تفسير سورة القصص

الكشاف أو تفسير الزمخشري
تفسير سورة سورة القصص من كتاب الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل المعروف بـالكشاف أو تفسير الزمخشري .
لمؤلفه الزمخشري . المتوفي سنة 538 هـ
مكية وآياتها ثمان وثمانون

سورة القصص
مكية، [إلا من آية ٥٢ إلى غاية آية ٥٥ فمدنية، وآية ٨٥ فبالجحفة أثناء الهجرة] وآياتها ٨٨ [نزلت بعد النمل] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ١ الى ٣]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

طسم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣)
مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ مفعول نتلو، أى: نتلو عليك بعض خبرهما بِالْحَقِّ محقين، كقوله تنبت بالدهن لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ لمن سبق في علمنا أنه يؤمن، لأنّ التلاوة إنما تنفع هؤلاء دون غيرهم.
[سورة القصص (٢٨) : آية ٤]
إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٤)
إِنَّ فِرْعَوْنَ جملة مستأنفة كالتفسير للمجمل، كأن قائلا قال: وكيف كان نبؤهما فقال:
إنّ فرعون عَلا فِي الْأَرْضِ يعنى أرض مملكته قد طغى فيها وجاوز الحدّ في الظلم والعسف شِيَعاً فرقا يشيعونه على ما يريد ويطيعونه، لا يملك أحد منهم أن يلوى عنقه. قال الأعشى:
وبلدة يرهب الجوّاب دلجتها حتّي تراه عليها يبتغى الشّيعا «١»
(١).
وبلدة يرهب الجواب دلجتها حتى تراه عليها يبتغى الشيعا
كلفت مجهولها نفسي وشايعنى همى عليها إذا ما آلها لمعا
بذات لوث عفرناة إذا عثرت فالتعس أولى لها من أن يقال لعا
للأعشى، أى: ورب مفازة يخاف الجواب: أى كثير السير، من جبت الأرض: قطعتها بالسير. والدلجة، من دلج وأدلج بوزن افتعل، وأدلج بوزن أكرم: إذا سار ليلا والدلجة: ساعة من الليل، أى: يخاف المعتاد على السير من سيرها ليلا حتى يطلب الجماعات المساعدين له على سيرها، كلفت نفسي سير المجهول منها، وعاوننى عزمي على سيرها وقت لمعان آلها، وهو السراب الذي يرى عند شدة الحر كأنه ماء، مع أن سير الهاجرة أشد من سير الليل، ثم قال مع ناقة صاحبة قوة، ويطلق اللوث على الضعف أيضا، فهو من الأضداد، عفرناة: غليظة، ويقال للعائر: لعا لك، دعاء له بالانتعاش. وتعسا له: دعاء عليه بالسقوط، يريد أنها لا تعثر، ولو عثرت فالدعاء عليها أحق بها من الدعاء لها.
أو يشيع بعضهم بعضا في طاعته. أو أصنافا في استخدامه يتسخر صنفا في بناء وصنفا في حرث وصنفا في حفر، ومن لم يستعمله ضرب عليه الجزية. أو فرقا مختلفة قد أغرى بينهم العداوة، وهم بنو إسرائيل والقبط. والطائفة المستضعفة: بنو إسرائيل. وسبب ذبح الأبناء: أنّ كاهنا قال له: يولد مولود في بنى إسرائيل يذهب ملكك على يده. وفيه دليل بين على ثخانة حمق فرعون، فإنه إن صدق الكاهن لم يدفع القتل الكائن، وإن كذب فما وجه القتل؟ ويَسْتَضْعِفُ حال من الضمير في وَجَعَلَ أو صفة لشيعا. أو كلام مستأنف. ويُذَبِّحُ بدل من يستضعف.
وقوله إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ بيان أنّ القتل ما كان إلا فعل المفسدين فحسب، لأنه فعل لا طائل تحته، صدق الكاهن أو كذب.
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٥ الى ٦]
وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (٥) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ (٦)
فإن قلت: علام عطف قوله وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ وعطفه على نَتْلُوا ويَسْتَضْعِفُ غير سديد؟ قلت: هي جملة معطوفة على قوله إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ لأنها نظيرة «تلك» في وقوعها تفسيرا لنبأ موسى وفرعون، واقتصاصا له. وَنُرِيدُ: حكاية حال ماضية. ويجوز أن يكون حالا من يستضعف، أى يستضعفهم فرعون، ونحن نريد أن نمنّ عليهم. فإن قلت:
كيف يجتمع استضعافهم وإرادة الله المنة عليهم؟ وإذا أراد الله شيئا كان ولم يتوقف إلى وقت آخر، قلت: لما كانت منة الله بخلاصهم من فرعون قريبة الوقوع، جعلت إرادة وقوعها كأنها مقارنة لاستضعافهم أَئِمَّةً مقدّمين في الدين والدنيا، يطأ الناس أعقابهم. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: قادة يقتدى بهم في الخير. وعن مجاهد رضى الله عنه: دعاة إلى الخير، وعن قتادة رضى الله عنه: ولاة، كقوله تعالى وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً. الْوارِثِينَ يرثون فرعون وقومه ملكهم وكل ما كان لهم. مكن له: إذا جعل له مكانا يقعد عليه أو يرقد، فوطأه ومهده ونظيره: أرّض له. ومعنى التمكين لهم في الأرض وهي أرض مصر والشام: أن يجعلها بحيث لا تنبو بهم ولا تغث «١» عليهم، كما كانت في أيام الجبابرة، وينفذ أمرهم، ويطلق أيديهم ويسلطهم.
(١). قوله «ولا تغث عليهم» أى: ولا تفسد وتردؤ. أفاده الصحاح. (ع)
وقرئ: ويرى فرعون وهامان وجنودهما، أى: يرون مِنْهُمْ ما حذروه: من ذهاب ملكهم وهلاكهم على يد مولود منهم.
[سورة القصص (٢٨) : آية ٧]
وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧)
اليم: البحر. قيل: هو نيل مصر. فإن قلت: ما المراد بالخوفين حتى أوجب أحدهما ونهى عن الآخر؟ قلت: أما الأوّل فالخوف عليه من القتل، لأنه كان إذا صاح خافت أن يسمع الجيران صوته فينموا عليه. وأما الثاني، فالخوف عليه من الغرق ومن الضياع ومن الوقوع في يد بعض العيون المبثوثة من قبل فرعون في تطلب الولدان، وغير ذلك من المخاوف. فإن قلت:
ما الفرق بين الخوف والحزن؟ قلت: الخوف غم يلحق الإنسان لمتوقع. والحزن: غم يلحقه لواقع وهو فراقه والإخطار به، فنهيت عنهما جميعا، وأو منت بالوحي إليها، ووعدت ما يسليها ويطامن قلبها ويملؤها غبطة وسرورا: وهو ردّه إليها وجعله من المرسلين. وروى: أنه ذبح في طلب موسى عليه السلام تسعون ألف وليد. وروى: أنها حين أقربت وضربها الطلق وكانت بعض القوابل الموكلات بحبالى بنى إسرائيل مصافية لها، فقالت لها: لينفعني حبك اليوم، فعالجتها، فلما وقع إلى الأرض هالها نور بين عينيه، وارتعش كل مفصل منها، ودخل حبه قلبها، ثم قالت: ما جئتك إلا لأقبل مولودك وأخبر فرعون، ولكنى وجدت لابنك حبا ما وجدت مثله فاحفظيه، فلما خرجت جاء عيون فرعون، فلفته في خرقة ووضعته في تنور مسجور «١»، لم تعلم ما تصنع لما طاش من عقلها، فطلبوا فلم يلقوا شيئا، فخرجوا وهي لا تدرى مكانه، فسمعت بكاءه من التنور، فانطلقت إليه وقد جعل الله النار عليه بردا وسلاما، فلما ألح فرعون في طلب الولدان أوحى الله إليها فألقته في اليم. وقد روى أنها أرضعته ثلاثة أشهر في تابوت من بردي «٢» مطلى بالقار من داخله.
[سورة القصص (٢٨) : آية ٨]
فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ (٨)
(١). قوله «ووضعته في تنور مسجور» في الصحاح «التنور» : الذي يخبر فيه. وفيه أيضا. سجرت التنور سجرا، إذا حميته. (ع)
(٢). قوله «تابوت من بردي مطلى بالقار» في الصحاح «البردي» بالفتح: نبات معروف، فلينظر. (ع)
اللام في لِيَكُونَ هي لام كى التي معناها التعليل، كقولك: جئتك لتكرمنى سواء بسواء ولكن معنى التعليل فيها وارد على طريق المجاز دون الحقيقة، لأنه لم يكن داعيهم إلى الالتقاط أن يكون لهم عدوّا وحزنا، ولكن: المحبة والتبني، غير أن ذلك لما كان نتيجة التقاطهم له وثمرته، شبه بالداعي الذي يفعل الفاعل الفعل لأجله، وهو الإكرام الذي هو نتيجة المجيء، والتأدب الذي هو ثمرة الضرب في قولك: ضربته ليتأدّب. وتحريره: أن هذه اللام حكمها حكم الأسد، حيث استعيرت لما يشبه التعليل، كما يستعار الأسد لمن يشبه الأسد. وقرئ: وحزنا وهما لغتان: كالعدم والعدم كانُوا خاطِئِينَ في كل شيء، فليس خطؤهم في تربية عدّوهم ببدع منهم. أو كانوا مذنبين مجرمين، فعاقبهم الله بأن ربى عدوّهم- ومن هو سبب هلاكهم- على أيديهم. وقرئ: خاطين، تخفيف خاطئين، أو خاطين الصواب إلى الخطأ.
[سورة القصص (٢٨) : آية ٩]
وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٩)
روى أنهم حين التقطوا التابوت عالجوا فتحه، فلم يقدروا عليه، فعالجوا كسره فأعياهم، فدنت آسية فرأت في جوف التابوت نورا، فعالجته ففتحته، فإذا بصبىّ نوره بين عينيه وهو يمصّ إبهامه لبنا فأحبوه، وكانت لفرعون بنت برصاء، وقالت له الأطباء: لا تبرأ إلا من، قبل البحر، يوجد فيه شبه إنسان دواؤها ريقه، فلطخت البرصاء برصها بريقه فبرأت «١». وقيل لما نظرت إلى وجهه برأت، فقالت: إن هذه لنسمة مباركة، فهذا أحد ما عطفهم عليه، فقال الغواة من قومه: هو الصبى الذي نحذر منه، فأذن لنا في قتله، فهمّ بذلك فقالت آسية قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ فقال فرعون: لك لا لي. وروى في حديث: «لو قال هو قرّة عين لي كما هو لك، لهداه الله كما هداها «٢» » وهذا على سبيل الفرض والتقدير، أى: لو كان غير مطبوع على قلبه كآسية لقال مثل قولها، ولأسلم كما أسلمت: هذا- إن صح الحديث- تأويله، والله أعلم بصحته.
وروى أنها قالت له: لعله من قوم آخرين ليس من بنى إسرائيل. قرّة عين: خبر مبتدإ محذوف ولا يقوى أن تجعله مبتدأ ولا تَقْتُلُوهُ خبرا، ولو نصب لكان أقوى. وقراءة ابن مسعود
(١). قوله «فبرأت» في الصحاح: برئت من المرض برءا بالضم. وأهل الحجاز يقولون: برأت من المرض برءا بالفتح. وأصبح فلان بارئا من مرضه (ع)
(٢). هذا طرف من حديث الفتون الطويل. وقد ذكرنا في طه أن النسائي أخرجه من حديث ابن عباس وفيه فأتت فرعون فقالت: قرة عين لي ولك فقال فرعون: يكون لك فأما أنا فلا حاجة لي فيه. فقال رسول الله ﷺ والذي يحلف به، لو أقر فرعون أن يكون له قرة عين كما أقرت امرأته لهداه الله كما هداها ولكن الله حرمه ذلك».
رضى الله عنه دليل على أنه خبر، قرأ: لا تقتلوه قرّة عين لي ولك، بتقديم لا تَقْتُلُوهُ.
عَسى أَنْ يَنْفَعَنا فإنّ فيه مخايل اليمن ودلائل النفع لأهله، وذلك لما عاينت من النور وارتضاع الإبهام وبرء البرصاء، ولعلها توسمت في سيماه النجابة المؤذنة بكونه نفاعا.
أو نتبناه، فإنه أهل للتبنى، ولأن يكون ولدا لبعض الملوك. فإن قلت: وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ حال، فما ذو حالها؟ قلت: ذو حالها آل فرعون. وتقدير الكلام: فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا، وقالت امرأة فرعون كذا وهم لا يشعرون أنهم على خطأ عظيم في التقاطه ورجاء النفع منه وتبنيه. وقوله: إن فرعون... الآية: جملة اعتراضية واقعة بين المعطوف والمعطوف عليه، مؤكدة لمعنى خطئهم. وما أحسن نظم هذا الكلام عند المرتاض بعلم محاسن النظم.
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ١٠ الى ١١]
وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠) وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١١)
فارِغاً صفرا من العقل. والمعنى: أنها حين سمعت بوقوعه في يد فرعون طار عقلها لما دهمها من فرط الجزع والدهش. ونحوه قوله تعالى وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ أى جوّف لا عقول فيها ومنه بيت حسان:
ألا أبلغ أبا سفيان عنّى فأنت مجوّف نخب هواء «١»
وذلك أنّ القلوب مراكز العقول. ألا ترى إلى قوله فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها ويدل عليه قراءة من قرأ: فرغا. وقرئ: قرعا، أى خاليا من قولهم: أعوذ بالله من صفر الإناء وقرع الفناء «٢». وفرغا، من قولهم: دماؤهم بينهم فرغ، أى هدر، يعنى: بطل قلبها وذهب، وبقيت لا قلب لها من شدّة ما ورد عليها لَتُبْدِي بِهِ لتصحر «٣» به. والضمير لموسى والمراد بأمره وقصته، وأنه ولدها لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها بإلهام الصبر، كما يربط على الشيء المنفلت ليقرّ ويطمئن لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ من المصدقين بوعد الله، وهو قوله
(١). تقدم شرح هذا الشاهد ضمن أبيات في الجزء الثاني صفحة ٥٦٣ فراجعه إن شئت اه مصححه.
(٢). قوله «من صفر الإناء وقرع الفناء» صفر الإناء: خلوه، مصدر: صفر الشيء بالكسر، أى: خلا.
وقرع الفناء: خلوه من الغاشية، مصدر قرع بالكسر، أى: خلا. (ع)
(٣). قوله «لتصحر به» في الصحاح: أصحر الرجل، أى: خرج إلى الصحراء والمراد هنا تجهر به ولا تكتم أمره (ع)
إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ ويجوز: وأصبح فؤادها فارغا من الهم، حين سمعت أن فرعون عطف عليه وتبناه إن كادت لتبدي بأنه ولدها، لأنها لم تملك نفسها فرحا وسرورا بما سمعت، لولا أنا طامنا قلبها وسكنّا قلقه الذي حدث به من شدّة الفرح والابتهاج، لتكون من المؤمنين الواثقين بوعد الله لا بتبني فرعون وتعطفه. وقرئ: مؤسى، بالهمزة: جعلت الضمة في جارة الواو- وهي الميم- كأنها فيها، فهمزت كما تهمز واو وجوه قُصِّيهِ اتبعى أثره وتتبعى خبره. وقرئ فبصرت بالكسر- يقال بصرت به عن جنب وعن جنابة، بمعنى: عن بعد. وقرئ: عن جانب، وعن جنب. والجنب: الجانب. يقال: قعد إلى جنبه وإلى جانبه، أى: نظرت إليه مزورة متجانفة مخاتلة «١». وهم لا يحسون بأنها أخته، وكان اسمها مريم.
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ١٢ الى ١٣]
وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ (١٢) فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٣)
التحريم: استعارة للمنع لأنّ من حرم عليه الشيء فقد منعه. ألا ترى إلى قولهم: محظور.
وحجر، وذلك لأن الله منعه أن يرضع ثديا، فكان لا يقبل ثدي مرضع قط، حتى أهمهم ذلك.
والمراضع: جمع مرضع، وهي المرأة التي ترضع. أو جمع مرضع، وهو موضع الرضاع يعنى الثدي أو الرضاع مِنْ قَبْلُ من قبل قصصها أثره. روى أنها لما قالت وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ قال هامان: إنها لتعرفه وتعرف أهله، فقالت: إنما أردت وهم للملك ناصحون «٢» والنصح:
إخلاص العمل من شائب الفساد، فانطلقت إلى أمها بأمرهم، فجاءت بها والصبىّ على يد فرعون يعلله شفقة عليه وهو يبكى يطلب الرضاع، فحين وجد ريحها استأنس والتقم ثديها، فقال لها فرعون: ومن أنت منه فقد أبى كل ثدي إلا ثديك؟ قالت: إنى امرأة طيبة الريح طيبة اللبن، لا أوتى بصبى إلا قبلني، فدفعه إليها وأجرى عليها، وذهبت به إلى بيتها، وأنجز الله وعده في الردّ، فعندها ثبت واستقرّ في علمها أن سيكون نبيا. وذلك قوله وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ يريد. وليثبت علمها ويتمكن. فإن قلت: كيف حل لها أن تأخذ الأجر على إرضاع ولدها؟
(١). قوله «متجانفة مخاتلة» متجانفة: أى مائلة. ومخاتلة: أى مخادعة. أفاده الصحاح. (ع)
(٢). قال محمود: «إنهم اتهموها لما قالت وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ بمعرفة موسى عليه السلام، فقالت إنما أردت وهم للملك فرعون ناصحون، فخلصت من التهمة» قال أحمد: أوردت هذه التورية استحسانا لفطنتها، ولكونها من بيت النبوة، وأخت النبي، فحقيق لها ذلك.
قلت: ما كانت تأخذه على أنه أجر على الرضاع، ولكنه مال حربىّ كانت تأخذه على وجه الاستباحة. وقوله وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ داخل تحت علمها. المعنى: لتعلم أن وعد الله حق، ولكن أكثر الناس لا يعلمون أنه حق فيرتابون. ويشبه التعريض بما فرط منها حين سمعت بخبر موسى، فجزعت وأصبح فؤادها فارغا يروى أنها حين ألقت التابوت في اليم جاءها الشيطان فقال لها: يا أم موسى، كرهت أن يقتل فرعون موسى فتؤجرى، ثم ذهبت فتوليت قتله، فلما أتاها الخبر بأن فرعون أصابه قالت: وقع في يد العدوّ، فنسيت وعد الله. ويجوز أن يتعلق وَلكِنَّ بقوله وَلِتَعْلَمَ ومعناه: أن الرّد إنما كان لهذا الغرض الديني، وهو علمها بصدق وعد الله. ولكنّ الأكثر لا يعلمون بأن هذا هو الغرض الأصلى الذي ما سواه تبع له:
من قرّة العين وذهاب الحزن.
[سورة القصص (٢٨) : آية ١٤]
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٤)
وَاسْتَوى واعتدل وتمّ استحكامه، وبلغ المبلغ الذي لا يزاد عليه، كما قال لقيط:
واستحملوا أمركم لله درّكمو شزر المريرة لا قحما ولا ضرعا «١»
وذلك أربعون سنة: ويروى: أنه لم يبعث نبىّ إلا على رأس أربعين سنة «٢». العلم. التوراة.
والحكم: السنة. وحكمة الأنبياء: سنتهم. قال الله تعالى وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ
(١). للقيط. وروى: واستحكموا. والشزر: القتل الشديد، والشيء الشديد، فهو مصدر أو وصف، والمريرة من المرة وهي القوة. والمرير: الحبل المحكم الفتل. والقحم: الشيخ الهرم يعتريه خرق وخرف. والضرع: اللين الذليل، من الضراعة وهي الذلة والخضوع، يقول: قلدوا أمر خلافتكم رجلا محكم العزيمة قوى الهمة، لا هرما مختل الرأى ولا ضعيفا، ولله دركم: جملة اعتراضية، أى: لله خيركم وصالح عملكم. وقيل: هذا البيت ملفق مما رواه أبو العباس المبرد في كامله، ومنه:
فقلدوا أمركم لله دركم رحب الذراع بأمر الحرب مضطلعا
ما زال يحلب هذا الدهر أشطره يكون متبعا طورا ومتبعا
حتى استمرت على شزر مريرته مستحكم الرأى لا قحما ولا ضرعا
ورحب الذراع: طويل الباع واسع الصدر، أى: شجاع جواد، واضطلع بكذا: قوى عليه واشتد، من الضلاعة وهي القوة واحتمال الثقيل، وشطرت الناقة شطرا: حلبت شطر لبنها وتركت شطره، أى: نصفه وما هنا مستعار منه، أى: جربت الدهر ومرت بى ضروبه من خير وشر، فاكتسبت منه ما يصح به رائي. والأشطر: جمع شطر بدل من الدهر. ويجوز أن حلب يتعدى إلى مفعولين ولو بالتضمين. ومتبع الأول: اسم مفعول، والثاني: اسم فاعل، أى: تارة تابع، وتارة متبوع. واستمرت مريرته: قوى عزمه واستحكم أمره على شزر، أى قوة وصدق همة،
(٢). لم أجده. [.....]
وقيل: معناه أتيناه سيرة الحكماء العلماء، وسمتهم قبل البعث، فكان لا يفعل فعلا يستجهل فيه.
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ١٥ الى ١٧]
وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (١٥) قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٦) قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (١٧)
المدينة: مصر. وقيل: مدينة منف من أرض مصر. وحين غفلتهم: ما بين العشاءين.
وقيل: وقت القائلة. وقيل: يوم عيد لهم هم مشتغلون فيه بلهوهم. وقيل: لما شبّ وعقل أخذ يتكلم بالحق وينكر عليهم، فأخافوه، فلا يدخل قرية إلا على تغفل. وقرأ سيبويه: فاستعانه مِنْ شِيعَتِهِ ممن شايعه على دينه من بنى إسرائيل. وقيل: هو السامرىّ مِنْ عَدُوِّهِ من مخالفيه من القبط، وهو فاتون، وكان يتسخر الاسرائيلى لحمل الحطب إلى مطبخ فرعون. والوكز: الدفع بأطراف الأصابع. وقيل: بجمع الكف. وقرأ ابن مسعود: فلكزه. باللام فَقَضى عَلَيْهِ فقتله. فإن قلت: لم جعل قتل الكافر من عمل الشيطان وسماه ظلما لنفسه واستغفر منه؟ قلت: لأنه قتله قبل أن يؤذن له في القتل، فكان ذنبا يستغفر منه. عن ابن جريج: ليس لنبي أن يقتل ما لم يؤمر بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ يجوز أن يكون قسما جوابه محذوف، تقديره: أقسم بإنعامك علىّ بالمغفرة لأتوبنّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ «١» وأن يكون استعطافا، كأنه قال: رب اعصمني بحق ما أنعمت علىّ من المغفرة، فلن أكون- إن عصمتني- ظهيرا للمجرمين. وأراد بمظاهرة المجرمين: إما صحبة فرعون وانتظامه في جملته وتكثيره سواده حيث كان يركب بركوبه كالولد مع الوالد، وكان يسمى ابن فرعون. وإما مظاهرة من أدت مظاهرته إلى الجرم والإثم، كمظاهرة الإسرائيلى المؤدية إلى القتل الذي لم يحل له. وعن ابن عباس: لم يستثن فابتلى به مرّة أخرى. يعنى: لم يقل: فَلَنْ أَكُونَ إن شاء الله. وهذا نحو قوله وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا وعن عطاء: أنّ رجلا قال له: إنّ أخى يضرب بقلمه ولا يعدو رزقه. قال: فمن الرأس، يعنى
(١). قوله تعالى قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ قال أحمد: لقد تبرأ من عظيم، لأن ظهير المجرمين شريكهم فيما هم بصدده. ويروى: أنه يقال يوم القيامة: أين الظلمة وأعوان الظلمة، فيؤتى بهم حتى بمن لاق لهم ليقة أو برى لهم قلما فيجعلون في تابوت من حديد ويلقى بهم في النار.
من يكتب له؟ قال: خالد بن عبد الله القسري: قال فأين قول موسى؟ وتلا هذه الآية. وفي الحديث: «ينادى مناد يوم القيامة: أين الظلمة وأشباه الظلمة وأعوان الظلمة، حتى من لاق لهم دواة أو برى لهم قلما، فيجمعون في تابوت من حديد فيرمى به في جهنم» «١» وقيل معناه. بما أنعمت علىّ من القوّة، فلن أستعملها إلا في مظاهرة أوليائك وأهل طاعتك والإيمان بك.
ولا أدع قبطيا يغلب أحدا من بنى إسرائيل.
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ١٨ الى ١٩]
فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (١٨) فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (١٩)
يَتَرَقَّبُ المكروه وهو الاستقادة منه، أو الإخبار وما يقال فيه، ووصف الإسرائيلى بالغىّ، لأنه كان سبب قتل رجل، وهو يقاتل اخر. وقرئ: يبطش، بالضم. والذي هو عدوّ لهما: القبطي لأنه ليس على دينهما، ولأن القبط كانوا أعداء بنى إسرائيل. والجبار:
الذي يفعل ما يريد من الضرب والقتل بظلم، لا ينظر في العواقب ولا يدفع بالتي هي أحسن:
وقيل: المتعظم الذي لا يتواضع لأمر الله، ولما قال هذا: أفشى على موسى فانتشر الحديث في المدينة ورقى إلى فرعون، وهموا بقتله.
[سورة القصص (٢٨) : آية ٢٠]
وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (٢٠)
قيل: الرجل: مؤمن آل فرعون، وكان ابن عم فرعون، ويَسْعى يجوز ارتفاعه وصفا لرجل، وانتصابه حالا عنه، لأنه قد تخصص بأن وصف بقوله مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ وإذا جعل صلة لجاء، لم يجز في يَسْعى إلا الوصف. والائتمار: التشاور. يقال: الرجلان يتآمران ويأتمران، لأن كل واحد منهما يأمر صاحبه بشيء أو يشير عليه بأمر. والمعنى: يتشاورون بسببك لَكَ بيان، وليس بصلة الناصحين.
[سورة القصص (٢٨) : آية ٢١]
فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢١)
(١). ذكره صاحب الفردوس من حديث أبى هريرة.
يَتَرَقَّبُ التعرّض له في الطريق. أو أن يلحق.
[سورة القصص (٢٨) : آية ٢٢]
وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ (٢٢)
تِلْقاءَ مَدْيَنَ قصدها ونحوها. ومدين: قرية شعيب عليه السلام، سميت بمدين بن إبراهيم، ولم تكن في سلطان فرعون، وبينها وبين مصر مسيرة ثمان، وكان موسى لا يعرف إليها الطريق قال ابن عباس: خرج وليس له علم بالطريق إلا حسن ظنه بربه. وسَواءَ السَّبِيلِ وسطه ومعظم نهجه. وقيل: خرج حافيا لا يعيش إلا بورق الشجر، فما وصل حتى سقط خف قدمه.
وقيل: جاءه ملك على فرس بيده عنزة، فانطلق به إلى مدين.
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٢٣ الى ٢٨]
وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ (٢٣) فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (٢٤) فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢٥) قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (٢٦) قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧)
قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (٢٨)
ماءَ مَدْيَنَ ماءهم الذي يستقون منه، وكان بئرا فيما روى. ووروده: مجيئه والوصول إليه وَجَدَ عَلَيْهِ وجد فوق شفيره ومستقاه أُمَّةً جماعة كثيفة العدد مِنَ النَّاسِ من أناس مختلفين مِنْ دُونِهِمُ في مكان أسفل من مكانهم. والذود: الطرد والدفع وإنما كانتا تذودان، لأنّ على الماء من هو أقوى منهما فلا يتمكنان من السقي. وقيل: كانتا تكرهان المزاحمة على الماء. وقيل: لئلا تختلط أغنامهما بأغنامهم، وقيل: تذودان عن وجوههما نظر الناظر لتسترهما ما خَطْبُكُما ما شأنكما. وحقيقته: ما مخطوبكما، أى: مطلوبكما من الذياد، فسمى المخطوب خطبا،
400
كما سمى المشئون شأنا في قولك: ما شأنك؟ يقال: شأنت شأنه، أى: قصدت قصده. وقرئ لا نسقي. ويصدر. والرعاء، بضم النون والياء والراء. والرعاء: اسم جمع كالرخال والثناء «١».
وأما الرعاء بالكسر فقياس، كصيام وقيام كَبِيرٌ كبير السن فَسَقى لَهُما فسقى غنمهما لأجلهما. وروى أن الرعاة كانوا يضعون على رأس البئر حجرا لا يقله إلا سبعة رجال. وقيل:
عشرة. وقيل: أربعون. وقيل: مائه، فأقله وحده. وروى أنه سألهم دلوا من ماء فأعطوه دلوهم وقالوا: استق بها، وكانت لا ينزعها إلا أربعون، فاستقى بها وصبها في الحوض ودعا بالبركة، وروّى غنمهما وأصدرهما. وروى أنه دفعهم عن الماء حتى سقى لهما. وقيل: كانت بئرا أخرى عليها الصخرة. وإنما فعل هذا رغبة في المعروف وإغاثة للملهوف. والمعنى: أنه وصل إلى ذلك الماء وقد ازدحمت عليه أمّة من أناس مختلفة متكاثفة العدد، ورأى الضعيفتين من ورائهم مع غنيمتهما مترقبتين لفراغهم، فما أخطأت همته في دين الله تلك الفرصة، مع ما كان به من النصب وسقوط خف القدم والجوع، ولكنه رحمهما فأغاثهما، وكفاهما أمر السقي في مثل تلك الزحمة بقوّة قلبه وقوّة ساعده، وما آتاه الله من الفضل في متانة الفطرة ورصانة الجبلة وفيه مع إرادة اقتصاص أمره وما أوتى من البطش والقوّة وما لم يغفل عنه، على ما كان به من انتهاز فرصة الاحتساب، ترغيب في الخير، وانتهاز فرصه، وبعث على الاقتداء في ذلك بالصالحين والأخذ بسيرهم ومذاهبهم. فإن قلت: لم ترك المفعول غير مذكور في قوله يَسْقُونَ وتَذُودانِ ولا نَسْقِي «٢» ؟ قلت: لأن الغرض هو الفعل لا المفعول. ألا ترى أنه إنما رحمهما لأنهما كانتا على الذياد وهم على السقي، ولم يرحمهما لأن مذودهما غنم ومسقيهم إبل مثلا، وكذلك قولهما لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ المقصود فيه السقي لا المسقى. فإن قلت: كيف طابق جوابهما سؤاله قلت: سألهما عن سبب الذود فقالتا: السبب في ذلك أنا امرأتان ضعيفتان مستورتان لا نقدر على مساجلة الرجال «٣» ومزاحمتهم، فلا بد لنا من تأخير السقي إلى أن يفرغوا، وما لنا رجل يقوم بذلك، وأبونا شيخ قد أضعفه الكبر فلا يصلح للقيام به: أبلتا إليه عذرهما «٤» في توليهما السقي بأنفسهما. فإن قلت: كيف ساغ لنبىّ الله الذي هو شعيب عليه السلام أن يرضى لا بنتيه
(١). قوله «لا نسقي ويصدر والرعاء بضم النون والياء والراء... الخ» يفيد أن القراءة المشهورة بفتح النون والياء وكسر الراء. والرخال: واحده رخل، وهي الأنثى من ولد الضأن. والثناء: عقال البعير ونحوه من حبل مثنى، كذا في الصحاح. (ع)
(٢). قوله «وتذودان ولا نسقي» لعل بعده سقطا تقديره: فسقى لهما، وعبارة النسفي: لا نسقي، و: فسقى. (ع)
(٣). قوله «لا نقدر على مساجلة الرجال» في الصحاح: «السجل» الدلو إذا كان فيه ماء. والمساجلة: المفاخرة بأن تصنع مثل صنعه في جرى أو سقى، وأصله من الدلو اه. (ع)
(٤). قوله «أبلتا إليه عذرهما» لعله تحريف، وأصله: أبدتا، كعبارة النسفي. (ع)
401
بسقى الماشية؟ قلت: الأمر في نفسه ليس بمحظور، فالدين لا يأباه. وأما المروءة، فالناس مختلفون في ذلك، والعادات متباينة فيه، وأحوال العرب فيه خلاف أحوال العجم، ومذهب أهل البدو فيه غير مذهب أهل الحضر، خصوصا إذا كانت الحالة حالة ضرورة إِنِّي لأى شيء أَنْزَلْتَ إِلَيَّ قليل أو كثير، غث أو سمين ل فَقِيرٌ «١» وإنما عدى فقير باللام، لأنه ضمن معنى سائل وطالب. قيل: ذكر ذلك وإن خضرة البقل تتراءى في بطنه من الهزال، ما سأل الله إلا أكلة. ويحتمل أن يريد: إنى فقير من الدنيا لأجل ما أنزلت إلىّ من خير الدين وهو النجاة من الظالمين لأنه كان عند فرعون في ملك وثروة: قال ذلك رضا بالبدل السنى، وفرحا به، وشكرا له، وكان الظل ظل سمرة عَلَى اسْتِحْياءٍ في موضع الحال، أى: مستحيية متخفرة «٢». وقيل. قد استترت بكم درعها. روى أنهما لما رجعتا إلى أبيهما قبل الناس وأغنامهما حفل بطان «٣» قال لهما: ما أعجلكما؟ قالتا: وجدنا رجلا صالحا رحمنا فسقى لنا، فقال لإحداهما:
اذهبي فادعيه لي، فتبعها موسى فألزقت الريح ثوبها بجسدها فوصفته، فقال لها: امشى خلفي وانعتى لي الطريق، فلما قص عليه قصته قال له. لا تخف فلا سلطان لفرعون بأرضنا. فإن قلت:
كيف ساغ لموسى أن يعمل بقول امرأة، وأن يمشى معها وهي أجنبية؟ قلت: أما العمل بقول امرأة فكما يعمل بقول الواحد حرّا كان أو عبدا ذكرا كان أو أنثى في الأخبار، وما كانت إلا مخبرة عن أبيها بأنه يدعوه ليجزيه. وأما مما شاته امرأة أجنبية فلا بأس بها في نظائر تلك الحال، مع ذلك الاحتياط والتورّع. فإن قلت: كيف صح له أخذ الأجر على البرّ والمعروف؟ قلت:
يجوز أن يكون قد فعل ذلك لوجه الله وعلى سبيل البر والمعروف. وقيل إطعام شعيب وإحسانه لا على سبيل أخذ الأجر، ولكن على سبيل التقبل لمعروف مبتدإ. كيف وقد قص عليه قصصه وعرفه أنه من بيت النبوّة من أولاد يعقوب؟ ومثله حقيق بأن يضيّف ويكرم خصوصا في دار نبىّ من أنبياء الله، وليس بمنكر أن يفعل ذلك لاضطرار الفقر والفاقة طلبا للأجر. وقد روى ما يعضد كلا القولين: روى أنها لما قالت: ليجزيك، كره ذلك، ولما قدّم إليه الطعام امتنع وقال: إنا أهل بيت لا نبيع ديننا بطلاع الأرض «٤» ذهبا، ولا نأخذ على المعروف ثمنا. حتى قال شعيب: هذه عادتنا مع كل من ينزل بنا. وعن عطاء ابن السائب: رفع صوته بدعائه ليسمعهما، فلذلك قيل له: ليجزيك أجر ما سقيت، أى، جزاء سقيك. والقصص: مصدر كالعلل، سمى
(١). قوله «غث أو سمين لفقير» أى مهزول كما في الصحاح. والمراد: ردىء أو جيد. (ع)
(٢). قوله «أى مستحيية متخفرة» الخفر: شدة الحياء. ومنه جارية خفرة ومتخفرة، كذا في الصحاح. (ع)
(٣). قوله «وأغنامها حفل بطان» في الصحاح: ضرع حافل، أى ممتلئ لبنا. وفيه: بطن بالكسر يبطن بطنا:
عظم بطنه من الشيع. (ع)
(٤). قوله «لا نبيع ديننا بطلاع الأرض ذهبا» في الصحاح «طلاع الشيء» : ملؤه. (ع)
402
به المقصوص. كبراهما: كانت تسمى صفراء، والصغرى: صفيراء. وصفراء: هي التي ذهبت به وطلبت إلى أبيها أن يستأجره، وهي التي تزوجها. وعن ابن عباس: أن شعيبا أحفظته الغيرة «١» فقال:
وما علمك بقوّته وأمانته؟ فذكرت إقلال الحجر ونزع الدلو، وأنه صوّب رأسه حين بلغته رسالته وأمرها بالمشي خلفه. وقولها إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ كلام حكيم جامع لا يزاد عليه، لأنه إذا اجتمعت هاتان الخصلتان، أعنى الكفاية والأمانة في القائم بأمرك فقد فرغ بالك وتم مرادك وقد استغنت بإرسال هذا الكلام الذي سياقه سياق المثل، والحكمة أن تقول استأجره لقوّته وأمانته «٢». فإن قلت: كيف جعل خير من استأجرت اسما لإنّ، والقوى الأمين خبرا؟ قلت: هو مثل قوله:
ألا إنّ خير النّاس حيّا وهالكا أسير ثقيف عندهم في السّلاسل «٣»
(١). قوله «أن شعيبا أحفظته الغبرة» أى أغضبته، كما في الصحاح. (ع)
(٢). قال محمود: «هذا كلام حكيم جامع لا يزاد عليه، لأنه إذا اجتمعت القوة والأمانة في القائم بأمرك فقد فرع بالك، وقد استغنت بإرسال هذا الكلام الذي ساقته سياق المثل والحكم عن أن تقول: فانه قوى أمين» قال أحمد: وهو أيضا أجمل في مدح النساء للرجال من المدح الخاص وأبقى للحشمة، وخصوصا إن كانت فهمت أن غرض أبيها عليه السلام أن يزوجها منه، وما أحسن ما أخذ الفاروق رضى الله تعالى عنه هذا المعنى فقال: أشكو إلى الله ضعف الأمين وخيانة القوى، ففي مضمون هذه الشكاية سؤال الله تعالى أن يتحفه بمن جمع الوصفين، فكان قويا أمينا يستعين به على ما كان بصدده رضى الله عنه. وهذا الإبهام- من ابنة شعيب صلوات الله عليه وسلامه- قد سلكته زليخا مع يوسف عليه السلام، ولكن شتان ما بين الحياء المجبول والمستعمل، ليس التكحل في العينين كالكحل، حيث قالت لسيدها: ما جزاء من أراد بأملك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم، وهي تعنى ما جزاء يوسف بما أرادنى من السوء إلا أن تسجنه أو تعذبه عذابا أليما، ولكنها أو همت زوجها الحياء والخفر أن تنطق بالعصمة منسوبا إليها الخنا، إيذانا بأن هذا الحياء منها الذي يمنعها أن تنطق بهذا الأمر، يمنعها من مراودة يوسف بطريق الأحرى والأولى، والله أعلم.
(٣).
ألا إن خير الناس حيا وميتا أسير ثقيف عندهم في السلاسل
لعمري إن عمرتم السجن خالدا وأوطأتموه وطأة المتثاقل
لقد كان نهاضا بكل ملمة ومعطي اللهى غمرا كثير النوافل
لأبى الشغب العبسي، يتحزن على خالد بن عبد الله القسري حين أسره يوسف بن عمرو. وخير الناس: أفعل تفضيل، مضاف إلى المعرف بأل، وهو اسم إن. وحيا وميتا، وروى هالكا: حالان منه. وأسير: خبر إن مضاف إلى ثقيف علم القبيلة. والعلم أعرف من المحلى بأل، فخبر إن المضاف إليه أعرف من اسمها المضاف للمحلى، ولا مانع منه مع اتحادا لما صدق الذي هو مراد المخبر. وعندهم في السلاسل: حال أو خبر بعد خبر. ولعمري: قسم، إن عمرتم: أى أدخلتم وأسكنتم خالدا السجن. وأوطأتموه، أى: صيرتموه يطأ برجله الأرض كوطأة المتثاقل:
الحامل لشيء ثقيل، لجعل القيد في رجليه، فهو كناية عن ذلك لقد كان نهاضا جواب القسم، وجواب الشرط محذوف، أى: كان سريع القيام بكل نازلة ثقيلة، وكان معطي اللهى- بالفتح-: جمع لهاة، كحصى وحصاة، بمعنى اللحمة التي في أقصى الفم، لكنها هنا بمعنى الفم نفسه. والأوجه أنه بالضم جمع لهوة، كغرف: جمع غرفة بمعنى العطية من أى نوع كانت، غمرا: أى عطاء كثيرا غامرا، وكان كثير الزيادات في العطاء، وأجرى «معطي» مجرى المرفوع للوزن.
403
في أن العناية هي سبب التقديم، وقد صدقت حتى جعل لها ما هو أحق بأن يكون خبرا اسما، وورود الفعل بلفظ الماضي للدلالة على أنه أمر قد جرب وعرف. ومنه قولهم: أهون ما أعملت لسان ممخ «١». وعن ابن مسعود رضى الله عنه: أفرس الناس ثلاثة: بنت شعيب، وصاحب يوسف، في قوله عَسى أَنْ يَنْفَعَنا وأبو بكر في عمر. روى أنه أنكحه صفراء. وقوله هاتَيْنِ فيه دليل على أنه كانت له غيرهما تَأْجُرَنِي من أجرته إذا كنت له أجيرا، كقولك: أبوته إذا كنت له أبا، وثَمانِيَ حِجَجٍ ظرفه. أو من أجرته كذا، إذا أثبته إياه. ومنه: تعزية رسول الله صلى الله عليه وسلم: أجركم الله ورحمكم «٢». وثماني حجج: مفعول به، ومعناه:
رعية ثماني حجج فإن قلت: كيف صح أن ينكحه إحدى ابنتيه من غير تمييز؟ قلت: لم يكن ذلك عقدا للنكاح، ولكن مواعدة ومواصفة أمر قد عزم «٣» عليه، ولو كان عقدا لقال: قد أنكحتك ولم يقل: إنى أريد أن أنكحك. فإن قلت: فكيف صح أن يمهرها إجارة نفسه في رعية الغنم، ولا بد من تسليم ما هو مال؟ ألا ترى إلى أبى حنيفة كيف منع أن يتزوج امرأة بأن يخدمها سنة «٤» وجوّز أن يتزوّجها بأن يخدمها عبده سنة، أو يسكنها داره سنة، لأنه في الأول:
مسلم نفسه وليس بمال، وفي الثاني: هو مسلم مالا وهو العبد أو الدار، قلت: الأمر على مذهب أبى حنيفة على ما ذكرت. وأما الشافعي: فقد جوّز التزوّج على الإجارة لبعض الأعمال والخدمة،
(١). قوله «أهون ما أعملت لسان ممخ» في الصحاح: تمخيت من الشيء وأمخيت منه: إذا تبرأت منه اه، فلعل ممخ: اسم فاعل من أمخيت. (ع) [.....]
(٢). أخرجه أبو نعيم في تاريخ أصبهان من طريق أحمد بن الحسن بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن ابن الحسن بن على عن آبائه إبراهيم بن الحسن عن فاطمة بنت الحسين عن أبيها. قال: كان رسول الله ﷺ إذا عزى قال: «آجركم الله ورحمكم» وإذا هنأ قال: «بارك الله لكم وبارك عليكم» وله شاهد مرسل أخرجه ابن أبى شيبة من رواية ابن خالد الوالبي: أن النبي ﷺ عزى رجلا فقال له: «يرحمه الله ويأجركم» وفي الضعفاء لابن حبان عن ابن عمر: أن النبي ﷺ عزى مسلما بذمي مات له، فقال: «آجرك الله وأعظم أجرك» وفي إسناده إسماعيل بن يحيى التيمي. وهو ساقط
(٣). قوله «ولكن مواعدة ومواصفة أمر قد عزم عليه» لعله: ومواضعة (ع)
(٤). قال محمود: «نقل من مذهب أبى حنيفة منع النكاح على مثل خدمته بعينه، وجوازه على مثل خدمة عبده سنة، وفرق بأنه في الأولى سلم نفسه وليس بمال، وفي الثانية سلم عبده وهو مال. ونقل عن الشافعي جواز النكاح على المنافع المعلومة مطلقا» قال أحمد: ومذهب ملك على ثلاثة أقوال: المنع، والكراهة، والجواز.
والعجب من إجازة أبى حنيفة النكاح على منافع العبد، بخلاف منافع الزوج، مع أن الآية أجازت النكاح على منافع الزوج ولم تتعرض لغيره، وما ذاك إلا لترجيح المعنى الذي أشار إليه الزمخشري. أو تفريعا على أن لا دليل في شرع من قبلنا، أو غير ذلك، والله أعلم.
404
إذا كان المستأجر له أو المخدوم فيه أمرا معلوما، ولعلّ ذلك كان جائزا في تلك الشريعة. ويجوز أن يكون المهر شيئا آخر، وإنما أراد أن يكون راعى غنمه هذه المدّة، وأراد أن ينكحه ابنته، فذكر له المرادين، وعلق الإنكاح بالرعية على معنى: إنى أفعل هذا إذا فعلت ذاك على وجه المعاهدة لا على وجه المعاقدة. ويجوز أن يستأجره لرعية ثماني سنين بمبلغ معلوم ويوفيه إياه، ثم ينكحه ابنته به، ويجعل قوله عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ عبارة عما جرى بينهما فَإِنْ أَتْمَمْتَ عمل عشر حجج فَمِنْ عِنْدِكَ فإتمامه من عندك. ومعناه: فهو من عندك لا من عندي، يعنى: لا ألزمكه ولا أحتمه عليك، ولكنك إن فعلته فهو منك تفضل وتبرع، وإلا فلا عليك وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ بإلزام أتمّ الأجلين وإيجابه. فإن قلت: ما حقيقة قولهم: شققت عليه، وشق عليه الأمر؟ قلت: حقيقته أن الأمر إذا تعاظمك فكأنه شق عليك ظنك باثنين، تقول تارة: أطيقه، وتارة: لا أطيقه. أو وعده المساهلة والمسامحة من نفسه، وأنه لا يشق عليه فيما استأجره له من رعى غنمه، ولا يفعل نحو ما يفعل المعاسرون من المسترعين، من المناقشة في مراعاة الأوقات، والمداقة في استيفاء الأعمال، وتكليف الرعاة أشغالا خارجة عن حدّ الشرط، وهكذا كان الأنبياء عليهم السلام آخذين بالأسمح في معاملات الناس. ومنه الحديث «كان رسول الله ﷺ شريكي، فكان خير شريك لا يدارى ولا يشارى ولا يماري» «١» وقوله سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ يدل على ذلك، يريد بالصلاح: حسن المعاملة ووطأة الخلق ولين الجانب «٢». ويجوز أن يريد الصلاح على العموم.
ويدخل تحته حسن المعاملة، والمراد باشتراط مشيئة الله فيما وعد من الصلاح: الاتكال على توفيقه فيه ومعونته، لا أنه يستعمل الصلاح إن شاء الله، وإن شاء استعمل خلافه ذلِكَ مبتدأ، وبَيْنِي وَبَيْنَكَ خبره، وهو إشارة إلى ما عاهده عليه شعيب، يريد. ذلك الذي قلته وعاهدتني فيه وشارطتنى عليه قائم بيننا جميعا، لا نخرج كلانا عنه، لا أنا عما شرطت علىّ ولا أنت عما شرطت على نفسك. ثم قال: أى أجل من الأجلين قضيت: أطولهما الذي هو العشر، أو أقصرهما الذي هو الثمان فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ أى لا يعتدى علىّ في طلب الزيادة عليه. فإن قلت: تصوّر العدوان إنما هو في أحد الأجلين الذي هو الأقصر وهو المطالبة بتتمة العشر، فما معنى تعليق العدوان بهما جميعا؟ قلت: معناه كما أنى إن طولبت بالزيادة على العشر كان عدوانا لا شك فيه، فكذلك إن طولبت بالزيادة على الثمان. أراد بذلك تقرير أمر الخيار، وأنه ثابت
(١). أخرجه أبو داود، وابن ماجة من حديث السائب أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: كنت شريكي، فكنت خير شريك. لا تدارى ولا تمارى.
(٢). قوله «ووطأة الخلق ولين الجانب» في الصحاح: «شيء وطئ» : بين الوطاءة. (ع)
405
مستقرّ، وأن الأجلين على السواء: إما هذا وإما هذا من غير تفاوت بينهما في القضاء. وأما التتمة فموكولة إلى رأيى: إن شئت أتيت بها، وإلا لم أجبر عليها. وقيل: معناه فلا أكون متعدّيا، وهو في نفى العدوان عن نفسه، كقولك: لا إثم علىّ، ولا تبعة علىّ. وفي قراءة ابن مسعود: أى الأجلين ما قضيت. وقرئ: أيما، بسكون الياء، كقوله:
تنظّرت نصرا والسّماكين أيهما علىّ من الغيث استهلّت مواطره «١»
وعن ابن قطيب: عدوان، بالكسر. فإن قلت: ما الفرق بين موقعى «ما» المزيدة في القراءتين؟
قلت: وقعت في المستفيضة مؤكدة لإبهام، أىّ: زائدة في شياعها: وفي الشاذة تأكيدا للقضاء، كأنه قال: أى الأجلين صممت على قضائه وجردت عزيمتي له. الوكيل: الذي وكل إليه الأمر، ولما استعمل في موضع الشاهد والمهيمن والمقيت «٢»، عدى بعلى لذلك. روى أنّ شعيبا كانت عنده عصى الأنبياء فقال لموسى بالليل: ادخل ذلك البيت فخذ عصا من تلك العصى. فأخذ عصا هبط بها آدم من الجنة، ولم يزل الأنبياء يتوارثونها حتى وقعت إلى شعيب، فمسها- وكان مكفوفا، فضنّ بها فقال: غيرها، فما وقع في يده إلا هي سبع مرات، فعلم أنّ له شأنا. وقيل:
أخذها جبريل بعد موت آدم فكانت معه حتى لقى بها موسى ليلا. وقيل: أودعها شعيبا ملك في صورة رجل، فأمر بنته أن تأتيه بعصا، فأتته بها فردها سبع مرّات فلم يقع في يدها غيرها، فدفعها إليه ثم ندم لأنها وديعة، فتبعه فاختصما فيها، ورضيا أن يحكم بينهما أوّل طالع، فأتاهما الملك فقال: ألقياها فمن رفعها فهي له، فعالجها الشيخ فلم يطقها ورفعها موسى. وعن الحسن:
ما كانت إلا عصا من الشجر اعترضها اعتراضا. وعن الكلبي: الشجرة التي منها نودي شجرة العوسج، ومنها كانت عصاه. ولما أصبح قال له شعيب: إذا بلغت مفرق الطريق فلا تأخذ على يمينك، فإنّ الكلأ وإن كان بها أكثر، إلا أنّ فيها تنينا «٣» أخشاه عليك وعلى الغنم، فأخذت الغنم ذات اليمين ولم يقدر على كفها، فمشى على أثرها فإذا عشب وريف لم ير مثله، فنام فإذا بالتنين قد أقبل، فحاربته العصا حتى قتلته وعادت إلى جنب موسى دامية. فلما أبصرها دامية
(١). للفرزدق. ونصر: هو ابن سيار ملك العراقين. والسما كان: كوكبان: السماك الأعزل لا نجم أمامه، والسماك الرامح أمامه نجوم، وأيهما أصله مشدد فسكن للضرورة، ثم يحتمل أنه نصب بدل مما قبله، وأنه معمول لمحذوف: أى لا أعلم أيهما وهو موصول. ويجوز أنه استفهام، وعليه فهو رفع على الابتداء، والضمير فيه راجع لنصر والسماكين، أى: ترقبت نصرا والسماكين أيهما استهلت مواطره على من الغيث، وأهل السحاب واستهل: اشتد انصبابه. والمواطر: السحائب. والغيث: المطر. وفي قرن نصر بالسماكين: دلالة على تشبيهه بهما في الخير وعلى الاستفهام، فهو من باب تجاهل العارف، وكذلك على نفى العلم.
(٢). قوله «والمهيمن والمقيت» أى: المقتدر، أو الحافظ. (ع)
(٣). قوله «إلا أن فيها تنينا» أى: ثعبانا. (ع)
406
والتنين مقتولا ارتاح لذلك، ولما رجع إلى شعيب مسّ الغنم، فوجدها ملأى البطون غزيرة اللبن، فأخبره موسى ففرح وعلم أنّ لموسى والعصا شأنا، وقال له: إنى وهبت لك من نتاج غنمي هذا العام كلّ أدرع ودرعاء»
، فأوحى إليه في المنام: أن اضرب بعصاك مستقى الغنم، ففعل، ثم سقى فما أخطأت واحدة إلا وضعت أدرع ودرعاء، فوفى له بشرطه
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٢٩ الى ٣٢]
فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (٢٩) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٣٠) وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (٣١) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٣٢)
سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أى الأجلين قضى موسى؟ فقال: أبعدهما وأبطأهما «٢».
وروى أنه قال: قضى أوفاهما، وتزوّج صغراهما. وهذا خلاف الرواية التي سبقت. الجذوة- باللغات الثلاث. وقرئ بهنّ جميعا-: العود الغليظ، كانت في رأسه نار أو لم تكن، قال كثير:
باتت حواطب ليلى يلتمسن لها جزل الجذى غير خوّار ولا دعر «٣»
(١). قوله «كل أدرع ودرعاء» لعله «كل أردع وردعاء» وفي الصحاح: به ردع من زعفران أو دم، أى: لطخ وأثر.
وردعته بالشيء فارتدع، أى: لطخته به فتلطخ اه، فالأردع: شبيه المتلطخ بلون آخر. ولفظ الخازن: أبلق وبلقاء. (ع)
(٢). أخرجه الحاكم من طريق ابن عيينة عن إبراهيم بن يحيى عن عكرمة عن ابن عباس بهذا قلت. وإبراهيم مجهول. وقوله: وروى أنه قال قضى أوفاهما وتزوج من صغراهما: أخرجه الطبراني والبزار من طريق عويد بن أبى عمران الجونى عنه عن أبيه عن عبد الله بن الصامت عن أبى ذر «أن النبي ﷺ سئل: أى الأجلين قضى موسى؟ قال: أوفاهما وأبرهما، قال وسئل أى المرأتين تزوج؟ قال الصغرى منهما» وعويد ضعيف وفي ابن مردويه من حديث أبى هريرة رفعه «قال لي جبريل: إن سألك اليهودي: أى الأجلين قضى موسى؟ فقل أوفاهما وإن سألك أيهما تزوج؟ فقل الصغرى منهما» وفي إسناده سليمان الشاذكوني وهو ضعيف.
(٣). لابن مقبل. والحواطب: الجواري يطلبن الحطب، والالتماس- بحسب الأصل-: من اللمس.» ثم اتسع فيه. والجذل: الحطب الغليظ اليابس: والجذى: جمع جذوة بتثليث الجيم فيهما وهي العود الغليظ في رأسه نار أولا. والخوار: الضعيف. والخور معيب، إلا في قولهم: ناقة خوارة، أى كثيرة اللبن. ونخلة خوارة:
كثيرة الحمل. ودعر العود دعرا كتعب كثر دخانه، فهو دعر كحذر. والدعر أيضا: السوس والفساد. والدعار:
الفسق والخبث، وغير خوار: حال من جزل الجذى.
407
وقال:
وألقى على قبس من النّار جذوة شديدا عليه حرها والتهابها «١»
مِنْ الأولى والثانية لابتداء الغاية، أى: أتاه النداء من شاطئ الوادي من قبل الشجرة.
ومِنَ الشَّجَرَةِ بدل من قوله: من شاطئ الوادي، بدل الاشتمال، لأنّ الشجرة كانت نابتة على الشاطئ، كقوله تعالى لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ وقرئ: الْبُقْعَةِ بالضم والفتح.
والرَّهْبِ بفتحتين، وضمتين، وفتح وسكون، وضم وسكون: وهو الخوف. فإن قلت: ما معنى قوله وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ؟ قلت: فيه معنيان، أحدهما: أنّ موسى عليه السلام لما قلب الله العصا حية: فزع واضطرب، فاتقاها بيده كما يفعل الخائف من الشيء، فقيل له:
إنّ اتقاءك بيدك فيه غضاضة «٢» عند الأعداء. فإذا ألقيتها فكما تنقلب «٣» حية، فأدخل يدك تحت عضدك مكان اتقائك بها، ثم أخرجها بيضاء ليحصل الأمران: اجتناب ما هو غضاضة عليك، وإظهار معجزة أخرى. والمراد بالجناح: اليد، لأنّ يدي الإنسان بمنزلة جناحي الطائر. وإذا أدخل يده اليمنى تحت عضد يده اليسرى، فقد ضمّ جناحه إليه. والثاني: أن يراد بضم جناحه إليه: تجلده وضبطه نفسه. وتشدّده عند انقلاب العصاحية حتى لا يضطرب ولا يرهب، استعارة من فعل الطائر، لأنه إذا خاف نشر جناحيه وأرخاهما. وإلا فجناحاه مضمومان إليه مشمران. ومنه ما يحكى عن عمر بن عبد العزيز أنّ كاتبا له كان يكتب بين يديه، فانفلتت منه فلتة ريح، فخجل وانكسر، فقام وضرب بقلمه الأرض، فقال له عمر: خذ قلمك، واضمم إليك جناحك، وليفرخ روعك «٤»، فإنى ما سمعتها من أحد أكثر مما سمعتها من نفسي. ومعنى قوله مِنَ الرَّهْبِ من أجل الرهب، أى: إذا أصابك الرهب عند رؤية الحية فاضمم إليك جناحك: جعل الرهب الذي كان يصيبه سببا وعلة فيما أمر به من ضم جناحه إليه. ومعنى: وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ، وقوله اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ على أحد التفسيرين: واحد. ولكن خولف بين العبارتين، وإنما كرّر المعنى الواحد لاختلاف الغرضين، وذلك أن الغرض في أحدهما خروج اليد بيضاء
(١). الجذوة في الأصل، العود الغليظ في رأسه نار أولا، ولكن خصها الوصف بما في رأسه نار، ثم إنها استعارة تصريحية للرمح أو للسيف، والحر والالتهاب: ترشيح لها. وشديد: خبر المبتدأ الذي بعده.
(٢). قوله «فيه غضاضة» أى: ذلة ومنقصة، كما في الصحاح. (ع)
(٣). قوله «فكما تنقلب حية» أى: فعند ما تنقلب. (ع) [.....]
(٤). قوله «وليفرخ روعك» أى ليذهب فزعك. أفاده الصحاح. (ع)
408
وفي الثاني: إخفاء الرهب. فإن قلت: قد جعل الجناح وهو اليد في أحد الموضعين مضموما وفي الآخر مضموما إليه، وذلك قوله وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ وقوله وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ فما التوفيق بينهما؟ قلت: المراد بالجناح المضموم. هو اليد اليمنى، وبالمضموم إليه: اليد اليسرى وكلّ واحدة من يمنى اليدين ويسراهما: جناح. ومن بدع التفاسير: أنّ الرهب: الكم، بلغة حمير وأنهم يقولون: أعطنى مما في رهبك، وليت شعري كيف صحته في اللغة؟ وهل سمع من الأثبات الثقات الذين ترتضي عربيتهم؟ ثم ليت شعري كيف موقعه في الآية؟ وكيف تطبيقه المفصل «١» كسائر كلمات التنزيل؟ على أن موسى عليه السلام ما كان عليه ليلة المناجاة إلا زرمانقة «٢» من صوف لا كمى لها فَذانِكَ قرئ مخففا ومشدّدا، فالمخفف مثنى ذاك. والمشدّد مثنى ذلك، بُرْهانانِ حجتان بينتان نيرتان. فإن قلت: لم سميت الحجة برهانا؟ قلت: لبياضها وإنارتها من قولهم للمرأة البيضاء. برهرهة، بتكرير العين واللام معا. والدليل على زيادة النون قولهم:
أبره الرجل، إذا جاء بالبرهان. ونظيره تسميتهم إياها سلطانا من السليط وهو الزيت، لإنارتها.
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٣٣ الى ٣٤]
قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (٣٣) وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (٣٤)
يقال: ردأته: أعنته. والردء: اسم مايعان به، فعل بمعنى مفعول كما أن الدفء اسم لما يدفأ به. قال سلامة بن جندل:
وردئى كل أبيض مشرفي شحيذ الحدّ عضب ذى فلول «٣»
وقرئ: ردا على التخفيف، كما قرئ: الخب رِدْءاً يُصَدِّقُنِي بالرفع والجزم صفة وجواب، نحو وَلِيًّا يَرِثُنِي سواء. فإن قلت: تصديق أخيه ما الفائدة فيه؟ قلت: ليس الغرض بتصديقه أن يقول له: صدقت، أو يقول للناس: صدق موسى، وإنما هو أن يلخص بلسانه الحق، ويبسط القول فيه، ويجادل به الكفار، كما يفعل الرجل المنطيق ذو العارضة، فذلك جار مجرى التصديق المفيد، كما يصدّق القول بالبرهان. ألا ترى إلى قوله وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي
(١). قوله «وكيف تطبيقه المفصل» لعله تطبيقه على المفصل (ع)
(٢). قوله «زرمانقة من صوف» في الحديث: أن موسى عليه السلام لما أتى فرعون أتاه وعليه زرمانقة، يعنى: جبة صوف. قال أبو عبيد: أراها عبرانية، كذا في الصحاح. (ع)
(٣). لسلامة بن جندل. يقول: وردئى الذي أتوقى به المكاره كل سيف أبيض، وعبر بكل، لأن المراد بيان الجنس لا الشخص، مشرفي: نسبة إلى مشارف اليمن قرى منها، وقيل: من الشام، شحيذ الحد: مرهفه، من شحذ المدية: حددها. عضب: قاطع، والفلول: جمع فل- بالفتح: وهو كسر في حد السيف وانثلام، أى:
به فلول من قراع الكتائب.
، وفضل الفصاحة إنما يحتاج إليه لذلك، لا لقوله: صدقت، فإنّ سحبان وباقلا «١» يستويان فيه، أو يصل جناح كلامه بالبيان، حتى يصدّقه الذي يخاف تكذيبه، فأسند التصديق إلى هرون، لأنه السبب فيه إسنادا مجازيا. ومعنى الإسناد المجازى: أن التصديق حقيقة في المصدّق، فإسناده إليه حقيقة وليس في السبب تصديق، ولكن استعير له الإسناد لأنه لا بس التصديق بالتسبب كما لا بسه الفاعل بالمباشرة. والدليل على هذا الوجه قوله: إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ وقراءة من قرأ: ردءا يصدقوني. وفيها تقوية للقراءة بجزم يصدقني.
[سورة القصص (٢٨) : آية ٣٥]
قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ (٣٥)
العضد: قوام اليد، وبشدّتها تشتد. قال طرفة:
أبنى لبينى لستمو بيد إلّا يدا ليست لها عضد «٢»
ويقال في دعاء الخير: شدّ الله عضدك. وفي ضده، فت الله في عضدك. ومعنى سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ سنقويك به ونعينك، فإمّا أن يكون ذلك لأن اليد تشتد بشدة العضد. والجملة تقوى بشدة اليد على مزاولة الأمور. وإمّا لأنّ الرجل شبه باليد في اشتدادها باشتداد العضد، فجعل كأنه يد مشتدة بعضد شديدة سُلْطاناً غلبة وتسلطا. أو حجة واضحة بِآياتِنا متعلق بنحو ما تعلق به في تسع آيات، أى اذهبا بآياتنا. أو بنجعل لكما سلطانا، أى: نسلطكما بآياتنا. أو بلا يصلون، أى: تمتنعون منهم بآياتنا. أو هو بيان للغالبون لا صلة، لامتناع تقدم الصلة على الموصول. ولو تأخر: لم يكن إلا صلة له. ويجوز أن يكون قسما جوابه:
لا يصلون، مقدما عليه. أو من لغو القسم.
(١). قوله «فان سحبان وباقلا يستويان فيه» مثل في الفصاحة. وباقل: مثل في الفهاهة والعي. (ع)
(٢).
أبنى لبينى لستم بيد إلا يدا ليست لها عضد
أبنى لبينى لا أحقكم وجد الاله بكم كما أجد
لطرفة بن العبد. وقيل: لأوس بن حجر. والهمزة للنداء. ولبينى: اسم أمة كناية عن أنهم أرقاء. واليد استعارة تصريحية للأقوياء. أو تشبيه بليغ، أى: لستم مثل يد من الأيدى في القوة، إلا مثل يد لا عضد لها، فهي صعبة. ويروى إلا يدا مخبولة العضد، يقال: خبلت يده أشللتها، ففي القافية الاقواء، وفيه استتباع الذم بما يشبه المدح للمبالغة في الذم، وكرر النداء لزيادة التعبير، وحقه يحقه: خصمه يخصمه، وأثبته، وأوجبه أيضا، أى: لا أثبتكم. أو لستم أهلا لمخاصمتى إياكم. ووجد عليه: غضب. ووجد به: حزن، أى: غضب الله بسيبكم كما أغضب أنا. أو كرهكم كما يكره الحزين ما يحزنه. وهذا دعاء عليهم بالإهلاك.

[سورة القصص (٢٨) : آية ٣٦]

فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُفْتَرىً وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (٣٦)
سِحْرٌ مُفْتَرىً سحر تعمله أنت ثم تفتريه على الله. أو سحر ظاهر افتراؤه. أو موصوف بالافتراء كسائر أنواع السحر وليس بمعجزة من عند الله فِي آبائِنَا حال منصوبة عن هذا، أى: كائنا في زمانهم وأيامهم، يريد: ما حدثنا بكونه فيهم، ولا يخلو من أن يكونوا كاذبين في ذلك، وقد سمعوا وعلموا بنحوه. أو يريدوا أنهم لم يسمعوا بمثله في فظاعته. أو ما كان الكهان يخبرون بظهور موسى ومجيئه بما جاء به. وهذا دليل على أنهم حجوا وبهتوا، وما وجدوا ما يدفعون به ما جاءهم من الآيات إلا قولهم هذا سحر وبدعة لم يسمعوا بمثلها.
[سورة القصص (٢٨) : آية ٣٧]
وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٣٧)
يقول: رَبِّي أَعْلَمُ منكم بحال من أهله الله للفلاح الأعظم، حيث جعله نبيا وبعثه بالهدى، ووعده حسن العقبى: يعنى نفسه، ولو كان كما تزعمون كاذبا ساحرا مفتريا لما أهله لذلك، لأنه غنى حكيم لا يرسل الكاذبين، ولا ينئى الساحرين، ولا يفلح عنده الظالمون. وعاقِبَةُ الدَّارِ هي العاقبة المحمودة. والدليل عليه قوله تعالى أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ جَنَّاتُ عَدْنٍ وقوله وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ والمراد بالدار: الدنيا، وعاقبتها وعقباها: أن يختم للعبد بالرحمة والرضوان وتلقى الملائكة بالبشرى عند الموت. فإن قلت: العاقبة المحمودة والمذمومة كلتاهما يصح أن تسمى عاقبة الدار، لأنّ الدنيا إمّا أن تكون خاتمتها بخير أو بشر، فلم اختصت خاتمتها بالخير بهذه التسمية دون خاتمتها بالشر؟ قلت: قد وضع الله سبحانه الدنيا مجازا إلى الآخرة، وأراد بعباده أن لا يعملوا فيها إلا الخير، وما خلقهم إلا لأجله ليتلقوا خاتمة الخير وعاقبة الصدق، ومن عمل فيها خلاف ما وضعها الله فقد حرف، فإذا عاقبتها الأصلية هي عاقبة الخير. وأما عاقبة السوء فلا اعتداد بها لأنها من نتائج تحريف الفجار «١». وقرأ ابن كثير: قالَ مُوسى بغير
(١). قال محمود: «العاقبة هي العاقبة المحمودة، والدليل عليه قوله عز وجل أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ جَنَّاتُ عَدْنٍ وقوله وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ والمراد دار الدنيا وعاقبتها أن يختم للإنسان فيها بالرحمة والرضوان وتتلقاه الملائكة بالبشرى عند الموت. قال: فان قلت العاقبة المحمودة والمذمومة كلاهما يصح أن يسمى عاقبة لأن الدنيا إما أن تكون خاتمتها خيرا أو شرا، فلم اختصت خاتمتها بالخير بهذه التسمية دون خاتمتها بالشر؟ قلت: لأن الله سبحانه وتعالى وضع الدنيا مجازا للآخرة وأراد لعباده فيها أن يعبدوه ولا يعملوا إلا الخير وما خلقهم إلا لأجله، كما قال:
وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ فمن عمل في الدنيا على خلاف ذلك فقد حرف، لأن عاقبتها الأصلية هي عاقبة الخير، وأما عاقبة الشر فلا اعتداد بها لأنها من تحريف الفجار»
قال أحمد: وقد تقدم من قواعد أهل الحق ما يستضاء به في هذا المقام، والقدر الذي يحتاج إلى تجديده هاهنا: أن استدلاله على أن عاقبة الخير وعبادة الله تعالى هي المرادة له لا سواها بقوله تعالى وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ معارض بأمثاله في أدلة أهل السنة على عقائدهم، مثل قوله وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ الآية. والمراد والله أعلم: ولقد جعلنا لعذاب جهنم خلقا كثيرا من الثقلين. ومن ذلك ما يروى عن الفاروق رضى الله عنه أنه قال: وإنكم آل المغبرة ذرء النار، أى: خلقها، فلئن دلت آية الذاريات ظاهرا على أن الله تعالى إنما خلق الثقلين لتكون عاقبتهم الجنة جزاء وثوابا على عبادتهم له، فقد دلت آية الأعراف على أنه خلق كثيرا من الثقلين لتكون عاقبتهم جهنم جزاء على كفرهم.
وحينئذ يتعين الجمع بين الآيتين، وحمل عموم آية الذاريات على خصوص الآية الأخرى، وإن المراد: وما خلقت السعداء من الثقلين إلا لعبادتي، جمعا بين الأدلة، فقد ثبت أن العاقبتين كلتيهما مرادة لله تعالى: هذا بعد تظافر البراهين العقلية على ذلك، فوجه مجيء العاقبة المطلقة كثيرا وإرادة الخير بها: أن الله تعالى هدى الناس إليها ووعدهم ما ورد في سلوك طريقها من النجاة والنعيم المقيم، ونهاهم عن ضدها وتوعدهم على سلوكها بأنواع العذاب الأليم، وركب فيهم عقولا ترشدهم إلى عاقبة الخير، ومكنهم منها، وأزاح عللهم ووفر دواعيهم، فكان من حقهم أن لا يعدلوا عن عاقبة الخير ولا يسلكوا غير طريقها، وأن يتخذوها نصب أعينهم، فأطلقت العاقبة والمراد بها الخير تفريعا على ذلك، والله أعلم. والحاصل: أنها لما كانت هي المأمور بها والمحضوض عليها، عوملت معاملة ما هو مراد وإن لم تكن مرادة من كثير من الخلق، وقال لي بعضهم: ما يمنعك أن تقول لم يفهم كون العاقبة المطلقة هي عاقبة الخير من إطلاقها، ولكن من إضافتها إلى ذويها باللام في الآي المذكورة، كقوله مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ، وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ، وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ فأفهمت اللام أنها عاقبة الخير، إذ هي لهم وعاقبة السوء عليهم لا لهم، كما يقولون: الدائرة لفلان، يعنون: دائرة الظفر والنصر. والدائرة على فلان، يعنون:
دائرة الخذلان والسوء، فقلت: لقد كان لي في ذلك مقال لولا ورود أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ولم يقل عليهم، فاستعمال اللام مكان «على» دليل على إيفاء الاستدلال باللام على إرادة عاقبة الخير، والله أعلم.
واو، على ما في مصاحف أهل مكة، وهي قراءة حسنة، لأنّ الموضع موضع سؤال وبحث عما أجابهم به موسى عليه السلام عند تسميتهم مثل تلك الآيات الباهرة: سحرا مفترى. ووجه الأخرى:
أنهم قالوا ذلك، وقال موسى عليه السلام هذا، ليوازن الناظر بين القول والمقول، ويتبصر فساد أحدهما وصحة الآخر:
وبضدّها تتبيّن الأشياء «١»
وقرئ تكون: بالياء والتاء.
[سورة القصص (٢٨) : آية ٣٨]
وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ (٣٨)
(١).
من يظلم القرناء في تكليفهم أن يصبحوا وهم له أكفاء
ويذمهم وبهم عرفنا فضله وبضدها تتميز الأشياء
لأبى الطيب المتنبي، بمدح هارون بن عبد العزيز، أى: أنه تظلم أقرانه في تكليفهم أن يكونوا مساوين له، وفي ذلك مشقة عليهم: كناية عن أنه لا يساويه أحد. وقوله: وبضدها إلى آخره: دليل على ما قبله. ويروى:
تتبين الأشياء، والمعنى واحد، أى: الأشياء تعرف بمعرفة معنى أضدادها.
412
روى أنه لما أمر ببناء الصرح، جمع هامان العمال حتى اجتمع خمسون ألف بناء سوى الأتباع والأجراء، وأمر بطبخ الآجر والجص ونجر الخشب وضرب المسامير، فشيدوه حتى بلغ ما لم يبلغه بنيان أحد من الخلق، فكان الباني لا يقدر أن يقف على رأسه يبنى، فبعث الله تعالى جبريل عليه السلام عند غروب الشمس، فضربه بجناحه فقطعه ثلاث قطع: وقعت قطعة على عسكر فرعون فقتلت ألف ألف رجل، ووقعت قطعة في البحر وقطعة في المغرب، ولم يبق أحد من عماله إلا قد هلك. ويروى في هذه القصة: أنّ فرعون ارتقى فوقه فرمى بنشابة نحو السماء، فأراد الله أن يفتنهم فردّت إليه وهي ملطوخة بالدم فقال: قد قتلت إله موسى، فعندها بعث الله جبريل عليه السلام لهدمه، والله أعلم بصحته. قصد بنفي علمه بإله غيره: نفى وجوده، معناه:
ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي كما قال الله تعالى قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ معناه بما ليس فيهن، وذلك لأنّ العلم تابع للمعلوم لا يتعلق به إلا على ما هو عليه، فإذا كان الشيء معدوما لم يتعلق به موجود. فمن ثمة كان انتفاء العلم بوجوده لا انتفاء وجوده. وعبر عن انتفاء وجوده بانتفاء العلم بوجوده «١». ويجوز أن يكون على ظاهره، وأنّ إلها غيره غير معلوم عنده،
(١). قال محمود: «عبر عن نفى المعلوم بنفي العلم، وإنما كان كذلك لأن العلم لا يتعلق بالمعلوم إلا على ما هو عليه إن موجودا فموجود وإن معدوما فمعدوم، فمن ثم عبر عن نفى كونه موجودا بنفي كونه معلوما» قال أحمد:
لشدة ما بلغ منه الوهم، لم يتأمل كيف سقوط السهم، وإنما أتى من حيث أن الله تعالى عبر كثيرا عن نفى المعلوم بنفي العلم في مثل قوله: قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض، أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض، فلما اطرد ذلك عنده توهم أن هذا التعبير عن نفى المعلوم بنفي العلم يشمل كل علم، ولو لم يتعلق بالمعلوم على ما هو به، وليس هو كذلك، بل هذا التعبير لا يسوغ إلا في علم الله تعالى لأمر يخص العلم القديم وهو عموم تعلقه حتى لا يعزب عنه أمر، فما لم يتعلق العلم بوجوده يلزم أن لا يكون موجودا، إذ لو كان موجودا لتعلق به بخلاف علم الخلق، فلا تلازم بين نفى الشيء ونفى العلم الحادث بوجوده، ولا كذلك العلم القديم، فان بين نفى معلومه ونفى تعلقه بوجوده تلازما سوغ التعبير المذكور، ولكن المعلوم أن فرعون كان يدعى الالهية ويعامل علمه معاملة علم الله تعالى في أنه لا يعزب عنه شيء، فمن ثم طغى وتكبر. وعبر بنفي علمه عن نفى المعلوم، تدليسا على ملئه، وتلبيسا على عقولهم السخيفة- والله أعلم- ويناسب تعاظمه هذا قوله فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ ولم يقل: فاطبخ لي آجرا، وذلك من التعاظم، كما قال تعالى- وله العظمة والكبرياء، ومن ارتدى بردائهما قصمه-: وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ فذكر هذه العبارة الجامعة لأنواع الكفر على وجه الكبرياء تهاونا بها، وذلك من تجبر الملوك- جل الله وعز- ومن تعاظم فرعون أيضا: نداؤه لوزيره باسمه، وبحرف النداء وتوسيط ندائه خلال الأمر، وبناؤه الصرح ورجاؤه الاطلاع: دليل على أنه لم يكن مصمما على الجحود. قال الزمخشري: وذلك مناقض لما أظهر من الجحد الجازم في قوله ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فاما أن يخفى هذا التناقض على قومه لغباوتهم وكآبة أذهانهم. وإما أن يتفطنوا لها ويخافوا نقمته فيصروا. قال أحمد: ولقائل- والله أعلم- أن يحمل قوله ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي على الشك، ونفى علمه خاصة، وإجرائه مجرى سائر علوم الخلق في أنه لا يلزم من نفى تعلقه بوجود أمر نفى ذلك الأمر، لجواز أن يكون موجودا عازبا عن علمه. وحينئذ لا يكون تناقضا، ولو لم يكن حمله هذا هو الأصل لما سوغنا أن يرفع التناقض عن كلامه، لأنه أحقر من ذلك.
413
ولكنه مظنون بدليل قوله وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ، وإذا ظنّ موسى عليه السلام كاذبا في إثباته إلها غيره ولم يعلمه كاذبا، فقد ظنّ أن في الوجود إلها غيره، ولو لم يكن المخذول ظانا ظنا كاليقين، بل عالما بصحة قول موسى عليه السلام لقول موسى له لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ لما تكلف ذلك البنيان العظيم، ولما تعب في بنائه ما تعب، لعله يطلع بزعمه إلى إله موسى عليه السلام، وإن كان جاهلا مفرط الجهل به وبصفاته، حيث حسب أنه في مكان كما كان هو في مكان، وأنه يطلع إليه كما كان يطلع إليه إذا قعد في عليته، وأنه ملك السماء كما أنه ملك الأرض. ولا ترى بينة أثبت شهادة على إفراط جهله وغباوته وجهل ملئه وغباوتهم: من أنهم راموا نيل أسباب السماوات بصرح يبنونه، وليت شعري، أكان يلبس على أهل بلاده ويضحك سن عقولهم، حيث صادفهم أغبى الناس وأخلاهم من الفطن وأشبههم بالبهائم بذلك؟ أم كان في نفسه بتلك الصفة؟ وإن صحّ ما حكى من رجوع النشابة إليه ملطوخة بالدم، فنهكم به بالفعل، كما جاء التهكم بالقول في غير موضع من كتاب الله بنظرائه من الكفرة. ويجوز أن يفسر الظن على القول الأوّل باليقين، كقوله:
فقلت لهم ظنوا بألفي مدجّج «١»
ويكون بناء الصرح مناقضة لما ادعاه من العلم واليقين، وقد خفيت على قومه لغباوتهم وبلههم.
أو لم تخف عليهم، ولكن كلا كان يخاف على نفسه سوطه وسيفه، وإنما قال فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ
(١).
وكل تباريح المحب لقيتها سوى أنثى لم ألق حتفي بمرصدى
نصحت لعارض وأصحاب عارض ورهط بنى السوداء والقوم شهدى
فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج سراتهم في الفارس المسرد
لدريد بن الصمة، ينذر قومه بهجوم العدو. ودريد: هو معاوية بن الحرث بن بكر بن علقمة الجثمى: قتل مشركا يوم حنين، أى: كل الشدائد التي يلقاها المحب من محبوبه لقيتها. والحتف: الهلاك. والمرصد، والمرصاد:
الطريق، وفي إضافته لنفسه معنى لطيف، أى: لم أسلك طريقا فيه حتف لي، بل أسلك غيره فطر بقي لا ضرر فيه. ونصحه ونصح له: خلص وصفا. والشهد- بالتشديد: جمع شاهد. ودججه تدجيجا: غطاه تغطية. والدجة- بالتشديد-: الظلمة. والدج: المشي بتؤدة. والمدجج: التام السلاح. وقيل: هو بالفتح: الفرس، وبالكسر:
الفارس. والسراة: السادة الأشراف بفتح السين، وهي في الأصل: أعلى ظهر الحيوان، فاستعيرت لهم، وقد تضم، فوزنها «فعلة» جمع سرى وزن فعيل على غير قياس، إذ قياسه أفعلاء، وهو في الأصل: النهر الصغير:
استعير للخير الرئيس، والفارس: الدروع المعمولة بفارس. والسرد والتسريد: متابعة النسج، يقول: أيقنوا بهجوم جيش عظيم. والألفان: كناية عن الكثرة، أى: جيش كثير مغطى بالسلاح، أشرافه في الدروع الفارسية المتتابعة النسج. والظرفية دالة على سبوغ الدروع لهم. ويروى المسود بالواو وليس بذاك.
414
عَلَى الطِّينِ ولم يقل: اطبخ لي الآجر واتخذه، لأنه أوّل من عمل الآجر، فهو يعلمه الصنعة، ولأن هذه العبارة أحسن طباقا لفصاحة القرآن وعلوّ طبقته وأشبه بكلام الجبابرة. وأمر هامان وهو وزيره ورديفه بالإيقاد على الطين منادى باسمه بيا فى وسط الكلام: دليل التعظيم «١» والتجبر. وعن عمر رضى الله عنه أنه حين سافر إلى الشام ورأى القصور المشيدة بالآجر فقال:
ما علمت أن أحدا بنى بالآجر غير فرعون. والطلوع والإطلاع: الصعود. يقال: طلع الجبل وأطلع: بمعنى.
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٣٩ الى ٤٠]
وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ (٣٩) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٤٠)
الاستكبار بالحق: إنما هو لله تعالى، وهو المتكبر على الحقيقة، أى: المتبالغ في كبرياء الشأن. قال رسول الله ﷺ فيما حكى عن ربه: «الكبرياء ردائي والعظمة إزارى، فمن نازعنى واحدا منهما ألقيته في النار» «٢». وكل مستكبر سواه فاستكباره بغير الحق يُرْجَعُونَ بالضم والفتح فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ من الكلام الفخم الذي دل به على عظمة شأنه وكبرياء سلطانه. شبههم استحقارا لهم واستقلالا لعددهم «٣»، وإن كانوا الكثر الكثير والجم الغفير، بحصيات أخذهنّ آخذ في كفه فطرحهنّ في البحر. ونحو ذلك قوله وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ، وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً، وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ وما هي إلا تصويرات وتمثيلات لاقتداره، وأن كل مقدور وإن عظم وجل، فهو مستصغر إلى جنب قدرته.
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٤١ الى ٤٢]
وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ (٤١) وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (٤٢)
فإن قلت: ما معنى قوله وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ؟ قلت: معناه: ودعوناهم أئمة
(١). قوله «دليل التعظيم» لعله التعظيم. (ع)
(٢). أخرجه مسلم من حديث أبى هريرة وأبى سعيد عن النبي ﷺ عن ربه.
(٣). عاد كلامه. قال: «وقوله تعالى فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ مقابلة لاستكباره بفعل عبر عنه بما صورته أخذ حصيات ممتهنات، ثم نبذها، أى: طرحها في اليم بهوان، فذلك تمثيل لاستهانته به وإهلاكه بهذا النوع من الهلاك. والله أعلم.
دعاة إلى النار «١»، وقلنا: إنهم أئمة دعاة إلى النار، كما يدعى خلفاء الحق أئمة دعاة إلى الجنة. وهو من قولك: جعله بخيلا وفاسقا، إذا دعاه وقال: إنه بخيل وفاسق «٢». ويقول أهل اللغة في تفسير فسقه وبخله: جعله بخيلا وفاسقا. ومنه قوله تعالى وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً ومعنى دعوتهم إلى النار: دعوتهم إلى موجباتها من الكفر والمعاصي وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ كما ينصر الأئمة الدعاة إلى الجنة. ويجوز: خذلناهم حتى كانوا أئمة الكفر. ومعنى الخذلان:
منع الألطاف، وإنما يمنعها من علم أنها لا تنفع فيه، وهو المصمم على الكفر الذي لا تغنى عنه الآيات والنذر، ومجراه مجرى الكناية، لأنّ منع الألطاف يردف التصميم، والغرض بذكره:
التصميم نفسه، فكأنه قيل: صمموا على الكفر حتى كانوا أئمة فيه دعاة إليه وإلى سوء عاقبته.
فإن قلت: فأى فائدة في ترك المردوف إلى الرادفة؟ قلت: ذكر الرادفة يدل على وجود المردوف فيعلم وجود المردوف مع الدليل الشاهد بوجوده، فيكون أقوى لإثباته من ذكره. ألا ترى أنك تقول: لولا أنه مصمم على الكفر مقطوع أمره مثبوت حكمه لما منعت منه الألطاف، فبذكر منع الألطاف يحصل العلم بوجود التصميم على الكفر وزيادة، وهو قيام الحجة على وجوده.
وينصر هذا الوجه قوله وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ كأنه قيل. وخذلناهم في الدنيا وهم يوم القيامة مخذولون، كما قال وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً أى طردا وإبعادا عن الرحمة وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ أى من المطرودين المبعدين.
[سورة القصص (٢٨) : آية ٤٣]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٤٣)
بَصائِرَ نصب على الحال. والبصيرة: نور القلب الذي يستبصر به، كما أن البصر نور العين الذي تبصر به، يريد: آتيناه التوراة أنوارا للقلوب، لأنها كانت عمياء لا تستبصر ولا تعرف
(١). قوله «ودعوناهم أئمة دعاة إلى النار» هذا التأويل وما يأتى بعده في قوله: ويجوز خذلناهم... إلى آخره:
مبنيان على أنه تعالى يجب عليه الصلاح ولا يجوز عليه خلق الشر، وهذا مذهب المعتزلة. أما مذهب أهل السنة فهو أنه لا يجب عليه تعالى شيء، ويجوز عليه خلق الشر كالخير. وقد حقق في التوحيد فلا داعى إلى تأويل الآية بمثل هذا التكلف. (ع) [.....]
(٢). قال محمود: «معناه دعوناهم أئمة دعاة إلى النار، كما تقول: جعلته بخيلا فاسقا إذا دعوته بذلك» قال أحمد: لا فرق عند أهل السنة بين قوله تعالى وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ، وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ وبين هذه الآية، فمن حمل الجعل على التسمية فيما نحن فيه فرارا من اعتقاد أن دعاءهم إلى النار مخلوق لله تعالى، فهو بمثابة من حمله على التسمية في قوله تعالى «وجعلنا الليل والنهار آيتين» : فرارا من جعل الليل والنهار مخلوقين لله تعالى، فلا فرق بين نفى مخلوق واحد عن قدرته تعالى ونفى كل مخلوق، نعوذ بالله من ذلك.
حقا من باطل. وإرشادا، لأنهم كانوا يخبطون في ضلال وَرَحْمَةً لأنهم لو عملوا بها وصلوا إلى نيل الرحمة لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ إرادة أن يتذكروا. شبهت الإرادة بالترجى فاستعير لها.
ويجوز أن يراد به ترجى موسى عليه السلام «١» لتذكرهم، كقوله تعالى لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ.
[سورة القصص (٢٨) : آية ٤٤]
وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٤٤)
الْغَرْبِيِّ المكان الواقع في شق الغرب، وهو المكان الذي وقع فيه ميقات موسى عليه السلام من الطور وكتب الله له في الألواح. والأمر المقضى إلى موسى عليه السلام: الوحى الذي أوحى إليه، والخطاب لرسول الله ﷺ يقول: وما كنت حاضرا المكان الذي أوحينا فيه إلى موسى عليه السلام، ولا كنت مِنَ جملة الشَّاهِدِينَ للوحى إليه، أو على الوحى إليه، وهم نقباؤه الذين اختارهم للميقات، حتى تقف من جهة المشاهدة على ما جرى من أمر موسى عليه السلام في ميقاته. وكتبة التوراة له في الألواح، وغير ذلك.
[سورة القصص (٢٨) : آية ٤٥]
وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٤٥)
فإن قلت: كيف يتصل قوله وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً بهذا الكلام؟ ومن أى وجه يكون استدراكا له؟ قلت: اتصاله به وكونه استدراكا له، من حيث أن معناه: ولكنا أنشأنا بعد عهد الوحى إلى عهدك قرونا كثيرة فَتَطاوَلَ على آخرهم: وهو القرن الذي أنت فيهم الْعُمُرُ أى أمد انقطاع الوحى واندرست العلوم، فوجب إرسالك إليهم، فأرسلناك وكسبناك «٢» العلم بقصص الأنبياء وقصة موسى عليهم السلام، كأنه قال: وما كنت شاهدا لموسى وما جرى عليه، ولكنا أوحينا إليك. فذكر سبب الوحى الذي هو إطالة الفترة، ودلّ به على المسبب على عادة الله عز وجل في اختصاراته، فإذا هذا الاستدراك شبيه الاستدراكين بعده وَما كُنْتَ ثاوِياً أى مقيما فِي أَهْلِ مَدْيَنَ وهم شعيب والمؤمنون به تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا تقرؤها عليهم تعلما منهم، يريد: الآيات التي فيها قصة شعيب وقومه،
(١). قال محمود: «معناه إرادة تذكرهم، لأن الارادة تشبه الترجي، فاستعير لها. أو يراد به ترجى موسى عليه السلام» قال أحمد: الوجه الثاني هو الصواب، واحذر الأول فانه قدرى.
(٢). قوله «وكسبناك العلم» كسب يتعدى إلى مفعولين، فيقال: كسبت أهلى خيرا، وكسبت الرجل مالا، كما في الصحاح. (ع)
ولكنا أرسلناك وأخبرناك بها وعلمناكها.
[سورة القصص (٢٨) : آية ٤٦]
وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٤٦)
إِذْ نادَيْنا يريد مناداة موسى عليه السلام ليلة المناجاة وتكليمه، ولكِنْ علمناك رَحْمَةً وقرئ: رحمة، بالرفع: أى هي رحمة ما أَتاهُمْ من نذير في زمان الفترة بينك وبين عيسى وهي خمسمائة وخمسون سنة، ونحوه قوله لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ.
[سورة القصص (٢٨) : آية ٤٧]
وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٤٧)
لَوْلا الأولى امتناعية وجوابها محذوف، والثانية تحضيضية، وإحدى الفاءين للعطف، والأخرى جواب لولا، لكونها في حكم الأمر، من قبل أن الأمر باعث على الفعل، والباعث والمحضض من واد واحد. والمعنى: ولولا أنهم قائلون إذا عوقبوا بما قدّموا من الشرك والمعاصي: هلا أرسلت إلينا رسولا، محتجين علينا بذلك: لما أرسلنا إليهم، يعنى: أن إرسال الرسول إليهم إنما هو ليلزموا الحجة ولا يلزموها، كقوله لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ، أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ، لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ. فإن قلت: كيف استقام هذا المعنى وقد جعلت العقوبة هي السبب في الإرسال لا القول، لدخول حرف الامتناع عليها دونه؟ قلت: القول هو المقصود بأن يكون سببا لإرسال الرسل، ولكن العقوبة لما كانت هي السبب للقول وكان وجوده بوجودها، جعلت العقوبة كأنها سبب الإرسال بواسطة القول، فأدخلت عليها لولا، وجيء بالقول معطوفا عليها بالفاء المعطية معنى السببية «١»، ويؤول معناه إلى قولك: ولولا قولهم هذا إذا أصابتهم
(١). قال محمود: «لولا الأولى امتناعية، والثانية تحضيضية. والفاء الأولى عاطفة والثانية جواب لولا.
والمعنى: لولا أنهم قائلون إذا عوقبوا: لولا أرسلت إلينا رسولا، محتجين بذلك لما أرسلت إليهم أحدا. فان قلت:
كيف استقام هذا المعنى وقد جعلت العقوبة سببا في الإرسال لا القول، لدخول حرف الامتناع عليها دونه؟
قلت: العقوبة سبب القول، وهي سبب السبب، فجعلت سببا وعطف السبب الأصلى عليها بالفاء السببية»
قال أحمد:
وذلك مثل قوله تعالى أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى والسر في جعل سبب السبب سببا، وعطف السبب الأصلى عليه أمران، أحدهما: أن مزيد العناية يوجب التقديم، وهذا هو السر الذي أبداه سيبويه. الثاني أن في هذا النظم تنبيها على سببية كل واحد منهما: أما الأول فلاقترانه بحرف التعليل، وهو «أن» وأما الثاني، فلاقترانه بفاء السبب، ولا يتعاطى هذا المعنى إلا من قولك أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ لا من قول القائل: أن تذكر إحداهما الأخرى إذا ضلت، وكان بعض النحاة يورد هذه الآية إشكالا على النحاة وعلى أهل السنة من المتكلمين، فيقول: «لولا» عند أهل الفن تدل على امتناع جوابها لوجود ما بعدها، وحينئذ يكون الواقع بعدها في الآية موجودا وهو عقوبة هؤلاء المذكورين بتقدير عدم بعثة الرسل، وجوابها المحذوف غير واقع وهو عدم الإرسال، لأنه ممتنع بالأولى. ومتى لم يقع عدم الإرسال كان الإرسال واقعا ضرورة، فيشكل الواقع بعدها على أهل السنة، لأنهم يقولون: لا ظلم قبل بعثه الرسل، فلا تتصور العقوبة بتقدير عدم البعثة، وذلك لأنها واقعة جزاء على مخالفة أحكام الشرع، فان لم يكن شرع فلا مخالفة ولا عقوبة. ويشكل الجواب على النحاة، لأنه يلزم أن لا يكون واقعا وهو عدم بعثة الرسل، لكن الواقع بعدها يقتضى وقوعه، ثم كان مورد هذا الاشكال يجيب عنه بتقدير محذوف. والأصل: ولولا كراهة أن تصيبهم مصيبة وحينئذ يزول الاشكال عن الطائفتين.
والتحقيق عندي في الجواب خلاف ذلك، وإنما جاء الاشكال من حيث عدم تجويز النحاة لمعنى لولا أن يقولون:
أنها تدل على أن ما بعدها موجود وأن جوابها ممتنع به، والتحرير في معناها أنها تدل على أن ما بعدها مانع من جوابها، عكس «لو» فان معناها لزوم جوابها لما بعدها، ثم المانع قد يكون موجودا وقد يكون مفروضا، والآية من قبيل فرض وجود المانع، وكذلك اللزوم في «لو» قد يكون الشيء الواحد لازما لشيئين، فلا يلزم نفيه من نفى أحد ملزوميه. وعلى هذا التحرير يزول الاشكال الوارد على «لو» في قوله: نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه، فتأمل هذا الفصل فتحته فوائد للمتأمل، والله الموفق.
مصيبة لما أرسلنا، ولكن اختيرت هذه الطريقة لنكتة: وهي أنهم لو لم يعاقبوا مثلا على كفرهم وقد عاينوا ما ألجئوا به إلى العلم اليقين: لم يقولوا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا وإنما السبب في قولهم هذا هو العقاب لا غير لا التأسف على ما فاتهم من الإيمان بخالقهم. وفي هذا من الشهادة القوية على استحكام كفرهم ورسوخه فيهم ما لا يخفى، كقوله تعالى وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ. ولما كانت أكثر الأعمال تزاول بالأيدى: جعل كل عمل معبرا عنه باجتراح الأيدى وتقديم الأيدى وإن كان من أعمال القلوب، وهذا من الاتساع في الكلام وتصيير الأقل تابعا للأكثر وتغليب الأكثر على الأقل.
[سورة القصص (٢٨) : آية ٤٨]
فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ (٤٨)
فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ وهو الرسول المصدق بالكتاب المعجز مع سائر المعجزات وقطعت معاذيرهم وسدّ طريق احتجاجهم قالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى من الكتاب المنزل جملة واحدة، ومن قلب العصاحية وفلق البحر وغيرهما من الآيات، فجاءوا بالاقتراحات المبنية على التعنت والعناد، كما قالوا: لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك، وما أشبه ذلك أَوَلَمْ يَكْفُرُوا يعنى أبناء جنسهم ومن مذهبهم مذهبهم وعنادهم عنادهم، وهم الكفرة في زمن
موسى عليه السلام بِما أُوتِيَ مُوسى وعن الحسن رحمه الله: قد كان للعرب أصل في أيام موسى عليه السلام، فمعناه على هذا: أو لم يكفر آباؤهم قالُوا في موسى وهرون سِحْرانِ تَظاهَرا أى تعاونا. وقرئ إظهارا على الإدغام. وسحران، بمعنى: ذوا سحر. أو جعلوهما سحرين مبالغة في وصفهما بالسحر. أو أرادوا نوعان من السحر بِكُلٍّ بكل واحد منهما.
فإن قلت: بم علقت قوله من قبل في هذا التفسير؟ قلت: بأ ولم يكفروا، ولي أن أعلقه بأوتي، فينقلب المعنى إلى أن أهل مكة الذين قالوا هذه المقالة كما كفروا بمحمد ﷺ وبالقرآن فقد كفروا بموسى عليه السلام وبالتوراة، وقالوا في موسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام:
ساحران تظاهرا. أو في الكتابين: سحران تظاهرا، وذلك حين بعثوا الرهط إلى رؤساء اليهود بالمدينة يسألونهم عن محمد صلى الله عليه وسلم، فأخبروهم أنه نعته وصفته، وأنه في كتابهم، فرجع الرهط إلى قريش فأخبروهم بقول اليهود، فقالوا عند ذلك: ساحران تظاهرا.
[سورة القصص (٢٨) : آية ٤٩]
قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٩)
هُوَ أَهْدى مِنْهُما مما أنزل على موسى عليه السلام ومما أنزل علىّ. هذا الشرط من نحو ما ذكرت أنه شرط المدل بالأمر المتحقق لصحته، لأنّ امتناع الإتيان بكتاب أهدى من الكتابين أمر معلوم متحقق لا مجال فيه للشكّ. ويجوز أن يقصد بحرف الشكّ: التهكم بهم.
[سورة القصص (٢٨) : آية ٥٠]
فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥٠)
فإن قلت: ما الفرق بين فعل الاستجابة في الآية، وبينه في قوله:
فلم يستجبه عند ذاك مجيب «١»
حيث عدّى بغير اللام؟ قلت: هذا الفعل يتعدّى إلى الدعاء بنفسه وإلى الداعي باللام، ويحذف الدعاء إذا عدّى إلى الداعي في الغالب، فيقال، استجاب الله دعاءه أو استجابة له، ولا يكاد يقال: استجاب له دعاءه. وأما البيت فمعناه: فلم يستجب دعاءه، على حذف المضاف. فإن قلت:
فالاستجابة تقتضي دعاء ولا دعاء هاهنا. قلت: قوله فأتوا بكتاب أمر بالإتيان والأمر بعث على الفعل ودعاء إليه، فكأنه قال: فإن لم يستجيبوا دعاءك إلى الإتيان بالكتاب الأهدى، فاعلم أنهم قد ألزموا ولم تبق لهم حجة إلا اتباع الهوى، ثم قال وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ لا يتبع في
(١). قوله «فلم يستجبه عند ذاك مجيب» صدره:
وداع دعا يا من يجيب إلى الندى
اه عليان.
قلت: وقد تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة ٤٥٦ فراجعه إن شئت اه مصححه.
دينه إلا هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ أى مطبوعا على قلبه ممنوع الألطاف إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي أى لا يلطف بالقوم الثابتين على الظلم الذين اللاطف بهم عابث. وقوله بغير هدى في موضع الحال، يعنى: مخذولا مخلى بينه وبين هواه.
[سورة القصص (٢٨) : آية ٥١]
وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥١)
قرئ وَصَّلْنا بالتشديد والتخفيف. والمعنى: أن القرآن أتاهم متتابعا متواصلا، وعدا ووعيدا، وقصصا وعبرا، ومواعظ ونصائح: إرادة أن يتذكروا فيفلحوا. أو نزل عليهم نزولا متصلا بعضه في أثر بعض، كقوله وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ.
[سورة القصص (٢٨) : آية ٥٢]
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (٥٢)
نزلت في مؤمنى أهل الكتاب وعن رفاعة بن قرظة: نزلت في عشرة أنا أحدهم. وقيل: في أربعين من مسلمي أهل الإنجيل: اثنان وثلاثون جاءوا مع جعفر من أرض الحبشة، وثمانية من الشام.
والضمير في مِنْ قَبْلِهِ للقرآن.
[سورة القصص (٢٨) : آية ٥٣]
وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (٥٣)
فإن قلت: أى فرق بين الاستئنافين إنه وإنا؟ قلت: الأوّل تعليل للإيمان به، لأن كونه حقا من الله حقيق بأن يؤمن به. والثاني: بيان لقوله آمَنَّا بِهِ لأنه يحتمل أن يكون إيمانا قريب العهد وبعيده، فأخبروا أن إيمانهم به متقادم، لأنّ آباءهم القدماء قرءوا في الكتب الأول ذكره وأبناءهم من بعدهم مِنْ قَبْلِهِ من قبل وجوده ونزوله مُسْلِمِينَ كائنين على دين الإسلام، لأن الإسلام صفة كل موحد مصدّق للوحى.
[سورة القصص (٢٨) : آية ٥٤]
أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٥٤)
بِما صَبَرُوا بصبرهم على الإيمان بالتوراة والإيمان بالقرآن. أو بصبرهم على الإيمان بالقرآن قبل نزوله وبعد نزوله. أو بصبرهم على أذى المشركين وأهل الكتاب. ونحوه يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ، بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ بالطاعة المعصية المتقدمة. أو بالحلم الأذى.
[سورة القصص (٢٨) : آية ٥٥]
وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ (٥٥)
سَلامٌ عَلَيْكُمْ توديع ومتاركة. وعن الحسن رضى الله عنه: كلمة حلم من المؤمنين لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ لا نريد مخالطتهم وصحبتهم فإن قلت: من خاطبوا بقولهم وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ؟ قلت:
اللاغين الذين دل عليهم قوله وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ.
[سورة القصص (٢٨) : آية ٥٦]
إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (٥٦)
لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ لا تقدر أن تدخل في الإسلام كل من أحببت أن يدخل فيه من قومك وغيرهم، لأنك عبد لا تعلم المطبوع على قلبه من غيره وَلكِنَّ اللَّهَ يدخل في الإسلام مَنْ يَشاءُ وهو الذي علم أنه غير مطبوع على قلبه، وأن الألطاف ننفع فيه، فيقرن به ألطافه حتى تدعوه إلى القبول وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ بالقابلين من الذين لا يقبلون. قال الزجاج:
أجمع المسلمون أنها نزلت في أبى طالب، وذلك أن أبا طالب قال عند موته: يا معشر بنى هاشم، أطيعوا محمدا وصدّقوه تفلحوا وترشدوا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: تأمرهم بالنصيحة لأنفسهم وتدعها لنفسك؟ قال: فما تريد يا ابن أخى؟ قال: أريد منك كلمة واحدة فإنك في آخر يوم من أيام الدنيا: أن تقول لا إله إلا الله، أشهد لك بها عند الله. قال: يا ابن أخى، قد علمت إنك لصادق، ولكنى أكره أن يقال: خرع عند الموت «١»، ولولا أن تكون عليك وعلى بنى أبيك غضاضة»
ومسبة بعدي، لقلتها، ولأقررت بها عينك عند الفراق، لما أرى من شدّة وجدك ونصيحتك، ولكنى سوف أموت على ملة الأشياخ عبد المطلب وهاشم وعبد مناف.
[سورة القصص (٢٨) : آية ٥٧]
وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٥٧)
قالت قريش «٣»، وقيل: إن القائل الحرث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف: نحن نعلم أنك على الحق، ولكنا نخاف إن اتبعناك وخالفنا العرب بذلك- وإنما نحن أكلة رأس، أى: قليلون- أن يتخطفونا من أرضنا، فألقمهم الله الحجر. بأنه مكن لهم في الحرم الذي آمنه بحرمة البيت وآمن قطانه بحرمته، وكانت العرب في الجاهلية حولهم يتغاورون ويتناحرون، وهم آمنون في حرمهم لا يخافون، وبحرمة البيت هم قارّون بواد غير ذى زرع، والثمرات والأرزاق تجبى إليهم من كل
(١). قوله «أكره أن يقال خرع عند الموت» في الصحاح: خرع الرجل- بالكسر-: ضعف، فهو خرع. (ع)
(٢). قوله «غضاضة» أى: مذلة ومنقصة. (ع)
(٣). لم أجده، وقصة وفاة أبى طالب في الصحيحين عن سعيد بن المسيب عن ابنه بغير هذا السياق أو أخصر منه.
أوب، فإذا خولهم الله ما خولهم من الأمن والرزق بحرمة البيت وحدها وهم كفرة عبدة أصنام فكيف يستقيم أن يعرضهم للتخوّف والتخطف، ويسلبهم الأمن إذا ضموا إلى حرمة البيت حرمة الإسلام. وإسناد الأمن إلى أهل الحرم حقيقة، وإلى الحرم مجاز يُجْبى إِلَيْهِ تجلب وتجمع. قرئ:
بالياء والتاء. وقرئ: تجنى، بالنون، من الجنى. وتعديته بإلى كقوله: يجنى إلىّ فيه، ويجنى إلى الخافة «١». وثمرات: بضمتين وبضمة وسكون. ومعنى الكلية: الكثرة كقوله وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ متعلق بقوله مِنْ لَدُنَّا أى قليل منهم يقرون بأنّ ذلك رزق من عند الله، وأكثرهم جهلة لا يعلمون ذلك ولا يفطنون له، ولو علموا أنه من عند الله لعلموا أن الخوف والأمن من عنده، ولما خافوا التخطف إذا آمنوا به وخلعوا أنداده.
فإن قلت: بم انتصب رزقا؟ قلت: إن جعلته مصدرا جاز أن ينتصب بمعنى ما قبله، لأنّ معنى يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ ويرزق ثمرات كل شيء: واحد، وأن يكون مفعولا له. وإن جعلته بمعنى: مرزوق، كان حالا من الثمرات لتخصصها بالإضافة، كما تنتصب عن النكرة المتخصصة بالصفة.
[سورة القصص (٢٨) : آية ٥٨]
وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ (٥٨)
هذا تخويف لأهل مكة من سوء عاقبة قوم كانوا في مثل حالهم من إنعام الله عليهم بالرقود في ظلال الأمن وخفض العيش، فغمطوا النعمة وقابلوها بالأشر والبطر، «٢» فدمرّهم الله وخرّب ديارهم. وانتصبت مَعِيشَتَها إمّا بحذف الجار وإيصال الفعل، كقوله تعالى وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ وإمّا على الظرف بنفسها، كقولك: زيد ظنى مقيم «٣». أو بتقدير حذف الزمان المضاف، أصله: بطرت أيام معيشتها، كخفوق النجم، ومقدم الحاج: وإمّا بتضمين بَطِرَتْ معنى:
كفرت وغمطت. وقيل: البطر سوء احتمال الغنى: وهو أن لا يحفظ حق الله فيه إِلَّا قَلِيلًا من السكنى. قال ابن عباس رضى الله عنهما: لم يسكنها إلا المسافر ومارّ الطريق يوما أو ساعة ويحتمل أنّ شؤم معاصى المهلكين بقي أثره في ديارهم، فكل من سكنها من أعقابهم لم يبق فيها إلا
(١). قوله «ويجنى إلى الخافة» في الصحاح «الخافة» : خريطة من أدم يشتار فيها بعسل. وفيه «يشتار» :
يجتنى. (ع)
(٢). قوله «فغمطوا النعمة وقابلوها بالأشر والبطر» أى بطروها وحقروها. والأشر والبطر: شدة المرح والمرح: شدة الفرح، كذا في الصحاح. (ع)
(٣). قوله «كقولك زيد ظنى مقيم» أى: في ظنى. (ع)
قليلا وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ لتلك المساكن من ساكنيها، أى: تركناها على حال لا يكنها أحد، أو خرّبناها وسوّيناها بالأرض.
تتخلّف الآثار عن أصحابها حينا ويدركها الفناء فتتبع «١»
[سورة القصص (٢٨) : آية ٥٩]
وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلاَّ وَأَهْلُها ظالِمُونَ (٥٩)
وما كانت عادة ربك أن يهلك القرى في كل وقت حَتَّى يَبْعَثَ فِي القرية التي هي أمّها، أى:
أصلها وقصبتها التي هي أعمالها وتوابعها رَسُولًا لإلزام الحجة وقطع المعذرة، مع علمه أنهم لا يؤمنون، أو وما كان في حكم الله وسابق قضائه أن يهلك القرى في الأرض حتى يبعث في أم القرى- يعنى مكة- رسولا وهو محمد ﷺ خاتم الأنبياء. وقرئ: أمها، بضم الهمزة وكسرها لاتباع الجرّ، وهذا بيان لعدله وتقدسه عن الظلم، حيث أخبر بأنه لا يهلكهم إلا إذا استحقوا الهلاك بظلمهم «٢»، ولا يهلكهم مع كونهم ظالمين إلا بعد تأكيد الحجة والإلزام ببعثة الرسل، ولا يجعل علمه بأحوالهم حجة عليهم، ونزه ذاته أن يهلكهم وهم غير ظالمين، كما قال تعالى وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ فنصّ في قوله بِظُلْمٍ أنه لو أهلكهم وهم مصلحون لكان ذلك ظلما منه، وأنّ حاله في غناه وحكمته منافية للظلم، دلّ على ذلك بحرف النفي مع لامه، كما قال الله تعالى وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ.
(١).
أين الذي الهرمان من بنيانه ما قومه ما يومه ما المصرع
تتخلف الآثار عن أصحابها حينا ويدركها الفناء فتتبع
لأبى الطيب حين دخل مصر ورأى الأهرام التي بناها الملك سورند. وقيل: سنان بن مشلشل. وقيل: إدريس عليه السلام. والهرمان: تثنية هرم- كسبب- وأراد بهما القريبين من مصر، ويومه: هو زمن ملكه، ويجوز أنه يوم موته، كما أن المصرع مكان الموت، والاستفهام عن هذا بعد الاستفهام عن قومه لاستحضار الصورتين والفرق بين الحالتين، ثم قال: تتخلف، أى: تتأخر الآثار من البنيان والأشجار وغير ذلك زمنا طويلا بعد أصحابها.
ثم يلحقها الفناء فتتبع أصحابها ولو طال زمن تخلفها. ويجوز أن المعنى: حينا قليلا، فالتنوين للتكثير أو التقليل.
(٢). قال محمود: «هذا بيان لعدله وتقدسه عن الظلم حتى أخبر بأنه لا يهلكهم إلا إذا استحقوا العذاب ولا يستحقوا حتى تتأكد عليهم الحجة ببعثة الرسل» قال أحمد: هذا إسلاف من الزمخشري لجواب ساقط عن سؤال وارد على القدرية لا جواب لهم عنه، ينشأ السؤال في هذه الآية فيقال: لو كانت العقول تحكم عن الله تعالى بأحكام التكليف، لقامت الحجة على الناس وإن لم يكن بعث رسل، إذ العقل حاكم، فلا يجدون للخلاص من هذا السؤال سبيلا.

[سورة القصص (٢٨) : آية ٦٠]

وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٠)
وأى شيء أصبتموه من أسباب الدنيا فما هو إلا تمتع وزينة أياما قلائل، وهي مدة الحياة المتقضية وَما عِنْدَ اللَّهِ وهو ثوابه خَيْرٌ في نفسه من ذلك وَأَبْقى لأنّ بقاءه دائم سرمد وقرئ: يعقلون، بالياء، وهو أبلغ في الموعظة. وعن ابن عباس رضى الله عنهما أن الله خلق الدنيا وجعل أهلها ثلاثة أصناف: المؤمن، والمنافق، والكافر: فالمؤمن يتزوّد، والمنافق يتزين، والكافر يتمتع.
[سورة القصص (٢٨) : آية ٦١]
أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٦١)
هذه الآية تقرير وإيضاح للتي قبلها. والوعد الحسن: الثواب، لأنه منافع دائمة على وجه التعظيم والاستحقاق، وأى شيء أحسن منها، ولذلك سمى الله الجنة بالحسنى. ولاقِيهِ كقوله تعالى. ولقاهم نضرة وسرورا، وعكسه فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا. مِنَ الْمُحْضَرِينَ من الذين أحضروا النار. ونحوه لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ، فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ قيل: نزلت في رسول الله ﷺ وأبى جهل. وقيل: في على وحمزة وأبى جهل. وقيل: في عمار ابن ياسر والوليد بن المغيرة. فإن قلت: فسر لي الفاءين وثم، وأخبرنى عن مواقعها. قلت:
قد ذكر في الآية التي قبلها متاع الحياة الدنيا وما عند الله وتفاوتهما، ثم عقبه بقوله أَفَمَنْ وَعَدْناهُ على معنى: أبعد هذا التفاوت الظاهر يسوّى بين أبناء الآخرة وأبناء الدنيا، فهذا معنى الفاء الأولى وبيان موقعها. وأمّا الثانية فللتسبيب لأن لقاء الموعود مسبب عن الوعد الذي هو الضمان في الخير. وأمّا «ثم» فلتراخى حال الإحضار عن حال التمتيع، لا لتراخى وقته عن وقته.
وقرئ ثُمَّ هُوَ بسكون الهاء، كما قيل عضد في عضد، تشبيها للمنفصل بالمتصل، وسكون الهاء في:
فهو، وهو، ولهو: أحسن لأنّ الحرف الواحد لا ينطق به وحده فهو كالمتصل.
[سورة القصص (٢٨) : آية ٦٢]
وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٦٢)
شُرَكائِيَ مبنى على زعمهم، وفيه تهكم. فإن قلت: زعم يطلب مفعولين، كقوله:
... ولم أزعمك عن ذاك معزلا «١»
(١).
وإن الذي قد عاش يا أم مالك يموت ولم أزعمك عن ذاك معزلا
يقول. وإن كل حى- وإن طال عمره- يموت. ولم أظنك يا أم مالك معزلا عن ذلك الحكم أو الموت، والمعزل:
مكان العزلة والانفراد، أى: لم أظنك في معزل عنه، أو ذات معزل، أو معتزلة، أو نفس المقول مبالغة. [.....]
فأين هما؟ قلت: محذوفان، تقديره: الذين كنتم تزعمونهم شركائى. ويجوز حذف المفعولين في باب ظننت، ولا يصح الاقتصار على أحدهما.
[سورة القصص (٢٨) : آية ٦٣]
قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ (٦٣)
الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ الشياطين أو أئمة الكفر ورءوسه. ومعنى حق عليهم القول:
وجب عليهم مقتضاه وثبت، وهو قوله لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ وهؤُلاءِ مبتدأ، والَّذِينَ أَغْوَيْنا صفته، والراجع إلى الموصول محذوف، وأَغْوَيْناهُمْ الخبر.
والكاف صفة مصدر محذوف، تقديره: أغويناهم، فغووا غيا مثل ما غوينا، يعنون: أنا لم نغو إلا باختيارنا، لا أن فوقنا مغوين أغرونا بقسر منهم وإلجاء. أو دعونا إلى الغىّ وسوّلوه لنا، فهؤلاء كذلك غووا باختيارهم، لأن إغواءنا لهم لم يكن إلا وسوسة وتسويلا لا قسرا وإلجاء، فلا فرق إذا بين غينا وغيهم. وإن كان تسويلنا داعيا لهم إلى الكفر، فقد كان في مقابلته دعاء الله لهم إلى الإيمان بما وضع فيهم من أدلة العقل، وما بعث إليهم من الرسل وأنزل عليهم من الكتب المشحونة بالوعد والوعيد والمواعظ والزواجر، وناهيك بذلك صارفا عن الكفر وداعيا إلى الإيمان. وهذا معنى ما حكاه الله عن الشيطان إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ والله تعالى قدّم هذا المعنى أوّل شيء، حيث قال لإبليس إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ. تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ منهم ومما اختاروه من الكفر بأنفسهم، هوى منهم للباطل ومقتا للحق، لا بقوّة منا على استكراههم ولا سلطان ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ إنما كانوا يعبدون أهواءهم ويطيعون شهواتهم. وإخلاء الجملتين من العاطف، لكونهما مقرّرتين لمعنى الجملة الأولى.
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٦٤ الى ٦٦]
وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ (٦٤) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ماذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (٦٥) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ (٦٦)
لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ لوجه من وجوه الحيل يدفعون به العذاب. أو لو أنهم كانوا مهتدين
مؤمنين، لما رأوه. أو تمنوا لو كانوا مهتدين. أو تحيروا عند رؤيته وسدروا «١» فلا يهتدون طريقا. حكى أوّلا ما يوبخهم به من اتخاذهم له شركاء، ثم ما يقوله الشياطين أو أئمتهم عند توبيخهم لأنهم إذا وبخوا بعبادة الآلهة، اعتذروا بأن الشياطين هم الذين استغووهم وزينوا لهم عبادتها، ثم ما يشبه الشماتة بهم من استغاثتهم آلهتهم وخذلانهم لهم وعجزهم عن نصرتهم، ثم ما يبكتون به من الاحتجاج عليهم بإرسال الرسل وإزاحة العلل فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ فصارت الأنباء كالعمى عليهم جميعا لا تهتدى إليهم فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ لا يسأل بعضهم بعضا كما يتساءل الناس في المشكلات، لأنهم يتساوون جميعا في عمى الأنباء عليهم والعجز عن الجواب. وقرئ:
فعميت، والمراد بالنبإ: الخبر عما أجاب به المرسل إليه رسوله، وإذا كانت الأنبياء لهول ذلك اليوم يتتعتعون في الجواب عن مثل هذا السؤال، ويفوّضون الأمر إلى علم الله، وذلك قوله تعالى يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ماذا أُجِبْتُمْ؟ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ فما ظنك بالضلال من أممهم.
[سورة القصص (٢٨) : آية ٦٧]
فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (٦٧)
فَأَمَّا مَنْ تابَ من المشركين من الشرك، وجمع بين الإيمان والعمل الصالح فَعَسى أَنْ يفلح عند الله، و «عسى» من الكرام تحقيق. ويجوز أن يراد: ترجى التائب وطمعه، كأنه قال:
فليطمع أن يفلح.
[سورة القصص (٢٨) : آية ٦٨]
وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللَّهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٨)
الخيرة من التخير، كالطيرة من التطير: تستعمل بمعنى المصدر هو التخير، وبمعنى المتخير كقولهم: محمد خيرة الله من خلقه ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ بيان لقوله وَيَخْتارُ لأنّ معناه: ويختار ما يشاء، ولهذا لم يدخل العاطف. والمعنى: أنّ الخيرة لله تعالى في أفعاله، وهو أعلم بوجوه الحكمة فيها، ليس لأحد من خلقه أن يختار عليه. قيل: السبب فيه قول الوليد بن المغيرة:
لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ يعنى: لا يبعث الله الرسل باختيار المرسل إليهم. وقيل: معناه ويختار الذي لهم فيه الخيرة، أى: يختار للعباد ما هو خير لهم وأصلح، وهو أعلم بمصالحهم من أنفسهم، من قولهم في الأمرين: ليس فيهما خيرة لمختار. فإن قلت: فأين الراجع من الصلة إلى الموصول إذا جعلت ما موصولة؟ قلت: أصل الكلام: ما كان لهم فيه
(١). قوله «وسدروا» أى تحيروا. أفاده الصحاح. (ع)
الخيرة، فحذف «فيه» كما حذف «منه» في قوله إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ لأنه مفهوم سُبْحانَ اللَّهِ أى الله بريء من إشراكهم وما يحملهم عليه من الجرأة على الله واختيارهم عليه ما لا يختار.
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٦٩ الى ٧٠]
وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (٦٩) وَهُوَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٧٠)
ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ من عداوة رسول الله وحسده وَما يُعْلِنُونَ من مطاعنهم فيه.
وقولهم: هلا اختير عليه غيره في النبوّة وَهُوَ اللَّهُ وهو المستأثر بالإلهية المختص بها، ولا إِلهَ إِلَّا هُوَ تقرير لذلك، كقولك: الكعبة القبلة، لا قبلة إلا هي. فإن قلت: الحمد في الدنيا ظاهر فما الحمد في الآخرة؟ قلت: هو قولهم الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ والتحميد هناك على وجه اللذة لا الكلفة. وفي الحديث: يلهمون التسبيح والتقديس «١» وَلَهُ الْحُكْمُ القضاء بين عباده.
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٧١ الى ٧٣]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ (٧١) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ (٧٢) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٣)
أَرَأَيْتُمْ وقرئ أريتم: بحذف الهمزة، وليس بحذف قياسي. ومعناه: أخبرونى من يقدر على هذا؟ والسرمد: الدائم المتصل، من السرد وهو المتابعة. ومنه قولهم في الأشهر الحرم: ثلاثة سرد، وواحد فرد، والميم مزيدة. ووزنه فعمل. ونظيره. دلامص، من الدلاص «٢». فإن قلت:
هلا قيل: بنهار تتصرفون فيه، كما قيل: بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ؟ قلت ذكر الضياء وهو ضوء
(١). أخرجه مسلم من حديث جابر في أثناء حديث في صفة أهل الجنة: وفيه «يلهمون التسبيح والتحميد كما يلهمون النفس» وفي رواية له «التسبيح والتكبير».
(٢). قوله «ونظيره دلامص من الدلاص» في الصحاح، الدلاص: اللين البراق. والدلامص: البراق. يقال:
دلصت الدرع- بالفتح. (ع)
الشمس: لأن المنافع التي تتعلق به متكاثرة، ليس التصرف في المعاش وحده، والظلام ليس بتلك المنزلة، ومن ثمة قرن بالضياء أَفَلا تَسْمَعُونَ لأنّ السمع يدرك ما لا يدركه البصر من ذكر منافعه ووصف فوائده، وقرن بالليل أَفَلا تُبْصِرُونَ لأنّ غيرك يبصر من منفعة الظلام ما تبصره. وأنت من السكون ونحوه وَمِنْ رَحْمَتِهِ زاوج بين الليل والنهار لأغراض ثلاثة:
لتسكنوا في أحدهما وهو الليل، ولتبتغوا من فضل الله في الآخر وهو النهار ولإرادة شكركم.
[سورة القصص (٢٨) : آية ٧٤]
وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٧٤)
وقد سلكت بهذه الآية طريقة اللف في تكرير التوبيخ باتخاذ الشركاء: إيذان بأن لا شيء أجلب لغضب الله من الإشراك به، كما لا شيء أدخل في مرضاته من توحيده. اللهم فكما أدخلتنا في أهل توحيدك، فأدخلنا في الناجين من وعيدك.
[سورة القصص (٢٨) : آية ٧٥]
وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٧٥)
وَنَزَعْنا وأخرجنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً وهو نبيهم: لأن أنبياء الأمم شهداء عليهم، يشهدون بما كانوا عليه فَقُلْنا للأمة هاتُوا بُرْهانَكُمْ فيما كنتم عليه من الشرك ومخالفة الرسول فَعَلِمُوا حينئذ أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ ولرسوله، لا لهم ولشياطينهم وَضَلَّ عَنْهُمْ وغاب عنهم غيبة الشيء الضائع ما كانُوا يَفْتَرُونَ من الكذب والباطل.
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٧٦ الى ٧٧]
إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (٧٦) وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (٧٧)
قارُونَ اسم أعجمى مثل هرون، ولم ينصرف للعجمة والتعريف، ولو كان فاعولا من قرن لانصرف. وقيل: معنى كونه من قومه أنه آمن به. وقيل، كان إسرائيليا ابن عم موسى:
هو قارون بن يصهر بن قاهث بن لاوى بن يعقوب. وموسى بن عمران بن قاهث. وقيل: كان موسى ابن أخيه، وكان يسمى المنور لحسن صورته، وكان أقرأ بنى إسرائيل للتوراة، ولكنه
429
نافق كما نافق السامري وقال: إذا كانت النبوّة لموسى عليه السلام، والمذبح والقربان إلى هرون فما لي؟ وروى: أنه لما جاوز بهم موسى البحر وصارت الرسالة والحبورة لهارون يقرّب القربان ويكون رأسا فيهم- وكان القربان إلى موسى فجعله موسى إلى أخيه- وجد قارون في نفسه وحسدهما، فقال لموسى: الأمر لكما ولست على شيء، إلى متى أصبر؟ قال موسى: هذا صنع الله قال: والله لا أصدق حتى تأتى بآية، فأمر رؤساء بنى إسرائيل أن يجيء كل واحد بعصاه، فحزمها وألقاها في القبة التي كان الوحى ينزل عليه فيها، وكانوا يحرسون عصيهم بالليل، فأصبحوا وإذا بعصا هرون تهتز ولها ورق أخضر، وكانت من شجر اللوز، فقال قارون: ما هو بأعجب مما تصنع من السحر فَبَغى عَلَيْهِمْ من البغي وهو الظلم. قيل: ملكه فرعون على بنى إسرائيل فظلمهم. وقيل: من البغي وهو الكبر والبذخ: تبذخ عليهم بكثرة ماله وولده. قيل: زاد عليهم في الثياب شبرا. المفاتح: جمع مفتح بالكسر: وهو ما يفتح به. وقيل هي الخزائن، وقياس واحدها: مفتح- بالفتح. ويقال: ناء به الحمل، إذا أثقله حتى أماله. والعصبة: الجماعة الكثيرة والعصابة: مثلها. واعصوصبوا: اجتمعوا. وقيل: كانت تحمل مفاتيح خزائنه ستون بغلا، لكل خزانة مفتاح، ولا يزيد المفتاح على أصبع. وكانت من جلود. قال أبو رزين: يكفى الكوفة مفتاح، وقد بولغ في ذكر ذلك بلفظ: الكنوز، والمفاتح، والنوء، والعصبة، وأولى القوة. وقرأ بديل بن ميسرة: لينوء بالياء. ووجهه أن يفسر المفاتح بالخزائن، ويعطيها حكم ما أضيفت إليه للملابسة والاتصال، كقولك ذهبت أهل اليمامة. ومحل إذ منصوب بتنوء لا تَفْرَحْ كقوله وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وقول القائل:
ولست بمفراح إذا الدّهر سرّنى «١»
وذلك أنه لا يفرح بالدنيا إلا من رضى بها واطمأن. وأمّا من قلبه إلى الآخرة ويعلم أنه مفارق ما فيه عن قريب، لم تحدّثه نفسه بالفرح. وما أحسن ما قال القائل:
أشد الغمّ عندي في سرور تيقّن عنه صاحبه انتقالا «٢»
(١).
ولست بمفراح إذا الدهر سرني ولا جازع من صرفه المتقلب
ولا أبتغى شرا إذا الشر تاركي ولكن متى أحمل على الشر أركب
لهدبة بن خشرم لما قاده معاوية إلى الحرة ليقتص منه في زياد بن زيد العذرى، فلقيه عبد الرحمن بن حسان فاستنشده فأنشده ذلك. والمفراح: كثير الفرح. والمراد: نفى الفرح من أصله. وصرف الدهر: حدثانه. وإذا: شرطية فلا بد بعدها من فعل، أى: إذا كان الشر تاركي. وأحمل مبنى للمجهول، وأركب للفاعل. والمعنى: أنى جربت الدهر فإذا هو خئون، ومع ذلك لا أتضعضع.
(٢). لأبى الطيب، أى: أشد الغم عندي وقت السرور الذي تيقن صاحبه الانتقال عنه، وهكذا سرور الدنيا كله.
430
وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ من الغنى والثروة الدَّارَ الْآخِرَةَ بأن تفعل فيه أفعال الخير من أصناف الواجب والمندوب إليه، وتجعله زادك إلى الآخرة وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ وهو أن تأخذ منه ما يكفيك ويصلحك وَأَحْسِنْ إلى عباد الله كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ أو أحسن بشكرك وطاعتك لله كما أحسن إليك. والفساد في الأرض: ما كان عليه من الظلم والبغي. وقيل إن القائل موسى عليه السلام. وقرئ: واتبع.
[سورة القصص (٢٨) : آية ٧٨]
قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (٧٨)
عَلى عِلْمٍ أى على استحقاق واستيجاب لما فىّ من العلم الذي فضلت به الناس، وذلك أنه كان أعلم بنى إسرائيل بالتوراة. وقيل: هو علم الكيمياء. عن سعيد بن المسيب: كان موسى عليه السلام يعلم علم الكيمياء، فأفاد يوشع بن نون ثلثه، وكالب بن يوفنا ثلثه، وقارون ثلثه، فخدعهما قارون حتى أضاف علمهما إلى علمه فكان يأخذ الرصاص والنحاس فيجعلهما ذهبا.
وقيل: علم الله موسى علم الكيمياء، فعله موسى أخته، فعلمته أخته قارون. وقيل: هو بصره بأنواع التجارة والدهقنة «١» وسائر المكاسب. وقيل عِنْدِي معناه: في ظنى، كما تقول الأمر عندي كذا، كأنه قال: إنما أوتيته على علم، كقوله تعالى ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ ثم زاد عِنْدِي أى هو في ظنى ورأيى هكذا. يجوز أن يكون إثباتا لعلمه بأنّ الله قد أهلك من القرون قبله من هو أقوى منه وأغنى، لأنه قد قرأه في التوراة، وأخبر به موسى، وسمعه من حفاظ التواريخ والأيام كأنه قيل أَوَلَمْ يَعْلَمْ في جملة ما عنده من العلم هذا، حتى لا يغتر بكثرة ماله وقوّته. ويجوز أن يكون نفيا لعلمه بذلك، لأنه لما قال: أوتيته على علم عندي، فتنفج بالعلم «٢» وتعظم به. قيل: أعنده مثل ذلك العلم الذي ادعاه ورأى نفسه به مستوجبة لكل نعمة، ولم يعلم هذا العلم النافع حتى يقي به نفسه مصارع الهالكين وَأَكْثَرُ جَمْعاً للمال، أو أكثر جماعة وعددا. فإن قلت: ما وجه اتصال قوله وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ بما قبله؟ قلت: لما ذكر قارون من أهلك من قبله من القرون الذين كانوا أقوى منه وأغنى، قال على سبيل التهديد له: والله مطلع على ذنوب المجرمين، لا يحتاج إلى سؤالهم عنها واستعلامهم. وهو قادر على أن يعاقبهم عليها، كقوله تعالى وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ، وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وما أشبه ذلك.
(١). قوله «والدهقنة» أى الزراعة، كما عبر غيره. (ع)
(٢). قوله «فتنفج بالعلم» أى ترفع وتفاخر وتكبر. أفاده الصحاح. (ع)

[سورة القصص (٢٨) : آية ٧٩]

فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٧٩)
فِي زِينَتِهِ قال الحسن: في الحمرة والصفرة. وقيل: خرج على بغلة شهباء عليها الأرجوان «١» وعليها سرج من ذهب، ومعه أربعة آلاف على زيه. وقيل: عليهم وعلى خيولهم الديباج الأحمر، وعن يمينه ثلاثمائة غلام، وعن يساره ثلاثمائة جارية، بيض عليهنّ الحلي والديباج. وقيل في تسعين ألفا عليهم المعصفرات، وهو أوّل يوم رئي فيه المعصفر: كان المتمنون قوما مسلمين وإنما تمنوه على سبيل الرغبة في اليسار والاستغناء كما هو عادة البشر. وعن قتادة: تمنوه ليتقربوا به إلى الله وينفقوه في سبل الخير. وقيل: كانوا قوما كفارا. الغابط: هو الذي يتمنى مثل نعمة صاحبه من غير أن تزول عنه. والحاسد: هو الذي يتمنى أن تكون نعمة صاحبه له دونه فمن الغبطة قوله تعالى يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ ومن الحسد قوله وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ وقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: هل يضر الغبط؟ فقال «٢» :
«لا إلا كما يضر العضاه الخبط «٣» » والحظ: الجدّ، وهو البخت والدولة: وصفوه بأنه رجل مجدود مبخوت، يقال: فلان ذو حظ، وحظيظ، ومحظوظ، وما الدنيا إلا أحاظ وجدود.
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٨٠ الى ٨١]
وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلاَّ الصَّابِرُونَ (٨٠) فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ (٨١)
ويلك: أصله الدعاء بالهلاك، ثم استعمل في الزجر والردع والبعث على ترك ما لا يرتضى، كما استعمل: لا أبا لك. وأصله الدعاء على الرجل بالإقراف «٤» في الحث على الفعل. والراجع
(١). قوله «بغلة شهباء عليها الأرجوان» في الصحاح: قطيفة حمراء أرجوان. وفيه أيضا: الأرجوان صبغ أحمر شديد الحمرة، ويقال: هو بالفارسية أرغوان، وهو شجر له نور أحمر أحسن ما يكون. (ع)
(٢). ذكره ثابت السر قسطي في الغريب هكذا بغير إسناد. وأخرجه إبراهيم الحربي في الغريب من طريق ابن أبى حسين «أن سائلا سأل النبي ﷺ أيضر الناس الغبط؟ قال: نعم كما يضر العضاه الخبط» بهذا اللفظ أخرجه الطبراني من رواية أم الدرداء قالت: قلت يا رسول الله. فذكره، لكن قال «الشجر» بدل العضاه.
قال الحربي الغبط إرادة السعة. وقال ثابت: الغبط الحسد.
(٣). قوله «إلا كما يضر العضاه الخبط» في الصحاح «العضاه» : كل شجر يعظم وله شوك. وفيه «الخبط» :
ضرب الشجرة بالعصا ليسقط ورقها. (ع)
(٤). قوله «الدعاء على الرجل بالإقراف» أى بفساد الأب. أفاده الصحاح. (ع)
432
في وَلا يُلَقَّاها للكلمة التي تكلم بها العلماء، أو للثواب، لأنه في معنى المثوبة أو الجنة، أو للسيرة والطريقة، وهي الإيمان والعمل الصالح الصَّابِرُونَ على الطاعات وعن الشهوات وعلى ما قسم الله من القليل عن الكثير. كان قارون يؤذى نبى الله موسى عليه السلام كل وقت، وهو يداريه للقرابة التي بينهما، حتى نزلت الزكاة فصالحه عن كل ألف دينار على دينار، وعن كل ألف درهم على درهم، فحسبه فاستكثره فشحت به نفسه، فجمع بنى إسرائيل وقال: إنّ موسى أرادكم على كل شيء، وهو يريد أن يأخذ أموالكم، فقالوا: أنت كبيرنا وسيدنا، فمر بما شئت، قال:
نبرطل فلانة البغىّ حتى ترميه بنفسها فيرفضه بنو إسرائيل، فجعل لها ألف دينار. وقيل: طستا من ذهب. وقيل: طستا من ذهب مملوءة ذهبا. وقيل: حكمها فلما كان يوم عيد قام موسى فقال:
يا بنى إسرائيل، من سرق قطعناه، ومن افترى جلدناه، ومن زنى وهو غير محصن جلدناه، وإن أحصن رجمناه، فقال قارون: وإن كنت أنت؟ قال: وإن كنت أنا، قال: فإنّ بنى إسرائيل يزعمون أنك فجرت بفلانة، فأحضرت، فناشدها موسى بالذي فلق البحر، وأنزل التوراة أن تصدق، فتداركها الله فقالت: كذبوا، بل جعل لي قارون جعلا على أن أقذفك لنفسي، فخرّ موسى ساجدا يبكى وقال: يا رب، إن كنت رسولك فاغضب لي. فأوحى إليه:
أن مر الأرض بما شئت، فإنها مطيعة لك. فقال: يا بنى إسرائيل، إنّ الله بعثني إلى قارون كما بعثني إلى فرعون، فمن كان معه فليلزم مكانه، ومن كان معنى فليعتزل، فاعتزلوا جميعا غير رجلين ثم قال: يا أرض خذيهم، فأخذتهم إلى الركب، ثم قال: خذيهم، فأخذتهم إلى الأوساط، ثم قال: خذيهم، فأخذتهم إلى الأعناق، وقارون وأصحابه يتضرعون إلى موسى عليه السلام ويناشدونه بالله والرحم، وموسى لا يلتفت اليهم لشدّة غضبه، ثم قال: خذيهم، فانطبقت عليهم «١». وأوحى الله إلى موسى: ما أفظك: استغاثوا بك مرارا فلم ترحمهم، أما وعزتي لو إياى دعوا مرة واحدة لوجدوني قريبا مجيبا، فأصبحت بنو إسرائيل يتناجون بينهم: إنما دعا موسى على قارون ليستبد بداره وكنوزه، فدعا الله حتى خسف بداره وأمواله مِنَ المُنْتَصِرِينَ من المنتقمين من موسى عليه السلام، أو من الممتنعين من عذاب الله. يقال: نصره من عدوه فانتصر، أى: منعه منه فامتنع.
(١). أخرجه عبد الرزاق والطبراني. من رواية على بن زيد عن عبد الله بن الحارث بن نوفل الهاشمي. قال، فذكره موقوفا. ووصله الحاكم بذكر ابن عباس. قال «لما أتى موسى قومه أمرهم بالزكاة فجمعهم قارون. فذكره باختصار. قوله وفي الأخبار والآثار ما يدل عليه، يعنى وقوع الرعب في قلوب جميع الناس يوم الموقف يمكن أن يستدل له بحديث الشفاعة الطويل. ففي المتفق عليه عن أبى هريرة في حديث الشفاعة قال «يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد فيبصرهم الناظر ويسمعهم الداعي وتدنو منهم الشمس، فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون. وفيه قول آدم وغيره: نفسي نفسي» وانفقا عليه من حديث أنس كذلك
433

[سورة القصص (٢٨) : آية ٨٢]

وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (٨٢)
قد يذكر الأمس ولا يراد به اليوم الذي قبل يومك، ولكن الوقت المستقرب على طريق الاستعارة مَكانَهُ منزلته من الدنيا «وى» مفصولة عن «كأن»، وهي كلمة تنبه على الخطأ وتندم. ومعناه:
أن القوم قد تنبهوا على خطئهم في تمنيهم وقولهم يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ وتندموا ثم قالوا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ أى: ما أشبه الحال بأن الكافرين لا ينالون الفلاح، وهو مذهب الخليل وسيبويه. قال:
وى كأنّ من يكن له نشب يحبب ومن يفتقر يعش عيش ضرّ «١»
وحكى الفراء أنّ أعرابية قالت لزوجها: أين ابنك؟ فقال: وى كأنه وراء البيت. وعند الكوفيين أنّ «ويك» بمعنى: ويلك، وأنّ المعنى ألم تعلم أنه لا يفلح الكافرون. ويجوز أن تكون الكاف كاف الخطاب مضمومة إلى وى، كقوله:
...... ويك عنتر أقدم «٢»
(١).
سألتانى الطلاق أن رأتا قل مالى قد جئتمانى بنكر
وى كأن من يكن له نشب يحبب ومن يفتقر يعش عيش ضر
ويجنب سر النجي ولكن أخا المال محضر كل سر
لزيد بن عمرو بن نفيل القرشي. وقيل: لسعيد بن زيد أحد العشرة المبشرين بالجنة. وقيل: لنبيه بن الحجاج بن عامر، قتل كافرا يوم بدر. وسألتانى بقلب الهمزة ألفا للوزن، وهي لغة قليلة، والضمير لزوجتيه، والطلاق مفعول ثان، وأن رأتا: أى لرؤيتهما، وقل: يحتمل أنه فعل ماض، فلا بد به من تقدير محذوف قبله به يتم الكلام، أى: لأن رأتانى قل مالى. أو لرؤيتهما أنى قل مالى. ويحتمل أنه اسم بمعنى قليل، ولا حذف في الكلام، فالمعنى: لأن رأتا قليل مالى، أى: مالى القليل، والتفت من الغيبة إلى خطابهما بقوله: قد جثتمانى بنكر، أى: منكر. وفيه معنى التعجيب من حالهما، و «وى» : اسم فعل للتعجب، وقيل: لفظه تيقظ وتندم، وكأن:
للظن أو للتحقيق، كما أجازه الكوفيون، وهي مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن. وقيل: لا اسم للمخففة.
والنشب: المال. ويعش عيش ضرّ، أى: يبغض. والنجي- بالتشديد-: المناجى، أى: المتكلم بالسر.
ويجنب: مبنى للمجهول. وسر: مفعوله الثاني. وأخا المال: صاحب المال. ومحضر: اسم مفعول، وكل:
مفعوله الثاني.
(٢).
ولقد شفى نفسي وأذهب سقمها قيل الفوارس ويك عنتر أقدم
لعنترة بن شداد من معلقته. ويروى: وأبر أسقمها. ويروى: وأذهب غمها. ويروى: قول، بدل: قيل. وكلاهما مصدر. وويك: اسم فعل للتعجب، لكن لا بلائم البيت. وقيل: كلمة تنبيه، والكاف حرف خطاب. وقال الكسائي: أصل «ويك» : ويلك، فالكاف ضمير مجرور، لكن تبعد ملاءمته للبيت. وعنتر: منادى مرخم، وحسن الترخيم وحذف حرف النداء: أن المقام للاهتمام وسرعة الكلام، وأقدم: أى أقبل على العدو، لتمنعنا بأسه. [.....]
وأنه بمعنى لأنه، واللام لبيان المقول لأجله هذا القول، أو، لأنه لا يفلح الكافرون كان ذلك، وهو الخسف بقارون، ومن الناس من يقف على «وى» ويبتدئ «كأنه» ومنهم من يقف على «ويك». وقرأ الأعمش لولا منّ الله علينا. وقرئ لَخَسَفَ بِنا «١» وفيه ضمير الله.
ولا نخسف بنا، كقولك: انقطع به. ولتخسف بنا.
[سورة القصص (٢٨) : آية ٨٣]
تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (٨٣)
تِلْكَ تعظيم لها وتفخيم لشأنها، يعنى: تلك التي سمعت بذكرها وبلغك وصفها. لم يعلق الموعد «٢» بترك العلو والفساد، ولكن بترك إرادتهما وميل القلوب إليهما، كما قال: وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فعلق الوعيد بالركون. وعن على رضى الله عنه: إنّ الرجل ليعجبه أن يكون شراك نعله أجود من شراك نعل صاحبه، فيدخل تحتها «٣». وعن الفضيل أنه قرأها ثم قال.
ذهبت الأمانى هاهنا «٤». وعن عمر بن عبد العزيز أنه كان يردّدها حتى قبض. ومن الطماع من يجعل العلوّ لفرعون، والفساد لقارون، متعلقا بقوله إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ، وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ ويقول: من لم يكن مثل فرعون وقارون فله تلك الدار الآخرة، ولا يتدبر قوله وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ كما تدبره علىّ والفضيل وعمر.
(١). قوله: «وقرئ: لخسف بنا» يفيد أن القراءة المشهورة: لخسف، مبنيا للمجهول. (ع)
(٢). قوله «لم يعلق الموعد» لعله: الوعد. (ع)
(٣). أخرجه الطبري والواحدي من رواية وكيع عن أشعث السمان عن أبى سلام الأعرج عن على بهذا موقوفا وإسناده ضعيف.
(٤). قال محمود: «لم يعلق الوعد بترك العلو والفساد ولكن بترك إرادتهما، كما قال تعالى وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ فعلق الوعيد بالركون إلى الظلمة. وعن على أن الرجل يعجبه أن يكون شراك نعله خيرا من شراك نعل أخيه فيدخل تحتها. وعن عمر بن عبد العزيز أنه كان يرددها حتى قبض. وعن الفضيل أنه قرأها وقال: ذهبت الأمانى هاهنا. ومن الطماع من يجعل العلو لفرعون والفساد لقارون، لقوله إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وقوله وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ ويقول: من لم يكن مثل فرعون وقارون فله تلك الدار الآخرة، ولا يتدبر قوله وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ كما تدبرها على وعمر والفضيل» قال أحمد: هو تعرض لغمص أهل السنة، فان كل موحد من أهل الجنة، وإنما طمعوا حيث أطمعهم الله تعالى، بل وحقق طمعهم في رحمته حيث يقول رسوله عليه الصلاة والسلام: من قال لا إله إلا الله دخل الجنة وإن زنى وإن سرق... ثلاثا، وفي الثالثة: وإن رغم أنف أبى ذر» اللهم اقسم لنا من رجاء رحمتك ما تعصمنا به من القنوط، ومن خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، والله الموفق للصواب.

[سورة القصص (٢٨) : آية ٨٤]

مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٨٤)
معناه: فلا يجزون، فوضع الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ موضع الضمير، لأن في إسناد عمل السيئة إليهم مكررا. فضل تهجين لحالهم، وزيادة تبغيض للسيئة إلى قلوب السامعين إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ إلا مثل ما كانوا يعملون، وهذا من فضله العظيم وكرمه الواسع أن لا يجزى السيئة إلا بمثلها، ويجزى الحسنة بعشر أمثالها وبسبعمائة، وهو معنى قوله فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها.
[سورة القصص (٢٨) : آية ٨٥]
إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٨٥)
فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ أوجب عليك تلاوته وتبليغه والعمل بما فيه، يعنى: أن الذي حملك صعوبة هذا التكليف لمثيبك عليها ثوابا لا يحيط به الوصف. ولَرادُّكَ بعد الموت إِلى مَعادٍ أى معاد ليس لغيرك من البشر وتنكير المعاد لذلك: وقيل: المراد به مكة: ووجهه أن يراد رده إليها يوم الفتح: ووجه تنكيره أنها كانت في ذلك اليوم معادا له شأن، ومرجعا له اعتداد، لغلبة رسول الله ﷺ عليها، وقهره لأهلها، ولظهور عز الإسلام وأهله وذل الشرك وحزبه. والسورة مكية، فكأن الله وعده وهو بمكة في أذى وغلبة من أهلها: أنه يهاجر به منها، ويعيده إليها ظاهرا ظافرا. وقيل: نزلت عليه حين بلغ الجحفة في مهاجره وقد اشتاق إلى مولده ومولد آبائه وحرم إبراهيم، فنزل جبريل فقال له: أتشتاق إلى مكة؟ قال: نعم، فأوحاها إليه. فإن قلت: كيف اتصل قوله تعالى قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بما قبله؟ قلت: لما وعد رسوله الردّ إلى معاد، قال: قل للمشركين: رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى يعنى نفسه وما يستحقه من الثواب في معاده وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ يعنيهم وما يستحقونه من العقاب في معادهم.
[سورة القصص (٢٨) : آية ٨٦]
وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ (٨٦)
فإن قلت: قوله إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ما وجه الاستثناء فيه؟ قلت: هذا كلام محمول على المعنى، كأنه قيل: وما ألقى عليك الكتاب إلا رحمة من ربك. ويجوز أن يكون إلا بمعنى لكن للاستدراك، أى: ولكن لرحمة من ربك ألقى إليك.

[سورة القصص (٢٨) : آية ٨٧]

وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٨٧)
وقرئ: يصدنك، من أصدّه بمعنى صدّه، وهي في لغة كلب. وقال:
أناس أصدوا النّاس بالسّيف عنهمو صدود السّواقى عن أنوف الحوائم «١»
بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ بعد وقت إنزاله «٢» وإذ تضاف إليه أسماء الزمان، كقولك: حينئذ وليلتئذ ويومئذ وما أشبه ذلك. والنهى عن مظاهرة الكافرين ونحو ذلك من باب التهييج الذي سيق ذكره.
[سورة القصص (٢٨) : آية ٨٨]
وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٨)
إِلَّا وَجْهَهُ إلا إياه. والوجه يعبر به عن الذات.
قال رسول الله ﷺ «من قرأ طسم القصص كان له الأجر بعدد من صدق موسى وكذب به، ولم يبق ملك في السماوات والأرض إلا شهد له يوم القيامة أنه كان صادقا أن كل شيء هالك إلا وجهه، له الحكم وإليه ترجعون» «٣».
(١). تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الثاني صفحة ٥٣٨ فراجعه إن شئت اه مصححه.
(٢). قوله «بعد وقت إنزاله» لعله: إنزالها. (ع)
(٣). أخرجه الثعلبي وابن مردويه. والواحدي من حديث أبى بن كعب بأسانيدهم المتقدم ذكرها.
Icon