تفسير سورة ق

تفسير أبي السعود
تفسير سورة سورة ق من كتاب إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم المعروف بـتفسير أبي السعود .
لمؤلفه أبو السعود . المتوفي سنة 982 هـ
سورة ق مكية وهي خمس وأربعون آية.

﴿ق والقرآن المجيد﴾ أيْ ذي المجدِ والشرفِ عَلى سائرِ الكتبِ أوْ لأنَّه كلامُ المجيدِ أوْ لأنَّ منْ علَم معانَيهُ وعمِلَ بما فيهِ مَجُدَ عندَ الله تَعَالَى وعندَ الناسِ والكلامُ فيهِ كالذَّي فُصِّلَ في مطلعِ سورة ص قوله تعالَى
﴿بَلْ عَجِبُواْ أَن جَاءهُمْ مُّنذِرٌ مّنْهُمْ﴾ أيْ لأَنْ جاءَهُم منذرٌ منْ جنسِهم لا من حنس المَلَكِ أوْ مِنْ جِلدتِهم إضرابٌ عَمَّا يُنْبىءُ عنْهُ جوابُ القسمِ المحذوفِ كأنَّه قيلَ والقرآنِ المجيدِ أنزلناهُ إليكَ لتنذرَ بهِ الناسَ حسَبما وردَ في صدرِ سورةِ الأعرافِ كأنُه قيلَ بعدَ ذلكَ لم يؤمنُوا بهِ بلْ جعلُوا كلاً منَ المنذِر والمنذَرِ بهِ عُرضةً للنكيرِ والتعجيبِ معَ كونِهما أوفقَ شيءٍ لقضيةِ العقولِ وأَقرَبهُ إلى التلقِي بالقبولِ وقيلَ التقديرُ والقرآنِ المجيدِ إنكَ لمنذرٌ ثمَّ قيلَ بعدَهُ إنَّهم شكُّوا فيهِ ثمَّ أُضربَ عنْهُ وقيلَ بلْ عجبُوا أيْ لم يكتفُوا بالشكِّ والردِّ بلْ جزمُوا بالخلافِ حتَّى جعلُوا ذلكَ منَ الأمورِ العجيبةِ وقيلَ هُوَ إضرابٌ عَمَّا يُفهم منْ وصفِ القرآنِ بالمجيدِ كأنَّه قيلَ ليسَ سببُ امتناعِهم من الإيمانِ بالقرآنِ أنَّه لا مجدَ لهُ ولكنْ لجهلِهم ﴿فَقَالَ الكافرون هذا شَىْء عجيب﴾ تفسير لتعجيبهم وبيانٌ لكونِه مقارناً لغايةِ الإنكارِ مع زيادةِ تفصيلٍ لمحلِّ التعجبِّ وهذا إشارةٌ إلى كونِه عليهِ الصلاةُ والسلامُ منذِراً بالقرآنِ وإضمارُهم أولا للإشعار بتعينهم بما أسندَ إليهمِ وإظهارِهم ثانيا للتسجيل علهيم بالكفرِ بموجبِه أوْ عطفٌ لتعجبهم من البعثةِ على إِنَّ هَذَا إشارةٌ إلى مُبْهمٌ يفسِّره ما بعدَهُ من الجملةِ الإنكاريةِ ووضعُ المظهرِ موضعَ المضمرِ إما لسبقِ اتصافِهم بَما يوجبُ كفرَهُم وإمَّا للإيذانِ بأنَّ تعجُّبُهم منَ البعثِ لدلالتِه على استقصارِهم لقدرةِ الله سبحانَهُ عنْهُ معَ معاينتِهم لقدرتِه تعالَى على مَا هُو أشقُّ منْهُ في قياسِ العقلِ من مصنوعاتِه البديعةِ أشنعُ من الأولِ وأعرقُ في كونه كفرا
﴿أئذا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً﴾ تقريرٌ للتعجيب وتأكيدٌ للإنكارِ
125
٤ ٨ والعامل في مضمرٌ غنيٌّ عنِ البيانِ لغايةِ شهرتِه معَ دلالةِ ما بعدَهُ عليهِ أيْ أحينَ نموتُ ونصيرُ تراباً نرجعُ كما ينطقُ به النذيرُ والمنذُر بهِ معَ كمالِ التباينِ بينَنا وبينَ الحياة جينئذ وَقُرىءَ إِذَا متنَا عَلى لفظِ الخبرِ أوْ على حذفِ أداةِ الإنكارِ ﴿ذلك﴾ إشارةٌ إلى محلِّ النزاعِ ﴿رَجْعُ بَعِيدٌ﴾ أيْ عنِ الأوهامِ أو العادةِ أو الإمكانِ وقيلَ الرجعُ بمعْنَى المرجوعِ الذي هُوَ الجوابُ فناصبُ الظرفِ حينئذٍ ما ينبىءُ عنه المنذرُ من البعثِ
126
﴿قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأرض منهم﴾ زد لاستبعادِهم وإزاحةٌ له فإنَّ منْ عمَّ علمُهُ ولطُفَ حَتَّى انتَهى إلى حيثُ علمَ ما تنقصُ الأرضُ من أجسادِ الموتَى وتأكلُ من لحومِهم وعظامِهم كيفَ يستبعدُ رجعُهُ إيَّاهمُ أحياءً كما كانُوا عن النبيِّ ﷺ كُلُّ ابن آدمٍ يبلَى إلا عجبَ الذنبِ وقيلَ ما تنقص الأرض منهم ما يموتُ فيدفنُ في الأرضِ منهم ﴿وَعِندَنَا كتاب حَفِيظٌ﴾ حافظٌ لتفاصيلِ الأشياءِ كُلِّها أو محفوظٌ من التغيرِ والمرادُ إما تمثيلُ علمِه تعالَى بكلياتِ الأشياءِ وجزئياتِها بعلم مَنْ عندَه كتابٌ محيطٌ يتلقى منْهُ كُلَّ شيءٍ أو تأكيدٌ لعلمِه تعالَى بها بثبوتِها في اللوح المحفوظ عندَهُ
﴿بَلْ كَذَّبُواْ بالحق﴾ إضرابٌ وانتقالٌ منِ بيانِ شناعتِهم السابقةِ إلى بيانِ ما هُو أشنعُ منْهُ وأفظعُ وهو تكذيبُهم للنبوةِ الثابتةِ بالمعجزاتِ الباهرةِ ﴿لَمَّا جَاءهُمْ﴾ مِنْ غيرِ تأملٍ وتفكرٍ وقُرِىءَ لِمَا جاءهُم بالكسرِ على أنَّ اللامَ للتوقيتِ أيْ وقتَ مجيئهِ إياهُم وقيلَ الحقُّ القرآنُ أو الإخبارُ بالبعثِ ﴿فَهُمْ فِى أَمْرٍ مَّرِيجٍ﴾ أيْ مضطربٌ لا قرارا لهُ منْ مَرَجَ الخاتمُ في أصبعِه حيثُ يقولونَ تارةً إنَّه شاعرٌ وتارةً ساحرٌ وأخرَى كاهنٌ
﴿أَفَلَمْ يَنظُرُواْ﴾ أيْ أغفلُوا أو أعمُوا فلمْ ينظرُوا ﴿إِلَى السماء فَوْقَهُمْ﴾ بحيثُ يشاهدونَها كلَّ وقتٍ ﴿كَيْفَ بنيناها﴾ أيْ رفعناهَا بغيرِ عمدٍ ﴿وزيناها﴾ بمَا فيهَا منَ الكواكبِ المرتبةِ على نظامٍ بديعٍ ﴿وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ﴾ منْ فتوقٍ لملاستِها وسلامتِها من كُلِّ عيبٍ وخللٍ ولعل تأخيرَ هَذا لمراعاةِ الفواصلِ
﴿والأرض مددناها﴾ أي بسطناهَا ﴿وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رواسي﴾ جبالاً ثوابتَ مِنْ رسَا الشيءُ إذَا ثبتَ والتعبيرُ عنْهَا بهذَا الوصفِ للإيذانِ بأن إلقاءَها بإرساءِ الأرضِ بهَا ﴿وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ زَوْجٍ﴾ منْ كُلِّ صنفٍ ﴿بَهِيجٍ﴾ حسنٍ
﴿تَبْصِرَةً وذكرى﴾ علتانِ للأفعالِ المذكروة مَعْنى وإنِ انتصبتَا بالفعلِ الأخيرِ أو لفعلٍ مقدرٍ بطريقِ الاستئنافِ أيْ فعلنَا ما فعلنَا تبصيراً وتذكيراً ﴿لّكُلّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ﴾ أيْ راجع إلى ربه متفكر في بدائعِ صنائعِه
126
} ٣ ٩
وقولُه تعالَى
127
﴿وَنَزَّلْنَا مِنَ السماء مَاء مباركا﴾ أيْ كثيرَ المنافعِ شروعٌ في بيانِ كيفيةِ إنبات ما ذكرَ منْ كُلِّ زوجٍ بهيجٍ وهو عطفٌ على أنبتنا وما بينهمَا على الوجهِ الأخيرِ اعتراضٌ مقررٌ لما قبلَهُ ومنبهٌ على ما بعدَهُ ﴿فَأَنبَتْنَا بِهِ﴾ أيْ بذلكَ الماءِ ﴿جنات﴾ كثيرةً أيْ أشجاراً ذواتِ ثمارٍ ﴿وَحَبَّ الحصيد﴾ أي حبَّ الزرعِ الذي شأنُه أنْ يُحصدَ من البُرِّ والشعيرِ وأمثالِهما وتخصيصُ إنباتِ حبِّه بالذكرِ لأنُه المقصودُ بالذاتِ
﴿والنخل﴾ عطفٌ على جناتٍ وتخصيصُها بالذِّكرِ مع اندراجها في الجناتِ لبيانِ فضلِها على سائرِ الأشجارِ وتوسيطُ الحبِّ بينهما لتأكيدِ استقلالِها وامتيازِها عنِ البقيةِ معَ ما فيها منْ مُراعاةِ الفواصلِ ﴿باسقات﴾ أيْ طوالاً أو حواملَ منْ أبسقتِ الشاةُ إذَا حملتْ فيكونُ منْ بابِ أفعلَ فهو فاعلٌ وقرىءَ باصقاتٍ لأجلِ القافِ ﴿لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ﴾ أيْ منضودٌ بعضُه فوقَ بعضٍ والمرادُ تراكُم الطلعِ أو كثرةُ ما فيهِ منَ الثمرِ والجملةُ حالٌ من النخلِ كباسقاتٍ بطريقِ الترادفِ أوْ مِنْ ضميرِهَا في باسقاتٍ عَلى التداخلِ أو الحالُ هو الجارُّ والمجرورُ وطلعٌ مرتفعٌ به على الفاعليةِ وقولُه تعالىَ
﴿رّزْقاً لّلْعِبَادِ﴾ أيْ لنرزقَهُم علةٌ لقولِه تعالَى فأنبتنا وفي تعليلهِ بذلكَ بعدَ تعليلِ أنبتنَا الأولِ بالتبصرةِ والتذكيرِ تنبيهٌ على أنَّ الواجبَ على العبدِ أنْ يكونَ انتفاعُهُ بذلكَ من حيث التذكر والاستبصارأهم وأقدمَ من تمتعِه بهِ منْ حيثُ الرزقُ وقيلَ رزقاً مصدرٌ منْ مَعْنى أنبتنَا لأنَّ الإنباتَ رزقٌ ﴿وَأَحْيَيْنَا بِهِ﴾ أيْ بذلكَ الماءِ ﴿بَلْدَةً مَّيْتاً﴾ أرضاً جدبةً لا نماءَ فيَها أصلا بأن جلعناها بحيث ربت وأنبتت أنواعَ النباتِ والأزهارِ فصارتْ تهتز بها بعدما كانتْ جامدةً هامدةً وتذكيرُ ميتاً لأنَّ البلدةَ بمعنى البلدِ والمكانِ ﴿كذلك الخروج﴾ جملةٌ قدمَ فيهَا الخبرُ للقصدِ إلى القصرِ وذلكَ إشارو إلى الحياةِ المستفادةِ من الأحياءِ وما فيهِ من معنى البعد للإشعار ببعد رتبتِها أيْ مثلَ تلكَ الحياةِ البديعةِ حياتُكم بالبعثِ منَ القبورِ لا شيءَ مخالفٌ لَها وفي التعبيرِ عنْ إخراجِ النباتِ منَ الأرضِ بالإحياءِ وعنْ حياةِ المَوْتى بالخروجِ تفخيمٌ لشأنِ الإنباتِ وتهوينٌ لأمرِ البعثِ وتحقيقٌ للمماثلةِ بينَ إخراجِ النباتِ وإحياءِ المَوْتى لتوضيحِ منهاجِ القياسِ وتقريبهِ إلى أفهامِ الناسِ وقولُه تعالَى
﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ﴾ إلخ استئنافٌ واردٌ لتقريرِ حقية البعث ببيان كافَّةُ الرُّسلِ عليهم السَّلامُ عليَها وتعذيبِ مُنكريْها ﴿وأصحاب الرس﴾ قيلَ هُم ممَّن بُعثَ إليهم شعيبٌ عليهِ السلامُ وقيلَ وقيلَ كما مرَّ في سورةِ الفُرقانِ على التفصيلِ ﴿وَثَمُودُ﴾
﴿وَعَادٌ وفِرْعَوْنُ﴾ أي هُوَ وقومُه ليلائمَ ما قبلَهُ وما بعدَهُ
127
} ٤ ١٧ ﴿وإخوان لُوطٍ﴾ قيلَ كانُوا من أصهارِه عليهِ الصلاةُ والسلامُ
128
﴿وأصحاب الأيكة﴾ هم ممَّن بُعثَ إليهم شعيبٌ عليهِ السلامُ غيرَ أهلِ مدينَ ﴿وَقَوْمُ تُّبَّعٍ﴾ سبق شرحُ حالِهم في سُورةِ الدُّخانِ ﴿كُلٌّ كَذَّبَ الرسل﴾ أي فيمَا أرسلُوا بهِ منَ الشرائعِ التي منْ جُملتها البعثُ الذي أجمعُوا عليه قاطبةً أيْ كُلُّ قومٍ منَ الأقوامِ المذكورينَ كذبوا رسولَهُم أو كذَّبَ جميعُهم جميعَ الرُّسلِ بالمَعْنى المذكورِ وإفرادُ الضميرِ باعتبارِ لفظِ الكُلِّ أوْ كُلُّ واحدٍ منهم كذب جمع الرسلِ لاتفاقهم عَلى الدعوةِ إلى التوحيدِ والإنذارِ بالبعثِ والحشرِ فتكذيبُ واحدٍ منهمْ تكذيبٌ للكلِّ وهَذا على تقدير رسالةِ تبَّعٍ ظاهرٌ وأما على تقديرِ عدمِها وهُو الأظهرُ فمعنى تكذيبِ قومِه الرسلَ تكذيبُهم بمنْ قبلِهم من الرسلِ المجمعينِ على التوحيدِ والبعثِ وإلى ذلكَ كانَ يدعُوهم تُبَّعٌ ﴿فَحَقَّ وَعِيدِ﴾ أي فوجبَ وحَلَّ عليهمْ وعيدِي وهي كلمةُ العذابِ وفيه تسليةٌ للرسول ﷺ وتهديدٌ لهمْ
﴿أَفَعَيِينَا بالخلق الأول﴾ استئنافٌ مقررٌ لصحةِ البعثِ الذي حكيتْ أحوالُ المنكرينَ لَهُ من الأممِ المهلكةِ والعيُّ بالأمرِ العجزُ عَنْهُ يقالُ عى بالأمر وعى بهِ إذا لم يهتدِ لوجهِ عملِه والهمزةُ للإنكارِ والفاء للعطف على مقدر ينبىءُ عنْهُ العيُّ من القصدِ والمباشرةِ كأنَّه قيلَ أقصدنَا الخلقَ الأولَ فعَجزنا عنْهُ حتَّى يُتوهَم عجزُنَا عنِ الإعادةِ ﴿بَلْ هُمْ فِى لَبْسٍ مّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ عطفٌ على مقدرٍ يدلُّ عليه ما قبله كأنَّه قيلَ همْ غيرُ منكرين لقدرتنا على خلق الأولِ بلْ هُمْ في خلطٍ وشبهةٍ في خلقٍ مستأنفٍ لما فيهِ من مخالفةِ العادةِ وتنكيرُ خلقٍ لتفخيمِ شأنِه والإشعارِ بخروجِه عنْ حدودِ العاداتِ والإيذانِ بأنَّه حقيقٌ بأنْ يبحثَ عنْهُ ويُهتمَّ بمعرفتِه
﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ﴾ أيْ ما تحدثُه بهِ نفسه وهو يخطرُ بالبالِ والوسوسةُ الصوتُ الخفيُّ ومنْهُ وسواسُ الحُليِّ والضميرُ لِمَا أنْ جُعلتْ موصولةً والباءِ كما في صوّت بكذا أو للإنسانِ وإن جُعِلَتْ مصدريةً والباءُ للتعديةِ ﴿وَنَحْنُ أقربُ إِلَيْهِ مِنْ حبل الوريد﴾ أعلمُ بحالِه ممنْ كانَ أقربُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوريدِ عبرَ عنْ قُربِ العلمِ بقُربِ الذاتِ تجوزاً لأنَّهُ موجبٌ لَهُ وحبلُ الوريدِ مثلٌ في فرطِ القربِ والحبلُ العِرْقُ وإضافتُه بيانيةٌ والوريدانِ عرقانِ مكتنفانِ بصفحتيْ العنقِ في مقدِّمِها متصلان بالورتين يردانِ من الرأسِ إليهِ وقيلَ سميَ وريداً لأنَّ الروحَ تَرِدُهُ
﴿إِذْ يَتَلَقَّى المتلقيان﴾ منصوبٌ بَما فِي أقربُ منْ مَعْنى الفعلِ والمَعْنى أنَّه لطيفٌ يتوصلُ علمُهُ إِلى ما لا شيءَ أخفَى منهُ وهُوَ أقربُ منَ الإنسانِ منْ كُلِّ قريبٍ حينَ يتلقَّى ويتلقنُ الحفيظانِ مَا يتلفظُ بهِ وفيهِ إيذانٌ بأنَّه تعالَى غنيٌّ عن استحفاظها لإحاطةِ علمِهِ بما يخَفْىَ عليهمَا وإنما ذلكَ لما كتبتها وحفظِهمَا لأعمالِ العبدِ وعرضِ صحائفِهما يومَ يقومُ الأشهادُ وعلمِ العبدِ بذلكَ مع علمِه
128
} ٨ ١٩
بإحاطتِه تعالَى بتفاصيلِ أحوالِه خبراً من زيادةِ لطفٍ لهُ في الكفِّ عنِ السيئاتِ والرغبةِ في الحسناتِ وعنه عليه الصلاة والسلام إنَّ مقعدَ ملكيكَ عَلى ثنيتيك ولسانك قلبهما وريقُكَ مدادُهما وأنتَ تجرِي فيَما لا يعنيكَ لاَ تستحيْ منَ الله وَلاَ منْهُمَا وقَدْ جُوِّزَ أنْ يكونَ تلَقي الملكينِ بياناً للقربِ عَلى معَنْى إنَّا أقربُ إليهِ مطلعونَ عَلى أعمالِه لأنَّ حفظتَنا وكتبتنَا موكلونَ بهِ ﴿عَنِ اليمين وعن الشمال قعيد﴾ أي عنِ اليمينِ قعيدٌ وعنِ الشمالِ قعيدٌ أيْ مقاعدُ كالجليسِ بمعَنْى المجالسِ لفظاً ومَعْنى فحُذف الأولُ لدِلالة الثاني عليهِ كَما في قولِ مَن قالَ... رمَانِي بأَمْرٍ كُنْتُ مِنْهُ ووالدِي... بَريئاً ومِنْ أجْلِ الطَّوِيِّ رَمَانِي... وقيلَ يطلقُ الفعيلِ على الواحد والمتعددكما في قولِه تعالى والملائكة بَعْدَ ذلك ظَهِيرٌ
129
﴿مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ﴾ مَا يرمي بهِ منْ فيه منْ خيرٍ أوْ شر وقرئ ما يُلْفظُ عَلى البناءِ للمفعولِ ﴿إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ﴾ ملَكٌ يرقبُ قولَه ويكتُبه فإنْ كانَ خَيراً فهو صاحبُ اليمينِ بعينِه وَإِلاَّ فهُوَ صاحبُ الشمالِ ووجْهُ تغييرِ العنوانِ غنيٌّ عنِ البيانِ والإفرادُ معَ وقوفِهما معاً عَلَى ما صَدَرَ عنْهُ لمَا أنَّ كلاً منهُمَا رقيبٌ لما فوضَ إليهِ لا لما فوضَ إلى صاحبه كما ينبأ عنْهُ قولُه تعالَى ﴿عَتِيدٌ﴾ أيْ معدٌّ مهيأٌ لكتابةِ ما أُمر بهِ من الخيرِ أو الشرِّ ومنْ لم ينتبه لَه توهمَ أنَّ معناهُ رقيبانِ عتيدانِ وتخصيصُ القولِ بالذكرِ لإثباتِ الحكمِ في الفعل بدلالة النص واختلاف فيمَا يكتبانِه فقيلَ يكتبانِ كل شئ حَتَّى أنينَهُ في مرضِه وقيلَ إنما يكتبانِ ما فيه من أجرٌ أو وزرٌ وهو الأظهر كما ينبئ عنه قوله ﷺ كاتبُ الحسناتِ عَلى يمينِ الرجلِ وكاتبُ السيئاتِ على يسارِه وكاتبُ الحسناتِ أميرٌ عَلى كاتبِ السيئاتِ فإذا عملَ حسنةً كتبَها ملكُ اليمينِ عشراً وإذا عملَ سيئةً قالَ صاحبُ اليمينِ لصاحبِ الشمالِ دَعْهُ سبعَ ساعاتٍ لعلَّه يسبحُ أو يستغفرُ
﴿وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقّ﴾ بعدما ذُكرَ استبعادُهُم للبعثِ والجزاءِ وأزيحَ ذلكَ بتحقيقِ قدرتِه تعالَى وعلمِه وبيَّنَ أنَّ جميعَ أعمالِهم محفوظةٌ مكتوبةً عليهمْ أتبعَ ذلك ببيانِ ما يلاقونَهُ لا محالةَ منَ الموتِ والبعثِ وما يتفرَّع عليهِ منَ الأحوالِ وَالأهوالِ وقد عبرَ عنْ وقوعِ كُلَ منَها بصيغةِ الماضى إيذانا بتحقيقها وغايةِ اقترابِها وسكرةُ الموتِ شدتُهُ الذاهبةُ بالعقلِ والباءُ إمَّا للتعديةِ كَما في قولكَ جاءَ الرسولُ بالخبرِ والمعنى أحضره سكرةُ الموتِ حقيقة الأمرِ الذى نطقتْ بهِ كتبُ الله ورسلُه أوْ حقيقةَ الأمرِ وجليةَ الحالِ منْ سعادةِ الميتِ وشقاوتِه وقيلَ الحقُّ الذى لابد أنْ يكونَ لا محالةَ منَ الموتِ أوِ الجزاءِ فإنَّ الإنسانَ خُلِقَ لَهُ وإما للملابسةِ كالتي في قولِه تَعالَى تَنبُتُ بالدهن أيْ ملتبسةً بِالحقِّ أيْ بحقيقةِ الأمرِ أو بالحكمةِ والغاية الجميلة وقرئ سكرةُ الحقِّ بالموتِ وَالمَعْنى أنَّها السكرةُ التي كُتبتْ عَلَى الإنْسَانِ بموجبِ الحِكْمةِ وأنَّها لشدتِها توجبُ زُهُوقَ الروحِ أوْ تستعقبُه وقيلَ الباءُ بمعَنْى مَعَ وقيلَ سكرةُ الحقِّ سكرةُ الله تَعالىَ عَلى أنَّ الإضافةَ للتهويلِ
129
} ٤ ٢٠
وقُرِىءَ سَكَراتُ الموتِ ﴿ذلك﴾ أي الموتُ ﴿مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ﴾ أيْ تميلُ وتنفِرُ عَنْهُ والخطابُ للإنسانِ فإنَّ النفرةَ عنْهُ شاملةٌ لكُلِّ فردٍ منْ أفرادِهِ طَبْعاً
130
﴿وَنُفِخَ فِى الصور﴾ هيَ النفخةُ الثانيةُ ﴿ذلك﴾ أيْ وقتُ ذلكَ النفخِ عَلَى حذفِ المضافِ ﴿يَوْمَ الوعيد﴾ أيْ يومُ إنجازِ الوعيدِ الواقعِ في الدُّنيا أيْ يومُ وقوعِ الوعيدِ على أنَّه عبارةٌ عن العذابِ الموعودِ وقيلَ ذلكَ إشارةٌ إِلى الزمانِ المفهومِ منْ نُفِخَ فإنَّ الفعلَ كَما يدلُّ عَلى الحدثِ يدلُّ عَلى الزمانِ وتخصيصُ الوعيد بالذكرِ معَ أنَّه يومُ الوعدِ أيضاً لتهويلِه ولذلكَ بدىءَ ببيانِ حالِ الكفرةِ
﴿وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ﴾ منَ النفوسِ البرةِ والفاجرةِ ﴿مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ﴾ وإنِ اختلفتْ كيفيةُ السَّوقِ والشهادةِ حسبَ اختلافِ النفوسِ عملاً أيْ مَعها ملكانِ أحدُهما يسوقُها إلى المحشرِ والآخرُ يشهدُ بعملِها أو ملكٌ جامعٌ بينَ الوصفينِ كأنَّه قيلَ معَها ملكٌ يسوقُها ويشهدُ علَيها وقيلَ السائقُ كاتبُ السيئاتِ والشهيدُ كاتبُ الحسناتِ وقيلَ السائقُ نفسُه أو قرينُه والشهيدُ جوارحُه أوْ أعمالُه ومحلُّ مَعَها النصبُ عَلى الحاليِّةِ منْ كُلُّ لإضافتِه إلى ما هُوَ في حُكمِ المعرفةِ كأنَّه قيلَ كُلُّ النفوسِ أو الجرُّ عَلى أنَّه وصفٌ لنفسٌ أو الرفعُ عَلى أنَّه وصفٌ لكلّ وقولُه تعالَى
﴿لقد كنت فى غفلة مّنْ هذا﴾ محكيٌّ بإضمارِ قولٍ هُو إمّا صفةٌ أُخرى لنفسٍ أو حالٌ أخرَى منْها أو استئنافٌ مبنيُّ على سؤال نشأ مما قبله كأنه قيل فماذا يفعلُ بها فقيلَ يقالُ لقدِ كنتَ في غفلةٍ إلخ وخطابُ الكُلِّ بذلكَ لما أنَّه ما منْ أحدٍ إلا ولَهُ غفلة ما من الآخرةِ وقيلَ الخطابُ للكافرِ وقُرِىءَ كُنْتِ بكسرِ التاءِ على اعتبارِ تأنيثِ النفسِ والتذكيرُ عَلى القراءةِ المشهورةِ بتأويلِ الشخصِ كما في قول جَبَلةَ بنِ حُريث... يا نفسُ إِنكَ باللذاتِ مسرورا... فاذكر فهل ينفعك اليومَ تذكيرُ...
﴿فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ﴾ الغطاء الحجابُ المُغطِّي لأمورِ المعادِ وهو الغفلةُ والإنهماكُ في المحسوساتِ والألْفُ بها وقصرُ النظرِ عَلَيها ﴿فَبَصَرُكَ اليوم حَدِيدٌ﴾ نافذٌ لزوالِ المانعِ للإبصارِ وَقُرِىءَ بكسر الكاف ف المواللضع الثلاثةِ
﴿وَقَالَ قَرِينُهُ﴾ أي الشيطانُ المُقيَّضُ لهُ مشيراً إليهِ ﴿هذا مَا لَدَىَّ عَتِيدٌ﴾ أيْ هَذا مَا عِنْدي وَفي ملكتِي عتيدٌ لجهنَم قدْ هيأتُه لهَا بإغوائِي وإضلالِي وَقيلَ قالَ المَلكُ الموكلُ بهِ مشيراً إِلى مَا معهُ منْ كتابِ عملهِ هذا مكتوبٌ عندِي عتيدٌ مهيأٌ للعرض وما إن جعلت موصوفة فعتيد صفتها وإن جعلت موصولة فهي بدل مِنْهَا أو خبر بعد خبر أو خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ
﴿أَلْقِيَا فِى جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ﴾ خطابٌ منَ الله تعالَى للسائقِ والشهيدِ أو للملكينِ منْ خَزَنةِ النارِ
130
} ٩ ٢٥
أو لواحدٍ عَلى تنزيلِ تثنية الفاعل تثنيةِ الفعلِ وتكريرِه كقولِ مَنْ قالَ... فإنْ تزجُرانِي يَا ابْنَ عفانَ أنزجِر... وإنْ تدعانِي أحمِ عرضاً ممنَّعاً...
أوْ عَلى أنَّ الأف بدلٌ منْ نونِ التأكيدِ على إجراءِ الوصل مْجرى الوقفِ ويؤيدُه أنه قُرِىءَ ألقين بالنون الخفية ﴿عَنِيدٍ﴾ معاندُ للحقِّ
131
﴿مَّنَّاعٍ لّلْخَيْرِ﴾ كثيرُ المنعِ للمالِ عنْ حقوقِه المفروضةِ وقيلَ المرادُ بالخيرِ الإسلامُ فإنَّ الآيةَ نزلتْ في الوليدِ بْنِ المغيرةِ لما منعَ بَنِي أخيهِ منهُ ﴿مُعْتَدٍ﴾ ظالمٌ متخطَ للحقِّ ﴿مُرِيبٍ﴾ شاكٌّ في الله وفي دينِه
﴿الذى جَعَلَ مَعَ الله إلها آخر﴾ مبتدأٌ متضمِّنٌ لمْعنى الشرطِ خبرُهُ ﴿فألقياه فِى العذاب الشديد﴾ أو بدلٌ منْ كُلِّ كفار وقولُه تعالَى فألقياه تكريرٌ للتوكيدِ أو مفعولٌ لمضمرٍ يفسرُهُ فألقياهُ
﴿قَالَ قرِينُهُ﴾ أيِ الشيطانُ المقيضُ لَهُ وإنما استؤنفَ استئنافَ الجملِ الواقعةِ في حكايةِ المقاولةِ لما أنه جوابٌ لمحذوفٍ دلَّ عليهِ قولُه تعالَى ﴿رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ﴾ فإنُه منبىءٌ عن سابقةِ كلامٍ اعتذرَ بهِ الكافرُ كأنَّه قالَ هُو أطغانِي فأجابَ قرينُهُ بتكذيبهِ وإسنادُ الطغيانِ إليهِ بخلافِ الجملةِ الأُولى فإنَّها واجبةُ العطفِ عَلَى ما قبلَها دلالةٌ على أَنَّ الجمعَ بين مفهوميها في الحصولِ أعنِي مجيءَ كُلَّ نفسٍ معَ الملكينِ وقولَ قرينهِ ﴿وَلَكِن كَانَ﴾ هُو بالذاتِ ﴿فِى ضلال بَعِيدٍ﴾ من الحقِّ فأعنتُه عليهِ بالإغواءِ والدعوةِ إليهِ من غير فسر وإلجاءٍ كما فِي قولِه تعالَى وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُمْ مّن سلطان إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِى
﴿قال﴾ استئناف مبني على سؤال نشأ مما قبله كأنَّه قيلَ فماذَا قالَ الله تعالَى فقيلَ قالَ ﴿لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَىَّ﴾ أيْ في موقفِ الحسابِ والجزاءِ إذْ لا فائدةَ في ذلكَ ﴿وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بالوعيد﴾ عَلى الطغيانِ في دارِ الكسبِ في كُتبي وعَلى ألسنةِ رسلِي فلا تطعموا في الخلاصِ عَنْهُ بما أنتُم فيهِ من التعللِ بالمعاذيرِ الباطلةِ والجملةُ حالٌ فيَها تعليلٌ للنَّهِي عَلى مَعْنى لا تختصمُوا وقَدْ صحَّ عندكُم أنِّي قدمتُ إليكمْ بالوعيدِ حيثُ قلتُ لإبليس لاملان جهنم منك وممن تبعك منهم أجميعن فاتبعوه معرضينَ عن الحقِّ فلاَ وجْهَ للاختصامِ في هَذا الوقتِ والباءُ مزيدةٌ أوْ معدية عَلى أنَّ قدَّمَ بمَعْنى تقدَّمَ وقَدْ جوِّز أنْ يكونَ قدمتُ واقعاً عَلى قولِه تعالَى
﴿مَا يُبَدَّلُ القول لَدَىَّ﴾ الخ ويكون الوعيد متعلقاً بمحذوفٍ هو حالٌ منَ المفعولِ أوِ الفاعلِ أيْ وقَدْ قدمتُ إليكمْ هَذا القولَ ملتبساً بالوعيدِ مقترناً بهِ أو قدمتُه إليكُم مُوعداً لكُم بهِ فَلا تطمعُوا أنْ أبدلَ وعيدِي والعفوُ عنْ بعضِ المذنبينَ لأسبابٍ داعيةٍ إليهِ ليسَ بتبديلٍ فإنَّ دلائل العفوِ تدلُّ عَلى تخصيصِ الوعيدِ وقولُه تعالَى ﴿وَمَا أَنَاْ بظلام للعبيد﴾ وارد لتحقيقِ الحقِّ عَلى الوجهِ
131
} ٢ ٣٠
الكلى وتبين أنَّ عدمَ تبديلِ القولِ وتحقيقَ موجبِ الوعيدِ ليسَ منْ جهتِه تعالَى منْ غيرِ استحقاقٍ لهُ منهُمْ بَلْ إنما ذلكَ بما صدرَ عنْهم منَ الجناياتِ الموجبةِ لهُ حسبمَا أشيرَ إليهِ آنِفاً أيُ وَمَا أنَا بمعذبٍ للعبيدِ بغيرِ ذنب ليس يبظلم على ما تقرر من قاعدةِ أهلِ السُنَّةِ فضلاً عن كونِه ظلماً مُفرطاً لبيانِ كمالِ نزاهتِه تعالَى عنْ ذلكَ بتصويرِه بصورةِ ما يستحيلُ صدورُه عنْهُ سبحانَهُ منَ الظلمِ وصيغةُ المبالغةِ لتأكيدِ هَذا المَعْنى بإبرازِ ما ذُكر من التعذيبِ بغيرِ ذنبٍ في معرضِ المبالغةِ في الظلمِ وقيل هي لرعاية جميعه العبيدِ من قولِهم فلانٌ ظالمٌ لعبدهِ وظلاَّم لعبيدِه على اها مبالغة كما لا كيف
132
﴿يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امتلات وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ﴾ سؤالٌ وجوابٌ جيءَ بهمَا عَلى منهاجِ التمثيلِ والتخييل لتهويل أمرها ولمعنى أنَّها معَ اتِّساعِها وتباعدِ أقطارِها تطرحُ فيَها منَ الجِنَّةِ والنَّاسِ فوجاً بعدَ فوجٍ حَتَّى تمتلىء أو أنها من السعة بحيث يدخلها من يدخلها وفيها بعد محل فارغ أو انها لغيظها عى العصاة تطلب زيادتَهُم وقُرِىءَ يقولُ بالياءِ والمزيدُ إمَّا مصدرٌ كالمحيدِ والمجيدِ أو مفعولٌ كالمبيعِ ويوم ما منصوبٌ باذكُرْ أوْ أنذِرْ أو ظرف لنفخ فتكون ذلكَ حينئذٍ إشارةٌ إليهِ منْ غيرِ حاجةٍ إلى تقرير مضافٍ أو لمقدرٍ مؤخرٍ اى يكون من الأحو والأهوالِ ما يقصرُ عنْهُ المقالُ
﴿وَأُزْلِفَتِ الجنة لِلْمُتَّقِينَ﴾ شروعٌ في بيانِ حالِ المؤمنينَ بعدَ النفخِ ومجيءِ النفوسِ إِلى موقفِ الحسابِ وقدْ مر سر تقديم حالِ الكفرةِ عليهِ وهو عطفٌ عَلى نُفِخَ أيْ قربتْ للمتقينَ عنِ الكفرِ والماعصى بحيثُ يُشاهدونها من الموقفِ ويقفُون عَلى ما فَيها من فنُون المحاسنِ فيبتهجُون بأنَّهم محشورونَ إليَها فائزونَ بَها وقولُه تعالَى ﴿غَيْرَ بَعِيدٍ﴾ تأكيدٌ للإزلافِ أيْ مكاناً غيرَ بعيدٍ بحيثُ يشاهدُونَها أوْ حالُ كونِها غيرَ بعيدٍ أيْ شيئاً غيرَ بعيدٍ ويجوزُ أنْ يكونَ التَّذكيرُ لكونِه على زنةِ المصدرِ الذي يستوِي في الوصفِ بهِ المذكرُ والمؤنثُ أوْ لتأويلِ الجنةِ بالبستانِ
﴿هذا مَا تُوعَدُونَ﴾ إشارةٌ إِلى الجَنَّةِ والتذكيرُ لَمَا أنَّ المشارَ إليهِ هُوَ المسمَّى منْ غيرِ أنْ يخطُر بالبالِ لفظٌ يدلُّ عليه فضلا عن تذكيرِه وتأنيثِه فإنَّهما منْ أحكامِ اللفظِ العربيِّ كَما مرَّ في قوله تعالى فَلَماَّ رَأَى الشمس بَازِغَةًً قَالَ هذا رَبّى وقولُه تعالَى وَلَمَّا رَأَى المؤمنون الأحزاب قَالُواْ هذا مَا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ ويجوزُ أنْ يكونَ ذلكَ لتذكيرِ الخبرِ وقيلَ هُو إشارةٌ إلى ثواب وقيلَ إلى مصدرِ أزلفتْ وقُرِىءَ يُوعَدُونَ والجملةُ إمَّا اعتراضٌ بينَ البدلِ والمبدلِ مِنْهُ وإمَّا مقدرٌ بقولٍ هُوَ حالٌ منَ المتقينَ أو منَ الجنَّةِ والعاملُ أزلفتْ أيْ مقولاً لهُمْ أو مقولاً في حَقِّها هَذا ما توعدونَ ﴿لِكُلّ أَوَّابٌ﴾ أيْ رجَّاع إلى الله تعالَى بدلٌ منْ المتقينَ بإعادةِ الجارِّ ﴿حَفِيظٌ﴾ حافظ لتوبته من النقص وقيلَ هُوَ الذَّي يحفظُ ذنوبَهُ حتَّى يرجعَ عنْهَا ويستغفرَ مِنْها وقيلَ هُو الحافظُ لأوامرِ الله تعالَى وقيلَ لِمَا استودَعَهُ الله تعالَى مِنْ حقوقِها
132
} ٦ ٣ {
133
﴿مَّنْ خَشِىَ الرحمن بالغيب وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ﴾ بدلٌ بعدَ بدلٍ أو بدلٌ منْ موصوفِ أوابٍ ولا يجوزُ أنْ يكونَ فِي حُكْمِهِ لأنَّ مَنْ لا يوصفُ بهِ ولا يوصفُ إلاَّ بالَّذي أو مبتدأٌ خبرُهُ
﴿ادخلوها﴾ بتأويلِ يقالُ لَهُمْ ادخلوها والجمع باعبتار معنى من قوله تعالى بالغيبِ متعلقٌ بمحذوفٍ هو حال من فاعل خشيَ أو مفعولِه أو صفةٌ لمصدرِه أي خشيةً ملتبسةً بالغيبِ حيثُ خشِيَ عقابة وهو غائبٌ عنِ الأعينِ لا يراهُ أحدٌ والتعرضُ لعنوانِ الرحمانيةِ للإشارةِ بأنَّهمْ معَ خشيتِهم عقابَهُ راجونَ رحمتَهُ أوْ بأنَّ علمَهُم بسعةِ رحمته تعالى لايصدهم عنْ خشيتِه تعالَى وأنَّهم عاملونَ بموجبِ قولُه تعالَى نَبّىء عِبَادِى أَنّى أَنَا الغفور الرحيم وَأَنَّ عَذَابِى هُوَ العذاب الأليم ووصفُ القلبِ بالإنابة لما أن العبرة برجوعه إلى الله تعالى ﴿بِسَلامٍ﴾ متعلق بمحذوف هو حال من فاعل ادخلوهَا أيْ ملتبسينَ بسلامةٍ منَ العذابِ وزوالِ النعمِ أو بسلامٍ من جهةِ الله تعالَى وملائكتِه ﴿ذلك﴾ إشارةٌ إلى الزمانِ الممتدِّ الذي وقعَ فِي بعضٍ منْهُ ما ذُكِرَ منَ الأمورِ ﴿يَوْمُ الخلود﴾ إذْ لا انتهاءَ لهُ أبداً
﴿لهم ما يشاؤون﴾ منْ فنونِ المَطَالبِ كائناً ما كانَ ﴿فِيهَا﴾ متعلقٌ بيشاؤن وقيلَ بمحذوفٍ هُوَ حالٌ منَ الموصولِ أو مِنْ عائدِه المحذوفِ منْ صلتِه ﴿ولدينا مزيد﴾ هو مالا يخطُرُ ببالِهم ولا يندرجُ تحتَ مشيئتِهم مِنْ معالِي الكراماتِ التي لا عينٌ رأتْ ولا أذنٌ سمعتْ ولا خطر على قلب بشر وقيل إن السحاب تمرُّ بأهلِ الجنةِ فتمطرُهم الحُورَ فتقولُ نحنُ المزيدُ الذي قالَ تعالَى ولدينَا مزيدٌ
﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ﴾ أي قبلَ قومِك ﴿مّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشاً﴾ أي قوةً كعادٍ وَأَضْرابِها ﴿فَنَقَّبُواْ فِى البلاد﴾ أيْ خرقُوا فيَها ودوخُوا وتصرفُوا في أقطارِها أو جالُوا في أكنافِ الأرضِ كُلَّ مجالٍ حذارَ الموتِ وأصلُ التنقيبِ والنقبِ التنقيرُ عنِ الأمرِ والبحثُ والطلبُ والفاءُ للدِلالة على أنَّ شدةَ بطشِهم أقدرتْهُمْ عَلى التنقيبِ قيلَ هيَ عاطفةٌ في المَعَنى كأنَّه قيلَ اشتدَّ بطشُهم فنقبُوا الخ وَقُرِىءَ بالتخفيفِ ﴿هَلْ مِن مَّحِيصٍ﴾ أيْ هَلْ لهُمْ منْ مُخَلِّصٍ مَنْ أمرِ الله تعالَى والجملةُ إمَّا عَلى إضمارِ قولٍ هُو حالٌ منْ واوِ نقَّبُوا أيْ فنقَّبُوا فِي البلادِ قائلينَ هَلْ منْ محيصٍ أوْ عَلى إجراءِ التنقيبِ لِما فيهِ منْ مَعْنى التتبعِ والتفتيشِ مُجَرى القولِ أوْ هُوَ كلامٌ مستأنفٌ واردٌ لنفي أنْ يكونَ لَهُم محيصٌ وقيلَ ضميرُ نقَّبُوا لإهلِ مكةَ أيْ سارُوا في مسايرِهم وأسفارِهم في بلادِ القرونِ فَهلْ رَأَوا لهُمْ محيصاً حَتَّى يُؤمِّلُوا مثَلُه لأنفسِهم ويعضدُهُ القراءةُ عَلى صيغةِ الأمِرَ وقُرِىءَ فنقِّبُوا بكسرِ القافِ من النقَبِ وهُوَ أنْ ينتقبَ خفُّ البعيرِ أيْ أَكْثروا السيرَ حَتَّى نقِبتْ أقدامُهم أو أخفافُ إبلِهم
133
} ٧ ٤ {
134
﴿إِنَّ فِى ذَلِكَ﴾ أي فيمَا ذُكر من قصَّتهم وقيلَ فيَما ذكرَ في السورةِ ﴿لِذِكْرِى﴾ لتذكرةً وعِظةً ﴿لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ﴾ أيْ قلبٌ سليمٌ يدركُ به كُنْهَ ما يشاهدُه منِ الأمورِ ويتفكرُ فيَها كما ينبغِي فإنَّ مَنْ كانَ له ذلكَ يعلمُ أنَّ مدارَ دمارِهم هُو الكفرُ فيرتدعُ عَنْهُ بمجردِ مشاهدةِ الآثارِ من غيرِ تذكيرٍ ﴿أَوْ أَلْقَى السمع﴾ أيْ إلى مَا يُتلى عليهِ منَ الوحيِ النَّاطقِ بما جرَى عليهمْ فإنَّ منْ فعلَهُ يقفْ عَلى جلية الأمر فيزجر عَمَّا يؤدَّي إليهِ منَ الكفرِ فكلمةُ أَوْ لمنعِ الخلوِّ دونَ الجمعِ فإنَّ إلقاءَ السمعِ لا يُجدِي بدونِ سلامةِ القلبِ كَما يلوحُ بهِ قولُه تعالَى ﴿وَهُوَ شَهِيدٌ﴾ أيْ حاضرٌ بفطنتهِ لأنَّ منْ لاَ يَحْضُرُ ذهنُهُ فكأنَّه غائبٌ وتجريدُ القلبِ عما ذكرَ من الصفاتِ للإيذانِ بأنَّ منْ عُرِّيَ قلبُه عَنْهَا كمَنْ لاَ قلبَ لَهُ أصلا
﴿ولقد خلقنا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا﴾ منْ أصنافِ المخلوقاتِ ﴿فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا﴾ بذلكَ معَ كونِه ممَّا لا يَفِي بهِ القُوَى وَالقُدَرُ ﴿مِن لُّغُوبٍ﴾ مِنْ إعياءٍ مَا ولاَ تعبٍ في الجملةِ وهَذَا ردٌّ علَى جَهَلةِ اليهودِ في زعمِهم أنه تعالى بدأخلق العالمِ يومَ الأحدِ وفرَغَ منْهُ يومَ الجمعةِ واستراحَ يومَ السبتِ واستلقَى على العرشِ سبحانَهُ وتعالَى عمَّا يقولونَ عُلوَّا كبيراً
﴿فاصبر على مَا يَقُولُونَ﴾ أيْ ما يقولُه المشركونَ في شأنِ البعثِ منَ الأباطيلِ المبنيةِ عَلى الإنكارِ والاستبعادِ فإنَّ مَنْ فعلَ هذهِ الأفاعيلَ بلا فتورٍ قادرٌ عَلى بعثِهم والانتقامِ منهُمْ أوْ ما يقولُه اليهودَ منْ مقالاتِ الكفرِ والتشبيهِ ﴿وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ﴾ أيْ نَزِّهَهُ تعالَى عنِ العجزِ عَمَّا يمكُن وَعَنْ وقوعِ الخُلفِ في أخبارِه التي مِن جُملتِها الإخبارُ بوقوعِ البعثِ وعنْ وصفهِ تعالَى بما يوجبُ التشبيَه حَامداً له تعالَى عَلى ما أنعمَ به عليكَ من إصابةِ الحقِّ وغيرِهَا ﴿قَبْلَ طُلُوعِ الشمس وَقَبْلَ الغروب﴾ هُمَا وقتُ الفجرِ والعصرِ وفضيلتُهما مشهورةٌ
﴿ومن الليل فَسَبّحْهُ﴾ وسَبِّحْهُ بعضَ الليلِ ﴿وأدبار السجود﴾ وأعقابّ الصلواتِ جمع دبر وقرئ بالكسرِ مِنْ أدبرتِ الصلاةُ إذَا انقضتْ وتمتْ ومعناهُ وقتُ انقضاءِ السجودِ وقيلَ المرادُ بالتسبيحِ الصلواتُ فالمَرادُ بما قبلَ الطلوعِ صلاةُ الفجرِ وبما قبلَ الغروبِ الظهرُ والعصرُ وبمَا مِنَ الليلِ العشاءانِ والتهجدُ ومَا يصلَّى بأدبار السجودِ النوافلُ بعدَ المكتوباتِ
﴿واستمع﴾ أيْ لما يُوحَى إليكَ من أحوالِ القيامةِ وفيهِ تهويلٌ وتفظيعٌ للمخَبرِ به ﴿يوم يناد المناد﴾ أيْ إسرافيلُ أوْ جبريلُ عليهَما السلامُ فيقولُ أيتَها العظامُ الباليةُ واللحومُ المتمزقةُ والشعورُ المتفرقةُ إنَّ الله يأمركُنَّ أنْ تجتمعنَ لفصلِ القضاءِ وقيلَ إسرافيلُ ينفخُ وجبريل ينادى بالحشر ﴿مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ﴾ بحيث يصلُ
134
٤٢ ٤٥
نداؤُه إِلى الكُلِّ عَلى سواءٍ وقيلَ من صخرةِ بيتِ المقدسِ وقيلَ من تحتِ أقدامِهم وقيلَ من منابتِ شعورِهم يُسمَعُ منْ كُلِّ شعرةٍ ولعلَّ ذلكَ في الإعادةِ مثلُ كُنْ في البدءِ
135
﴿يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصيحة﴾ بدلٌ منْ يومَ يُنادِي الخ وهي النفخةُ الثانيةُ ﴿بالحق﴾ متعلقٌ بالصيحةِ والعاملُ في الظرفِ ما يدلُّ عليهِ قولُه تعالَى ﴿ذَلِكَ يَوْمُ الخروج﴾ أيْ يوم يسمعونَ الصيحةَ ملتبسةً بالحقِّ الذَّي هو البعث يحرجون منَ القبورِ
﴿إنا نحن نحيي وَنُمِيتُ﴾ في الدُّنيا منْ غيرِ أنْ يشاركَنَا في ذلكَ أحدٌ ﴿وَإِلَيْنَا المصير﴾ للجزاءِ في الآخرةِ لا إلى غيرنا لا استقلا ولا اشتراكاً
﴿يَوْمَ تَشَقَّقُ الأرض عَنْهُمْ﴾ بحذف إحدى التاءين من تتشقق وقرئ بتشديدِ الشينِ وتُشقَّقُ عَلى البناءِ للمفعولِ من التفعيلِ وَتنشقُ ﴿سِرَاعاً﴾ مسرعينَ ﴿ذَلِكَ حَشْرٌ﴾ بعث وجمعٌ وسوقٌ ﴿عَلَيْنَا يَسِيرٌ﴾ أيْ هينٌ وتقديمُ الجارِّ والمجرورِ لتخصيصِ اليُسْرِ بهِ تعالَى
﴿نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ﴾ مِنْ نفْي البعثِ وتكذيبِ الآياتِ الناطقةِ بهِ وغيرِ ذلكَ مما لا خيرَ فيهِ ﴿وَمَا أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ﴾ بمتسلطٍ تقسرهُم علَى الإيمانِ أو تفعلُ بهمُ ما تريدُ وإنما أنتَ مذكر ﴿فذكر بالقرآن مَن يَخَافُ وَعِيدِ﴾ وأما مَنْ عداهُم فنحنُ نفعلُ بهم ما توحيه أقوالُهم وتستدعيهِ أعمالُهم من ألوانِ العقابِ وفنونِ العذابِ عن النبي عليه الصلاةَ والسلام من قرأ سورة ق هَوَّنَ الله عليهِ ثأرات الموت وسكراته
135
} ٦
﴿بسم الله الرحمن الرحيم﴾
136
Icon