تفسير سورة الواقعة

تفسير ابن عرفة - النسخة الكاملة
تفسير سورة سورة الواقعة من كتاب تفسير ابن عرفة المعروف بـتفسير ابن عرفة - النسخة الكاملة .
لمؤلفه ابن عرفة . المتوفي سنة 803 هـ

سُورَةُ الْوَاقِعَةِ
[قوله تعالى: (إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (١)
الزمخشري: وَقَعَتِ الْواقِعَةُ كقولك: كانت الكائنة، وحدثت الحادثة، والمراد القيامة: وصفت بالوقوع لأنها تقع لا محالة، فكأنه قيل: إذا وقعت التي لا بدّ من وقوعها، ووقوع الأمر: نزوله*]
[... ] ليس هذا من قولك: إذا كان هذا إنسانا فهو إنسان، حتى يكون من تحصيل الحاصل، بل هو من نحو قولك: إن كان هذا إنسانا فلا امتراء في إنسانيته.
قوله تعالى: ﴿أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (٧)﴾
قد يؤخذ منه أن أقل الجمع ثلاثة.
قوله تعالى: ﴿وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (١٠)﴾
[أفرد*] هؤلاء مع أنهم من أصحاب اليمين، إما تشريفا لهم فالمراد أن أصحاب الميمنة منهم قوم جاوزوا السبقية، فانفردوا بها عن سائرهم، وإما إشارة إلى السابقين منهم الأولون لَا تقسيم فيهم، ومن عاداهم من الخلق يقسمون إلى أصحاب ميمنة، وأصحاب مشأمة، وتقديم أصحاب الميمنة على القسم السابقين باعتبار الكثرة، إما في نفس الأمر، أو في الخطاب، لأن المخاطبين بالآية أصحاب الميمنة منهم أكثر من السابقين، وتقديمهم على أصحاب المشأمة بالشرف، وتقديم أصحاب المشأمة على السابقين بالكثرة، كما قدموا في قوله تعالى: (فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ)، وقال صاحب [... ] الأعمال: السابقون الأنبياء، [وأصحاب*] الميمنة من دونهم من الأولياء والمقربين، قال شيخنا: بل الظاهر أن السابقين أعم من ذلك وهم متقاربون فيما بينهم، بدليل قوله (وَكُنْتُمْ)، فالخطاب للجميع.
وقوله تعالى: (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٣).. ، قلة من الآخرين، قيل: الثلة مطلق الجماعة، وقيل: يشترط الكثرة، فإِن قلت: ما الجمع بين هذا وبين قوله تعالى: (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)، وقليل ما هم؟ قلت: هم قليلون في أنهم بالنسبة إلى العصاة، وإما آحادهم في أنفسهم فأولهم كثيرون بالنسبة إلى آخرهم.
قوله تعالى: ﴿عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (١٥)﴾
إما آخرها أو آحادها، فهل أخبر أن [واحدة*] منها منظومة، وكل واحد من السرر منظوم مع السرر الأخر.
قوله تعالى: ﴿مُتَقَابِلِينَ (١٦)﴾
لكيلا [يرى*] كل واحد منهم من الآخر إلا إلى وجهه الذي هو أحسن ما ينظر إليه.
قوله تعالى: ﴿وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (١٧)﴾
إن قلت: ما أفاد مخلدون؟ قلت: لأن صفة ولدان عارضة يسرع زوالها بصيرورتهم رجالا وشيوخا، فأفاد ذلك وصفهم في الخلود في هذا الوصف.
قوله تعالى: ﴿بِأَكْوَابٍ... (١٨)﴾
هو أحسن الأواني، وهو في المشرق كثير يسمونه [القدح*]، والترتيب في هذه المذكورات تدلي، لأن الأكواب فسروها الجرار، فهي أكبر [من*] الأباريق، والأباريق. أكبر من الكؤوس، قال الغزالي في آخر كتابه الإحياء: من يشتهي الولادة في الجنة يولد له، وقال عبد الحق: في العاقبة: يمكن أن تحمل وتلد ويشتد الولد في ساعة واحدة، ولكنهم لَا يشتهون ذلك، انتهى، وهذا أمر توقيفي لَا يصح الخوض فيه إلا بنقل صحيح.
قوله تعالى: ﴿مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (٢٠)﴾
إن قلت: هلا قيل: مما يختارون، لأن تفعل يقتضي تكلف الفعل، واختار يقتضي مجرد وقوع الفعل دون تكلف، قلت: المراد لازم التكلف، وهو كون الشيء المختار في أعلى درجات الحسن، فهي دلالة التزام لَا دلالة مطابقة، وعكس الفخر، وليس بصواب، فإِن قلت: لم خص التخيير بالفاكهة، والشهوة بلحم الطير، قلت: لأن ما يتفكه به يكون متنوعا متعددا، فتناسب التخير بخلاف لحم الطير، وأيضا فإن الفواكه قربته منهم، فإنها في الأشجار بين أيديهم، والطير بعيد عنهم، والعادة أن الشيء إذا كان قريبا فإِن الإنسان يسأم منه، وعمل فيتخير فيه بخلاف ما هم بعيد، فإِنه لا يخير فيه بل يشتهيه.
قوله تعالى: ﴿وَحُورٌ عِينٌ (٢٢)﴾
قرئ (وَحُورٍ عِينٍ) فلعله مراعاة لعين، وإلا فحور جمع [حوراء على وزن حمراء*]، وهو جمع [**على حمى].
قوله تعالى: ﴿كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ... (٢٣)﴾
إن قلت: لم أتى هذا على الوجه الأضعف في التشبيه، لأن الأبلغ فيه قولك: أسد، ثم قولك: زيد كالأسد، فالجواب: أنهن لَا يشبهن اللؤلؤ إلا في وجه واحد، وهو صفاؤه وإشراقه، لَا في جميع صفاته، لأن منها كونه دقيق الحلقة، جمادا لا يعقل، وجمع أمثال لجمع الحور.
قوله تعالى: ﴿لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا... (٢٥)﴾
هذا يعبر عنه البيانيون، لأنه من باب نفي الشيء بإيجابه، مثل "عَلَى لَاحِبٍ لَا يَهْتَدِي بِمَنَارِهِ، وإن شئت قلت في العبارة: أنه من باب نفي الشيء نفي لازمه، والمعنى واحد لأن قوله لَا يهتدى بمناره، يوهم في الظاهر أن له منارا، أو كذلك قوله تعالى: (لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا)، يوهم أن فيها لغوا وتأثيما غير مسموع لهم، والمقصود أنه ليس هو فيها بالأصالة، وفي سورة الطور (لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ)، فلا يقال: لَا يلزم من نفي السماع نفي الوقوعِ، وذكر عدم السماع، لأن ما بعده وهو سماع السلام، وهذا كقوله تعالى: (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ)، فيقال: ما أفاد ذكر السيارة مع دخولهم في مدلول (لكم)؟ فيجاب: بأنه ذكر لأجل ما بعده من ذكر، ولما كان السيارة بفرضيته الترخص والتخفيف عليهم نص عليها مع دخولهم في قوله تعالى: (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ)، واللغو أعم من التأثيم، لأنه قد لا يكون فيه إثم، فقدم عليه كما قدم في قوله تعالى: (لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا)، وقوله تعالى: (يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ)، [لإفادة*] المساواة بين اللغو والتأثيم، أو ليدل الكلام مرتين بالمطابقة والالتزام.
قوله تعالى: ﴿وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (٢٧)﴾
كررها في أول السورة وهنا، فهو إما أجمل أولا وفصَّل هذا، وذكره أولا من حيث الإجمال، وهنا من حيث [الجزاء*] المرتب عليه، والمراد [أن*] من يأخذ كتابه بيمينه، أو أصحاب اليمين محلهم عن يمين العرش، والأول أظهر، وقال عياض في الإكمال في كتاب الإمارة في حديث: " [إِنَّ الْمُقْسِطِينَ عِنْدَ اللهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ، عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ*] "، قال المفسرون: أصحاب اليمين أصحاب المنزلة الرفيعة، وقيل: يسلك بهم يمينا إلى الجنة، وقيل: لأن الجنة عن يمين النَّاس، وقيل: سموا بذلك، لأنهم [ميامين*] (١) على أنفسهم، وبعده أصحاب الشمال، وقيل: لأن أودعهم أول الخلق جانب آدم [الأيمن*]، وبعده أصحاب الشمال، انتهى، والمناسب حمله على مطلق الصحة ليتناول الملازم من باب أحرى، وذكر السدر [(٢٨)] إما لما قالوه: إن بعض النَّاس يتمنى أن
(١) أي: مبارَكين.
يكون له في الجنة السدر، وإمَّا لأنه من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى، لأنه إذا كان مثل ذلك في الجنة محصلا للنعيم، ونوعا من أنواعه، فأحرى ما هو أعلى منه. ومخضود، قيل: لَا شوك فيه، وقيل: لَا ثمر فيه، فعلى الأول: يكون الوصف بـ (مخضود) [حاجيًّا*] وعلى الثاني: يكون [تكميليا*]، واختلف الزمخشري وابن عطية في مسمى الطلح، فقال الزمخشري: شجر أم غيلان، وقال ابن عطية: شجر السدر، والصحيح الأول، وجعل السدر [ظرفا لهم*]، لأنه أشجار متعددة، وهم بينها، [وفي حديقتها*] وهي محتفة بهم.
قوله تعالى: ﴿وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (٣٠)﴾
أي لأنه تقلص فيه إذ لا شمس هنالك فكلها ظل.
قوله تعالى: ﴿وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (٣٢)﴾
وقال قبلها (وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ)، والتخيير على الكثرة، إذ لَا يتخير الإنسان إلا في الكثير، وتلك للسابقين، ففاكهتها كلها متخيرة، وهذه لمن دونهم ففاكهتها كثيرة يتخيرون فيها، والترتيب في هذه على سبيل الترتيب الوجودي، لأنه أول ما يدخل الإنسان [جنته*] في الدنيا، ينظر إلى أشجارها ثم يجلس في ظلها، [فينظر*] إلى الماء الجاري تحتها، ثم يطلب الفاكهة ليأكل منها، ثم إذا أكل يستريح، فيطلب الفرش لينام عليه (وَأَصْحَابُ اليَمِينِ مَا أَصْحَابُ اليَمِينِ)، وهذا [وأمثاله*] (الْحَاقَّةُ (١) مَا الْحَاقَّةُ)، (الْقَارِعَةُ (١) مَا الْقَارِعَةُ (٢)، سؤال وهو أن المعلوم في أحد جزئي الجملة الابتدائية، يكون مبتدأ، والمجهول خبرا، لأن الخبر هو الجزء المستفاد من الجملة الابتدائية، وقد أتى أصحاب اليمين في الجملة الأولى مبتدأ، وفي الثانية خبرا، فإِما أن يكون معلوما أو مجهولا، وعلى كلا الأمرين فالسؤال وارد، وأجيب: [بأنه*] معلوم من حيث التصور، فصح كونه مبتدأ، ثم أخبر به بضمنه دلالته على التهويل والتعظيم، فإن قلت: إن ذلك إنما أتى مجموع العلة الدالة عليه وعلى إرادة الاستفهام، وكلامنا في الإخبار به وحده عن أداة الاستفهام، فالجواب: أن مجرد الإخبار به تعظيم؛ [كقوله*]: أنا أبو النجم وشعري شعري.
قوله تعالى: ﴿فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (٢٨)﴾
ابن عطية: المخضود هو قطع شوكه، الزمخشري: هو الذي لَا شوك له، كأنه خضد شوكه أي قطع، انتهى، وهذا أحسن لإفادته أنه [لم يخلق*] فيه شوك أصلا، وبدأ
بالمحل، فإن لذة الإنسان به أشد من لذته بالمأكل والمشرب، لملازمته للمحل دون المأكل.
قوله تعالى: ﴿لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (٣٣)﴾
بدأ بالمقطوعة؛ لأنها أعم من الممنوعة، لأن الممنوعة قد تكون موجودة ويمنعون منها، والمقطوعة ليست موجودة ألبتة، ونفي الأعم عندهم أخص من نفي الأخص، والقاعدة عند البيانيين في الترتيب البداية بالأخص، ثم بالأعم، فمقطوع أعم من ممنوع، فنقيضه لا مقطوع أخص من نقيض لا ممنوع.
قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (٣٥)﴾
التأكيد بـ (إِنَّ) إما لأن على المخاطب تحايل الإنكار، أو لأنه جواب عن سؤال، وقد ذكر ابن مالك: في وجوه التأكيد كون الكلام جوابا عن سؤال مقدر، وأنشد عليه:
بَكِّرَا صَاحِبَيَّ قَبْلَ الهَجِيرِ إِنَّ ذاكَ النَّجَاحَ فِي التَّبْكِيرِ
وهو من قول بشار.
وعبر بالإنشاء لأنه خلق مبتدأ لم يسبق بشيء؛ كما [يقول*] الأصوليون، إن الإنشاء هو اللفظ الذي لَا يثبت معناه [لثبوت متعلقه*] بخلاف الخبر، فإن معناه ثابت قبل ذلك، وكذلك أيضا الإنشاء هنا مخالف للإنشاء المتقدم، لأنه تركيب غير قابل للعدم، [**والجزم بخلق الله تعالى]، لأن العقل اقتضى ذلك كما تقول المعتزلة.
وقوله تعالى: (فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (٣٦).. ، إن أريد الحور العين فجعل بمعنى خلق، وإن أريد الآدميات، فهي بمعنى [صيَّر*]، لأن البكارة فيهن مسبوقة بالثيوبة، والآدميات أفضل لامتيازهن عن الحور العين، بالطاعة في الدنيا، [ويحتمل*] كون الحور العين أفضل، كما يجوز أن ينعم الله العاصي، ويعذب الطائع، فقد يكون [المفضول*] عندنا أفضل عند الله تعالى، الزمخشري: (وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ) [نضدت حتى ارتفعت*]، ومرفوعة على [الأسِرَّة*]، وقيل: هي إلينا لأن المرأة يكني عنها بالفراش، وعلى التفسير الأول اضمر لهن، لأن ذكر الفراش، وهي المضاجع دل عليهن، الطيبي: يحتمل أن يريد إضمار لفظة (لهن)، أي أنشأنا لهن، ويحتمل أن يكون الضمير في (أنشأناهن) عائدا على النشأ لدلالة الفراش عليهن، لملازمتهن للفراش، انتهى، هذا أنسب لما قاله المفسرون.
قوله تعالى: ﴿لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ (٣٨)﴾
إما موضع الحال أي أترابا حالة كونهن لأصحاب اليمين، وإما متعلق بـ (أترابا)، أي هن من تراب أصحاب اليمين الرجال، أي النشأ أتراب الرجال في السن والقد، فإن قلت: تقييده بأصحاب اليمين على كل تقدير [ينفي*] ذلك على السابقين، وقد قال في تنعيمهم (وَحُورٌ عِينٌ)؟ قلت: أصحاب اليمين أخفض رتبة من السابقين، فإذا ثبت لهم هذا فأحرى [للسابقين*].
قوله تعالى: ﴿ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (٣٩) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (٤٠)﴾
أي جماعة من الأولين في الجنة، وجماعة من هذه الأمة فيها، قيل: في الجمع بينها على هذا، وبين قوله تعالى: (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ)، أجيب: احتمال أن يريد أهل الجنة بالنوع لَا بالشخص، أي منكم الثلثان، [ومنهم*] الثلث، فأنتم أكثر من كل أمة على حدتها، قيل: بل [ظاهره*] أنهم أكثر من مجموع الأمم، أجيب: بأن الثلة مقولة بالتشكيك تطلق على الجماعة الكثيرة والقليلة، ولا تنافي بين الاثنين.
قوله تعالى: ﴿وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (٤١)﴾
هذه الآية وأمثالها حجة لمن جعل الصحبة حقيقة في معناها الأخص لَا الأعم، فإن قلت: نقلها عندهم من التواطؤ أو التشكيك، فهي في الأخص أولى، قلت: إذا تعارض حمل اللفظ على معناه حقيقة أو بطريق التواطؤ أو التشكيك، فحمله على الحقيقة أولى، فإن قلت: لعله مشترك، أو منقول اصطلاحا من المعنى الأخص إلى الأعم، قلت: من شرط النقل اتفاق أهل الاصطلاح على الشيء الذي نقل إليه، كما في الصلاة والنكاح والغائط، والمحدثون مختلفون في مسمى الصاحب، وسماهم أصحاب الشمال، لما في حديث الإسراء في آدم عليه السلام: "أنه [عَلَى*] يَمِينِهِ أَسْوِدَةٌ، وَعَلَى يَسَارِهِ أَسْوِدَةٌ"، أو لغير ذلك.
قوله تعالى: ﴿فِي سَمُومٍ... (٤٢)﴾
ابن عطية: هو الريح الحارة، الزمخشري: أي في حر نار تنفذ في المسام، انتهى، هذا أقرب إلى اللفظ، وهذا مقابل لنعيم أصحاب اليمين، [مقابل*] بثلاثة أوصاف: لأن السدر المخضود، والطلح المنضود، كالشيء الواحد، فإِن قلت: لم قدم الظل الممدود هنا على الماء المسكوب، وأخره هنا على الحميم المقابل للماء المسكوب؟ فالجواب: أن السموم وهي الريح الحارة تحدث وهجا ولهبا في الجسم فيلجئون إلى تبريدها بشرب الماء، فيجدونه حميما، فحينئذٍ يلجئون إلى الظل فالاحتياج إلى الماء أشد منه إلى الظل، بخلاف حالة النعم، فإِن المأكل فيها رطب لَا يلجأ إلى شرب الماء، فالحاجة إلى الماء تكميلية، والظل ملازم للجنة والشجر، فلذلك قدم.
قوله تعالى: [(وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (٤٣) *]
فإِن قلت: هلا قيل (وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ)، [حارٌّ ضارٌّ*]، فلم أتى به منفيا؟ فأجاب الزمخشري عليه [باستعماله في معناه الأخص*].
قوله تعالى: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (٤٥)﴾
علل عذاب هؤلاء ولم يعلل نعيم هؤلاء، لأن الثواب عندنا محض تفضل من الله تعالى، لَا جزاءً عن العمل، والعقاب محض عدل، وجزاء عن السيئات، وهذه أجزاء علة واحدة، وليست عللا متعددة، والآية حجة لمن يقول: إن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، وحجة لمن يقول: إن عذاب أهل النار، ونعيم أهل الجنة حسي، ورد على من زعم أنه معنوي، وهو قول حكاه الفخر في المعالم بأن [... ]، فإِن قلت: لم قال مترفين [(٤٥) *] فعبر بالاسم؟ [وعادتهم*]: يعبرون بالفعل، قلت: إنه إشارة إلى تزايدهم في الأمر، أو أنهم مهما أتاهم النبي ﷺ بمعجزة أظهروا لها [**إنكارا يخصها] وزاد في تعنتهم، وأما الإتراف فهو ملازم لهم.
قوله تعالى: ﴿وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا... (٤٧)﴾
هذا فرق، لأن الوصف الأول تضمن تنعمهم بالحرام، والثاني: [الكفر بالإسلام*]، لإضافة الشريك إليه، وهو أشد، والثالث: نسبته إلى العجز عن إعادة المعدوم، وهو أشد من الأولين، فإِن قلت: لم قدم التراب على الطعام مع أن صيرورتهم ترابا في الوجود الخارجي متأخر عن صيرورتهم عظاما؟ فالجواب من وجهين:
الأول: أن التراب بالنسبة إلى لحومهم فقط، وهو مقارن للعظام.
الثاني: أن الإنكار تعلق بإعادتهم بعدما صاروا ترابا وعظاما، فيدل من باب أحرى على إنكار الإعادة من الجسم الذي كله تراب، فإِن قلت: هؤلاء قالوا: أينا نبعث بلفظ
الفعل، فيكون [إنكارًا لمطلق البعث*]، فيستلزم إنكار البعث المؤكد، لأن نفي الأعم يستلزم نفي الأخص، فالجواب: أن هذا من الإنكار الأخص لَا من إنكار الأخص، وتقريره أنه إنكار لَا يستلزم الأخص، [لأن إنكار الأخص، كمن أنكر قيام زيد*] المدلول عليه بقول القائل: إن زيدا قائم فأحرى أن ينكر قيامه المدلول عليه بقولك: قام زيد، فإِن قلت: ما الفائدة؟ فلو قدموا إنكار بعث آبائهم لكان أعم فائدة؛ لأن إنكارهم بعث آبائهم لَا يستلزم إنكارهم بعث أنفسهم، لأن آبائهم صاروا رميما، وطالت مدتهم، فلا يلزم من [استبعادهم*] بعثهم استبعادهم بعث أنفسهم بخلاف العكس؟ فالجواب: أن المستحيلات كلها متساوية لَا يقال في بعضها: إنه أولى، كاستحالة اجتماع النقيضين، فإِنه متساو في الجميع، فإِن قلت: إنما ذلك في المستحيلات العقلية التي تكلم فيها الحكماء، ومن له بصيرة، وهؤلاء لم يكن لهم معرفة بالعلوم [فلذلك نفوا البعث والإعادة*]، ولا شك أن المستحيلات بالإعادة متفاوتة فاستحالة بعث آبائهم أولى وأشد من استحالة بعثهم هم، فالجواب: أن ما نفوا ذلك إلا [عقلا*]، ولهم إدراك في ذلك، وأما الوجود فهو بالنسبة إلى الممكن متفاوت فإِطلاقه على الأب أولى من إطلاقه على الابن، وبالنسبة إلى الواجب شيء واحد لَا تفاوت فيه، وكذلك المستحيل عقلا واجب لَا تفاوت فيه من تعلقاته، لكن يجاب عن هذا كله بأن تعليل الحكم [بوصف*] حاصل أقوى من تعليله بوصف مقدر، فاستحالة بعث المعدوم الحصول أقوى من استحالة بعث ما قدر انعدامه، وهذا ذكره المنطقيون فقالوا: القضية المحصلة تنعكس كنفيها، وعكس النقيض [... ]. أخبار العذاب النازل بهم فناسب مفاجأتهم بالخطاب، لأنه أقوى، أو نقول هذا خطاب لمن [قاد*] المبطلين، كما أن عقوبة أبو الحسين البصري من المعتزلة أشد من عقوبة سائرهم، لأنه أول من [أقر*] حجج المبطلين، وكذلك هنا الخطاب لقريش [وأهل*] مكة، فإِنهم الذين [كفروا*]، وكانوا يأتون بالعظم الرميم، فيقولون هذا يبعث ويرجع حيا، والمهلة إما زمانية أو معنوية، أو هما معا، فيجيء فيه تعميم المشترك، إن كانت مشتركة، أو استعمال اللفظ الواحد في حقيقته ومجازه، إن كانت حقيقة في أحدهما مجازا للأخر، أو للقدر المشترك بينهما، والضال أعم من المكذب، لأن كل مكذب ضال، ولا ينعكس، فالمعتزلة ضالون مطلقا، وليسوا مكذبين إلا عند من يكفرهم.
قوله تعالى: ﴿فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٥٣)﴾
الفاء للتعقيب، وهذا احتراس، فإن الأكل من الشيء القبيح لَا يستقبح منه ما قل، باعتبار العادة، إذ قد يكون في الدنيا للتداوى والاستكثار من ذلك غير معهود، فإِن قلت: لم قال: البطون، ولم يقل بطونكم؟ قلت: إشارة إلى أنهم لَا يأكلون في بطونهم المعهودة، بل في بطون أخر، لحديث "يعظم خلق الكافر في جهنم"، وجواب الفخر بحديث: "إن الكافر يأكل في سبعة أمعاء، والمؤمن يأكل في معي واحد"، يرد بأن الحالة في هذه الدنيا والآخرة، ويجاب أيضا: بجواب آخر، وهو إشارة إلى أنهم لَا يراعون أنها بطونهم، فيتحفظون عليها من كثرة الأكل؛ بل يرضونها ويحثونها، ولا يتحفظون عليها، [ولا يتركون فيها فراغا للنَّفَس*]، حتى [كأنها*] بطون غيرهم، وفي سورة الصافات نظير هذه الآية وتقدم الكلام فيها.
قوله تعالى: ﴿فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (٥٧)﴾
يحتمل أن يراد التصديق الأصلي، أو المنطقي، فالأصلي من أقسام الخبر، لأنه هو الخبر المطابق، والمنطقي هو الحكم على الماهية بنفي أو إثبات، وهو ضد التصور، فإِن أريد تصديقهم بمقتضى هذا الخبر، وهو نحن خلقناكم فهو الأصلي كما تصدق زيدا في قوله: قام عمرو فإن أريد اعتقادهم أن لَا فاعل إلا الله فهو المنطقي، وهو أمر عقلي، والأول سمعي، ولولا للتخصيص، وذكر ابن بابشاذ وفي مقدمته أنها مع العاصي للتوبيخ، وجعلها ابن عطية: للتفريع والتقرير.
قوله تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (٥٨)﴾
قيل: المراد به آدم عليه السلام، لأنه خلق من تراب، فالاستدلال به على جواز الإعادة أقوى بالاستدلال من خلقنا نحن من النطفة، رد بأن خلق غير آدم عن عدم صرف فهو أقوى في الاستدلال مما خلق عن وجود.
قوله تعالى: ﴿أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (٥٩)﴾
وقع الإنكار هذا [ترديد*] بين خلقهم، وخلق الله تعالى، وفي سورة الطور (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ)، بالترديد بين خلقهم من غير شيء، وخلق أنفسهم، والجواب: إن هذه مانعة الجمع، فإن قلت: لم عبر في الأول بالفعل، وفي الثاني بالاسم؟ قلت: كان المقصود بالأول نفي الخلق عنهم، فناسب الفعل، لأنه مطلق يصدق بصورة، فإذا انتفى [عم*]، لأن نفي الأعم يستلزم نفي الأخص، والمقصود بالثاني: ثبوت الخلق لله تعالى، فناسب الاسم للثبوت والدوام، الزمخشري: ومنها دليل لمن يقول بالقياس، انتهى، يريد بالقياس المنطقي المضاد للتصور، وليس مراده الأصلي؛ لأن هذا ليس بقياس تمثيلي، وإنما هو استدلال.
قوله تعالى: ﴿قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ... (٦٠)﴾
دليل على أن الموت أمر وجودي بناء على أن العدم الإضافي لَا يكون [أثرا*] للقدرة.
قوله تعالى: ﴿وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (٦١)﴾
فيه رد على [الطبائعيين*] القائلين: بأن النفوس البشرية ألفت أجسادها بالطبيعة، ولو تركبت في غيرها لما أمكن ذلك عندهم، ونحن نقول: الأجساد كلها متساوية في الحد والحقيقة.
قوله تعالى: ﴿أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (٦٤)﴾
جاء على الأصل في كون الجملة الأولى: فعلية، لأن المراد نفيها، والثانية: اسمية؛ لأن المراد ثبوتها.
قوله تعالى: ﴿لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا... (٦٥)﴾
(لَوْ) حرف امتناع، قال النحويون: امتنع الثاني لامتناع الأول، ونص عليه ابن السراج، وابن مالك، وغيرهما، وأبو حيان في أول البقرة، وقيل: بل المراد أن الأول امتنع لامتناع الثاني، نص عليه ابن التلمساني، وابن الحاجب في شرح مفصل الزمخشري، وفي تأليف له خاص [**لوجد أن عن النحويين ما تقدم]، واختار هو أن الأول تمنع لامتناع الثاني، فإذا قلت: لو قام زيد لقام عمرو، معناه [أن امتناع*] عمرو من القيام دلني على امتناع زيد منه، فهو باعتبار العلم والاعتقاد ينتفي فيها الأول لانتفاء الثاني، وباعتبار السببية، والوجود الخارجي ينفي الثاني لانتفاء الأول، وقرره ابن الحاجب بأن انتفاء السبب لَا يدل على انتفاء المسبب، لجواز أن يكون ثَمَّ أسباب
أخر، وانتفاء المسبب يدل على انتفاء كل سبب، فإِنما يمتنع الأول لامتناع الثاني، لأن امتناع الثاني هو السبب، فيدل انتفاؤه على انتفاء السبب الأول.
قوله تعالى: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا).
دل امتناع الفساد على امتناع الإلهية، وبدليل جواز، قولنا: لكان حيوانا فيقتضي كونه إنسانا لانتفاء الحيوانية، ولو كان كما قاله النحويون: لما [جاز*] أن يتكلم بذلك، انتهى، ويلزمه أيضا انتفاء اللازم لانتفاء الملزوم، لأن كونه حيوانا لازم لكونه إنسانا والحال الكلام عليها في الكتابين لما يرجع إلى هذا، والمقصود إنما هو العلم لا الوجود الخارجي، فعلمنا بأن النبات لم يجعل حطاما، دليل على أن الله تعالى لم يشأ حطاما، ولو شاءه لوقع كذلك.
قوله تعالى: (فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ).
أي تعجبون وتقدمون، وتقولون (إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (٦٦).. ، أي لملزومون [غرامة ما أنفقنا*]، وقيل: أي لمهلكون، والأول أصوب، لأن الإضراب يكون فيه الثاني أشد وأقوى من المضروب عنه، ولا أشد من الهلاك.
قوله تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ.. (٦٨)﴾
عين هنا المشروب، وقال: فيما سبق (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ)، ولم يقل: أفرأيتم الحب الذي تحرثون؛ لأن المحروث شيء واحد، وهو الحب، والمشروب متعدد فاللبن مشروب، وكذلك العسل، قال تعالى (يَخرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ)، فإِن قلت: لم قال (أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ) بلفظ الماضي، وقال: قبله (أَأنتُمْ تَزْرَعُونَهُ) بلفظ المستقبل؟ فالجواب: أن المراد أفرأيتم ما الذي أنتم متمكنون من شربه، والتمكن من شرب الماء متأخر عن [البذر حتى تحرث]، فإن قلت: يعارض هذا التقدير بأن الزراعة أيضا [متقدمة*] على الحرث، لأن الحب المحروث كان قبل ذلك زرعا، ثم صار حبًّا، قلت: يلزم على هذا الدور التسلسل، وذلك محال، لأن الحب المحروث متأخر عن كونه زرعا، وكونه زرعا متأخر عن كونه حبا، وكونه حبا متأخر عن كونه زرعا، إلى [ما لا*] نهاية [... ]. ؛ عمله فلذلك أكد جعله الزرع حطاما باللام، ولم يؤكد جعل الماء أجاجا؛ تأكيدا لكمال قدرة الله تعالى، وأنه لَا يعجزه شيء، وأجاب الزمخشري: بوجهين آخرين:
أحدهما: أن اللام أدخلت في الأولى جوابا، ثم حذفت في الثانية، وهو مرادة في المعنى اكتفى بذكرها أولا، وأنشد عليه:
حتى إذا الكلَّاب قال لها... كاليوم مطلوبا ولا طلبا
أراد لم أر كاليوم، والكلاب [صاحب الكلاب*]، والمطلوب الصيد، والطالب الكلب يمدح كلابه، أي لم أر في القوة كالطالب، وفي الضعف كالمطلوب، الثاني: أن اللام في المطعوم للتأكيد، لأن الحاجة إليه أشد من الحاجة إلى المشروب، ألا ترى أنك إنما تسقي [ضيفك*] بعد أن تطعمه، ولو عكست قعدت نحو قول أبي العلاء، أي دخلت تحت قوله:
[إذا سقيت ضيوف النّاس محضا... سقوا أضيافهم شبما زلالا*] (١)
أي إذا سقيت الضياف اللبن المحض، وهو غير المخلوط بالماء سقوهم أضيافهم الماء الخالص، فهو يذمهم على فعلهم ذلك، فإِن قلت: لم عقب نعمة المشروب بالشكر، ولم [يعقب*] نعمة المأكول مع [أن*] الإنسان مأمور في الشرع بالشكر، عقيب الأكل وعقيب المشروب؟ فالجواب: إن الأكل والشرب متلازمان، إذ لَا يكون الشرب غالبا إلا عقيب الأكل، فالأمر بالشكر إليه أمر بالشكر على الجميع، أي أفلا تشكرون على الأمرين معا، وخص هذا بالشكر، وقال قبله (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ)، ذلك محل اعتبار وتذكر، وهذا محل شكر وحمد.
قوله تعالى: ﴿أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا... (٧٢)﴾
عبر هنا بالإنشاء، وقال: قيل (أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ)، لأن ذلك الخلق مسبوق بنوعٍ ومثالٍ تقدَّمَه، وهذا ابتدائي إنشائي لم يسبق بشيء، فلذلك عبر عنه بالإنشاء، وقال هنا: (أَنْشَأْتُمْ) بلفظ الماضي، كما قال تعالى (أَنْزَلْتُمُوهُ)، فيرد السؤال المتقدم، والجواب كالجواب، والنار هل هي الجمرة، أو عرض قام بها، أو أي شيء هو الصواب، إنما هي جواهر لطيفة تحللت بين أجزاء الفحمة، بدليل أن الجمرة تستقر في الأرض، والنار من قواعدهم ترتفع إلى فوق كنار السراج، وبدليل عدم كونها في الحجر، لأن أجزاءه متراصة لَا خلل فيها، فالنار تحلل أجزاءها، وتحل فيها كما حلت الروح في الجسم، مع أنها جوهر لطيف [مسكنه العلو*]، وأما النار التي تخرج من الزناد، فلم تكن فيه؛ بل خلقها الله تعالى فيه عند القدح؛ لئلا يلزم عليه مذهب القائلين بالكون والظهور، ويحتمل أن تكون انفصلت من الزناد أجزاء تبدلت أعراضها عند القدح بإعراض النار، وقول ابن عطية في قوله (شَجَرَتَهَا) قيل: الشجرة، هي النار نفسها لا [يقال*] يلزم عليه إضافة الشيء إلى نفسه، لأنه من إضافة الأعم إلى الأخص، وهو جائز عندهم.
(١) لأبي العلاء يمدح سعد الدولة أبا الفضائل، وعيب عليه حيث مدح بسقى الضيوف الماء قبل ذكر الطعام.
والمخض -بمعجمتين-: اللبن المنزوع زبده، فهو بمعنى الممخوض. ويروى: محضا، بالحاء المهملة، أى: خالصا حلوا أو حامضا. والشبم -كحذر-: البارد. والزلال: العقب. هذا وحيث جعل علماء البلاغة للمقام مدخلا في الدلالة على المراد فنقول: إن معنى البيت: إذا عجلت الناس اللبن لأضيافهم واكتفوا به عن الإسراع بالطعام:
عجلوا هم بالطعام لضيوفهم لاستعدادهم للضيفان، فيحتاجون لشرب الماء، فيسقونهم ماء قبل إطعام غيرهم الضيفان، فسقيهم الماء يفيد تعجيل الطعام قبله بمعونة المقام، لأنه يلزمه عادة فلا عيب فيه. اهـ
قوله تعالى: ﴿نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً... (٧٣)﴾
الزمخشري: أي تذكركم بنار الآخرة لتعتبروا، انتهى، إنما المراد أنها تذكركم بوجود الصانع لها ووحدانيته، واتصافه بصفات الكمال، [وكونها*] أخرجها من الشجر الأخضر، وأنها لَا تحرق [بالطبع*]، ولو كانت كذلك لما فارقها الإحراق، ويبعد لما قال الزمخشري: ومثله لابن عطية، لأن الدار الآخرة إنما علمناها، وعلمنا نارها، وعذابها سمعا لَا عقلا، فعبر بالاسم لملازمتهم للمداهنة، ثم قال (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ... (٨٢).. ، فعبر بالفعل [لتجدد الرزق*]، وتكرره واختلاف أنواعه.
قوله تعالى: ﴿الْحُلْقُومَ (٨٣)﴾
ابن عطية: الحلقوم مجرى الطعام، وعند الفقهاء: مجرى النفس فقط، وهي الكرجومة، ومجرى الطعام هو [البلعوم، وهو [**أبو حشيشة]، ويسمونه المريء.
قوله تعالى: ﴿وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (٨٥)﴾
قيل: أي لَا تبصروننا، وقيل: لَا تبصرون ملائكتنا، قال السلمي في التذكرة: هذه الآية تبطل مذهب المجسمة [لأنا نرى*] أشخاصا متعددين يموتون في مواضع شتى متباعدة في زمن واحد، فلو كان الله تعالى جسما، للزم عليه حلول الواحد في الزمن الواحد في أماكن متعددة، انتهى، ويجاب بلزوم مثله في ملك الموت، لأنه جسم، وهو الذي يتولى قبض الأرواح كلها، والدنيا بين يديه كالطبق بين يدي من يأكل منه.
قوله تعالى: [(غَيْرَ مَدِينِينَ (٨٦) *]
أي غير مملوكين، ولا مقهورين.
قوله تعالى: ﴿وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (٩٢)﴾
عبر عنهم بوصفهم، وقال قبلها (فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ)، (وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ)، فعبر عن الفريقين بحكمهم، فهلا قيل هنا: وأما إن كان من أصحاب الشمال، أو نحوه، والجواب: أنه عبر عن الأولين بحكمهم، لأنه لو عبر عنهم بوصفهم [لأوهم أن*] ما رتب على ذلك من الثواب جزاء عما اتصفوا به من الطاعة، ومذهبنا أن الثواب على الأعمال محض [تفضل*] من الله تعالى، وعبر عن هؤلاء بوصفهم إشارة إلى أن تعذيب العاصي عدل، وجزاء عن عمله، فإن قلت: لم قدم التكذيب على الضلال، وقال في أول السورة (ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ)، فقدم الضلال؟ فالجواب: أن الضلال أعم من التكذيب، فيصدق على الضلال عن نفس الحق، [وعلى*] الضلال عن طرقه ودلائله، فبدأ هناك بالأعم
على الأصل، وبدأ هنا بالأخص، ووصفه بالضلال معرفا بالألف واللام التي للعهد مرادا به أخصه فهم عالمون مباهتون كافرون عنادا، ضالون عن الحق لَا عن دلائله وطرقه، أجاب الفخر: بجوابين آخرين:
أحدهما: أن المراد هناك بالضلال إصرارهم [على*] الحنث العظيم، وهو الشرك بالله تعالى، والمراد بالتكذيب تكذيبهم الرسول في الحشر، والبعث بقولهم (أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ)، فجزاء على ترتيبه فيما قبلها جعل المتقدم [مقدما*]، وأما هنا فالمراد بها المكذبون بالحشر الضالون عن طريق الخلاص والنجاة، ويرد بأن ذلك كذب لَا تكذيب، ويجاب: بأنه مستلزم للتكذيب.
الجواب الثاني: أن الخطاب في الأول للكفار، أي (ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ) بالشرك المكذبون الرسالة، والخطاب في هذه مع النبي صلى الله عليه وسلم، أي وأما إن كان من الذين كذبوك فضلوا لسبب ذلك، فقدم تكذيبهم تكرمه له - ﷺ - حيث بين أقوى سبب في عقابهم [تَكْذِيبُهُمْ*]، ويدل على أن الخطاب له - ﷺ -.
قوله تعالى: فيها (فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ).
وهذا ينتج له بالعكس، لأنه يكون [ترقيا*] في وصف الذم، فهو أحسن من التدلي، [وإنما*] الجواب: ما تقدم.
قوله تعالى: ﴿فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (٩٣)﴾
فيه سؤال، وهو أن النزل أول ما تقدم للضيف عند قدومه، وقد أخبر عنهم أولا أنهم [إنما*] يشربون الحميم بعد أكلهم من شجرة الزقوم، فهو [ثانٍ لا أول*]، وجوابه:
إما بأنهم يشربون الحميم أولا ثم يأكلون الزقوم، ثم [يعاودون*] شرب الحميم، وإما بأن هذا [ ]، فجعل أول متناولهم الحميم، كما نجد بعض النَّاس [يفطر*] على بعض الأشربة، ثم يأكل الطعام بعد ذلك.
قوله تعالى: ﴿حَقُّ الْيَقِينِ (٩٥)﴾
أبو حيان: هو من إضافة الصفة إلى الموصوف، فيجوز عند الكوفيين، والبصريون يقدرون مضافا، أي حق الخبر اليقين، ابن عطية، قيل: إنه من باب دار الآخرة، ومسجد الجامع، وقيل: مبالغة وتأكيد؛ كقولك هذا يقين اليقين، وصواب الصواب، أي نهايته، وهو أحسن لأن دار الآخرة يقدر فيها مضافا، أي دار النشأة الآخرة أو [الرجعة*] الآخرة، وهذا لَا يتجه هنا، بل المعنى أن الخبر هو يقين اليقين، [وحقيقته*]، انتهى، تقرير الفرق بينهما أن الحق إما أعم من اليقين، أو مساو له، ولا يصح أن
يكون أخص منه، فإن كان أعم منه فهو ما قلناه: ولا يحتاج إلى تقدير مضاف، وإن كان مساويا لزم أحد الأمرين، إما كون الأحكام الشرعية كلها يقينية، وهو باطل، وإما كونها ليست حقا، فهو باطل، فهو أعم من اليقين بلا شك.
قوله تعالى: ﴿فَسَبِّحْ... (٩٦)﴾
هذا الخطاب عام في كل من قرأ هذه الآية، لأن الآيات العامة التعلق، إنما يخاطب بها العموم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ سورة الواقعة كل ليلة لم تصبه فاقة أبدا"، انتهى، هذا الحديث خرجه عبد الحق في الأحكام، وصححه وضعفه ابن القطان.
* * *
Icon