تفسير سورة ق

الكشاف أو تفسير الزمخشري
تفسير سورة سورة ق من كتاب الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل المعروف بـالكشاف أو تفسير الزمخشري .
لمؤلفه الزمخشري . المتوفي سنة 538 هـ
مكية‏. ‏ وهى خمس وأربعون آية

وفي قراءة ابن مسعود رضى الله عنه: إذ هداكم. وقرئ: تعلمون، بالتاء والياء، وهذا بيان لكونهم غير صادقين في دعواهم، يعنى أنه عزّ وجل يعلم كل مستتر في العالم ويبصر كل عمل تعملونه في سركم وعلانيتكم، لا يخفى عليه منه شيء، فكيف يخفى عليه ما في ضمائركم ولا يظهر على صدقكم وكذبكم، وذلك أنّ خاله مع كل معلوم واحدة لا تختلف.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة الحجرات أعطى من الأجر بعدد من أطاع الله وعصاه» «١».
سورة ق
مكية [إلا آية ٣٨ فمدنية] وآياتها ٤٥ [نزلت بعد المرسلات] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة ق (٥٠) : الآيات ١ الى ٣]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (١) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ (٢) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (٣)
الكلام في ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُوا نحوه في ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا سواء بسواء، لالتقائهما في أسلوب واحد. والمجيد: ذو المجد والشرف على غيره من الكتب، ومن أحاط علما بمعانيه وعمل بما فيه: مجد عند الله وعند الناس، وهو بسبب من الله المجيد، فجاز اتصافه بصفته. قوله بل عجبوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ إنكار لتعجبهم مما ليس بعجب، وهو أن ينذرهم بالمخوف رجل منهم قد عرفوا وساطته فيهم وعدالته وأمانته، ومن كان على صفته لم يكن إلا ناصحا لقومه مترفرفا «٢» عليهم، خائفا أن ينالهم سوء ويحل بهم مكروه، وإذا علم أنّ مخوفا أظلهم، لزمه أن
(١). أخرجه الثعلبي وابن مردويه والواحدي من طرق عن أبى بن كعب به.
(٢). قوله «مترفرفا عليهم» في الصحاح: فلان يرفنا، أى: يحوطنا، ورفرف الطائر: إذا حرك جناحيه حول الشيء يريد أن يقع عليه. ورف لونه بالفاء رفا ورفيفا: برق وتلألأ. وثوب رفيف وشجر رفيف: إذا تدانت أوراقه. وفيه أيضا: ترقرق الشيء بالقاف: تلألأ. (ع)
ينذرهم ويحذرهم، فكيف بما هو غاية المخاوف ونهاية المحاذير، وإنكار لتعجبهم مما أنذرهم به من البعث، مع علمهم بقدرة الله تعالى على خلق السماوات والأرض وما بينهما، وعلى اختراع كل شيء وإبداعه، وإقرارهم بالنشأة الأولى، ومع شهادة العقل بأنه لا بدّ من الجزاء. ثم عوّل على أحد الإنكارين بقوله تعالى فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ، أَإِذا مِتْنا
دلالة على أن تعجبهم من البعث أدخل في الاستبعاد وأحق بالإنكار، ووضع الكافرون موضع الضمير للشهادة على أنهم في قولهم هذا مقدمون على الكفر العظيم، وهذا إشارة إلى الرجع، وإذا منصوب بمضمر، معناه: أحين نموت ونبلى نرجع؟ ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ مستبعد مستنكر، كقولك:
هذا قول بعيد. وقد أبعد فلان في قوله. ومعناه: بعيد من الوهم والعادة. ويجوز أن يكون الرجع بمعنى المرجوع. وهو الجواب، ويكون من كلام الله تعالى استبعادا لإنكارهم ما أنذروا به من البعث، والوقف قبله على هذا التفسير حسن. وقرئ: إذا متنا، على لفظ الخبر، ومعناه:
إذا متنا بعد أن نرجع، والدال عليه ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ. فإن قلت: فما ناصب الظرف إذا كان الرجع بمعنى المرجوع؟ قلت: ما دل عليه المنذر من المنذر به، وهو البعث
[سورة ق (٥٠) : آية ٤]
قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ (٤)
قَدْ عَلِمْنا ردّ لاستبعادهم الرجع، لأن من لطف علمه حتى تغلغل إلى ما تنقص الأرض من أجساد الموتى وتأكله من لحومهم وعظامهم، كان قادرا على رجعهم أحياء كما كانوا. عن النبي ﷺ «كل ابن آدم يبلى إلا عجب الذنب» «١» وعن السدى ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ ما يموت فيدفن في الأرض منهم كِتابٌ حَفِيظٌ محفوظ من الشياطين ومن التغير، وهو اللوح المحفوظ. أو حافظ لما أودعه وكتب فيه.
[سورة ق (٥٠) : آية ٥]
بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (٥)
بَلْ كَذَّبُوا إضراب أتبع الإضراب الأوّل، للدلالة على أنهم جاءوا بما هو أفظع من تعجبهم، وهو التكذيب بالحق الذي هو النبوّة الثابتة بالمعجزات في أوّل وهلة من غير تفكر ولا تدبر فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ مضطرب. يقال: مرج الخاتم في أصبعه وجرج، فيقولون تارة:
شاعر، وتارة: ساحر، وتارة: كاهن، لا يثبتون على شيء واحد: وقرئ: لما جاءهم، بكسر اللام وما المصدرية، واللام هي التي في قولهم لخمس خلون، أى: عند مجيئه إياهم، وقيل بِالْحَقِّ:
القرآن. وقيل: الإخبار بالبعث.
(١). متفق عليه من حديث أبى صالح عن أبى هريرة وأخرجه الحاكم من حديث أبى سعيد، وزاد «قالوا:
ما هو يا رسول الله؟ قال: هو مثل حبة الخردل، منه ينبتون»
.

[سورة ق (٥٠) : آية ٦]

أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ (٦)
أَفَلَمْ يَنْظُرُوا حين كفروا بالبعث إلى آثار قدرة الله في خلق العالم بَنَيْناها رفعناها بغير عمد مِنْ فُرُوجٍ من فتوق: يعنى أنها ملساء سليمة من العيوب لا فتق فيها ولا صدع ولا خلل، كقوله تعالى: هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ.
[سورة ق (٥٠) : الآيات ٧ الى ٨]
وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٧) تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٨)
مَدَدْناها دحوناها رَواسِيَ جبالا ثوابت لولا هي لتكفأت مِنْ كُلِّ زَوْجٍ من كل صنف بَهِيجٍ يبتهج به لحسنه تَبْصِرَةً وَذِكْرى لتبصر به ونذكر كل عَبْدٍ مُنِيبٍ راجع إلى ربه، مفكر في بدائع خلقه. وقرئ: تبصرة وذكرى بالرفع، أى: خلقها تبصرة.
[سورة ق (٥٠) : الآيات ٩ الى ١١]
وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (٩) وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ (١٠) رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ (١١)
ماءً مُبارَكاً كثير المنافع وَحَبَّ الْحَصِيدِ وحب الزرع الذي من شأنه أن يحصد، وهو ما يقتات به من نحو الحنطة والشعير وغيرهما باسِقاتٍ طوالا في السماء: وفي قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم: باصقات، بإبدال السين صادا لأجل القاف نَضِيدٌ منضود بعضه فوق بعض: إما أن يراد كثرة الطلع وتراكمه، أو كثرة ما فيه من الثمر رِزْقاً على أنبتناها رزقا، لأنّ الإنبات في معنى الرزق. أو على أنه مفعول له، أى: أنبتناها لنرزقهم كَذلِكَ الْخُرُوجُ كما حييت هذه البلدة الميتة، كذلك تخرجون أحياء بعد موتكم، والكاف في محل الرفع على الابتداء:
[سورة ق (٥٠) : الآيات ١٢ الى ١٤]
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (١٢) وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ (١٣) وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (١٤)
أراد بفرعون قومه كقوله تعالى مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ لأنّ المعطوف عليه قوم نوح، والمعطوفات جماعات كُلٌّ يجوز أن يراد به كل واحد منهم، وأن يراد جميعهم، إلا أنه وحد
الضمير الراجع إليه على اللفظ دون المعنى فَحَقَّ وَعِيدِ فوجب وحل وعيدى، وهو كلمة العذاب. وفيه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتهديد لهم.
[سورة ق (٥٠) : آية ١٥]
أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (١٥)
عيى بالأمر: إذا لم يهتد لوجه عمله، والهمزة للإنكار. والمعنى: أنا لم نعجز كما علموا عن الخلق الأول، حتى نعجز عن الثاني، ثم قال: هم لا ينكرون «١» قدرتنا على الخلق الأوّل، واعترافهم بذلك في طيه الاعتراف بالقدرة على الإعادة بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ أى في خلط وشبهة.
قد لبس عليهم الشيطان وحيرهم. ومنه قول على رضى الله عنه: يا حار «٢» إنه لملبوس عليك، اعرف الحق تعرف أهله. ولبس الشيطان عليهم: تسويله إليهم أن إحياء الموتى أمر خارج عن العادة، فتركوا لذلك القياس الصحيح: أن من قدر على الإنشاء كان على الإعادة أقدر. فإن قلت: لم نكر الخلق الجديد، «٣» وهلا عرّف كما عرّف الخلق الأول؟ قلت: قصد في تنكيره إلى خلق جديد له شأن عظيم وحال شديد، حق من سمع به أن يهتم به ويخاف، ويبحث عنه ولا يقعد على لبس في مثله.
[سورة ق (٥٠) : آية ١٦]
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (١٦)
(١). قوله «ثم قال هم لا ينكرون» يعنى كأنه قال ذلك بمعونة الاضراب. وقوله «في طيه الخ» أى يلزمه ذلك وإن لم يقع منهم اللبس. (ع)
(٢). قوله «يا حار إنه لملبوس» لعله ترخيم حارث. (ع)
(٣). وقع في النسخة ما أحكيه وصورته: «فان قلت لم نكر الخلق الجديد... الخ» قال أحمد: هذا كلام كما تراه غير منتظم، والظاهر أنه لفساد في النسخة، والذي يتحرر في الآية- وهو مقتضى تفسير الزمخشري: أن فيها أسئلة ثلاثة: لم عرف الخلق الأول ونكر اللبس والخلق الجديد؟ فاعلم أن التعريف لا غرض منه إلا تفخيم ما قصد تعريفه وتعظيمه، ومنه تعريف الذكور في قوله وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ ولهذا المقصد عرف الخلق الأول، لأن الغرض جعله دليلا على إمكان الخلق الثاني بطريق الأولى أى إذا لم يعي تعالى بالخلق الأول على عظمته، فالخلق الآخر أولى أن لا يعبأ به، فهذا سر تعريف الخلق الأول. وأما التنكير فأمره منقسم: فمرة يقصد به تفخيم المنكر من حيث ما فيه من الإبهام، كأنه أفخم من أن يخاطبه معرفة، ومرة يقصد به التقليل من المنكر والوضع منه، وعلى الأول سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ وقوله لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ وإِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ وقوله بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وهو أكثر من أن يحصى. والثاني: هو الأصل في التنكير، فلا يحتاج إلى تمثيله، فتنكير اللبس من التعظيم والتفخيم، كأنه قال: في لبس أىّ لبس: وتنكير الخلق الجديد للتقليل منه والتهوين لأمره بالنسبة إلى الخلق الأول، ويحتمل أن يكون التفخيم، كأنه أمر أعظم من أن يرضى الإنسان بكونه ملتبسا عليه، مع أنه أول ما تبصر فيه صحته، ولعل إشارة الزمخشري إلى هذا والله أعلم، فهذا كما تراه كلام مناسب لاستطراف أسئلة وأجوبة، فان يكن هو ما أراده الزمخشري فذاك، وإلا فالعق العسل ولا تسل.
382
الوسوسة: الصوت الخفي. ومنها: وسواس الحلي. ووسوسة النفس: ما يخطر ببال الإنسان ويهجس في ضميره من حديث النفس. والباء مثلها في قولك: صوت بكذا وهمس به. ويجوز أن تكون للتعدية والضمير للإنسان، أى: ما تجعله موسوسا، وما مصدرية، لأنهم يقولون:
حدّث نفسه بكذا، كما يقولون: حدثته به نفسه. قال:
وأكذب النّفس إذا حدّثتها «١»
وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مجاز، والمراد: قرب علمه منه، وأنه يتعلق بمعلومه منه ومن أحواله تعلقا لا يخفى عليه شيء من خفياته، فكأن ذاته قريبة منه، كما يقال: الله في كل مكان، وقد جل عن الأمكنة. وحبل الوريد: مثل في فرط القرب، كقولهم: هو منى مقعد القابلة ومعقد الإزار. وقال ذو الرمة:
والموت أدنى لي من الوريد «٢»
والحبل: العرق، شبه بواحد الحبال. ألا ترى إلى قوله:
(١).
وأكذب النفس إذا حدثها إن صدق النفس يزرى بالأمل
غير أن لا تكذبنها في التقى واخزها بالبر لله الأجل
للبيد بن ربيعة، وسئل بشار: أى بيت قالته العرب أشعر؟ فقال تفضيل بيت واحد على الشعر كله غير سديد، ولكنه أحسن لبيد في قوله: وأكذب النفس، يقال: كذبه وصدقه مخففا ومشددا، بمعنى. وما هنا من الأول للوزن، أى: لا تصدقها إذا حدثتك بأمر وحدثتها فيه، لأنها مثبطة عن نيل الفضائل. طامحة إلى الرذائل، وهذا معنى «إن صدق النفس» أى: تصديقها، يزرى بالأمل. يقال: زراه، إذا عابه. وأزرى به: إذا أوقع به العيب، غير أنه الحال والشأن لا تكذبها في تحديثها إياك بالتقى، والخوف من الله، فان مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن. ويجوز أنه ضمير المخاطب، ولا ناهية، وإجراء الكلام على الاستثناء يحتاج إلى تكلف في بيان المستثنى والمستثنى منه، ويمكن إجراؤه على الاستدراك، لكن نصب «غير» يحتاج إلى الحمل على الاستثناء» ويحتمل أن تكون «أن» مصدرية «ولا» نافية أو زائدة، لكن تأكيد الفعل بالنون بعد النهى كثير، وبعد النفي قليل، ومع الإثبات في هذا شاذ أو ضرورة، ولا بد من إجراء الكلام بهذا الوجه على الاستثناء معنى ولفظا.
وقد قال القسطلاني في شرح صحيح البخاري باحتمال النهي والزيادة. وبعضهم باحتمال النفي في قوله ﷺ لعائشة حين حاضت في الحج: «فأقضي ما يقضى الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت» وخزاه يخزوه: قهره وغلبه، أى: واقهرها بالخير لله الأجل الأعظم، وكأن في البر قهرا لها لمشقته عليها عادة.
(٢).
هل أغدون في عيشة رغيد والموت أدنى لي من الوريد
لذي الرمة. والاستفهام إنكارى، أى: لا أكون في عيشة واسعة والحال أن الموت أقرب إلىّ من الوريد.
وروى: أوفى. والمعنى واحد. والوريدان: عرقان في مقدم صفحتي العتق، سميا بذلك لأنهما يردان من الرأس.
ولأن الروح تردهما. وقال: عيشة رغيد، كقوله الله تعالى إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ وإن كان قليلا في فعيل بمعنى فاعل.
383
كأن وريديه رشاءا خلب «١»
والوريدان: عرقان مكتنفان لصفحتى العنق في مقدمهما متصلان بالوتين، يردان من الرأس إليه. وقيل: سمى وريدا لأنّ الروح ترده. فإن قلت: ما وجه إضافة الحبل إلى الوريد، والشيء لا يضاف إلى نفسه؟ قلت: فيه وجهان، أحدهما: أن تكون الاضافة للبيان، كقولهم: بعير سانية. والثاني: أن يراد حبل العاتق فيضاف إلى الوريد، كما يضاف إلى العاتق لاجتماعهما في عضو واحد» كما لو قيل: حبل العلياء «٢» مثلا.
[سورة ق (٥٠) : الآيات ١٧ الى ١٨]
إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (١٧) ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (١٨)
إِذْ منصوب بأقرب، وساغ ذلك لأنّ المعاني تعمل في الظرف متقدّمة ومتأخرة:
والمعنى: أنه لطيف يتوصل علمه إلى خطرات النفس وما لا شيء أخفى منه، وهو أقرب من الإنسان «٣» من كل قريب حين يتلقى الحفيظان ما يتلفظ به، إيذانا بأن استحفاظ الملكين أمر هو غنى عنه، وكيف لا يستغنى عنه وهو مطلع على أخفى الخفيات؟ وإنما ذلك لحكمة اقتضت ذلك: وهي ما في كتبة الملكين وحفظهما، وعرض صحائف العمل يوم يقوم الأشهاد.
وعلم العبد بذلك مع علمه بإحاطة الله بعمله: من زيادة لطف له في الانتهاء عن السيئات والرغبة في الحسنات. وعن النبي ﷺ «إنّ مقعد ملكيك على ثنيتيك، ولسانك قلمهما، وريقك مدادهما، وأنت تجرى فيما لا يعنيك لا تستحي من الله تعالى ولا منهما» «٤» ويجوز أن يكون تلقى الملكين بيانا للقرب، يعنى: ونحن قريبون منه مطلعون على أحواله مهيمنون عليه، إذ حفظتنا وكتبتنا موكلون به، والتلقي: التلقن بالحفظ والكتبة. والقعيد: القاعد،
(١).
غضنفر تلقاء عند الغضب كأن وريديه رشاءا خلب
لرؤبة. والغضنفر: الأسد. والوريدان: عرقان يردان من الرأس يكتنفان الحلقوم. وقيل: تردهما الروح.
والرشاءان: حبلان للاستقاء. والخلب- بضمتين، وقد يسكن-: اللب والماء المخلوط بالطين. ويجوز أن يراد به هنا البئر الكدرة: شبه الشجاع بالأسد، وشبه وريديه عند الغضب بالرشاءين، وكأن هنا عاملة، وهي مخففة، وهو قليل، والكثير إهمالها.
(٢). قوله «لو قيل حبل العلباء» هي عصب العنق، كما في الصحاح. (ع)
(٣). قوله «وهو أقرب من الإنسان» يقال: قرب من الشيء كما يقال: قرب إليه. (ع)
(٤). أخرجه الثعلبي من رواية جميل بن الحسن عن أرطاه بن الأشعث العدوى عن جعفر بن محمد عن أبيه عن على رضى الله عنه عن النبي ﷺ قال «مقعد ملكيك» فذكره.
كالجليس بمعنى الجالس، وتقديره: عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد من المتلقيين، فترك أحدهما لدلالة الثاني عليه، كقوله:
... كنت منه ووالدي... بريّا....... «١»..
رَقِيبٌ ملك يرقب عمله عَتِيدٌ حاضر، واختلف فيما يكتب الملكان، فقيل: يكتبان كل شيء حتى أنينه في مرضه. وقيل: لا يكتبان إلا ما يؤجر عليه أو يؤزر به. ويدل عليه قوله عليه السلام «كاتب الحسنات على يمين الرجل وكاتب السيئات على يسار الرجل، وكاتب الحسنات أمين على كاتب السيئات، فإذا عمل حسنة كتبها ملك اليمين عشرا، وإذا عمل سيئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال: دعه سبع ساعات لعله يسبح أو يستغفر» «٢» وقيل: إنّ الملائكة يجتنبون الإنسان عند غائطه وعند جماعه. وقرئ: ما يلفظ، على البناء للمفعول.
[سورة ق (٥٠) : الآيات ١٩ الى ٢٢]
وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (١٩) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (٢٠) وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ (٢١) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (٢٢)
لما ذكر إنكارهم البعث واحتج عليهم بوصف قدرته وعلمه، أعلمهم أن ما أنكروه وجحدوه هم لا قوه عن قريب عند موتهم وعند قيام الساعة، ونبه على اقتراب ذلك بأن عبر عنه بلفظ الماضي، وهو قوله وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ونفخ في الصور، وسكرة الموت:
شدّته الذاهبة بالعقل. والباء في بالحق للتعدية، يعنى: وأحضرت سكرة الموت حقيقة الأمر الذي أنطق الله به كتبه وبعث به رسله. أو حقيقة الأمر وجلية الحال: من سعادة الميت وشقاوته. وقيل: الحق الذي خلق له الإنسان، من أن كل نفس ذائقة الموت. ويجوز أن تكون الباء مثلها في قوله تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ أى وجاءت ملتبسة بالحق، أى: بحقيقة الأمر. أو
(١). تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الثاني صفحة ٥٢ فراجعه إن شئت اه مصححه. [.....]
(٢). أخرجه الثعلبي والبغوي من طريق جعفر عن القاسم عن أبى أمامة. ومن هذا الوجه أخرجه الطبراني.
وأخرجه البيهقي من هذا الوجه. ومن رواية بشر بن نمير عن القاسم نحوه. وأخرجه الطبراني من رواية ثور بن يزيد عن القاسم نحوه. وروى أبو نعيم في الحلية وابن مردويه من طريق إسماعيل بن عياش عن عاصم بن رجاء عن عروة بن رديم، عن القاسم عن أبى أمامة وعند الطبري من طريق على بن جرير عن حماد بن سلمة عن عبد الحميد بن جعفر عن كنانة، قال «دخل عثمان بن عفان على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: يا رسول الله، كم مع العبد ملك؟ - الحديث»
بالحكمة والغرض الصحيح، كقوله تعالى خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وقرأ أبو بكر وابن مسعود رضى الله عنهما: سكرة الحق بالموت، على إضافة السكرة إلى الحق والدلالة على أنها السكرة التي كتبت على الإنسان وأوجبت له، وأنها حكمة، والباء للتعدية، لأنها سبب زهوق الروح لشدتها، أو لأنّ الموت يعقبها، فكأنها جاءت به. ويجوز أن يكون المعنى: جاءت ومعها الموت. وقيل سكرة الحق سكرة الله، أضيفت إليه تفظيعا لشأنها وتهويلا. وقرئ: سكرات الموت ذلِكَ إشارة إلى الموت، والخطاب للإنسان في قوله وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ على طريق الالتفات. أو إلى الحق والخطاب للفاجر تَحِيدُ تنفر وتهرب. وعن بعضهم: أنه سأل زيد بن أسلم عن ذلك فقال: الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فحكاه لصالح بن كيسان فقال: والله ما سنّ عالية ولا لسان فصيح ولا معرفة بكلام العرب، هو للكافر. ثم حكاهما للحسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس فقال: أخالفهما جميعا: هو للبر والفاجر ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ على تقدير حذف المضاف، أى: وقت ذلك يوم الوعيد، والإشارة إلى مصدر نفخ سائِقٌ وَشَهِيدٌ ملكان: أحدهما يسوقه إلى المحشر، والآخر يشهد عليه بعمله. أو ملك واحد جامع بين الأمرين، كأنه قيل: معها ملك يسوقها ويشهد عليها، ومحل مَعَها سائِقٌ النصب على الحال من كل لتعرّفه بالإضافة إلى ما هو في حكم المعرفة. قرئ: لقد كنت. عنك غطاءك فبصرك، بالكسر على خطاب النفس، أى: يقال لها لقد كنت. جعلت الغفلة كأنها غطاء غطى به جسده كله أو غشاوة غطى بها عينيه فهو لا يبصر شيئا، فإذا كان يوم القيامة تيقظ وزالت الغفلة عنه وغطاؤها فيبصر ما لم يبصره من الحق. ورجع بصره الكليل عن الإبصار لغفلته:
حديدا لتيقظه.
[سورة ق (٥٠) : آية ٢٣]
وَقالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ (٢٣)
وَقالَ قَرِينُهُ هو الشيطان الذي قيض له في قوله نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ يشهد له قوله تعالى قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ. هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ هذا شيء لدىّ وفي ملكتي عتيد لجهنم. والمعنى: أن ملكا يسوقه وآخر يشهد عليه، وشيطانا مقرونا به، يقول: قد أعتدته لجهنم وهيأته لها بإغوائى وإضلالى. فإن قلت: كيف إعراب هذا الكلام؟ قلت:
إن جعلت ما موصوفة، فعتيد: صفة لها: وإن جعلتها موصولة، فهو بدل، أو خبر بعد خبر. أو خبر مبتدأ محذوف.
[سورة ق (٥٠) : الآيات ٢٤ الى ٢٦]
أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (٢٤) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (٢٥) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ (٢٦)
أَلْقِيا خطاب من الله تعالى للملكين السابقين: السائق والشهيد: ويجوز أن يكون خطابا للواحد على وجهين: أحدهما قول المبرد: أن تثنية الفاعل نزلت منزلة تثنية الفعل لا تحادهما، كأنه قيل: ألق ألق: للتأكيد. والثاني: أنّ العرب أكثر ما يرافق الرجل منهم اثنان، فكثر على ألسنتهم أن يقولوا: خليلىّ وصاحبيّ، وقفا وأسعدا، حتى خاطبوا الواحد خطاب الاثنين عن الحجاج أنه كان يقول: يا حرسى، اضربا عنقه. وقرأ الحسن: ألقين، بالنون الخفيفة.
ويجوز أن تكون الألف في أَلْقِيا بدلا من النون: إجراء للوصل مجرى الوقف عَنِيدٍ معاند مجانب للحق معاد لأهله مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ كثير المنع للمال عن حقوقه، جعل ذلك عادة له لا يبذل منه شيئا قط. أو مناع لجنس الخير أن يصل إلى أهله يحول بينه وبينهم. قيل: نزلت في الوليد بن المغيرة، كان يمنع بنى أخيه من الإسلام، وكان يقول: من دخل منكم فيه لم أنفعه بخير ما عشت مُعْتَدٍ ظالم متخط للحق مُرِيبٍ شاك في الله وفي دينه الَّذِي جَعَلَ مبتدأ مضمن معنى الشرط، ولذلك أجيب بالفاء. ويجوز أن يكون الَّذِي جَعَلَ منصوبا بدلا من كُلَّ كَفَّارٍ ويكون فَأَلْقِياهُ تكريرا للتوكيد.
[سورة ق (٥٠) : آية ٢٧]
قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (٢٧)
فإن قلت: لم أخليت هذه الجملة عن الواو وأدخلت على الأولى؟ قلت: لأنها استؤنفت كما تستأنف الجمل الواقعة في حكاية التقاول كما رأيت في حكاية المقاولة بين موسى وفرعون. فإن قلت، فأين التقاول هاهنا؟ قلت: لما قال قرينه هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ وتبعه قوله قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وتلاه لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ: علم أنّ ثم مقاولة من الكافر، لكنها طرحت لما يدل عليها، كأنه قال: رب هو أطغانى، فقال قرينه: ربنا ما أطغيته. وأمّا الجملة الأولى فواجب عطفها للدلالة على الجمع بين معناها ومعنى ما قبلها في الحصول، أعنى مجيء كل نفس مع الملكين: وقول قرينه ما قال له ما أَطْغَيْتُهُ ما جعلته طاغيا، وما أوقعته في الطغيان، ولكنه طغى واختار الضلالة على الهدى كقوله تعالى: وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي.
[سورة ق (٥٠) : الآيات ٢٨ الى ٢٩]
قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (٢٨) ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٢٩)
قالَ لا تَخْتَصِمُوا استئناف مثل قوله قالَ قَرِينُهُ كأن قائلا قال: فماذا قال الله؟ فقيل:
قال لا تختصموا. والمعنى: لا تختصموا في دار الجزاء وموقف الحساب، فلا فائدة في اختصامكم ولا طائل تحته، وقد أوعدتكم بعذابي على الطغيان في كتبي وعلى ألسنة رسلي، فما تركت لكم
حجة علىّ، ثم قال: لا تطمعوا أن أبدل قولي ووعيدى فأعفيكم عما أوعدتكم به وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ فأعذب من ليس بمستوجب للعذاب. والباء في بِالْوَعِيدِ مزيدة مثلها في وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ أو معدية، على أن «قدّم» مطاوع بمعنى «تقدّم» ويجوز أن يقع الفعل على جملة قوله ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ويكون بِالْوَعِيدِ حالا، أى: قدّمت إليكم هذا ملتبسا بالوعيد مقترنا به. أو قدّمته إليكم موعدا لكم به. فإن قلت: إنّ قوله وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ واقع موقع الحال من لا تَخْتَصِمُوا والتقديم بالوعيد في الدنيا والخصومة في الآخرة واجتماعها في زمان واحد واجب. قلت: معناه ولا تختصموا وقد صح عندكم أنى قدمت إليكم بالوعيد، وصحة ذلك عندهم في الاخرة. فإن قلت: كيف قال بِظَلَّامٍ على لفظ المبالغة «١» ؟
قلت: فيه وجهان، أحدهما: أن يكون من قولك: هو ظالم لعبده، وظلام لعبيده. والثاني:
أن يراد لو عذبت من لا يستحق العذاب لكنت ظلاما مفرط الظلم، فنفى ذلك.
[سورة ق (٥٠) : آية ٣٠]
يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (٣٠)
قرئ: نقول، بالنون والياء. وعن سعيد بن جبير: يوم يقول الله لجهنم. وعن ابن مسعود والحسن: يقال. وانتصاب اليوم بظلام أو بمضمر، نحو: أذكر وأنذر. ويجوز أن ينتصب بنفخ، كأنه قيل. ونفخ في الصور يوم نقول لجهنم. وعلى هذا يشار بذلك إلى يوم نقول، ولا يقدّر حذف المضاف. وسؤال جهنم وجوابها من باب التخييل «٢» الذي يقصد به تصوير
(١). قال محمود: «إن قلت كيف جاء على لفظ المبالغة... الخ» قال أحمد: وذكر فيه وجهان آخران، أحدهما أن فعالا قد ورد بمعنى فاعل، فهذا منه. الثاني: أن المنسوب في المعتاد إلى الملوك من الظلم تحت ظلمهم: إن عظيما فعظيم، وإن قليلا فقليل، فلما كان ملك الله تعالى على كل شيء ملكه قدس ذاته عما يتوهم مخذول والعياذ بالله أنه منسوب إليه من ظلم تحت شمول كل موجود، ولقد بدل القدرية فتوهموا أن الله تعالى لم يأمر إلا بما أراده وبما هو من خلق العبد، بناء على أنه لو كلف على خلاف ما أراد وبما ليس من خلق العبد لكان تكليفا بما لا يطاق، واعتقدوا أن ذلك ظلم في الشاهد، فلو ثبت في الغائب لكان كما هو في الشاهد ظلما، والله تعالى مبرأ من الظلم. ألا ترى هذا المعتقد كيف لزمهم عليه أن يكون الله تعالى ظلاما لعبيده، تعالى الله عن ذلك، لأن الحق الذي قامت بصحته البراهين: هو عين ما اعتقدوه ظلما فنفوه، فلمثلهم وردت هذه الآية وأشباهها، لتبين الناس ما نزل إليهم، ولئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، والله الموفق للصواب.
(٢). قال محمود: «سؤال جهنم وجوابها من باب التخييل الذي يقصد به تصوير المعنى... الخ» قال أحمد: قد تقدم إنكارى عليه إطلاق التخييل في غير ما موضع، والنكير هاهنا أشد عليه، فان إطلاق التخييل قد مضى له في مثل قوله وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وفي مثل قوله بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ وإنما أراد به حمل الأيدى على نوع من المجاز، فمعنى كلامه صحيح، لأنا نعتقد فيهما المجاز، وندين الله بتقديسه عن المفهوم الحقيقي، فلا بأس عليه في معنى إطلاقه، غير أنا مخاطبون باجتناب الألفاظ الموهمة في حق جلال الله تعالى وإن كانت معانيها صحيحة، وأى إيهام أشد من إيهام لفظ التخييل. ألا ترى كيف استعمله الله فيما أخبر أنه سحر وباطل في قوله يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى فلا يشك في وجوب اجتنابه، ثم يعود بنا الكلام إلى إطلاقه هاهنا فنقول: هو منكر لفظا ومعنى.
أما اللفظ فقد تقدم، وأما المعنى فلأنا نعتقد أن سؤال جهنم وجوابها حقيقة، وأن الله تعالى يخلق فيها الإدراك بذلك بشرطه، وكيف نفرض وقد وردت الأخبار وتظاهرت على ذلك: منها هذا: ومنها: لجاج الجنة والنار.
ومنها: اشتكاؤها إلى ربها فأذن لها في نفسين. وهذه وإن لم تكن نصوصا فظواهر يجب حملها على حقائقها، لأنا متعبدون باعتقاد الظاهر ما لم يمنع مانع، ولا مانع هاهنا «فان القدرة صالحة. والعقل يجوز، والظواهر قاضية بوقوع ما صوره العقل، وقد وقع مثل هذا قطعا في الدنيا، كتسليم الشجر وتسبيح الحصا في كف النبي ﷺ وفي يد أصحابه، ولو فتح باب المجاز والعدول عن الظواهر في تفاصيل المقالة لا تسع الخرق وضل كثير من الخلق عن الحق، وليس هذا كالظواهر الواردة في الإلهيات مما لم يجوز العقل اعتقاد ظاهرها، فان العدول فيها عن ظاهر الكلام بضرورة الانقياد إلى أدلة العقل المرشدة إلى المعتقد الحق، فاشدد يدك بما فصل في هذا الفصل، مما أرشدتك به إلى منهج القرب والوصل، والله الموفق.
المعنى في القلب وتثبيته، وفيه معنيان، أحدهما: أنها تمتلئ مع اتساعها وتباعد أطرافها حتى لا يسعها شيء «١» ولا يزاد على امتلائها، لقوله تعالى لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ والثاني: أنها من السعة بحيث يدخلها من يدخلها وفيها موضع للمزيد. ويجوز أن يكون هَلْ مِنْ مَزِيدٍ استكثارا للداخلين فيها واستبداعا للزيادة «٢» عليهم لفرط كثرتهم. أو طلبا للزيادة غيظا على العصاة. والمزيد:
إما مصدر كالمحيد والمميد، وإما اسم مفعول كالمبيع.
[سورة ق (٥٠) : الآيات ٣١ الى ٣٥]
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (٣١) هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (٣٢) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (٣٣) ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (٣٤) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ (٣٥)
غَيْرَ بَعِيدٍ نصب على الظرف، أى: مكانا غير بعيد. أو على الحال، وتذكيره لأنه على زنة المصدر، كالزئير والصليل، والمصادر يستوي في الوصف بها المذكر والمؤنث. أو على حذف الموصوف، أى: شيئا غير بعيد، ومعناه التوكيد، كما تقول: هو قريب غير بعيد، وعزيز غير ذليل. وقرئ: توعدون بالتاء والياء، وهي جملة اعتراضية. ولِكُلِّ أَوَّابٍ بدل من قوله للمتقين، بتكرير الجارّ كقوله تعالى لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ، وهذا إشارة إلى الثواب. أو إلى مصدر أزلفت. والأوّاب: الرجاع إلى ذكر الله تعالى، والحفيظ:
الحافظ لحدوده تعالى. ومَنْ خَشِيَ بدل بعد بدل تابع لكل. ويجوز أن يكون بدلا عن موصوف أوّاب وحفيظ، ولا يجوز أن يكون في حكم أوّاب وحفيظ، لأنّ من لا يوصف به
(١). قوله «حتى لا يسعها شيء» كأن فيه قلبا. (ع)
(٢). قوله «واستيداعا للزيادة» لعله واستبعادا. (ع)
ولا يوصف من بين الموصولات إلا بالذي وحده. ويجوز أن يكون مبتدأ خبره: يقال لهم ادخلوها بسلام، لأنّ مَنْ في معنى الجمع. ويجوز أن يكون منادى كقولهم: من لا يزال محسنا أحسن إلىّ، وحذف حرف النداء للتقريب بِالْغَيْبِ حال من المفعول، أى: خشيه وهو غائب لم يعرفه، وكونه معاقبا إلا بطريق الاستدلال. أو صفة لمصدر خشي، أى خشيه خشية ملتبسة بالغيب، حيث خشي عقابه وهو غائب، أو خشيه بسبب الغيب الذي أوعده به من عذابه. وقيل: في الخلوة حيث لا يراه أحد. فإن قلت: كيف قرن بالخشية اسمه الدال على سعة الرحمة؟ «١» قلت: للثناء البليغ على الخاشى وهو خشيته، مع علمه أنه الواسع الرحمة، كما أثنى عليه بأنه خاش، مع أنّ المخشى منه غائب، ونحوه وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ فوصفهم بالوجل مع كثرة الطاعات. وصف القلب بالإنابة وهي الرجوع إلى الله تعالى، لأنّ الاعتبار بما ثبت منها في القلب. يقال لهم ادْخُلُوها بِسَلامٍ أى سالمين من العذاب وزوال النعم.
أو مسلما عليكم يسلم عليكم الله وملائكته ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ أى يوم تقدير الخلود، كقوله تعالى فَادْخُلُوها خالِدِينَ أى مقدرين الخلود وَلَدَيْنا مَزِيدٌ هو ما لم يخطر ببالهم ولم تبلغه أمانيهم، حتى يشاؤه. وقيل: إن السحاب تمرّ بأهل الجنة فتمطرهم الحور، فتقول: نحن المزيد الذي قال الله عز وجل: وَلَدَيْنا مَزِيدٌ.
[سورة ق (٥٠) : آية ٣٦]
وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (٣٦)
فَنَقَّبُوا وقرئ بالتخفيف: فخرقوا في البلاد ودوّخوا «٢». والتنقيب: التنقير عن الأمر والبحث والطلب. قال الحرث بن حلزة:
نقّبوا في البلاد من حذر الموت وجالوا في الأرض كلّ مجال «٣»
ودخلت الفاء للتسبيب عن قوله هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً أى: شدّة بطشهم أبطرتهم وأقدرتهم على التنقيب وقوّتهم عليه. ويجوز أن يراد: فنقب أهل مكة في أسفارهم ومسايرهم في بلاد القرون،
(١). قال محمود: «إن قلت: كيف قرن الخشية باسمه الدال على سعة الرحمة... الخ» قال أحمد: ومن هذا الوادي بالغ رسول الله ﷺ في الثناء على صهيب بقوله: «نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه».
(٢). قوله «ودوخوا» الذي في الصحاح: أن دوخ البلاد بمعنى قهرها واستولى على أهلها. (ع)
(٣). للحرث بن كلدة. والنقب: الطريق. ونقبوا، أى: ساروا في طرق البلاد ونقروا وفتشوا على مهرب وملجأ، لأجل حذرهم من الموت. وجالوا، أى: ذهبوا في الأرض. والجول: الناحية والجانب، أى: ساروا في نواحي الأرض وجوانبها، كل مجال، أى: كل طريق، أو كل جولان، لأن مفعل صالح للمكان والحدث.
فهل رأوا لهم محيصا حتى يؤملوا مثله لأنفسهم، والدليل على صحته قراءة من قرأ فَنَقَّبُوا على الأمر، كقوله تعالى فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ وقرئ بكسر القاف مخففة من النقب وهو أن يتنقب خف البعير. قال:
ما مسّها من نقب ولا دبر «١»
والمعنى: فنقبت أخفاف إبلهم. أو: حفيت أقدامهم ونقبت، كما تنقب أخفاف الإبل لكثرة طوفهم في البلاد هَلْ مِنْ مَحِيصٍ من الله، أو من الموت.
[سورة ق (٥٠) : آية ٣٧]
إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (٣٧)
لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أى قلب واع، لأنّ من لا يعي قلبه فكأنه لا قلب له. وإلقاء السمع:
الإصغاء وَهُوَ شَهِيدٌ أى حاضر بفطنته، لأنّ من لا يحضر ذهنه فكأنه غائب، وقد ملح الإمام عبد القاهر في قوله لبعض من يأخذ عنه:
ما شئت من زهزهة والفتى... بمصقلاباذ لسقى الزروع «٢»
(١).
أقسم بالله أبو حفص عمر... ما مسها من نقب ولا دبر
اغفر له اللهم إن كان فجر
لأعرابى: شكا إلى عمر رضى الله عنه ضعف ناقته، فأعطاه شيئا من الدقيق ولم يعطه مطية، فولى يقول ذلك، فأعطاه مراده. ومن زائدة في الفاعل، مفيدة للمبالغة في الاستغراق. والنقب- كالتعب-: ضرر خف البعير من الحفا، ويطلق على الجرب والحكة ورقة الجلد. والدبر كالتعب أيضا: انجراح مؤخر الظهر من الحمل ونحوه، ووقوع ألف الوصل أول المصراع سائغ، لأنها محل ابتداء، كما نص عليه الخليل، والمراد بالفجور: الحنث.
(٢).
يجيء في فضلة وقت له... مجيء من شاب الهوى بالنزوع
ثم يرى جبلة مشبوبة... قد شددت أحماله بالنسوع
ما شئت من زهزهة والفتى... بمصقلاباذ لسقى الزروع
ملح ولمح به الامام عبد القاهر في بعض من يأخذ عنه ولا يحضر ذهنه، وهو أبو عامر الجرجاني، أى: يجيء في بقية وقت له مع تعلق فكره بغير ما جاء له، كمجيء من خلط الهوى بالنزوع، أى الرجوع ويطلق النزوع على الشوق أيضا، ثم يرى خلقة وطبيعة غليظة مشعلة بشهوات الشباب. والجبلة- بكسرتين فتشديد، وبتثليث أوله وسكون ثانيه-: الخلقة والطبيعة، ولعلها مضافة لما بعدها إضافة الموصوف لصفته. ويقال: شب يشب ويشب شبابا وشبيا: قمص ولعب. وشببت النار شبا وشبوبا: أوقدتها. وشببته: أظهرته. وأشببته: هيجته. ويروى:
ثم ترى جلسة مستوفز، أى: مستعجل متهيأ للقيام. وهذه الرواية أوفق بالوزن والمعنى. والنسع: حزام عريض يوضع تحت صدر المطية، وستر الهودج، واسترخاء لحم الأسنان، وريح الشمال، والذهاب، وسرعة الانبات.
وجمعه: أنساع ونسوع ونسع. أى: والحال أنه قد شددت أحماله بالنسوع، كناية عن الرحيل. ويقول الفارسي عند استحسان الأمر: زهازه، فأخذ منه الزهزهة، أى: ما شئت من الاستحسان عند التعلم موجود منه كثير، والخطاب لغير معين، والحال أن الفتى في مصقلاباد، وهي محلة بجرجان، ويروى بالذال المعجمة، أى: كائن هناك لسقى زروعه. لما كان قلبه غير متعلق إلا بذلك المكان، كان جسمه كأنه هناك، ولقد ترقى في التشبيه حيث شبهه بمن خلط الهوى بغيره تشبيها بليغا. ثم بمن تهيأ للرحيل على سبيل التمثيل، ثم بمن سافر بالفعل ووصل مقصده واشتغل بما فيه تشبيها بليغا، فلله دره بليغا.
أو: وهو مؤمن شاهد على صحته وأنه وحى من الله، أو وهو بعض الشهداء في قوله تعالى لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وعن قتادة وهو شاهد على صدقه من أهل الكتاب لوجود نعته عنده وقرأ السدى وجماعة: ألقى السمع، على البناء للمفعول. ومعناه: لمن ألقى غيره السمع وفتح له أذنه فحسب ولم يحضر ذهنه وهو حاضر الذهن متفطن. وقيل: ألقى سمعه أو السمع منه.
[سورة ق (٥٠) : آية ٣٨]
وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ (٣٨)
اللغوب: الإعياء. وقرئ بالفتح بزنة القبول والولوع. قيل: نزلت في اليهود لعنت تكذيبا لقولهم: خلق الله السماوات والأرض في ستة أيام أوّلها الأحد وآخرها الجمعة، واستراح يوم السبت واستلقى على العرش. وقالوا: إنّ الذي وقع من التشبيه في هذه الأمة إنما وقع من اليهود ومنهم أخذ.
[سورة ق (٥٠) : الآيات ٣٩ الى ٤٣]
فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (٣٩) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ (٤٠) وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (٤١) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (٤٢) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (٤٣)
فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ أى اليهود ويأتون به من الكفر والتشبيه. وقيل: فاصبر على ما يقول المشركون من إنكارهم البعث، فإنّ من قدر على خلق العالم قدر على بعثهم والانتقام منهم. وقيل: هي منسوخة بآية السيف. وقيل: الصبر مأمور به في كل حال بِحَمْدِ رَبِّكَ حامدا ربك، والتسبيح محمول على ظاهره أو على الصلاة، فالصلاة قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ الفجر وَقَبْلَ الْغُرُوبِ الظهر والعصر وَمِنَ اللَّيْلِ العشا آن. وقيل التهجد وَأَدْبارَ السُّجُودِ التسبيح في آثار الصلوات، والسجود والركوع يعبر بهما عن الصلاة. وقيل النوافل بعد المكتوبات. وعن على رضى الله عنه: الركعتان بعد المغرب. وروى عن النبي ﷺ «من صلى بعد المغرب قبل أن يتكلم كتبت صلاته في عليين» «١» وعن ابن عباس رضى الله
(١). أخرجه ابن أبى شيبة وعبد الرزاق من رواية عبد العزيز بن عمر: سمعت مكحولا يقول: بلغني أن النبي ﷺ قال «من صلى ركعتين بعد المغرب قبل أن يتكلم كتبتا- أو قال رفعتا- في عليين» هذا مرسل. وقد روى موصولا عن أنس عن عائشة رضى الله عنهما. أما حديث أنس فرواه الدارقطني في غرائب مالك، من رواية أحمد بن سليمان الأسدى عنه عن الزهري عن أنس به وأتم منه. وقال. هذا موضوع على مالك. وأما حديث عائشة فرواه ابن شاهين في الترغيب. وفي إسناده جعفر بن جميع
عنهما: الوتر بعد العشاء. والأدبار: جمع دبر. وقرئ: وأدبار، من أدبرت الصلاة إذا انقضت وتمت. ومعناه: ووقت انقضاء السجود، كقولهم: آتيك خفوق النجم وَاسْتَمِعْ يعنى واستمع لما أخبرك به من حال يوم القيامة. وفي ذلك تهويل وتعظيم لشأن المخبر به والمحدّث عنه، كما يروى عن النبي ﷺ أنه قال سبعة أيام لمعاذ بن جبل: «يا معاذ اسمع ما أقول لك»، ثم حدّثه بعد ذلك «١». فإن قلت: بم انتصب اليوم؟ قلت: بما دل عليه ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ أى:
يوم ينادى المنادى يخرجون من القبور. ويوم يسمعون: بدل من يَوْمَ يُنادِ والْمُنادِ إسرافيل ينفخ في الصور وينادى: أيتها العظام البالية والأوصال المنقطعة واللحوم المتمزقة والشعور المتفرّقة إنّ الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء. وقيل: إسرافيل ينفخ وجبريل ينادى بالحشر مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ من صخرة بيت المقدس، وهي أقرب الأرض من السماء باثنى عشر ميلا، وهي وسط الأرض. وقيل: من تحت أقدامهم. وقيل: من منابت شعورهم يسمع من كل شعرة: أيتها العظام البالية- والصَّيْحَةَ النفخة الثانية بِالْحَقِّ متعلق بالصيحة، والمراد به البعث والحشر للجزاء.
[سورة ق (٥٠) : آية ٤٤]
يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ (٤٤)
وقرئ: تشقق، وتشقق بإدغام التاء في الشين، وتشقق على البناء للمفعول، وتنشق سِراعاً حال من المجرور عَلَيْنا يَسِيرٌ تقديم الظرف يدل على الاختصاص، يعنى: لا يتيسر مثل ذلك الأمر العظيم إلا على القادر الذات الذي لا يشغله شأن عن شأن، كما قال تعالى ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ.
[سورة ق (٥٠) : آية ٤٥]
نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ (٤٥)
نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ تهديد لهم وتسلية لرسول الله ﷺ بِجَبَّارٍ كقوله تعالى بِمُصَيْطِرٍ حتى تقسرهم على الإيمان، إنما أنت داع وباعث «٢». وقيل: أريد التحلم عنهم وترك الغلظة عليهم. ويجوز أن يكون من جبره على الأمر بمعنى أجبره عليه، أى: ما أنت
(١). لم أجده.
(٢). قوله «إنما أنت داع وباعث» أى: تبعث الناس على الايمان. (ع)
Icon