تفسير سورة القصص

الهداية الى بلوغ النهاية
تفسير سورة سورة القصص من كتاب الهداية الى بلوغ النهاية المعروف بـالهداية الى بلوغ النهاية .
لمؤلفه مكي بن أبي طالب . المتوفي سنة 437 هـ
بسم الله الرحمن الرحيم١
سورة القصص
مكية
١ بعده في ز: صلى الله على محمد وآله..

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة القصص
مكية
قوله تعالى ذكره: (طسم (١) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ) [١]، إلى قوله: (كَانُوا خَاطِئِينَ) [٧].
قد تقدم تفسير " طسم "، والمعنى هذه آيات الكتاب الذي أنزله إليك يا محمد المبين: أنه من عند الله، لم تتقوله ولا تخرصته، وفي هذا إشارة إلى أن الله قد أعلم من قبل محمد من النبيين أنه سينزل على نبي كتاباً مبيناً، فذلك معنى الإشارة في قوله: ﴿تِلْكَ آيَاتُ﴾، أي هذه الآيات التي وعد الله أن ينزلها وكذلك ما شابهه مثله.
وقال قتادة: المعنى: المبين بركته ورشده وهداه.
وقيل: المعنى: المبين الحق من الباطل، والحلال من الحرام، وقصص الأنبياء، ونبوة محمد عليه السلام.
يقال: أبان الشيء وبان.
قال تعالى: ﴿نَتْلُواْ عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ موسى وَفِرْعَوْنَ﴾.
أي نقرأ عليك يا محمد رسولنا، ونقص عليك من خبر موسى وفرعون ﴿لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾، أي لقوم يصدقون بهذا الكتاب، فيزدادون عند سماع ما لم يكونوا يعلمون تصديقاً وإيماناًَ ويعلمون أن من عاداك مصيره كمصير من عادى موسى.
قال تعالى: ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأرض﴾، أي تجبر وتكبر، لم يرد علو مكان، وعلى ذلك ما وصف الله بالعلو، ليس هو علو مكان ﴿وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً﴾، أي فرقاً
5482
يذبح طائفة، ويستحيي طائفة، ويعذب طائفة، ويستعبد طائفة. ﴿إِنَّهُ كَانَ مِنَ المفسدين﴾، أي ممن يفسد في الأرض بقتله من لا يستحق القتل، واستعباده من ليس له استعباده، وتجبره بغير حق.
قال السدي: رأى فرعون في / منامه أن ناراً أقبلت من بيت المقدس حتى اشتملت على بيوت مصر، فدعا السحرة والكهنة والقافة فسألهم عن رؤياه، فقالوا: يخرج من هذا البلد الذي جاء بنو إسرائيل منه، يعنون بيت المقدس رجل يكون على وجهه ذهاب مملكتك، وكان بنو إسرائيل لا يولد لهم غلام إلا ذبحه، ولا يولد لهم جارية إلا تركت. وقال للقبط: انظروا مملوكيكم الذين يعملون خارجاً فأدخلوهم، واجعلوا بني إسرائيل يلون تلك الأعمال القذرة، فجعل بنو إسرائيل في أعمال غلمانهم، وأدخلهم غلمانهم، فذلك قوله: ﴿وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً﴾
5483
وواحد الشيع: شيعة، وهي الفرقة التي يشيع بعضها بعضاً أي يعاونه.
قال أبو إسحاق: إنما فعل ذلك لأن بعض الكهنة قال له: إن مولوداً يولد مع ذلك الحين يكون سبب زوال ملكه. فالعجب من حمق فرعون إن كان الكاهن عنده صادقاً فما يغني القتل، وإن كان كاذباً فما يصنع بالقتل.
قال تعالى: ﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الذين استضعفوا فِي الأرض﴾، يعني نبي إسرائيل الذين استضعفهم فرعون، فكان يذبح أبناءهم ويستحس نساءهم، وكان بنو إسرائيل اثني عشر سبطاً، بالسبط الذي كان منهم موسى الذي كان فرعون يذبح أبناءهم، ويستحيي نساءهم. وهم سبط النبوة، وكان فرعون جعل على نساء ذلك السبط حفظة من النساء، فإذا حملت المرأة دونها عنده في الدواوين فإن وضعت ذكراً ذبحه، وإن وضعت أنثى تركها، وكان الكهان يأتون فرعون كل يوم فيخبرونه بما يرون في كهانتهم.
قوله: ﴿وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً﴾ أي ولاة وملوكاً. ﴿وَنَجْعَلَهُمُ الوارثين﴾، قال قتادة: يرثون الأرض من بعد فرعون وقومه.
﴿وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأرض﴾، أي نوطئ لهم في أرض الشام ومصر. ﴿وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ﴾، أي: نريهم زوال ملكهم على يد الرجل الذي قد حذروا أمره، وقتلوا الولدان من جهته، وهو موسى ﷺ.
وذكر ابن وهب عن رجاله: أن فرعون ولي بني إسرائيل أربعمائة عام وأربعين عاماً، فأضعف الله ذلك لبني إسرائيل، فولاهم على آل فرعون بعده ثمانمائة عام وثمانين عاما. قال: وإن كان الرجل ليعمر ألف سنة في القرون الأولى، وما يحتلم حتى يبلغ عشرين ومائة سنة.
وروى ابن زيد عن أبيه، قال: كان في الزمان الأول يمر بالرجل أربعمائة سنة قبل أن يرى فيها جنازة. فقوله: ﴿أَن نَّمُنَّ عَلَى الذين استضعفوا﴾ إلى قوله: ﴿الوارثين﴾ هو قوله: ﴿مَّا كَانُواْ يَحْذَرُونَ﴾، فهذا هو الذي كان فرعون يحذر، كان يحذر أن يمن الله على الذين استضعفوا في الأرض عند فرعون، وأن يجعلهم أئمة، وأن يجعلهم الوارثين لأرض فرعون وملكه.
قال تعالى ذكره: ﴿وَأَوْحَيْنَآ إلى أُمِّ موسى أَنْ أَرْضِعِيهِ﴾، أي وقذفنا في قلب أم موسى، إذ ولدته أن ترضعه، وقيل: هي رؤيا رأتها.
قال السدي: أمر فرعون أن يذبح الأولاد من بني إسرائيل سنة ويتركوا سنة فعلت بموسى في السنة التي يذبحون فيها الأولاد، فلما أرادت وضعه حزنت من شأنه فأوحى الله إليها أن أرضعيه. الآية.
قال ابن جريج: أمرت أن ترضعه ما أمنت عليه، فإذا خافت عليه ألقته في البحر.
فلما بلغ أربعة أشهر وصاح، وابتغى من الرضاع أكثره، ألقته حينئذ في
اليم إذ خافت عليه.
وقال السدي: وضعته وأرضعته ثم دعت له نجاراً فعمل له تابوتاً، وجعلت مفتاح الثابوت من داخل، وجعلته فيه وألقته في اليم وهو النيل.
ثم قال: ﴿وَلاَ تَخَافِي﴾، أي لا تخافي على ولدك من فرعون وجنده أن يقتلوه ﴿وَلاَ تحزني﴾ لفراقه. قال ابن زيد: لا تخافي البحر عليه، ولا تحزني لفراقه. ﴿إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ﴾، للرضاع فترضعيه أنت ﴿وَجَاعِلُوهُ مِنَ المرسلين﴾ أي باعثوه رسولاً إلى هذه الطاغية.
قال تعالى: ﴿فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً﴾، يعني التقطه من النيل جواري امرأة فرعون آسية. خرجن يغتسلن فوجدن التابوت، فأدخلنه إلى آسية، فوقعت عليه رحمتها وحنينها، فلما أخبرت به فرعون، أراد أن يذبحه، فلم تزل تكلمه حتى تركه لها.
وقال: إني أخاف أن يكون هذا من بني إسرائيل /، وأن يكون هذا الذي على يديه هلاكنا، ولذلك قال تعالى: ﴿لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً﴾.
5487
وقال محمد بن قيس: كانت ابنة فرعون برصاء، فجاءت إلى النيل فإذا التابوت في النيل تخفقه الأمواج، فأخذته ابنة فرعون، فلما فتحت التابوت، فإذا هي بصبي، فلما نظرت إلى وجهه برأت من البرص، فجاءت إلى أمها، وقالت: إن هذا الصبي مبارك، لما نظرت إليه برأت. فقال فرعون: هذا من صبيان بني إسرائيل، هلم حتى أقتله فقالت: ﴿قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ﴾.
وقال ابن إسحاق: وأجمع فرعون في مجلس له على شفير النيل، كان يجلسه على كل غداة فبينما هو جالس إذ مر النيل بالتابوت فقذف به، وآسية بنت مزاحم امرأته جالسة إلى جنبه. فقال: إن هذا الشيء في البحر، فأتوني به، فخرج إليه أعوانه، حتى جاءوا به، ففتح التابوت، فإذا فيه صبي في مهده، فألقى الله عليه محبته وعطف عليه نفسه. قالت امرأته آسية: ﴿لاَ تَقْتُلُوهُ عسى أَن يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً﴾.
5488
وحكى الكسائي: في تصغير آل: أويل والأكثر على رده إلى الأصل، فيقولون: أهيل وإذا أضيف إلى اسم صحيح ليس بموضوع لمعرفة ردوه إلى الأصل. فقالوا: هم أهل الرجل، وأهل المرأة. وكذلك إن أضافوا إلى مضمر أو إلى بلد. قالوا: هم أهلك، وأهل الكوفة، وقوله: ﴿لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً﴾.
اللام لام كي، والمعنى أنه لما كان في علم الله أن يكون لهم عدواً وحزناً، صاروا كأنهم إنما التقطوه لكي يصير لهم عدواً وحزناً، فصاروا كأنهم التقطوه لذلك، وإن لم يقصدوا ذلك إنما آل أمرهم إلى أن كان لهم عدواً وحزناً، صاروا كأنهم التقطوه لذلك، ومثله: ﴿فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشيطان لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا﴾ [الأعراف: ٢٠]. لم يعرف إبليس أنهما إذا أكلا بدت لهما سوآتهما، ولا قصد لذلك إنما قصد ليوقعهما في الخطيئة، فبدت لهما سوآتهما عند مواقعة الخطيئة فصار كأنه فعل ذلك ليبدي لهما سوآتهما وإن
5489
لم يكن قصده لذلك. وهي لام العاقبة ولام الصيرورة وهذا كما قال: " فللموت ما تلد الوالدة " لم تلد المولود ليموت ولا للموت، ولكن كانت العاقبة إلى الموت، تكون صارت كأنها ولدته لذلك والحُزن والحَزن لغتان، كالسُقم والسَقم.
وقيل: الحَزَن: الاسم، والحُزن المصدر.
وقوله تعالى: ﴿كَانُواْ خَاطِئِينَ﴾، أي آثمين بفعلهم، يقال خطئ يخطأ: إذا تعمد الذنب.
ويروى: أن فرعون كان له رجال مخضبة أيديهم بالحناء قد شدوا أوساطهم بالمناطق وفيها السكاكين يذبحون الأطفال، فولدت أم موسى موسى، ولا علم عندهم به، فأوحى الله إليها أن ترضعه، فإن خافت عليه ألقته في اليم يعني النيل، فخافت عليه، فجعلته في تابوت وغلقت عليه، وعلقت المفاتيح في التابوت، وألقته في النيل، وكان لامرأة فرعون جوار يسقين لها الماء من موضع من النيل لا
5490
تشرب من غيره، فلما أتى الجواري يستقين وجدن التابوت، فأردن فتحه، ثم قال بعضهم البعض: إن فتحناه قبل أن تراه سيدتنا اتهمنا. وقالت: وجدتن فيه شيئاً غير هذا، ولكن دعنه على حاله حتى تكون هي التي تفتحه وهو أحصى لكن عندها، فذهبن بالتابوت إليها، فتحت التابوت فإذا موسى، فكان من قصته ما ذكره الله لنا، وقد تقدم من قصته في مريم نحو هذا أو أشبع منه.
قوله تعالى ذكره: ﴿وَقَالَتِ امرأة فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ﴾.
أي قالت آسية لفرعون: هذا الغلام قرة عين لي ولك، لا تقتلوه.
ومعنى: قرة عين: أي برد لعيني وعينك (لا تستحر) أعيننا بالبكاء،
5491
فهو من القر، وهو البرد.
وقيل هو من قر بالمكان أي لم يبرحه.
وروي: أن امرأة فرعون لما قالت له هذا قال: أما لك فنعم، وأما لي فلا، فكان كما قال.
قال ابن عباس: لما أتت امرأة فرعون بموسى فرعون قالت: قرة عين لي ولك، قال فرعون: يكون لك /، وأما لي فلا حاجة لي فيه. فقال النبي ﷺ: " والذي يحلف به لو أقر فرعون أنه يكون له قرة عين كما أقرت لهاده الله جل ذكره به كم هدى به امرأته، ولكن الله حرمه ذلك " وقوله تعالى: ﴿لاَ تَقْتُلُوهُ﴾،
5492
بلفظ الجماعة إنما ذلك لأنها خاطبته كما يخاطب الجبار، وكما يخبر الجبار عن نفسه بلفظ الجماعة. ويروى: أنها إنما قالت لفرعون ذلك، يوم نتف موسى لحية فرعون، فأراد فرعون قتله.
وقيل: بل قالته له حين التقطه آل فرعون فأراد فرعون قتله. وقوله: ﴿وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ﴾، أي لايشعرون أن هلاكهم على يديه، وفي زمانه.
قال قتادة. وقال مجاهد: أَنَّه عَدُوٌ لَهُمْ. وقيل: هذا الضمير على بني إسلائيل يعود، والمعنى: وبنو إسرائيل لا يشعرون ذلك.
قال تعالى: ﴿وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ موسى فَارِغاً﴾ أي أصبح فارغاً من كل شيء سوى ذكر موسى. قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة والضحاك. وقال ابن زيد معناه أصبح فارغاً من الوحي الذي قال لها الله فيه: ﴿وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تحزني إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ﴾ [القصص: ٧]،
5493
فحزنت عليه وخافت. قال: جاءها إبليس فقال: يا أم موسى: كرهت أن يقتل فرعون موسى، فيكون لك أجره، وثوابه، وتوليت قتله، وألقيته في البحر وغرقته. قال الحسن: أصبح فارغاً من العهد الذي عهد إليها والوعد الذي وعدت أن يرد عليها ابنها، فنسيت ذلك كله، حتى كادت أن تبدي به لولا أن ربط الله على قلبها بالصبر لأبدت به.
قال ابن إسحاق: كانت أم موسى ترجع إليه حين ألقته في البحر، هل تسمع له بذكر حتى أتاها الخير بأن فرعون أصاب الغداة صبياً في النيل في التابوت، فعرفت القصة، ورأت أنه قد وقع في يدي عدوه الذي فرت به منه، فأصبح فؤادها فارغاً من عهد الله جل ثناؤه إليها فيه، قد أنساها عظيم البلاء، ما كان من العهد عندها من الله فيه.
قال ابن زيد: ﴿إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ﴾، أي بالوحي.
وقال ابن عباس: كادت تقول: وابناه. وكذلك قال قتادة.
5494
قال أبو عبيدة: فارغاً من الحزن لما علمت أنه لم يغرق.
قال السدي: لما أخذ ثديها في الرضاع كادت تقول: هو ابني، فعصمها الله.
وعن ابن عباس: أن معناه: أصبح فؤاد أم موسى فارغاً من كل شيء إلا من ذكر موسى، كادت أن تخبر به، فتقول: الذي وجدتموه في التابوت هو ابني، ونسيت ما وعدها الله به أنه يرده عليها، فثبتها الله، وربط على قلبها بالصبر، حتى رجع إليها كما وعدها الله.
وروى ابن وهب، وابن القاسم عن مالك: أنه قال: فارغاً هو ذهاب العقل في رأيي، يقول الله تعالى: ﴿لولا أَن رَّبَطْنَا على قَلْبِهَا﴾.
وعن ابن عباس: إن كادت لتبدي به، قال: إن كادت لتقول: يا بنياه.
وقال زيد بن أسلم: معناه: فارغاً من الوحي الذي أوحى الله إليها حين أمرها أن تلقيه في البحر.
5495
وقال الأخفش: لتبدي به بالوحي، كقول ابن زيد:
وقوله: ﴿لولا أَن رَّبَطْنَا على قَلْبِهَا﴾، أي عصمناها من إظهار خبره.
وقال قتادة: ربطنا على قلبها بالإيمان لتكون من المؤمنين.
قال تعالى: ﴿وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ﴾ أي قصي أثره أي اتبعي أثره، فانظري أخرجه أحد من البحر، ومن التابوت أم لا؟ فإن أخرج فانظري ماذا يفعلون به..
وقيل معناه: انظري أحي هو أم أكلته دواب البحر؟ ثم قال: ﴿فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ﴾ وفي الكلام حذف، والتقدير: فقصت أخت موسى أثره، فبصرت بموسى عن بعد، ولم تقربه لئلا يعلم أنها من قرابته، يقال: بصرت به وأبصرته، ويقال: عن جنب وعن جنابة، ومنه قولهم: فلان أجنبي.
قيل عن جنب: أي أبصرته عن شق عينها اليمنى. ﴿وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ﴾، بها أنها أخته.
وعن ابن عباس: على جنب والجنب أن يسمو بصر الإنسان إلى الشيء البعيد وهو إلى جنبه/، لا يشعر به.
وحكى بعض المفسرين: عن جنب: عن شوق.
قال أبو عمرو: وهي لغة لجذام، يقولون: تجنبت إليك أي تشوقت. وقوله: ﴿وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ﴾، أي وآل فرعون لا يشعرون أنها أخته جعلت تنظر إليه كأنها لا تريده.
وقيل معناه: وهم لا يشعرون ما يصير إليه أمر موسى، ولا يعلمون كرامته على الله.
قال تعالى: ﴿وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ المراضع مِن قَبْلُ﴾. أي ومنعنا موسى المراضع أن يرتضع منهن من قبل رده إلى أمه. وقيل: من قبل أمه.
وقيل معناه: منعناه قبول ذلك.
5497
وقيل: هو من المقلوب. ومعناه: وحرمنا على المراضع رضاعه، والتحريم بمعنى المنع، معروف في اللغة، وواحد المراضع: مرضع، ومن قال: مراضع، فهو جمع: مرضاع، ومفعال، بناء للتكثير، ولا تدخل الهاء في مؤنثه إذ ليس بجار على الفعل، وقد قالوا: مرضاعة، فأدخلوا الهاء للمبالغة لا للتأنيث، كما قالوا: مطرابة.
ثم قال: ﴿فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ على أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ﴾.
قال السدي: أرادوا له المرضعات فلم يأخذ من ثدي أحد من النساء وجعل النساء يطلبن ذلك لينزلن عند فرعون في الرضاع. ويروى: أن فرعون بلغ منه الغم بامتناعه من الرضاع كل مبلغ حتى كان أخذه فرعون على يديه وجعل يطلب له الرضاع بنفسه ويشفق عليه من البكاء، فلما قالت لهم أخته ما قالت استراح فرعون إلى قولها، وطمع أن يقبل موسى رضاعها فقال: جيئني بها، فذهبت
5498
إلى أمها فجاءت بها، فأمرها فرعون برضاعه، فقبل ثديها، وسكت، فسر بذلك فرعون وهذا من عجيب لطف الله. ومعنى: يكفلونه: يضمونه.
وقالت: ﴿وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ﴾، روي: أنها لما قالت ذلك، قالوا لها: ومن هي؟ قالت: أمي، قالوا لها: أو لأمك لبن؟ قالت: نعم، لبن أخي هارون.
وكان هارون ولد في سنة لم يكن فيها ذبح.
روي: أن فرعون كان يذبح سنة ويترك سنة.
وروي: أنه كان ترك الذبح أربع سنين، فولد هارون في آخرها، فأرسلت امرأة فرعون إلى أم موسى، وقالت لها: هذا الصبي أرضعيه، ولك عندنا الكرامة، مع ما لك من القدر عندنا، ولزوجك، فأخذته وأتم الله وعده لها برده إليها، فلما صار موسى إليها لم يبق أحد من خاصة فرعون إلا أكرمها، وكان زوجها عمران قد احتبسه فرعون عنده، فرده عليها.
ويروى أن فرعون قال لأم موسى: كيف ارتضع هذا الصبي منك؟ ولم يرتضع من غيرك؟ فقالت: لأني امرأة طيبة الريح، طيبة اللبن، فلا أكاد أوتى
5499
بصبي إلا ارتضع مني.
وروي: أنها لما قالت: ﴿وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ﴾، أخذوها، فقيل لها: قد عرفته، فقالت: إنما عنيت أنهم للملك ناصحون، قال السدي وابن جريج.
قال تعالى: ﴿فَرَدَدْنَاهُ إلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلاَ تَحْزَنَ﴾، أي رددنا موسى إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن عليه، وليتم الوعد الذي وعدها الله به في قوله جل ذكره: ﴿وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تحزني﴾ [القصص: ٧]، وهو قوله: ﴿وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾، أي أكثر المشركين لا يعلمون أن وعد الله حق، ولا يصدقون به.
قال تعالى: ﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ واستوى﴾، أي استكمل نهاية قوة الرجل.
قال مجاهد وقتادة: واستوى: بلغ أربعين سنة.
وقيل: الاستواء: ستون سنة.
وقال ابن عباس: الأشد: ثلاث وثلاثون سنة، وقاله مجاهد وقتادة.
وقيل: هو اثنان وعشرون سنة، فبها تبلغ الزيادة في الطول حدها في الاستواء.
﴿آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً﴾، أي فهماً في الدين ومعرفة به.
قال مجاهد: هو الفقه، والعقل، والعمل. وذلك قبل النبوة. ﴿وَكَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين﴾، أي كما جازينا موسى على طاعته، كذلك نجزي كل من أطاع، وإنما جعل الله إتيانه العبد الحمك والعلم جزاء على الإحسان، لأنهما يؤديان إلى الجنة التي هي جزاء المحسنين.
واختلفت في الأشد: فقيل: هو جمع أشد.
وقيل: لا واحد له.
وقيل: هو جمع: شدة.
قوله تعالى ذكره: ﴿وَدَخَلَ المدينة على حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا﴾، إلى قوله:
5501
(مِنَ الْمُصْلِحِينَ) [١٨].
أي ودخل موسى مَنْفَا من مصر على حين غفلة من أهلها، وهو نصف النهار.
وقيل: بين المغرب والعشاء.
قال السدي: كان موسى حين كبر، يركب مراكب فرعون، ويلبس ما يلبس، وكان إنما يدعى موسى بن فرعون، ثم إن فرعون ركب مركباً وليس عنده موسى، فلما جاء موسى قيل له: إن فرعون قد ركب، فركب موسى في إثره، فأدركه المقيل بمنف فدخلها نصف النهار، وليس بطرقها أحد.
وقال ابن إسحاق: كانت لموسى لما كبر وفيهم شيعة من بني إسرائيل، يسمعون منه، ويقتدون به، ويطيعونه، ويجتمعون إليه، فلما اشتد رأيه، وعرف ما هو
5502
عليه من الحق، رأى فراق فرعون وقومه على ما هم عليه حقاً في دينه، فتكلم، وعادى، وأنكر حتى ذكر ذلك منه، وحتى خافوه، وخافهم، وحتى كان لا يدخل قرية فرعون إلا مستخفياً، فدخلها يوماً على حين غفلة من أهلها.
وقال ابن زيد: معناه: على حين غفلة من ذكر موسى، ليس غفلة ساعة، وذلك أن فرعون خاف موسى، فأخرجه عنه، فلم يدخل عليهم حتى كبر، فدخل وقد نسي ذكره، وغفل عن أمره.
قال ابن عباس: دخل نصف النهار وقت القائلة، وعنه: دخل بين المغرب والعشاء.
ثم قال: ﴿فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ هذا مِن شِيعَتِهِ وهذا مِنْ عَدُوِّهِ﴾، أي أحدهما إسرائيلي من أهل دينه، والآخر قبطي من قوم فرعون وعلى دينه، وذكر أنهما اقتتلا في الدين الإسرائيلي على دين موسى والقبطي على دين فرعون، فعند ذلك حميت نفس موسى في الدين، فوكز القبطي، فأتى عليه ومات من وكزته.
وعدو عنا بمعنى أعداء، وكذلك يقال في المؤنث. ومن العرب من يدخل
5503
الهاء يجعله بمعنى: معادية.
ثم قال: ﴿فاستغاثه الذي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الذي مِنْ عَدُوِّهِ﴾.
قال ابن جبير: مر موسى برجل من القبط قد سخر رجلاً من المسلمين فلما رأى المسلم موسى استغاث به، فقال: يا موسى، يا موسى، فقال موسى: خل سبيله، فقال القبطي: قد هممت أن أحمله عليك، فوكزه موسى فمات، قال: حتى إذا كان الغد نصب النهار، خرج ينظر الخبر، فإذا ذاك الرجل قد أخذه آخر، فقال: يا موسى، فاشتد غضب موسى على القبطي فأهوى إليه، فخاف المسلم أن يكون إنما أتاه يريده، فقال له: ﴿أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بالأمس﴾.
فقال القبطي: يا موسى أراك أنت الذي قتلت بالأمس.
قال ابن عباس: لما بلغ موسى أشده لم يكن أحد من آل فرعون يخلص إلى أحد من بني إسرائيل معه بظلم ولا بسخرة، حتى امتنعوا كا الامتناع. فبينا هو يمشي ذات يوم في ناحية المدينة، إذا هو برجلين يقتتلان: أحدهما من بني إسرائيل والآخر من آل فرعون، فاستغاثه الإسرائيلي على الفرعوني، فغضب موسى، فوكز الفرعوني فقتله، ولم يرهما أحد إلا الله جل ذكره، فقال موسى لما مات:
5504
﴿هذا مِنْ عَمَلِ الشيطان إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ﴾، وفي هذا الحديث اختصار.
قال مجاهد: وكزه بجمع كفه.
وقال قتادة: وكزه بالعصا ولم يتعمد قتله فقضى عليه أي ففزع منه. وروى أنه دفنه لما مات في الرمل. ثم قال تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فاغفر لِي فَغَفَرَ لَهُ﴾.
أي قال موسى: يا رب إني أسأت إلى نفسي بقتلي القبطي، فاستر علي ذنبي فستره الله عليه.
قال ابن جريج: إنما قال: ظلمت نفسي بقتلي، من أجل أنه لا ينبغي لنبي أن يقتل حتى يؤمر. ﴿إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم﴾، أي الساتر الذنب من آمن به واستغفره. ﴿الرحيم﴾، للتائبين أن يعاقبهم على ذنوبهم بعد أن تابوا منها.
أي قال موسى: يا رب بعفوك عني في قتل هذه النفس فلن أكون عويناً للمجرمين.
وتقدير الكلام عند الفراء أنه بمعنى الدعاء، كأنه قال: اللهم فلن أكون عويناً للمجرمين.
وقيل: معنى الكلام الخبر، وتقديره /، لا أعصيك لأنك أنعمت علي، وهذا معنى قول ابن عباس.
قال تعالى: ﴿فَأَصْبَحَ فِي المدينة خَآئِفاً يَتَرَقَّبُ﴾ أي أصبح موسى خائفاً من قوم فرعون، يترقب الأخبار، أن يعرفوا القصة فيقتلوه بالقبطي. ﴿فَإِذَا الذي استنصره بالأمس يَسْتَصْرِخُهُ﴾، أي فإذا الإسرائيلي الذي استنصر موسى بالأمس على الفرعوني، يستصرخ موسى، أي يصيح وهو من الصراخ. ثم قال له موسى: ﴿إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ﴾، يوبخ الإسرائيلي، لأن موسى نادم على ما قد سلف منه من قتله القبطي بالأمس. ومعنى: ﴿لَغَوِيٌّ﴾، أي لذو غواية ﴿مُّبِينٌ﴾، أي أبنت غوايتك بقتالك أمس رجلاً، واليوم آخر.
قال ابن عباس: أتي إلى فرعون فقيل له: إن بني إسرائيل قد قتلوا رجلاً
5506
من آل فرعون فخذ لنا بحقنا، ولا ترخص لهم في ذلك، فقال: ابغوا لي قاتله ومن شهد عليه، لا يستقيم أن نقضي بغير بينة، ولا ثبت فاطلبوا ذلك. فبينما هم يطوفون لا يجدون شيئاً، إذ مر موسى من الغد، فرأى ذلك الإسرائيلي بقاتل فرعوني، فاستغاثه الإسرائيلي على الفرعوني، فصادف موسى وقد ندم على ما كان منه بالأمس، وكره الذي رأى، فغضب موسى، فمد يده وهو يريد الفرعوني، فقال للإسرايئلي لما فعل بالأمس واليوم ﴿إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ﴾، فنظر الإسرائيلي إلى موسى بعدما قال هذا، فإذا هو غضبان كغضبه بالإمس، فخاف أن يريده موسى، ولم يكن أراده إنما أراد الفرعوني فقال: ﴿أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بالأمس إِن تُرِيدُ إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّاراً﴾ الآية. فسمع كلامه فطلب موسى.
قال السدي: قال موسى للإسرائيلي: ﴿إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ﴾، ثم أقبل لينصره
5507
فظن الإسرائيلي أنه إياه يريده فأشهره، هذا معنى كلام السدي.
وقال ابن أبي نجيح: أراد الإسرائيلي أن يبطش بالقبطي فنهاه موسى ففرق الإسرائيلي من موسى، فقال: ﴿أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي﴾، الآية. فسعى بها القبطي. وكذلك قال ابن عباس: إن القبطي هو الذي أفشى الخبر على موسى، ورفع الحديث إلى النبي ﷺ.
قوله تعالى: ﴿وَجَآءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَا المدينة يسعى﴾،
أي جاء مخبر لموسى يخبره أن فرعون قد أمر بقتله، وأنهم يطلبونه، وذلك أن قول الإسرائيلي سمعه سامع فأمشاه فأمر فرعون بطلب موسى وقتله.
قال ابن عباس: انطلق الفرعوني الذي كان يقاتل الإسرائيلي إلى قومه فأخبرهم بما سمع من الإسرائيلي حين قال لموسى: ﴿أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بالأمس﴾ [القصص: ١٨]. فأرسل فرعون الذباحين لقتل موسى، فأخذوا الطريق الأعظم وهم لا
5508
يخافون أن يفوتهم، فكان رجل من شيعة موسى في أقصى المدينة، فاختصر طريقاً قريباً حتى سبقهم إلى موسى، فأخبره الخبر.
قال قتادة: كان الرجل مؤمناً من آل فرعون.
وقيل: كان اسمه شمعون.
وقيل: شمعان.
وقيل: هو حزقيل مؤمن آل فرعون أنذر موسى أن أشراف آل فرعون يطلبونه، فخرج موسى إلى مدين خائف يترقب، وإنما خرج إلى مدين للنسب الذي بينهم وبينه، لأن مدين ولد إبراهيم، وموسى من بني يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم صلى الله عليهم. ومعنى يسعى: تعجل ويسرع من أقصى مدينة فرعون.
وقوله: ﴿قَالَ ياموسى إِنَّ الملأ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ﴾، أي إن قوم فرعون يتآمرون بقتلك، أي يأمر بعضهم بعضاً بذلك.
قال أبو عبيدة: يأتمرون: يتشاورون في قتلك.
5509
وقيل: معناه: يهمون بك وكذلك قوله تعالى: ﴿وَأْتَمِرُواْ بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ﴾ [الطلاق: ٦] أي هموا به وأعزموا عليه.
ثم قال: ﴿فاخرج إِنِّي لَكَ مِنَ الناصحين﴾، أي من الناصحين في مشورتي عليك بالخروج، ﴿فَخَرَجَ مِنْهَا خَآئِفاً يَتَرَقَّبُ﴾، أي خائفاً منقتله النفس أن يقتل به، يترقب: أي ينتظر الطلب أن يدركه.
قال ابن إسحاق: خرج على وجهه خائفاً يترقب لا يدري أي وجه يسلك، وهو يقول: ﴿رَبِّ نَجِّنِي مِنَ القوم الظالمين﴾. وقال: ﴿وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَآءَ مَدْيَنَ﴾، أي ولما جعل موسى وجهه قبل مدين قاصداً إليها ﴿قَالَ عسى ربي أَن يَهْدِيَنِي سَوَآءَ / السبيل﴾، أي قصد الطريق إلى مدين، ولم يكن يعرف الطريق إلى مدين.
قال: ويروى أنه لما دعا الله بذلك، قيض له ملكاً سدده للطريق
5510
وعرفه إياها.
قال ابن عباس: خرج موسى متوجهاً نحو مدين وليس له علم بالطريق إلا حسن ظنه بريه، فإنه قال: ﴿عسى ربي أَن يَهْدِيَنِي سَوَآءَ السبيل﴾.
قال ابن جبير: خرج موسى من مصر إلى مدين وبينهما مسيرة ثمان، فلم يكن له طعام إلا ورق الشجر. قال: ﴿فَخَرَجَ مِنْهَا خَآئِفاً يَتَرَقَّبُ﴾، فما وصل إليها حتى وقع خف قدمه وكان بمدين يومئذ قوم شعيب.
قال تعالى: ﴿وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ﴾، أي لما ورد موسى ماء مدين: ﴿وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ الناس يَسْقُونَ﴾، أي جماعة يسقون غنمهم ﴿وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امرأتين تَذُودَانِ﴾، أي تحبسان غنمهما عن ورود الماء حتى يسقس الناس غنمهم إذ لم يتهيأ لهما مزاحمة الرجال على الماء.
يقال: ذاد فلان غنمه: إذا حبسها أن تتفرق وتذهب. وكذلك ذاده إذا قاده.
5511
ومعنى قاده: حبسه على ما يريد، فكانتا تحبسان غنمهما لأنهما لا طاقة لهما بالسقي، وكانت غنمهما تطرد عن الماء. وقيل: المعنى كانت تذودان غنمهما عن الماء حتى يصدر الناس ثم تسقيان لضعفهما.
وقيل: المعنى: كانت تذودان الناس عن غنمهما. ﴿قَالَ مَا خَطْبُكُمَا﴾، أي قال موسى للمرأتين: ما شأنكما وما أمركما في ذودكما غنمكما عن الماء.
قال ان عباس: قال لهما: ما خطبكما معتزلتين لا تسقيان مع الناس.
قال ابن إسحاق: وجد لهما رحمة ودخلته فيهما خشية لما رأى من ضعفهما، وغلبة الناس على الماء دونهما، فقال لهما: ما خطبكما؟ أي ما شأنكما لا تسقيان غنمكما. ﴿قَالَتَا لاَ نَسْقِي حتى يُصْدِرَ الرعآء﴾ أي حتى يصدر الرعاء مواشيهم. ﴿وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ﴾ أي لا يقدر يحضر فيسقس، فاحتجنا أن نخرج ونحن نساء.
5512
ومن قرأ " يصدر " بفتح الاياء: فمعناه يصدر الرعاء عن الماء، ومن ضم فمعناه: حتى يصدر الرعاء مواشيهم عن الماء.
قال تعالى: ﴿فسقى لَهُمَا ثُمَّ تولى إِلَى الظل﴾، أي فسقى لهما موسى قبل الوقت الذي تسقيان فيه ثم تولى إلى الظل، وهو الموضع الذي لن يكن عليه شمس.
والفيء: الموضع الذي كانت عليه شمس، ثم زالت، والظل ها هنا: ظل الشجرة.
وقال السدي: الشجرة: سمرة. روي أنه فتح لهما عن رأس بئر كان عليه حجر لا يطيق رفعه إلا جماعة من الناس ثم استقى ﴿فسقى لَهُمَا﴾، قال مجاهد والسدي.
5513
قال السدي: أروى غنمهما فرجعتا سريعاً، وكانتا إنما تسقيان. من فُضول الحياض.
قال عمر بن الخطاب: لما فرغ الناس من سقيهم أعادوا الصخرة على البئر، ولا يصير لرفعها إلا عشرة رجال، فإذا هو بامرأتين تذودان: ﴿قَالَ مَا خَطْبُكُمَا﴾ [القصص: ٢٣]، فحدثتاه، فأتى الحجر فرفعه، ثم لم يستق إلا دلوا واحداً حتى رويت الغنم، ورجعت المرأتان إلى أبيهما فحدثتاه و ﴿تولى إِلَى الظل فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾ [القصص: ٢٤]. ﴿فَجَآءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى استحيآء﴾ [القصص: ٢٥]، واضعة ثوبها على وجهها ﴿قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا﴾ [القصص: ٢٥]، قال لها: امشي خلفي وصفي لي الطريق، فإني أكره أن يصيب الريح ثيابك فيصف لي جسدك، فلما انتهى إلى أبيها ﴿وَقَصَّ عَلَيْهِ القصص﴾ [القصص: ٢٥]. ﴿قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يا أبت استأجره إِنَّ خَيْرَ مَنِ استأجرت القوي الأمين﴾ [القصص: ٢٦].
قال: يا بنية ما علمك بأمانته وقوته؟ قالت: أما قوته: فرفعه الحجر ولا يطيقه إلا عشرة رجال، وأما أمانته، فقال لي: امشي خلفي وصفي لي الطريق، فإني
5514
أكره أن يصيب الريح ثيابك، فيصف لي جسدك.
قال عبد الرحمن بن أبي نعيم: قال لها أبوها: ما رأيت من قوته؟ قالت: رأيته يملأ الحوض بسجل واحد، قال: فما رأيت من أمانته؟ قالت: لما دعوته: مشيت بين يديه، فجعلت الريح تضرب ثيابي فتلتصق إلى جسدي فقال لي: كوني خلفي فإذا بلغت الطريق فآذنيني. وروى عبد الله بن الصامت عن أبي ذر أن النبي ﷺ قال: " إن سئلت /، أي الجلين قضى موسى، فقل: خيرهما وأوفاهما، وإن شئت أي المرأتين تزوج، فقل الصغرى منهما: وهي التي جاءت إليه، وهي التي قالت: ﴿يا أبت استأجره﴾ ".
قال ابن عباس: سأل النبي جبريل ﷺ: " أي الأجلين قضى موسى؟ قال: أتمهما ".
وروى عتبة بن المنذر السهمي من أصحاب النبي ﷺ قال: لما أراد
5515
موسى فراق شعيب أمر امرأته أن تسأل أباها من نتاج غنمه، ما يعيشون به فأعطاهما ما وضعت غنمه من قالب لون ذلك العام.
قال رسول الله ﷺ: " فلما وردت الحوض، وقف موسى بإزاء الحوض، فلم تمر به شاة إلا ضرب جنبها بعصاً، فوضعت قوالب ألوان كلها، ووضعت اثنين وثلاث كل شاة ووصفت النبي عليه السلام أنه لا عيب في شيء منها من عيوب الغنم، وقال: إذا فتحتم الشام وجدتم بقايا منها "
، وهي السامرية.
قال ابن عباس: فجعل يغرف لهما في الدلو ماءً كثيراً حتى كانتا أول الرعاء رياً فنصرفتا إلى أبيهما بغنمهما.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنهـ: لما سقى الرعاء غطوا على البئر صخرة لا يقلعها إلا عشرة رجال، فجاء موسى فاقتلعها، فسقى لهما دلواً واحداً لم يحتج إلى غيرها.
5516
ثم قال تعالى: ﴿فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾، أي محتاج، سأل النبي ﷺ ربه ولم يطلب أجراً على سقيه.
روي أنه كان ﷺ بجهد شديد فأسمع ذلك المرأتين تعريضاً لهما أن يطعماه مما به من شدة الجوع.
والخير هنا شبعة من طعام، قاله ابن عباس وغيره.
قال ابن عباس: جاع موسى عليه السلام حتى كادت ترى أمعاؤه من ظاهر الصفاق. وقال: ورد الماء وإن خضرة البقل لترى في بطنه من الهزال.
قال مجاهد: ما سأل ربه إلا الطعام.
قال ابن عباس: لقد قال موسى ﴿رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾، وما أحد أكرم على الله جل ذكره منه، ولقد افتقر إلى شق ثمرة، ولقد لزق بطنه بظهره من الجوع، والفعل من فقير، فقر، وافتقر.
5517
قوله تعالى ذكره: ﴿فَجَآءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى استحيآء﴾،
أي فجائته موسى إحدى المرأتين تمشي على استحياء.
قيل: أتته مستترة بكم ذرعها، واضعة يدها على وجهها.
وقيل: على استحياء منه، وفي الكلام حذف. والتقدير: فذهبتا إلى أبيهما قبل وقتهما، فخبرتاه بخبر موسى وسقيه، فأرسل وراءه بإحداهما فجاءته تمشي على استحياء، فقالت له: ﴿إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ﴾، أي ليثيبك أجر سقيك غنمنا.
﴿فَلَمَّا جَآءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ القصص﴾، أي فمضى موسى معها، فلما جاءه وأخبره خبره مع فرعون وقومه من القبط، قال له شعيب: ﴿لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ القوم الظالمين﴾، ولم يكن لفرعون يومئذ سلطان على مدين وناحيتها.
وقيل: إنه لم يكن شعيباً، إنما كان مؤمناً جد أهل ذلك الماء والأول أشهر،
5518
وفيه اختلاف سنذكره.
قال ابن عباس: استنكر شعيب سرعة صدورهما بغنمهما، فقال: إن لكما اليوم لشأناً، فأخبرتاه الخبر، فأرسل إحداهما خلفه.
قال السدي: أتته تمشي على استحياء منه فقالت له:
﴿إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا﴾، فقام معها، وقال لها: امشي فمشت بين يديه، فضربتها الريح، فنظر إلى عجيزتها، فقال لها موسى: امشي خلفي ودليني على الطريق إن أخطأت، فلما جاء الشيخ، وقص عليه خبره قال له. ﴿لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ القوم الظالمين﴾.
وروي: أنه قال لها: إنا لا ننظر في أدبار النساء، فأخبرت أباها بقوله.
قال مالك: مشى خلفها ثم قال لها: امشي خلفي، فإني عبراني لا أنظر في أدبار النساء، فإن أخطأت فصفي لي الطريق، فمشى بين يديها وتبعته، ثم قالت إحداهما لأبيهما ﴿يا أبت استأجره﴾، أي لرعي غنمك، والقيام عليها ﴿إِنَّ خَيْرَ مَنِ استأجرت القوي الأمين﴾.
5519
وروي عن ابن عباس: أنه قال: لما قالت له ﴿القوي الأمين﴾ اختطفته الغيرة فقال لها أبوها: وما يدريك ما قوته، وأمانته؟ فقالت له: أما قوته فما رأيت منه حين سقى لنا لم أر رجلاً/، قط أقوى في ذلك السقاء منه، وأما أمانته فإنه نظر حين أقبلت إليه، وشخصت له، فلما علم أني امرأة صوب برأسه فلم يرفعه، ولم ينظر إلي حين بلغته رسالتك، ثم قال لي: امشي خلفي، وانعتي لي الطريق، فلم يفعل ذلك إلا وهو أمين، فسري عنه وصدقها، فمعناه القوي على حفظ ماشيتك وإصلاحها، الأمين عليها، فلا تخاف منه فيها خيانة.
وقيل: إنه رفع عن البئر حجراً لا يرفعه إلا فئام من الناس، فتلك قوته. قاله مجاهد.
5520
وقيل: استقى بدلو لم يكن يرفعه إلا جملة من الناس.
واسم إحدى المرأتين " ليا " والأخرى " صفور " وهي امرأة موسى، وهي الصغيرة.
وقيل: اسمها صوريا.
قال ابن إسحاق: اسم إحداهما صقورة والأخرى شرقا.
ويقال: ليا، واختلف في أبيهما. فقال الحسن: يقولون هو شعيب النبي ﷺ.
وقال أبو عبيدة: هو بيرون بن أخي شعيب.
وهن ابن عباس: أن اسمه يثرى.
قال تعالى: ﴿قَالَ إني أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابنتي هَاتَيْنِ﴾.
5521
أي قال أبو المرأتين لموسى: إني أريد أن أزوجك إحدى ابنتي هاتين ﴿على أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ﴾، أي على أن تثيبني من تزويجكها رعي ماشيتي ثماني سنين، فجعل صداقها خدمته ثمانية أعوام، وقد استشهد بعض العلماء على أن الاختيار أن يقال في الصدقات أنكحه إياها بقوله: ﴿أُنكِحَكَ إِحْدَى ابنتي﴾، وهو عنده أولى من أنكحها إياه. ومنه قوله تعالى: " زوجناكها " ولم يقل زوجناها إياك. وقد قال مالك: إن من غيره نكاح البكر ما في القرآن، قال الله تعالى: ﴿ إني أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابنتي﴾ ولم يذكر في هذا استشاراً.
ثم قال له: ﴿فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ﴾، أي أن زدتني في الخدمة عامين حتى تصير إلى عشر فبإحسان منك، وليس مما اشترطه عليك ﴿وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ﴾، باشتراطي ذلك عليك ﴿سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾، أي ستجدني في إتمام ما قلت لك والوفاء به، وفي حسن الصحبة من الصالحين.
وفي هذا النكاح أشياء هي عند أكثر العلماء خصوص لموسى ومن زوجه، من ذلك قوله ﴿إِحْدَى ابنتي﴾، ولم يعينها، وهذا لا يجوز إلا بالتعيين. ومن ذلك أن
5522
الأجرة لم تعين في خدمة ثمانية أعوام أو عشرة فهذا خصوص لموسى ومن زوجه عند أهل المدينة.
وكذلك النكاح على عمل البدن لا يجوز لأنه غرر، وفيه أنه دخل ولم ينقد شيئاً وقد أجازه مالك إذا وقع، والأحسن أن ينقد شيئاً من جملة الصداق المعلوم المتفق عليه.
قال تعالى: ﴿قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأجلين قَضَيْتُ فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ﴾، ما من " أيما " زائدة أي مضافة إلى الأجلين، ومعناه أي قال موسى لأبي المرأتين ذلك واجب علي في تزويجي إحدى ابنتيك، فما قضيت من هذين الأجلين فليس لك علي مطالبة بأكثر منه: ﴿والله على مَا نَقُولُ وَكِيلٌ﴾، هذا من قول أبي المرأة، والتقدير: والله على ما أوجبه كل واحد منا على نفسه شهيد وحفيظ. قال ابن عباس: الجارية التي دعته هي التي تزوج.
قال السدي: أمر أبو المرأتين إحدى ابنتيه أن تعطي موسى عصاً، فأتته بعصاً كان قد استودعها عنده ملك في صورة رجل، فلما رآها الشيخ قال: لا، إيتيه
5523
بغيرها، فألقتها تريد أن تأخذ غيرها، فلا يقع في يدها إلا هي، وجعل يرددها فلا يخرج في يدها غيرها، فأعطاها له، فخرج موسى معه فرعى بها، ثم إن الشيخ ندم وقال: كانت وديعة، وخرج يتلقى موسى، فلما لقيه قال: أعطيني العصا، فقال موسى: هي عصاي، فأبى أن يقضي بينهما، فقال: ضعوها في الأرض، فمن حملها فهي له، فعالجها الشيخ فلم يطقها، وأخذها موسى بيده فرفعها فتركها له الشيخ فرعاها له عشرة سنين.
قال ابن عباس: كان موسى أحق بالوفاء.
قال كعب: تزوج موسى التي تمشي على استحياء وقضى أوفى الأجلين.
وقال ابن زيد: قال أبو الجارية لموسى: ادخل ذلك البيت، فخذ عصاً تتوكأ عليها، فدخل موسى، فلما وقف على باب البيت، طارت إليه تلك العصا فأخذها، فقال /، الشيخ: أرددها وخذ أخرى مكانها، فردها ثم ذهب ليأخذ أخرى فطارت إليه كما هي، فقال: أرددها حتى فعل ذلك ثلاثاً، فقال: أرددها، فقال: لا آخذ
5524
غيرها اليوم، فالتفت إلى ابنته، فقال: يا بنية إن زوجك لنبي.
قال عكرمة: كان آدم قد خرج بعصا موسى من الجنة، ثم قبضها بعد ذلك جبريل ﷺ فلقي بها موسى ليلاً، فدفعها إليه.
قال تعالى: ﴿فَلَمَّا قضى مُوسَى الأجل﴾، أي العشر سنين. وروي: أنه زاد مع العشر عشراً. قاله مجاهد، وابن جريج.
وروى ابن عباس أن النبي ﷺ قال: " سألت جبريل عليه السلام: أي الأجلين قضى موسى؟ قال: أتمهما وأكملهما " ومعنى ﴿وَسَارَ بِأَهْلِهِ﴾ أي انصرف بامرأته شاخصاً إلى مصر ﴿آنَسَ مِن جَانِبِ الطور نَاراً﴾، أي أحس وأبصر من جانب الجبل الذي اسمه الطور ناراً ﴿قَالَ لأَهْلِهِ امكثوا﴾، أي تمهلوا وانتظروا لعلي آتيكم من النار بخبر، أي أعلم لم أوقدت ﴿أَوْ جَذْوَةٍ مِّنَ النار﴾، أي قطعة غليظة من الحطب فيه نار لكم. ﴿لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ﴾، أي تتسخنون من البرد الذي بكم.
وروي أن موسى عليه السلام كان رجلاً غيوراً لا يصحب الرفاق، فأخطأ الطريق بالليل للأمر الذي أراده الله، فرأى بالليل ناراً فقال لأهله: أقيموا لعلي آتيكم من عند هذه النار بخبر يدلنا على الطريق ﴿أَوْ جَذْوَةٍ مِّنَ النار لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ﴾، كان بهم برد بالليل، ﴿فَلَمَّآ أَتَاهَا نُودِيَ... ياموسى إني أَنَا الله رَبُّ العالمين﴾ [القصص: ٣٠]، وأمر أن يلقي عصاه على ما أعلمنا الله به.
قوله تعالى ذكره: ﴿فَلَمَّآ أَتَاهَا نُودِيَ مِن شَاطِىءِ الوادي الأيمن﴾،
أي فلما أتى موسى النار، نودي من شاطئ الوادي أي من عدوته وجانبه الأيمن، أي مِن على يمين موسى ﴿فِي البقعة المباركة﴾، أي المطهرة، لأن الله كلم
5526
موسى فيها وقوله ﴿مِنَ الشجرة﴾ سئل بعض العلماء عن هذا فقال: كلمة من فوق عرشه، وأسمعه كلامه من الشجرة.
قال قتادة: من عند الشجرة وهي عوسج.
وقال وهب بن منبه: هي العليق.
وقيل: هي سمرة.
وقيل: كانت عصا موسى من عوسج، والشجرة من عوسج.
وقوله: ﴿أَن ياموسى إني أَنَا الله رَبُّ العالمين﴾، أي نودي بهذا ثم قال تعالى: ﴿وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ﴾ أي ونودي بأن إلق عصاك، فألقاها موسى، فصارت حية تسعى، فلما رآها موسى تهتز، أي تتحرك كأنها جان، الجان نوع معروف من الحيات،
5527
وهي منها عظام ﴿ولى مُدْبِراً﴾، أي هارباً منها ﴿وَلَمْ يُعَقِّبْ﴾، أي لم يرجع على عقبيه.
قال قتادة: لم يلتفت من الفرق.
روي أنه ألقاها صارت ثعباناً، فلم تدع صخرة ولا شجرة إلا ابتلعتها حتى سمع موسى صريف أسنانها، فحينئذ ولى مدبراً خائفاً، فناداه ربه لا إله إلا هو: ﴿ياموسى أَقْبِلْ وَلاَ تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمنين﴾، فذهب عنه الخوف، وكان سنة في ذلك الوقت أربعين سنة، ثم أمر بأن يدخل يده في جيبه، ففعل، فخرجت نوراً ساطعاً، وأمر بضم يده إلى صدره من الخوف، ففعل فذهب خوفه.
وروي: أنه ليس من خائف يضم يده إلى صدره إلا نقص خوفه، وقوله: ﴿ياموسى أَقْبِلْ وَلاَ تَخَفْ﴾، أي قال الله: يا موسى أقبل إلي ولا تخف
5528
من الذي تهرب منه ﴿إِنَّكَ مِنَ الآمنين﴾، من أي تكون تضرك إنما هي عصاك.
قال وهي: قيل له: ارجع إلى حيث كنت، فرجع، فلف ذراعته على يده فقال له الملك: أرأيت إن أراد الله جل ثناؤه أن يصيبك بما تحذر، أينفعك لفك يدك؟ فقال: ولكني ضعيف خلقت من ضعف، فكشف يده، فأدخلها في فم اليحة، فعادت عصاً.
وقيل: إنه أدخل يده في فم الحية بأمر الله فعادت عصاً.
قال تعالى: ﴿اسلك يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سواء﴾، أي أدخل يدك في جيب قميصك تخرج بيضاء من غير برص، قاله قتادة.
قال الحسن: فخرجت كأنها المصباح، فأيقن موسى أنه لقي ربه. ﴿واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرهب﴾، قال ابن عباس ومجاهد: يعني يده.
وقال ابن زيد: الجناح: الذراع، والعضد والكف، واليد.
5529
قال الضحاك عن ابن عباس: معناه أدخل يدك فضعها على صدرك حتى يذهب عنك الرعب.
قال/، ابن عباس: فليس من أحد يدخله رعب بعد موسى، ثم يدخل يده فيضمها إلى صدره، إلا ذهب عنه الرعب.
وقال الفراء: الجناح هنا: العص، وهذا قول شاذ.
وحكى أهل اللغة أن الجناح من أسفل العضد إلى آخر الإبط، وربما قيل لليد: جناح.
وقد قال أبو عبيدة: جناحك: يدك.
وقوله: ﴿مِنَ الرهب﴾ أي من الخوف والفزع الذي داخلك من الحية.
ثم قال: ﴿فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ﴾ أي فهذان اللذان أريناك برهنان من ربك، أي آيتان وحجتان إلى فرعون وملإه على نبوتك يعني اليد والعصا.
5530
وحكى بعض أهل اللغة: في " ذا " المد والقصر، ذاء وذا.
ثم قال: ﴿إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ﴾، أي خارجين عن الإيمان.
و" من " في قوله: " من الرهب " متعلقة " بيعقب: أي ولم يعقب من الرهب.
وقيل: هي متعلقة " يولى مدبراً من الرهب ".
قال تعالى ذكره: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ﴾، أي إني أخاف إن آتيتهم فلم أين عن نفسي أن يقتلون بالنفس التي قتلت، وكانت في لسانه عقدة لا يبين معها ما يريد من الكلام فقال: ﴿وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً﴾، أي أحسن مني بياناً ﴿فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي﴾، أي عوناً يصدقني. قاله مجاهد وقتادة، وهو قول أهل اللغة.
يقال أردأته: أي أعنته ومن فتح الدال فعلى تخفيف الهمزة. وقيل: إنما سأل موسى في إرسال أخيه معه، لأن الاثنين إذا اجتمعا على الخبر
كانت النفس إلى تصديقهما أسكن منها إلى تصديق خبر الواحد. قال ابن زيد.
وعن ابن عباس ﴿رِدْءاً يُصَدِّقُنِي﴾: كي يصدقني.
وقال مسلم بن جندب: الردة: الزيادة.
وقال السدي: كيما يصدقني إني أخاف أن يكذبون فيما أرسلتني به إليهم، ومن جزم " يصدقني " جعله جواباً للطلب، ومن رفع فعلى الاستئناف. وتقف على " ردءاً " ويجوز الرفع على أن تجعله نعتاً لردءاً، أي ردءاً مصدقاً، ويجوز أن تجعله حالاً من الهاء في " فأرسله " ولا تقف على هذين الوجهين على رداً.
قال تعالى ذكره: ﴿قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ﴾، أي قال الله جل
5532
ذكره لموسى: سنشد عضدك بأخيك أي نقويك، ونعينك بأخيك. وذكر العضد لأن قوة اليد بالعضد ﴿وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً﴾، أي حجة فلا يصلون إليكما، أي لا يصل فرعون وقومه إليكما بضر.
وقوله: " بآياتنا " متعلقة " بسلطان " والمعنى: ونجعل لكما حجة بآياتنا يعني العصا واليد. فلا تقف على هذا التقدير على " إليكما ".
وقيل: التقدير فلا يصلون إليكما بآياتنا تمتنعان بآياتنا فلا تقف أيضاً على " بآياتنا " إلا أن تقدر الفعل في ابتدائك فتقف على " إليكما ".
وقال الأخفش والطبري: التقدير: أنتما ومن اتبعكما الغالبون بآياتنا، ثم قدمت الآيات، وهذا لا يجوز لأنه تقديم صلة على موصول، وقد أجازه الأخفش، على أن يكون بياناً مثل: ﴿إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ الناصحين﴾ فعلى هذا تقف على
5533
﴿إِلَيْكُمَا﴾.
ويروى: أن الله جعل في الحية التي انقلبت من العصا عِظمَاً وقوة، ما لو تركت على فرعون وقومه لأهلكتهم، فكانوا من خوف هذه الحية، ولما شاهدوا من عِظمها لا يتجرءون على قتل موسى وهارون ولا يطمعون في الوصول إليهما بسوء، فذلك قوله تعالى: ﴿ فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَآ﴾، أي لا يتجرءون على قتلكما مع ما ظهر إليهم من عظم الآيات والخوف منها على أنفسهم، يشغلهم الخوف من عظيم ما عاينوا عن أن يقدروا على أذى موسى وهارون.
قال تعالى: ﴿فَلَمَّا جَآءَهُم موسى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُواْ مَا هاذآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّفْتَرًى﴾، أي قال فرعون وقومه: ما هذا الذي جئتنا به يا موسى إلا سحر افتريته، أي تخرصته من عند نفسك، وما سمعنا بهذا الذي تدعونا إليه في أسلافنا الأولين. قال لهم موسى: ﴿ربي أَعْلَمُ بِمَن جَآءَ بالهدى مِنْ عِندِهِ﴾، أي ربي أعلم بالمحق من المبطل وبمن جاء
بالرشاد ﴿وَمَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدار﴾، أي العاقبة المحمودة في الدار الآخرة منا ﴿إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون﴾، وهذه مخاطبة جميلة من موسى عليه السلام لفرعون، فترك موسى أن يقول له: بل الذي غر قومه، وأهلك جنده، وأضل أتباعه، أنت لا أنا، ورجع إلى ملاطفته فقال: ﴿ربي أَعْلَمُ بِمَن جَآءَ بالهدى مِنْ عِندِهِ وَمَن تَكُونُ لَهُ / عَاقِبَةُ الدار﴾، فبالغ موسى بهذا في ذم فرعون وقومه بخطاب جميل.
قال تعالى: ﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ يا أيها الملأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرِي﴾، أي قال ذلك فرعون لأشرف قومه لئلا يصدقوا موسى فيما جاءهم به من عبادة الله.
﴿فَأَوْقِدْ لِي ياهامان عَلَى الطين﴾، يريد عمل الآجر، وهو أول من عمله وبنى به ﴿فاجعل لِّي صَرْحاً﴾، ابن لي بنياناً مرتفعاً ﴿لعلي أَطَّلِعُ إلى إله موسى﴾ أي انظر إلى معبود موسى الذي يدعونا إلى عبادته ﴿وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنَ الكاذبين﴾، أي أظن موسى فيما يقول: إن له معبوداً، كاذباً. والظن هنا شك، فكفر الملعون بالشك.
قال السدي: فبنى له هامان الصرح، وارتقى فوقه فأمر بنشابة، فرماها نحو السماء فردت عليه وهي ملطخة دماً، فقال: قد قتلت إله موسى، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
قوله تعالى ذكره: ﴿واستكبر هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأرض بِغَيْرِ الحق﴾،
أي تجبَّر فرعون وقومه، في أرض مصر عن تصديق موسى واتِّباعه على توحيد الله وعبادته بغير الحق أي تعدياً وعنواً على ربهم وظنوا أنهم لا يبعثون بعد مما تهم، وأنه لا ثواب ولا عقاب.
قال تعالى: ﴿فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي اليم﴾، أي أخذنا فرعون وجنوده فأغرقناهم في البحر، فانظر يا محمد ﴿كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظالمين﴾، أي انظر بعين قلبك، وفكر بفهمك، فكذلك نفعل بمن كذبك فقتلهم الله بالسيف.
قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النار﴾، أي جعل الله فرعون وقومه
أئمة للضلال، يأتم بهم أهل العتو على الله، يدعون الناس إلى الضلال الذي هو سبب الدخول إلى النار. ﴿وَيَوْمَ القيامة لاَ يُنصَرُونَ﴾. أي لا ينصرهم من عذاب الله أحد، وقد كانوا في الدنيا يتناصرون.
قال تعالى: ﴿وَأَتْبَعْنَاهُم فِي هَذِهِ الدنيا لَعْنَةً﴾. أي ألزمنا فرعون وقومه في هذه الدنيا حزناً وغضباً، وبعداً من الله ﴿وَيَوْمَ القِيَامَةِ هُمْ مِّنَ المقبوحين﴾.
قال قتادة: لعنوا في الدنيا والآخرة وهو مثل قوله:
﴿وَأُتْبِعُواْ فِي هذه لَعْنَةً وَيَوْمَ القيامة بِئْسَ الرفد المرفود﴾ [هود: ٩٩].
ق ابن جريج: ﴿هُمْ مِّنَ المقبوحين﴾ مستأنف " فأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة لعنة ". فيجب على قوله: أن يقف القارئ على ﴿القِيَامَةِ﴾،
والوقف عند نافع: " لعنة ". ومعنى ﴿مِّنَ المقبوحين﴾، أي من الذين قبحهم الله وأهلكهم بتكذيبهم رسوله موسى عليه السلام.
قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب مِن بَعْدِ مَآ أَهْلَكْنَا القرون الأولى﴾،. أي ولقد أعطينا موسى التوراة من بعد ما أهلكنا الأمم التي كانت قبله، كقوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وأصحاب مدين، وغير ذلك من الأمم. ﴿بَصَآئِرَ لِلنَّاسِ﴾، أي ضياء لبني إسرائيل في أمر دينهم. ﴿وَهُدًى﴾، أي وبياناً ﴿وَرَحْمَةً﴾ لمن عمل به منهم. ﴿لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾، أي تذكرون نعم الله بذلك عليهم فيشكرونه، ولا يكفرون.
قال أبو سعيد الخدري: ما أهلك الله جل ذكره بعذاب من السماء ولا من الأرض بعدما أنزلت التوراة على وجه الأرض، غير القرية التي مسخ أهلها قردة، ألم تر أن الله يقول: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب مِن بَعْدِ مَآ أَهْلَكْنَا القرون الأولى بَصَآئِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً﴾.
قال تعالى: ﴿وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الغربي إِذْ قَضَيْنَآ إلى مُوسَى الأمر﴾، هذا الكلام
5538
تضمن إضماراً دل عليه المعنى. والمعنى: لم تكن يا محمد في جانب الغربي إذ قضينا إلى موسى أمرك، وذَكَرْنَاكَ بخير ذكر، لأن هذا الكلام لا يستعمل إلا في رجل جرى ذكره إما بخير أو بشر، ولا يذكر الله نبيه إلا بخير، ووصى باتِّباعِهِ إذا بعث، دل على ذلك قوله: ﴿وَلَكِنَّآ أَنشَأْنَا قُرُوناً فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ العمر﴾، فنسوا الوصية وتركوها لطول الزمان عليهم.
وقوله: ﴿وَمَا كنتَ مِنَ الشاهدين﴾، أي لم تكن يا محمد بحاضر لما وصاهم الله به في أمرك.
وقيل: الشهود بمعنى الشهادة أي لم تكن بشاهد عليهم فيما وصاهم به من أمرك /، والإيمان بك.
وقوله: ﴿فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ العمر﴾، إيماء إلى نقضهم العهد، وتركهم للوصية بالإيمان بمحمد عليه السلام وما يأتيهم به، وقد أخبرنا أن محمداً
5539
تجده اليهود والنصارى في التوراة والإنجيل ويجدون صفته.
يروى: أن الله أعلم موسى ﷺ أنه يبعث نبياً من ولد إسماعيل يسمى محمداً، وأنه أخذ ميثاقه على أمة موسى أن يؤمنوا به، فطالت عليهم الأزمنة فنسوا ما عهد إليهم به. فالمعنى: أي وما كنت يا محمد بجانب الجبل الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر، أي فرغنا إلى موسى الأمر، يعني ما ألزم الله تعالى موسى وقومه، وعهد إليهم من عهده. ﴿وَمَا كنتَ مِنَ الشاهدين﴾، أي لم تشهد يا محمد ذلك ولم تحضره.
قال قتادة وابن جريج: ﴿بِجَانِبِ الغربي﴾ أي بجانب غربي الجبل.
وقيل: المعنى: لم تكن يا محمد في ذلك المكان إذ أعلمنا موسى أن أمة محمد خير الأمم.
﴿وَمَا كنتَ مِنَ الشاهدين﴾، أي لم تشهد يا محمد ذلك ولم تحضره. وقال أبو عبيدة: ﴿بِجَانِبِ الغربي﴾ حيث تعغرب فيه الشمس والقمر والنجوم.
ثم قال تعالى: ﴿وَلَكِنَّآ أَنشَأْنَا قُرُوناً فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ العمر﴾، أي خلقنا أمماً من بعد ذلك فتطاول عليهم العمر. ﴿وَمَا كُنتَ ثَاوِياً في أَهْلِ مَدْيَنَ﴾، أي مقيماً فيهم.
5540
ثم قال تعالى :﴿ ولكنا أنشأنا قرونا فتطاول عليهم العمر ﴾[ ٤٥ ]، أي خلقنا أمما من بعد ذلك فتطاول عليهم العمر. ﴿ وما كنت ثاويا في أهل مدين ﴾[ ٤٥ ]، أي مقيما فيهم.
﴿ تتلوا عليهم آياتنا ولكنا كنا مرسلين ﴾[ ٤٥ ]، أي لم تشهد يا محمد شيئا من ذلك، أي ما ابتليت يا محمد بشيء١ من ذلك بل الثاوي شعيب وهو المبتلى بهم.
١ ب ز: شيء..
﴿تَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ﴾، أي لم تشهد يا محمد شيئاً من ذلك، أي ما ابتليت يا محمد بشيء من ذلك بل الثاوي شعيب وهو المبتلى بهم.
قال تعالى: ﴿وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطور إِذْ نَادَيْنَا﴾، أي إذ نادينا موسى بقولنا: ﴿فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزكاة﴾ [الأعراف: ١٥٦] إلى قوله: ﴿المفلحون﴾ [الأعراف: ١٥٧].
وقيل: نادى الله جل ذكره: يا أمة محمد أجبتكم قبل أن تدعوني وأعطيتكم قبل أن تسألوني، وغفرت لكم قبل أن تستغفروني، ورحمتكم قبل أن تسترحموني، فقال موسى: يا رب جعلت وفادتي لغيري. وذلك حين اختار موسى قومه سبعين رجلاً للميقات.
وقال أبو زرعة: رواه الأعمش عن علي بن مدرك عنه: نادى أمة محمد: أعطيتكم قبل أن تسألوني، وأجبتكم قبل أن تدعوني. وأسند أبو زرعة هذه الألفاظ عن أبي هريرة، وأسنده إبراهيم بن عرفة إلى أبي هريرة أيضاً.
ثم قال: ﴿ولكن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ﴾ رحمة نصب على المصدر عند الأخفش والتقدير: ولكن رحمة ربك رحمة، وهو مفعول من أجله عند الزجاج أي فعلنا ذلك للرحمة وهو عند الكسائي خبر كان مضمره، والتقدير: ولكن كان ذلك رحمة، والمعنى: لم نشهد ذلك يا محمد، فتعلمه، ولكن: عرفناكه، وأنزلنا عليك، واقتصصنا ذلك كله عليك في كتابنا، وابتعثناك بما أنزلنا إليك من ذلك رسولاً إلى من ابتعثناك إليه رحمة لك ولهم: ﴿لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ﴾، يعني العرب. ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾، فيظهر لهم خطأ ما هم عليه من الكفر.
قال تعالى: ﴿ولولا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ﴾، جواب
لولا محذوف. والتقدير: لولا أن يقول هؤلاء الذين أرسلناك إليهم يا محمد إذا حل عليهم العذاب على كفرهم قبل إرسالك إليهم، هلا أرسلت إلينا رسولاً من قبل أن يحل بنا سخطك ﴿فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ المؤمنين﴾، لعاجلهم العذاب.
قال تعالى: ﴿فَلَمَّا جَآءَهُمُ الحق مِنْ عِندِنَا قَالُواْ لولا أُوتِيَ مِثْلَ مَآ أُوتِيَ موسى﴾ أي فلما جاء هؤلاء الذين لم يأتهم من قبلك يا محمد رسول الحق من عندنا وهو محمد ﷺ بالرسالة من الله إليهم.
قالوا تمرداً على الله وتمادياً في الغي: هلا أوتي محمد مثل ما أوتي موسى من الكتاب، فقال الله جل ذكره لنبيه: قل لهم يا محمد أو لم يكفر الذين علموكم هذه الحجج من اليهود بما أوتي موسى من قبل.
قال مجاهد: يهود تأمر قريشاً أن تسأل محمداً مثل ما أوتي موسى عليه السلام. يقول الله جل ذكره لمحمد: قل لقريش تقول لهم: ﴿أَوَلَمْ يَكْفُرُواْ بِمَآ أُوتِيَ موسى مِن قَبْلُ﴾.
5543
وقيل: معنى ﴿مِثْلَ مَآ أُوتِيَ موسى﴾، يعنون به العصا وانفلاق البحر /، ﴿قَالُواْ سِحْرَانِ تَظَاهَرَا﴾، أي قالت اليهود موسى وهارون عليهما السلام ساحران تعاونا على السحر، قاله مجاهد.
وقال الحسن: عيسى ومحمد عليهما السلام.
ومن قرأ: " سحران " فمعناه: التوراة والفرقان. قاله ابن عباس وابن زيد.
وقال عكرمة: التوراة والإنجيل.
وقال الضحاك: الإنجيل والقرآن.
5544
ثم قال تعالى: ﴿وَقَالُواْ إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ﴾، أي بما أوتي محمد ﷺ وغيره نكفر. يقول ذلك أهل الكتاب.
قوله تعالى ذكره: ﴿قُلْ فَأْتُواْ بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ الله﴾،
أي قل يا محمد للقائلين في التوراة والإنجيل إنهما ﴿سِحْرَانِ تَظَاهَرَا﴾ أو محمد وموسى، أو موسى وهارون إنهما ساحران، ﴿فَأْتُواْ بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ الله هُوَ أهدى﴾، من هذين الكتابين أو من هذين الرسولين، وإذا جعلت " منهما " للرسولين، فعلى قراءة من قرأ لساحران لا بد من حذف، والتقدير هو أهدى من كتابيهما ﴿أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾، أي إن جئتم بالكتاب أتبعه إن كنتم صادقين في قولكم: ﴿سِحْرَانِ تَظَاهَرَا﴾.
قال تعالى: ﴿فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ فاعلم أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَآءَهُمْ﴾، أي إن لم يجيبوك إلى ما تدعوهم إليه من الإتيان بكتاب، فاعلم أنهم إنما يتبعون أهواءهم في كفرهم وجحدهم لكتب الله وأنبيائه.
ثم قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتبع هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ الله﴾، أي من أضل عن
طريق الرشد ممن اتبع هواه بغير بيان عنده من الله ﴿إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين﴾، أي لا يوفقهم لإصابة الحق، أي لا أحد أضل ممن هذه صفته.
وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥١)
أي ولقد وصلنا يا محمد لقومك من قريش، ولليهود من بني إسرائيل القول بأخبار الماضين، والنبأ عما أحللنا بهم من العقوبات، إذ كذبوا الرسل ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾، أي يتفكرون، ويعتبرون. وأصل " وصلنا " من وصل الجبال بعضها ببعض.
قال أبو عبيدة: وصَّلْنا أتممنا.
قال قتادة: معناه: وصَّلْنا لهم خبر من مضى بخبر من يأتي.
وقال ابن عيينة وصَّلنا: بَيَّنَّا.
وقال ابن زيد: وصّلنا لهم خبر الدنيا بخبر الآخرة، حتى كأنهم عاينوا الآخرة وشهدوها وهم في الدنيا، بما نريهم من الآيات في الدنيا.
قال مجاهد: وصّلنا لهم: يعني قريشاً.
وقيل: عني به اليهود.
وقرأ الحسن: " وصلنا " بالتخفيف.
وقيل: معنى ﴿وَصَّلْنَا لَهُمُ القول﴾ أي جعلنا بعضه ينزل إثر بعض مشاكلاً بعضه لبعض في باب الحكمة وحسن البيان.
قال تعالى: ﴿الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ﴾، يعني من آمن بمحمد عليه السلام من أهل الكتاب.
قال قتادة: نزلت في ناس من أهل الكتاب، كانوا على شريعة من الحق
5547
يأخذون بها وينتهون، حتى بعث الله جل ثناؤه محمداً آمنوا به وصدقوه، فأعطاهم الله أجرهم مرتين بصبرهم على الكتاب الأول، واتباعهم محمداً ﷺ، وصبرهم على ذلك.
وقيل: أعطاهم الله أجرهم مرتين بإيمانهم ببعث محمد ﷺ قبل بعثه، وإيمانهم به بعد بعثه، فبصبرهم على ذلك أعطوا أجرهم مرتين.
ويقال: إن منهم سلمان، وعبد الله بن سلام.
5548
قال الضحاك: هم ناس من أهل الكتاب آمنوا بالتوراة والإنجيل، ثم أدركوا محمداً فآمنوا به، فآتاهم الله أجرهم مرتين بإيمانهم بمحمد قبل أن يبعث، وباتباعهم إياه حين بعث، فذلك قوله عنهم: ﴿إنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ﴾.
وقال الزهري: هم النجاشي وأصحابه وجه بثني عشر رجلاً، فجلسوا مع النبي عليه السلام، وكان أبو جهل وأصحابه قريباً منهم، فآمنوا بالنبي ﷺ، فلما قاموا من عنده، تبعهم أبو جهل ومن تبعه فقالوا لهم: خيبكم الله من ركب، وقبحكم من وفد، لم تلبثوا أن صدقتموه، وما رأينا ركباً أحمق ولا أسفل منكم، فقالوا: سلام عليكم لم نأل أنفسنا رشداً ﴿لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ﴾ [القصص: ٥٥].
وقوله: ﴿إنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ﴾، أي من قبل إتيان محمد لأنا وجدنا صفته في كتابنا فآمنا به، ثم بعث فآمنا به. والهاء في " قبله " تعود على /، النبي عليه السلام، أو على
5549
القرآن، فالتقدير: وإذا يتلى عليهم القرآن قالوا: آمنا به إنه الحق من ربنا، إنا كنا من قبل هذا القرآن - أي من قبل نزوله - مسلمين.
وقيل: نزلت في عشرين رجلاً من النصارى، قدموا على النبي عليه السلام وهو بمكة حين بلغهم خبره، فوجدوه في المجلس، فجلسوا إليه، وكلموه وساءلوه. ورجال من قريش في أنديتهم حول الكعبة، فلما فرغوا عن مسألتهم له فيما أرادوا، دعاهم النبي عليه السلام إلى الإسلام، وتلا عليهم القرآن، فلما سمعوا القرآن، فاضت أعينهم من الدمع، ثم استجابوا لله وآمنوا، وصدقوا، وعرفوا منه ما كان يوصف لهم في كتابهم من أمره، فلما قاموا عنه، اعترضهم أبو جهل بن هشام في نفر من قريش، فقالوا لهم: خيبكم الله من ركب بعثكم من وراءكم من أهل دينكم، ترتادون لهم لتأتوهم بخبر الرجل، فلم تطمئن مجالسكم عنده، حتى فارقتم دينكم وصدقمتوه بما قال، ما نعلم ركباً أحمق منكم، فقالوا لهم: سلام عليكم لا نجاهلكم، لنا ما نحن عليه، ولكم ما أنتم عليه لم نأل أنفسنا خيراً.
5550
وقيل: كانوا ثمانين رجلاً، منهم أربعون من نصارى نجران واثنان وثلاثون من نصارى الحبشة، وثمانية من الروم، وفيهم نزل من قوله: ﴿الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب﴾ إلى قوله: ﴿لاَ نَبْتَغِي الجاهلين﴾ [القصص: ٥٥].
قال تعالى: ﴿أولئك يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ﴾، وقد تقدم تفسير هذا في الآية التي قبل هذه.
ثم قال: ﴿وَيَدْرَؤُنَ بالحسنة السيئة﴾، أي ويدفعون بالحسنة من أعمالهم السيئة، أي يدفعون بالاستغفار والتوبة: الذنوب.
وقال الزجاج: ويدفعون بما يعملون من الحسنات ما تقدم لهم من السيئات.
وقوله: ﴿بِمَا صَبَرُواْ﴾ قال قتادة: صبروا على الكتاب الأول، وعلى اتباع محمد، وهو قوله ابن زيد.
وقيل: صبروا على الإيمان بمحمد قبل أن يبعث، وعلى اتباعه بعد أن بعث،
قاله الضحاك.
وعن مجاهد: في قوله: ﴿يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ﴾، أنها نزلت في قوم مشركين أسلموا، فكان قومهم يؤذونهم، فأعطوا أجرهم مرتين بصبرهم.
قال تعالى: ﴿وَإِذَا سَمِعُواْ اللغو أَعْرَضُواْ عَنْهُ﴾، أي وإذا سمع هؤلاء الذين أوتوا الكتاب اللغو: وهو الباطل من القول، أعرضوا عنه.
وقيل: المعنى إذا سمعوا ما زيد في كتاب الله وغير مما ليس منه، أعرضوا عنه، قاله ابن زيد.
وقال مجاهد: هم ناس من أهل الكتاب أسلموا، فكان المشركون يؤذونهم، فكانوا يصفحون عنهم ويقولون: ﴿سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي الجاهلين﴾ فمعنى ﴿أَعْرَضُواْ عَنْهُ﴾ لم يصغوا إليه ولا التفتوا.
﴿لَنَآ أَعْمَالُنَا﴾ أي قد رضينا بها لأنفسنا ﴿وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ﴾، أي قد رضيتم بها لأنفسكم ﴿سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ﴾، أي أمنة لكم منا أن نسابكم أو تسمعوا منا ما لا
تحبون ﴿لاَ نَبْتَغِي الجاهلين﴾، أي لا نريد محاورة أهل الجهل.
وقيل: معناه: لا نطلب عمل أهل الجهل.
وقال بعض العلماء: الآية منسوخة، نهى النبي ﷺ عن الابتداء بالسلام على الكفار. وهذا لا يصح لأن الآية ليست من السلام الذي هو تحية، إنما هو من المتاركة والمباراة.
وقال جماعة: هي منسوخة بالأمر بالقتال.
وقيل: الآية محكمة، وإنما هذا قول حسن ومخاطبة جميلة.
قوله تعالى ذكره: ﴿إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ﴾،
أي إنك يا محمد لا تهدي من أحببت هدايته، ولكن الله يهدي من يشاء هدايته
5553
من خلقه، فيوفقه للإيمان. ﴿وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين﴾، أي والله أعلم بمن سبق له في علمه أنه يهتدي للرشاد. ويروى: أن هذه الآية: نزلت على النبي ﷺ لما امتنع عمه أبو طالب من إجابته إذ دعاه إلى الإيمان.
روى أبو هريرة: " أن النبي ﷺ قال لعمه أبي طالب عند الموت: قل لا إله إلا الله أشهد لك بها يوم القيامة. قال: لولا أن تعيرني /، قريش. يقولون ما حمله إلا جزع الموت أقرت عينك بها؟ فنزلت ﴿إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ﴾، الآية ".
وروى سعيد بن المسيب عن أبيه أنه قال: " لما حضرت أبا طالب الوفاة أتاه النبي ﷺ، فوجد عنده أبا جهل بن هشام، وعبد الله بن أبي أمية بن
5554
المغيرة، فقال رسول الله: يا عم: قل لا إله إلا الله، كلمة أشهد لك بها عند الله، فقال أبو جهل، وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزل رسول الله يعرضها عليه، ويعيد تلك المقالة حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم: هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله، فقال النبي ﷺ: " أما والله لأستغفرن لك، ما لم أنه عنك " فأنزل الله: ﴿إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ﴾ الآية. وأنزل: ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والذين آمنوا أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ﴾ الآيات ".
قال ابن عباس ومجاهد وقتادة: نزلت في أبي طالب على ما ذكرنا.
قال تعالى: ﴿وقالوا إِن نَّتَّبِعِ الهدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَآ﴾، أي وقال كفار قريش: إن نتبع الذي جئتنا به، ونتبرأ من الأنداد والآلهة: يتخطفنا الناس من أرضنا، لاجتماع جميعهم على خلافنا، وحربنا، يقول لهم الله جل ذكره: ﴿إِن نَّتَّبِعِ الهدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَآ﴾ أي نوطئ لهم بلداً: حرم فيه سفك الدماء، ومنع من أن يتناول سكانه فيه بسوء، وأمن أهله من أن تصيبهم فيه غارة أو قتل أو سبي. قال ابن عباس: كان من أحدث حدثاً في بلد غير الحرم، ثم لجأ إلى الحرم أمن إذا دخله، ولكن لا ينبغي لأهل مكة أن يبايعوه، ولا يطعموه، ولا يسقوه، ولا يؤووه، ولا يكسوه، فإذا خرج
5555
من الحرم أخذ وأقيم عليه الحد. قال: ومن أحدث فيه حدثاً أخذ بحدثه فيه.
قال مجاهد: إذا أصاب الرجل الحد في غير الحرم، ثم أتى الحرم، أخرج من الحرم، فأقيم عليه الحد، وإن أصاب الحد في الحرم أقيم عليه الحد في الحرم.
وقال ابن جبير: نحوه، وأكثر الفقهاء: على أن الحد يقام في الحرم على من وجب عليه حد أحدثه في الحرم أو غير الحرم، ولا يمنع الحرم من الحق من حقوق الله، ولا من حق أوجبه الله، فالمعنى: أن من مكن لكم حرماً آمناً، لا يتعدى على أحد فيه، قادر على أن يمنع منكم من خالفكم في الدين إن آمنتم، لأنهم اعتذروا أنهم يخافون أن تجتمع عليهم العرب، فتقتلهم إن آمنوا أو خالفوا دين العرب، فأعلمهم أن من جعل لكم الحرم آمناً يقدر على أن يمنعكم من العرب إن آمنتم.
قال ابن عباس: " الحارث بن نوفل هو الذي قال:
5556
﴿إِن نَّتَّبِعِ الهدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَآ﴾.
قوله: ﴿يجبى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ﴾، أي تجبى إليه من كل بلد. ﴿رِّزْقاً مِّن لَّدُنَّا﴾، أي رزقاً لهم من عندنا. ﴿ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾، نعم الله عليهم.
قال تعالى: ﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا﴾، أي وكثير من القرى أهلكنا أهلها، و ﴿كَمْ﴾ في موضع نصب بـ ﴿أَهْلَكْنَا﴾، و ﴿مَعِيشَتَهَا﴾، نصب على حذف " في ". والتقدير عند " المازني " بطرت في معيشتها، ونصبه عند الفراء على التفسير، ونظيره ﴿إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ﴾ [البقرة: ١٣٠] ﴿فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً﴾ [النساء: ٤]. والبطر: الأشر في النعمة ﴿فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ﴾، أي دورهم: ﴿لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً﴾، أي إلا وقتاً قليلاً، فتلك إشارة إلى مساكن عاد بناحية الأحقاف واليمن. وإلى منازل ثمود بناحية وادي القرى، ومساكن قوم لوط بالمؤتفكات وغير ذلك من مساكن الأمم المهلكة. وقيل: المعى لم يسكن منها إلا القليل، وباقيها خراب، والمعنى: إلا قليلاً منها فإنه سكن. ﴿وَكُنَّا نَحْنُ الوارثين﴾، أي لا وارث لهم فيها.
ثم قال تعالى ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ القرى حتى يَبْعَثَ في أُمِّهَا رَسُولاً﴾، أي لم يكن ربك يا محمد مهلك القرى التي حوالي مكة في زمانك وعصرك ﴿حتى يَبْعَثَ في أُمِّهَا رَسُولاً﴾ أي في مكة / لأنها أم القرى.
﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا﴾، أي القرآن، والرسول محمداً ﷺ.
﴿ وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي القرى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ﴾، أي لم نكن مهلكي القرى وهي بالله مؤمنة، إنما نهلكها بظلمها أنفسها.
قال تعالى: ﴿وَمَآ أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الحياة الدنيا﴾، أي ما أعطيتم من شيء من مال وأولاد، فإنما هو متاع تتمتعون به في هذه ﴿الحياة الدنيا وَزِينَتُهَا﴾.
ليس مما يغني عنكم شيئاً، ولا ينفعكم شيء منه في معادكم، ﴿وَمَا عِندَ الله خَيْرٌ﴾، مما متعتم به في الحياة الدنيا، وإبقاء لأهل طاعته وولايته لأنه دائم لا نفاذ له.
وقيل معناه: خير ثواباً وإبقاء عندنا.
﴿أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾، أي أفلا عقول لكم أيها القوم تتدبرون بها فتعرفون بها الخير من الشر، وتختارون لأنفسكم خير المنزلتين.
قال تعالى: ﴿أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاَقِيهِ﴾، أي أفمن وعده الله من خلقه على طاعته إياه أن ينجز له ما وعده ﴿فَهُوَ لاَقِيهِ﴾ لاق ما وعد به، كمن متعه الله في الدنيا متاعاً زائلاً ﴿ثُمَّ هُوَ يَوْمَ القيامة مِنَ المحضرين﴾، أي من المشهدين عذاب الله وأليم عقابه.
وقال قتادة: هو المؤمن يسمع كتاب الله جل وعز وصدق به، وآمن بما وعده الله فيه. ﴿كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الحياة الدنيا﴾، وهو الكافر ﴿ثُمَّ هُوَ يَوْمَ القيامة مِنَ المحضرين﴾، عذاب الله. قال مجاهد: نزلت هذه الآية في النبي ﷺ، وفي أبي جهل بن هشام لعنه الله.
وعن مجاهد أيضاً: أنها نزلت في حمزة، وعلي، وأبي جهل،. وقيل: نزلت في حمزة وأبي جهل.
أي ويوم ينادي رب العزة الذين أشركوا به في الدنيا، فيقول لهم: ﴿أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ﴾، في الدنيا أنهم لي شركاء، فالمعنى: أين شركائي على قولكم وزعمكم؟ وهذا النداء إنما هو على طريق التوبيخ لهم، وإلا فقد عرفوا في ذلك اليوم بطلان ما كانوا عليه، وعرفوا أن أولئك الشركاء الذين كانوا يعبدون لا ينفعونهم بشيء.
قوله تعالى: ﴿قَالَ الذين حَقَّ عَلَيْهِمُ القول﴾، أي وجب عليهم العذاب
والغضب واللعنة.
قال قتادة: هم الشياطين يعني الذين يغوون الناس.
وقيل: ﴿حَقَّ عَلَيْهِمُ القول﴾ وجبت عليهم الحجة فعذبوا.
﴿رَبَّنَا هؤلاء الذين أَغْوَيْنَآ﴾، أي دعوناهم إلى الغي، ﴿أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا﴾، أي أضللناهم كما ضللنا. ﴿تَبَرَّأْنَآ إِلَيْكَ﴾، أي تبرأ بعضنا من بعض وعاداه، وهو قوله تعالى: ﴿الأخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ المتقين﴾ [الزخرف: ٦٧].
قوله: ﴿مَا كانوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ﴾، أي ما كانوا يعبدوننا.
وقيل: هم دعاة الكفار إلى الكفر من الإنس.
قوله تعالى ذكره: ﴿وَقِيلَ ادعوا شُرَكَآءَكُمْ﴾،
أي وقيل للمشركين: ادعوا شركاءكم الذين كنتم تدعون في الدنيا من دون الله، ﴿فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ﴾، أي لم يجيبوهم لحجة، وأضاف الشركاء إليهم لأنهم
5561
اختلقوهم وأضافوهم إلى العبادة.
وقوله: ﴿وَرَأَوُاْ العذاب لَوْ أَنَّهُمْ كَانُواْ يَهْتَدُونَ﴾، أي فودوا حين رأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون للحق في الدنيا.
وقيل: المعنى لو أنهم كانوا يهتدون لما اتبعوهم لما رأوا العذاب.
وقيل: التقدير لو أنهم كانوا يهتدون في الدنيا لأنجاهم الهدى. ثم قال تعالى:: ﴿وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَآ أَجَبْتُمُ المرسلين﴾، أي يوم ينادي الله لهؤلاء المشركين فيقول لهم: ﴿مَاذَآ أَجَبْتُمُ المرسلين﴾، الذين أرسلوا إليكم يدعونكم إلى توحيد الله. ثم قال تعالى: ﴿فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأنبآء يَوْمَئِذٍ﴾، أي خفيت عليهم الأخبار.
وقيل المعنى: فعميت عليهم الحجج فلم يدروا بما يحتجون. قاله مجاهد.
وقال ابن جريج: ﴿مَاذَآ أَجَبْتُمُ المرسلين﴾: بلا إله إلا الله / هي التوحيد.
5562
وقيل: إنهم تجبروا فلم يدروا ماذا يجيبون لما سئلوا.
وقوله: ﴿فَهُمْ لاَ يَتَسَآءَلُونَ﴾، أي بالأنساب والقرابة، قالهه مجاهدد. ثم قال تعالى: ﴿فَأَمَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً﴾، أي من تاب من شركه، وآمن وعمل بما أمره الله ورسوله: ﴿فعسى أَن يَكُونَ مِنَ المفلحين﴾، أي من المنجيين المدرركين طلبتهمم عند الله الخالدين في جنانه، و " عسى " من الله واجب.
قال تعالى: ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ﴾، أي يخلق ما يريد، ويختار الرسل، ﴿مَا كَانَ لَهُمُ الخيرة﴾ أي ليس يرسل الرسل باختيارهم: أي باختيار المشركين، فالوقف على هذا المعنى ﴿وَيَخْتَارُ﴾، و " ما " نافية.
قال علي بن سليمان: لا يجوز أن تكون " ما " في موضع نصب، لأنه لا عائد عليها. وفي كون ما للنفي رد على القدرية، ولو كانت " ما " في موضع نصب لكان ضميرها اسم كان، في كان مضممراً، وللزم نصب ﴿الخيرة﴾، على خبر كان.
5563
وأجاز الزجاج: أن تكون " ما " في موضع نصب بيختار وتقدر حذفاً من الكلام، والتقدير: ويختار الذي كان لهم فيه الخيرة، فلإتمام على هذا القول على و ﴿يَخْتَارُ﴾، ولا يقف إلا على ﴿الخيرة﴾. وجعل " ما " نافية، والوقف على ﴿وَيَخْتَارُ﴾. وهو مذهب أكثر العلماء.
وكان الطبري ينكر أن تكون " ما " نافية، ولا يحسن عنده أن تكون " ما " إلا في موضع نصب بمعنى الذي، والتقدير عنده: ويختار لولاية الخيرة من خلقه من سبقت له منه السعادة، وذلك أن المشركين كانوا يختارون خيار أموالهم، فيجعلونها لآلهتهم. فقال الله: وربك يا محمد ﴿يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ﴾، أن يخلقه، ويختار للهداية من خلقه من سبق له في علمه. السعادة نظير ما كان من اختيار هؤلاء المشركين لآلهتهم خيار أموالهم وقد قال ابن عباس في الآية: كانوا يجعلون لآلهتهم خيار أموالهم.
فالطبري: يجعل " ما " لمن يعقل بمعنى " الذي " ويقدر رفع " الخيرة "
5564
بالابتداء ﴿لَهُمُ الخيرة﴾، والجملة خبر كان وشبهه بقولك: " كان زيد أبوه منطلق " وهذا كلام لا وجه له ولا معنى لأنه عائد يعود على اسم كان، فإن قدرت فيه محذوفة جاز على بعد، وكان هو خبر " الخيرة "، ولهم: ملغى وأحال الطبري كون " ما " للنفي لأنها لو كانت للنفي لكان المعنى: أنه لم تكن لهم الخيرة فيما مضى قبل نزول الآية، ولهم ذلك فيما يستقبلون، لأنك إذا قلت: " ما كان لك هذا " كان معنى الكلام: لم يكن فيما مضى وقد يكون له فيما يستقبل.
قال أبو محمد مؤلفه رضي الله عنهـ: وهذا لا يلزم، بل هي نفي عام في الماضي والمستقبل، وقد أجمع اللغة على أن " ما " تنفي الحال والاستقبال كليس. ولذلك عملت عملها. دليله: قوله تعالى: ﴿مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَآ إِلاَّ خَآئِفِينَ﴾ [البقرة: ١١٤]. وقوله: ﴿مَّا كَانَ عَلَى النبي مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ الله لَهُ﴾ [الأحزاب: ٣٨] فهذا نفي عام في الماضي والمستقبل، ولو كان الأمر على ما أصل الطبري لكان لهم دخولها فيما يستقبل غير خائفين، ولكان على النبي الحرج فيما فرض الله له فيما يستقبل، وهذا كثير في القرآن على خلاف ما تأول الطبري
5565
وأحاله أيضاً، لأنه لم يتقدم كلام يكون هذا نفي له، وهذا لا يلزم لأن الآي إنما كانت تنزل على ما يسأل النبي عليه السلام عنه وعلى ما هم عليه مصرون من الأعمال السيئة. وعلى ذلك أكثر أي القرآن، فلا يلزم أن يكون قبل كل آية تفسير ما نزلت فيه ومن أجله.
أي ما يسرون وما يظهرون، أي يختار من شاء من خلقه للرسالة، لأنه يعلم سرهم وظاهرهم، فهو يختارهم من خلقه على علم بهم.
قال تعالى: ﴿وَهُوَ الله لا إله إِلاَّ هُوَ﴾، أي والمعبود هو الله لا معبود غيره ﴿لَهُ الحمد فِي الأولى والآخرة﴾، أي في الدنيا والآخرة ﴿وَلَهُ الحكم﴾، أي فصل القضاء بين خلقه. ﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾، أي تردون بعد مماتكم فيقضي بينكم بالحق.
قال تعالى ذكره: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ الليل سَرْمَداً إلى يَوْمِ القيامة﴾، أي دائماً لا نهار إلى يوم القيامة.
والعرب تقول لكل ما كان متصلاً لا ينقطع من رخاء أو بلاء: هو سرمد.
وكذلك قوله في النهار فمن١ ﴿ ياتيكم بليل تسكنون فيه ﴾[ ٧٢ ]، أي تهدءون وتستريحون٢ من حركاتكم، فلو كان أحدهما دائما لهلك الخلق،
١ ز: من..
٢ ز: تسترحون..
ولكنه تعالى خلق للخلق الليل والنهار رحمة للخلق، وهو قوله :﴿ ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ﴾[ ٧٣ ]، أي في الليل، ولتبتغوا١ من فضله، يعني في النهار ﴿ ولعلكم تشكرون ﴾[ ٧٣ ]، فعل٢ ذلك، أي خلق لكم ذلك لتنتفعوا به ولتشكروا على ما فعل بكم من الرفق.
١ ز: لتبتغوا "الواو" سقطت عنه..
٢ ز: جعل..
وقوله: ﴿مَنْ إله غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِضِيَآءٍ﴾ /، أي من معبود غير الله يأتيكم بضياء النهار ﴿أَفَلاَ تَسْمَعُونَ﴾، ما يقال لكم فتتعظون.
قال أبو إسحاق: بضياء: أي بنهار تتصرفون فيه في معاشكم. وكذلك قوله في النهار فمن ﴿يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ﴾، أي تهدءون وتستريحون من حركاتكم، فلو كان أحدهما دائماً لهلك الخلق، ولكنه تعالى خلق للخلق الليل والنهار رحمة للخلق، وهو قوله: ﴿وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اليل والنهار لِتَسْكُنُواْ فِيهِ﴾، أي في الليل، ولتبتغوا من فضله، يعني في النهار ﴿وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾، فعل ذلك، أي خلق لكم ذلك لتنتفعوا به ولتشكروا على ما فعل بكم من الرفق.
أي ويوم يناديهم ربك يا محمد فيقول لهم: أين شركائي الذين كنتم تزعمون في الدنيا أنهم
شركائي؟ والمعنى: أين شركائي على زعمكم وقولكم؟.
قال تعالى: ﴿وَنَزَعْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً﴾، أي أخرجنا من أمة شهيداً منهم ليشهد عليهم بأعمالهم. يقال: إنهم عدول الآخرة يشهدون على العباد بأعمالهم في الدنيا.
ويروى: أن كل قرن لا يخلو من شهيد يشهد عليهم يوم القيامة بأعمالهم.
وقيل المعنى: أحضرنا من كل أمة نبيها الذي يشهد عليها بما فعلت.
قاله قتادة ومجاهد.
﴿فَقُلْنَا هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ﴾، أي حجتكم على إشراككم بالله مع مجيء الرسل إليكم بالحجج، والآيات ﴿فعلموا أَنَّ الحق لِلَّهِ﴾، أي أيقنوا أن الحجة لله عليهم ﴿وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ﴾، أي اضمحل وذهب الذي كانوا يشركون بالله في الدنيا فلم ينتفعوا به بل ضرهم وأهلكهم.
قوله تعالى ذكره: ﴿إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ موسى﴾،
" قارون " فاعول اسم أعجمي معرفة فلذلك لم ينصرف ومعنى ﴿كَانَ مِن قَوْمِ موسى﴾ أي من عشيرته، وكان ابن عمه لأبيه وأمه، وكان عند موسى من عباد المؤمنين. وهو قارون بن يصهر بن قاهث، وموسى: هو موسى بن عمران بن قاهث. قاله ابن جريج، والنخعي، وقتادة، ومالك ابن دينار.
وقال ابن إسحاق: كان قارون عم موسى لأب وأم.
وقوله: ﴿فبغى عَلَيْهِمْ﴾، أي تجاوز حده في التكبر عليهم.
وقيل: كان بغيه أنه أحدث زيادة شبر في طول ثيابه، قاله شهر بن حوشب.
5569
وقال قتادة: كان بغيه عليهم بكثرة ماله.
قيل: إنه لكثرة ماله استخف بالفقراء، وازدرى بني إسرائيل، ولم يرع لهم حق الإيمان بالله.
وقيل: إنه كان ابن عم موسى، وكان عالماً بالتوراة فبغى على موسى، وقصد إلى الإفساد عليه والتكذيب له، وكان من طلبه للإفساد أن بغيّاً كانت مشهورة في بني إسرائيل فوجه إليها قارون، وكان أيسر أهل زمانه، فأمرها أن تصير إليه، وهو في ملإ من أصحابه، فتكذب على موسى، وتقول: إن موسى طلبني للفساد، وضمن لها قارون إن هي فعلت ذلك أن يخلطها بنسائه، وأن يعطيها على ذلك عطاء كثيراً، فجاءت المرأة، وقارون جالس مع أصحابه ورزقها الله التوبة، وقالت في نفسها: مالي مقام توبة مثل هذا، فأقبلت على أهل المجلس وقارون حاضر، فقالت لهم: إن قارون هذا وجه إلي يأمرني ويسألني أن أكذب على موسى وأن أقول: قد أرادني للفساد، وأن قارون كاذب في ذلك. فلما سمع قارون كلامها تحير وأبلس، واتصل الخبر بموسى عليه السلام فجعل الله أمر قارون إلى موسى، وأمر الأرض أن تطيعه فيه، فورد موسى على قارون، فأحس قارون بالبلاء، فقال: يا موسى ارحمني، فقال: يا أرض
5570
خذيه، فخسفت به إلى سرته، ثم قال: يا أرض خذيه، فخسفت به إلى عنقه، واسترحم موسى فقال: يا أرض خذيه، فخسفت به حتى ساخت الأرض به وبداره، وه قوله جل ذكره: ﴿فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرض﴾ [القصص: ٨١].
وقوله: ﴿وَآتَيْنَاهُ مِنَ الكنوز﴾، أي كنوز الأموال ﴿مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُ﴾، أي خزائنه.
وقيل: هي التي يفتح بها الأبواب، والواحد في الوجهين: مفتاح، وروى الأعمش عن خيثمة أنه قال: كانت مفاتح قارون تحمل على ستين بغلاً، كل مفتاح منها /، لباب كنز معلوم مثل الإصبع من جلود.
قال مجاهد: كانت المفاتيح من جلود الإبل.
وقال أبو صالح: كانت خزائنه تحمل على أربعين بغلاً.
وقال الضحاك: مفاتحه: أوعيته.
5571
وقيل: كانت مفاتح أقفال خزائنه لا تنقل من مكان إلى مكان إلا بعشرة أنفس من أهل القوة.
قال ابن عباس: ﴿لَتَنُوءُ بالعصبة﴾، أي لتثقل بالعصبة.
وقال أبو عبيدة: مجازه ما إن العصبة ذوي القوة لتنوء بمفاتح نعمه، والصحيح عند أهل اللغة أنه يقال: نؤت بالحمل: أي نهضت به على ثقل، ونأنى، وأنأني: إذا أثقلني.
وقيل المعنى: لتنيء العصبة: أي تميلهم من ثقلها، كما يقال: ذهبت به، وأذهبته.
والعصبة عند ابن عباس: أربعون، وكذلك قال الضحاك وأبو صالح.
وقال قتادة: هي ما بين العشرة إلى الأربعين.
5572
وقال خيثمة: هم ستون، وقال: كانت مفاتحه تحمل على ستين بغلاً.
وقيل: كانت تحمل على ما بين ثلاثة إلى عشرة.
وروى الضحاك عن ابن عباس: ﴿لَتَنُوءُ بالعصبة﴾ قال: العصبة: ثلاثة، وعنه: العصبة ما بين الثلاثة إلى العشرة.
وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد: العصبة ما بين عشرة إلى خمسة عشر.
وروى ابن جريج عن مجاهد: العصبة خمسة عشر رجلاً.
وحكى الزجاج: أن العصبة هنا: سبعون رجلاً، والعصبة في اللغة: الجماعة، يتعصب بعضهم لبعض.
وقوله: ﴿أُوْلِي القوة﴾، أي ذوي الشدة.
قال مجاهد: ﴿أُوْلِي القوة﴾ خمسة عشر رجلاً.
5573
ثم قال تعالى: ﴿إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إِنَّ الله﴾، أي لا تبطر ولا تأشر ﴿إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الفرحين﴾، أي البطرين الأشرين الذين لا يشكرون على ما آتاهم الله من فضله، أمروا بالتواضع والاستكانة لله.
قال قتادة: ﴿الفرحين﴾، المرحين، وكذلك قال ابن عباس.
وقال مجاهد: المتبذخين.
وقيل: ﴿الفرحين﴾ المستهزئين.
وذكر الفراء: أن موسى الذي قال له ذلك وحده، فأخبر عنه بلفظ الجماعة كما قال: ﴿الذين قَالَ لَهُمُ الناس﴾ [آل عمران: ١٧٣] يعني نعيم بن مسعود.
وفرق الفراء بين الفرحين والفارحين، فقال: الفرحين الذين هم في حال فرح، والفارحين: الذين يفرحون فيما يستقبل، ومثله عنده طمع وطامع، وميت
5574
ومايت، وقوله تعالى: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ﴾ [الزمر: ٣٠] يدل على خلاف ما قال الفراء، لأن هذا للمستقبل، ولم يكونوا في حال موت إذ خوطبوا بهذا، ولم يقل: مايت ومايتون.
وقال الزجاج: معنى ﴿لاَ تَفْرَحْ﴾ أي تفرح بالمال فإن الفرح بالمال لا يؤدي فيه الحق.
قال تعالى: ﴿وابتغ فِيمَآ آتَاكَ الله الدار الآخرة﴾، أي وقال قوم قارون له: التمس في المال الذي أعطاكه الله الدار الآخرة بالعمل الصالح فيه ﴿وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدنيا﴾.
قال ابن عباس: معناه لا تترك العمل في الدنيا لله بطاعته وهو معنى قول مجاهد وغيره.
قال ابن زيد: لا تنس أن تقدم من دنياك لآخرتك.
وقيل معناه: بل من لذات الدنيا المحللة، لأن ذلك ليس بمحظور عليك.
وقيل: معناه لا تترك أن تطلب بدنياك الآخرة فهو حظك من دنياك.
وقال قتادة: معناه لا تخسر ما أحل الله لك فيها فإن لك فيها غنى وكفاية
وقال الحسن: معناه قدم الفضل وأمسك ما يبلغك.
وقال ابن جريج: الحلال فيها.
وعن مالك رضي الله عنهـ: أنه الأكل والشرب في غير سرف.
ثم قال تعالى: ﴿وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ﴾، أي وأحسن في الدنيا بإنفاق مالك في وجهه، كما وسع الله عليك. ﴿وَلاَ تَبْغِ الفساد فِي الأرض﴾، أي لا تلتمس ما حرم الله عليك من البغي على قومك ﴿إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المفسدين﴾، أي لا يحب بغاة البغي والمعاصي.
قال تعالى: ﴿قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ عندي﴾، أي قال قارون لقومه لما وعظوه: إنما أوتيت هذا المال: ﴿على عِلْمٍ عندي﴾ أي بفضل علم عندي علمه الله مني، فرضي بذلك عني، وفضلني عليكم بالمال لذلك، فلم يرض بأن يكون الله هو
5576
المنعم عليه بذلك، فأضاف اكتساب ذلك إلى نفسه لا بشكر الله عليه، فصار كافراً بذلك، وببغيه على بني إسرائيل، وكان قارون أقرأ الناس للتوراة.
قيل: كان يعرف عمل الكيمياء، وأنكره الزجاج، وقال: الكيمياء باطل.
ثم قال تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الله قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القرون مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ﴾، أي بطشاً ﴿وَأَكْثَرُ جَمْعاً﴾، أي جمعاً للأموال فلم تغن عنه أمواله شيئاً، فلا فضل لمن أوتيها.
ثم قال: ﴿وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ المجرمون﴾.
قال قتادة: يدخلون النار يغير حساب.
وقيل: المعنى أن الملائكة لا تسأل عنهم لأنهم يعرفونهم بسيماهم، كقوله جل ذكره: ﴿يُعْرَفُ المجرمون بِسِيمَاهُمْ﴾ [الرحمن: ٤١] قاله مجاهد، وسيماهم: زرقة العيون، وسواد الوجوه.
وقيل: المعنى ولا يسأل هلاء عن ذنوب من مضى وأهلك من الأمم الكثيرة الأموال.
5577
وقيل المعنى: لا يسألون سؤال اختيار فيختلف الضمير في ذنوبهم على مقدار المعاني المذكورة.
قوله تعالى ذكره: ﴿فَخَرَجَ على قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ﴾.
قيل: خرج في ثياب الأرجوان.
قال جابر: خرج في القرمز.
وقال مجاهد: خرج في ثياب حمر على براذين بيض عليها سروج الأرجوان عليهم المعصفرات.
قال ابن جريج: خرج على بغلة شهباء عليها الأرجوان، وثلاثمائة جارية على البغال الشهب عليهن ثياب حمر.
وقال الحسن: خرج في ثياب حمر وصفر.
وقال قتادة: ذكر لنا أنهم خرجوا على أربعة آلاف دابة عليهم وعلى دوابهم الأرجوان.
وقال ابن زيد: خرج في سبعين ألفاً عليهم المعصفرات.
وقال شهر بن حوشب: زادوا على الناس في طول ثياب أربعة أشبار.
﴿قَالَ الذين يُرِيدُونَ الحياة الدنيا﴾، أي يحبون زينة الدنيا من قوم قارون ﴿ياليت لَنَا مِثْلَ مَآ أُوتِيَ قَارُونُ﴾، من زينة الدنيا.
﴿إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ أي ذو نصيب عظيم في الدنيا.
قال تعالى: ﴿وَقَالَ الذين أُوتُواْ العلم﴾، أي اليقين والإيمان ﴿وَيْلَكُمْ ثَوَابُ الله﴾، أي اتقوا الله وأطيعوه، فثواب الله لمن آمن به وبرسله ﴿خَيْرٌ﴾ مما أوتي قارون من زينته وماله. ﴿وَلاَ يُلَقَّاهَآ إِلاَّ الصابرون﴾ أي لا يوفق لقول هذه الكلمة وهي ﴿ثَوَابُ الله خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً﴾، إلا الصابرون. أي إلا الذين صبروا عن زينة الحياة الدنيا، وآثروا ما عند الله من النعيم على شهوات الدنيا.
قال تعالى: ﴿فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرض﴾ أي فخسفنا بقارون وأهل داره الأرض.
روي: أن موسى عليه السلام أمر الأرض أن تأخذه، ومن كان يتبعه من جلسائه في داره، وكان معه جماعة وهم على مثل حاله من النفاق على موسى.
قال ابن عباس: لما نزلت الزكاة أتى موسى قارون فصالحه على كل ألف دينار ديناراً، وعلى كل ألف درهم درهماً، وعلى كل ألف شاة شاة. ثم أتى قارون بيته
5579
فحسبه فوجده كثيراً، فجمع بني إسرائيل، فقال: يا بني إسرائيل إن موسى قد أمركم بكل شيء فأطعتموه وهو الآن يريد أن يأخذ من أموالكم، فقالوا له: أنت كبيرنا وسيدنا، فمرنا بما شئت، فقال: آمركم تجيئوا بفلانة البغي فنجعل لها جعلاً فتقذفه بنفسها، فدعوها فجعلوا لها جعلاً على أن تقذفه بنفسها، ثم أتى موسى، فقال لموسى إن بني إسرئيل قد اجتمعوا لتأمرهم وتنهاهم، فخرج إليهم وهم في براح من الأرض، فقال يا بني إسرائيل: من سرق قطعنا يده، ومن افترى جلدناه بثمانين، ومن زنى وليس له امرأة جلدناه مائة، ومن زنى وله امرأة جلدناه حتى يموت أو رجمناه حتى يموت. فقال له قارون: وإن كنت أنت، قال: وإن كنت أنا، قال: فإن بني إسرائيل يزعمون أنك فجرت بفلانة، فقال: ادعوها، فإن قالت فهو كما قالت، فلما أن جاءت، قال لها موسى: يا فلانة، قالت: لبيك، قال: أنا فعلت بك ما يقول هؤلاء؟ قالت: لا وقد كذبوا، وقد جعلوا لي جعلاً على أن أقذفك بنفسي فوثب وسجد وهو بينهم فأوحى الله إليه: مر الأرض بما شئت، فقال يا أرض خذيهم، فأخذتهم /، إلى أقدامهم، ثم قال: يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى ركبهم، ثم كذلك حتى أخذتهم إلى أعناقهم، فجعلوا يقولون: يا موسى، يا موسى، ويتضرعون إليه، فقال: يا أرض خذيهم، فأطبقت عليهم، فأوحى الله إليه: يا موسى، يقول لك عبادي يا موسى، يا موسى لا ترحمهم، أما لو إياي دعوا لوجدوني قريباً مجيباً.
قال ابن عباس: خسف به وبداره إلى الأرض السابعة.
قال ابن جريج: بلغنا أن قارون يخسف به كل يوم قامة، ولا يبلغ إلى أسفل
5580
الأرض إلى يوم القيامة.
وقال مالك بن دينار: بلغنا أن قارون يخسف به كل يوم مائة قامة. ثم قال تعالى: ﴿فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ﴾، أي من فرقة ترد عنه عذاب الله. وما كان ممن ينتصر من عذاب الله.
قال: ﴿وَأَصْبَحَ الذين تَمَنَّوْاْ مَكَانَهُ بالأمس يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ الله يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ﴾، أي قال الذين قالوا: ﴿ياليت لَنَا مِثْلَ مَآ أُوتِيَ قَارُونُ﴾ [القصص: ٧٩] لما أن خسف به، وبداره، وأمواله ﴿وَيْكَأَنَّ الله﴾.
قال الخليل، وسيبويه، والأخفش والكسائي: في ﴿وَيْكَأَنَّ﴾: إن القوم تنبهوا أو انتبهوا فقالوا: وي.
والمتندم من العرب يقول في حال تندمه: وي.
قال الخليل: هي " وي " مفصولة من كأن.
والمعنى وقع على أن القوم انتبهوا فتكلموا على قدر علمهم أو نبهوا فقيل لهم أو ما يشبه أن يكون ذلك عندكم هكذا. فالمعنى على هذا القول أن القوم تندموا على ما سلف من قولهم: ﴿ياليت لَنَا مِثْلَ مَآ أُوتِيَ قَارُونُ﴾ [القصص: ٧٩] الآية.
5581
ومن شأن المتندم إذا أظهر ندامته أن يقول " وي " فالوقف على هذا المعنى " وي ".
وقال المفسرون: معناها: ألم تر.
وحكى الفراء: أن أصلها " ويلك " ثم حذفت اللام، فيكون الوقف.
" ويك "، وهذا بعيد عند كل النحويين، لأن القوم لم يخاطبوا أبداً، ويلزم على قوله أن تكون أن مكسورة إذ لا شيء يفتحها مع أن حذف اللام من " ويلك " غير معروف. وقدره بعض من يقول بقول الفراء " ويلك " إعلم أنه وهو بعيد لما ذكرنا، ولأن العرب لا تعلم العلم مضمراً.
وقال بعض الكوفيين: فيه معنى التقرير: ومعناه: أما تروا أنه لا يفلح.
وحكي: أنه سمع أعرابية تقول لزوجها: أين ابنك؟ فقال لها: ويكأنه وراء البيت، على معنى أما ترى أنه وراء البيت؟
وحكى يونس عن العرب: وي ما أغفله.
وحكى قطرب: " وي " لأمه.
5582
وقال معمر: معناه: أو لا يعلم أنه لا يفلح.
فالمعنى: أن القوم لما عاينوا ما نزل بقارون، قالوا: ألم تر أن ﴿الله يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾ ويضيقه على من يشاء، ليس يعطي أحد الفضل فيه ولا يمنع أحد لنقص فيه، بل يوسع على من يشاء، ويضيق على من يشاء.
وكتبت " ويكأن " متصلة لكثرة الاستعمال، كما كتبوا يا ابن أم متصلة. وروي عن الكسائي: أنه يقف " وي " ويبتدئ كأن.
وحكي عن أبي عمرو: أنه يقف " ويك ". والمستعمل وصل ذلك اتباعاً للمصحف، ولا يوقف على بعضه دون بعض.
قال: ﴿تِلْكَ الدار الآخرة نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأرض وَلاَ فَسَاداً﴾، أي لا يريدون تكبراً عن الحق، ولا ظلم الناس بغير حق.
قال عكرمة: العلو: التجبر.
قال ابن جبير: العلو: البغي.
وقال ابن جريج: علواً، تعظماً وتجبراً، ﴿وَلاَ فَسَاداً﴾، عملاً بالمعاصي.
وروي عن علي رضي الله عنهـ أنه قال: إن الرجل ليعجبه من شراك نعله أن يكون أجود من شراك صاحبه، فيدخل في قوله: ﴿تِلْكَ الدار الآخرة﴾.
وقوله تعالى: ﴿والعاقبة لِلْمُتَّقِينَ﴾،.
قال قتادة والضحاك معناه: والجنة للمتقين: يعني الذين اتقوا المعاصي وأدوا الفرائض.
قال تعالى: ﴿مَن جَآءَ بالحسنة فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا﴾، أي من جاء يوم القيامة بالإخلاص فله منه خير.
قال عكرمة: ليس شيء خيراً من لا إله إلا الله. وإنما المعنى: من جاء بلا إله إلا الله فله منها خير أي حظ خير.
وقيل المعنى: من جاء يوم القيامة بالحسنات فله ما هو خير له من ثوابها، وهو التفضل الذي يزيده الله على ثوابها، لم يستحقه لعمله، وإنما هو تفضل من الله عليه، فيكون الثواب على عمله، والتفضل خير له من الثواب وحده.
وقيل: ذلك الخير: الجنة.
﴿وَمَن جَآءَ بالسيئة﴾، يعني الشرك بالله ﴿فَلاَ يُجْزَى الذين عَمِلُواْ السيئات إِلاَّ﴾، أي لا يثابون إلا جزاءَ / أعمالهم لا يزاد عليهم.
قال تعالى: ﴿إِنَّ الذي فَرَضَ عَلَيْكَ القرآن لَرَآدُّكَ إلى مَعَادٍ﴾،.
هذا مخاطبة للنبي ﷺ، والمعنى: إن الذي أنزل عليك القرآن يا محمد. قاله مجاهد وغيره.
وقيل معنى: فرض عليك العمل بما فيه.
﴿لَرَآدُّكَ إلى مَعَادٍ﴾، أي إلى الجنة، قاله ابن عباس، والخدري، وأبو مالك، وأبو صالح، لأن أباه منها خرج، فجاز أن يقال للنبي: إلى معاد فيها، وإن كان هو
5585
لم يخرج منها.
وقيل: إنما جاز ذلك لأنه دخلها ليلة الإسراء، فالله تعالى يرده إلى الموضع الذي دخله، ويعود به إليه.
وقال عكرمة، وعطاء، ومجاهد: إلى معاد: إلى يوم القيامة.
وكذلك قال الحسن: معاده الآخرة.
وعن ابن عباس: إلى معاد: إلى الموت، وقاله ابن جبير.
وعن ابن عباس أيضاً ومجاهد: إلى معاد: إلى مكة، وهو الموضع الذي خرج منه، فكان ذلك بعد مدة، وهذا من دلالات نبوته ﷺ لأنه أخبر بمكة أنه إذا خرج منها سيعود إليها، فكان ذلك. والسورة مكية ورجع إلى مكة بعد هجرته إلى المدينة وبقائه بها تسعة أعوام أو نحوها، وذلك كله بوحي الله جل ذكره إليه بذلك في كتابه بقوله: ﴿لَرَآدُّكَ إلى مَعَادٍ﴾.
5586
واختار الزجاج قول من قال: إلى يوم القيامة، لأن المعنى لرادك إلى الحياة التي كنت فيها.
ثم قال تعالى: ﴿قُل ربي أَعْلَمُ مَن جَآءَ بالهدى﴾، أي: من جاء بالهدى منا ومنكم ﴿وَمَنْ هُوَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ﴾، منا ومنكم، أي في جور عن قصد السبيل.
قال تعالى: ﴿وَمَا كُنتَ ترجوا أَن يلقى إِلَيْكَ الكتاب﴾، أي لم تكن يا محمد تظن أن القرآن ينزل عليك فتعلم به أخبار الأمم قبلك، وما يحدث بعدك، إلا أن ربك رحمك فأنزله عليك ف ﴿إِلاَّ رَحْمَةً﴾ استثناء منقطع، فهذا تذكير من الله لنبيه بنعمه عليه.
﴿فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهيراً لِّلْكَافِرِينَ﴾، أي عوناً لمن كفر بربه على كفره.
قال تعالى: ﴿وَلاَ يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ الله بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ﴾، أي لا يصرفك يا محمد الكفار عن تبليغ آيات الله وحججه بعد إذا أنزلت إليك بقولهم:
﴿لولا أُوتِيَ مِثْلَ مَآ أُوتِيَ موسى﴾ [القصص: ٤٨]، ﴿وادع إلى رَبِّكَ﴾، أي وادع الناس إلى توحيد ربك وعبادته ﴿وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين﴾، أي ولا تترك تبليغ ما أرسلت به، فتكون كالمشركين في ترك ما أمرت به.
قال: ﴿وَلاَ تَدْعُ مَعَ الله إلها آخَرَ﴾، أي لا تعبد يا محمد ﷺ مع معبودك الذي له عبادة كل شيء معبوداً آخر ﴿لاَ إله إِلاَّ هُوَ﴾، أي لا معبود تصلح له العبادة إلا له، الذي ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ﴾، أي إلا إياه.
وقال سفيان معناه: كل شيء هالك إلا ما أريد به وجهه.
وحكى بعض أهل اللغة أن معناه: إلا جاهه، يقال: فلان وجه القوم أي جاه القوم، فالتقدير: كل شيء في العباد هالك إلا الوجه الذي يتوجهون به إلى الله جل ذكره.
5588
﴿لَهُ الحكم﴾، أي بين خلقه دون غيره، ﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾، أي تردون بعد مماتكم، فيقضي بينكم بالعدل.
5589
الهداية إلى بلوغ النهاية
لأبي محمد بن أبي طالب القيسي المتوفى سنة ٤٣٧ هـ
المجلد التاسع
العنكبوت - الصافات
١٤٢٩ هـ ٢٠٠٨ م
5590
Icon