تفسير سورة القصص

المنتخب في تفسير القرآن الكريم
تفسير سورة سورة القصص من كتاب المنتخب في تفسير القرآن الكريم .
لمؤلفه المنتخب . المتوفي سنة 2008 هـ
سورة القصص الثامنة والعشرون في ترتيب السور بالمصحف، وهي من السور المكية، وعدد الآيات فيها ثمان وثمانون.
وقد اشتملت على تفصيل لما ذكر قبلها إجمالا، ومن شأن موسى عليه السلام منذ ولد في عهد فرعون، وكان فرعون يقتل الأبناء من بني إسرائيل خوفا من ظهور نبي يقضي على سلطانه.
ثم ما كان من مناجاة الله لموسى أثناء عودته، واختياره للرسالة، وما حدث من شأن فرعون وسحرته مع موسى، إلى أن أغرق الله فرعون وجنده، ونجى موسى ومن معه من بني إسرائيل، ثم ما كان من بني إسرائيل مع موسى وأخيه هارون، وما يتصل بهذا من أنباء المكذبين كقارون ومن سبقه من الكافرين. ولهذا البيان الشامل سميت السورة بسورة القصص.

١- طسم : حروف صوتية سيقت لبيان أن القرآن المعجز من هذه الحروف التي يتألف منها حديثكم، ولتنبيه السامعين.
٢- هذه الآيات التي نوحيها إليك - أيها الرسول - آيات القرآن المبين الواضح، المظهر للحق من الباطل، وللحلال من الحرام، والوعد بالثواب، والوعيد بالعقاب.
٣- نقُص عليك بعض أخبار موسى وفرعون بالصدق، ليعتبر بما فيه المؤمنون.
٤- إن فرعون تعاظم في نفسه، وجاوز الحد في ظلمه، واستكبر في أرض مصر، وصيَّر أهلها فرقا، يصطفي بعضها ويسخِّر بعضها، ويستضعف منهم بني إسرائيل، فيذبح الذكور من أولادهم، ويستبقى الإناث. إنه كان من المسرفين في الطغيان والإفساد.
٥- وأراد الله أن يتفضَّل على الذين استضعفهم فرعون في الأرض، وأن يجعلهم هداة إلى الخير، ويورثهم ملك الأرض والسلطان.
٦- ونُثَّبتهم في الأرض ويتخذون فيها مكاناً، ونُثَبت لفرعون ووزيره هامان وجندهما ما كانوا يخشونه من ذهاب ملكهم على يد مولود من بني إسرائيل.
٧- وألهم الله أمَّ موسى - حينما خشيت عليه أن يذبحه فرعون كما يذبح أبناء بني إسرائيل - أن ترضعه مطمئنة عليه من قتل فرعون، فإذا خشيت أن يعرف أمره وضعته في صندوق وألقته في النيل غير خائفة ولا محزونه، فقد تكفل الله لها بحفظه وردِّه إليها، وأن يرسله إلى بني إسرائيل.
٨- فأخذه آل فرعون ليتحقق ما قدَّره الله بأن يكون موسى رسولا معاديا لهم، ومثيرا لحزنهم بنقد دينهم والطعن على ظلمهم. إن فرعون وهامان وأعوانهما كانوا آثمين مسرفين في الطغيان والفساد.
٩- وقالت امرأة فرعون - حين رأته - لزوجها : هذا الطفل مبعث السرور لي ولك. نستبقيه ولا نقتله رجاء أن ننتفع به في تدبير شأننا أو نتبناه، وهم لا يشعرون بما قدر الله في شأنه.
١٠- وصار قلب أم موسى خاليا من العقل لما دهمها من الجزع لوقوع ولدها في يد فرعون. إنها كادت تظهر أمره بأنه ولدها لولا أن ثَبَّت الله قلبها بالصبر لأعلنت أنه ولدها شفقة عليه، ولتكون في ضمن المؤمنين المطمئنين.
١١- وقالت أمه لأخته : تتبعي أثره لتعرفي خبره، فرأته عن بُعد وهي تتجنب ظهور أمرها وفرعون وآله لا يدرون أنها أخته.
١٢- ومنع الله الطفل - موسى - أن يرضع ثديا لمرضع قبل أن يرشدوا إلى أمه، فاغتم آل فرعون، وأهمهم ذلك، فقالت لهم أخته : ألا أرشدكم إلى أسرة تكفله وتتعهده بالرضاع والتربية وهم له حافظون ؟
١٣- فقبلوا إرشادها، وردَّه الله إلى أمه كي تطيب نفسها، وتفرح بعودته إليها، ولا تحزن بفراقه، ولتزداد علما بأن وعد الله بردِّه لها حاصل لا يتخلف، ولكن أكثر الناس لا يعلمون عودة موسى إلى أمه، لخفائه عليهم.
١٤- ولما بلغ موسى رشده واكتمل نضجه أعطاه الله الحكمة والعلم، ومثل ذلك الإحسان الذي أحسنا به إلى موسى وأمه نكافئ المحسنين على إحسانهم.
١٥- ودخل موسى المدينة في وقت غفل فيه أهلها، فوجد فيها رجلين يقتتلان : أحدهما من بني إسرائيل، والآخر من قوم فرعون، فاستعان به الإسرائيلي على خصمه فأعانه موسى، وضرب الخصم بقبضة يده فقتله من غير قصد. ثم أسف موسى، وقال : إنَّ إقدامي على هذا من عمل الشيطان. إن الشيطان لعدو ظاهر العداوة واضح الضلال.
١٦- قال موسى متضرعاً إلى الله في ندم : يا رب إني أسأت إلى نفسي بما فعلت، فاغفر لي فعلتي. فأجاب الله دعوته وغفر له. إن الله هو العظيم المغفرة الواسع الرحمة.
١٧- قال موسى متضرعاً : يا رب بحق إنعامك علىَّ بالحكمة والعلم وفقني للخير والصواب، فإذا وفقتني فلن أكون عوناً للكافرين.
١٨- فأصبح موسى في المدينة - مصر - فزعا، يتوقع أن يصيبه الأذى من القوم بسبب قتله المصري، فوجد الإسرائيلي الذي طلب منه النصرة بالأمس يستغيث به ثانية على مصري آخر، فنهره موسى قائلا له : إنك لشديد الغواية ظاهر الضلال، حيث عدت لمثل ما فعلت بالأمس ودعوتني مرة ثانية لنصرتك.
١٩- فلما هم موسى بالبطش بالمصري الذي هو عدو لهما، بسبب هذه العداوة، قال - وقد ظن أن موسى سيقتله - : أتريد أن تقتلني كما قتلت شخصاً آخر بالأمس. ما تريد إلا أن تكون طاغية في الأرض، وما تريد أن تكون من دعاة الإصلاح والخير.
٢٠- وجاء رجل مؤمن من آل فرعون - يخفي إيمانه - من أقصى المدينة حينما انتشر نبأ قتل موسى للمصري، يخبر موسى أن قوم فرعون يتشاورون لقتلك، ويقول له : اخرج من المدينة فرارا من القتل، إنى لك من الناصحين.
٢١- فخرج موسى من المدينة خائفاً يتوقع أن يتعرض له أعداؤه بالأذى، ضارعا إلى الله أن يُنجيه من ظلم الكافرين.
٢٢- ولما توجه ناحية مدين - قرية شعيب - لما فيها من الأمن - تضرع إلى الله أن يهديه طريق الخير والنجاة.
٢٣- ولما وصل ماء آل مدين الذي يسقون منه، وجد على جانب البئر جماعة كثيرة من أناس مختلفين يسقون مواشيهم، ووجد في مكان أسفل من مكانهم امرأتين تدفعان غنمهما بعيدا عن الماء، فقال لهما موسى : لم تبتعدان عن الماء ؟ فأجابتا : لا نستطيع الزحام، ولا نسقى حتى يسقى الرعاة، وأبونا شيخ طاعن لا يستطيع الرعي ولا السقي.
٢٤- فتطوع موسى وسقى لهما، ثم ركن إلى ظل شجرة يستريح من الجهد، وهو يقول في ضراعة : يا رب إني فقير لما تسوقه إلىَّ من خير ورزق.
٢٥- فجاءت إحدى الفتاتين - مُرْسَلة من قبل أبيها بعد أن علم بأمر موسى معهما - تسير إلى موسى حياء، قالت : إن أبى يدعوك ليجزيك أجر سقيك لنا. فلما ذهب إليه وقصَّ عليه قصة خروجه من مصر قال والد الفتاتين : لا تخف، نجوت من القوم الظالمين، إذ لا سلطان لفرعون علينا.
٢٦- قالت أحدى الفتاتين : يا أبت اتخذه أجيرا لرعي الغنم والقيام على شأنها، إنه خير من تستأجره لقوَّته وأمانته.
٢٧- قال له شعيب - عليه السلام - إني أريد أن أزوجك واحدة من ابنتي هاتين، على أن يكون مهرها أن تعمل عندنا ثماني سنوات، فإن أتممت عشرا فمن عندك تطوعا، وما أريد أن ألزمك بأطول الأجلين، وستجدني إن شاء الله من الصالحين المحسنين للمعاملة الموفين بالعهد.
٢٨- قال موسى : ذلك الذي عاهدتني عليه قائم بيني وبينك، أي مدة من المدتين أقضيها في العمل أكون وفيتك عهدك فلا أطالب بزيادة عليها، والله شاهد على ما نقول.
٢٩- فلما أتم موسى المدة المشروطة، وأصبح زوجاً لبنت الذي آواه، وعاد بها إلى مصر أبصر في طريقه من ناحية جبل الطور نارا، فقال لمن معه : امكثوا هنا، إني رأيت نارا استأنست بها في هذه الظلمة، سأذهب إليها لآتيكم من عندها بخبر عن الطريق أو بجذوة منها لعلكم تستدفئون بها.
٣٠- فلما جاء موسى إلى النار التي أبصرها، سمع من ناحية الجانب الأيمن له من الشجرة النابتة في البقعة المباركة بجانب الجبل نداء علويا يقول له : يا موسى، إني أنا الله الذي لا يستحق العبادة سواه، خالق العالمين وحاميهم وحافظهم ومربيهم.
٣١- ونودي : أن ألق عصاك. فألقاها فقلبها الله ثعبانا، فلما أبصرها موسى تتحرك كأنها حية في سعيها خاف وفر فزعا ولم يرجع، فقيل له : يا موسى أقبل على النداء وعُد إلى مكانك ولا تخف، إنك في عداد الآمنين من كل مكروه.
٣٢- وأدخل يدك في طوق ثوبك تخرج شديدة البياض من غير عيب ولا مرض، واضمم يدك إلى جانبك في ثبات من الخوف، ولا تفزع من رؤية العصا حية ومن رؤية اليد بيضاء، فهاتان المعجزتان من الله تواجه بهما فرعون وقومه حينما يقابلون رسالتك بالتكذيب خارجين عن طاعة الله.
٣٣- قال موسى - متخوفا وطالبا العون - يا رب، إني قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلوني به قصاصا.
٣٤- وأخي هارون أفصح منى لسانا، فأرسله معي عونا في التبليغ، لأني أخاف أن يكذبون.
٣٥- قال الله - استجابة لدعائه - : سنقويك بهارون، ونجعل لكما سلطانا وتأييدا بالمعجزات فلا يستطيعون الاعتداء عليكما، وأنكما ومن اتبعكما واهتدى بكما الغالبون المنتصرون على هؤلاء الكافرين.
٣٦- فلما واجههم موسى بدعوته مؤيدة بالمعجزات الواضحة أنكروا ما شاهدوا، قالوا : ما هذا إلا سحر تفتريه على الله، ولم نسمع بهذا الذي تدَّعيه فيمن سبقنا من آبائنا الأولين.
٣٧- وقال موسى - ردا على فرعون وقومه - : ربى يعلم أنى جئت بهذه الآيات الدالة على الحق والهدى من عنده، فهو شاهد لي على ذلك إن كذبتموني، ويعلم أن العاقبة الحميدة لنا ولأهل الحق، إنه لا يفوز بالخير الكافرون.
٣٨- وقال فرعون - عندما عجز عن محاجة موسى، تماديا في طغيانه - يا أيها الملأ، ليس لي علم بوجود إله لكم غيري. وأمر وزيره هامان أن يصنع له الآجُرّ ويُشيد له صرحاً شامخاً عالياً ليصعد عليه، وينظر إلى الإله الذي يدعو إليه موسى، ويؤكد فرعون مع ذلك أن موسى من الكاذبين في ظنه.
٣٩- وظل فرعون وجنوده مستكبرين في أرض مصر بالباطل، وظنوا أنهم لن يُبعثوا في الآخرة للحساب والجزاء.
٤٠- فانتزعنا فرعون من سلطانه، واستدرجناه هو وجنوده إلى اليَم، وأغرقناهم فيه نابذين لهم بسبب ظلمهم. فتدبر يا محمد، وحذر قومك كيف كانت نهاية الظالمين في دنياهم ؟ وإنك لمنصور عليهم.
٤١- قال تعالى : وجعلناهم دعاة يدعون إلى الكفر الذي يؤدى إلى النار، ويوم القيامة لا يجدون من ينصرهم ويخرجهم من هذا العذاب.
٤٢- وجعلناهم في هذه الدنيا مطرودين من رحمتنا، ويوم القيامة هم من المهلكين. وما حكي في الآيتين بشأنهم دليل على غضب الله.
٤٣- ولقد أنزل الله التوراة على موسى بعد أن أهلك المكذبين من الأمم السابقة لتكون نورا للقلوب، لأنها كانت مظلمة لا تعرف حقا وإرشادا، لأنهم كانوا يتخبطون في الضلال، وطريقاً لنيل الرحمة لمن عمل بها، ليتعظوا بما فيها فيسارعوا إلى امتثال الأوامر واجتناب النواهي.
٤٤- وما كنت – يا محمد - حاضرا مع موسى في المكان الغربي من الجبل حين عهد الله إليه بأمر الرسالة، ولم تكن معاصرا لموسى ولا شاهدا تبليغه للرسالة، فكيف يكذب قومك برسالتك وأنت تتلوا عليهم أنباء السابقين ؟.
٤٥- ولكنا خلقنا أمماً كثيرة في أجيال طال عليها الزمن فنسوا ما أخذه عليهم من العهود، ولم تكن - أيها الرسول - مقيما في مدين حتى تخبر أهل مكة بأنبائهم، ولكنا أرسلناك وأخبرناك بها من طريق الوحي.
٤٦- وما كنت - أيها الرسول - حاضرا في جانب الطور حين نادى الله موسى واصطفاه لرسالته، ولكن الله أعلمك بهذا من طريق الوحي رحمة بك وبأمتك، لتبلغه قوما لم يأتهم رسول من قبلك لعلهم يتذكرون.
٤٧- ولولا أن الكفار حين تصيبهم عقوبة بسبب كفرهم يعتذرون ويحتجون قائلين : ربنا لم ترسل إلينا رسولا نؤمن ونُذعن لمعجزاته ونكون من المؤمنين، ما كانت رسالات الرسل.
٤٨- فلما جاء رسول الله - محمد - بالقرآن من عند الله قال الكفار : ليته أُعْطى مثل ما أُعْطى موسى من معجزات حسية، وكتاب نزل جملة واحدة كالتوراة، وقد كفروا من قبل بموسى وآياته كما كفروا اليوم بمحمد وكتابه، وقالوا : نحن بكل منهما كافرون. فالجحود هو الذي أدى إلى الكفر بالمعجزات.
٤٩- قل لهم - أيها الرسول - إذا لم تؤمنوا بالتوراة والقرآن ؛ فهاتوا كتاباً من عند الله أحسن منهما هداية أو مثلهما أتبعه معكم إن كنتم صادقين في زعمكم أن ما جئنا به سحر.
٥٠- فإن لم يستجيبوا دعاءك إلى الإتيان بالكتاب الأهدى، فاعلم أنهم قد ألزموا الحجة ولم يبق لهم حجة، وأنهم بذلك يتبعون أهواءهم، ولا أحد أكثر ضلالا ممن اتبع هواه في الدين بغير هدى من الله، إن الله لا يوفق من ظلم نفسه باتباع الباطل دون أن ينشد حقاً.
٥١- ولقد أنزل الله القرآن عليهم متواصلا بعضه إثر بعض حسبما تقتضيه الحكمة، ومتتابعا وعدا ووعيدا وقصصا وعبرا، ليتدبروا ويؤمنوا بما فيها.
٥٢- الذين أنزلنا لهم التوراة والإنجيل من قبل نزول القرآن وآمنوا بهما وصدقوا بما فيهما عن محمد وكتابه، هم بمحمد وكتابه يؤمنون.
٥٣- وإذا يُقرأ القرآن على هؤلاء قالوا - مسارعين إلى إعلان الإيمان - : آمنا به لأنه الحق من ربنا، ونحن عرفنا محمدا وكتابه قبل نزوله، فإسلامنا سابق على تلاوته.
٥٤- أولئك الذين آمنوا بالقرآن وبما أنزل من قبله من كتب يعطوْن ثوابهم مضاعفا، بصبرهم على ما يلحقهم من الأذى في سبيل الإيمان، ويؤثرون العمل الصالح، ويقابلون بالعفو والإحسان، وينفقون في سبيل الخير مما منحهم الله من مال.
٥٥- وإذا سمعوا الباطل من الجاهلين انصرفوا عنه تنزها وترفعا، وقالوا : لنا أعمالنا الحقة لا نحيد عنها، ولكم أعمالكم الباطلة ووزرها عليكم، ونحن نترككم وشأنكم لأننا لا نريد صحبة الجاهلين.
٥٦- إنك - أيها الرسول - شديد الحرص على هداية قومك ؛ ولكنك لا تستطيع أن تُدْخل في الإسلام كل من تحب ؛ ولكن الله يهدى للإيمان من علم فيهم قبول الهداية واختيارها. وهو الذي يعلم علما - ليس فوقه علم - من سيدخل في صفوف المهتدين.
٥٧- وقال مشركو مكة للرسول - صلى الله عليه وسلم - معتذرين عن بقائهم على دينهم : إن اتبعناك على دينك أخرجَنَا العرب من بلدنا وغلبونا على سلطاننا. وهم كاذبون فيما يعتذرون به، فقد ثَبَّتَ الله أقدامهم ببلدهم، وجعله حرما يأمنون فيه - وهم كفرة - من الإغارة والقتل، وتُحمل إليه الثمرات والخيرات المتنوعة الكثيرة رزقاً يسوقه الله إليهم من كل جهة، فكيف يستقيم أن يسلبهم الأمن ويعرضهم للتخطف إذا ضموا إلى حرمة البيت الإيمان بمحمد ؟ ولكن أكثرهم لا يعلمون الحق، ولو علموا لما خافوا التَّخطف.
٥٨- لم يعتبر هؤلاء بمصاير الأمم السابقة، فقد أهلك الله قرى الذين اغتروا بنعمة الله ثم كفروا بها وبالله، وهذه ديارهم خاوية لا تصلح للسكن بعدهم إلا فترات عابرة للمارين بها، ولم يبق لها مالك بعدهم إلا الله ذو الجلال والإكرام.
٥٩- وما كان من حكمة الله تعالى - وهو ربك الذي خلقك واصطفاك - أن يهلك المدن العظيمة إلا بعد أن يُرسل إلى أهلها رسولا بالمعجزات الباهرة يتلو عليهم الكتاب المنزل، ويبين لهم شرائعه، ثم لم يؤمنوا، وما كنا مُهلكي المدن العظيمة إلا وأهلها مستمرون على الظلم والاعتداء.
٦٠- وكل شيء رُزقْتموه من أعراض الدنيا وزينتها متاع محدود إلى أمد قريب، فلا يصرفَنَّكم عن الإيمان والعمل الصالح، فإن ما عند الله في الآخرة من الثواب والنعيم الخالد أنفع وأدوم من ذلك كله، فلماذا لا تُعمِلون عقولكم بدل أهوائكم ؟.
٦١- لا يستوي من آمن وعمل صالحا فاستحق وعد الله - الوعد الحسن بالثواب والجنة - فهو مُدْركه كما وعده الله، ومن كفر وعمل سيئا وفتنه متاع الحياة وزخرفها، ثم هو يوم القيامة من المُحضرين للحساب، الهالكين في العذاب.
٦٢- واذكر - أيها الرسول - يوم يقف هؤلاء بين يدي الله للحساب فيناديهم سبحانه نداء توبيخ : أين الآلهة الذين زعمتموهم شركاء ليدافعوا عنكم أو ليشفعوا فيكم ؟ !
٦٣- قال قادة الكفر من الذين حق عليهم غضب الله ووعيده : يا ربنا، هؤلاء الذين دعوناهم إلى الشرك وزيَّنا لهم الضلال أغْويناهم لأنهم اختاروا الكفر وتقبَّلوه كما اخترناه نحن وتقبَّلناه. تبرأنا إليك منهم اليوم ومما اختاروه في الدنيا من الكفر، لم يعبدونا نحن، بل عبدوا أهواءهم وأطاعوا شهواتهم.
٦٤- وأمر المشركين من جانب الله أمر توبيخ بدعوة الآلهة التي أشركوها مع الله لتخلصهم من عذابه كما زعموا، فخضعوا في ذلة ودعوهم في حيرة، فلم يظفروا منهم بجواب، وشاهدوا العذاب المعد لهم حاضرا، وتمنوا لو أنهم كانوا في دنياهم مؤمنين مهتدين لما حاق بهم ذلك العذاب.
٦٥- واذكر - أيها الرسول - كذلك يوم ينادى المشركون من جانب الله تعالى نداء توبيخ، فقال لهم : بأي شيء أجبتم رسلي الذين أرسلتهم لدعوتكم إلى الإيمان فبلغوكم الرسالة ؟
٦٦- فصارت الأخبار غائبة عنهم لا يهتدون إليها، كأنهم في عَمى، ولم يرجع بعضهم إلى بعض في ذلك لتساويهم في العجز عن الإجابة.
٦٧- هذا شأن المشركين، فأمَّا من تاب من الشرك، وآمن إيماناً صادقاً وعمل الصالحات، فهو يرجو أن يكون عند الله من الفائزين برضوان الله وبالنعيم الدائم المستمر.
٦٨- وربك يخلق ما يشاء بقدرته، ويختار بحكمته من يشاء للرسالة والطاعة على مقتضى علمه باستعدادهم لذلك، ولم يكن في مقدور الخلق ولا من حقهم أن يختاروا على الله ما يشاءون من أديان باطلة وآلهة زائفة، تنزَّه الله - تعالى شأنه - عن الشركاء.
٦٩- وربك - أيها الرسول - محيط علمه بما تخفيه صدور المشركين من عداوتهم لك، وما يعلنون بألسنتهم من المطاعن فيك والاعتراض على اختيارك للرسالة.
٧٠- وربك - أيها الرسول - هو الله الحق المختص بالألوهية، المستحق - وحده - للحمد من عباده في الدنيا على إنعامه وهدايته، وفي الآخرة على عدله ومثوبته. وهو - وحده - صاحب الحكم والفصل بين عباده، وإليه المرجع والمصير.
٧١- قل - أيها الرسول - : أخبروني أيها الناس، إن جعل الله عليكم الليل متتابعاً دون نهار إلى يوم القيامة، فهل لكم إله سوى الله يأتيكم بنهار مضيء تقومون فيه بمعاشكم وشئون دنياكم ؟
٧٢- قل - أيها الرسول - : للناس : إن جعل الله عليكم النهار متتابعاً دون ليل إلى يوم القيامة، فهل لكم إله سوى الله يأتيكم بليل تستريحون فيه من عمل النهار ؟ ليس لكم ذلك، فلماذا لا تبصرون آيات الله فتؤمنوا وتهتدوا ؟
٧٣- ومن رحمة الله بخلقه أن خلق لهم الليل والنهار وجعلهما متعاقبين، ليستريحوا في الليل، وليسعوا على رزقهم ومنافعهم في النهار، وليُدركوا فضل الله عليهم فيشكروه١.
١ ﴿قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون. قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الناهر سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون. ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون﴾: لا شك في أن خلق الأرض على صورتها الحالية ومركزها بالنسبة إلى الشمس ودورانها حول نفسها كل يوم مرة وحول الشمس في كل سنة شمسية مرة، لا شك في أن هذا مظهر من مظاهر قدرة الله وحكمته ووحدانيته.
والآية الكريمة تنبه الناس إلى حقيقة يجب أن يعوها وهي: أنه ـ تعالى ـ لو خلق الأرض بحيث يكون ليلها دائما، أو بحيث يكون نهارها دائما، فليس هناك إله غيره يستطيع أن ينعم عليهم بالنهار والليل المتعاقبين. وذلك أن الأرض لو كانت تدور حول محورها وحول الشمس في فترة واحدة مقدارها ٣٦٥ يوما تقريبا، لحدثت تغيرات جوهرية منها استمرار الظلام في نصفها واستمرار الضياء في نصفها الآخر تقريبا، وبهذا ترتفع الحرارة في النصف المضاء ارتفاعا لا يطاق، ويتجمد النصف المظلم، ويصير النصفان غير صالحين للحياة، أما نظام الأرض الحالي فإنه يكفل تعاقب الليل والنهار فينشأ السكون في الليل والسعي في النهار، ويتهيأ الجو الصالح لحياة الإنسان والحيوان والنبات، وهذا فضل من الله على عباده يستدعي الإقرار بقدرته ودوام شكره..

٧٤- واذكر كذلك - أيها الرسول - يوم ينادَى المشركون من جانب الله تعالى نداء توبيخ، فيقال لهم : أين الشركاء الذين زعمتموهم آلهة ينصرونكم أو شفعاء يشفعون لكم ؟ !
٧٥- وأخرجنا يوم القيامة من كل أمة شهيداً هو نبيُّها. يشهد عليها بما كان منها في الدنيا فنقول حينئذ للمخالفين منهم : ما هي حجتكم فيما كنتم عليه من الشرك والمعصية ؟ فيعجزون عن الجواب، ويعلمون حينئذ أن الحق لله بداية ونهاية، وغاب عنهم غيبة الشيء الضائع ما كانوا يفترون على الله.
٧٦- ذكرت السورة قصة قارون، وأنه كان من قوم موسى، فتكبر عليهم غروراً بنفسه وماله، وقد أعطاه الله كنوزاً زاخرة بالأموال، بلغت مفاتيحها من الكثرة بحيث يثقل حملها على الجماعة الأقوياء من الرجال، وحين اغتر بنعمة الله عليه وكفر بما نصحه قومه قائلين له : لا تغتر بمالك، ولا يفتنك الفرح به عن شكر الله، إن الله لا يرضى عن المغرورين المفتونين، والعبرة في هذه القصة أن الكافرين بمحمد - صلى الله عليه وسلم - قد اغتروا بأموالهم، فبين القرآن أن أموالهم بجانب مال قارون ليست شيئاً مذكوراً.
٧٧- واجعل نصيباً مما أعطى لك الله من الغنى والخير في سبيل الله والعمل للدار الآخرة، ولا تمنع نفسك نصيبها من التمتع بالحلال في الدنيا، وأحسن إلى عباد الله مثلما أحسن الله إليك بنعمته، ولا تُفسد في الأرض متجاوزاً حدود الله، إن الله سبحانه لا يرضى عن المفسدين لسوء أعمالهم.
٧٨- فلم يستجب قارون لنصح قومه، ونسى فضل الله عليه، وتجاهل أن الله قد أهلك قبله كثيرين كانوا أكثر منه قدرة على كسب المال وخبرة بوجوه استثماره، والمجرمون لا يُسألون عن ذنوبهم لعلمه تعالى بها، فيدخلون النار بغير حساب، وإنما يُسألون سؤال توبيخ.
٧٩- لم يعبأ قارون بنصح قومه، وخرج عليهم في زينته، فاغتر به الذين يحبون متاع الحياة الدنيا، وتمنوا أن يكون لهم مثل ما أُعطى قارون من المال والحظ العظيم في الحياة.
٨٠- أما الذين رزقهم الله العلم النافع فلم يفتنهم ذلك، وتوجهوا بالنصح للمفتونين قائلين لهم : لا تتمنوا هذا ولا تنصرفوا عن الدين، فإن ما عند الله من ثواب ونعيم أزكى لمن آمن به وعمل صالحاً، وتلك نصيحة حقة لا يتقبلها إلا من يجاهدون أنفسهم ويصبرون على الطاعة.
٨١- فخسف الله به الأرض فابتلعته هو وداره بما فيها من أموال وزينة، فلم يكن له أنصار يمنعونه من عذاب الله، ولم يكن يستطيع أن ينتصر لنفسه.
٨٢- وصار الذين تمنوا منذ وقت قريب منزلته من الدنيا يرددون عبارات التحسّر والندم بعد أن فكروا فيما أصابه ! ويقولون : إن الله يوسِّع الرزق على من يشاء من عباده المؤمنين وغير المؤمنين، ويضيِّق على من يشاء منهم، ويقولون شاكرين : لولا أن الله أحسن إلينا بالهداية إلى الإيمان والعصمة من الزلل لامتحننا بإجابة ما تمنيناه، ولفعل بنا مثل ما فعل بقارون. إن الكافرين بنعمة الله لا يفلحون بالنجاة من عذابه.
٨٣- تلك الدار التي سمعت خبرها - أيها الرسول - وبلغك وصفها - وهي الجنة - نخص بها المؤمنين الطائعين الذين لا يطلبون الغلبة والتسلط في الدنيا، ولا ينحرفون إلى الفساد بالمعاصي، والعاقبة الحميدة إنما هي للذين تمتلئ قلوبهم خشية من الله فيعملون ما يرضيه.
٨٤- الذي يأتي بالحسنة - وهي الإيمان والعمل الصالح - له ثواب مضاعف بسببها، والذي يأتي بالسيئة - وهي الكفر والمعصية - فلا يجزى إلا بمثل ما عمل من سوء.
٨٥- إن الله الذي أنزل القرآن، وفرض عليك تبليغه والتمسك به لرادك إلى موعد - لا محالة منه - وهو يوم القيامة ليفصل بينك وبين مكذبيك، قل - أيها الرسول - للكافرين : ربى هو الذي يعلم علماً ليس فوقه علم بمن منحه الهداية والرشاد، وبمن هو واقع في الضلال الذي يدركه كل عاقل سليم الإدراك.
٨٦- وما كنت - أيها الرسول - تأمل وتنتظر أن ينزل عليك القرآن، ولكن الله أنزله عليك من عنده رحمة بك وبأمتك، فاذكر هذه النعمة، وثابر على تبليغها، ولا تكن أنت ولا من اتبعك عوناً للكافرين على ما يريدون.
٨٧- ولا يصرفك الكافرون عن تبليغ آيات الله والعمل بها، بعد أن نزل بها الوحي عليك من الله وأصبحت رسالتك، وثابر على الدعوة إلى دين الله، ولا تكن أنت ولا من اتبعك من أنصار المشركين بإعانتهم على ما يريدون.
٨٨- ولا تعبد من دون الله إلهاً سواه، إذ ليس هناك إله يعبد بحق غيره، كل ما عدا الله هالك وفان، والخالد إنما هو الله الذي له القضاء النافذ في الدنيا والآخرة، وإليه - لا محالة - مصير الخلق أجمعين.
Icon