تفسير سورة القصص

التفسير الشامل
تفسير سورة سورة القصص من كتاب التفسير الشامل .
لمؤلفه أمير عبد العزيز . المتوفي سنة 2005 هـ
بيان إجمالي للسورة
هذه السورة مكية كلها. وقيل : مكية باستثناء آية واحدة فمدنية.
والسورة مثل كثير من السور وغيرها، في الحديث عن أخبار النبيين المرسلين الذين بعثهم الله في أمم شتى، يدعونهم إلى توحيد الله وإفراده بالألوهية والربوبية، وإلى نبذ الأوثان والأنداد الموهومة المفتراة ظلما وسفاهة، وفي طليعة ذلك كله تأتي قصة موسى عليه السلام لتحتل بها مساحة كبيرة من التبيين والتفصيل بدءا بولادة موسى والتقاط آل فرعون له، ثم استبقاؤه حيا ليكون قرة عين لفرعون وامرأته المؤمنة. لكنه كان مقدورا في علم الله المكنون أن يكون هذا المولود من بني إسرائيل سببا في هلاك فرعون وقومه المجرمين والظالمين ؛ وذلك بعد أن خرج إلى مدين هاربا من فرعون وجنوده حتى استقر به المقام لدى شعيب الذي استأجره ثماني حجج أو أكثر لينكحه إحدى ابنتيه. وبعد إتمام المدة التي اتفقا عليها، كرّ موسى راجعا بأهله إلى مصر. وفي طريقهما ألفيا نارا متأججة، فحسب موسى أن يجد عندها من يهديه وزوجه السبيل ؛ إذ ضلا الطريق، فضلا عن أخذ جذوة من النار للاصطلاء، لكنه بوغت بالصوت المذهل يهتف به مدويا ﴿ يا موسى إني أنا الله رب العالمين ﴾ فأمره ربه عقب ذلك أن يبادر الذهاب إلى فرعون ؛ لتبليغه رسالة ربه دون خوف أو تردد. لكن فرعون طغى وعتا واستكبر، فأخذه الله وجنوده في البحر أخذ عزيز مقتدر. إلى غير ذلك من المواعظ والحقائق والأخبار والعبر مما نبينه في حينه تفصيلا بمشيئة الله وتوفيقه.

سبق الحديث عن فواتح السور من الحروف المقطعة.
واسم الإشارة تلك، في محل رفع مبتدأ، وخبره ما بعده. أو خبر لمبتدأ محذوف، و ﴿ آيَاتُ ﴾ بدل من الإشارة. و ﴿ الْمُبِينِ ﴾، الذي يبين الحق من الباطل، والحلال من الحرام، وغير ذلك من وجوه المعاني والحكم والمواعظ والمشاهد وقصص النبيين والمرسلين وأخبار الأمم من الماضين السابقين.
قوله :﴿ نَتْلُوا عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ أوحى الله إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم من خبر كليمه موسى عليه الصلاة والسلام وخبر فرعون وجنوده الطغاة الظالمين ﴿ بِالْحَقِّ ﴾ بالصدق واليقين الذي لا ريب فيه. وخصّ المؤمنين بالذكر ؛ لأنهم موقنون بصدق ما جاء به القرآن من علوم وأخبار ؛ فهم أجدر أن ينتفعوا به تمام الانتفاع. أما غيرهم من الجاحدين المعرضين فإنهم مكذبون مرتابون.
قوله :﴿ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا ﴾ ﴿ أَهْلَهَا ﴾، و ﴿ شِيَعًا ﴾ منصوبان، لأنهما مفعولان للفعل جعل، وهو بمعنى صيّر١ وذلك بيان لحقيقة فرعون، هذا الأثيم الشقي المتجبر، الذي طغى وبغى وتجبّر في أرض مصر، والذي ظلم واستكبر وقهر شعبه قهرا حتى أقروا له بالربوبية ؛ فعبدوه من دون الله. والشيع، جمع شيعة : وهي كل قوم أمرهم واحد، يتبع بعضهم رأي بعض فهم شيع. ٢ والمراد بالشيع هنا ؛ الفرق المتفرقة من الناس ؛ أي جعل فرعون أهل مصر فرقا يخدمونه ويطيعونه فيما يريد، ولا يملك أحد منهم أن يخالفه. وقيل : جعلهم فرقا مختلفة قد أغرى بينهم العداوة ليكونوا أطوع له، ولئلا يتحدوا ويتفقوا عليه.
قوله :﴿ يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ ﴾ المراد بهذه الطائفة بنو إسرائيل، فقد كان فرعون بطغيانه وظلمه يقتل المواليد الذكور من بني إسرائيل ويستبقي إناثهم. وفي سبب ذبح الأبناء وجوه وأقوال ذكرها كثير من أهل العلم. ونحسب أن معظم هذه الوجوه والأقوال لا ترقى إلى القبول وقناعة العقول.
ولعل الأولى بالتصديق ما ذكره، أن الأنبياء الذين كانوا قبل موسى قد بشّروا بمجيئه. وقد سمع فرعون ذلك ؛ فمن أجل هذا أخذ يذبّح أبناء بني إسرائيل دون نسائهم.
قوله :﴿ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ﴾ لقد كان فرعون من الذين يفسدون في الأرض وذلك بما جناه من الفظائع وكبريات الخطايا، كدعوى الألوهية وتقتيل الأبرياء ظلما وعدوانا، وجعل الناس فرقا وأحزابا وطوائف ليثير فيهم العداوات والمباغضات.
١ البان لابن الأنباري جـ ٢ ص ٢٢٩..
٢ مختار الصحاح ص ٣٥٣..
قوله :﴿ وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ ﴾ يريد الله أن يتفضّل على المستضعفين من عباده كبني إسرائيل الذين استضعفهم فرعون فأذلهم وقهرهم أشد القهر.
قوله :﴿ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً ﴾ الضمير في ﴿ وَنَجْعَلَهُمْ ﴾، و ﴿ أَئِمَّةً ﴾، مفعولان للفعل نجعل ؛ لأن جعل بمعنى صيّر١ أي : يريد الله أن يجعل هؤلاء المستضعفين المقهورين ولاة وملوكا وسادة بعد أن كانوا أذلة صاغرين.
قوله :﴿ وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ﴾ أي يرثون مصر بعد مهلك فرعون وجنوده.
١ البان لابن الأنباري جـ ٢ ص ٢٢٩..
قوله :﴿ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ ﴾ أي نوطئ له في أرض مصر فتكون لهم فيها الهيمنة والسلطنة بعد أن يرثوا القبط أموالهم وديارهم.
قوله :﴿ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ ﴾ أي : يريد الله أن يري فرعون ورِدْأه هامان وهو وزيره وشريكه في الظلم والفساد، وجنودهما ﴿ منهم ﴾ أي من بني إسرائيل ما كانوا يخافونه منهم : وهو هلاكه على يد واحد منهم١.
١ تفسير الرازي جـ ٢٤ ص ٢٢٥، ٢٢٦ وتفسير البيضاوي ص ٥١١، وتفسير القرطبي جـ ١٣ ص ٢٤٨-٢٤٩..
قوله :﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ( ٧ ) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ ( ٨ ) وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾.
ذكر أن فرعون كان له ناس وقوابل يدرون على النساء حتى إذا رأوا إحداهن قد حملت أحصوا اسمها، فإذا كانت ولادتها لا يقوم بتوليدها إلا نساء قوابل من نساء القبط فإن ولدت جارية تركنها، وإن ولدت غلاما دخل عليها الذباحون وبأيديهم الشفار فذبحوه مضوا.
وقد ذكر أن فرعون ذبح في طلب موسى سبعين ألفا من مواليد بني إسرائيل الذكور. وقيل : تسعون ألفا. ولما حملت أم موسى به لم تظهر عليها علائم الحمل كغيرها من النساء. فلما وضعته ذكرا ضاقت به ذرعا، وخافت عليه خوفا شديدا وأحبته حبا عظيما، وكان موسى –عليه السلام- لا يراه أحد إلا أحبه حبا شديدا، وما كان يحبه إلا سعيد، فقد قال سبحانه :﴿ وألقيت عليك محبة مني ﴾ ولما ضاقت أم موسى به ذرعا وغشيها من الخوف عليه ما غشيها، ألهمها الله ونفث في روعها أن ترضعه ثم تلقيه في اليم إن خافت عليه من جنود فرعون. وهو قوله :﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾ الوحي من الله إلى أم موسى ليس وحي نبوة ؛ فقد أجمعوا على أن أم موسى لم تكن نبية. بل كان ذلك إلهاما من الله لها ؛ فقد قذف في قلبها أو ألقى في خلدها١ ونفث في روعها٢ ما ذكره في الآية ؛ فقد أمرها الله إلهاما أو نفثا في الروع بأن توضع ولدها موسى وأن تلقيه في بحر النيل إن خشيت عليه من جنود فرعون عقب الولادة، وأمرها أيضا أن لا تخاف عليه من الغرق في الماء أو الضيعة.
١ الخلد، بفتحتين، معناه البال. يقال: ودفع ذلك في خلدي أي في قلبي. انظر مختار الصحاح ص ١٨٤..
٢ الروع: بالضم، يعني القلب والعقل. انظر مختار الصحاح ص ٢٦٣..
قوله :﴿ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ ﴾ اللام في قوله :﴿ ليكون ﴾ لام العاقبة ؛ أي : كان عاقبة التقاطهم العداوة والحزن. أو لام الصيرورة ؛ أي : صار لهم عدوا وحزنا١.
والتقطه : يعني أخذه. والمراد بالالتقاط : إصابة الشيء من غير طلب٢.
فقد أصاب آل فرعون موسى وأخذوه من غير طلب له ولا إرادة. والمراد بآل فرعون. جواري امرأته آسية، فقد وجدن التابوت فأدخلنه إلى آسية فلما فتحته ونظرت فيه إلى وجه موسى أحبته بالغ المحبة لما رأت فيه من جمال السمت وإشراق الطلعة وبهاء الوجه.
لقد قيّض الله تعالى آل فرعون لأخذ موسى ليجعلوه عدوا لهم وحزنا. سنة الله في الظالمين العتاة الذين يظلمون الناس ويسعون في الأرض فسادا ؛ إذ يسفكون الدماء ويزهقون الأرواح البريئة بغير حق. فأولئك يملي لهم الله حتى إذا حانت ساعة العقاب الأليم أخذهم الله أخذ عزيز مقتدر.
قوله :﴿ إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ ﴾ كانوا عصاة آثمين، غلاة في الإجرام والطغيان.
١ البيان لابن الأنباري جـ ٢ ص ٢٢٩..
٢ أساس البلاغة للزمخشري ص ٥٧٠، ومختار الصحاح ص ٦٠٢..
قوله :﴿ وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ ﴾ ﴿ قُرَّتُ ﴾، مرفوع على أنه خبر لمبتدأ محذوف، وتقديره : هو قرة عين. وقيل : مرفوع على أنه مبتدأ، وخبره : لا تقتلوه١ وقرة عين، يقال : لما يرضي ويسر. يقال : فلان في قرة من العيش، أي في رغد وطيب٢، فقد أخذت امرأة فرعون تخاصم عن موسى وتحببه إلى فرعون، ابتغاء كونه قرة عين لهما ؛ إذ يسعدان برؤيته ويسران من النظر إلى وجهه الوضيء المشرق لتحمله بذلك على التغاضي عن قتله، وهو قولها لهم :﴿ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا ﴾ أي نصيب منه خيرا ؛ وذلك لما رأت فيه من سمات البركة وبشائر الخير والنفع لأهله. أو لعلها توسمت في سيماه النجابة والوضاءة وكريم الطبع ﴿ أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا ﴾ فقد كانت امرأة فرعون لا تلد، فاستوهبت منه موسى لتتبناه فوهبه لها.
قوله :﴿ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ أي : لا يدرون أن هلاكهم وتدميرهم، بسببه وعلى يديه٣.
١ البيان جـ ٢ ص ٢٣٠.
٢ أساس البلاغة للزمخشري ص ٥٠١، والمعجم الوسيط جـ ٢ ص ٧٢٥..
٣ تفسير الرازي جـ ٢٤ ص ٢٢٦-٢٢٩ والكشاف جـ ٣ ص ١٦٦ وتفسير القرطبي جـ ١٣ ص ٢٥٢-٢٥٤..
قوله تعالى :﴿ وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ( ١٠ ) وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ( ١١ ) وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ ( ١٢ ) فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ( ١٣ ) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾.
عندما سمعت أم موسى أن ولدها موسى وقع في يد فرعون غشيها من الغم والجزع والدهش ما غشيها. فأصبح بذلك قلبها فارغا، أي خاليا من ذكر كل شيء من أشياء الدنيا إلا من ذكر ولدها موسى.
قوله :﴿ إن كادت لَتبدي به ﴾ ﴿ إن ﴾ المخففة من الثقيلة ؛ أي أنها كادت لتظهر خبره، وذلك من شدة وجدها وحزنها. أو كادت تصيح قائلة : هذا ابني، لفرط ما نابها من الدهش والخوف عليه.
قوله :﴿ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا ﴾ وذلك بإلهامها الصبر فيطمئن قلبها ويهدأ. كما يربط على الشيء المنفلت ليستقر ويثبت ﴿ لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ أي لتكون من الواثقين بنصر الله وتأييده، المصدقين بوعده ؛ إذ قال لها ﴿ إنا رادوه إليك ﴾.
قوله :﴿ وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ ﴾ قالت أم موسى لأخته : ابتغي أثره وانظري أين ذهب وإلى من صار ﴿ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ ﴾ أي أبصرته عن بعد. أو جعلت تنظر إليه وكأنها لا تريده.
قوله :﴿ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ أي لا يدرون بحالها وغرضها، أو أنها أخته.
قوله :﴿ وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ ﴾ ﴿ الْمَرَاضِعَ ﴾ جمع مرضع، وهي المرأة التي ترضع، والمعنى : أننا منعناه من الارتضاع من قبل أن تجيء أخته. أو من قبل أن ترده على أمه. وهذا تحريم منع وليس تحريم شرع، فقد أحدث الله في نفس موسى وفي طبعه نفارا عن لبن سائر النساء، فلذلك لم يرضع من واحدة منهن، وكان ذلك كله بتقدير الله وتدبيره وتصريفه للأمور كما يشاء وفقا لحكمته البالغة وإرادته المطلقة ؛ بل إن ما جرى لموسى من أول سيرته حتى آخرها كان مقدورا ومسطورا في علم الله ؛ سواء في ذلك نجاته من فرعون، وكون فرعون عقيما لا يلد، وكون زوجته مؤمنة، لتحب موسى وتحنو عليه، . ثم نفاره من الرضاع من سائر النساء وإرضاعه بإنفاق ورعاية من فرعون نفسهن ثم قتله القبطي وفراره إلى مدين، ثم رجوعه إلى مصر لتبليغ رسالة الله للناس كل هذه الأحداث كانت متوافقة مترابطة ومقدوره حتى تتم إرادة الله وينفذ حكمه.
قوله :﴿ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ ﴾ أرادت أخت موسى أن تدل آل فرعون على آل بيت يضمنون رضاعه والقيام بما يصلحه تماما ﴿ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ ﴾ أي لا يخونونه ولا يفرّطون فيه، بل يبذلون له كامل النصح والرعاية وإخلاص العمل.
فلما قالت أخت موسى ذلك سألوها أن تدلهم عليه، فذهبت بهم إلى منزل أهلها ومعهم موسى. ولما دخلوا به على أمه فأعطته ثديها التقمه ففرحوا بذلك فرحا كبيرا. فاستدعتها امرأة فرعون ثم سألتها أن تمكث عندها فترضعه، فاعتذرت لها بأن لها بعلا وأولادا فلا تقدر أن تبرحهم لتقيم عندها بجانب فرعون، فقبلت منها أن تعود بموسى إلى بيتها لتمكث فيه وتقوم بإرضاعه ورعايته وإصلاح شأنه، وفي مقابل ذلك أجرت عليها امرأة فرعون النفقة والعطاء وجزيل الإحسان. وبذلك قد أنجز الله وعده له برده إليها وهو قوله :﴿ فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ ﴾
﴿ فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ ﴾ لقد رد الله إليها ولدها لكي تسرّ وتهدأ وتطمئن ولتكفكف عن نفسها الأسى والحزن ﴿ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ﴾ أي : لتتحقق برد موسى إليها أن الله منجز وعده، وهو سبحانه لا يخلف الميعاد.
قوله :﴿ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ أي أن أكثر المشركين لا يعلمون أن وعد الله حق ؛ فهم أولوا طبائع سقيمة وبصائر غلف قد ران عليها الجحود والهوى فلا ينفذ إليها الإيمان ولا اليقين.
قوله :﴿ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا ﴾ ﴿ بَلَغَ أَشُدَّهُ ﴾، أي بلغ الحلم. ﴿ وَاسْتَوَى ﴾، أي اكتمل شبابه وهو بلوغه أربعين سنة. وحينئذ آتاه الله ﴿ حكما ﴾ أي حكمة وفقها في الدين ﴿ وعلما ﴾ أي فهما. وقيل : علما بما في دينه ودين آبائه من شرائع وحدود.
قوله :﴿ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾ أي كما جزينا موسى وأمه على طاعتنا والصبر على قضائنا والاستسلام لأمرنا، كذلك نجزي كل من أحسن فأطاع وصبر والتزم شرع الله١.
١ تفسير الطبري جـ ٢٠ ص ٢٧-٢٨ وتفسير القرطبي جـ ١٣ ص ٢٥٥-٢٥٩.
قوله تعالى :﴿ وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ ( ١٥ ) قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ( ١٦ ) قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ ( ١٧ ) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ ( ١٨ ) فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِن تُرِيدُ إِلَّا أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ ﴾.
دخل موسى مدينة فرعون ﴿ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا ﴾ عند القائلة، نصف النهار. وكان قد دخلها مستخفيا من فرعون وقومه ؛ لأنه كان مخالفا لهم في دينهم وعبادتهم، ومن أجل قتله القبطي بالوكزة التي قضى بها عليه. وهنالك وجد ﴿ رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ ﴾ أي يتضاربان ويتنازعان، وكان أحدهما من شيعة موسى، أي من أهل دينه من بني إسرائيل، والآخر ﴿ مِنْ عَدُوِّهِ ﴾ أي من أعدائه، قوم فرعون وهم القبط.
قوله :﴿ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ ﴾ أي طلب المؤمن الإسرائيلي النصرة والعون من موسى ﴿ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ ﴾ أي من أعدائه القبط ﴿ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ ﴾ ( وكزه )، أي، ضربه بجمع كفه. نقول : فلان لكاز، وكاز١ والمقصود : أن موسى – وقد كان شديد البطش- استشاط غضبا فدفع القبطي في صدره فقتله، وهو ما كان يبتغي قتله بل كان يريد زجره ودفعه عن الإسرائيلي المؤمن.
قوله :﴿ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ﴾ أي هذا الذي عمله وهو قتل القبطي، كان من إغواء الشيطان وإضلاله، لأنه لم يكن ؛ إذ ذاك مأمورا بقتل الكفار.
قوله :﴿ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ ﴾ الشيطان كائن خبيث، وهو ظاهر العداوة للإنسان ؛ يسعى على الدوام جاهدا ناصبا من أجل إضلاله وإفساده.
١ أساس البلاغة ص ٦٨٧..
قوله :﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ ﴾ ندم موسى على ما كان من قتله القبطي فأقرّ لله بذنبه وأنه قد ظلم نفسه بقتله ؛ إذ لم يؤمر بهذه الفعلة، فاستغفر ربه وسأله أن يعفو عنه ويستر عليه ما قد فعل، فغفر الله له ذلك ﴿ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ الله هو الساتر لذنوب التائبين المنيبين، وهو رحيم بعباده المخلصين النادمين على ما أساؤوا.
قوله :﴿ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ ﴾ قال موسى مخاطبا ربه في تذلل وتوسل وخضوع : رب بما جعلت لي من نعمة الإيمان والعلم والحكمة، فلن أكون معينا للكافرين الذين يعصون أمرك.
قوله :﴿ فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ ﴾ خشي موسى على نفسه من جنود فرعون لقتله رجلا من القبط، فدخل المدينة في الصباح على خوف من أهلها أن يقتلوه وهو يترقب ؛ أي يتلفت إلى ما حوله، ويتسمع ما يقوله عنه الناس. إلى غير ذلك مما تقتضيه هذه العبارة القرآنية القصيرة بكلماتها المؤثرة المعدودة. فما يتلو القارئ هذه الكلمات :﴿ فأصبح ﴾، ﴿ خائفا ﴾، ﴿ يترقب ﴾، حتى تأخذه غمرة من الرهبة والارتياع. وفوق ذلك ما يتراءى للذهن من صورة شاخصة ماثلة تساور الخيال وتلمس الحس. صورة مثيرة ومذهلة تكشف عن حقيقة الحال من الخوف والتلفت في حذر وانتظار استعدادا لكل طارئ. نقول هذا لنجزم في يقين أنه ليس كالقرآن في كمال التصوير، وجمال الكلم وروعة الألفاظ المؤثرة النافذة إلى أعماق القلوب والأذهان.
قوله :﴿ إِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ ﴾ أي فإذا صاحبه الإسرائيلي الذي استغاثه بالأمس على القبطي يقاتل قبطيا آخر ويستصرخه ؛ أي يستغيثه، من الصراخ وهو صوت المستغيث، وصوت الغيث إذا صرخ بقومه للإغاثة١
قوله :﴿ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ ﴾ غوي، أي مغو. وقيل : الغوي بمعنى الغاوي. والمراد أنك ظاهر الغواية، كثير الشر، فعزم موسى على البطش بالقبطي، فتوهم الإسرائيلي بما جبل عليه من ذلة وضعف وخور أن موسى إنما يريد قتله وهو قوله :﴿ فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ ﴾
١ أساس البلاغة ص ٣٥٢..
﴿ فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ ﴾ ولما سمع القبطي هذا الكلام ذهب مبادرا لإفشائه، فعلم فرعون بذلك فاشتد غضبه واجتهد في طلبه للانتقام منه.
قوله :﴿ إِن تُرِيدُ إِلَّا أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ ﴾ قال الإسرائيلي لموسى :﴿ إِن تُرِيدُ إِلَّا أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ ﴾ والجبار، الذي يقتل ظلما، أو المتعظم الذي لا يتواضع.
قوله :﴿ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ ﴾ أي ما تريد أن تكون من الذين يصلحون في الأرض. أو ما هكذا يكون الإصلاح١.
١ تفسير الطبري جـ ٢٠ ص ٣١-٣٢، وتفسير ابن كثير جـ ٣ ص ٣٨٣، وأحكام القرآن لابن العربي جـ ٣ ص ١٤٥٣..
قوله تعالى ﴿ وَجَاء رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ ( ٢٠ ) فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ( ٢١ ) وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاء مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السَّبِيلِ ﴾
المراد بالرجل الذي جاء يسعى، مؤمن من آل فرعون ؛ فقد جاء هذا من أقصى مدينة فرعون، أي من آخرها وأبعدها ﴿ يسعى ﴾ أي يمشي مسرعا ليقول لموسى ناصحا ومشفقا ومحذرا ﴿ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ ﴾ ﴿ يَأْتَمِرُونَ ﴾ : من الائتمار وهو التشاور، نقول تآمر القوم وأتمروا مثل تشاوروا واشتوروا١
والمعنى : يتشاورون فيما بينهم بسببك، فقد قال المؤمن لموسى : إن أشراف قوم فرعون ورؤساؤهم يتآمرون بالانتقام منك ويتشاورون في قتلك بالقبطي الذي قتلته بالأمس ﴿ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ ﴾ أي أخرج من هذه المدينة التي يتشاور أهلها لقتلك ؛ فإني لك ناصح مشفق أمين.
١ أساس البلاغة ص ٢١..
قوله :﴿ فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ ﴾ خرج موسى من مدينة فرعون خائفا ﴿ يَتَرَقَّبُ ﴾ أي يترقب التعرض له في الطريق أو اللحاق به لأخذه بالقبطي الذي قتله. والجملة بكلماتها المميزة المصطفاة ذات الإيقاع الأخاذ تثير في أطواء النفس فيضا من الإحساس بالرهبة والفزع. وما يردد القارئ هذه الكلمات القليلة العجيبة باستمرار مكرور لا ينقطع حتى تراود خياله صورة ماثلة عن الحدث وما يحمله من أخطار وأفزاع تروع النفس وتنشر فيها بالغ اليقظة والتوجس من احتمالات الطريق.
قوله :﴿ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ سأل موسى ربه النجاة من هؤلاء الظالمين الذين أرسلوا في طلبه ليقتلوه أو يعذبوه. وهذه ساعة من ساعات الكرب البالغ الذي يشتد فيه الهول والفزع، وتحيط فيها المخاوف بالمؤمنين الداعين إلى دين الله فلا يجدون حينئذ مناص ولا ملاذ يلجئون إليه سوى الله فيدعونه لكشف الضر عنهم وتنجيتهم من ظلم الظالمين وشرورهم ومكائدهم.
قوله :﴿ وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاء مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السَّبِيلِ ﴾ خرج موسى من مصر بنفسه ودينه فرارا من القوم الظالمين، ومتوجها نحو مدين وهو لا يملك من متاع الدنيا شيئا. فليس معه زاد ولا راحلة ولا حذاء ولا درهم ولا رغيف ؛ بل خرج وحيدا فريدا خائفا يتلفت ذات اليمين وذات الشمال، مترقبا ما قد يحصل له من المكاره في الطريق التي لا يعرفها وهو يتضرع إلى الله قائلا ﴿ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السَّبِيلِ ﴾ فقد فوّض أمره إلى الله وتوكل عليه مؤملا أن يدله على السبيل المؤدية إلى مدين. وقد ذكر أن الله بعث إليه ملكا راكبا فرسا وقال له : اتبعني، فاتبعه موسى، فهداه إلى الطريق. وذلك فضل من الله ورحمة يمنّ بهما على عباده المؤمنين المخلصين الصابرين إذا أحاطت بهم الأهوال والخطوب، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وأطبقت عليهم مكائد المجرمين الظالمين ومؤامراتهم ؛ فإن الله لا يخذل عباده المؤمنين الأوفياء، بل ينجيهم ويثبتهم ويكتب لهم السلامة والأمان ويذيقهم من لدنه حلاوة السكينة والرضى وبرد اليقين١.
١ تفسير الطبري جـ ٢٠ ص ٣٤ وتفسير القرطبي جـ ١٣ ص ٢٦٦..
قوله تعالى :﴿ وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ ( ٢٣ ) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ( ٢٤ ) فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ( ٢٥ ) قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ ( ٢٦ ) قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ( ٢٧ ) قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ ﴾.
سار موسى في طريقه فرارا من ظلم فرعون حتى بلغ ماء مدين. وهي بئر يردها رعاء الشاء، فوجد عندها جماعة من الناس يسقون أنعامهم ومواشيهم ﴿ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ ﴾ أي وجد امرأتين تحبسان غنمها وتمنعانها من ورد الماء والاستسقاء فتختلط بغنم الناس لئلا تتأذيا بالمزاحمة. وكأنهما رغبتا في الانتظار ريثما يفرغ الناس من سقي مواشيهم وتخلو لهم البئر. فلما رآهما موسى رقّ لهما وكان من طبعه الغيرة والحماسة وسرعة التأثر والنخوة فسألهما ﴿ مَا خَطْبُكُمَا ﴾ أي ما شأنكما معتزلين لا تسقيان مع الناس، فأجابتاه في خلق رفيع وأدب بالغ جم ﴿ قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ ﴾ ﴿ يُصْدِرَ ﴾ أي يرجع١ و ﴿ الرِّعَاء ﴾، أو الرعاة والرعيان جمع راع. والمعنى : أننا نظل معتزلتين عن مزاحمة الرجال خشية التأذي حتى يفرغ هؤلاء الرعاة من سقي مواشيهم فيتركوا الماء ليقفلوا راجعين وبعد ذلك نسقي غنمنا ﴿ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ ﴾ لا يقوى أبونا على سقي الغنم لكبره وضعفه.
١ أساس البلاغة ص ٣٥٠..
قوله :﴿ فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ﴾ قام موسى يرفع الحجر عن رأس البئر، وكان ضخما ثقيلا لا يرفعه إلا بضعة رجال لكن موسى كان ذا قوة فرفعه وحده ثم انصرف إلى شجرة فاستظل بظلها ثم دعا ربه في توسل وضراعة ﴿ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ﴾ المراد بالخير هنا الطعام أو المال ؛ فقد أصاب موسى جوع شديد ؛ إذ سار من مصر إلى مدين ليس له طعام إلا البقل وورق الشجر وكان حافيا، فما وصل إلى مدين حتى سقطت نعل قدميه، كما قال ابن عباس. ولما أوى إلى ظل الشجرة دعا ربه أن يرزقه الطعام فهو فقير إلى رزقه وعطائه.
قوله :﴿ فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء ﴾ ﴿ تَمْشِي ﴾، جملة فعلية في محل نصب على الحال. و ﴿ عَلَى اسْتِحْيَاء ﴾، في محل نصب على الحال كذلك١ ويستدل من ظاهر هذه العبارة أن البنتين ذهبتا إلى أبيهما فقصتا عليه ما كان من الرجل الذي سقى لهما، فأمر الكبرى من بنتيه، أو الصغرى منهما أن ترجع إليه لتدعوه إلى أبيها، فذهبت إليه تمشي مشي العفاف الفضليات، فقالت له في حياء جم :﴿ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا ﴾ ﴿ ما ﴾، مصدرية ؛ أي أجر سقيك لنا٢ يعني ليكافئك جزاء سقيك. فأجابها موسى وذهب معها لمشاهدة أبيها، ولعله إنما أجابها من أجل التبرك برؤية أبيها الشيخ الكريم. وما ينبغي أن يتصور النهي عن سيره مع أنثى في الطريق ؛ فإنه معصوم عن فعل المحرمات، وهو بعصمته مبرأ من احتمالات الفتنة التي تراود غير المعصومين من الناس.
قوله :﴿ فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ لما جاء موسى أباها وقص عليه خبره وما جرى له من آل فرعون، أجابه الشيخ –وهو شعيب على الراجح- ﴿ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ أي لا تخش من فرعون، فإنه ليس له على مدين سلطان.
١ البيان لابن الأنباري جـ ٢ ص ٢٣١..
٢ البيان لابن الأنباري جـ ٢ ص٢٣١..
قوله :﴿ قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ ﴾ قالت إحدى المرأتين لأبيها حين أتاه موسى ﴿ اسْتَأْجِرْهُ ﴾ لرعي الغنم ﴿ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ ﴾ أما قوته : فإنه قد رفع الصخرة التي على البئر وكان لا يكشفها دون سبعة نفر. وأما أمانته : فإني لما جئت أدعوه طلب مني أن أكون خلف ظهره كيلا يراني فأيقنت أنه أمين.
قوله :﴿ قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ ﴾ قال أبو المرأتين – وهو شعيب في قول أكثر المفسرين- لموسى : إني مزوجك إحدى ابنتي هاتين على أن تكافئي من تزويجها رعي ماشيتي ثماني حجج، جمع حجة، بكسر الحاء وهي السنة١ و ﴿ ثَمَانِيَ ﴾، منصوب على الظرف٢ ويستفاد من هذه الآية جملة أحكام منها : أن الولي يعرض وليته على الزواج، وهذه سنة قائمة. فقد عرض صالح مدين –وهو شعيب في قول أكثر المفسرين- ابنته على موسى وهو صالح بني إسرائيل. وعرض عمر ابنته حفصة على أبي بكر وعثمان ( رضي الله عنهما ). وعرضت الموهوبة نفسها على النبي صلى الله عليه وسلم فنظر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فصعّد النظر فيها وصوّبه ثم طأطأ رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه فقال رجل من أصحابه : يا رسول الله، إن لم تكن لك بها حاجة فزوجنيها. فقال : " هل عندك من شيء ؟ " فقال : لا والله يا رسول الله. فقال : " اذهب إلى أهلك فانظر لعلك تجد شيئا "، فذهب ورجع فقال : لا والله ما وجدت شيئا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " انظر ولو خاتما من حديد " فذهب ثم رجع فقال : لا والله يا رسول الله ولو خاتما من حديد. فجلس الرجل حتى طال مجلسه، ثم قام فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم موليا، فأمر به فدعي، فلما جاء قال : " ما معك من القرآن ؟ " قال : معي سورة كذا وكذا. لسور عددها. قال : " تقرؤهن عن ظهر قلبك ؟ " قال : نعم. قال : " اذهب فقد ملكتكها بما معك من القرآن "، وفي رواية " زوجتكها "، وفي رواية أخرى : " أنكحتكها " وفي رواية : " أمكناكها ".
ويستدل من قوله :﴿ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ ﴾ على أن النكاح موقوف على لفظ التزويج والإنكاح. وهو قول الشافعية، خلافا للمالكية ؛ إذ قالوا : ينعقد النكاح بكل لفظ. وعند الإمام أبي حنيفة، ينعقد بكل لفظ يقتضي التمليك على التأييد٣.
واختلفوا في النكاح بالإجازة، فهو جائز عند الشافعية، واصبغ وسحنون من المالكية. والمشهور عند مالك الكراهة. ومنعه أبو حنيفة وبعض المالكية. وسبب اختلافهم في ذلك : الاختلاف في المسألة الأصولية : هل شرع من قبلنا شرع لنا فمن قال : إنه شرع لنا أجاز كون الإجازة مهرا لقوله تعالى :﴿ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ ﴾ ومن قال : ليس شرعا لنا قال : لا يجوز النكاح بالإجازة٤.
قوله :﴿ إِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ ﴾ يعني إن أتممت من الرعي عشر سنين فذلك تفضل منك وليس إلزاما لك ؛ فقد جعل الزيادة على الثمانية إلى العشرة موكولا إلى مروءته، أي إن تبرعت بزيادة سنتين ترعى فيهما غنمي فذلك إليك ﴿ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ ﴾ أي ما أبتغي لك المشقة بإلزامك إتمام عشر حجج ﴿ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ أي ستجدني إن شاء الله من أهل الوفاء والصلاح في حسن المعاملة ولين الجانب.
١ مختار الصحاح ص ١٢٣، وأساس البلاغة ص ١١٣..
٢ البيان لابن الأنباري جـ ٢ ص٢٣١..
٣ أحكام القرآن لابن العربي جـ ٣ ص ١٤٥٥، وتفسير القرطبي جـ ١٣ ص ٢٧١، وبداية المجتهد جـ ٢ ص ٥..
٤ بداية المجتهد جـ ٢ ص ١٩، وأحكام القرآن لابن العربي جـ ٣ ص ١٤٥٩..
قوله :﴿ قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ ﴾ ﴿ ذَلِكَ ﴾ في محل رفع مبتدأ. وخبره ﴿ بَيْنِي وَبَيْنَكَ ﴾ والإشارة عائدة إلى ما عاهده عليه شعيب ؛ أي ذلك الذي قلته وعاهدتني فيه وشارطتني عليه قائم بيننا لا نخرج كلانا عنه. أو هذا الذي قلته من التزامك تزويجي إحدى ابنتيك على أن آجرك ثماني حجج واجب بيني وبينك وكلانا ملوم بالوفاء لصاحبه.
قوله :﴿ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فلا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى ﴾ أيّ، منصوب بالفعل ﴿ قَضَيْتُ ﴾ وما، زائدة. والأجلين مجرور بالإضافة وتقديره : أيَّ الأجلين قضيت. وقضيت في موضع جزم، جملة شرط بأيما. والفاء وما بعدها في موضع جزم جواب الشرط١.
والمعنى : أن موسى قال لصاحبه شعيب : أي الأجلين من الثماني حجج والعشر ﴿ قَضَيْتُ ﴾ أي أتممت وأوفيت في رعي الغنم ﴿ فلا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَيّ ﴾ العدوان معناه الظلم الصراح. ومنه التعدي، وهو التجاوز، أو مجاوزة الشيء إلى غيره٢. والمعنى : أن لا تعتدي علي فتطالبني بأكثر مما قضيت.
قوله :﴿ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ ﴾ الوكيل بمعنى الشاهد والحفيظ ؛ وذلك إشهاد بالله على ما اتفقا عليه٣.
١ البيان لابن الأنباري جـ ٢ ص ٢٣١..
٢ مختار الصحاح ص ٤١٩، وأساس البلاغة ص ٤١١..
٣ فتح القدير جـ ٣ ص ١٦٩، وتفسير الرازي جـ ٢٤ ص ٢٣٤، وتفسير البضاوي ص ٥١٤..
قوله تعالى :﴿ فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ ( ٢٩ ) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي مِن شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ المراد بالأجل : خير الأجلين اللذين ذكرهما شعيب لموسى عليهما الصلاة السلام، ويدل على ذلك : ما أخرجه عن ابن عباس : أنه سئل أي الأجلين قضى موسى عليه السلام ؟
قال : قضى أكثرهما وأطيبهما، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال فعل.
ولما أتم موسى ذلك الأجل سافر بزوجته نحو مصر. وسواء ذهب لزيارة الأهل وأولي القربى أو غير ذلك من الحاجات والمقاصد ؛ فإن موسى قد سيق على مصر بمشيئته وتقديره لتنجيز ما كان مسطورا في علم الله من المعجزات والأحداث الهائلة. وفي طريقه ﴿ آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَارًا ﴾ أي أبصر نارا من الجهة التي تلي الطور، وعندئذ ﴿ قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا ﴾ أي أقيموا مكانكم ﴿ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ ﴾ أي أجد عند النار من يخبرني عن السبيل ؛ لأنه ضل الطريق. وقيل : كان معه زوجه وولدان، وقيل : ولد واحد ﴿ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ ﴾ الجذوة، العود الغليظ، سواء كان في رأسه نار أو لم يكن، وقيل : للجذوة عود من حطب فيه النار ﴿ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ ﴾ أي تستدفئون ؛ وذلك لما أصابهم من برد الطريق.
قوله :﴿ فلمَّا أَتَاهَا نُودِي مِن شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ ﴾ لما أتى موسى النار التي أبصرها نودي من الجانب الذي عن يمينه ؛ أي عن يمين موسى لدى مسيره، وقيل : الأيمن، من اليمين وهو البركة، ضد الأشأم.
والشاطئ صفة الوادي والنهر، أي حافته، وكذلك الشط والساحل بمعنى١. لقد جاء النداء من جانب الوادي مما يلي الجبل عن يمين موسى ﴿ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ ﴾ أي في القطعة من الأرض التي خصت بالبركة، لما جعل الله فيا من الآيات.
قوله :﴿ مِنَ الشَّجَرَةِ ﴾ ﴿ الشَّجَرَةِ ﴾، بدل اشتمال من شاطئ. فالشاطئ كان مشتملا على الشجرة ؛ لأنها كانت نابتة فيه.
قوله :﴿ أَن يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ ﴿ أن ﴾، مخففة من الثقيلة. والأصل بأنه يا موسى. وقيل :﴿ أن ﴾ تفسيرية ؛ فقد ناداه الله النداء الكريم المبارك المجلجل ﴿ إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ أي اعلم أني مالك كل شيء، وبيدي مقاليد السماوات والأرض وما فيهن وما بينهن. لقد سمع موسى ذلك من الله مباشرة من غير توسيط ملك أو غيره. فصار بذلك كليما ؛ إذ كلمه ربه تكليما، تكريما له وتعظيما ؛ ولا حاجة بعد ذلك إلى التكلف في تأويل المراد بالكلام أو النداء الذي سمعه موسى. وما ينبغي في مثل ذلك إلا الركون إلا ظاهر العبارة القرآنية وكفى٢.
١ الدر المصون جـ ٨ ص ٦٦٩..
٢ روح المعاني جـ ١٠ ص ٧٣، ٧٤ وتفسير النسفي جـ ٣ ص ٢٣٤.
قوله تعالى :﴿ وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ ( ٣١ ) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ﴾.
هاتان معجزتان أخريان أوتيهما موسى عليه السلام تصديقا له وشهادة بصدق نبوته وما جاء به من رسالة وبلاغ للناس. وهو قوله :﴿ وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ ﴾ معطوف على قوله :﴿ أَن يَا مُوسَى ﴾ أمره ربه أن يلقي عصاه فألقاها ﴿ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ ﴾ الفاء فصيحة ؛ أي مفصحة عن جمل حذفت تعويلا على دلالة الحال عليها ؛ أي فألقاها فصارت حية فاهتزت ﴿ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ ﴾ أي تتحرك وتضطرب ﴿ كَأَنَّهَا جَانٌّ ﴾ شبّهها بالجان لسرعة حركتها وخفتها ؛ فقد كانت حية عظيمة الخلقة، مخُوفة الشكل والهيئة. فلما رآها موسى على هذه الحالة من الترويع والإفراغ ﴿ وَلَّى مُدْبِرًا ﴾ أي ولى هاربا مذعورا ﴿ وَلَمْ يُعَقِّبْ ﴾ أي لم يرجع ولم يلتفت لفرط ما أصابه من الذعر والفزع. وحينئذ تولته عناية الله بالكلاءة وإشاعة الأمن في قلبه ؛ إذ ناداه ربه ﴿ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ ﴾ أي ارجع إلينا ولا تخيفنك الحية ؛ فأنت لدينا من الآمنين، ولن يمسك من هذه الحية مكروه.
قوله :﴿ اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ﴾ ﴿ اسْلُكْ ﴾، يعني أدخل، وجيب القميص، أي طوقه١ والمعنى : ادخل يدك في جيب قميصك تخرج ساطعة مشعة تتلألأ كأنها قطعة من القمر، من غير مرض كبرص ونحوه.
قوله :﴿ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ ﴾ المراد بالجناح، اليد ؛ فإن اليدين بمنزلة جناحي الطائر. و ﴿ الرَّهْبِ ﴾ معناه الخوف والفزع ؛ فقد أمر الله نبيه موسى أن يضم عضده وذراعه، وهو الجناح، إلى صدره ليهون بذلك فزعه من الحية أو غيرها. وذلك هو شأن المسلم إذا أصابه خوف أو فزع أن يضع يده على صدره ليسكن ويهدأ ويخف ذعره. وعن ابن عباس قال : كل خائف إذا وضع يده على صدره زال خوفه.
قوله :﴿ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ ﴾ ( ذلك )، إشارة إلى العصا واليد، وهما مثنى ذاك. فهما ﴿ بُرْهَانَانِ ﴾ أي حجتان ظاهرتان نيرتان من الله إلى فرعون وقومه الظالمين المشركين. وإحدى الحجتين : انقلاب العصا حية مفزعة مخوفة، وصيرورة اليد مشعة تتلألأ.
قوله :﴿ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ﴾ أي عصاة مستكبرين خارجين عن طاعة الله، مخالفين لأمره٢.
قوله تعالى :﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ ( ٣٣ ) وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ ( ٣٤ ) قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ ﴾.
أمر الله نبيه موسى عليه السلام أن يذهب إلى فرعون فيدعوه أن يعبد الله خالقه وخالق كل شيء، وأن يكف عن طغيانه وتجبره وظلمه، وأن يرعوي عما انحدر إليه من بالغ الكفران باصطناعه لنفسه الألوهية الموهومة، لكن موسى كان يعلم حقيقة فرعون من حيث غلظته وعناده وقسوة قلبه وأنه جحود وغشوم ومستكبر. وقد خشي موسى على نفسه من فرعون أن يَفرُط عليه فيقتله. وهو قوله :﴿ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ ﴾ خشي موسى أن يقتله فرعون وجنوده الظالمين في مقابلة القبطي الذي قتل موسى من قبل.
قوله :﴿ وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا ﴾ ﴿ أَفْصَحُ ﴾، من الفصاحة. وهي لغة : تعني الخلوص. ومنه فصح اللبن فهو يفصح وفصح، أي خلص من الرغوة. وأما في اصطلاح أهل البيان : فهو خلوص الكلمة من تنافر الحروف وخلوص الكلام من ضعف التأليف ومن التعقيد. و ﴿ لِسَانًا ﴾ : تمييز منصوب١ ؛ فقد سأل موسى ربه أن يرسل معه أخاه هارون، لكونه أفصح منه لسانا ؛ إذ كان في لسانه لثغة بسبب ما كان من الجمرة التي وضعها موسى في فمه فكان لا يحسن الكلام، أما أخوه هارون كان أوضح نطقا وأفصح لسانا.
قوله :﴿ فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ ﴾ ﴿ رِدْءًا ﴾، منصوب على الحال. والردء معناه العون ؛ ردأته على عدوه : أي أعنته عليه. ردأت الحائط : أي دعمته بخشبة كيلا يسقط٢.
لقد سأل موسى ربه أن يرسل معه أخاه هارون معينا ومعززا يتقوّى به على إبلاغ القوى دعوة الله، فيؤيده ويصدقه فيما يقوله لهم. وكان موسى يخشى أن يكذبه فرعون وقومه ؛ لضعف نطقه الذي لا يطاوعه عند الحاجة.
١ الدر المصون جـ ٨ ص ٦٧٤..
٢ الدر المصون جـ ٨ ص ٦٧٦..
قوله :﴿ قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ ﴾ استجاب الله لموسى سؤله فحقق له ما طلب، إذ أرسل معه أخاه هارون. والمعنى : سنقويك بأخيك وشد العضد، كناية عن تقويته ؛ لأن اليد تزداد اشتدادا وقوة بشدة العضد وهو ما بين المرفق إلى الكتف.
قوله :﴿ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا ﴾ أي نجعل لكما تسلطا وغلبة ومهابة في قلوب أعدائكم ﴿ فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا ﴾ يعني لا سبيل لهم على الوصول إليكما بإيذاء أو إساءة بسبب آيات الله. أو تمتنعون من أعدائكم بآياتنا، فتكون لكم العاقبة وحسن المصير في الدنيا والآخرة ﴿ أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ ﴾ وهذا إخبار من الله بأن المؤمنين صائرون إلى الفوز والغلبة، وأن الظالمين مهزومون خاسرون لا محالة١.
١ روح المعاني جـ ١٠ ص ٧٨ وتفسير ابن كثير جـ ٣ ص ٣٨٩..
قوله تعالى :﴿ فَلَمَّا جَاءهُم مُّوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ ( ٣٦ ) وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَن جَاء بِالْهُدَى مِنْ عِندِهِ وَمَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ﴾.
جاء موسى فرعون وقومه الظالمين بما خوله ربه من المعجزات الظاهرة ؛ كانقلاب العصا واليد، شهادة له بصدق نبوته وأنه مرسل من عند الله. لكن الظالمين قابلوه بالتكذيب والعناد غير عابئين بحجة أو برهان وقالوا له :﴿ مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّفْتَرًى ﴾ أي ما هذا الذي جئتنا به إلا سحر تصنعه أنت وتفتريه على الله. والافتراء معناه الاختلاق، وقيل : التمويه. وعلى هذا فالسحر ضرب من ضروب التمويه لا حقيقة له.
قوله :﴿ وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ ﴾ أي ما سمعنا بمثل هذا الدين أو بمثل هذه النبوة من قبل. وقيل : ما سمعنا من قبل بمثل هذا السحر الذي جاء به موسى.
قوله :﴿ وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَن جَاء بِالْهُدَى مِنْ عِندِهِ ﴾ يريد موسى بالاسم الموصول نفسه ؛ أي الله أعلم منكم بالذي خوله الهدى والحق وجعله نبيا ورسولا إليكم، وهو أعلم أيضا بالذي تكون له العاقبة المحمودة في الدار، وهي دار الدنيا. وعقبى الدار أو عاقبتها : إن يختم فيها للعبد بالرحمة والرضوان وما يفضي به إلى الفوز بالجنة١.
١ روح المعاني جـ ١٠ ص ٧٩، وتفسير النسفي جـ ٣ ص ٢٣٦..
قوله تعالى :﴿ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ ( ٣٨ ) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ ( ٣٩ ) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ( ٤٠ ) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنصَرُونَ ( ٤١ ) وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُم مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ ﴾.
هذه مقالة سوء تندلق من فم هذا المتجبر العُتُّل، فرعون، وهو يصرخ في قومه المأفونين المضللين المستخَفين أنه ليس ثم إله ! !
لقد أسرف هذا الشقي المقبوح إسرافا أفضى به إلى الانحدار في الأذلين ليكون أسفل سافلين، وليكون يوم القيامة على رأس المجرمين والمنبوذين من شياطين الإنس بعد أن تفيض عليه أفواه المؤمنين في مختلف العصور والأجيال باللعائن وسوء الذكر. وكذلك الذين هم على شاكلة فرعون من طواغيت البشرية على مرّ الزمن. الذين يحكمون بغير ما أنزل الله ويدوسون الناس بالظلم والقهر والإذلال.
ولئن نفى فرعون وجود الله وأنكره صراحة مجاهرا بذلك على الملأ ؛ فإن بقية الطغاة وأكابر المجرمين من الساسة والحكام العتاة المتجبرين لا يجترئون على إنكار الله علانية وبمثل ذلكما الصلف والحماقة اللذين تلبس بهما فرعون. ولكنهم يتلبسون بظواهر شتى من أشكال الكفر والجحود والاستكبار/ وهم يسوسون الأمم والشعوب بشرائع الضلال والباطل وينبذون شرائع الله ومنهجه أشد نبذ ؛ بل ينظرون إلى منهج الله ودينه بمنظار التهكم والاستهتار والسخرية ويعلنون عليه الحرب الضروس بمختلف الأسباب والأساليب من التشويه والتشكيك واختلاق الأكاذيب والافتراءات والشبهات التي تسيء إلى دين الله وتثير في أذهان الناس –ومنهم الدارسون والمثقفون خاصة- النفور والاشمئزاز، فضلا عن مخططات الكيد والخيانة والتآمر على الإسلام والمسلمين ؛ لإضعافهم وإذلالهم والتنكيل بهم أو إبادتهم أو تقتيل الدعاة إلى الله على هوى وبصيرة منهم، أولئك جميعا وفرعون صنوان في المنبت والهوى ؛ فهم منبتهم الضلال والتكذيب والعماية وانغلاق القلوب والبصائر، وهواهم الشهوات والملذات ومتاع الحياة الدنيا. أولئك جميعا جزاؤهم في الآخرة جهنم وبئس المصير، وجزاؤهم في الدنيا أن تتفزز منهم الأجيال وتتعوذ من سوء صنيعهم وما فعلوه في البشرية وقيمها ومقوماتها من تدمير وتخريب وإفساد.
قوله :﴿ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي ﴾ فقد نفى فرعون علمه بإله غيره، ولم ينف وجود إله، إذ لم يجزم فرعون بالعدم كليا. فيكون المعنى : أن إلها غيري غير معلوم عندي. وذلك ظاهر اللفظ في الآية. وقيل : قصد بنفي علمه بإله غيره نفي وجوده. أما ما لكم من إله غيري.
قوله :﴿ فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ ﴾ أمر فرعون وزيره هامان بالإيقاد على الطين ليطبخ له الآجر.
قوله :﴿ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى ﴾ أي ابن لي بالآجرُ قصرا شامخا منيفا ؛ لعلي أصعد إلى السماء فأجد إله موسى. وذلك منه استكبار ومعاندة وإفراط في الجحود والضلالة والاغترار، وهو كذلك إيهان لنفسه وخداع لقومه الذين استخفهم ؛ إذ كانوا جميعا يتصورون إله موسى جسما موجودا في السماء. وذلك ظن الواهمين المضللين السخفاء.
قوله :﴿ وَإِنِّي لأظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ ﴾ يجزم فرعون في مكابرة وعناد أن موسى كاذب في دعواه أن له إلها وأنه أرسله للناس رسولا وهاديا ومبلغا.
قوله :﴿ وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ﴾ أعرض فرعون وقومه مدبرين عن الحق ومستكبرين ؛ فهم لفرط جحودهم وغرورهم وفساد عقولهم وقلوبهم قد لجوا معاندين في أرض مصر، وقد أخذهم جميعا الإعزاز بالإثم والاستكبار والإعراض عن دعوة الله. وذلك كله ﴿ بِغَيْرِ الْحَقِّ ﴾ أي بالباطل. وإنما الاستكبار بالحق لله وحده دون أحد سواه، وما يستكبر أحد سوى الله إلا الظالمون المبطلون.
قوله :﴿ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ ﴾ ظن هؤلاء المجرمون الطغاة –واهمين مضللين- أنهم لا يُردون إلى الله يوم القيامة فهم مكذبون بالبعث والمعاد.
قوله :﴿ فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ ﴾ أهلك الله فرعون وملأه من الكبراء والرؤساء المجرمين ؛ إذ طرحهم جميعا في البحر فأغرقهم إغراقا ليكونوا من المنبوذين المحقّرين الهلكى.
قوله :﴿ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ﴾ أي انظر يا محمد كيف تكون عاقبة الكافرين والعصاة المفرطين، من الهلاك والهوان والتحقير. وحذر قومك ؛ ليعتبروا ويتعظوا كيلا يحيق بهم ما حاق بالمجرمين السابقين.
قوله :﴿ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ﴾ جعل الله هؤلاء المجرمين قادة لمن يقتدى بهم من الضالين والواهمين والمخدوعين، فهم بذلك قدوة في الضلال والشر يفتتن الناس بمكرهم وكيدهم وخداعهم ؛ ليسيروا من ورائهم في طريق الضلال والباطل ؛ فهم بذلك ﴿ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ﴾ وذلك بتزيينهم للناس فعل المنكرات والمعاصي، وإبعادهم إياهم عن طريق الهداية والصواب. لا جرم أن هؤلاء غاوون مضلون، وأنهم أئمة يقودون البشرية إلى الكفر بكل صوره وأشكاله، وإلى الشر والمعاصي بكل ضروبها وأنواعها ؛ ليكون مصيرهم إلى الكبكبة في النار وبئس القرار، ويومئذ يحيط بهم العذاب فلا يجدون لهم من ينصرهم أو يزحزحهم عن النار وهو قوله :﴿ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنصَرُونَ ﴾.
قوله :﴿ وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً ﴾ أي ألزمناهم إبعادا من الخير وطردا من رحمة الله وفضله، أو لعنا من اللاعنين ؛ إذ يلعنهم المؤمنون والملائكة طوال الدهر. فما تتذكرهم البشرية المؤمنة في كل آن إلا بادرتهم باللعن والتقبيح والتحقير.
قوله :﴿ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُم مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ ﴾ أي من المطرودين المبعدين من الرحمة، أو من المشوهين في الخلقة بسواد الوجوه مما يمسهم من النار١
١ روح المعاني جـ ١٠ ص ٨٣ وتفسير البيضاوي ص ٥١٦-٥١٧..
قوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾ المراد بالكتاب التوراة ؛ فقد أنزلها الله على نبيه وكليمه موسى عليه الصلاة والسلام. فكانت التوراة أول كتاب فُصّلت فيه الأحكام من بعد إهلاك الأمم السابقة وهم أقوام نوح وهود وصالح ولوط عليهم الصلاة والسلام. ولقد أنزل الله التوراة ﴿ بَصَائِرَ لِلنَّاسِ ﴾ ﴿ بَصَائِرَ ﴾، مفعول لأجله. أو حال١ و ﴿ بصائر ﴾ جمع بصيرة، وهي نور القلب الذي يُبصَر به الهدى والحق، كما أن البصر نور العين الذي يُبصَرُ به الأجسام.
والمعنى : أن الله أتى نبيه موسى التوراة لتكون أنوارا للقلوب ؛ إذ كانت عُميا لا تبصر ولا تميز بين حق وباطل. بل كانت تائهة في ظلمة الباطل، سادرة في الغي والضلال. وكذلك أنزلها الله عليه ﴿ هدى ورحمة ﴾ فهي تهدي الناس إلى الصواب وتسلكهم سبيل الهداية والرشاد.
وهي كذلك رحمة لمن التزمها واستمسك بها وعمل بأحكامها ؛ فإنه يحظى بالرحمة من الله، والفوز بالسعادة في الدارين ﴿ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾ أي لكي يتعظوا ويعتبروا.
١ الدر المصون ج ٨ ص ٦٨٠.
قوله تعالى :﴿ وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ ( ٤٤ ) وَلَكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ( ٤٥ ) وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ( ٤٦ ) وَلَوْلا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَولا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾.
ذلك برهان من الله يشهد بنبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبصدق رسالته ؛ إذ أخبر قومه بالأحداث الماضية مما هو مستور في بطن الغيب. لقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بغيوب سلفت قبل زمانه بدهر طويل، مع أنه صلى الله عليه وسلم كان أميا لا يعرف القراءة ولا الكتابة، وقد بُعث في أمة لا تقرأ ولا تكتب وهو عليه الصلاة والسلام لم يعلمه إنس ولا جان، ولم يتلق أيما درس في التاريخ وأخبار السابقين الأولين، بل تلقى ذلك كله من ربه. لقد تلقى منه الخبر الصادق اليقين الذي أذهل العقول ونبّه إلى حقيقة هذا الرجل الصدوق، على أنه مرسل من ربه، وأنه لا ينطق عن الهوى. وذلك كإخباره في القرآن الحكيم عن أخبار السابقين والغابرين، كقوم نوح وعاد وثمود ولوط وقوم شعيب، وقصة موسى مع الطاغية فرعون، ومولد عيسى المسيح من أمه مريم البتول وغير ذلك من أخبار النبيين والمرسلين. وهي أخبار دقيقة ومستفيضة ومفصلة جاءت على أكمل ما يكون عليه القَصَص من الصدق والبيان. وفي ذلكم دليل قاطع على نبوة رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم.
وهنا يبين الله في خطابه لرسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، أنك لم تشهد قصة موسى وهو يكلمه ربه عند الطور بل أخبرك ربك بذلك وحيا، حتى تبينه للناس وهو قوله :﴿ وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأمْرَ وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ ﴾ أي ما كنت يا محمد حاضرا بجانب الجبل الغربي أو المكان الغربي الذي وقع فيه الميقات لموسى ؛ إذ أعطاه الله فيه ألواح التوراة ﴿ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأمْرَ ﴾ أي علمناه وعهدنا إليه واحكمنا أمر نبوته بالوحي وإنزال التوراة عليه ﴿ وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ ﴾ أي لم تكن ؛ إذ ذاك من الحاضرين نزول الوحي إليه حتى تعاين بالمشاهدة ما جرى من أمر موسى في ميقاته فتخبر به الناس. ولكن الله عز وعلا قد أوحى إليك ليكون لك حجة وبرهانا تواجه بهما الناس.
قوله :﴿ وَلَكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ ﴾ أي خلقنا بين زمانك وزمان موسى أمما كثيرة طال عليها العهد فنسوا آيات الله ودلائله، وعميت عليهم الأخبار بعد أن اندرست الأنباء الصحيحة فعم فيها الخلط والتخريص وشاعت فيهم الأكاذيب والأساطير، فاقتضت حكمة الله ومشيئته أن تؤتى البشرية المنهج الجديد، يكون فيه الخبر الصادق اليقين، ويعيد البشرية إلى المحجة البيضاء، ويحمل لها قواعد الخير والحق والعدل.
قوله :﴿ وَمَا كُنتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ﴾ ﴿ ثَاوِيًا ﴾، مقيما. والمثوى، معناه المنزل وجمعه المثاوي. ثوي المكان يثوي به ثواء ؛ أي أطال الإقامة فيه١ والمعنى : ما كنت يا محمد مقيما في ﴿ أَهْلِ مَدْيَنَ ﴾ وهم قوم شعيب عليه السلام، والمؤمنون معه تقرأ عليهم آياتنا حين أخبرت عن نبيها شعيب وما قصه على قومه وما كان من ردهم عليه ﴿ وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ﴾ لكنا نحن أرسلناك وقصصنا عليك من أخبارهم وحيا.
١ القاموس المحيط ١٦٣٧.
قوله :﴿ وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا ﴾ أي لم تكن يا محمد بجانب الطور وقت ندائنا موسى ﴿ إني أنا الله رب العالمين ﴾ أو وقت إنزال التوراة عليه وإرساله للناس رسولا.
قوله :﴿ وَلَكِن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ ﴾ ﴿ رحمة ﴾، منصوب على المصدر، أي ولكن رحمناك رحمة. وقيل : منصوب على أنه خبر كان مقدرة. وتقديره : ولكن كان رحمة من ربك. وقيل : منصوب على أنه مفعول لأجله. وتقديره : ولكن فعل ذلك لأجل الرحمة١ والمعنى : ولكن أرسلناك يا محمد بالقرآن وفيه إخبار لقومك عن أنباء النبيين السابقين وقصص الأمم الغابرة، رحمة من الله بك وبالعباد، إذ تنذرهم بالقرآن وتعلمهم ما لم يكونوا يعلمون من قبل أن تأتيهم ؛ إذ لم يأتهم قبلك من نذير وذلك في زمان الفترة بينك وبين المسيح وهي خمسمائة وخمسون سنة.
قوله :﴿ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾ أي يعتبرون ويتعظون بإنذارك لهم وبما تتلوه عليهم من الآيات البينات.
١ البيان لابن الأنباري ج ٢ ص ٢٣٤..
قوله :﴿ وَلَوْلا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَولا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ ﴿ لولا ﴾، الأولى امتناعية. أي امتناع لوجود. و ﴿ أن ﴾ وما بعدها في موضع رفع بالابتداء ؛ أي ﴿ ولولا ﴾ إصابتهم المصيبة. فيقولوا : معطوف على ﴿ تُصِيبَهُم ﴾ ولولا الثانية، تحضيض ﴿ فَنَتَّبِعَ ﴾ : جواب التحضيض ومنصوب بإضمار أن. والفاء في جواب الأمر١ والمعنى : لولا قولهم إذا أصابتهم عقوبة بسبب كفرهم ومعاصيهم، ربنا هلا أرسلت إلينا رسولا يبلغنا آياتك فنتبعها ونكون من المصدقين لما أرسلناك إليهم. وإنما أرسلناك إليهم قطعا لمعاذيرهم وإلزاما للحجة عليهم٢.
١ الدر المصون ج ٧٨ ص ٦٨٢..
٢ روح المعاني ج ١٠ ص ٩٠ وتفسير البيضاوي ص ٥١٧..
قوله تعالى :﴿ فَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِن قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ ( ٤٨ ) قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ( ٤٩ ) فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ( ٥٠ ) وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾.
يخبر الله عن ظلم المشركين وشدة عنادهم وجحودهم عقب نزول القرآن هدية لهم وإخراجا لهم من الظلمات إلى النور، فلجوا في التعنت والخصام والتكذيب وقالوا :﴿ لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى ﴾ أي هلا أوتي محمد من الآيات مثل ما أوتي موسى، وهم يعنون بذلك : المعجزات التي آتيها موسى عليه السلام كالعصا، واليد، والطوفان، وتظليل الغمام، وإنزال المن والسلوى، وغير ذلك من الدلائل الظاهرة التي جعلها الله لنبيه وكليمه موسى ؛ ليُحاج بها فرعون وملأه من الظالمين. فرد الله عليهم مشعرا بأن ما قالوه ليس إلا التعنت المجرد والخصومة الفاجرة ﴿ أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى ﴾ يعني : أو لم يكفر أبناء جنسهم في الملة والمذهب، وهم الذين كفروا من قبلهم في زمن موسى، فكان مذهبهم كمذهبهم في التكذيب والعناد. فهؤلاء وأولئك جميعا بعضهم من بعض في الكفر وفي الإعراض عن دين الله. فقد قال الذين من قبلهم ﴿ سِحْرَانِ تَظَاهَرَا ﴾ يعنون موسى وهارون أو التوراة والقرآن ﴿ تظاهرا ﴾ أي تعاونا بتصديق كل واحد منهما الآخر وتأييده. وقد ذكر أن أهل مكة بعثوا رهطا منهم إلى رؤساء اليهود فسألوهم عن شأن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم فقالوا : إنا نجده في التوراة بنعته وصفته. فلما رجع الرهط وأخبروا قريشا بقول اليهود، قالوا ذلك، وهو أن ما أوتيه محمد وما أوتيه موسى قد تعاونا في توافقهما ليصدق كل منهما الآخر ﴿ إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ ﴾ أي كفرنا بالاثنين أو بكل واحد من الكتابين.
قوله :﴿ قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ ﴾ أمر الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بتحدي المشركين المعاندين أن يأتوا بخير من التوراة المنزلة على موسى ومن القرآن المنزل عليه ﴿ أَتَّبِعْهُ ﴾ جواب الأمر، ﴿ فأتوا ﴾ وهذا دليل ظاهر على عجز القوم أمام هذا التحدي القائم، وأنهم لا يملكون أيما برهان أو حجة إلا العناد والشطط والاستكبار.
قوله :﴿ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ أي فيما تزعمون أن التوراة والقرآن سحران.
قوله :﴿ فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ ﴾ أي إن لم يقم المشركون بفعل ما كلفتهم به من الإتيان بكتاب أهدى من التوراة والقرآن، أو إذا لم يستجيبوا دعاءك إياهم إلى الإيمان بالدين الحق بعد الذي رأوه من المعجزات والدلائل الواضحات ؛ فاعلم حينئذ أنهم لا يتبعون غير أهوائهم الضالة الزائغة التي تُسوّل لهم الباطل والشر وتنفرهم من الحق والهدى.
قوله :﴿ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ ﴾ الاستفهام للإنكار بمعنى النفي، أي ليس أحد أضل ممن اتبع هواه الزائغ عن طريق الله، والمجانب لهداه ومنهجه المستقيم.
قوله :﴿ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ لم يكن الله ليهدي الذين ظلموا أنفسهم باتباعهم الشهوات وسلوكهم مسالك الضلال والباطل، والذين أعرضوا عن دين الله عنادا واستكبارا فأبوا إلا اتباع الشياطين على اختلاف مسمياتهم.
قوله :﴿ وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾ ﴿ وصلنا ﴾ من التوصيل وهو تكثير الوصل وتكريره. والمعنى : أن القرآن أتاهم متواصلا، يتبع بعضه بعضا في الإنزال حسبما تقتضيه الحكمة. أو أتاهم متتابعا وعدا ووعيدا وقَصَصا وعبرا ومواعظ ونصائح لمي يتعظوا ويتدبروا١.
١ روح المعاني ج ١٠ ص ٩٣-٩٤، وتفسير النسفي ج ٣ ص ٢٣٩-٢٤٠..
قوله تعالى :﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ ( ٥٢ ) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ ( ٥٣ ) أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ( ٥٤ ) وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ ﴾.
نزلت هذه الآية في قوم من بني إسرائيل آمنوا برسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، منهم : عبد الله بن سلام. وكذلك أسلم آخرون من علماء النصارى ؛ فقد قيل : قدم أربعون رجلا منهم مع جعفر بن أبي طالب إلى المدينة مسلمين. وقيل : نزلت في سبعين من القسيسين بعثهم النجاشي ؛ فلما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم قرأ عليهم ﴿ يس ( ١ ) والقرآن الحكيم ﴾ حتى ختمها فجعلوا يبكون وأسلموا ونزلت فيهم هذه الآية. وكذلك نزلت فيهم هذه الآية الأخرى ﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ ﴾ أي أن فريقا من الذين أوتوا الكتاب وهو التوراة أو الإنجيل ﴿ مِن قَبْلِهِ ﴾ أي من قبل القرآن، قد آمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالقرآن الذي أنزله الله عليه.
قوله :﴿ وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَا ﴾ إذ تلي القرآن عليهم لانت له قلوبهم فاستجابوا وبادروا الإيمان به والتصديق برسول الله صلى الله عليه وسلم معلنين أن القرآن هو الحق المنزل من عند الله.
قوله :﴿ إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ ﴾ أي كنا من قبل نزول هذا القرآن، أو من قبل البعثة المحمدية مصدقين بأن الله سيبعث محمدا صلى الله عليه وسلم، لما كنا نعلمه من ذكره في التوراة والإنجيل، من التبشير به وبعثه آخر الزمان لهداية الناس واستنقاذهم من الضلال والباطل.
قوله :﴿ أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا ﴾ أي هؤلاء الذين آمنوا بالكتاب الأول وهو التوراة والإنجيل ثم بالكتاب الثاني وهو القرآن، يجزيهم الله من الأجر مرتين ﴿ بِمَا صَبَرُوا ﴾ أي بسبب صبرهم على الإيمان بالكتاب الأول والثاني، وما يجدونه في إيمانهم من أذى الظالمين وعنتهم.
قوله :﴿ وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ ﴾ أي يدفعون بالصبر وبالكلمة الطيبة وطول الاحتمال، كل ما يجدونه في طريقهم من أذى الجاهلين وسفاهاتهم. وفي هذا المعنى يقول الرسول صلى الله عليه وسلم لمعاذ :" وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن " ومن الخلق الحسن : دفع المكروه والأذى بالصبر والحلم والأناة والصفح عن المسيئين.
قوله :﴿ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ﴾ أثنى الله عليهم بأنهم ينفقون من أموالهم في طاعة الله، كالجهاد في سبيله أو الصدقة على المعوزين والمحاويج، أو في صلة الأرحام.
قوله :﴿ وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ ﴾ هؤلاء القوم الذين آمنوا بالكتاب ثم آمنوا بالقرآن من بعده، إذا سمعوا اللغو، وهو الباطل من القول أو ما يقوله لهم المشركون من الأذى والشتم، أعرضوا عنه ولم ينشغلوا به ﴿ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ ﴾ أي لنا أعمالنا قد رضينا بها، ولكم أعمالكم أنتم بها راضون، وذلك من باب الملاينة والقول الحسن.
قوله :﴿ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ ﴾ وذلك في قوم من أهل الكتاب.
وقيل : من المشركين، أسلموا فكان المشركون يؤذونهم فكانوا يصفحون عنهم ويقولون :﴿ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ ﴾ أي لكم منا أمنة فإنا لا نُسابّكم ولا نشاتمكم ولا نبتغي محاورة أهل الجهل. وذلك هو خلق المؤمنين الصابرين في كل زمان : " إذا خاطبهم أهل السفه والجهالة والفسق ترفعوا عن مسابتهم أو الرد عليهم بالمثل. بل قالوا لهم :﴿ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ ﴾ " ١.
١ ١-تفسير الطبري ج ٢٠ ص ٥٨-٥٩، وتفسير الرازي ج ٢٥ ص ٣..
قوله تعالى :﴿ إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴾ : هذه الآية نزلت في أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم. وذلك أن أبا طالب قال عند موته : يا معشر بني عبد مناف ؛ أطيعوا محمدا وصدقوه تفلحوا وترشدوا. فقال عليه السلام : " يا عم ؛ تأمرهم بالنصح لأنفسهم وتدعها لنفسك ! ". قال : " فما تريد يا ابن أخي ؟ " قال : " أريد منك كلمة واحدة ؛ فإنك في آخر يوم من أيام الدنيا : أن تقول لا إله إلا الله ؛ أشهد لك بها عند الله تعالى ". قال : يا ابن أخي ؛ قد علمت أنك صادق ؛ ولكني أكره أن يقال : جزع عند الموت. ولولا أن يكون عليك وعلى بني أبيك غضاضة ومسبة بعدي لقلتها، ولأقررت بها عينك عند الفراق ؛ لما رأى من شدة وجدك ونصحك. ولكني سوف أموت على ملة الأشياخ : عبد المطلب، وهاشم، وعبد مناف.
وفي رواية أنه لما مات ولم يؤمن اشتد ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا : ما تنفع قرابة أبي طالب منك. فقال : " بلى ؛ والذي نفسي بيده إنه الساعة لفي ضحضاح من النار ؛ عليه نعلان من نار تغلي منهما أم رأسه. وما من أهل النار من إنسان هو أهون عذابا منه ". والمراد بالآية : أنك يا محمد لا تستطيع أن تهدي من أحببت هدايته ؛ ولكن الله يهدي من يشاء أن يهديه من خلقه بتوفيقه للإيمان. ﴿ وهو أعلم بالمهتدين ﴾ أي الله أعلم بمن سبق له في علمه أنه مهتد للحق والصواب١
١ تفسير الطبري ج ٢٠ ص ٥٨-٥٩، وتفسير الرازي ج ٢٥ ص ٣..
قوله تعالى :﴿ وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِن لَّدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ( ٥٧ ) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ ﴾.
نزلت هذه الآية في الحارث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف القرشي، قال للنبي صلى الله عليه وسلم :" إنا لنعلم أن قولك حق ولكن يمنعنا أن نتبع الهدى معك ونؤمن بك مخافة أن يتخطفنا العرب من أرضنا ".
والتخطف معناه الانتزاع بسرعة. والمعنى : إن نتبع ما جئتنا به من الحق ونتبرأ من الأنداد والشركاء يتخطفنا العرب من أرضنا، مكة ؛ لأنهم مجتمعون على خلافنا وحربنا، فرد الله زعمهم وما احتجوا به، إذ قال :﴿ أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا ﴾ أي ألم نعطكم مسكنا لا خوف عليكم فيه. وذلك أن العرب كانوا يحترمون الحرم بالغ الاحترام فما كانوا يعرضون لسكانه البتة. وقد كانوا بغير بعضهم على بعض، ويقتل بعضهم بعضا، وأهل مكة آمنون، إذ كانوا بحرمة الحرم فلا يمسهم أحد. بسوء أو أذى، فهم بذلك آمنون يذهبون حيث شاءوا فلا يتعرض لهم أحد.
قوله :﴿ يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ يجبى من الجباية وهي الجمع١ أي يجمع إلى الحرم ثمرات كل بلد. والمراد بالكلية هنا الكثرة.
قوله :﴿ رِزْقًا مِن لَّدُنَّا ﴾ رزقا، منصوب على المصدر. لأن معنى تجبى، ترزق. وقيل : مفعول لأجله لفعل محذوف. أي نسوقه إليهم رزقا من لدنا. وقيل : منصوب على الحال، أي رازقين. والمعنى : رزقناهم رزقا من عندنا ﴿ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ﴾ أي قليل منهم يقرون بأن ذلك رزق من عند الله، وأكثرهم جهلة لا يعلمون ولا يفطنون له. ولو علموا أنه من عند الله ؛ لعلموا أن الخوف والأمن من عنده، ولما خافوا التخطف إذ آمنوا بالله وخلعوا أنداده، وهو قول الزمخشري.
١ أساس البلاغة ص ٨٢..
قوله :﴿ وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا ﴾ أي كم من قرية أهلكناها أبطرتها معيشتها فأشرت١ وطغت وجحدت ما أنعم الله لهم من سوء عاقبة قوم كانوا في مثل حالهم من إنعام الله عليهم بالرقود في ظلال الأمن والنعمة وطيب العيش لكنهم غمطوا النعمة وقابلوها بالبطر، والجحود فدمر الله عليهم وأهلكهم.
قوله :﴿ فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلا ﴾ أي تلك بيوت القوم الذين أهلكناهم بكفرهم وذنوبهم، لم تُسكن من بعدهم إلا قليلا. فقد خربت من بعدهم ولم يُعمر منها إلا أقلها وأكثرها خراب، وعلى هذا فالاستثناء يرجع إلى المساكن ؛ أي بعض مساكن الهالكين يسكن وأكثرها خراب.
وقيل : الاستثناء يرجع إلى السكان، فالمعنى : فتلك مساكنهم لم يسكنها إلا المسافرون أو مارّ الطريق يوما أو ساعة. أي لم تسكن من بعدهم إلا سكونا قليلا. وهو قول ابن عباس.
قوله :﴿ وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ ﴾ أي لم يكن لمساكنهم وبيوتهم التي أتى عليها الخراب والدمار وارث، بل عادت وليس لها من مالك سوى الله الذي له ميراث كل شيء٢.
١ أشرت: من الأشر، وهو البطر. انظر: أساس البلاغة ص ٢..
٢ الكشاف ج ٣ ص ١٨٦، وتفسير ابن كثير ج ٣ ص ٣٩٥، وتفسير الطبري ج ٢٠ ص ٦١..
قوله تعالى :﴿ وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ ( ٥٩ ) وَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلا تَعْقِلُونَ ( ٦٠ ) أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لاقِيهِ كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ﴾.
ذلك إخبار من الله لعباده عن عدله المطلق في العقاب، فإنه سبحانه منزه عن الظلم وهو لا يظلم من عباده أحدا إلا عقب قيام الحجة عليه. ولذلك قال هنا :﴿ وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً ﴾ أي ما كان ربك يا محمد مهلك أهل القرى التي حول مكة حتى يبعث في أعظمها رسولا يبلغ الناس الحق وينذرهم شديد بأسه وعقابه. والمراد بأمها أو أعظمها : مكة ؛ فهي أعظم القرى من حولها أو أصلها وقصبتها. فقد بعث الله في مكة رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم ﴿ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا ﴾ بعثه الله بقرآنه الحكيم هداية للناس واستنقاذا للبشرية من وهدة الباطل والشر.
قوله :﴿ وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ ﴾ وذلك إعلان من الله للبشرية عن كامل عدله الذي لا يبلغه عدل. وهو أنه لا يأخذ أهل القرى من الكافرين بهلاك حتى يلزمهم الحجة بإرسال رسوله إليهم ؛ فهو لا يهلكهم إلا إذا استحقوا الإهلاك بظلمهم وعصيانهم، أي لا يهلكهم بكونهم ظالمين إلا بعد أن تتأكد الحجة والإلزام ببعث المرسلين فإن أبوا وأعرضوا فقد استحقوا العقاب.
قوله :﴿ وَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا ﴾ أي ما أُعطيتموه أيها الناس من شيء من الأموال والأولاد والجاهات والمنازل في هذه الحياة إنما هو متاع. والمتاع، معناه المنفعة أو ما تمتعت به١فما خولكم الله من نعم على اختلاف صورها وأجناسها إنما هي متاع الدنيا الذي تتمتعون به وهو من زينتها التي تتزينون بها، وذلك كله لا محالة زائل ؛ إذ لا بقاء له ولا ديمومة وإنما هو عارض دائر، مثله كالسحاب أو الغمام ما يلبث أن ينقشع ويتبدد. أما الباقي المستديم فما أعده الله للمؤمنين في الآخرة من خير وجزاء لا يفنى ولا يزول وهو قوله :﴿ وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلا تَعْقِلُونَ ﴾ أي ما عند الله من الجزاء أحسن وأدوم، والمراد به الجنة في الدار الآخرة. لا جرم أن الجنة بخيراتها ولذائذها وطيباتها أنفع وأطيب وأشهى. وفوق ذلك فإنها باقية مستديمة لا تتحول ولا تتبدل ولا يأتي عليها الفناء أو البِلى، لكن الطيبات واللذات في الحياة الدنيا هينة ومحدودة ومستصغرة فضلا عن قصرها وصيرورتها إلى النهاية المحققة والفناء المحتوم.
قوله :﴿ أفلا تعقلون ﴾ أليست لكم عقول تميزون بها بين الحق والباطل، أو بين الحقير الفاني والعظيم الباقي ؟.
١ مختار الصحاح ص ٦١٤، وأساس البلاغة ص ٥٨١.
قوله :﴿ أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لاقِيهِ كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ الاستفهام للإنكار، أي فمن وعدناه خير وعد وأحسنه وهو الجنة، فهو مدركه لا محالة ؛ لامتناع الخلف في وعد الله، كمن متعناه في حياته الدنيا فأعطي منها بعض ما أراد ﴿ ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ﴾ أي من المعذبين في النار. وشتان بين مؤمن صابر مطيع لله فهو صائر إلى الجنة، وبين ظالم لنفسه فصائر إلى النار بما قدمت يداه في الدنيا من شرك وذنوب١
١ تفسير الطبري ج ٢٠ ص ٦٠-٦٢، وتفسير القرطبي ج ١٣ ص ٣٠٢..
قوله تعالى :﴿ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ ( ٦٢ ) قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلاء الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ ( ٦٣ ) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ ( ٦٤ ) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ ( ٦٥ ) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنبَاء يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَسَاءلُونَ ( ٦٦ ) فَأَمَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَن يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ ﴾ ذلك كائن يوم القيامة ؛ إذ ينادي الله المشركين الذين اتخذوا من دونه أندادا ليعبدوهم ﴿ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ ﴾ أي الذين أشركتموهم في العبادة واتخذتموهم من دوني أولياء ومعبودين في زعمكم
﴿ قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ ﴾ أي المشركون الذين وجب عليهم غضب الله وعذابه، وهم الرؤساء والكبراء الذين كانوا يفتنون الناس عن دينهم، وكانوا يزينون لهم فعل المعاصي. وقيل : المراد بهم الشياطين الذين كانوا يغوون الناس، فإن هؤلاء المجرمين الفاسقين يقولون وهم موقوفون على ربهم يوم القيامة ﴿ رَبَّنَا هَؤُلاء الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا ﴾ هؤلاء، في موضع رفع بالابتداء والذين أغوينا، في موضع رفع خبر لمبتدأ آخر. وتقديره : هؤلاء هم الذين أغوينا١ والمعنى : أن هؤلاء الأتباع الذين دعوناهم إلى الغواية والضلال، أضللناهم كما كنا ضالين.
قوله :﴿ تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ ﴾ أي تبرأ بعضهم من بعض، وصار بعضهم لبعض عدو. فالشياطين ورؤساء الضلال والغواية قد تبرئوا ممن أطاعهم من الأتباع، والرعاع والمضللين والمستخفين، وقالوا :﴿ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ ﴾ ﴿ ما ﴾ : فيها وجهان : أحدهما : أن تكون نافية. وثانيهما : أن تكون مصدرية، والتقدير : تبرأنا إليك من عبادتهم إيانا. والأول أوجه٢. والمعنى : أنهم ما كانوا يعبدوننا، بل كانوا يعبدون أهواءهم.
١ البيان لابن الأنباري ج ٢ ص ٢٣٥..
٢ البيان لابن الأنباري ج ٢ ص ٢٣٥..
قوله :﴿ وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ ﴾ أي يقال للمشركين الضالين والأتباع من المنافقين والمقلدين والخائرين. استعينوا بآلهتكم الذين كنتم تعبدونهم من الأنداد والشركاء ؛ لتعينكم وتدفع عنكم العذاب والهوان، فاستغاثوا بهم فلم يستجيبوا لندائهم واستغاثتهم ولم ينتفعوا بهم ﴿ وَرَأَوُا الْعَذَابَ ﴾ أي وعاينوا العذاب ﴿ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ ﴾ أي فودوا حين رأوا العذاب لو أنهم كانوا في الدنيا مهتدين.
قوله :﴿ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ ﴾ يوم ينادي الله المشركين الضالين فيقول لهم : ماذا أجبتم رسلنا فيما أرسلناهم به إليكم ؛ إذ دعوكم إلى إفرادنا بالألوهية والعبادة والتبرؤ من الأصنام والأنداد ؟.
قوله :﴿ فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنبَاء يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَسَاءلُونَ ﴾ المراد بالأنباء هنا الحجج. أي خفيت عليهم الحجج فقد أعذر الله إليهم في الدنيا بما جاءهم من البينات ؛ فليس لهم يوم القيامة أيما عذر أو برهان إلا التعتعة في الجواب والعجز عن الكلام.
قوله :﴿ فَهُمْ لا يَتَسَاءلُونَ ﴾ أي لا يسأل بعضهم بعضا، ولا يدرون ما يجيبون به لفرط الدهش ومن هول ما يرون ويعاينون في هذا اليوم الرهيب. وقيل : لا يتساءلون بالأنساب والقرابة.
قوله :﴿ فَأَمَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَن يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ ﴾ من تاب من المشركين وأناب إلى ربه، وخلع نفسه من الشرك والضلال، وأخلص لله الألوهية والعبادة وآمن برسوله صلى الله عليه وسلم وعمل الصالحات ﴿ فَعَسَى أَن يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ ﴾ أي من الفائزين بالجنة، الناجين من العذاب١.
١ تفسير البضاوي ص ٥٢٠، وتفسير الطبري ج ٢٠ ص ٦٢-٦٣..
قوله :﴿ وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ( ٦٨ ) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ ( ٦٩ ) وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾.
ذلك جواب لما قاله الوليد بن المغيرة ﴿ لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ﴾ يريد نفسه، ثم عروة بن مسعود الثقفي من الطائف. والمعنى : أن الله يخلق ما يشاء من خلقه، ويختار من يشاء لنبوته، فالله المالك المطلق، وله أن يخص من شاء بما شاء دون اعتراض عليه البتة.
قوله :﴿ ما كان لهم الخيرة ﴾ ﴿ ما ﴾ : نافية، و ﴿ الخيرة ﴾ : اسم من الاختيار قام مقام المصدر. و ﴿ الخيرة ﴾ أيضا اسم للمختار. يقال : محمد خيرة الله في خلقه. والمعنى : أن الله يخلق من يشاء من خلقه ويختار منهم من يريد فليس لهم الخيرة ؛ إذ ليس لهم أن يختاروا على الله أن يفعل ما يبتغون.
قوله :﴿ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ أي تنزه الله عن النقائص والعيوب، وتعالى علوا كبيرا عما أضافه إليه المشركون من الأنداد والشركاء، وما تخرصوه عليه من الكذب والباطل.
قوله :﴿ وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ ﴾ الله عليم بالسر والعلن. فما تخفيه القلوب والنوايا، أو تظهره الألسن والجوارح ؛ فإن الله به عليم لا يخفى عليه من ذلك شيء.
قوله :﴿ وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ ﴾ الله المتفرد بالإلهية والوحدانية، وهو وحده المعبود دون غيره من المخاليق.
قوله :﴿ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالآخِرَةِ ﴾ الله الذي يستحق الحمد والثناء في الدنيا بما خوّل عباده من نعمة الحياة وما فيها من صنوف العطاء والنعم. وهو سبحانه يستحق الحمد والثناء في الآخرة بما أسبغه على عباده المؤمنين من رحمته وإحسانه وغفرانه، وبما أنزله بالظالمين من عقاب، جزاء ظلمهم وتفريطهم وما فعلوه في حياتهم من الآثام والشرور.
قوله :﴿ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ لا حكم إلا لله، فهو يقضي بين عباده وهم جميعا صائرون إليه لا محالة١.
١ تفسير الرازي ج ٢٥ ص ١٠-١١ـ وتفسير البيضاوي ص ٥٢٠..
قوله تعالى :﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاء أَفَلا تَسْمَعُونَ ( ٧١ ) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ ( ٧٢ ) وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ يبين الله امتنانه على عباده ؛ إذ سخر لهم الليل والنهار، وهما نعمتان متعاقبتان لا قوام للخلائق من دونهما. والمعنى : قل لهؤلاء المشركين الضالين : أرأيتم لو جعل الله عليكم الليل سرمدا، أي دائما١ لا يتحول ولا يزول يوم القيامة، فمن من أحد غير الله الواحد المعبود يستطيع أن يأتيكم بنهار تستضيئون به وتقضون فيه حوائجكم من مختلف ضروب المعايش ؟.
قوله :﴿ أَفَلا تَسْمَعُونَ ﴾ أي سماع تدبر وتفكر واستبصار فتتعظوا وتوقنوا أن الله هو الحق، وأنه الخالق القادر وحده دون سواه.
١ مختار الصحاح ص ٢٩٦..
قوله :﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ ﴾ وكذلك لهؤلاء المشركين المعرضين : أرأيتم لو جعل الله عليكم النهار سرمدا، أي دائما، لا يتحول ولا يتبدل إلى يوم القيامة فمن من أحد غير الله يأتيكم بليل ترقدون فيه وتهجعون وتستريحون من نصب الدنيا ومتاعبها ؟.
قوله :﴿ أَفَلا تُبْصِرُونَ ﴾ أفلا ترون بأبصاركم ما في تعاقب الليل والنهار من النعم عليكم والرحمة بكم، لتستيقنوا أن الله وحده الخالق المدبر المنان، الجدير وحده بالعبادة والإفراد بالوحدانية.
قوله :﴿ وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ ﴾ أي من رحمة الله بالعباد أنه خلق لهم الليل والنهار متعاقبين، يكمل أحدهما الآخر ؛ إذ جعلهما مختلفين في الصورة والمعنى. فجعل لهم النهار ضياء ؛ لتحصيل أسباب الحياة والرزق والمعاش. وجعل لهم الليل ليهدءوا فيه ويهجعوا، وليجدوا خلاله الراحة والدعة والسكون، فترتاح فيه أبدانهم من نصب الحياة وما فيها من عناء وكدح.
قوله :﴿ ولعلكم تشكرون ﴾ أي لتشكروا الله على ما من به عليكم من أصناف النعم ؛ فتفردوه بالعبادة دون غيره من الأصنام والأنداد.
قوله تعالى :﴿ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ ( ٧٤ ) وَنَزَعْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ ﴾ أي واذكر يا محمد يوم ينادي الله المشركين الظالمين ويقول لهم على سبيل التوبيخ والتقريع : أين ما كنتم تزعمون من الأنداد والشركاء الذين عبدتموهم في حياتكم الدنيا.
قوله :﴿ وَنَزَعْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ﴾ أي وأحضرنا يوم القيامة من كل جماعة نبيها ليشهد عليها بما عملته في الدنيا ﴿ فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ ﴾ يقول الله يوم القيامة لكل أمة مشركة ضالة أعرضت عن رسالة نبيها : هاتوا حجتكم على كفركم وإشراككم بالله.
قوله :﴿ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ ﴾ أيقن الظالمون الخاسرون يوم القيامة صدق ما جاءهم به النبيون المرسلون، وأن الحجة البالغة لله عليهم، وأنهم محجوجون خاسرون هلكى.
قوله :﴿ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ ﴾ أي ذهب عنهم وزال ما كانوا يتخرّصونه من الكذب على الله، وما كانوا يفترونه من الآلهة الموهومة المصطنعة ؛ فأيقنوا أن الله وحده لهو الحق، وأن ما دونه من الأرباب المفتراة محض باطل١.
١ تفسير الطبري ج ٢٠ ص ٦٦، وتفسير القرطبي ج ١٣ ص ٣٠٨..
قوله تعالى :﴿ إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ( ٧٦ ) وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِين ﴾.
﴿ قارون ﴾ كان ابن عم موسى. وقيل : كان عم موسى بن عمران. والراجح أنه ابن عمه وهو قول أكثر أهل العلم. وقد كان يقرأ التوراة، وكان حسن الصوت فيها لكنه نافق السامري فأهلكه الطغيان والبطر والاغترار بمتاع الحياة الدنيا ﴿ فبغى عليهم ﴾ من البغي ؛ وهو التعدي وكل مجاوزة وإفراط على المقدار الذي هو حد الشيء فهو بغي. وأهل البغي، يعني أهل الفساد١.
والمعنى : أن قارون بطغيانه وفساده قد بغى على قوم موسى ؛ أي جاوز الحد في الكبر والتجبر والتفاخر بكثرة ماله.
قوله :﴿ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ ﴾ ﴿ مآ ﴾ : اسم موصول بمعنى الذي في موضع نصب بالفعل، آتيناه٢. وتنوء، تنهض. تنوء بالحمل، تنهض به مثقلا. وناء به الحمل، أي أثقله٣ ومفاتح : جمع مفتح ؛ وهو ما يفتح به الباب فالمراد به المفاتيح.
والمعنى : وآتينا قارون من كنوز الأموال ما إن مفاتيح صناديقه أو خزائنه ﴿ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ ﴾ أي يثقلهم حمل المفاتح، أو تميله المفاتح بثقلها. أو ينهضون بها متثاقلين. والعصبة : الجماعة من الناس.
قوله :﴿ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ﴾ قال له قومه ناصحين مذكرين : لا تبطر ولا تهلك الدنيا بزينتها عن الآخرة، فإن الله لا يحب الأشرين البطرين. أو لا يحب المتبذخين السادرين في اللهو، والذين لا يشكرون الله على ما آتاهم من فضله.
١ مختار الصحاح ص ٥٩، وأساس البلاغة ص ٤٦..
٢ البيان لابن الأنباري ج ٢ ص ٢٣٦..
٣ مختار الصحاح ص ٦٨٣، وأساس البلاغة ص ٦٥٦..
قوله :﴿ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ ﴾ أي التمس بما أعطاك الله من خير ومال كثير الدار الآخرة وهي الجنة. وذلك هو خلق المسلم التقي الفطن، إن كان ذا مال أو جاه أو قوة ؛ فإنه يسخر كل ما أوتيه من عطاء وفضل في طاعة الله، وفي تحصيل مرضاته ليظفر بالجنة وينجو من النار.
قوله :﴿ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ﴾ أي لا تترك أن تطلب حظك في الدنيا من الرزق. أو لا تترك ما أحل الله لك منها فإن فيه لك غنى وكفاية. والمراد به : طلب الحلال، وعدم تضييع الحظ من الدنيا في التمتع بالحلال منها. وفي ذلك من الرفق بالإنسان لتحصيل ما يشتهيه بالمعروف والاعتدال ما لا يخفى. وفي جملة ذلك قال ابن عمر : " احرث لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا ".
قوله :﴿ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ﴾ أي أحسن في الدنيا بالشكر لله وجميل الطاعة لجلاله العظيم كما تفضل عليك بجزيل النعم.
قوله :﴿ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ﴾ أي لا تطلب ما حرمه الله عليك من المعاصي والبغي والعدوان وكل وجوه الفساد ﴿ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِين ﴾ الله لا يحب أهل البغي والتجبر والكبر، الذين يشيعون في الأرض المعاصي والفتن ويسعون في الأرض فسادا١.
١ فتح القدير ج ٣ ص ١٨٦، وأحكام القرآن لابن العربي ج ٣ ص ١٤٧١، والكشاف ج ٣ ص ١٩٢..
قوله تعالى :﴿ قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِ الْمُجْرِمُونَ ﴾ ذلك إخبار من الله عن مقالة قارون لقومه حين نصحوه ووعظوه كيلا يكون من البطرين، وأن يلتمس الدار الآخرة بنا أوتيه من المال والخير فقال لهم :﴿ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي ﴾ أي أوتيت هذا المال على استحقاق لما عندي من العلم الذي فضلت به على الناس، إذ كان أعلم بني إسرائيل بالتوراة ؛ أي أوتيته على علم بالتوراة ؛ فقد روي أنه كان من أعلم الناس بالتوراة ومن أقرئهم لها، وكان أحد العلماء السبعين الذين اختارهم موسى للميقات. وقيل : أوتيت هذا المال لعلم الله بأني أستحقه ولمحبته لي، ولأن الله يعلم أنني أهل لهذا المال.
قوله :﴿ أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا ﴾ وذلك رد من الله لاحتجاج قارون، إذ يزعم فيه أنه أوتي هذا المال بفضل علمه، ولأنه يستحقه، فبين الله سبحانه أنه أهلك من قبله من الأمم من هو أشد منه بطشا وأكثر أموالا، ولو أن المال يدل على فضل صاحبه وأنه مرضيّ عند ربه لما أهلك الله السابقين من أولي الأموال.
قوله :﴿ وَلا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِ الْمُجْرِمُونَ ﴾ المراد بالسؤال هنا : ما كان للتقريع والتبكيت وليس للاستعتاب ؛ أي لا يُسأل المجرمون سؤال استعتاب، كما قال سبحانه :﴿ ولا هم يستعتبون ﴾ فهم يعذبونه بغتة دون معاتبة، ولا يُسألون سؤال استفهام فإن الله مطلع على قلوبهم وأعمالهم١.
١ تفسير الرازي ج ٢٥ ص ١٦-١٧، وتفسير القرطبي ج ١٣ ص ٣١٦، وتفسير البيضاوي ص ٥٢٢..
قوله تعالى :﴿ فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ( ٧٩ ) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ ﴾.
خرج هذا المغرور يوما على قومه من بني إسرائيل في زينته من متاع الحياة الدنيا وزخرفها، وهو متجمل بالحلي وفاخر الديباج والمعصفرات من أصناف الملابس، ومن حوله الخدم والحشم ومختلف صور الزينة مما يثير في الضعفاء والخائرين حب الدنيا ولذائد الحياة. حينئذ ﴿ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ ﴾ هكذا يتمنى الفارغون من وازع العقيدة الرادع، الجانحون للحياة الدنيا وزينتها وزخرفها، والذين تستهويهم الطيبات واللذات في هذه الحياة فيركنون إليها في الغالب وهم يهوون أن يأخذوا منها بحظ كبير، خلافا لأهل العقيدة الراسخة المكينة وأهل العزيمة والتقوى من المؤمنين، فإنهم لا تستخفهم الأهواء ولا الشهوات ولا خيرات الدنيا وما حوته من مباهج وملذات. وإنما يميل المؤمنون الصادقون لإعلاء كلمة الله ورفع شأن الإسلام، ويسعون على الدوام لإعزاز دين الله ونشره وإشاعته في الآفاق حبا في هذا الدين الكريم العظيم وطمعا في رضوان الله أولا وأخيرا.
لقد تمنى أولوا الشهوات من بني إسرائيل-سواء فيهم المؤمنون أو الذين كفروا- لو أنهم أوتوا مثل ما أوتي قارون من الأموال وقالوا :﴿ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴾ وصفوه بأنه رجل حفيظ أو محظوظ ؛ أي لذو نصيب وافر من زينة الحياة الدنيا وزخرفها.
قوله :﴿ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ﴾ قال لهم أهل الدين والصلاح من علماء بني إسرائيل ﴿ ويلكم ﴾ أصل ويل : الدعاء بالهلاك. ثم استعمل في الزجر والردع والبعث على ترك ما لا يُرتضى ؛ وهو قول الزمخشري.
قوله :﴿ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ﴾ ثواب الله، وهو الجنة وما أعده الله فيها من صنوف الطيبات والنعم، فذلك خير للذين يعملون الصالحات من المؤمنين.
قوله :﴿ وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ ﴾ أي لا يلقى الجنة وما فيها من خيرات حسان ونعيم مقيم إلا الصابرون، القائمون على منهج الله فلا يتحولون ولا يتغيرون، والذين يحبسون أنفسهم عن المعاصي والمنكرات والفتن١.
١ تفسير الطبري ج ٢٠ ص ٧٢-٧٣، والكشاف ج ٣ ص ١٩٢، وتفسير ابن كثير ج ٣ ص ٤٠٠..
قوله تعالى :﴿ فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ ( ٨١ ) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ﴾ ﴿ فَخَسَفْنَا ﴾، من الخسف وهو الذهاب في الأرض. وخسف الله به الأرض : أي غاب به فيها : وخسفت الأرض وانخسفت : أي ساخت بما فيها ١ والفاء للعليّة. والمعنى : أن الله خسف الأرض بقارون وبداره، أي غيّبه الله وغيّب داره في الأرض، جزاء بطره وعتوه واستكباره ؛ فقد طغى قارون وبغى واغترّ اغترارا كبيرا، وصال تيها وخيلاء لفرط غروره وافتتانه بالدنيا وزينتها.
وهذا جزاء المتكبرين العتاة الذين يسرفون في البغي والعتو والباطل، لا جرم أن الله لهؤلاء بالمرصاد ؛ فهو يملي لهم حتى إذا حان أجل الانتقام أخذهم أخذ عزيز مقتدر.
قوله :﴿ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ ﴾ ليس له حين خسف الله به الأرض من معين ولا مجير غير الله، من يبذل له العون أو يدرأ عنه ما حاق به من الهلاك ﴿ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ ﴾ أي ليست له منَعة يمتنع بها من نقمة الله.
١ مختار الصحاح ص ١٧٥، وأساس البلاغة ص ١٦٢..
قوله :﴿ وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ ﴾ ﴿ وَيْكَأَنَّ ﴾ : وي منفصلة من كأن، وهي اسم سمي به الفعل وهو أعجب. وهي كلمة يقولها المتندم إذا أظهر ندامته١. وعلى هذا فإن وي، كلمة تندم أو تعجّب. وهي مفصولة عن كأن وهي تستعمل عند التنبه للخطأ وإظهار التندم. قال سيبويه : سألت الخليل عن هذا الحرف فقال : إن وي مفصولة من كأن، وأن القوم تنبهوا وقالوا متندمين على ما سلف منهم : وي. والمعنى : أن القوم الذين تمنوا ما كان لقارون من عظيم الشأن في الزينة والمتاع لما شاهدوا ما نزل بقارون من الخسف صار ذلك زاجرا لهم عن الرغبة في احتلال مكانه من الزينة الباهرة، فندموا وخافوا وقالوا :﴿ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ ﴾ أي أن الله يبسط رزقه لمن شاء من عباده فيوسع عليه فيه ليس لفضل منزلته عنده أو كرامته عليه ﴿ وَيَقْدِرُ ﴾ أي ويضيق على من شاء من عباده ويقتر عليه ليس لهوانه عليه ؛ بل لله في ذلك الحكمة البالغة لا يعلمها إلا هو سبحانه. وفي الحديث المرفوع عن ابن مسعود :" إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم، وإن الله يعطي المال من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الإيمان إلا لمن يحب ".
قوله :﴿ لَوْلا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا ﴾ يعني لولا أن الله قد تفضل علينا برحمته ولطفه فصرف عنا ما كنا نتمناه من مكان الفاسق الباغي قارون لحاق بنا من الخسف والدمار ما حاق به.
قوله :﴿ وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ﴾ أي ألم تر أن الكافرين لا فوز لهم ولا منجاة وأنهم صائرون إلى التَّعس والخسران٢.
١ البيان لابن الأنباري ج ٢ ص ٢٣٧..
٢ تفسير الرازي ج ٢٥ ص ٢٠، وتفسير ابن كثير ج ٣ ص ٤٠١، وفتح القدير ج ٣ ص ١٨٨..
قوله :﴿ تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ( ٨٣ ) مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾.
اسم الإشارة ﴿ تلك ﴾ تعظيم للدار الآخرة وتفخيم لشأنها، والمراد بها الجنة، حيث النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول، فقد جعل الله ذلك كله لعباده المؤمنين المتواضعين ﴿ لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ ﴾ أي لا يبتغون أن يترفعوا استكبارا على عباد الله وتعاظما عليهم وتجبرا بهم. ولا يبتغون الإفساد في الأرض بفعل المعاصي والسيئات وكل وجوه المنكر من ظلم وقتل وأخذ لأموال الناس بالباطل.
قوله :﴿ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ المراد بالعاقبة الجنة، فقد جعلها الله للمتقين وهم : الذين اجتنبوا المعاصي، وأدوا فرائض ربهم، وخافوا الله في السر والعلن.
قوله :﴿ مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا ﴾ أي من فعل الحسنة في الدنيا فله من حسن الجزاء يوم القيامة ما يفوق عمله الذي قدمه ؛ إذ يجازيه ربه بحسنته عشر أمثالها وأكثر، وهذا من فضل الله وبالغ منه على عباده المؤمنين ورحمته بهم ﴿ وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ أي لا يجزي المسيئون وأصحاب المعاصي إلا مثل ما كانوا يعملون. وذلك عدل من الله مطلق١.
١ تفسير الطبري ج ٢٠ ص ٧٩، وفتح القدير ج ٣ ص ١٨٨..
قوله :﴿ إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ مَن جَاء بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ ( ٨٥ ) وَمَا كُنتَ تَرْجُو أَن يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِّلْكَافِرِينَ ( ٨٦ ) وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ( ٨٧ ) وَلاَ تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لاَ إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾.
يقول الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : إن الذي أنزل عليك القرآن يا محمد وأوجب عليك تبليغه للناس ﴿ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ ﴾ أي لمُصَيّرك إلى الجنة. وقيل : رادك على يوم القيامة، أو يجيء بك يوم القيامة. وقيل : رادك إلى الموت. وقيل : رادك إلى الموضع الذي خرجت منه وهو مكة. أي رادك إلى مكة ظاهرا على قومك الذين أخرجوك، منتصرا عليهم، وهو قول كثير من المفسرين.
قوله :﴿ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ مَن جَاء بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ ﴾ ﴿ مَن ﴾، في موضع نصب بفعل مقدر دل على قوله :﴿ أعلم ﴾ وتقديره : يعلم من جاء بالهدى١ والمعنى : قل لهؤلاء المشركين الضالين : ربي أعلم منكم بالذي جاء بالهدى، وهو نفسه صلى الله عليه وسلم، وأعلم من هو سادر في الغي، جائر عن سواء السبيل.
١ البيان لابن الأنباري ج ٢ ص ٢٣٩..
قوله :﴿ وَمَا كُنتَ تَرْجُو أَن يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ ﴾ أي ما كنت يا محمد تظن أو تعلم قبل نزول القرآن إليك أن الله باعثك للناس بشيرا ونذيرا، وأنه منزل القرآن عليك تنزيلا ﴿ إِلَّا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ ﴾ استثناء منقطع بمعنى لكن، أي لكن كان إنزاله عليك رحمة من ربك ﴿ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِّلْكَافِرِينَ ﴾ أي لا تكن عونا لهم ولا تركن إلى قولهم المضل المغوي.
قوله :﴿ وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ ﴾ أي احذر المشركين أن يصرفوك عن تبليغ ما أنزل إليك من ربك، وذلك بما يصطنعونه في وجهك من العراقيل والمعوّقات، وما يفتعلونه من الإغراء والإغواء للصد عن دين الله.
قوله :﴿ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ ﴾ ادع الناس إلى دين الله وسلوك طريقه المستقيم واتباع منهجه الحكيم وما تضمنه من هداية للناس وترشيد.
قوله :﴿ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ يحذره ربه إغراء المشركين وإغواءهم ؛ إذ كانوا يدعونه إلى تعظيم أوثانهم في مقابل توليته عليهم أو جعله أكثرهم مالا.
قوله :﴿ وَلاَ تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لاَ إِلَهَ إِلَّا هُوَ ﴾ يحذره ربه أن يعبد أحدا غيره، فإنه ليس من أحد جدير بالعبادة سواه.
قوله :﴿ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ﴾، منصوب على الاستثناء١
والمعنى : أن كل شيء في الوجود صائر إلى الفناء والهلاك لا محالة، باستثناء وجه الله الكريم. وقد عبّر عن الذات بالوجه ؛ فهو سبحانه الدائم الباقي الذي لا يفنى ولا يزول، وما دونه من الخلائق كافة صائر إلى الموت المحتوم.
قوله :﴿ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ الله يقضي في الخلق بما يشاء وكيف يشاء، ثم مردهم إلى جميعا إليه يوم القيامة ليلاقوا جزاءهم الموعود٢.
١ البيان لابن الأنباري ج ٢ ص ٢٣٩..
٢ تفسير الرازي ج ٢٥ ص ٢٣، وتفسير الطبري ج ٢٠ ص ٨١، وتفسير ابن كثير ج ٣ ص ٤٠٣..
Icon