ﰡ
تقدم الكلام على الحمد في أول الفاتحة.
قوله تعالى: ﴿مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ... (١)﴾
لم يعتبر مفهوم العدد هنا مع أنه قوي عندهم.
الزمخشري: [(أُولِي أَجْنِحَةٍ) أصحاب أجنحة، وأولو: اسم جمع لذو، كما أن أولاء اسم جمع لذا، ونظيرهما في المتمكنة: المخاض والخلفة*] انتهى، أراد مخاضا جمع خلفه، نص عليه عياض في كتاب الزكاة من الإكمال (مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ)، مشتقة من اثنين وثلاثة وأربعة، ومنع صرفها العدل [والوصفية*].
الزمخشري: منعها تكرار العدل فيها وتقدم بيانه في النساء، قال: ولا فرق في [الوصفية بين المعدولة والمعدول عنها*]، كنسوة أربع ورجال ثلاثة، واعترض بأن شرط الوصف المانع من الصرف، أن لَا تكون مؤنثة بالتاء، وأن لَا يكون مع التأنيث؛ فلا يلزم من عدم اعتبار الصفة اعتبارها في المعدول [لفقد*] شرطها فيها.
وأجيب: بأن مراده أنه لم يجتمع فيه علتان، فليس فيه الوصف، لأن شرطه عندهم ألا يمنع الصرف إلا في أفعل فعلاء، كأحمر حمراء أو فيها مؤنثة بغير تاء، وأما الصفة التي في مؤنثها التاء الفارقة بينها وبين المذكر، فلا يمنع الصرف [فيها*] بوجه.
قيل: وكذلك أيضا عنده لَا يمنع الصرف إلا فيما كان اسما، ومثله ابن عصفور بأربعة: فإنها اسم العدد بخلاف غيره.
القرافي في شرح المحصول قال: التصريف الذي نقل عن جماعة أن الواو [ترد بمعنى (أو) *]؛ كقوله (أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ)، انتهى.
ابن هشام: زعم قوم أن الواو تخرج من [إفادتها لمطلق الجمع*]، وتستعمل بمعنى (أو) ذلك على ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يكون معناها في التقسيم نحو الكلمة [اسْم أَو فعل أَو حرف*]، وممن ذكر ذلك ابن مالك في التحفة. والصواب أنها في ذلك على معناها الأصلي، إذ الأنواع مجتمعة في الدخول تحت الجنس، ولو كانت (أو) هي الأصل في التقسيم، لكان استعمالها فيه أكثر من استعمال الواو.
والثاني: أن معناها في الإباحة، قاله الزمخشري: وزعم أن يقال: جالس الحسن وابن سيرين، أي أحدهما وأنه لهذا قيل: (تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ)،
الثالث: يكون معناها في التخيير.
قاله بعضهم في قوله:
وقالوا نأتْ فاخترْ من الصَّبر والبُكا... فقلتُ البُكا أشفى إذاً لغليلي
فقال: معناه أو البكاء إذ لَا يجتمع مع الصبر، ونقول: إن الأصل فاختر من الصبر والبكاء، أي أحدهما، ثم حذف (مِن)؛ كما في قوله تعالى: (وَاخْتَارَ مُوسَى قَومَهُ)، [**ويؤيده أن بها على القاف من].
وقال الشاطبي في باب البسملة، وقيل: [وَاسْكُتَنْ*]، فقال شارحوا كلامه: إفراد التخيير ثم قال محققوهم: ليس ذلك من قبل الواو، بل من جهة المعنى، وقيل: إن شئت.
قال أبو شامة: وزعم بعضهم: أن الواو تأتي للتخيير مجازا.
قوله تعالى: ﴿لِلنَّاسِ... (٢)﴾
إن قلت: [مَا يَفْتَحِ*] ما أفاد، قلت: لأن الفتح المطلق لَا حسد فيه، وإنما يحسد في الفتح في شخص معين.
قوله تعالى: (وَمَا يُمْسِكْ).
قال شيخنا ابن عرفة: يؤخذ منه أن العدم الإضافي السابق متعلق للقدرة، وجعله بعض الأصوليين متعلقا للإرادة.
قوله تعالى: (مِنْ بَعْدِهِ).
إن قلت: ما أفاد، وهو خص بالقسم الثاني دون [الأول*]، فالجواب: أنه إشارة إلى ما قرره المتكلمون: من أن ما أراد الله تعالى كونه فلا بد من وقوعه باتفاق بين الجميع، ولذلك لم تحتج إلى تأكيد الأول بقوله (مِنْ بَعْدِهِ)، ولم يرد وقوعه، فنحن نقول: لَا يقع أصلا وفريق من المعتزلة يقولون بصحة وقوعه، لأن العبد عندهم يخلق أفعاله، والله
وجواب الفخر: بأنه إشارة إلى أن الرحمة في الآخرة لَا تزول، وأن العذاب فيها زائل منقطع، يرد بأن الآية عامة في الدنيا والآخرة، [والناس*] عام في المؤمن والكافر.
قوله تعالى: (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
من اللف والنشر المخالف، وهو قليل لأن (الْعَزِيزُ) راجع لقوله تعالى: (وَمَا يُمْسِك) إذ العزة هي الامتناع و (الْحَكِيمُ)، لقوله (مَا يَفتَحِ اللَّهُ).
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ... (٣)﴾
النَّاس عام في بني آدم، فإن كان ذكروا للوجوب فخص العموم بالصبيان والمجانين، وإن كان للندب فلا تخصيص.
قوله تعالى: (هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ).
هذا كالنتيجة بعد المقدمتين، لأن المقدمة الأولى أفادت أن لَا معطي إلا الله، والثانية: أفادت أن لَا مانع إلا الله، فإذا ثبت اختصاصه بالمنع والإعطاء أنتج ذلك أن لا خالق إلا الله.
قوله تعالى: (يَرْزُقُكُمْ).
كالتتميم للدليل، والأولى كونه ابتدأ كلام وبعد كونه صفة لخالق لئلا يلزم عليه المفهوم، أن [ثَمَّ خالقًا لَا يرزق*].
قوله تعالى: (يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ).
وفي سورة والذاريات (رِزْقُكُم) بالحصر، والجواب: أن أصل الرزق من السماء، وتشارك فيه الأرض باعتبار النبات.
قوله تعالى: (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ).
تلقين للمخاطب بأن يصرح بنتيجة الدليل المذكور.
قوله تعالى: ﴿فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا... (٥)﴾
من باب [لَا أرينك ها هنا*]، أي لَا تركنوا إليها فتغرقكم.
الأول: أنه حذف من الأول لدلالة الثاني عليه، وهذا كثير في لسان العرب، وإنَّمَا القليل عكسه.
الثاني: أن الحياة الدنيا إنما [تغر*] في شهواتها والمأكل والمشرب والشهوة البهيمية والملبس فقط، وأما الشيطان فإنما يغر ويوسوس في الشرك بالله والكفر، فلأجل ذلك ذكر معه اسم الله عز وجل.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ... (٦)﴾
وهذا من النسب الغير متعاكسه، لأنه قد يكون الإنسان [عدوا*] لشخص، ويكون الشخص ذلك صديقا له، لكن هذا ما يتأتى إلا فيمن لَا يعرف منه ذلك.
قوله تعالى: (فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا).
فإِن قلت: كيف يتأتى ذلك، مع أن هذا لَا يمكن إلا في شخص معين تراه بحيث تتحرز منه وتتحرر، وأما الشيطان فهو خفي لَا يظهر، فكيف التحرز منه؟ فالجواب: أن هذا كما قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: إن يكن خيرا فمن الله وإن يكن غير ذلك [فمن*] من الشيطان، فالإنسان مكلف بأن يزن أعماله بالميزان الشرعي، فإن رآها جارية على ما أمره الشرع به، علم أنها كلها من الله، وإن رآها مخالفة للشرع علم أن ذلك من وساوس الشيطان.
قوله تعالى: (إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ).
حزبه هم الذين انقطعوا إليه وصاروا قوة، وهم الشياطين، ويكون المراد بالشيطان إبليس لعنة الله عليه، فالمعنى أن أصدقاءه الذين لَا عداوة بينه وبينهم، إنما يدعوهم ليكونوا من أهل النار، فما [بالك*] فيمن هو عدو لهم هو يدعوهم إلى النار من باب أحرى.
فإن قلت: إذا كان حزب الشيطان بعض أصحاب السعير، فمَن البعض الآخر؟ فالجواب: أن أصحاب السعير هو وحزبه ومن تابعهم من بني آدم.
قوله تعالى: ﴿أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا... (٨)﴾
وفيه دليل ما يقول الفخر: أن العاصي لَا يعصي وهو جاهل، ولا يتصور من العالم حين علمه عصيانه بوجه، فهو يظن أن الأرجح فعل المعصية لقوله تعالى: (فَرَآهُ حَسَنًا).
قوله تعالى: (حَسَرَاتٍ).
[الزمخشري*] جعله مفعولا من أجله، وهو على مذهبه إذ [شرط*] المفعول من أجله، أن يكون مفعولا لفاعل الفعل المعلل، فالحسرات إذًا من فعل النفس لَا من فعل غيرها، وهو أيضا جائز على مذهب أهل السنة القائلين بالكسب، وأما من ينفي الكسب هنا [يجري*] على هذا الإعراب على مذهبه، وتحتمل كونه حالا.
وقول الزمخشري: لَا يتعلق بـ[حسرات*]، لأنه مصدر فلا تتقدم صلته عليه، يرد بوجهين:
الأول: إن ذلك إنما هو في المصدر والمقدر بـ أن والفعل، حسبما ذكره ابن هشام شارح الإيضاح في قوله تعالى: (أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا).
الثاني: أن المصدر إذا ثنى وجمع بعد عن التقدير بـ أن والفعل، فلا يكون موصولا وهذا بمجموع.
قوله تعالى: ﴿الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا... (٩)﴾
أتى بالأول ماضيا، والثاني [حالا*] للتصوير، لأن الأول ليس بمشاهد، وإثارة السحاب [مشاهدة لنا*]، ولأن إرسال الرياح غير مكرر، وإثارة السحاب متكررة.
قوله تعالى: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ... (١٠)﴾
[**لا مفهوم].
قوله تعالى: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ).
مجاز لأن الصعود قطع المسافة من أسفل إلى فوق، إلا أن يكون باعتبار الصحف.
قوله تعالى: (وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ).
فإِن قلنا: المراد بالكلم الطيب الشهادتان فقط فظاهر.
وإن قلنا: المراد به التسبيح ونحوه فلا يتأتى إلا على مذهب المعتزلة القائلين: أن مجرد كلمة الإسلام لَا تنفع العاصي.
قوله تعالى: ﴿وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ... (١٢)﴾
حمله ابن عطية على الحقيقة، والزمخشري على المجاز.
فإن قلت: لمَ لم يذكر في الثاني عند الوصف المذكور في الأول، فتقول: ملح الأجاج صعب تناوله، فالجواب: من وجهين:
الأول: يستلزم الملح الأجاج لوصف كونه صعب التناول [الجبلي*] وأظهر من استلزام العذب الفرات، لكونه سائغا شرابه، فلذلك اكتفى به، في الثاني: دون الأول، لأنه قد يكون عذبا شرابه، ولا يسوغ شرابه لما فيه من الغثاثة، وتقرر أن اللازم بوسط نظري وبغير وسط ضروري، وباستلزام الشيء للشيء تارة يكون نظريا وتارة يكون ضروريا، ومنه الخلاف في لازم المذهب، هل هو مذهب أم لَا؟ والخلاف في تكفير المعتزلة بلازم مذهبهم.
الجواب الثاني: أن الأول أمر ملائم، والثاني أمر مؤلم، والأمور المؤلمة تكفي في التعبير بأول أوصافها، بخلاف الأمور الملائمة، فإن حصول الإقبال عليها حالة المبالغة في أوصافها، أقوى من حصوله مع عدم المبالغة.
قوله تعالى: (تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً).
إن قلت: لم ذكر في الثاني الحلية تفرد له بسببها، وهو الإخراج، وذكر في الأول الأكل دون سببه وهو الاصطياد، مع أن الحوت لَا يتوصل إلى أكله إلا بعد تكلف وموته في اصطياده، لاسيما على المذهب الشافعي القائل: بأن طافي الحوت لَا يجوز أكله، فالجواب: أن السبب في استخراج الحلية من البحر أشق على النفوس من سبب الاصطياد، لأن الاصطياد يتأتى من الأطفال والنساء وغيرهم، وأما استخراج الجوهر واللآلئ من البحر فلا [يعلمه*] إلا غواص الجواهر من النَّاس في بعض الأقطار.
حتى قال المسعودي في مروج الذهب: إنهم يجعلون على وجوههم أغشية من كروش ويغلف سائر بدنه وتثقل رجليه بحجر وتهبط إلى قعر البحر، فيمكث الأيام يرصده، [**وأما فيه عوائدها] تمكث جالسة على محل الجوهر
قوله تعالى: ﴿يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ... (١٣)﴾
أي يأخذ من الليل ويزيد في النهار، ويأخذ من النهار ويزيد في الليل، وهذا في القطر الواحد في غير الاستواء.
وقال الفخر: الإيلاج [باعتبار*] أن نفس الليل عندنا هو نهار عند قوم آخرين، وهذا باعتبار جميع الأقطار.
قوله تعالى: (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ).
هذا من اللف والنشر، إما مخالف لأن الشمس أمة النهار، أو المواقق باعتبار المولج، فالمولج فيه أولا هو النهار.
ابن عطية: اختلفوا في الألف واللام في الشمس والقمر، هل هما زائدتان أو للعهد، انتهى.
قال شيخنا: كانوا يختلفون هل يصح ورود الزائد في القرآن أم لَا؟ فقيل: يصح، وقيل: لَا يصح، لأنه معجز، فكل لفظ منه معتبر لَا زائد، والذين قالوا بالصحة، هل يصح أن يقال: زائد لغير معنى، أو ما فيه زائد إلا المعنى؟ فكلام ابن عطية مخالف لقول ابن التلمساني أن الشمس والقمر من الكل، فإذا كانا من الكل فالألف واللام فيهما للعهد لَا زائدة، لأن فائدة العهد إنما هي أنها خصصت ذلك الكل بنوع واحد مشخص.
قوله تعالى: (مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ).
أي ما يملكون دفع ضرر ولا جلب نفع، وهم يفتقرون إلى الله تعالى، وشرط المعبود الاستقلال بنفسه وفيه استقلال الله تعالى بجميع الكائنات، خلافا للمعتزلة بأن الغير يخلق أفعاله.
قوله تعالى: ﴿وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ... (١٤)﴾
إن [بنينا*] أن الاستيجاب لَا يطلق إلا على الإجابة بالموافقة فبين، والمعنى ولو سمعوا لَا يجيبون إلا بنقيض ما تدعونه إليه، وإن قلنا بالإطلاق فالمعنى ولو سمعوا لا
قوله تعالى: (وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ).
وهذا الكلام محمول على المعنى، لأنك إذا قلت: لَا تفعل هذا مثل عمرو ففعله منفي عن مثل عمرو، فيلزم نفي الإنباء عن مثل الخبير، وليس لذلك [بل*] المراد ولا ينبئنا أحد مثل خبير، وهذا إن أريد به الله تعالى فيتعين أن [تكون*] سالبة، والسالبة عند المنطقين ما تقتضي وجود الموضوع بوجه، بخلاف [المعدد له*] والله تعالى لَا مثل له، فلذلك كانت سالبة، لأن مثله غير موجود.
قوله تعالى: ﴿أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ... (١٥)﴾
مفهوم الحصر من اللقب منتف، بل هو تنبيه بالأدنى على الأعلى، لأنه إذا كان الحيوان العاقل الذي به الاستقلال بنفسه إلى الله تعالى، فأحرى من دونه من الحيوانات والجمادات، فهو مفهوم موافقة لَا مخالفة.
قوله تعالى: ﴿إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ... (١٦)﴾
أي [إن يشأ*] إذهابكم يذهبكم.
قوله تعالى: ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى... (١٨)﴾
فيها سؤالان:
الأول: أنه تقرر أن نفي الأخص لَا يستلزم نفي الأعم، فهلا قيل: لَا تزر نفس وزر أخرى، لأن النفس قد تكون وازرة وقد تكون غير وازرة، فيلزم المفهوم، وجوابه: أن مفهوم (أُخْرَى) لأن النفس الوزارة هي العاصية المتحملة للذنوب، فإن كانت النفس العاصية لَا تحمل وزر غيرها فأحرى الطائعة، لأن حمل الوزر عقوبة.
الثاني: [ما الجامع بينها وبين حديث: "مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَعُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ، كُتِبَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا، وَلَا يَنْقُصُ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ، وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً، فَعُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ، كُتِبَ عَلَيْهِ مِثْلُ وِزْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا، وَلَا يَنْقُصُ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ"، وقوله تعالى: (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ) "*]، وجوابه: أن الحديث وتلك الآية في صناديد الكفار الذين كفروا وتسببوا في كفر أتباعهم، لأن فاعل السبب فاعل للمسبب، وهذه الآية في الأتباع، ومن اختص بفعله ولم يتسبب في معصية أحد.
قيل: المفعول إنما حذف لقصد العموم، فالمراد وإن تدع أحدا، وهو عام في القريب والبعيد، فما أفاد ولو كان ذا قربى.
وأجيب: بأنه نفي لما قد يوهم قربه فيذب عنه ويرعاه.
قوله تعالى: (إِنَّمَا تُنْذِرُ)
أي الإنذار النافع.
قوله تعالى: ﴿وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (١٩)﴾
قال شيخنا: هو قياس معنوي وهو كثير في القرآن، لأنه تمثيل لحال المؤمن والكافر، وليس القصد التفريق بينهما؛ كما يفرق بين الأعمى والبصير، وإنما القصد التنبيه على قبح الكفر وحسن الإيمان.
أبو حيان: استوى هنا [لـ فاعلَين*] انتهى، يرد بأنه من السبب لمعاكسته، فلا يطلب فاعلين، ويدل عليه قولهم استوى الماء والخشبة، والأول فاعل، والثاني مفعول، وقدم في الأولين الوصف القبيح، وعكس في [الآخرين*] ليحصل، انظر للزمخشري.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ... (٢٢)﴾
الاقتران المراد الإسماع النافع، لأنه عام ورد على سبب.
قوله تعالى: (وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ).
هذا زيادة في التقبيح، لأن الميت الذي في القبر أبعد عن الإسماع من ميت على وجه الأرض، ونفاه بلفظ الاسم، لأنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، لَا يسمع الإسماع الأخص فنفاه على حقيقته.
قوله تعالى: ﴿إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ (٢٣)﴾
أي لهو الكفر ولذا عقبه بقوله [(بَشِيرًا وَنَذِيرًا) *].
الزمخشري: وفي حدود المتكلمين الأمة هي المصدقة بالرسول دون المبعوث إليهم، وهم المعتبر إجماعهم. انتهى.
قال شيخنا: هذا إنما علمت من قاله من المتكلمين، لكنه حسبه بقوله: وهم المعتبر إجماعهم، لأن الإجماع في حياة صلى الله عليه وعلى آله وسلم، غير معتبر إلا بعد وفاته.
قيل: أفادت هذه بعد التي قبلها في معناها، أجيب: بأن [تحسر الرسل واغتمامهم إما على أنفسهم بتكذيب قومهم لهم*]، وإما على قومهم بامتناعهم عن الإيمان، وبأن الأولى تضمنت تكذيبه في نفسه، وهنا وفيما جاء به فهو أبلغ.
قوله تعالى: ﴿وَغَرَابِيبُ سُودٌ (٢٧)﴾
الأصل سود غرابيب، لكنه عكس إشارة لشدة السواد.
قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ... (٢٨)﴾
ابن عطية: قال بعض: الخشية رأس العلم، والصحيح العكس انتهى، بل الصواب الأول للحديث الذي ذكره.
قوله تعالى: (عَزِيزٌ غَفُورٌ).
ووجه مناسبتها أن العزة هي الامتناع، وكذلك خشية الله قليلة في أعلى المراتب و (غَفُورٌ) إشارة إلى الواصلين إليها من العلماء، لم يسلموا من تقصير اتصفوا به ونقص في أعمالهم فوصولهم بمغفرة الله وعفوه عنهم، وانظر هل يؤخذ من الآية [تقديم الأصلح الأصلح*] في إمامة الصلاة؟
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ... (٢٩)﴾
عبر في الأول: بالمضارع إشارة إلى سهولة مصدره، وفي الثاني: بالماضي إشارة إلى محقق وقوعه مع عدم سهولته.
قوله تعالى: ﴿شَكُورٌ (٣٠)﴾
تَجَوُّزٌ لأنه تعالى هو المنعم على الجميع.
قوله تعالى: ﴿وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ... (٣٦)﴾
قيل: [ما وجه الجمع*] بينه وبين قوله تعالى: (كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا)؟ وأجيب: بأن عذابها يكون شديدا، فإذا خبت لَا يزال ألمها شديدا حالًّا بهم، لكنه يكون أولا يزيد فإذا خبت [يقف حاله، ولا يزيد ثم تشتعل بعد ذلك فيزداد عليهم الألم*]، فهي في نفسها تسكن لَا أن الألم النازل بهم يخفف عنهم.
قوله تعالى: (كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ).
قوله تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ... (٤٠)﴾
حكى أبو حيان عن بعضهم: أنه بدل من الأول، ورد بأن همزة الاستفهام دخلت على الأول دون الثاني، [ويجاب*]: باحتمال كونه حذف من الثاني لدلالة الأول [عليه*].
ذكر ابن عصفور خلافا فيه يلزم معه تكرار، فأدخل على المبدل منه أم لَا؟
وحكى أبو حيان عن بعضهم أيضا: بدل جملة من جملة.
ورده أبو حيان: بأنه بدل فعل من فعل، ويجاب: بأنهم فرقوا بين بدل الفعل من الفعل، وبدل الجملة من الفعل، وهو إذا كان الفاعل في الفعلين متحدا، إما ضمير متكلم أو ضمير غائب، نحو إن قمت أكرمت زيدا فأتني، أو يكون المفعول متحدا، فإن اختلف الفاعل فيكون في أحدهما ظاهرا وفي الآخر مضمرا، أو يختلف الضمير أو يختلفا في المفعول كان بدل جملة من جملة، مثل إن قمت يخرج أبوك فأتني، وهذان الفعلان وإن اتفقا في الفاعل فهما مختلفان في المفعول.
قال أبو حيان: وأيضا فالبدل على نية تكرار العامل، وهو لم يتكرر هنا انتهى، إنما ذلك إذا كان العامل موجودا، وأما إذا لم يكن ثم عامل فليس ثم ما يكرر.
قوله تعالى: (مَاذَا خَلَقُوا).
قال شيخنا: كان وقع في زمن الأستاذ أبي زكريا يحيى بن فرج النعر نزاع [فيها*].
فقال بعضهم: إنها تقتضي التكثير، واحتج بحديث: "ماذا أنزل الليلة من خير".
وقال بعضهم: إنما يكون التقليل، واحتج بهذه الآية، وهنا إشكال وهو أنها تقتضي أن من لوازم الإله اتصافه بالخلق، مع أن مذهبنا أن الذي من لوازمه اتصافه بالقدرة وصلاحية الخلق لَا اتصافه بالخلق بالفعل، وإلا يلزم عليه قدم العالم، لأن الله تعالى في الأزل لم يخلق شيئا بالفعل، وجوابه: أن الألوهية أمر نظري لَا ضروري، والاستدلال عليها إنما يتم بأثرها، فلذلك قال (أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا)، فمعناه لو كانوا آلهة لظهر لنا أثر قدرتهم، فلما لم يظهر لنا أثر قدرتهم، دل على أنهم ليسوا بآلهة.
قيل: لَا يلزم من عدم العلم بالدليل عدم العلم بالمدلول، أجيب: بأنه كذلك،
قوله تعالى: (أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ).
فيه سؤالان:
الأول: المستدل، يأتي أولا بما هو مستلزم لغيره، ثم يأتي بمستلزمه ولا يأتي باللازم قبل الملزوم، فيقول: إن كنت ذا مال فأعطه دينارا أو أعطه درهما، ولا يقول: إن ذا المال فأعط لزيد درهما أو دينارا؛ لأن العجز عن الدرهم يستلزم العجز عن الدينار، [وهو لَا يجوز*]، والعجز [الاستقلالي*] بالخلق، وما يلزم من ذلك عجزهم عن الخلق مع الشريك المعين لهم في ذلك.
السؤال الثاني: أن المذهب على امتناع اجتماع مؤثرين على أثر واحد، حسبما ذكر الأصوليون في مسألة [الكسب*]، حيث قالوا: هو فعل فاعل معين، وقد قرروا في دلالة التمانع امتناع ذلك، فكيف يصح الرد عليهم بعجز آلهتم عن خلق السماوات مع الشريك، والجواب: أن الاستدلال قسمان: عقلي لَا يفهمه إلا الخواص، وآخر يفهمه العوام، فالعلماء منعوا اجتماع قدرتين على مقدور واحد، والعوام يتصورون اشتراك رجلين وثلاثة في فعل.
قوله تعالى: (أَمْ آتَيْنَاهُم كِتَابًا).
هذه إشارة إلى الدليل السمعي، والأول: إشارة إلى الدليل العقلي فهم يستندوا في عبادتهم الأصنام لَا إلى عقل ولا إلى سمع، ثم عقب ذلك بالدليل السمعي الدال على وحدانية الله تعالى، وهو قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ).
قوله تعالى: ﴿وَلَئِنْ زَالَتَا... (٤١)﴾
فيه سؤال، وهو أن الجزاء لَا يجوز كونه موافقا بشرط، لعدم الفائدة ولا مناقضا له، بل يكون مخالفا فلا يقال: إن قام زيد قام زيد، ولا إن قام زيد لم يقم زيد، وإنَّمَا يقول: إن قام زيد قام عمرو، والجواب: ليس يترتب على الشرط، والجواب: أنه ترتب على جواب مقدر، وتقديره (وَلَئِنْ زَالَتَا)، فلا راد لهما ولا مستمسك.
وحكي ابن عطية هنا أن إن تعني لو، وهو على جهة التوهم والفرض، أي وليس فرضنا إلا العكس.
وقال ابن التلمساني: إنَّ إنْ تدخل على المحقق وعدمه، واستحالته وإن غالب دخولها على المشكوك، وقد تدخل على المحقق.
لا يعجل لعقوبة الكفار.
وقوله تعالى: (غَفُورًا).
للمؤمنين المخالفين في فروع الشريعة.
قوله تعالى: ﴿أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ... (٤٢)﴾
أي من المحق في الأمم.
قال ابن رشد في كتاب الإيلاء [من "البيان" وفي "المقدمات"*]: إذا حلف أن لَا يطأ زوجته أكثر من ستة أشهر، فإنه مولي، وإن قال: وطئتها لأكثر من أربعة، فكل مملوك أملكه حر، فإنه إذا وطئها ينعقد عليه اليمين، ولا يكون موليا، قال: وهذا مثل ما لو قال: والله لَا آكل أحد هذين الرغيفين، فأكل أحدهما فإنه لَا يحنث، بل ينعقد عليه اليمين في الآخر، فإذا أكله حنث.
قوله تعالى: ﴿فَلَنْ تَجِدَ... (٤٣)﴾
نفى الوجدان مع أن الأبلغ نفي التبديل زوال الشيء من أصل، وتعويضه بخلافه، [والتحويل*] تغيير حاليه بزيادة أو نقص أو تخصيص مع بقاء ذاته الأصلية، فنفى أولا تبديل السُّنَّة من الأصل، وثانيا تغيرها فهو تأسيس.
قوله تعالى: ﴿أَشَدَّ مِنْهُمْ... (٤٤)﴾
ثم أقوى منهم، إشارة إلى الاشتراك في الفسق، كما قال الزمخشري في قوله تعالى: (أوْ أَشَدُّ قَسْوَةً).
قوله تعالى: (مِنْ شَيءٍ).
باق على عمومه بخلاف قوله تعالى: (وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) استثنى منه الواجب والمستحيل، أما الواجب فاختلفوا هل يصدق على شيء أم لَا؟ وأما المستحيل.
فقال ابن التلمساني: لَا يصدق عليه لفظ شيء.
قوله تعالى: ﴿النَّاسَ... (٤٥)﴾
يحتمل الإنس فقط أو الإنس والجن.
* * *