تفسير سورة القصص

تفسير ابن عرفة - النسخة الكاملة
تفسير سورة سورة القصص من كتاب تفسير ابن عرفة المعروف بـتفسير ابن عرفة - النسخة الكاملة .
لمؤلفه ابن عرفة . المتوفي سنة 803 هـ

سُورَةُ الْقَصَصِ
قال ابن عطية: السورة مكية إلا (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ) فإنها نزلت في الجحفة وقت هجرة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى المدينة.
ابن عرفة: بل هي كلها مكية كما قال الزمخشري؛ لأنه تقرر أن المكي ما نزل قبل الهجرة، والمدني ما نزل بعدها سواء كان في الجحفة [أو غيرها*].
(١)
ابن عطية: والطاء من الطول، والسين من السلام، والميم من المنعم أو من الرحيم أو نحو هذا.
قال ابن عرفة: ما هذه الدلائل؟ قلنا: تضمن، فقال: بل هي التزام وبينهما ارتباط ذهني.
قوله تعالى: ﴿نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى... (٣)﴾
ابن عرفة: (نَتْلُو عَلَيْكَ) أخص من (نَقُصُّ)؛ لأن نقص لم يرد في القرآن إلا مقيدا، قال تعالى (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ) وهذا ورد غير مقيد.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ... (٤)﴾
تبكيت عليه، أي علا، وهو في محل التذلل والانخفاض، فلذلك قال في الأرض.
قوله تعالى: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ... (٥)﴾
ابن عرفة: ليس المراد حقيقة الإرادة لأنها قديمة، وإنما المراد ظهور متعلقها، فإن أريد به الإخبار بوقوع ذلك في بني إسرائيل قبل وقوعه، فهو مستقبل حقيقة، وإن أريد به الإعلام بها بوقوع ذلك بقوم موسى صلى الله على نبينا محمد وعليه وعلى آلهما وسلم، فهو من العبارة عن الماضي بلفظ المستقبل.
قوله تعالى: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ... (٧)﴾
حكى ابن العربي في سراج المريدين لما ذكر فضائل ابن فورك، أنه كان يرى الملائكة يكلمونه، وأنكره بعضهم محتجا بأن جبريل عليه السلام، قال للنبي صلى الله
عليه وعلى آله وسلم بقرب وفاته، هذا آخر مهبطي إلى الأرض، واحتج الآخرون بأنه بعض الصحابة أو بعض الملائكة.
قوله تعالى: ﴿فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا... (٨)﴾
قال الزمخشري: هذه اللام للتعليل، مثل: جئتك لتكرمني، لكنه مجاز؛ لأن الداعي لالتقاطه إنما هو الصحبة، ولما كانت العداوة نتيجة التقاطهم شبهه بالداعي الذي يفعل فاعل الفعل لأجله، فاستعيرت له اللام كما استعير لفظ الأسد للشجاع، ابن عرفة: هي لام الصيرورة، وكان بعضهم يقول: بل هي على أصلها حقيقة، ويقدره؛ لأن [فعل اللقط*] تارة يعتبر من حيث كونه مكتسبا للعبد، وتارة يعتبر من حيث كونه مخلوقا لله عز وجل، فعلى الأول تكون اللام للصيرورة، لأنهم لم يلتقطوه؛ لأن الالتقاط أمر عارض غير مقصود، أي جعل الله تعالى التقاطهم له سببا في عداوته لهم، وجاءت العداوة هنا الثابتة مقابلة للخوف المنفي، في قوله تعالى: (وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي)، لأنها سبب فيه، والحزن الثابت مقابل للحزن المنفي.
قوله تعالى: ﴿وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ... (١١)﴾
إن قلت: هلا قال: وقالت لابنتها قصيه؟ فالجواب [من*] وجهين:
أحدهما: قال ابن عرفة: هذا من تعليق الطلب على الوصف المناسب له؛ لأن وصف الأخت يشعر بالحنان والشفقة على الأخ، بخلاف ما لو قال: وقالت لابنتها، فتذكيرها لها بأنه أخوها مذكور [**لحثها في البحث عنه].
الثاني: إن هذه الأخت يحتمل أن تكون أخته من أبيه، وهي ربيبة أمه وليست بنتها.
قوله تعالى: ﴿وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ... (١٢)﴾
ولم يقل: ومنعنا المراضع، إشارة إلى أن هذا أمر قديم مقدر في الأزل، ولو قال: منعناه، لتناول الأمر الظاهر الوجودي من غير اعتبار، فتقدمه في الأزل.
قوله تعالى: (مِن قَبْلُ).
أي من قبل قصها أثره.
قوله تعالى: (يَكْفُلُونَهُ لَكُم).
في زيادة لفظه (لكم) نعمة وإخفاء لئلا يتفطنون بها، أي؛ لأن كفالته ليس فيها منفعة للكافلين.
قوله تعالى: ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (١٣)﴾
إن كان من تمام المعلوم لأم موسى عليه السلام، فيكون الأكثر بمعنى الجمع؛ لأن جميع بني إسرائيل كانوا حينئذٍ كفارا، وإن كان من كلام الله تعالى خطابا للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فالأكثر على بابه؛ لأن من القبط من آمن به.
قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا... (١٤)﴾
إن قلت: ما الحكمة في تخصيص هذه الآية، بزيادة لفظة (استوى) دون آية سورة يوسف عليه السلام، فالجواب بوجهين:
الأول: قال صاحب البرهان: ؛ لأن يوسف عليه السلام باعه إخوته وهو صغير عمره خمسة عشر عاما أو عشرين عاما، ولم يمكث عند زليخا إلا أعوام يسيرة، ثم جرت قضيته معها، وقالت له: (هَيتَ لَكَ)، فغاية الأمر أن يكون في أول سن البلوغ الأشد، وهو إما عشرون، أو خمسة وعشرون، أو ثلاثون، فلذلك لم يقل فيها: (وَاسْتَوَى) وزادها في آية موسى عليه السلام.
الثاني: قال ابن عرفة: وظهر لي أن الجواب بأن يوسف عليه السلام هم بالفعل، ولم يفعل، [وموسى عليه السلام فعل*]؛ لأنه وكز القبطي وقتله فناسب وصفه بأبلغ درجات القوة، فلذلك قال فيها: (وَاسْتَوَى).
قوله تعالى: (آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا).
ابن عرفة: يحتمل أن يريد بالحكم النظر الموصل للعلم، أي آتيناه طريق العلم، والعلم يحتمل أن يريد بذلك العلمية والعملية.
قوله تعالى: ﴿هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ... (١٥)﴾
تواضع منه؛ لأن [المقتول حربي*] مباح الدم يعدها هو خطيئة، وليست بخطيئة، وهذه الوكزه هي، [كما*] قال فيها الإمام مالك رحمه الله: [شِبْهُ الْعَمْدِ بَاطِلٌ، وليس بخطإ، وَإِنَّمَا [هُوَ*] عَمْدٌ، قال ابن عطية: أن يعقد يده ثلاثة وسبعين من حساب اللفظ، ثم يضرب بها.
قوله تعالى: ﴿بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ... (١٧)﴾
الباء للسبب أو للقسم، وقوله تعالى: (فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا)، أي فلن أكون معينا للمجرمين، قال ابن عطية: احتج العلماء بها على منع خدمة الظلمة ومعونتهم، قلت:
قال شيخنا أبو الحسن المطريني: سئل سيدي أبو الحسن المنتصر عن خياطة الثياب، قال: النظر في صانع الإبرة، وأما الخياط ففي قعر جهنم.
قال ابن عرفة: يريد إن كان خائطهم كما قال ابن رشد فيمن يخيط للكافر.
قوله تعالى: ﴿فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ... (١٨)﴾
قال ابن عرفة: تقدم المجرور للاهتمام إشارة إلى أن له أثرا في الخوف، والألف واللام للعهد، وعبر في هذا الفعل؛ لأن المترقب متوقع وليس ثابت فيناسب الفعل المقتضي المتجدد.
قوله تعالى: ﴿وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ يَسْعَى... (٢٠)﴾
وقال تعالى في سورة يس: (وَجَاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى).
قال ابن عرفة: فكان شيخنا أبو عبد الله محمد بن سلمة، يقول من عنده: إنما قدم الرجل هنا تحوطا على قلب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من أن يناله روع أو حزن على موسى عليه السلام؛ لأنه لو قيل (وَجَاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى)، لأمكن أن يتوهم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أنه جاءه جماعة كثيرون يريهم الاستخفاف منه لأجل قتله القبطي، فما يصل إلى ذكر الفاعل إلا بعد حصول الروع منه والفزع في القلب، فبدأ بذكر الرجل احترازا من هذا، كما قال تعالى (عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ)، وأما سورة يس فأتت بعد ذكر الرسول فلا يؤثر فيها هذا التوهم [فزعا*] إذا جاء الجماعة يجيبون بالحض على إتباع الرسول، قيل لابن عرفة: هذا لَا حاجة به، بل يقال: هذه الآية وردت على الأصل، وما السؤال إلا في سورة يس.
قال ابن عرفة: روى بعض الشيوخ المعمرين أن الأمير أبا عبد الله محمد، المدعو بأبي عصيرة، كان خليفة بتونس، وكان الأمير أبو يحيى زكريا والد الأمير ابن أبي بكر خليفة بجاية، وكان كثير الأسفار، وطويل الغيبات في سفره، وكان الأخوان: عمران، وموسى ابن أسرعين أحدهما: بتونس، والآخر: ببجاية، فبعث أبو عصيرة حسينا أميراً عليهم ابن أسرعين ببجاية في غيبة الأمير أبي يحيى زكريا، فدخل إلى أخيه موسى بكتاب من عند الملك، فأمره فيه أن يخلع بيعة سلطانه ويبايع لابن عصيرة، فامتنع، وقال: والله لَا أخونه فيما أمنني عليه، فلما قدم الأمير زكريا أخذ عليه في فتحه الباب لأخيه، وكونه أدخله، ثم بعد ذلك يؤثر في قتله، فكتب بعض الحاضرين إليه براءة
صغيرة بهذا النص: (يَا مُوسَى إِن) ولم يكمل الآية، ففطن بها موسى وهرب من جنبه.
قال ابن عرفة: وذكر الغزالي في مثل هذا، إن لم يكن فيه تعرض [للتنقيص*] والاستهزاء فيما لَا يحل فهو جائز، وقد حكى فيه عياض في المدارك عن ابن العطار أنه يعلم بآيات في مثل هذا، قلت: نقل عياض عن أبي عبد الله محمد بن أحمد العطار: أنه أفتى في [فصل*] من السهو بالسجود، فقيل له: إن أصبغ بن [الفرج*] لم ير عليه سجودا، فقال (كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ)، قال: وبلغه أن ابن [... ] لم يشهد عليه حين دعا النَّاس للشهادة [**بحرصه]، فقال: (كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ).
قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ... (٢٩)﴾
قال ابن عرفة: الظاهر المراد به أقصر الأجلين؛ لأن الألف واللام إن كانت للعهد فالمعهود القريب، وهو أقصاهما، لأنهما كالضمير العائد على أقرب مذكور، وإن كان للجنس فهو إما بمعنى الكل أو أكثرهما هو المجموع وهو الأقصى، وإن أريد الكلية تناولت اقتضائهما؛ لأنه كل فرد من أفراد الأجل.
قوله تعالى: ﴿وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (٣١)﴾
وفي الآية الأخرى (إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ) مع أنه خاف، فأجاب: بأن هذا الخوف أمر جبلي، فالمراد كن آمنا مما تخافه ولا تلتفت إلى ما يقع في نفسك من الجزع والهلع بوجه، قال: وفيها سؤالان:
الأول: كيف أكد الخوف بـ (إِنَّ) والمخاطب عالم بخفيات الأمور وغير منكر لذلك القول؟
الثاني: كيف خاف مع وعد الله، لقوله تعالى: (وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ)؟
ثم أجاب عن الأول: بأنه أكده مراعاة لما رتب عليه، من قوله تعالى: (فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ).
الثاني: أن المراد أن (لَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ)، فما يوحي إليك به فلا يكن في نفسك منه هلع وخوف، وأما ما لَا يرجع إلى الوحي، فلا يدخل في هذا.
قوله تعالى: ﴿إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (٣٣)﴾
كيف أكد القتل بأن الله أعلم بخفيات الأمور؟ فأجاب ابن عرفة: بأن التوكيد اعتبار المعطوف، وهو خوف القتل.
قوله تعالى: ﴿مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى... (٣٦)﴾
قال الزمخشري: [سِحْرٌ مُفْتَرىً سحر تعمله أنت ثم تفتريه على الله. أو سحر ظاهر افتراؤه. أو موصوف بالافتراء كسائر أنواع السحر وليس بمعجزة من عند الله*]، زاد ابن عرفة: أو سحر اخترعته، وحيث فيه جديد مبتدأ غير معهود في السحر بوجه لم يعلم له نظير في السحر.
قوله تعالى: ﴿وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ... (٣٧)﴾
قرأ ابن كثير بحذف الواو، والباقون بإثباتها.
ابن عرفة: وجهه أن من راعى كيفية اللفظ ومعناه فأثبتها.
قوله تعالى: ﴿وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ... (٣٩)﴾
[أي*]: الاستكبار على شخص مع استحقار المستعلي [لمن تحته*]، وفي الأرض تنبيه على أن من هو في الأرض المحقرة الموطأة بالإقدام لَا ينبغي أن يستعلي.
قوله تعالى: (بِغَيْرِ الْحَقِّ).
إما سبب، والمعنى واستكبر هو وجنوده بسبب هو غير حق، فيرجع إلى متعلق الاستكبار، وهذا صواب لأنهم إذا ذموا على الاستكبار بسبب أحرى أن يذموا على الاستكبار بغير موجب بوجه.
قوله تعالى: ﴿وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ... (٤٧)﴾
قال ابن عرفة: من شرط الواقع بعد لولا أن يكون موجودا، كقولك: لولا زيد لهلكنا، وهو هنا [مقدرٍ محذُوفٍ*] [أي: لوْلاَ سبب أنْ تصيبهُمْ.] (١).
(١) بياض، وهو خرم في المخطوطة من الآية ٤٧ في سورة القصص إلى الآية ١٦ من سورة لقمان، ولعله سقط من النَّاسخ، وذلك لأن صفحات المخطوط متتالية في الترقيم والبياض المشار إليه بمقدار مصف صفحة، وهو أقل من السقط بكثير، والله أعلم.
ومن باب الفائدة فقد رأيت أن أجبر هذا السقط من كتاب (نكت وتنبيهات في تفسير القرآن المجيد، لأبي العباس البسيلي التونسي (المتوفي ٨٣٠ هـ)
قال رحمه الله:
"٤٧ - ﴿وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ﴾:
"لوْلا" هُنَا حرْفُ وُجُودٍ لامتناعٍ.
فإنْ قلتَ: شرْطُ ما تدْخُلُ عليهِ أنْ يكونَ موْجوداً لَا مقدَّرَ الوجودِ، وهو في الآية مقدر الوجود.
فالجوابُ أن "لولا" هنا دخَلتْ على مقدرٍ محذُوفٍ، أي: لوْلاَ سبب أنْ تصيبهُمْ.
﴿وَعَمِلَ صَالِحًا﴾:
العطفُ يقتضي مغايرَةَ العمَلِ للإيمانِ، إِلاَّ أنْ يُفَسَّرَ بالنوافلِ. وللمعتزِلَةِ في كونها من الإيمانِ قوْلانِ.
فإنْ قلت: الأصلُ فيما فُصِلَ بأمَّا أنْ يتقدمهُ مجملٌ كقوله: "جاءَ القومُ، أمَّا الصُّلَحَاء فأكرمتهم، وأمَّا الطُّلَحَاء فأهنتهُمْ". وَلاَ بُدَّ مِنْ صدقِ المُفَضَّل على كلِّ قسمٍ، فلا تقولُ: "جاءَ القومُ، أمَّا الكلابُ فضربتهُمْ، وأَما الَدَّوابُّ فعلفتهم"؛ ولَمْ يتقدمْ هنا غيرُ قوله تعالى (فَعَميَتْ عَلَيْهِمُ الأنبَاءُ) وهو لا يَحْسُنُ لِمَا ذكرنا.
قلت: هو تفصيلٌ لقولهِ تعالى (أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسناً) الآية، أَوْ لِمفهومِ (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ)؛ لأن المبعوثَ إليهم منهمْ منْ آمنَ وعملَ صالحاً، ومنهمْ منْ لمْ يومنْ.
سُورَةُ الْعَنْكَبُوت
٤ - ﴿سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾:
لمْ يقلْ "مَا يعملونَ"، لاسْتلزامِ الحكم العمَل؛ لأن الحاكمَ عاملٌ دونَ عكسٍ.
٨ - ﴿وَوَصَّيْنَا﴾:
هوَ أبلغُ مِنْ "أمَرْنَا"؛ لاقتضاءِ "وَصَّى" التَّكرارَ، بخلافِ "أَمَرَ".
﴿وَإِنْ جَاهَدَاكَ﴾ الآية:
شبهُ احتراسٍ.
١٢ - ﴿اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا﴾:
أي: سبيلَناَ الواضحَ البَيِّنَ لنا ولغيْرنا، ولذا لَمْ يقولوا "اتَّبعونَا" وإنْ كانوا هُمُ الحاملينَ.
﴿إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾:
تأسيسٌ لقولهِ (ومَا هُمْ بحَامِلينَ)؛ لأنهمْ قالوا (ولْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ).
الزمخشري: "هذا إنْكار منهمْ للحشْرِ، فقال تعالى (وَمَا همْ بحاملينَ مِنْ خَطَايَاهُم) رَدّاً لظاهرِ قولهمْ (إنَّهُمْ لَكَاذبُونَ) في إنكارهم الحشر، بلْ هم غير حاملين خطاياهم، والحشر حق".
وفي الآية رد على ابن قتيبة أنّ الكذبَ إنما يتعلق بالماضي، وأمَّا ما يتعلق بالمستقبل فخُلْفٌ لا كذب؛ وتقريرُ الردِّ أن اللَّه كذّبهم في قولهم (وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ) وعلَّقوا ذلك على اتِّباعِهم سبيلَهم؛ والصحيحُ أن الكذب هو "الإخبار بالأمر على خلاف ما هو" أعمّ مِن أن يكون متَعلَّقُه ماضياً أو مستقبلا.
٢٢ - ﴿وَلَا فِي السَّمَاءِ﴾:
وفي آية الشورى، لم يقل "ولا في السماء"، فقال صاحب "برهان القرآن":
"إنما قال هنا (وَلاَ فِي السَّمَاءِ)؛ لأن نمرودا صعد إلى جهة السماء، وآية الشورى ليس فيها ذلك".
ع: "وهذا يحتاج إلى خبر صحيح؛ والفرق عندي بين الآيتين قَصْدُ الإطناب في هذه، لتَقَدُّم قوله (يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ) فعلَّق ذلك على المشيئة التي لا كسْب للعبد فيها، فناسَبَ الإطناب؛ وأما في آية الشورى فتقدَّمَها قوله (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ)، فعلَّقَ ذلك على كسبِ أيديهم، وعقَّبه بذِكْر العَفو، فناسب ذكر الأرض خاصّة".
٥٢ - ﴿قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا﴾:
الواقعُ في آياتِ القرآنِ تقديم (شهيداً) إلا في هذه الآية، ووجْه تقديم الظرف هنا أنه الأهمُّ لتقدّم ذكر المجادلة المقتضِية للبيِّنة.
٥٣ - ﴿لَجَاءَهُمُ﴾:
لم يقل "لعاجلهم" مع كونه المناسبَ لـ "يستعجلونك"، لئلا يُتَوهم أن سببَ نزول العذاب بهم هو استعجالُهم.
سُورَةُ الرُّوم
٣٠ - ﴿حَنِيفًا﴾:
فسروا الحنيفَ بالمائل، ولم يذكروا مُتَعَلَّقَ الميل، وهو باعتبار فروع الشرائع، فإنّ شريعتَنا مائلةٌ باعتبار الفروع؛ لأنّ فروعَها أخفُّ من فروع غيرِها؛ واتّفق الكلُّ على الوحدانية.
٥٥ - ﴿مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ﴾:
هذا مُتَعَلَّق القسَم، ووجْه الرّدّ عليهم بقول الذين أوتوا العلم، أنّ المجرمين حصروا لُبْثهم في ساعة، فردُّوا عليهم بأنَّ لبثهم غيرُ محصور ولا موَقَّت، بل هو إلى يوم القيامة، وهو غيرُ معلوم.
٦٣ - ﴿الْقَوْلُ﴾:
إِنْ قلت: لِمَ جَعَلَ التذَكُّرَ علَّةً للقولِ الذي هُوَ أَعَمُّ مِنَ الكلامِ؟.
قلت: إنمَا جُعِلَ علَّةً له مِنْ حيثُ كونُهُ جزءَ كلام، ومَا لَزِمَ الجزءَ لزِمَ الكُل.
٦٧ - ﴿فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ﴾:
التوبةُ هنا الإقلاعُ عنِ الشِّرْكِ، والإيمانُ التصْديقُ بنبُوةِ محمدٍ - ﷺ -، فهو تأسيسٌ.
سُورَةُ لُقْمَان
٦ - ﴿بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾:
عُدولٌ يقتضي وجود الموضوع، أي بشيء وهو غير علم، والمراد بـ "العلم" ما يستنبط بالعقل وبـ "الهدى" ما يستفاد من الغير وبـ "الكتاب" الدليل السمعي من القرآن والسنة.
٧ - ﴿وَلَّى مُسْتَكْبِرًا﴾:
يقتضي سماعه الآيات تتلى وقوله (كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا): نَفَى السماعَ النافع.
١٧ - ﴿وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾:
قول ابن عطية: "يريد بعد امتثَالِه في نفسِه"، اعتزال.
٣٤ - ﴿عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ﴾:
وجْه حُكم الحصرِ في عِلْمُ الساعَةِ تقديمُ الظرف، وفي (يُنَزِّلُ الْغَيْثَ) من مفهوم (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ ماذَا تَكْسُب غَداً)، فإنه إذا لم يَدْرِ ما له فيه كسب، فأحْرى ما لا كسب له فيه، وهو إنزالُ الغيث". اهـ (نكت وتنبيهات في تفسير القرآن المجيد، لأبي العباس البسيلي. ٣/ ٣٧٥ - ٣٨٤).
Icon