تفسير سورة الواقعة

تفسير أبي السعود
تفسير سورة سورة الواقعة من كتاب إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم المعروف بـتفسير أبي السعود .
لمؤلفه أبو السعود . المتوفي سنة 982 هـ
سورة الواقعة مكية وهي ست وتسعون آية.

﴿إِذَا وَقَعَتِ الواقعة﴾ أيْ إذَا قامتِ القيامةُ وذلكَ عندَ النفخةِ الثانيةِ والتعبيرُ عنها بالواقعةِ للإيذانِ بتحققِ وقعها لا محالةَ كأنَّها واقعةٌ في نفسِها معَ قطعِ النظرِ عن الوقوعِ الواقعِ في حيزِ الشرطِ كأنَّه قيلَ كانتِ الكائنةُ وحدثتِ الحادثةُ وانتصابُ إذَا بمضمرٍ ينبىءُ عن الهولِ والفظاعةِ كأنَّه قيلَ إذَا وقعتِ الواقعةُ يكونُ من الأهوالِ مالا يفي به المقالُ وقيلَ بالنَّفي المفهومِ من قولِه تعالى
﴿لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ﴾ أيْ لا يكونُ عندَ وقوعِها نفسٌ تكذبُ على الله تعالى أوتكذب في نفيها كما تكذبُ اليومَ واللامُ كهيَ في قولِه تعالى ياليتنى قَدَّمْتُ لِحَيَاتِى وهذهِ الجملةُ على الوجهِ الأولِ اعتراضٌ مقررٌ لمضمونِ الشرطِ على أنَّ الكاذبةَ مصدرٌ كالعافيةِ أي ليسَ لأجلِ وقعتِها وفي حقِّها كذبٌ أصْلاً بلْ كلُّ ما وردَ في شأنِها من الأخبارِ حقٌّ صادقٌ لا ريبَ فيهِ وقوله تعالى
﴿خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ﴾ خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ أيْ هيَ خافضةٌ لأقوامٍ رافعةٌ لآخرينَ وهو تقريرٌ لعظمتِها وتهويلٌ لأمرِها فإنَّ الوقائعَ العظامِ شأنُها كذلكَ أو بيانٌ لمَا يكون يؤمئذ من حطِّ الأشقياءِ إلى الدركاتِ ورفعِ السعداءِ إلى الدرجاتِ ومن زلزلةِ الأشياءِ وإزالةِ الأجرامِ عن مقارِّها بنثرِ الكواكبِ وإسقاطِ السماءِ كسفاً وتسييرِ الجبالِ في الجوِّ كالسحابِ وتقديمُ الخفضِ على الرفعِ للتشديدِ في التهويل وقُرِىءَ خافضةً رافعةً بالنصب على الحا من الواقعةِ وقولُه تعالَى
﴿إِذَا رُجَّتِ الأرض رَجّاً﴾ أيْ زلزلتْ زلزالاً شديداً بحيثُ ينهدمُ ما فوقَها من بناءٍ وجبلٍ متعلقٌ بخافضةٌ رافعةٌ أي تخفضُ وترفعُ وقتَ رجِّ الأرضِ إذْ عندَ ذلكَ ينخفضُ ما هُو مرتفعٌ ويرتفعُ ما هو منخفضٌ أو بدلٌ منْ إذَا وقعتِ
﴿وَبُسَّتِ الجبال بَسّاً﴾ أيْ فتت حتَّى صارتْ
188
} ٠ ٦
مثلَ السويقِ الملتوتِ من بس السويق إذالته أو سِيقتْ وسيرتْ من أماكنِها من بسَّ الغنَم إذَا ساقَها كقولِه تعالَى وسُيرتِ الجبالُ وقُرِىءَ رُجتْ وبُستْ أيْ ارتجتْ وذهبتْ
189
﴿فَكَانَتْ﴾ أي فصارتْ بسببِ ذلك ﴿هَبَاء﴾ غباراً ﴿مُّنبَثّاً﴾ منتشراً
﴿وَكُنتُمْ﴾ إما خطابٌ للأمةِ الحاضرةِ والأممِ السالفةِ تغليباً أو للحاضرة ﴿أزواجا﴾ أي أصنافاً ﴿ثلاثة﴾ فكلُّ صنفٍ يكونُ مع صنفٍ آخرَ في الوجودِ أو في الذكرِ فهو زوجٌ وقولُه تعالى
﴿فأصحاب الميمنة مَا أصحاب الميمنة﴾ وأصحاب المشامة ما أصحاب المشأمة تقسيمٌ وتنويعٌ للأزواجِ الثلاثةِ معَ الإشارةِ الإجماليةِ إلى احوالهم ققبل تفصيلِها فقولُه تعالَى فأصحابُ الميمنة مبتدأ وقوله مااصحاب الميمنةِ خبرُه على أنَّ ما الاستفهاميةَ مبتدأٌ ثانٍ ما بعده خبرُهُ والجملةُ خبرُ الأولِ والأصلُ ما هُم أيْ أيُّ شيءٍ هم في حالِهم وصفتِهم فإنَّ ما وإنْ شاعتْ في طلبِ مفهومِ الاسمِ والحقيقةِ لكنَّها قد يُطلب بَها الصفةُ والحالُ تقولُ ما زيد فيقال عالم أو طبيبٌ فوضْعُ الظاهرِ موضعَ الضميرِ لكونِه أدخلَ في التفخيمِ وكذا الكلامُ في وقوله تعالى وأصحاب المشامة ما أصحاب المشامة والمرادُ تعجيبُ السامعِ من شأنِ الفريقينِ في الفخامةِ والفظاعةِ كأنَّه قيلَ فأصحابُ الميمنةِ في غاية حسنِ الحالِ وأصحابُ المشأمةِ في نهاية سوءِ الحالِ وتكلمُوا في الفريقينِ فقيلَ أصحابُ الميمنةِ أصحابُ المنزلةِ السنيةِ وأصحابُ المشأمةِ أصحابُ المنزلةِ الدنيةِ أخذاً من تيمُّنهم بالميامنِ وتشاؤمِهم بالشمائلِ وقيلَ الذينَ يُؤتَون صحائفهم بأيمانِهم والذينَ يُؤتونها بشمائِلهم وقيلَ الذينَ يُؤخذُ بِهم ذاتَ اليمينِ إلى الجنَّةِ والذينَ يؤخذُ بهم ذاتَ الشمالِ إلى النارِ وقيلَ أصحابُ اليمين وأصحابُ الشؤمِ فإن السعداءَ ميامين على انفسهم بطاعتهم والأشقياءُ مشائيمُ عليها بمعاصِيهم وقولُه تعالَى
﴿والسابقون السابقون﴾ هُو القِسمُ الثالثُ من الأزواجِ الثلاثةِ ولعلَّ تأخيرَ ذكرِهم مع كونِهم أسبقَ الاقسامِ وأقدمَهم في الفضلِ ليقترنَ ذكرُهم ببيانِ محاسنِ أحوالِهم على أن يرادهم بعنوانِ السبقِ مُطلقاً معربٌ عن إحرازِهم لقصبِ السبقِ من جميعِ الوجوهِ وتكلمُوا فيهم أيضاً فقيلَ هم الذينَ سبقُوا إلى الإيمانِ والطاعةِ عند ظهورِ الحقِّ من غير تلعثمٍ وتوانٍ وقيلَ الذينَ سبقوا في حيازةِ الفضائلِ والكمالاتِ وقيلَ هُم الذينَ صلَّوا إلى القبلتينِ كما قالَ تعالى والسابقون الأولين مِنَ المهاجرينَ والأنصارِ وقيلَ هم السابقون الى صلوات الخمسِ وقيل المسارعونَ في الخيراتِ وأيَّاً ما كانَ فالجملةُ مبتدأٌ وخبرٌ
189
} ١ ١٤
والمَعْنى والسابقونَ هم الذينَ اشتهرتْ أحوالُهم وعرفتْ محاسنُهم كقولِ أبي النَّجم... أنَا أبُو النَّجم وشِعْرِي شِعْرِي... وفيه تفخيمِ شأنِهم والإيذانِ بشيوعِ فضلِهم واستغنائِهم عن الوصفِ بالجميل مالا يَخْفى وقيلَ والسابقونَ إلى طاعةِ الله تعالى السابقونَ إلى رحمتِه أو السابقونَ إلى الخير والسابقون إلى الجنةِ وقولُه تعالى
190
﴿أولئك﴾ إشارةٌ إلى السابقينَ وما فيه من معنى البعد مع قرب العهد بالمشار إليه للإيذان ببعد منزلتِهم في الفضلِ ومحلُّه الرفع على الابتداء خبرُه ما بعدَهُ أَيْ أولئكَ الموصُوفون بذلكَ النعتِ الجليلِ ﴿المقربون﴾ أي الذينَ قُرّبتْ إلى العرشِ العظيمِ درجاتُهم وأعليتْ مراتبهُم ورُقِّيتْ إلى حظائرِ القدسِ نفوسُهم الزكيةُ هذا أظهرُ ما ذُكِرَ في إعرابِ هذه الجملِ وأشهرُه والذي تقتضيِه جزالةُ التنزيلِ أنَّ قولَه تعالَى فأصحاب الميمنة خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ وكذَا قولُه تعالى وأصحاب المشأمة وقولُه تعالَى والسابقون فإن المترقَّبَ عند بيانِ انقسامِ الناسِ إلى الأقسامِ الثلاثةِ بيانُ أنفَسِ الأقسامِ الثلاثةِ وأمَّا أوصافُها وأحوالُها فحقُّها أن تبين بعد ذ ذلكَ بإسنادِها إليها والتقديرُ فأحدُها أصحابُ الميمنةِ والآخرُ أصحابُ المشأمةِ والثالثُ السابقونَ خَلاَ أنَّه لما أُخرَ بيان أحوال القسمين الأولين عُقّبَ كلٌّ منهُما بجملةٍ معترضةٍ بين القسمينِ منبئةٍ عن تَرَامي أحوالِهما في الخيرِ والشرِّ إنباءً إجمالياً مشعراً بأنَّ لأحوالِ كلَ منهُمَا تفصيلاً مترقباً لكنْ لا على أنَّ مَا الاستفهاميةَ مبتدأٌ وما بعدها خبرٌ على ما رآهُ سيبويهِ في أمثالِه بلْ على أنَّها خبرٌ لما بعدها فإن مناط الإفادة بيانُ أنَّ أصحابَ الميمنةِ أمرٌ بديعٌ كما يفيدهُ كونُ ما خبر إلا بيانُ أنَّ أمراً بديعاً أصحابُ الميمنةِ كما يفيدُه كونُها مبتدأً وكذا الحالُ فى أصحابُ المشأمة وأما القسمُ الأخيرُ فحيثُ قُرنَ بيانُ محاسنِ أحوالِه بذكِره لم يُحتجْ فيهِ إلى تقديمِ إلا نموذج فقولُه تعالى السابقونَ مبتدأٌ والإظهارُ في مقامِ الإضمارِ للتفخيمِ وأولئكَ مبتدأٌ ثانٍ أو بدلٌ من الأولِ وما بعدَهُ خبرٌ له أو الثانى والجملةُ خبرٌ للأولِ وقولُه تعالى
﴿فِي جنات النعيم﴾ متعلقٌ بالمقربونَ أو بمضمرٍ هو حالٌ من ضميرِه أي كائنين في جنَّاتِ النعيمِ وقيلَ خبرٌ ثانٍ لاسمِ الإشارةِ وفيه أنَّ الإخبارَ بكونِهم مقربين ليس فيه مزيدُ مزيةٍ وقرئ في جنةِ النعيمِ وقولُه تعالى
﴿ثُلَّةٌ مّنَ الأولين﴾ خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ أيْ هُم أمةٌ جمةٌ من الأولينَ وهم الأممُ السالفةُ من لدنِ آدم إلى نبيِّنا عليه الصلاة والسلام وعلى بينهُمَا منَ الأنبياءِ العظامِ
﴿وَقَلِيلٌ مّنَ الأخرين﴾ أي من هذه الأمةِ ولا يخالُفه قولُه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ إنَّ أمتِي يكثرونَ
190
} ٥ ٢ {
سائرالأمم فإنَّ أكثريةَ سابقي الأممِ السالفةِ من سابقي هذه الأمة لا تمنعُ أكثريةَ تابعي هؤلاءِ من تابَعي أولئكَ ولا يردُّه قولُه تعالى في أصحابِ اليمينِ ثلة من الأولين وثلة من الآخرينَ لأنَّ كثرةَ كلَ من الفريقينِ في أنفسِهما لا تُنافِي أكثريةَ أحدِهما من الآخرِ وسيأتِي أن الثلين من هذهِ الأمةِ وقد رُويَ مرفوعاً أن الأولينَ والآخرينَ ههنا أيضاً متقدمُو هذه الأمةِ ومتأخرُوهم واشتقاقُ الثلةِ من الثِّل وهو الكسرُ
191
﴿على سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ﴾ حالٌ أُخرى من المقربينَ أو من ضميرِهم في الحالِ الأُولى وقيلَ خبرٌ آخرُ للضميرِ والموضونةُ المنسوجةُ بالذهبِ مشبكةٌ بالدرِّ والياقوتِ أو المتواصلةُ من الوضنِ وهو النسجُ
﴿مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا متقابلين﴾ حالانِ من الضميرِ المستكنِّ فيما تعلقَ بهِ على سررٍ أي مستقرينَ على سررٍ متكئينَ عليها متقابلينَ لا ينظرُ بعضُهم من أقفاءِ بعضٍ وهو وصفٌ لهم بحسنِ العشرةِ وتهذيبِ الأخلاقِ والآدابِ
﴿يَطُوفُ عَلَيْهِمْ﴾ حالٌ أُخرى أو استئنافٌ أي يدورُ حولَهُم للخدمةِ ﴿ولدان مُّخَلَّدُونَ﴾ أي مبقونَ أبداً على شكل الولدان وطرواتهم لا يتحولونَ عنها وقيلَ مقرطونَ والخُلد القِرطُ قيلَ هم أولادُ أهلِ الدُّنيا لم يكُن لهم حسناتٌ فيثابُوا عليها ولا سيئاتٌ فيعاقبُوا عليها رُوي ذلكَ عن عليَ رضيَ الله عنه وعنِ الحسنِ رحمَهُ الله وفي الحديثِ أولادُ الكفارِ خدامُ أهلِ الجنةِ
﴿بِأَكْوَابٍ﴾ بآنيةٍ لا عُرَى لها ولا خَراطيمُ ﴿وَأَبَارِيقَ﴾ أي آنيةٌ ذاتُ عُرى وخَراطيمَ ﴿وَكَأْسٍ مّن مَّعِينٍ﴾ أي خمرٍ جاريةٍ من العُيونِ قيلَ إنما أفردَ الكأسَ لأنها لا تسمَّى كأساً إلا إذا كانتْ مملوءةً
﴿لاَّ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا﴾ أيْ بسببها وحقيقتُه لا يصدرُ صداعهم عنها وقرئ لا يصدعون أي لا يتصدَّعُون ولا يتفرقونَ كقولِه تعالى يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ وقرىءَ لا يصدعون أي لا يفرقُ بعضُهم بعضاً ﴿وَلاَ يُنزِفُونَ﴾ أي لا يسكرُون من أنزفَ الشَّاربُ إذا نفدَ عقلُه أو شرابُه
﴿وفاكهة مّمَّا يَتَخَيَّرُونَ﴾ أي يختارونه ويأخذون خبره وأفضله
﴿وَلَحْمِ طَيْرٍ مّمَّا يَشْتَهُونَ﴾ أي يتمنونَ وقُرىءَ ولحومِ طيرٍ
191
} ٢ ٢٩
192
﴿وَحُورٌ عِينٌ﴾ بالرفعِ عطفٌ على ولدان أو مبتدأٌ محذوفُ الخبرِ أي وفيها أولهم حور وقرئ بالجر عطفاً على جنات النعيمِ كأنَّه قيلَ هم في جناتٍ وفاكهةٍ ولحمٍ ومصاحبة حورٍ أو على أكوابٍ لأنَّ معنى يطوفُ عليهم ولدانٌ مخلدونَ بأكوابٍ يُنعَّمونَ بأكوابٍ وبالنصبِ أي ويُؤتونَ حُوراً
﴿كأمثال اللؤلؤ المكنون﴾ صفة لحور أو حال
﴿جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ مفعول له أي يفعل بهم ذلك جزاءً بأعمالِهم أو مصدرٌ مؤكدٌ أي يُجزونَ جزاءً
﴿لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً﴾ أي باطلاً ﴿وَلاَ تَأْثِيماً﴾ أيْ ولا نسبةً إلى الإثمِ أيْ لا لغوَ فيهَا ولا تأثيمَ ولا سماعَ كقولِه
وَلاَ ترَى الضبَّ بها ينجحِرُ...
﴿إِلاَّ قِيلاً﴾ أي قولاً ﴿سلاما سلاما﴾ بدلٌ من قيلاً كقوله تعالَى لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إِلاَّ سلاما أو صفتُه أو مفعولُه بمَعْنى لا يسمعونَ فيها إلا أنْ يقولُوا سلاماً سلاماً والمَعْنى أنهم يُفشونَ السلامَ فيسلمونَ سلاماً بعدَ سلامٍ أو لا يسمعُ كلٌّ من المسلِّمِ والمسلم عليه الإسلام الآخرِ بدءاً أو رداً وقرئ سلامٌ سلامٌ على الحكايةِ وقولُه تعالَى
﴿وأصحاب اليمين﴾ شروعٌ في تفصيل ما أُجملَ عند تقسيم من شؤنهم الفاضلة إثر تفصيل شؤن السابقينَ وهو مبتدأُ وقولُه تعالى ﴿مَا أصحاب اليمين﴾ جملةٌ استفهاميةٌ مسوقةٌ لتفخيمِهم والتعجيبِ من حالِهم وقد عرفت كيفية يكها محلُّها إما الرفعُ على أنَّها خبرٌ للمبتدأِ أو معترضةٌ لا محلَّ لها والخبرُ قولُه تعالى
﴿فِى سِدْرٍ مَّخْضُودٍ﴾ وهو عَلى الأولِ خبرٌ ثانٍ للمبتدأِ أو خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ والجملةُ استئنافٌ لبيانِ ما أُبهم في قولِه تعالى مَا أصحاب اليمين من علو الشأن هم في سدرٍ غيرِ ذي شوكٍ لا كسِدْر الدُّنيا وهو شجرُ النبقِ كأنَّه خُضِّدَ شوكُه أي قطعَ وقيل مخضودٌ أي مثنيٌّ أغصانُه لكثرةِ حملِه من خضَدَ الغصنُ إذا ثناهُ وهو رطبٌ
﴿وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ﴾ قد نُضّد حملُه من أسفلِه إلى أعلاهُ ليستْ له ساقٌ بارزةُ وهو شجرُ
192
} ٠ ٣٧
الموز وأم غيلانَ وله أنوارٌ كثيرةٌ منتظمةٌ طيبةُ الرائحةِ وعن السُّدِّيِّ شجرٌ يُشبهُ طلحَ الدُّنيا ولكنْ له ثمرٌ أَحْلى من العسلِ وعَنْ عليَ رضيَ الله عنه أنه قرأَ وطلعٍ وما شأنُ الطلحِ وقرأَ قولَه تعالى لها طلعٌ نضيدٌ فقيل أو نحو لها قال آيْ القرآنِ لا تُهاجُ ولا تحولُ وعن ابنِ عباسٍ نحوُه
193
﴿وَظِلّ مَّمْدُودٍ﴾ ممتدَ منبسطٍ لا يتقلص ولا يتعاون كظلِّ ما بينَ طُلوعِ الفجرِ وطلوعِ الشمسِ
﴿وَمَاء مَّسْكُوبٍ﴾ يُسكبُ لهُم أينما شاؤا وكيفَما أرادُوا بلا تعبٍ أو مصبوبٍ سائلٍ يجري على الأرضِ في غير أخدودٍ كأنَّه مثّلِ حالَ السابقينَ بأقصى ما يتصورُ لأهل المدن وقال أصحابِ اليمينِ بأكملِ ما يتصور لأهل البوادى إيذان بالتعاون بينَ الحالينِ
﴿وفاكهة كَثِيرَةٍ﴾ بحسبِ الأنواعِ والأجناسِ
﴿لاَّ مَقْطُوعَةٍ﴾ في وقتٍ من الأوقاتِ كفواكهِ الدُّنيا ﴿ولا ممنوعة﴾ من مُتناولِيها بوجهٍ من الوجوهِ لا يُحظر عليها كما يُحظر على بساتينِ الدُّنيا وقرئ فاكهةٌ كثيرةٌ بالرَّفعِ عَلى وهُناكَ فاكهةٌ الخ كقولِه تعالى وحورٌ عينٌ
﴿وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ﴾ أي رفيعةِ القدرِ أو منضدةٍ مرتفعةٍ أو مرفوعةٍ على الأسرّة وقيل الفرشُ النساءُ حيثُ يُكْنَى بالفراشِ عن المرأةِ وارتفاعُها كونُهنَّ على الأرائكِ قالَ تعالَى هُمْ وأزواجهم فِى ظلال عَلَى الأرائك مُتَّكِئُونَ ويدلُّ عليهِ قولُه تعالى
﴿إِنَّا أنشأناهن إِنشَاء﴾ وعلى التفسيرِ الأولِ أضمر لهنُ لدلالةِ ذكرِ الفُرشِ التي هي المضاجعُ عليهن دلالةً بينةً والمعنى ابتدأنَا خلقهنَّ ابتداءً جديداً أو أبدعناهنَّ من غير ولاإبداء أو إعادةً وفي الحديثِ هُنَّ اللواتِي قُبضن في دارِ الدنيا عجائزَ شُمطاً رُمْصاً جعلهنَّ الله تعالَى بعدَ الكبرِ أتراباً على ميلادٍ واحدٍ في الاستواءِ كلما أتاهنَّ أزواجُهنَّ وجدوهنَّ أبكارا وقوله تعالى
﴿فجعلناهن أبكارا﴾ وقوله تعالى ﴿عُرُباً﴾
193
٤٥ ٣٨
جمعُ عروبٍ وهي المتحببةُ إلى زوجِها الحسنةُ التبعلِ وقُرِىءَ عُرْباً بسكونِ الراءِ ﴿أَتْرَاباً﴾ مستوياتٍ في السنِّ بناتِ ثلاثٍ وثلاثين سنةً وكذا أزواجُهنَّ واللامُ في قولِه تعالى
194
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٦:وذلكَ قولُه تعالى :﴿ فجعلناهن أبكارا ﴾ وقوله تعالى :﴿ عُرُباً ﴾ جمعُ عروبٍ وهي المتحببةُ إلى زوجِها الحسنةُ التبعلِ. وقُرِئَ عُرْباً بسكونِ الراءِ ﴿ أَتْرَاباً ﴾ مستوياتٍ في السنِّ بناتِ ثلاثٍ وثلاثين سنةً وكذا أزواجُهنَّ.
﴿لأصحاب اليمين﴾ متعلقةٌ بأنشأنَا أو جعلنَا أو بأتراباً كقولِك هَذا تِربٌ لهَذا أي مساو له السنِّ وقيل بمحذوفٍ هو صفة لأبكار أي كائناتٍ لأصحابِ اليمينِ أو خبر متبدأ محذوفٍ أي هُنَّ لأصحابِ اليمينِ وقيل خبرٌ لقولهِ تعالى
﴿ثلة من الأولين﴾ ﴿وثلة مّنَ الأخرين﴾ وهو بعيد بل هو خبرُ مبتدإٍ محذوف ختمت به قصة أصحاب اليمين أي هم أمة من الأولين وأمة من الآخرين وقد مرّ الكلام فيهما وعن أبي العالية ومجاهد وعطاء والضحاك ثلةٌ من الأولينَ أي من سابقي هذه الأمة وثلةٌ من الآخرينَ من هذه الأمةِ في آخرِ الزمانِ وعن سعيدُ بنُ جُبيرٍ عن ابن عباس رضيَ الله عنهُمَا في هذه الآيةِ قال قالَ رسول الله ﷺ هم جَميعاً منْ أمَّتِي
ثُلَّةٌ منَ الأولين * وَثُلَّةٌ منَ الآخرين } وهو بعيد بل هو خبر مبتدأ محذوف ختمت به قصة أصحاب اليمين أي هم أمة من الأولين وأمة من الآخرين وقد مرّ الكلام فيهما، وعن أبي العالية ومجاهد وعطاء والضحاك ثلةٌ من الأولينَ أي من سابقِي هذه الأمةِ وثلةٌ من الآخرينَ من هذه الأمةِ في آخرِ الزمانِ. وعن سعيدِ بن جُبيرٍ عن ابن عباسٍ رضيَ الله عنهُمَا في هذه الآيةِ قال : قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم :«هم جَميعاً منْ أمَّتِي ».
﴿وأصحاب الشمال﴾ شروعٌ في تفصيلِ أحوالِهم التي أُشير عند التنويعِ إلى هولِها وفظاعتِها بعدَ تفصيلِ حسنِ حالِ أصحابِ اليمينِ والكلامُ في قوله تعالى ﴿ما أصحاب الشمال﴾ عينُ ما فُصِّلَ في نظيرِه وكذا في قولِه تعالى
﴿فِى سَمُومٍ وَحَمِيمٍ﴾ والسَّمومُ حرُّ نارٍ ينفذُ في المسام والحميم الماء المُتناهِي في الحرارةِ
﴿وَظِلّ مّن يَحْمُومٍ﴾ منْ دُخانٍ أسودَ بهيمٍ
﴿لا بارد﴾ كسائر الظلام ﴿وَلاَ كَرِيمٍ﴾ فيه خير ما في الجملة سُمِّيَ ذلكَ ظلاً ثم نُفى عنه وصفاهُ البردُ والكرمُ عبر به عن دفع أذى الحر لتحقيقِ أنه ليس بظلَ وقرىءَ لا باردٌ ولا كريمٌ بالرفعِ أي لا هُو باردٌ ولا كريمٌ وقولُه تعالى
﴿إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ﴾ تعليلٌ لابتلائِهم بما ذُكِرَ من العذابِ أي إنَّهم كانُوا قبلَ ما ذُكر من سُوءِ العذابِ في الدُّنيا منعّمينَ بأنواعِ النعمِ من المآكلِ والمشاربِ والمساكنِ الطيبةِ والمقاماتِ الكريمةِ منهمكينَ في الشهواتِ فلا جرمَ عُذبُوا
194
٥١ ٤٦
بنقائضِها
195
﴿وَكَانُواْ يُصِرُّونَ عَلَى الحنث العظيم﴾ أي الذنبِ العظيمِ الذي هو الشركُ ومنه قولُهم بلغَ الغلامُ الحنثَ أى الحلم ووقت المؤاخذةِ بالذنبِ
﴿وَكَانُواْ يِقُولُونَ﴾ لغايةِ عُتوِّهم وعنادهم ﴿أئذا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وعظاما﴾ أي كانَ بعضُ أجزائِنا من اللحمِ والجلدِ تراباً وبعضُها عظاماً نخرةً وتقديمُ التُّراب لعراقتِه في الاستبعادِ وانقلابِه من الأجزاءِ البادية وإذا متمحضة للظرفية والعاملُ فيها ما دل عليه قوله تعالى ﴿أئنا لمبعوثون﴾ لانفسه لأن مَا بعد أنَّ واللامِ والهمزةِ لا يعملُ فيما قبلَها وهو نُبعثُ وهو المرجِعُ للإنكارِ وتقييدُه بالوقتِ المذكورِ ليس لتخصيصِ إنكارِه به فإنَّهم منكرِون للإحياءِ بعدَ الموتِ وإنْ كانَ البدنُ على حالِه بل لتقويةِ الإنكارِ للبعثِ بتوجيهه إليه في حالةٍ منافيةٍ له بالكليةِ وتكريرُ الهمزةِ لتأكيدِ النكيرِ وتحليةُ الجملةِ بأنَّ لتأكيدِ الإنكارِ لا لإنكارِ التأكيدِ كما عسى يُتوَّهم من ظاهرُ النظمِ فإنَّ تقديمَ الهمزةِ لاقتضائِها الصدارةَ كما في مثل قوله أَفَلاَ تَعْقِلُونَ على رأي الجمهورِ فإن المعنى عندهم تعقيبُ الإنكارِ لا إنكارُ التعقيبِ كما هو المشهورُ وليس مدارُ إنكارِهم كونَهم ثابتينَ في المبعوثية بالفعل في حال كونِهم تراباً وعظاما بل كولهم بعَرَضية ذلك واستعدادِهم له ومرجعُه إلى إنكارِ البعثِ بعد تلك الحالةِ وفيه من الدِلالة على غلوهم في الكفر وتماديهم في الضلال مالا مزيدَ عليه وتكريرُ الهمزةِ في قولِه تعالى
﴿أو آباؤنا الأولون﴾ لتأكيد النكيرِ والواوُ للعطفِ على المستكنِّ في لمبعوثون وحسن ذلك الفضل بالهمزة يعنون أنَّ بعثَ آبائهم الأولينَ أبعدُ من الوقوعِ وقُرىء أو آباؤُنا
﴿قل﴾ ردا الإنكارهم وتحققا للحقِّ ﴿إِنَّ الأولين والأخرين﴾ من الأممِ الذين منْ جُملتهم أنتُم وآباؤكم وفي تقديم الأولينَ مبالغةٌ في الردِّ حيث كان إنكارُهم لبعث آبائِهم أشدَّ من إنكارِهم لبعثهم مع مراعاةِ الترتيب الوجودى
لمجموعة / بعد البعث وقرىء لمجموعون ﴿إلى ميقات يَوْمٍ مَّعْلُومٍ﴾ إلى ما وُقتت به الدُّنيا من يومٍ معلومٍ والإضافةُ بمعنى منْ كخاتم فضةٍ
﴿ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضالون﴾ عطفٌ على أن الأولين داخلٌ تحت القولِ وثم للتراخِي زماناً أو رتبةً ﴿المكذبون﴾ أي بالبعث والخطابُ لأهلِ مكةَ وأضرابِهم
195
٥٧ ٥ {
196
﴿لاَكِلُونَ﴾ بعد البعثِ والجمعِ ودخولِ جهنَم ﴿مِن شَجَرٍ مّن زَقُّومٍ﴾ من الأُولى لابتداء الغايةِ والثانيةُ لبيان الشجرِ وتفسيرِه أي مبتدئون الأكلَ من شجرٍ هو زقومٌ وقيل من الثانيةُ متعلقةٌ بمضمرٍ هو وصفٌ لشجرٍ أي كائنٍ من زقومٍ
﴿فَمَالِئُونَ مِنْهَا البطون﴾ أي بطونكُم من شدةِ الجوع
﴿فشاربون عَلَيْهِ﴾ عَقيبَ ذلك بلا ريثٍ ﴿مِنَ الحميم﴾ أي الماءُ الحارُّ في الغايةِ وتأنيثُ ضميرِ الشجرِ أولاً وتذكيرُه ثانياً باعتبارِ المعنى واللفظِ وقُرىءَ من شجرةٍ فضمير عليه حينئذٍ للزقومِ وقيل للأكلِ وقولُه تعالى
﴿فشاربون شُرْبَ الهيم﴾ كالتفسيرِ لما قبله على طريقة قولِه تعالى فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا أي لا يكونُ شربُكم شرباً معتاداً بل يكونُ مثلَ شربِ الهيمِ وهي الإبلُ التي بها الهيامُ وهو داء يصيبها فتشربُ ولا تروى جمعُ أهيمَ وهيماءَ وقيلَ الهِيمُ الرمالُ على أنه جمعُ الهَيَام بفتحِ الهاءِ وهو الرمل الي لا يتماسكُ جُمعَ على فُعُلٍ كسحابٍ وسُحُبٍ ثم خفف وفُعل به ما فُعل بجمعِ أبيضَ والمعنى أنه يسلطُ عليهم من الجوعِ والتهابِ النارِ في أحشائِهم ما يَضطرّهم إلى أكلِ الزقوم الذي هو كالمهلِ فإذا ملؤا منه بطونَهم وهو في غايةِ الحرارةِ والمرارِة سلط عليهم من العطشِ ما يضطرهم إلى شربِ الحميمِ الذى يقطع أمعاءهم فيشربون شربَ الهيمِ وقرىء شَربَ الهيمِ بالفتحِ وهو أيضاً مصدر وقرىءَ بالكسرِ على أنهُ اسمُ المشروبِ
﴿هذا﴾ الذي ذكر من أنواعِ العذابِ ﴿نُزُلُهُمْ يَوْمِ الدين﴾ أي يومَ الجزاءِ فإذا كان ذلك نزلَهُم وهو ما يُعدّ للنازلِ مما حضر فما ظنُّك بما لهم بعد ما استقرَّ لهم القرارُ واطمأنتْ بهم الدارُ في النارِ وفيه من التَّهكُّمِ بهم مالا يخف وقرء نُزْلهم بسكونِ الزاي تخفيفاً والجملةُ مسوقةٌ من جهته تعالى بطريقِ الفذلكةِ مقررةٌ لمضمون الكلام الملقن غيرُ داخلةٍ تحتَ القولِ وقوله تعالى
﴿نحن خلقناكم فلولا تصدقون﴾ تلوينٌ للخطاب وتوجيهٌ له إلى الكفرةِ بطريقِ الإلزامِ والتبكيتِ والفاءُ لترتيبِ التحضيضِ على ما قبلها أي فهلَّا تصدقونَ بالخلقِ فإن مالا يحققه العلم ولا يساعده بل ينبىءُ عن خلافه ليس من التصديق في شيءٍ وقيل بالبعث استدلالا عليه بالإنشاء فإن من قدرَ عليه قدرَ على الإعادةِ حتماً والأولُ هو الوجهُ كما ستحيطُ به خبراً
196
٦٥ ٥٨
197
﴿أفرأيتم مَّا تُمْنُونَ﴾ أي تقذفونَ في الأرحامِ من النطفِ وقُرىءَ بفتحِ التَّاءِ من مَنَى النطفةَ بمعنى أمنَاها
﴿أأنتم تَخْلُقُونَهُ﴾ أي تقدرونَهُ وتصورونَهُ بشراً سوياً ﴿أَم نَحْنُ الخالقون﴾ له من غيرِ دخلِ شيءٍ فيه وأم قيل منقطعةٌ لأن ما بعدها جملةٌ فالمعنى بل أنحنُ الخالقونَ على أنَّ الاستفهامَ للتقريرِ وقيل متصلة ومجىءُ الخالقونَ بعد نحن بطريقِ التأكيد لا بطريقِ الخبريةِ أصالةً
﴿نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الموت﴾ أي قسمنَاهُ عليكم ووقتنا موتَ كلِّ أحدٍ بوقتٍ معينٍ حسبما تقتضيهِ مشيئتُنا المبنيةُ على الحِكَمِ الباالغة وقرىء قدرنا مخففة ﴿وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ﴾ أي إنا قادرونَ
﴿على أَن نُّبَدّلَ أمثالكم﴾ لا يغلبنا أحدٌ على أن نُذهبكم ونأتَي مكانَكم أشباهكم من الخلق ﴿وننشئكم في ما لاَ تَعْلَمُونَ﴾ من الخلقِ والأطورا ولاتعهدون بمثلها قال الحسن رحمه الله أي نجعلكم قردةً وخنازيرَ وقيل المَعْنى وننشئكم في البعثِ على غيرِ صوركم في الدنيا فَمْن هذا شأنُه كيف يعجزُ عن إعادتِكم وقيلَ المعنى وما يسبقنا أحدٌ فيهرب من الموت أو يغير وقته وعلى أن نبدل إلخ إما حالٌ من فاعل قدرنا أو علةٌ للتقديرِ وعلى بمعنى اللام وما بينهما اعتراضٌ
﴿وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النشأة الأولى﴾ هي خلقُهم من نطفةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ من مضغةٍ وقيل هي فطرةُ آدمَ عليه السلامُ من الترابِ ﴿فَلَوْلاَ تَذَكَّرُونَ﴾ فهلا تتذكرون أنَّ من قدرَ عليها قدر على النشأةِ الأُخرى حتماً فإنه أقلُّ صنعاً لحصولِ الموادِّ وتخصص الأجزاءِ وسبقِ المثالِ وفيه دليلٌ على صحَّة القياسِ وقرىء فَلْولاَ تذكُرُون من الثلاثى وفي الخبرِ عجباً كلَّ العجبِ للمكذبِ بالنشأةِ الْاخرةِ وهو يرى النشأةَ الأولى وعجباً للمصدق بالنشأة الآخرةِ وهو يسعى لدار الغرور
﴿أفرأيتم مَّا تَحْرُثُونَ﴾ أي تبذرونَ حبَّه وتعملونَ في أرضِه
﴿أأنتم تَزْرَعُونَهُ﴾ تنبتونَهُ وتردونه نباتاً يرف ﴿أم نحن الزارعون﴾ أيى المنبتونَ لا أنتمُ والكلامُ في أم كما مر آنفاً
﴿لَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَاهُ حطاما﴾ هشيماً متكسراً متفتتاً بعد ما أنبتناهُ وصارَ بحيثُ طمعتم في حيازة غلالِه
197
٧٢ ٦٦
﴿فَظَلْتُمْ﴾ بسبب ذلك ﴿تَفَكَّهُونَ﴾ تتعجبونَ من سوءِ حالِه إثر ما شاهدتُموه على أحسنِ ما يكون من الحال أو تنذمون على ما تعبتُم فيه وأنفقتُم عليه أو على ما اقترفتُم لأجله من المعاصِي فتتحدثون فيه والتفكّه التنقلُ بصنوفِ الفاكهةِ وقد استعير للتنقلِ بالحديثِ وقُرِىءَ تفكنون أى تتندمون وقرىء وفظلتم بالكسرِ وفظللِتُم على الأصل
198
﴿إِنَّا لَمُغْرَمُونَ﴾ أي لملزَمون غرامةَ ما أنفقنا أو مهلكونَ بهلاكِ رزقِنا من الغَرام وهو الهلاكُ وقُرِىءَ أننا على الاستفهامِ والجملةُ على القراءتينِ مقدرة بقول هو في حيز النصبِ على الحاليةِ من فاعلِ تفكهون أي قائلين أو تقولون إنا لمغرمون
﴿بل نحن محرومون﴾ حرمنا رزقنا أو محافرون محدودن لاحظ لنا ولا بختَ لا مجدودن
﴿أفرأيتم الماء الذى تَشْرَبُونَ﴾ عذباً فراتاً وتخصيصُ هذا الوصفِ بالذكرِ مع كثرة منافعهِ لأن الشربَ أهم المقاصدِ المنوطة به
﴿أأنتم أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ المزن﴾ أي من السحابِ واحدُه مُزْنَةٌ وقيل هو السحابُ الأبيضُ وماؤه أعذبُ ﴿أَمْ نَحْنُ المنزلون﴾ له بقدرتنا
﴿لَوْ نَشَاء جعلناه أُجَاجاً﴾ مِلْحاً زُعاقاً لا يمكن شربُه وحذفُ اللامِ ههنا مع إثباتِها في الشرطيةِ الأولى للتعويلِ على علم السامعِ أو الفرقِ بين المطعومِ والمشروبِ في الأهميةِ وصعوبة الفقدِ والشرطيتانِ مستأنفتان مسوقتانِ لبيانِ أن عصمتَهُ تعالى للزرع والماءِ عما يُخلُّ بالتمتعِ بهما نعمةٌ أخرة بعد نعمةِ الإنباتِ والإنزالِ مستوجبةٌ للشكرِ فقوله تعالى ﴿فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ﴾ تحضيضٌ على شكر الكل
﴿أفرأيتم النار التى تُورُونَ﴾ أي تقدحونها وتستخرجونَها من الزنادِ
﴿أأنتم أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا﴾ التي منها الزنادُ وهي المَرخُ والعَفارُ ﴿أَمْ نَحْنُ المنشئون﴾ لها بقدرتنا والتعبيرُ عن خلقِها بالإنشاءِ المنبىءِ عن بديعِ الصنع المعرب عن كمالِ القُدرةِ والحكمةِ لما فيه من الغرابةِ الفارقةِ بينها وبين سائرِ الشجر التي لا تخلُو عن النارِ حتى قيل في كل شجرٍ نارٌ واستَمجد المرخَ والعَفار كما أنَّ التعبيرَ عن نفخِ الروحِ بالإنشاءِ في قوله تعالى ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقَاً آخَر لذلك
198
٧٧ ٧ {
وقوله تعالى
199
﴿نَحْنُ جعلناها تَذْكِرَةً﴾ استئنافٌ مبينٌ لمنافعِها أي جعلناها تذكيراً لنارِ جهنَم حيثُ علقنا بها أسبابَ المعاشِ لينظروا إليها ويذكروا ما أُعدوا به من نارِ جهنَم أو تذكرةً وأنموذجاً من نارِ جهنَم لما رُوي عن النبي عليه الصلاة والسلام ناركم هذه التي يوقِدها بنُو آدمَ جزء من سبعين جزءا من حرِّ جهنَم وقيل تبصرة فى امر البعث فإنه ليسَ بأبدعَ من إخراج النار من الشئ الرطبِ ﴿ومتاعا﴾ ومنفعةً ﴿لّلْمُقْوِينَ﴾ للذين ينزلونَ القَواءَ وهي القفر وتخصيصُهم بذلك لأنهم أحوجُ إليها فإن المقيمينَ أو النازلينَ بقرب منهم ليسوا بمضطرين إلى الاقتداحِ بالزنادِ وقد جُوِّز أن يراد بالمقوين الذين خلتْ بطونُهم ومزاودُهم من الطعامِ وهو بعيدٌ لعدم انحصارِ ما يهمهم ويسدُّ خللَهم فيما لا يؤكلُ إلا بالطبخِ وتأخيرُ هذه المنفعةِ للتنبيهِ على أن الأهم هو النفعُ الأخروي والفاءُ في قوله تعالى
﴿فسبح باسم ربك العظيم﴾ لترتيب ما بعده على ما عُدِّد من بدائعِ صنعهِ تعالَى وروائعِ نعمِه الموجبةِ لتسبيحهِ تعالى إما تنزيهاً له تعالى عما يقوله الجاحدون بوحدانيته الكافرون بنعمتِه مع عظمِها وكثرتِها أو تعجباً من أمرِهم في غمطِ تلك النعمِ الباهرةِ مع جلالةِ قدرِها وظهورِ أمرِها أو شكراً على تلك النعمِ السابقة أي فأحدِثْ التسبيحَ بذكرِ اسمِه تعالى أو بذكرِه فإن إطلاقَ الإسم للشئ ذكرٌ له والعظيمُ صفةٌ للاسمِ أو الربِّ
﴿فلا أقسم﴾ أي فأقسم ولا مزيدةٌ للتأكيد كما في قوله تعالى لئلا يَعْلَمَ أو فَلأنا أقسمُ فحذف المبتدأ وأشبع فتحةَ لام الابتداء ويَعضده قراءةُ مَن قرأَ فلا أقسم أو فلا راد لكلامٍ يخالفُ المقسمَ عليه وأما ما قيل من المعنى فلا أقسم إذ الأمر أوضحَ من أنْ يحتاجَ إلى قسمٍ فيأباه تعيينُ المقسَمِ به وتفخيمُ شأنِ القسمِ به ﴿بمواقع النجوم﴾ أي بمساقطِها وهي مغاربُها وتخصيصُها بالقسم لما في غروبها من زوالِ أثرِها والدلالةِ على وجودِ مؤثرٍ دائمٍ لا يتغيرُ أو لأن ذلكَ وقتُ قيامِ المتهجدينَ والمبتهلينَ إليه تعالى وأوانُ نزولِ الرحمةِ والرضوانِ عليهم أو بمنازلها ومجاريها فإنَّ له تعالَى في ذلك من الدليل عاى عظمِ قُدرتِه وكمالِ حكمتِه مالا يحيطُ به البيانُ وقيل النجومُ نجومُ القرآنِ ومواقعُها أوقاتُ نزولِها وقوله تعالى
﴿وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ﴾ اعتراضٌ في اعتراضٍ قُصدَ به المبالغةُ في تحقيق مضمون الجملة القسمية وتأكيدِه حيث اعترضَ بقوله وإنه لقسمٌ بين القسمِ وجوابِه الذي هُو قولُه تعالى
﴿إنه لقرآن كَرِيمٌ﴾
199
٨٣ ٧٨
أي كثيرُ النفعِ لاشتمالِه على أصولِ العلومِ المهمةِ في صلاحِ المعاشِ والمعادِ أو حسنٌ مرضيٌّ أو كريمٌ عند الله تعالى وبقوله تعالى لوتعلمون بينَ الموصوفِ وصفتِه وجوابُ لو إما متروكٌ أريدَ به نفيُ علمِهم أو محذوفٌ ثقةٍ بظهورِه أي لعظمتوه أو لعملتُم بموجبهِ
200
﴿فِى كتاب مَّكْنُونٍ﴾ أي مصونٍ من غيرِ المقربين من الملائكةِ لا يطلعُ عليه مَنْ سواهم وهو اللوحُ
﴿لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون﴾ إمَّا صفةٌ أخرى لكتاب فالمرادُ بالمطهرين الملائكةُ المنزهون عن الكدوراتِ الجُسمانيةِ وأوضارِ الأوزارِ أو للقرآنِ فالمرادُ بهم المطهرون من الأحداثِ فيكون نفياً بمعنى النهي أى لا ينغبي أن يسمه إلا من كان على طهارةٍ من الناسِ على طريقةِ قولِه عليه الصلاةُ والسلامُ المسلمُ أخُو المسلمِ لا يظلمُه ولا يُسلُمه أي لا ينبغي له أن يظلمُه وقيلَ لا يطلبه إلا المطهرون من الكفرِ وقرئ المُتطهرونَ والمُطَّهرونَ بالإدغامِ والمُطْهرون من أطْهره بمعنى طَهّره والمطَّهروَن أي أنفسهَم أو غيرَهم بالاستغفارِ أو غيرِه
﴿تنزيلٌ مّن ربِّ العالمينَ﴾ صفةٌ أخرى للقرآن وهو مصدرٌ نعت به حتى جرى مجرى اسمِه وقُرىء تنزيلاً
﴿أفبهذا الحديث﴾ الذي ذكرتُ نعوتُه الجليلةُ الموجبةُ لإعظامِه وإجلالِه وهو القرآنُ الكريمُ ﴿أَنتُمْ مُّدْهِنُونَ﴾ أي متهاونونَ به كمن يُدْهِنُ في الأمرِ أي يُلينُ جانبه ولا يتصلبُ فيه تهاوناً به
﴿وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ﴾ أي شكرَ رزقكم ﴿أَنَّكُمْ تُكَذّبُونَ﴾ أي تضعونَ التكذيبَ موضعَ الشكرِ وقرىء وتجعلون شُكركم أنَّكم تكذبونَ أي تجعلون شكركم لنعمةِ القرآن أنكم تكذبونَ به وقيل الرزقُ المطرُ والمعنى وتجعلونَ شكرَ ما يرزقكم الله تعالى من الغيثِ أنكم تكذبونَ بكونِه من الله تعالى حيثُ تنسُبونه إلى الأنواءِ والأولُ هو الأوفقُ لسباق النظمِ الكريمِ وسياقِه فإنَّ قولَه عزَّ وجلَّ
﴿فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الحلقوم﴾ إلخ تبكيتٌ مبنيٌّ على تكذيبِهم بالقرآنِ فيما نطقَ به قولُه تعالى نحنُ خلقناكُم إلى هُنا من القوارعِ الدالةِ على كونِهم تحتَ ملكوتِه تعالى من حيثُ ذواتُهم ومن حيث طعامُهم وشرابُهم وسائرُ أسبابِ معايشِهم كما ستقفُ عليه ولولا للتحضيضِ لإظهارِ عجزِهم وإذَا ظرفيةٌ أي فهلاَّ إذَا بلغتْ النفسُ أي الروح وقيل
200
٩٠ ٨٤
نفس الحلقومِ وتداعتْ إلى الخروجِ
201
﴿وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ﴾ أيها الحاضرونَ حولَ صاحبِها ﴿تَنظُرُونَ﴾ إلى ما هو من الغمراتِ
﴿ونحن أقرب إليه﴾ علماوقدرة وتصرفاً ﴿مّنكُمْ﴾ حيثُ لا تعرفون من حالِه إلا ما تشاهدونَهُ من آثارِ الشدةِ من غيرِ أن تقفوا على كُنهِها وكيفيتِها وأسبابِها ولا أنْ تقدرُوا على دفع أدنى شيءٍ منها ونحنُ المتولونَ لتفاصيل أحوالِه بعلمنا وقدرتنا أو بملائكة الموتِ ﴿ولكن لاَّ تُبْصِرُونَ﴾ لا تدركونَ ذلكَ لجلهكم بشؤننا وقولُه تعالى
﴿فَلَوْلاَ إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ﴾ أي غيرَ مربوبينَ من دانَ السلطانُ رعيتَهُ إذا ساسَهم واستعبدَهم ناظرً إلى قولِه تعالى نحن خلقناكُم فلولا تصدقونَ فإن التحضيضَ يستدعي عدمَ المحضض عليه حتماً وقوله تعالى
﴿تَرْجِعُونَهَا﴾ أي النفسُ إلى مقرِّها هو العاملُ في إذَا والمحضض عليه بلولا الأُولى والثانيةُ مكررةٌ للتأكيد وهي مع مافي حيزها دليلُ جوابِ الشرطِ والمعنى إنْ كنتُم غير مربوبينَ كما ينبىءُ عنه عدمُ تصديقِكم بخلقنا إياكم فهلا ترجعونَ النفسَ إلى مقرِّها عند بلوغِها الحلقومَ ﴿إِن كُنتُمْ صادقين﴾ في اعتقادكم فإن عدمَ تصديقِهم بخالقيتِه تعالى لهم عبارةٌ عن تصديقِهم بعدمِ خالقيتِه تعالى بموجب مذهبِهم وقوله تعالى
﴿فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ المقربين﴾ إلخ شروعٌ في بيان حالِ المُتوفي بعد المماتِ إثرَ بيانِ حالِه عند الوفاةِ أي فأما إن كانَ الذي بُيّن حالُه من السابقينَ من الأزواج الثلاثةِ عبر عنهم بأجلِّ أوصافِهم
﴿فَرَوْحٌ﴾ أي فله استراحةٌ وقرىء فرُوحٌ بضمِّ الراء وفسِّر بالرحمة لأنها سببٌ لحياة المرحومِ وبالحياة الدائمةِ ﴿وريحان﴾ وزرق ﴿وجنة نَعِيمٍ﴾ أي ذاتُ تنعمٍ
﴿وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ أصحاب اليمين﴾ عبر عنهم بالعنوان السابق إذ لم يذكر لهم فيا سبقَ وصفٌ واحدٌ ينبىءُ عن شأنِهم سواهُ كما ذكرَ للفريقينِ الآخرينِ
201
٩٦ ٩ {
وقوله تعالى
202
﴿فسلام لَّكَ مِنْ أصحاب اليمين﴾ إخبارٌ من جهته تعالى بتسليمِ بعضهم على بعض كما يفصح عنده اللامُ لا حكايةُ إنشاءِ سلامِ بعضِهم على بعض وإلا لقيل عليك والالتفاتُ إلى خطاب كل وحد منهم للتشريفِ
﴿وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ المكذبين الضالين﴾ وهم أصحابُ الشمال عبر عنهم بذلكَ حسبما وصفوا به عند بيانِ أحوالِهم بقوله تعالى ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضالون المكذبون ذماً لهم بذلك وإشعارا بسبب ماابتلوا به من العذابِ
﴿فَنُزُلٌ﴾ أي فله نزلٌ كائنٌ ﴿مِنْ حَمِيمٍ﴾ يُشرب بعد أكل الزقومِ كما فُصل فيما قبلُ
﴿وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ﴾ أي إدخالٌ في النارِ وقيل إقامةٌ فيها ومقاساةٌ لألوان عذابها وقيل ذلك ما يجده في القبر من سَمومِ النارِ ودخانِها
﴿إِنَّ هَذَا﴾ أي الذي ذكر في السورة الكريمة ﴿لَهُوَ حَقُّ اليقين﴾ أي حق الخبر اليقينِ وقيل الحقُّ الثابتُ من اليقين والفاء في قوله تعالى
﴿فسبح باسم ربك العظيم﴾ لترتيبِ التسبيحِ أو الأمرِ به على ما قبلها فإن حقيةَ ما فُصّل في تضاعيفِ السورةِ الكريمةِ ممَّا يوجبُ تنزيهَه تعالى عما لا يليق بشأنه الجليلِ من الأمورِ التي من جُملتِها الإشراكُ به والتكذيبُ بآياتِه الناطقةِ بالحقِّ عنِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سُورةَ الواقعةِ في كلِّ ليلةٍ لم تُصبْهُ فاقةٌ ابدا
202
الحديد ٣ ﴿
{بسم الله الرحمن الرحيم﴾
203
Icon