تفسير سورة ق

تفسير السمعاني
تفسير سورة سورة ق من كتاب تفسير السمعاني المعروف بـتفسير السمعاني .
لمؤلفه أبو المظفر السمعاني . المتوفي سنة 489 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

تفسير سورة ق
قال الشيخ الإمام رضي الله عنه : هي مكية.

قَوْله تَعَالَى: ﴿ق﴾ قَالَ قَتَادَة: هُوَ اسْم من أَسمَاء السُّورَة، وَقَالَ مُجَاهِد: ﴿ق﴾ جبل مُحِيط بالدنيا من زمردة خضراء [مِنْهُ] خضرَة السَّمَاء، وَمن خضرَة السَّمَاء خضرَة الْبحار، وَحكي مثل هَذَا عَن ابْن عَبَّاس، وَفِي رِوَايَة: أَن جبل " ق " من زبرجد أَخْضَر، وَالسَّمَاء مقببة عَلَيْهِ، والجبل مُحِيط بالدنيا، فَإِذا أَرَادَ الله تَعَالَى أَن يزلزل الأَرْض حرك ذَلِك الْجَبَل فتزلزلت الأَرْض، وَهَذَا عِنْد قيام السَّاعَة.
وَفِي الْآيَة قَول آخر: قَالَ عِكْرِمَة: إِن " ق " من القاهر.
وَفِيه قَول رَابِع: أَن مَعْنَاهُ: قضي مَا كَانَ مثل قَوْله: " حم " أَي: حم مَا كَانَ.
وَقَوله: ﴿وَالْقُرْآن الْمجِيد﴾ أَي: عَظِيم الْكَرم، وَيُقَال: الْكَرِيم.
يُقَال: تماجد الْقَوْم إِذا تفاخروا بِالْكَرمِ، وأظهروه من أنفسهم، وَقيل: " وَالْقُرْآن الْمجِيد ": أَي: الرفيع، وَمَعْنَاهُ: رفيع الْقدر والمنزلة.
فَقَوله: ﴿وَالْقُرْآن الْمجِيد﴾ قسم، فَإِن قيل: أَيْن جَوَاب الْقسم؟
وَالْجَوَاب: أَنهم اخْتلفُوا فِيهِ، مِنْهُم من قَالَ: جَوَاب الْقسم قَوْله: ﴿قد علمنَا مَا تنقص الأَرْض مِنْهُم﴾ أَي: لقد علمنَا.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن جَوَاب الْقسم مَحْذُوف، وَمَعْنَاهُ: ﴿ق وَالْقُرْآن الْمجِيد﴾ لتبعثن.
وَالْقَوْل الثَّالِث: فِي الْآيَة تَقْدِيم وَتَأْخِير، وَمَعْنَاهُ:
﴿بل عجبوا أَن جَاءَهُم مُنْذر مِنْهُم﴾ أَي: مُحَمَّد.
234
﴿عَجِيب (٢) أئذا متْنا وَكُنَّا تُرَابا ذَلِك رَجَعَ بعيد (٣) قد علمنَا مَا تنقص الأَرْض مِنْهُم وَعِنْدنَا كتاب حفيظ (٤) بل كذبُوا بِالْحَقِّ لما جَاءَهُم فهم ي أَمر مريج (٥)
وَقَوله: {فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْء عَجِيب﴾
وتعجبهم كَانَ من الْبَعْث بعد الْمَوْت، وَهُوَ تعجب من غير عجب، والتعجب من غير عجب مستنكر مستقبح.
235
قَوْله تَعَالَى: ﴿أئذا متْنا وَكُنَّا تُرَابا﴾ مَعْنَاهُ: أنبعث إِذا متْنا وَكُنَّا تُرَابا، قَالُوهُ على طَرِيق الْإِنْكَار.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿ذَلِك رَجَعَ بعيد﴾ أَي: رُجُوع يبعد كَونه.
قَوْله تَعَالَى: ﴿قد علمنَا مَا تنقص الأَرْض مِنْهُم﴾ قَالَ الْحسن أَي: يَمُوت مِنْهُم، وَقَالَ مُجَاهِد: مَا تَأْكُل الأَرْض من لحومهم وجلودهم. وَعَن بَعضهم: موت علمائها.
وَقَوله: ﴿وَعِنْدنَا كتاب حفيظ﴾ أَي: حَافظ، وَهُوَ اللَّوْح الْمَحْفُوظ، وَقيل: مَحْفُوظ مَا فِيهِ.
قَوْله تَعَالَى: ﴿بل كذبُوا بِالْحَقِّ لما جَاءَهُم فهم فِي أَمر مريج﴾ أَي: مختلط. قَالَ أَبُو ذُؤَيْب الْهُذلِيّ:
(فَخر كَأَنَّهُ خوط مريج...
وَقَالَ غَيره:
(فجالست فَالْتمست بِهِ حشاها فَخر كَأَنَّهُ غُصْن مريج)
وَيُقَال: مريج: ملتبس.
وَوجه الالتباس أَنهم كَانُوا يَقُولُونَ للنَّبِي مرّة هُوَ سَاحر، وَمرَّة هُوَ شَاعِر، وَمرَّة هُوَ كَاهِن، [وَكَانُوا] أَيْضا يقرونَ بِالْبَعْثِ مرّة، وَيُنْكِرُونَ الْبَعْث مرّة، فَهَذَا هُوَ معنى الِاخْتِلَاط والالتباس.
235
﴿أفلم ينْظرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقهم كَيفَ بنيناها وزيناها وَمَا لَهَا من فروج (٦) وَالْأَرْض مددناها وألقينا فِيهَا رواسي وأنبتنا فِيهَا من كل زوج بهيج (٧) تبصرة وذكرى لكل عبد منيب (٨) ونزلنا من السَّمَاء مَاء مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جنَّات وَحب الحصيد (٩) ﴾
236
قَوْله تَعَالَى: ﴿أفلم ينْظرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقهم كَيفَ بنيناها وزيناها﴾ أَي: بالنجوم وَالشَّمْس وَالْقَمَر.
وَقَوله: ﴿وَمَا لَهَا من فروج﴾ أَي: شقوق.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿وَالْأَرْض مددناها وألقينا فِيهَا رواسي﴾ أَي الْجبَال.
وَقَوله: ﴿وأنبتنا فِيهَا من كل زوج بهيج﴾ أَي: من كل صنف حسن، والبهجة: الْحسن، وعَلى هَذَا قَوْله فِي مَوضِع آخر: ﴿ذَات بهجة﴾ أَي: ذَات حسن.
وَقَوله: ﴿تبصرة وذكرى لكل عبد منيب﴾ أَي: (تبصرا) للآيات، وموعظة للقلوب. وَيُقَال: تبصرة أَي: يبصر بهَا ذَوُو الْعُيُون " وذكرى " أَي: يذكر بهَا ذَوُو الْقُلُوب.
وَقَوله: ﴿لكل عبد منيب﴾ أَي: رَاجع فِي أُمُوره إِلَى الله تَعَالَى.
قَوْله تَعَالَى: ﴿ونزلنا من السَّمَاء مَاء مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جنَّات﴾ أَي: الْبَسَاتِين.
وَقَوله: ﴿وَحب الحصيد﴾ أَي: حب النبت المحصود، وَهُوَ الْبر وَالشعِير وَغَيره. وَيُقَال: " حب الحصيد ": هُوَ الحصيد نَفسه، كَأَنَّهُ أَضَافَهُ إِلَى نَفسه، مثل قَوْلهم: صَلَاة الأولى، وَمَسْجِد الْجَامِع، وَمثل قَوْله تَعَالَى: ﴿حق الْيَقِين﴾.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَالنَّخْل باسقات لَهَا﴾ أَي: طوَالًا. قَالَ عِكْرِمَة: طوَالًا فِي استقامة. وَيُقَال فِي صفة النخيل: الباسقات فِي الوحل، المطعمات فِي الْمحل.
236
﴿وَالنَّخْل باسقات لَهَا طلع نضيد (١٠) رزقا للعباد وأحيينا بِهِ بَلْدَة مَيتا كَذَلِك الْخُرُوج (١١) كذبت قبلهم قوم نوح وَأَصْحَاب الرس وَثَمُود (١٢) وَعَاد وَفرْعَوْن وإخوان﴾
وَقَوله: ﴿لَهَا طلع نضيد﴾ أَي: منضود، وَهُوَ الْمُتَّصِل بعضه بِبَعْض.
وَيُقَال: المتراكم بعضه على بعض. قَالَ أهل اللُّغَة: وَإِنَّمَا يُسمى نضيدا مَا دَامَ فِي الطّلع، فَإِذا خرج من الطّلع لم يكن نضيدا، وَعَن بَعضهم قَالَ: إِن نخيل الْجنَّة مثمرة من أَعْلَاهَا إِلَى أَسْفَلهَا، وَهِي كالقلال كلما أخذت وَاحِدَة نَبتَت مَكَانهَا أُخْرَى.
237
وَقَوله: ﴿رزقا للعباد﴾ الرزق: الْعَطاء الْجَارِي من الله تَعَالَى على توظيف، وَقد يكون بِطَلَب، وَقد يكون بِغَيْر طلب، وَقد يكون بِدُعَاء يَدْعُو بِهِ العَبْد، وَقد يكون بِغَيْرِهِ.
وَقَوله: ﴿وأحيينا بِهِ بَلْدَة مَيتا كَذَلِك الْخُرُوج﴾ يَعْنِي: كَمَا نحيي الأَرْض الْيَابِسَة وَنخرج مِنْهَا الْأَشْجَار (وَالزَّرْع) والكلأ، كَذَلِك نحيي الأجساد بعد الْمَوْت ونخرجها من الأَرْض. وَفِي التَّفْسِير: أَن الله تَعَالَى يمطر من السَّمَاء مَاء على الأَرْض حِين يُرِيد أَن يبْعَث الْخلق كمنى الرِّجَال (فينبت) بهَا الأجساد فِي الأَرْض، وَيجمع الْجُلُود إِلَيْهَا ثمَّ يَبْعَثهُم.
قَوْله تَعَالَى: ﴿كذبت قبلهم قوم نوح وَأصَاب الرس﴾ قَالَ كَعْب الْأَحْبَار: هم قوم رسوا نَبِيّهم فِي بِئْر، وَيُقَال: هِيَ بِئْر بِالْيَمَامَةِ، وَيُقَال: بالفلج، كَانَ عَلَيْهَا قوم أَتَاهُم نَبِي فَكَذبُوهُ فأهلكهم الله تَعَالَى، وَفِي تَفْسِير النقاش: أَن اسْم نَبِيّهم كَانَ حَنْظَلَة بن صَفْوَان، وَالله أعلم. وَيُقَال: كَانَ بِئْرا بِأَذربِيجَان.
وَقَوله: ﴿وَثَمُود وَعَاد وَفرْعَوْن وإخوان لوط﴾ فِي بعض التفاسير: أَن لوطا يبْعَث وَحده وَلَيْسَ مَعَه أحد آمن بِهِ.
237
﴿لوط (١٣) وَأَصْحَاب الأيكة وَقوم تبع كل كذب الرُّسُل فَحق وَعِيد (١٤) أفعيينا بالخلق الأول بل هم فِي لبس من خلق جَدِيد (١٥) وَلَقَد خلقنَا الْإِنْسَان ونعلم مَا﴾
وَعَن بَعضهم: أَن فِرْعَوْن كَانَ رجلا أعجميا من أهل اصطخر فَارس، ذكره أَبُو الْحُسَيْن بن فَارس فِي تَفْسِيره، وَذكر فِيهِ أَنه عَاشَ مِائَتَيْنِ وَعشْرين سنة لم يؤذه شَيْء، وَدعَاهُ مُوسَى ثَمَانِينَ سنة، ثمَّ أغرقه الله فَجَمِيع مُدَّة ملكه ثلثمِائة سنة،
238
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٢:قوله تعالى :( كذبت قبلهم قوم نوح وأصاب الرس ) قال كعب الأحبار : هم قوم رسوا نبيهم في بئر، ويقال : هي بئر باليمامة، ويقال : بالفلج، كان عليها قوم أتاهم نبي فكذبوه فأهلكهم الله تعالى، وفي تفسير النقاش : أن اسم نبيهم كان حنظلة بن صفوان، والله أعلم. ويقال : كان بئرا بأذربيجان.
وقوله :( وثمود وعاد وفرعون وإخوان لوط ) في بعض التفاسير : أن لوطا يبعث وحده وليس معه أحد آمن به.
وعن بعضهم : أن فرعون كان رجلا أعجميا من أهل اصطخر فارس، ذكره أبو الحسين بن فارس في تفسيره، وذكر فيه أنه عاش مائتين وعشرين سنة لم يؤذه شيء، ودعاه موسى ثمانين سنة، ثم أغرقه الله فجميع مدة ملكه ثلثمائة سنة،

وَقَوله: ﴿واصحاب الأيكة﴾ وَقُرِئَ: " ليكة " فِي مَوضِع آخر، فليكة اسْم الْقرْيَة، والأيكة أسم الاناحية مثل: (بكة) وَمَكَّة.
وَقَوله: ﴿وَقوم تبع﴾ فِي التَّفْسِير: أَن تبع اِسْعَدْ بن لمكيكرب، وكنيته أَبُو كرب. وَفِي الْقِصَّة: أَنه خرج من الْيمن غازيا سائحا فِي الأَرْض وَمَعَهُ جَيش عَظِيم، وَهُوَ أول من حير الْحيرَة أَي: بناها مر بِبِلَاد الْعَجم حَتَّى أَتَى سَمَرْقَنْد [وهدمها]. وَيُقَال: إِن الَّذِي هدم سَمَرْقَنْد هُوَ شمر. وَمِنْه سَمَرْقَنْد أَي: شمر كِنْدَة، وَهُوَ من مُلُوك الْيمن أَيْضا، ولتبع ابْن يُقَال لَهُ: حسان بن تبع، وَكَانَ فيهم من غزا الصين وأسكن ثمَّ قوما من الْعَرَب، فَيُقَال: أَن " التبت " مِنْهُم، وهم على خلقَة الْعَرَب نحاف سمر.
وَقد روينَا أَن النَّبِي قَالَ: " لَا تسبوا تبعا؛ فَإِنَّهُ كَانَ قد أسلم ". وَقد دلّ على هَذَا قَوْله هَاهُنَا: ﴿وَقوم تبع﴾ وَلم يذكرهُ بَينهم.
وَقَوله: ﴿كل كذب الرُّسُل فَحق وَعِيد﴾ أَي: حق عَلَيْهِم وعيدي وعذابي.
قَوْله تَعَالَى: ﴿أفعيينا بالخلق الأول﴾ وَجَوَابه مَحْذُوف، وَمَعْنَاهُ: أفعيينا بالخلق الأول فنعيا بالخلق الثَّانِي أَي: عسر علينا ذَلِك فيعسر علينا هَذَا، وَيُقَال: عيي فلَان بِالْأَمر إِذا عجز عَنهُ.
238
﴿توسوس بِهِ نَفسه وَنحن أقرب إِلَيْهِ من حَبل الوريد (١٦) إِذْ يتلَقَّى الملتقيان عَن الْيَمين وَعَن الشمَال قعيد (١٧) مَا يلفظ من قَول إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيب عتيد (١٨) وَجَاءَت سكرة﴾
وَقَوله: ﴿بل هم فِي لبس من خلق جَدِيد﴾ أَي: فِي شكّ من الْخلق الثَّانِي.
239
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلَقَد خلقنَا الْإِنْسَان﴾ يُقَال: إِن المُرَاد بِهِ آدم صلوَات الله عَلَيْهِ وَحده. وَيُقَال: إِنَّه فِي كل النَّاس.
وَقَوله: ﴿ونعلن مَا توسوس بِهِ نَفسه﴾ الوسوسة: حَدِيث النَّفس، وَإِن كَانَ المُرَاد بِالْآيَةِ هُوَ آدم فالوسوسة فِي حَقه حَدِيث نَفسه بِأَكْل الشَّجَرَة. وَقد ثَبت عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " من تَوَضَّأ فَأحْسن الْوضُوء، وَصلى رَكْعَتَيْنِ وَلم يحدث فيهمَا نَفسه؛ غفر الله لَهُ مَا تقدم من ذَنبه ".
وَقَوله: ﴿وَنحن أقرب إِلَيْهِ من حَبل الوريد﴾ حَبل الوريد: عرق فِي بَاطِن الْعُنُق، وَيُقَال: فِي الْبدن عرق يُسمى الأكحل نهر الْبدن، وَفِي السَّاق يُقَال لَهُ: النِّسَاء، وَفِي الْبَطن يُسمى الحالب، وَفِي الظّهْر يُسمى الْأَنْهُر، وَفِي الْيَد يُسمى الأكحل، وَفِي الْعُنُق يُسمى الوريد، وَفِي الْقلب يُسمى الوتين، وَيُقَال هما وريدان تَحت الودجين. قَالَ الشَّاعِر:
(كَانَ كَأَن وريديه رشاء حَبل...
أَي: لِيف. وَمَعْنَاهُ: أَن الله تَعَالَى أقرب إِلَيْهِ من كل شَيْء حَتَّى إِنَّه أقرب إِلَيْهِ من مماته وحياته، وحياة الْإِنْسَان بِهَذَا الْعرق، حَتَّى إِذا انْقَطع لم يبْق حَيا.
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِذْ يتلَقَّى الملتقيان﴾ مَعْنَاهُ: اذكر يَا مُحَمَّد إِذْ يتلَقَّى المتلقيان، وهما الْملكَانِ. والتقى: هُوَ الْقبُول وَالْأَخْذ، فالملك يَأْخُذ مله ونطقه فيثبته، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: ﴿فَتلقى آدم من ربه كَلِمَات﴾ أَي: أَخذ.
وَقَوله: ﴿عَن الْيَمين وَعَن الشمَال قعيد﴾ أَي: قَاعد، فَاكْتفى بِذكر أَحدهمَا عَن الآخر، مَعْنَاهُ: عَن الْيَمين قَاعد وَعَن الشمَال قَاعد. وَفِي بعض الْأَخْبَار: الصماخان مقْعد الْملكَيْنِ، وهما جانبا الْفَم.
239
﴿الْمَوْت بِالْحَقِّ ذَلِك مَا كنت مِنْهُ تحيد (١٩) وَنفخ فِي الصُّور ذَلِك يَوْم الْوَعيد (٢٠) ﴾
240
وَقَوله: ﴿مَا يلفظ من قَول إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيب عتيد﴾ أَي: رَقِيب حَاضر.
قَالَ الْحسن: يكْتب الْملكَانِ كل شَيْء حَتَّى قَوْله لجاريته اسقيني المَاء، وناوليني نَعْلي، أَو أعطيني رِدَائي، وَيُقَال: يكْتب كل شَيْء حَتَّى صفيره بِشرب المَاء.
وَفِي الْخَبَر بِرِوَايَة أبي أُمَامَة أَن النَّبِي قَالَ: " ملك الْيَمين أَمِير على ملك الشمَال، فَإِذا عمل العَبْد حَسَنَة كتبهَا ملك الْيَمين فِي الْحَال عشرا، وَإِذا عمل العَبْد سَيِّئَة فَأَرَادَ صَاحب الشمَال ان يكْتب، قَالَ لَهُ صَاحب الْيَمين: أمسك سبع سَاعَات، فَإِن تَابَ لم يكْتب، وَإِن لم يتب قَالَ: اُكْتُبْهَا وَاحِدَة ".
وَاعْلَم أَن ملك الْيَمين يكْتب الْحَسَنَات، وَملك لشمال يكْتب السَّيِّئَات، وَالْيَمِين مَحْبُوب الله ومختاره، وَمِنْه مَا رُوِيَ عَن النَّبِي " أَنه كَانَ يحب التَّيَامُن فِي كل شَيْء، حَتَّى فِي ترجله وتنعله وَطهُوره ". وَمن هَذَا إِذا دخل الْمَسْجِد يبْدَأ بِالْيَمِينِ ليقدمها إِلَى مَوضِع الْخَيْر، وَإِذا خرج يبْدَأ بالشمال ليَكُون مكث الْيَمين فِي مَوضِع الْخَيْر أَكثر وَإِن قل، وعَلى عكس هَذَا دُخُول مَوضِع الْخَلَاء وَالْخُرُوج مِنْهُ.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَجَاءَت سكرة الْمَوْت بِالْحَقِّ﴾ السكرة هِيَ (الغشية) والغمرة الَّتِي تلْحق الْإِنْسَان عِنْد الْقرب من الْمَوْت.
وَقَوله: ﴿بِالْحَقِّ﴾ فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن الْحق هُوَ نفس السكرة الَّتِي هِيَ سكرة الْمَوْت، وَيُقَال: الْحق هُوَ الله، وَفِي الْمَوْت لِقَاء الله، فَهُوَ معنى قَوْله: ﴿بِالْحَقِّ﴾ أَي: بلقاء الْحق. وَيُقَال: هُوَ إِشَارَة إِلَى الْجنَّة وَالنَّار؛ لِأَنَّهُ إِذا مَاتَ إِمَّا أَن يدْخل الْجنَّة، وَإِمَّا أَن
240
﴿وَجَاءَت كل نفس مَعهَا سائق وشهيد (٢١) لقد كنت فِي غَفلَة من هَذَا فكشفنا عَنْك غطاءك فبصرك الْيَوْم حَدِيد (٢٢) وَقَالَ قرينه هَذَا مَا لدي عتيد (٢٣) ألقيا فِي جَهَنَّم﴾ يدْخل النَّار. وَفِي الْأَثر الْمَعْرُوف أَن أَبَا بكر رَضِي الله عَنهُ لما احْتضرَ كَانَت عَائِشَة عِنْده فأنشدت:
(لعمرك مَا يغنى الثراء عَن الْفَتى إِذا حشرجت يَوْمًا وضاق بهَا الصَّدْر)
فَقَالَ أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ لَا تقولي هَذَا، وَلَكِن قولي: وَجَاءَت سكرة الْحق بِالْمَوْتِ " فَيُقَال: إِنَّه زل لِسَانه، وَيُقَال: هَذِه قِرَاءَته. قَالَت عَائِشَة: فَدَعَا بِصَحِيفَة يسْتَخْلف، وَكتب وظننت أَنه سيستخلف طَلْحَة، وَكنت أود ذَلِك؛ لِأَن طَلْحَة من أقرباء أبي بكر، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي لم آل وَلم أوال، فَعرفت أَنه غير مستخلف إِيَّاه.
وَقَوله: ﴿ذَلِك مَا كنت بِهِ تحيد﴾ أَي: تَفِر وتهرب، وَيسْتَحب لِلْمُؤمنِ حب الْمَوْت؛ لِأَنَّهُ بِهِ يستخلص من الأوزار، ويصل إِلَى محبوبه إِن قدر لَهُ خير. وَعَن بعض السّلف: لَا يكره الْمَوْت إِلَّا مريب. وَإِنَّمَا كره تمني الْمَوْت بضر نزل بِهِ على مَا فِي الْخَبَر. فَأَما إِذا تمنى الْمَوْت ليستخلص من الدُّنْيَا وفتنها وشوقا إِلَى لِقَاء ربه فَهُوَ مَحْبُوب.
241
وَقَوله: ﴿وَنفخ فِي الصُّور ذَلِك يَوْم الْوَعيد﴾ أَي: يَوْم وَعِيد الْكفَّار ووعد الْمُؤمنِينَ.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَجَاءَت كل نفس مَعهَا سائق وشهيد﴾ السَّائِق: هُوَ الْملك، والشهيد: هُوَ الْعَمَل، قَالَه قَتَادَة وَمُجاهد وَالضَّحَّاك. وَيُقَال: السَّائِق: ملك السَّيِّئَات، والشهيد: ملك الْحَسَنَات. وَيُقَال: السَّائِق: الشَّيْطَان، والشهيد: الْملك. وَقيل فِي الشَّهِيد: إِنَّه الْجَوَارِح.
قَوْله تَعَالَى: ﴿لقد كنت فِي غَفلَة من هَذَا﴾ يُقَال: إِن هَذَا فِي الْكفَّار؛ لأَنهم فِي الْغَفْلَة من الْآخِرَة على الْحَقِيقَة. وَيُقَال: فِي كل غافل.
وَقَوله: ﴿فكشفنا عَنْك غطاءك﴾ أَي: كشفنا عَنْك مَا غشيك وغطى سَمعك وبصرك وعقلك، حَتَّى لم تسمع وَلم تبصر وَلم تعقل الْحق، وَهُوَ فِي معنى قَوْله تَعَالَى: ﴿أسمع بهم وَأبْصر﴾.
241
﴿كل كفار عنيد (٢٤) مناع للخير مُعْتَد مريب (٢٥) الَّذِي جعل مَعَ الله إِلَهًا آخر فألقياه﴾
وَقَوله: ﴿فبصرك الْيَوْم﴾ أَي: نَافِذ، وَقيل: شَدِيد. وَيُقَال: بَصرك الْيَوْم ﴿حَدِيد﴾ إِلَى لِسَان الْمِيزَان، وَمِنْه حِدة الْبَصَر.
242
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَقَالَ قرينه﴾ أَي: الْملك.
﴿هَذَا مَا لدي عتيد﴾ أَي: هَذَا الَّذِي كتبته، وَهُوَ عِنْدِي وَلَدي عتيد أَي: معد، وَيُقَال: حَاضر.
وَقَوله: ﴿ألقيا فِي جَهَنَّم كل كفار عنيد﴾ فَإِن قيل: مَا معنى قَوْله: " ألقيا " وَمن الْمُخَاطب؟ وَالْجَوَاب: أَن الْمُخَاطب ملك وَاحِد، وَلكنه قَالَ: ألقيا على عَادَة الْعَرَب، فَإِنَّهُم يخاطبون الْوَاحِد بخطاب الِاثْنَيْنِ.
قَالَ الشَّاعِر:
(فَإِن تزجراني يَابْنَ عَفَّان أنزجر وَإِن تدعاني أحم عرضا ممنعا.)
وَقَالَ آخر:
(خليلي مرابي على أم جُنْدُب لنقضي حاجات الْفُؤَاد المعذب)
(ألم تَرَ كلما جِئْت طَارِقًا وجدت بهَا طيبا وَإِن لم تطيب)
وَأَرَادَ بالخليلين الْوَاحِد. وَكَانَ الْحجَّاج إِذا أَمر بقتل إِنْسَان قَالَ: ياحرسي اضربا. وَقَالَ الْمبرد: معنى قَوْله: ﴿ألقيا﴾ أَي: ألق ألق، فَلَمَّا ثنى خَاطب يُخَاطب اثْنَان.
عَن بَعضهم: أَنه يَقُول لملكين حَتَّى يلقياه فِي النَّار.
وَقَوله: ﴿كل كفار عنيد﴾ أَي: معاند، وَعَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ قَالَ: العنيد: هُوَ الَّذِي يكابر الْحق كَأَنَّهُ يقربهُ وينكره.
وَقَوله: ﴿مناع للخير مُعْتَد مريب﴾ أَي: ذِي عدوان ذِي رِيبَة، والمناع للخير: هُوَ
242
﴿فِي الْعَذَاب الشَّديد (٢٦) قَالَ قرينه رَبنَا مَا أطغيته وَلَكِن كَانَ فِي ضلال بعيد (٢٧) قَالَ لَا تختصموا لدي وَقد قدمت إِلَيْكُم بالوعيد (٨) مَا يُبدل الْقوي لدي وَمَا أَنا﴾ مَانع الْحُقُوق وَالصَّدقَات والزكوات.
243
وَقَوله: ﴿الَّذِي جعل مَعَ الله إِلَهًا آخر فألقياه فِي الْعَذَاب الشَّديد﴾ أَي: عَذَاب النَّار. وَذكر لنحاس فِي تَفْسِيره قولا: أَن ﴿قرينه﴾ فِي الْآيَة الْمُتَقَدّمَة هُوَ الشَّيْطَان. وَقَوله: ﴿هَذَا مَا لدي عتيد﴾ أَي: هَذَا عمله وَهُوَ حَاضر، وَالَّذِي قُلْنَا: أَن المُرَاد بِهِ الْملك فَهُوَ ألْقى وأليق بقوله: ﴿هَذَا مَا لدي عتيد﴾ يَعْنِي: يَقُول الْملك: هَذَا الَّذِي كتبته عَلَيْهِ، وَقد أحضرته. وَقَالَ النّحاس فِي قَوْله: ﴿ألقيا فِي جَهَنَّم﴾ الأولى خطاب للملكين اللَّذين أَحدهمَا يَسُوقهُ وَالْآخر يشْهد عَلَيْهِ، وهما اللَّذَان كتبا الْعمَّال.
وَقَوله: ﴿مُعْتَد مريب﴾ أَي: مُعْتَد فِي سيرته ونطقه وخلقه.
يُقَال: أرابني كَذَا فَأَنا مريب أَي: شَاك
قَالَ الشَّاعِر:
(بثينة قَالَت يَا جميل أربتنى... فَقلت كِلَانَا يَا بثين مريب) وَيُقَال فِي قَوْله: ﴿مناع للخير﴾ أَي: الزَّكَاة الْمَفْرُوضَة. وَقَالَ الضَّحَّاك: الْآيَة وَردت فِي الْوَلِيد بن الْمُغيرَة المَخْزُومِي.
قَوْله تَعَالَى: ﴿قَالَ قرينه رَبنَا مَا أطغيته﴾ القرين: هَاهُنَا هُوَ الشَّيْطَان بِاتِّفَاق الْمُفَسّرين. وَقَوله: ﴿رَبنَا مَا أطغيته﴾ أَي: مَا أضللته.
وَقَوله: ﴿وَلَكِن كَانَ فِي ضلال بعيد﴾ أَي: وجدته وَقد اخْتَار الضَّلَالَة لنَفسِهِ، وَهُوَ معنى قَوْله تَعَالَى حِكَايَة عَن إِبْلِيس: ﴿وَمَا كَانَ لي عَلَيْكُم من سُلْطَان إِلَّا أَن دعوتكم فاستجبتم لي﴾ الْآيَة.
قَوْله تَعَالَى: ﴿قَالَ لَا تختصموا لدي﴾ أَي: عِنْدِي.
243
﴿بظلام للعبيد (٢٩) يَوْم نقُول لِجَهَنَّم هَل امْتَلَأت وَتقول هَل من مزِيد (٣٠) وأزلفت﴾
وَقَوله: ﴿وَقد قدمت إِلَيْكُم بالوعيد﴾ أَي: بعثت الرُّسُل وأنزلت الْكتب وبينت الْأَمر وَالنَّهْي والوعد والوعيد. فَإِن قيل: قد قَالَ فِي مَوضِع آخر: ﴿ثمَّ إِنَّكُم يَوْم الْقِيَامَة عِنْد ربكُم تختصمون﴾ [و] قَالَ هَاهُنَا ﴿لَا تختصموا لدي﴾ فَكيف وَجه التَّوْفِيق؟ وَالْجَوَاب من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن للقيامة مَوَاطِن ومواقف، فَهَذَا فِي موطن. وَذَلِكَ فِي موطن مَا على بَينا.
وَالْوَجْه الثَّانِي: أَن قَوْله: ﴿ثمَّ إِنَّكُم يَوْم الْقِيَامَة عِنْد ربكُم تختصمون﴾ للْمُؤْمِنين، وَقَوله: ﴿لَا تختصموا لَدَى﴾ للْكفَّار. وَيُقَال إِنَّه يَقُول لَهُم لَا تختصموا لَدَى بعد أَن اخْتَصَمُوا، واختصامهم مَا ذكر فِي سُورَة الْقَصَص وَالصَّافَّات.
244
قَوْله تَعَالَى: ﴿مَا يُبدل القَوْل لدي﴾ أَي: لَا يكذب عِنْدِي؛ فَإِنَّهُ لَا يخفى على حَقِيقَة الْأُمُور وبواطنها. وَيُقَال: " مَا يُبدل القَوْل لدي " أَي: لَا يُبدل قولي: إِن السَّيئَة بِمِثْلِهَا، والحسنة بِعشر أَمْثَالهَا.
وَقَوله: ﴿وَمَا أَنا بظلام للعبيد﴾ أَي: لَا أنقص ثَوَاب الْمُحْسِنِينَ، وَلَا أَزِيد فِي مجازاة المسيئين.
قَوْله تَعَالَى: ﴿يَوْم نقُول لِجَهَنَّم هَل امْتَلَأت وَتقول هَل من مزِيد﴾ فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن معنى قَوْله: ﴿هَل من مزِيد﴾ أَي: قد امْتَلَأت، فَلَا مزِيد فِي، وَحَقِيقَته أَنَّك قد وفيت بِمَا وعدت، وملأتني فَلَا مَوضِع للزِّيَادَة. وَهَذَا مثل قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: " وَهل ترك لنا عقيل من دَار " أَي: مَا ترك.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن معنى قَوْله: ﴿هَل من مزِيد﴾ أَي: طلب الزِّيَادَة بقوله تغيظا على الْكفَّار، وطلبا لزِيَادَة الانتقام. وَالْأول أحسن. وَقد ثَبت بِرِوَايَة أنس وَأبي هُرَيْرَة أَن
244
﴿الْجنَّة لِلْمُتقين غير بعيد (٣١) هَذَا مَا توعدون لكل أواب حفيظ (٣٢) من خشِي﴾ النَّبِي قَالَ: " لَا تزَال جَهَنَّم تَقول هَل من مزِيد حَتَّى يضع الْجَبَّار فِيهَا قدمه فَتَقول قطّ قطّ " أَي: حسبي.
وَهَذَا الْخَبَر يُؤَيّد القَوْل الثَّانِي، وَالْخَبَر من الْمُتَشَابه، وَقد بَينا وَجه الْكَلَام فِي الْمُتَشَابه. وَقَالَ بَعضهم: أَن القَوْل من جَهَنَّم هَاهُنَا على طَرِيق الْمجَاز مثل قَول الشَّاعِر:
(امْتَلَأَ الْحَوْض وَقَالَ قطني مهلا ورويدا قد مَلَأت بَطْني)
فَقَوله: قطني أَي: حسبي. وَوجه الْمجَاز فِيهِ أَنه لما امْتَلَأَ الْحَوْض وَلم يكن فِيهِ مزِيد وَكَأَنَّهُ قَالَ: قد امْتَلَأت فحسبي. كَذَلِك فِي جَهَنَّم، وَهُوَ على توسع الْكَلَام. وَالأَصَح أَن هَذَا النُّطْق من جَهَنَّم على طَرِيق الْحَقِيقَة، وَهَذَا اللَّائِق بِمذهب أهل السّنة فِي الْإِيمَان بتسبيح الجمادات، وَمَا نزل فِي ذَلِك من آي الْقُرْآن. وَعَن الْحسن الْبَصْرِيّ قَالَ: لَو لم يعْص الله إِلَّا رجل وَاحِد لملأ الله مِنْهُ جَهَنَّم يَوْم الْقِيَامَة.
245
قَوْله تَعَالَى: ﴿وأزلفت الْجنَّة لِلْمُتقين﴾ أَي: قربت.
وَفِي الْآثَار: أَن النَّاس إِذا بعثوا من قُبُورهم رَأَوْا الْجنَّة وَالنَّار على قرب مِنْهُم. وَقيل إِن الْجنَّة وَالنَّار يعرضان على الْمُؤمنِينَ وَالْكفَّار قبل دُخُولهمْ فيهمَا.
وَقَوله: ﴿هَذَا مَا توعدون لكل أواب حفيظ﴾ الأواب هُوَ الَّذِي اعْتَادَ الرُّجُوع إِلَى الله تَعَالَى فِي كل أُمُوره. والحفيظ هُوَ الَّذِي يحفظ الْأَمر وَالنَّهْي. وَعَن بَعضهم: أَن الأواب هُوَ المسبح.
وَعَن بَعضهم: أَنه الْكثير الصَّلَاة.
وَعَن بَعضهم: أَنه الدُّعَاء.
245
﴿الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بقلب منيب (٣٣) ادخلوها بِسَلام ذَلِك يَوْم الخلود (٣٤) لَهُم مَا يشاءون فِيهَا ولدينا مزِيد (٣٤) وَكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أَشد مِنْهُم بطشا﴾
وَعَن بَعضهم: أَنه الَّذِي يحفظ قَوْله وَفعله فِي مَجْلِسه، فَإِذا أَرَادَ أَن [يقوم] قَالَ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك، لَا إِلَه إِلَّا أَنْت، أستغفرك وَأَتُوب إِلَيْك.
وَيُقَال: حفيظ أَي: حَافظ لعهد الله.
246
قَوْله تَعَالَى: ﴿من خشِي الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ﴾ إِنَّمَا قَالَ بِالْغَيْبِ؛ لأَنهم آمنُوا بِالْبَعْثِ وَالْجنَّة وَالنَّار وَالثَّوَاب وَالْعِقَاب، وَذَلِكَ كُله غيب.
وَقَوله: ﴿وَجَاء بقلب منيب﴾ الْمُنِيب قد بَينا مَعْنَاهُ فِيمَا سبق، وَالرجل هُوَ الْمُنِيب؛ لكنه أضَاف إِلَى الْقلب؛ لِأَن الْأَكْثَر من أَعمال الْإِيمَان يعمله الْمُؤمن بِقَلْبِه.
وَقَوله: ﴿ادخلوها بِسَلام﴾ يُقَال: إِن الله تَعَالَى يَقُول ذَلِك، وَيُقَال: الْملك يَقُولهَا.
وَقَوله: ﴿بِسَلام﴾ أَي: بسلامة.
وَقَوله: ﴿ذَلِك يَوْم الخلود﴾ هُوَ الخلود فِي الْجنَّة وَالنَّار.
وَقَوله: ﴿لَهُم مَا يشاءون فِيهَا﴾ أَي: مَا يشتهون فِيهَا.
قَوْله: ﴿ولدينا مزِيد﴾ فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن الْمَزِيد هُوَ مَا لم يخْطر ببالهم، وَلم تصل [إِلَيْهِ] شهوتهم وإرادتهم. وَالْآخر: أَنه النّظر إِلَى الله تَعَالَى.
وَقَوله: ﴿وَكم أهلكنا قبلهم من قرن﴾ قد بَينا معنى الْقرن، وَالأَصَح أَنه أقْصَى مُدَّة عمر كل قوم فِي عمرهم؛ فقرن نوح على مَا كَانَ فِي زَمَانه، وَقرن إِبْرَاهِيم على مَا كَانَ فِي زَمَانه، وَكَذَا إِلَى زَمَانا، فعلى هَذَا قَوْله: " من قرن " أَي: من أهل قرن.
وَقَوله: ﴿هم أَشد مِنْهُم بطشا﴾ أَي: قُوَّة.
وَقَوله: ﴿فَنقبُوا فِي الْبِلَاد﴾ أَي: طوفوا وَسَارُوا.
246
﴿فَنقبُوا فِي الْبِلَاد هَل من محيص (٣٦) إِن فِي ذَلِك لذكرى لمن كَانَ لَهُ قلب أَو ألْقى السّمع وَهُوَ شَهِيد (٣٧) وَلَقَد خلقنَا السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا فِي سِتَّة أَيَّام وَمَا مسنا من لغوب (٣٨) فاصبر على مَا يَقُولُونَ وَسبح بِحَمْد رَبك قبل طُلُوع الشَّمْس وَقبل الْغُرُوب (٣٩) وَمن اللَّيْل فسبحه وأدبار السُّجُود (٤٠) واستمع يَوْم يناد المناد﴾
قَالَ امْرُؤ الْقَيْس.
(وَقد نقبت فِي الْبلدَانِ حَتَّى رضيت من الْغَنِيمَة بالإياب)
{ [هَل من محيص]
247
إِن فِي ذَلِك لذكرى) أَي: موعظة وتذكير.
وَقَوله: ﴿لمن كَانَ لَهُ قلب﴾ أَي: عقل. يَقُول الْإِنْسَان لغيره: مَالك من قلب أَي: مَالك من عقل، وَيَقُول: أَيْن قَلْبك أَي: أَيْن عقلك.
وَعند بعض الْعلمَاء أَن مَحل الْعقل هُوَ الْقلب بِدَلِيل هَذِه الْآيَة. وَعَن بَعضهم: أَن مَحَله الدِّمَاغ. يُقَال: فلَان خَفِيف الدِّمَاغ أَي: خَفِيف الْعقل.
وَقَوله: ﴿أَو ألْقى السّمع وَهُوَ شَهِيد﴾ أَي: اسْتمع بأذنه وَهُوَ حَاضر بفؤاده، يَقُول الْإِنْسَان لغيره: ألق سَمعك وارعني سَمعك أَي: اسْتمع إِلَيّ، وَالْمعْنَى: أَنه يستمع، وَلَا يشغل قلبه بِمَا يمنعهُ من السماع.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلَقَد خلقنَا السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا فِي سِتَّة أَيَّام وَمَا مسنا من لغوب﴾ أَي: إعياء وَنصب، وَهُوَ رد لما قالته الْيَهُود أَن الله تَعَالَى خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض فِي سِتَّة أَيَّام واستراح يَوْم لسبت.
قَوْله تَعَالَى: ﴿فاصبر على مَا يَقُولُونَ وَسبح بِحَمْد رَبك﴾ أَي: صل حامدا رَبك.
وَقَوله: ﴿قبل طُلُوع الشَّمْس وَقبل الْغُرُوب﴾ قبل طُلُوع الشَّمْس هُوَ صَلَاة الصُّبْح. وَقبل الْغُرُوب هُوَ الظّهْر وَالْعصر.
وَقَوله: ﴿وَمن اللَّيْل فسبحه﴾ هُوَ الْمغرب وَالْعشَاء.
247
﴿من مَكَان قريب (٤١) يَوْم يسمعُونَ الصَّيْحَة بِالْحَقِّ ذَلِك يَوْم الْخُرُوج (٤٢) إِنَّا نَحن نحيي ونميت وإلينا الْمصير (٤٣) يَوْم تشقق الأَرْض عَنْهُم سرَاعًا ذَلِك حشر علينا﴾
وَقَوله: ﴿وأدبار السُّجُود﴾ القَوْل الْمَعْرُوف أَنه الركعتان بعد الْمغرب، ورد الْقُرْآن بِهِ لزِيَادَة التأكد وَالنَّدْب إِلَيْهِ، وَهُوَ قَول عَليّ وَأبي هُرَيْرَة. وَقيل: إِنَّه جَمِيع النَّوَافِل بعد الْفَرَائِض. وَقيل: إِنَّه الْوتر؛ لِأَنَّهُ آخر مَا يَفْعَله الْإِنْسَان عِنْد فَرَاغه من الصَّلَوَات، وَقد ذكرنَا الْخَبَر فِيمَا جرى من الرُّؤْيَة، وَقَوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فِي آخر ذَلِك الْخَبَر: " فَإِن اسْتَطَعْتُم أَن [لَا] تغلبُوا على صَلَاة قبل طُلُوع الشَّمْس وعَلى صَلَاة قبل غُرُوبهَا فافعلوا " وَقَرَأَ هَذِه الْآيَة.
248
قَوْله تَعَالَى: ﴿واستمع يَوْم يناد المناد من مَكَان قريب﴾ القَوْل الْمَعْرُوف أَنه إسْرَافيل عَلَيْهِ السَّلَام يُنَادي النَّاس على صَخْرَة بَيت الْمُقَدّس، فَيَقُول: أيتها الْعِظَام البالية، والجلود المتمزقة، والأجساد المتفرقة، والأوصال المتقطعة، ارجعي إِلَى رَبك، وَقيل بِلَفْظ آخر.
وَفِي الْآيَة قَول آخر: وَهُوَ أَن قَوْله: ﴿من مَكَان قريب﴾ أَي: من تَحت أَقْدَامهم. وَيُقَال فِي صماخ آذانهم، وَقيل: إِن هَذَا النداء هُوَ النفخة الأولى بِهَلَاك النَّاس.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿يَوْم يسمعُونَ الصَّيْحَة بِالْحَقِّ﴾ هُوَ النفخة الثَّانِيَة، وَالأَصَح أَن [كليهمَا] وَاحِد، وَذكره بلفظين.
وَقَوله: ﴿ذَلِك يَوْم الْخُرُوج﴾ أَي: من الْقُبُور لحساب الْأَعْمَال وَدخُول الْجنَّة وَالنَّار.
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِنَّا نَحن نحيي ونميت وإلينا الْمصير﴾ أَي: الْمرجع.
قَوْله تَعَالَى: ﴿يَوْم تشقق الأَرْض عَنْهُم سرَاعًا﴾ أَي: لَا يلبثُونَ بعد سَماع الصَّيْحَة، وَالْمعْنَى: أَنهم إِذا سمعُوا الصَّيْحَة تشققت عَنْهُم الأَرْض، وَخَرجُوا من غير) ﴿يسير (٤٤) نَحن أعلم بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْت عَلَيْهِم بجبار فَذكر بِالْقُرْآنِ من يخَاف وَعِيد (٤٥) ﴾ لبث وَلَا زمَان.
وَقَوله: ﴿ذَلِك حشر علينا يسير﴾ هُوَ جَوَاب لقَولهم فِي أول السُّورَة ذَلِك رَجَعَ بعيد.
قَوْله تَعَالَى: ﴿نَحن أعلم بِمَا يَقُولُونَ﴾ أَي: بِمَا يَقُولُونَ من الشّرك وَالْكذب على الله وعَلى رَسُوله.
وَقَوله: ﴿وَمَا أَنْت عَلَيْهِم بجبار﴾ أَي: بمسلط، وَهُوَ مثل قَوْله تَعَالَى: ﴿لست عَلَيْهِم بمسيطر﴾ والجبار فِي صِفَات الله مَحْمُود، وَفِي صِفَات الْخلق مَذْمُوم، وَكَذَلِكَ المتكبر؛ لِأَن الْخلق أمروا بالتواضع والخشوع والخضوع ولين الْجَانِب وخفض الْجنَاح، وَأما الرب جلّ جَلَاله فيليق بِهِ الجبروت والكبرياء: لِأَنَّهُ المتعالي عَن إِدْرَاك الْخلق، القاهر لَهُم فِي كل مَا يُريدهُ، وَلم يصفه أحد حق صفته، ولأعظمه أحد حق تَعْظِيمه، وَلَا عرفه أحد حق مَعْرفَته. وَقد قيل: إِن الْجَبَّار فِي اللُّغَة هُوَ الْقِتَال، وَهُوَ فِي معنى قَوْله تَعَالَى فِي قصَّة مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام ﴿إِن تُرِيدُ إِلَّا أَن تكون جبارا فِي الأَرْض﴾ أَي: قتالا.
وَقَالَ بَعضهم: إِن الْآيَة مَنْسُوخَة، وَهِي قبل نزُول آيَة السَّيْف، نسختها آيَة السَّيْف. وَفِي بعض التفاسير: أَن قَوْله: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْركين﴾ نسخت سبعين آيَة من الْقُرْآن.
وَقَوله: ﴿فَذكر بِالْقُرْآنِ من يخَاف وَعِيد﴾ أَي: عظ بِالْقُرْآنِ من يخافني. فَإِن قيل: أَلَيْسَ يوعظ بِالْقُرْآنِ الْكَافِر وَالْمُؤمن جَمِيعًا، فَكيف معنى قَوْله: ﴿من يخَاف وَعِيد﴾ وَالْكَافِر لَا يخَاف وَعِيد الله؟ وَالْجَوَاب: أَنه لما لم ينْتَفع بِالْقُرْآنِ إِلَّا الْمُؤمن فَكَأَنَّهُ لم يخوف بِالْقُرْآنِ إِلَّا الْمُؤْمِنُونَ، وَالله أعلم.
248

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم

﴿والذاريات ذَروا (١) فَالْحَامِلَات وقرا (٢) فَالْجَارِيَات يسرا (٣) فَالْمُقَسِّمَات﴾
تَفْسِير سُورَة الذاريات
وَهِي مَكِّيَّة فِي قَول الْجَمِيع
250
Icon