تفسير سورة الأعلى

تفسير أبي السعود
تفسير سورة سورة الأعلى من كتاب إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم المعروف بـتفسير أبي السعود .
لمؤلفه أبو السعود . المتوفي سنة 982 هـ
سورة الأعلى مكية، وآيها تسع عشرة.

سَبِّحِ اسم رَبّكَ الأعلى
أي نزه اسَمُه عزَّ وجلَّ عن الإلحادِ فيه بالتأويلاتِ الزائغةِ وعن إطلاقِه على غيرِه بوجهٍ يُشعرُ بتشاركِهما فيهِ وعن ذكرِه لاَ عَلى وجهِ الإعظامِ والإجلالِ والأعلى إمَّا صفةُ للربِّ وهو الأظهرُ أو للاسمِ وقُرِىءَ سُبحانَ ربِّيَ الأَعْلَى وفي الحديثِ لما نزلتْ ﴿فسبح باسمِ ربِّكَ العظيمِ﴾ قال عليه الصَّلاةُ والسلام اجلعوها في ركوعِكم فلمَّا نزلَ ﴿سَبِّحِ اسم رَبّكَ الأعلى﴾ قالَ اجعلُوها في سُجودِكم وكانُوا يقولونَ في الركوعِ اللهمَّ لكَ ركعتُ وفي السجودِ اللَّهم لكَ سجدتُ
الذى خَلَقَ فسوى
صفةٌ أُخرى للربِّ على الوجهِ الأولِ ومنصوبٌ على المدحِ على الثَّانِي لئلا يلزمَ الفصلُ بين الموصوفِ والصفةِ بصفةِ غيرِه أيْ خلقَ كلَّ شيءٍ فسوَّى خلقَهُ بأنْ جعلَ له ما به يتأتى كما له ويتسنَّى معاشُه وقولُه تعالَى
والذى قَدَّرَ
إمَّا صفةٌ أُخْرى للربِّ كالموصول الأولِ أو معطوفٌ عليهِ وكذا حالُ ما بعدَهُ قدَّرَ أجناسَ الأشياءِ وأنواعِها وأفرادَها ومقاديرَها وصفاتِها وأفعالَها وآجالَها
فهدى
أيْ فوجَّه كلَّ واحدٍ منَها إلى ما يصدرُ عنْهُ وينبغِي لهُ طبعاً أو اختياراً ويسرهُ لما خُلقَ له بخلقِ الميولِ والإلهاماتِ ونصبُ الدلائلِ وإنزالِ الآياتِ ولو تتبعتَ احوال النباتات والحيوانات
143
٨٧ سورة الأعلى (٤ ٧)
لرأيت كلَ منَها ما تحارُ فيه العقولُ يُروى أنَّ الأفعَى إذَا بلغتْ ألفَ سنةٍ عميتْ وقدْ ألهمَها الله تعالَى أنْ تمسحَ عينَها بورقِ الرازيانجِ الغضِّ يُردُّ إليها بصرُها فربَّما كانتْ عندَ عُروضِ العَمَى لها في بريةٍ بينَها وبين الريفِ مسافةٌ طويلةٌ فتطويها حتى تهجمَ في بعضِ البساتينِ على شجرة الرازيانجِ لا تُخطئها فتحكَّ عينَها بورَقِها وترجعَ باصرةً بإذنِ الله عزَّ وجلَّ ويُروى أنَّ التمساحَ لا يكونُ له دُبرٌ وإنَّما يخرجُ فضلاتِ ما يأكلُه من فمِه حيثُ قيَّضَ الله له طائراً قُدِّر غذاؤُه من ذلكَ فإذَا رآهُ التمساحُ يفتحُ فمَهَ فيدخُلُه الطائرُ فيأكلُ ما فيهِ وقد خلقَ الله تعالى له من فوقِ منقارِه ومن تحتِه قرنينِ لئلا يطبقَ عليه التمساحُ فمَهُ هَذا وأمَّا فنونُ هداياتِه سبحانَهُ وتعالَى للإنسانِ من حيثُ الجسميةُ ومن حيثُ الحيوانيةُ لا سيِّما من حيثُ الإنسانيةُ فممَّا لا يحيطُ به فَلَكُ العبارةِ والتحريرُ ولا يعلمُه إلا العليمُ الخبر
144
والذى أَخْرَجَ المرعى
أيْ أنبتَ ما يرعاهُ الدوابُّ غضّاً طرياً يرفُ
فَجَعَلَهُ
بعدَ ذلكَ
غُثَاء أحوى
أي دَريناً أسودَ وقيلَ أحْوَى حالٌ من المَرْعى أي أخرجَهُ أَحْوَى من شدة الخضرةِ والريِّ فجعلَه غُثاءً بعدَ ذلكَ وقولُه تعالى
سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى
بيانٌ لهداية الله تعالَى الخاصَّةِ برسولِ الله صلَّى الله عليه وسلم إثرَ بيانِ هدايتِه تعالى العامَّةِ لكافَّةِ مخلوقاتِه وهي هدايته عليه الصلاة والسلام لتلقِّي الوَحْي وحفظِ القرآنِ الذي هو هُدى للعالمينَ وتوفيقُه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لهدايةِ الناسِ أجمعينَ والسين إمَّا للتأكيدِ وإمَّا لأنَّ المرادَ إقراءُ ما أَوْحى الله إليهِ حينئذٍ وما سيُوحى إليهِ بعدَ ذلكَ فهو وعد كريم باستمرار الوَحْي في ضمنِ الوعدِ بالإقراءِ أي سنُقرئكَ ما نُوحِي إليكَ الآنَ وفيما بعدُ على لسانِ جبريلَ عليهِ السَّلامُ أو سنجعلكَ قارئاً بإلهامِ القراءةِ فلا تنْسى أصلاً من قوةِ الحفظِ والإتقانِ مع أنَّكَ أميٌّ لا تدرِي ما الكتابُ وما القراءةُ ليكونَ ذلك آيةً أُخْرى لكَ معَ ما في تضاعيفِ ما تقرؤه من الآياتِ البيناتِ من حيثُ الإعجازُ ومن حيثُ الإخبارُ بالمغيباتِ وقيلَ فلا تنْسى نهيٌ والألفُ لمراعاة الفاصلةِ كما في قولِه تعالى ﴿فأضلُّونَا السبيلاَ﴾ وقولُه تعالى
إلا ما شاء الله
استثناءٌ مفرَّغٌ من أعم المفاعيلِ أيْ لا تَنْسى ممَّا تقرؤُه شيئاً من الأشياءِ إلا ما شاءَ الله أنْ تنساهُ أبداً بأنْ نُسخَ تلاوتُه والالتفاتُ إلى الإسم الجليل لتربية المهابةِ والإيذانِ بدورانِ المشيئةِ على عُنوانِ الأُلوهيةِ المستتبعةِ لسائرِ الصفاتِ وقيل المرادُ به النسيانُ في الجملةِ على القلةِ والندرةِ كما روي أنه عليه الصلاة والسَّلامُ أسقطَ آيةً في قراءته في الصلاة فحسب أبيُّ أنها نُسختْ فسألَه فقال عليه الصلاة
144
٨٧ سورة الأعلى (٨ ١٠)
والسَّلامُ نسيتُها وقيلَ نَفيُ النسيانِ رأساً فإنَّ القَّلةَ قد تُستعملُ في النَّفي فالمراد بالنسيان حينئذ النسيان بالكليةِ إذُ هو المنفيُّ رأساً لا ما قَدْ ينسى ثم يذكر
إِنَّهُ يَعْلَمُ الجهر وَمَا يخفى
تعليلٌ لمَا قبلَهُ أيْ يعلم ما ظهرَ وما بطنَ من الأمور التي من جُملتِها ما أُوحيَ إليكَ فيُنْسِي ما يشاءُ إنساءَهُ ويُبقي محفوظاً ما يشاءُ إبقاءَهُ لما نيطَ بكلَ منهُما من مصالحِ دينِكم
145
وَنُيَسّرُكَ لليسرى
عطفٌ على نُقرئكَ كما يُنْبىءُ عنه الالتفاتُ إلى الحكايةِ وما بينهما اعتراضٌ واردُ لما ذُكرَ من التعليلِ وتعليقٌ التيسيرِ به عليهِ الصلاةُ والسَّلامُ مع أنَّ الشائعَ تعليقُه بالأمورِ المسخرةِ للفاعلِ كما في قوله تعالى ﴿وَيَسّرْ لِى أَمْرِى﴾ للإيذانِ بقوةِ تمكينِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ من اليُسرى والتصرفِ فيها بحيثُ صارَ ذلكَ ملكةً راسخةً له كأنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ جُبلَ عليها كما في قولِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ اعملُوا فكُلٌّ ميسرٌ لِمَا خُلقَ له أي نوفقكَ توفيقاً مستمراً للطريقةِ اليُسرى في كُلّ بَابٍ من أبوابِ الدينِ علماً وتعليماً واهتداءً وهدايةً فيندرجُ فيه تيسيرُ طريقِ تلقِّي الوَحْي والإحاطةِ بما فيه منْ أحكامِ الشريعةِ السمحةِ والنواميسِ الإلهيةِ مما يتعلقُ بتكميل نفسِه عليه الصلاةُ والسَّلامُ وتكميلِ غيرِه كَما تُفصحُ عنه الفاءُ في قوله تعالى
فَذَكّرْ إِن نَّفَعَتِ الذكرى
أي فذكرِ الناسَ حسبما يَسَّرناكَ لهُ بما يُوحى إليكَ واهدِهِم إلى ما في تضاعيفه من الأحكام الشرعيةِ كما كنتَ تفعلُه لا بعدَ ما استتبَ لك الأمرُ كما قيلَ وتقييد التذكير بنفع الذكرَى لما أنَّ رسولَ الله ﷺ طالمَا كانَ يذكرهُم ويستفرغُ فيه غايةَ المجهودِ ويتجاوزُ في الجِد كلَّ حدَ معهودٍ حرصاً على إيمانِهم وما كانَ يزيدُ ذلكَ بعضُهم إلا كُفراً وعناداً فأمر عليه الصلاة والسلام بأنْ يخصَّ التذكيرَ بموادِّ النفعِ في الجملةِ بأنْ يكونَ مَنْ يذكرُهُ كلاً أو بعضاً مِمَّنْ يُرجى منه التذكرُ ولا يتعبُ نفسَه في تذكيرِ مَن لا يورثُهُ التذكيرُ إلا عتواً ونفوراً من المطبوعِ على قلوبِهم كما في قوله تعالى ﴿فذكر بالقرآن مَن يَخَافُ وَعِيدِ﴾ وقولِه تعالى ﴿فَأَعْرِضْ عَن مَّن تولى عَن ذِكْرِنَا﴾ وقيلَ هُو ذمٌّ للمذكرينَ وإخبارٌ عن حالِهم واستبعادٌ لتأثيرِ التذكيرِ فيهم وتسجيلٌ عليهمْ بالطبعِ على قلوبِهم كقولكَ للواعظ عظِ المكَّاسينَ إنْ سمعُوا منك قصداً إلى أنَّه مما لا يكونُ والأولُ أنسبُ لقوله تعالى
سَيَذَّكَّرُ مَن يخشى
أي سيتذكرُ بتذكيرِكَ مَنْ مِنْ شأنُه أنْ يخشَى الله تعالى حقَّ خشيتِه أو مَنْ يخشَى الله تعالَى في الجملةِ فيزدادُ ذلكَ بالتذكيرِ فيتفكرُ في أمرِ مَا تذكرَ به فيقفُ على حقيتِه فيؤمنُ بهِ وقيلَ إنْ بمَعْنى إذْ كما في قوله تعالى ﴿وَأَنتُمُ الاْعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ أي إذْ كنتُم وقيلَ هيَ بمَعْنى مَا أيُ فذكْر ما نفعتِ الذكرَى فإنَّها لا تخلُو
145
٨٧ سورة الأعلى (١١ ١٧)
عن نفعٍ بكلِّ حالٍ وقيلَ هناكَ محذوفٌ والتقديرُ إنْ نفعتِ الذكرَى وإنْ لم تنفعْ كقولِه تعالى ﴿سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر﴾ قالَهُ الفَّراءُ والنَّحاسُ والجُرجُانيُّ والزهراويُّ
146
وَيَتَجَنَّبُهَا
أي الذكرَى
الأشقى
من الكفرة لتوغله في عداوة النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم وقيل نزلت في الوليد بنِ المغيرةِ وعتبةَ بنِ أبي ربيعةَ
الذى يَصْلَى النار الكبرى
أي الطبقةَ السُّفلَى من طبقاتِ النارِ وقيلَ الكُبرى نارُ جهنمَ والصُّغْرى نارُ الدُّنيا لقولِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ نارُكُم هذهِ جزءٌ من سبعين جزءا من نارِ جهنَم
ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيهَا
حتى يستريحَ
وَلاَ يحيى
حياةً تنفعُه وثمَّ للتراخِي في مراتبِ الشدةِ لأن الترددَ بين الموتَ والحياةِ أفظعُ من الصَّلْي
قَدْ أَفْلَحَ
أي نجَا من المكروهِ وظفرَ بما يرجُوه
مَن تزكى
أيْ تطهرَ من الكفرِ والمعاصِي بتذكرِه واتعاظِه بالذكرَى أو تكثر من التَّقوى والخشيةِ مْنَ الزكاءِ وهو النماءُ وقيل تطهر للصلاة وقيلَ تزكَّى تفعَّل من الزكاةِ وكلمةُ قَدْ لَما أنَّ عندَ الإخبارِ بسوءِ حالِ المتجنبِ عنِ الذكرَى في الآخرةِ يتوقعُ السامعُ الأخبارَ بحسنِ حالِ المتذكرِ فيَها وينتظرُه
وَذَكَرَ اسم رَبّهِ
بقلبِه ولسانِه

فصلى


أقامَ الصلواتِ الخمس كقوله تعالى ﴿وأقم الصلاة لذكري﴾ أو كبرَ تكبيرةَ الافتتاحِ فصلَّى وقيلَ تزكَّى أي تصدقَ صدقة الفطرِ وذكر اسمَ ربِّه أي كبَّرهُ يومَ العيدِ فصلَّى أيْ صلاتَهُ
بَلْ تُؤْثِرُونَ الحياة الدنيا
إضرابٌ عن مقدَّرٍ ينساقُ إليهِ الكلامُ كأنَّه قيلَ إثرَ بيانِ ما يؤدِّي الى الفلاح لا تفلعون ذلكَ بلْ تؤثرونَ اللذاتِ العاجلةَ الفانيةَ فتسعَونَ لتحصيلِها والخطابُ إمَّا للكفرةِ فالمرادُ بإيثارِ الحياةِ الدُّنيا هُو الرِّضا والاطمئنانُ بهَا والإعراضُ عن الآخرةِ بالكليةِ كما في قوله تعالى ﴿إَنَّ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بالحياة الدنيا واطمأنوا بِهَا﴾ الآيةَ أو للكُلِّ فالمرادُ بإيثارها ما هُو أعمُّ ممَّا ذُكرَ وما لا يخلُو عنْهُ الإنسانُ غالباً من ترجيح جانبِ الدُّنيا على الآخرة في السعي وترتيب المبادىء والالتفاتُ على الأولِ لتشديدِ التوبيخِ وعلى الثَّانِي كذلكَ في حقِّ الكفرةِ وتشديدِ العتابِ في حقِّ المسلمينَ وقُرِىءَ يُؤثرونَ بالياءِ وقولُه تعالى
والآخرة
146
٨٧ سورة الأعلى (١٨ ١٩)
خَيْرٌ وأبقى
حالٌ من فاعلِ تؤثرونَ مؤكدةٌ للتوبيخِ والعتابِ أي تُؤثرونَها على الآخرةِ والحالُ أنَّ الآخرةَ خيرٌ في نفسِها لمَا أنَّ نعيمَها مع كونِه في غايةِ ما يكونُ من اللذةِ خالصٌ عن شائبةِ الغائلةِ أبديٌّ لا انصرامَ لَه وعدمُ التعرضِ لبيانِ تكدرِ نعيمِ الدُّنيا بالمنغصاتِ وانقطاعِه عمَّا قليلٍ لغايةِ ظهورِه
147
إِنَّ هَذَا
إشارةٌ إلى ما ذُكِرَ من قولِه تعالى ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن تزكى﴾ وقيلَ إلى ما في السورةِ جميعاً
لَفِى الصحف الأولى
أي ثابتٌ فيها معناهُ
صُحُفِ إبراهيم وموسى
بدلٌ من الصحفِ الأُولى وفي إبهامِها ووصفِها بالقدمِ ثم بيانِها وتفسيرِها من تفخيمِ شأنها مالا يَخْفى رُويَ أن جميعَ ما أنزلَ الله عزَّ وجلَّ من كتابٍ مائةٌ وأربعةُ كتبٍ أنزلَ على آدمَ عليهِ السَّلامُ عشرَ صحفٍ وعلى شيثٍ خمسينَ صحيفةً وعلى إدريسَ ثلاثينَ صحيفةً وعلى إبراهيمَ عشرَ صحائفَ عليهم السَّلامُ والتوراةَ والإنجيلُ والزبورُ والفرقانَ عن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورةَ الأعلى أعطاه الله تعالى عشرَ حسناتٍ بعددِ كلِّ حرفٍ أنزلَهُ الله تعالَى على إبراهيمَ ومُوسى ومحمدٍ عليهم السلام
147
٨٨ سورة الغاشية (١ ٤)
سورة الغاشية مكية وآيها ست وعشرون

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرحيم

148
Icon