيسكن الواو الأولى، وينصب الثّانية، وأبو بكر عن عاصم يترك الأولى فقط، وقرأ
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٥٣٤)، و"التيسير" للداني (ص: ١٨٢)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٦٢٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ١٨٥).
(٢) انظر: "الكشاف" للزمخشري (٣/ ٦٢٣).
* * *
﴿وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (٣٤)﴾.
[٣٤] ﴿وَقَالُوا﴾ أي: ويقولون إذا دخلوا الجنَّة:
﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ﴾ أي: أزال عنا كلّ شيء يوجب الحزن.
﴿إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ﴾ للمذنبين ﴿شَكُورٌ﴾ مثيب للمطيعين.
* * *
﴿الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (٣٥)﴾.
[٣٥] ﴿الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ﴾ بمعنى: الإقامة.
﴿مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ﴾ تعب.
﴿وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ﴾ إعياء ومشقة، فاللغوب: نصب وزيادة؛ لأنّه نتيجة النصب.
[٣٦] ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى﴾ لا يحكم ﴿عَلَيْهِمْ﴾ بالموت.
﴿فَيَمُوتُوا﴾ نصب جواب النَّفْي.
﴿وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ﴾ مثلَ ذلك الجزاء.
﴿نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ﴾ مبالغ في الكفر والكفران. قرأ أبو عمرو: (يُجْزَى) بالياء وضمها وفتح الزاي مجهولًا، ورفع (كُلُّ) مفعول المجهول، وقرأ الباقون: بالنون وفتحها وكسر الزاي، ونصب (كُلَّ) مفعولًا صريحًا (١)، المعنى: الكفار معذبون أبدًا.
* * *
﴿وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (٣٧)﴾.
[٣٧] ﴿وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا﴾ أي: يستغيثون في جهنم بشدة وعويل، يقولون:
﴿رَبَّنَا أَخْرِجْنَا﴾ منها ﴿نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ﴾ لأنّهم كانوا يعتقدون صلاح عملهم في الدنيا، فأجيبوا توبيخًا:
﴿وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ﴾ محمّد - ﷺ -، وقيل: القرآن، وقيل: الشيب، ويجوز أن يراد: كُلُّ ما يؤذن بالانتقال.
﴿فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ﴾ يدفع عنهم العذاب.
* * *
﴿إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (٣٨)﴾.
[٣٨] ﴿إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ والغيب: ما غاب عن البشر؛ أي: لا يخفى عليه خافية.
﴿إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ أي: ما فيها من المعتقدات، تعليل لهم؛ لأنّه إذا علم مضمرات الصدور، وهي أخفى ما يكون، علم كلّ غيب، و (ذَاتُ) تأنيث (ذو).
* * *
﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا (٣٩)﴾.
[٣٩] ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ﴾ جمع خليف؛ أي: يخلف بعضكم بعضًا.
﴿وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا﴾ بغضًا (١) واحتقارًا.
﴿وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا﴾ أي: خسروا آخرتهم ومعادهم.
* * *
﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا (٤٠)﴾.
[٤٠] ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا﴾ أيَّ شيء.
﴿خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ﴾ أي: شركة مع الله تعالى.
﴿فِي السَّمَاوَاتِ﴾ أي: في خلقها، المعنى: أخبروني عن هؤلاء الشركاء بزعمكم، أَستبدوا بخلق شيء، أم شاركوه تعالى في شيء من خلقه.
﴿أَمْ آتَيْنَاهُمْ﴾ هل أعطينا كفار مكّة أو الأصنام.
﴿كِتَابًا﴾ ينطق بأنّهم شركاؤه.
﴿فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ﴾ أي: على حجة وبرهان من ذلك الكتاب. قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، وخلف، وحفص عن عاصم: (بَيِّنَةٍ) بغير ألف على التّوحيد إرادة الجنس، وقرأ الباقون: (بَيِّنَاتٍ) بالألف على الجمع (٢)؛
(٢) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٨٢)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٣٢٨)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٥٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ١٨٨).
﴿بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ﴾ الرؤساء ﴿بَعْضًا﴾ الأتباع.
﴿إِلَّا غُرُورًا﴾ باطلًا، وهو ما يغر الإنسان.
* * *
﴿إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (٤١)﴾.
[٤١] ﴿إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ﴾ يَضْبِط ﴿السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ أي: كي لا ﴿تَزُولَا﴾ رُوي أنّه لما قالت النصارى: المسيح ابن الله، واليهود: عزير ابن الله، كادت السموات والأرض أن تزولا وتعدما، فأمسكهما الله تعالى (١).
﴿وَلَئِنْ زَالَتَا﴾ أي: ما ﴿أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ﴾ من بعد إمساكه.
﴿إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا﴾ حيث أمسكهما عن الزَّوال بحلمه وغفرانه أن يعاجلهم بالعقوبة.
* * * *
﴿وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (٤٢)﴾.
[٤٢] ولما بلغ قريشًا أن أهل الكتاب كذبوا رسلَهم، حلفوا إنَّ جاءهم
﴿بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ﴾ منصوب على المصدر؛ أي: بغاية اجتهادهم.
﴿لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ﴾ يعني: من اليهود والنصارى؛ لأنّ كلّ واحدة منهما أمم، وليس المراد: إحدى الأمتين دون الأخرى، بل هما جميعًا؛ لأنّ (إحدى) شائعة فيهما تصلح لكل واحدة منهما، ولم يقل: الأمتين، [ولا الأمم بلا إحدى؛ ليعم جميع أفراد الأمتين] (١)؛ لأنّ (إحدى) تأنيث (أحد)؛ كأنّه قال: ليكونن أهدى من كلّ واحدة من الأمم، ولو حذف إحدى، لجاز أن يراد: بعض الأمم.
﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ﴾ هو محمد - ﷺ - ﴿مَا زَادَهُمْ﴾ مجيء النذير من الإيمان.
﴿إِلَّا نُفُورًا﴾ أي: تباعدًا عن الهدى.
* * *
﴿اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (٤٣)﴾.
[٤٣] ﴿اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ﴾ بدل من (نُفُورًا)، ثمّ تعطف على (نُفُورًا)، أو (استكبارًا)، ﴿وَمَكْرَ السَّيِّئِ﴾ العمل القبيح، وأضيف المكر إلى السيئ وهو صفته كما قيل: دار الآخرة، ومسجد الجامع، وجانب الغربي. قرأ حمزة: (السَّيِّءْ) بإسكان الهمزة في الوصل؛ لتوالي الحركات تخفيفًا، كما
﴿وَلَا يَحِيقُ﴾ يحيط (٢) ﴿الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ﴾ أي: وَبالُ الشرك مختص بمن أشرك. واختلاف القراء في الهمزتين من (السَّيِّئُ إِلَّا) كاختلافهم فيهما من (نشاءُ إِلَى) في سورة الحجِّ.
﴿فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ﴾ أي: هل ينتظرون هؤلاء إِلَّا نزول العقاب بهم كما نزل بمن تقدمهم.
﴿فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ﴾ في نزول العذاب بالكفار.
﴿تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا﴾ للعذاب إلى غير مستحقه، ورسمت (لِسُنَّتِ) في الموضعين بالتاء، ووقف عليها بالهاء: ابن كثير، وأبو عمرو، والكسائي، ويعقوب (٣).
* * *
(٢) "يحيط" زيادة من "ت".
(٣) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣٦٣)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ١٩١).
[٤٤] ﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا﴾ أي: المشركون
﴿فِي الْأَرْضِ﴾ إلى متاجرهم.
﴿فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ﴾ هلكوا.
﴿مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ لما كذبوا الرسل.
﴿وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً﴾ فأُهلكوا مع ذلك.
﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا﴾ بالأشياء كلها ﴿قَدِيرًا﴾ عليها.
* * *
﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا (٤٥)﴾.
[٤٥] ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا﴾ أي: لو جازى على الذنوب في الدنيا ﴿مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا﴾ أي: على ظهر الأرض ﴿مِنْ دَابَّةٍ﴾ يعني: لأهلك الجميع، وقوله: ﴿مِنْ دَابَّةٍ﴾ مبالغة، والمراد: بنو آدم؛ لأنّهم المجازون.
﴿وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾ وقتٍ معلوم، وهو القيامة.
* * *