ﰡ
قيام القيامة وأصناف الناس
[سورة الواقعة (٥٦) : الآيات ١ الى ١٢]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (١) لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ (٢) خافِضَةٌ رافِعَةٌ (٣) إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (٤)وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا (٥) فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا (٦) وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً (٧) فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (٨) وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ (٩)
وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (١٠) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (١١) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (١٢)
الإعراب:
إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ إِذا: في موضع نصب إما ب وَقَعَتِ لأن إِذا فيها معنى الشرط، فجاز أن يعمل فيها الفعل الذي بعدها، وإما أن العامل فيه: إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا أي وقوع الواقعة وقت رج الأرض، وإما العامل: لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ أي ليس لوقعتها كذب، وكاذِبَةٌ بمعنى كذب، كالعاقبة والعافية، وإما العامل فعل مقدر، أي اذكر.
خافِضَةٌ رافِعَةٌ خبر لمبتدأ محذوف، أي فهي خافضة رافعة، وهي جواب إِذا ويقرأ بالنصب على الحال من الواقعة، أي وقعت الواقعة في حالة الخفض والرفع.
إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا بدل من قوله تعالى: إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ.
فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ قيل: هو جواب إِذا وهو مبتدأ.
وما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ: مبتدأ وخبر، والجملة منهما خبر المبتدأ الأول، والعائد فيها محذوف: أي:
«ما هم».
وكذلك قوله: وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ والاستفهام في هذين الموضعين معناه التعجب والتعظيم.
وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ، أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ السَّابِقُونَ الأول: مبتدأ، والثاني: صفة،
البلاغة:
إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ جناس اشتقاق.
الْمَيْمَنَةِ.. والْمَشْئَمَةِ بينهما طباق، وكذا بين خافِضَةٌ رافِعَةٌ وإسناد الخفض والرفع إلى القيامة مجاز عقلي، لأن الخافض الرافع على الحقيقة هو الله وحده، ونسب إلى القيامة مجازا، مثل «نهاره صائم».
المفردات اللغوية:
إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ إذا حدثت القيامة، سماها واقعة لتحقق وقوعها. لَيْسَ لِوَقْعَتِها لوقوعها. كاذِبَةٌ كذب، أو نفس كاذبة، بأن تنفيها حين تقع كما تكذب الآن في الدنيا.
خافِضَةٌ رافِعَةٌ تخفض قوما وترفع آخرين، بدخولهم النار ودخولهم الجنة، وهو تقرير لعظمتها، فإن الوقائع العظام تميز بين الناس.
رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا زلزلت وحركت تحريكا شديدا يؤدي إلى سقوط البناء والجبال وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا فتتت وصارت كالسويق الملتوت، يقال: بسّ فلان السويق، أي لته هَباءً غبارا. مُنْبَثًّا متفرقا منتشرا.
وَكُنْتُمْ في القيامة. أَزْواجاً أصنافا، وكل ما يذكر مع صنف آخر: زوج، وكل قرينين ذكر وأنثى: زوج. فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ أهل اليمين، الذين يؤتون كتبهم بأيمانهم. ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ تعظيم لشأنهم بدخولهم الجنة، فهم أصحاب المنزلة السنية. وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ أهل الشمال الذين يؤتون كتبهم بشمائلهم. ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ تحقير لشأنهم بدخول النار، فهم أصحاب المنزلة الدنية.
وَالسَّابِقُونَ هم الذين سبقوا إلى الخير في الدنيا، وهم الأنبياء. السَّابِقُونَ تأكيد، لتعظيم شأنهم، لأنهم سبقوا إلى الإيمان والطاعة من غير توان. أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ الذين قرّبت درجاتهم، وأعليت مراتبهم في الجنة، فهم أهل الحظوة والكرامة عند ربهم.
التفسير والبيان:
إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ، لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ أي إذا قامت القيامة، ليس
خافِضَةٌ رافِعَةٌ تخفض أقواما كانوا في الدنيا مرفوعين، فتجعلهم في الجحيم، وهم الكفرة والفسقة، وترفع أقواما كانوا في الدنيا مغمورين، فتجعلهم في الجنة، وهم أهل الإيمان، لأن شأن الوقائع العظيمة إحداث تغيرات في موازين المجتمع، فترفع وتخفض.
إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا أي إذا زلزلت وحركت الأرض تحريكا شديدا، فتهتز وترتج وتضطرب، حتى ينهدم كل ما عليها من بناء وجبال.
وهذا كقوله تعالى: إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها [الزلزال ٩٩/ ١] وقوله:
يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ [الحج ٢٢/ ١].
وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا أي فتتت الجبال فتا، وصارت كما قال تعالى:
كَثِيباً مَهِيلًا [المزمل ٧٣/ ١٤].
فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا أي صارت غبارا متفرقا منتشرا، كالهباء الذي يطير من النار، أو الذي ذرته الريح وبثته.
وهذه الآية كأخواتها الدالة على زوال الجبال عن أماكنها يوم القيامة، وذهابها وتسييرها، وصيرورتها كالعهن المنفوش، بسبب نسفها من ربك.
وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً أي وأصبحتم يوم القيامة منقسمين إلى ثلاثة أصناف: أهل اليمين أصحاب الجنة، وأهل اليسار أهل النار، والسابقون بين يدي الله عز وجل المقربون: وهم الرسل والأنبياء والصديقون والشهداء.
١- فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ، ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ أي وأصحاب اليمين الذين يأخذون كتبهم بأيمانهم، ويؤخذون إلى الجنة، فما أحسن حالهم وصفتهم وأكمل سعادتهم!! وقوله: ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ لتفخيم شأنهم وتعظيم أمرهم. والفاء:
تدل على التفسير، وبيان مورد التقسيم. وابتدأ بأهل اليمين ثم بأهل الشمال للترغيب بالثواب والترهيب بالعقاب، بعد التخويف من الواقعة.
٢- وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ، ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ أي وأصحاب الشمال الذين يتناولون كتبهم بشمائلهم، ويساقون إلى النار، فما أسوأ حالهم وأتعسهم!!
أخرج الإمام أحمد عن معاذ بن جبل أن رسول الله ﷺ تلا هذه الآية:
وَأَصْحابُ الْيَمِينِ، ما أَصْحابُ الْيَمِينِ، وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ فقبض بيده قبضتين، فقال: «هذه للجنة ولا أبالي، وهذه للنار ولا أبالي».
٣- وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ، أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ، فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ أي والسابقون من كل أمة إلى الإيمان والطاعة والجهاد والتوبة وأعمال البر، وهم الأنبياء والرسل عليهم السلام والشهداء والصدّيقون والقضاة العدول، هم السابقون إلى رحمة الله، وهم المقرّبون إلى جزيل ثواب الله وعظيم كرامته، والمقيمون إلى الأبد في جنات النعيم. والإشارة بقوله: أُولئِكَ لعلو درجتهم، ورفعة مكانتهم.
أخرج الإمام أحمد عن عائشة عن رسول الله ﷺ أنه قال: «أتدرون من السابقون إلى ظلّ الله يوم القيامة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: الذين إذا أعطوا الحق قبلوه، وإذا سئلوه بذلوه، وحكموا للناس كحكمهم لأنفسهم».
دلت الآيات على ما يأتي:
١- وقوع القيامة أمر حتمي وحق ثابت لا ريب فيه، لا يستطيع أحد تكذيبه عند حدوثه كما كان يحصل في الدنيا، ولا يملك أحد أن يرده أو يدفعه.
٢- القيامة ترفع أقواما وهم أولياء الله إلى الجنة، وتخفض آخرين وهم أعداء الله إلى النار، لأن الوقائع الجسام تؤدي إلى التغيير الاجتماعي في تركيب المجتمع، فيعزّ قوم، ويذل آخرون.
٣- إذا وقعت الساعة، زلزلت الأرض وحركت واضطربت، ودمرت من عليها وما فوقها من المباني والقصور والجبال، وتفتّتت الجبال، وأصبحت غبارا منتشرا متفرقا، وزالت من أماكنها.
٤- يكون الناس يوم القيامة أصنافا ثلاثة: أصحاب اليمين، وأصحاب الشمال، والسابقون، والأولون أصحاب الميمنة: هم الذين يؤخذ بهم ذات اليمين إلى الجنة ويعطون كتبهم بأيمانهم، وأصحاب المشأمة: هم الذين يؤخذ بهم ذات الشمال إلى النار ويعطون كتبهم بشمائلهم، والسابقون: الأنبياء والمرسلون والمجاهدون والحكام العدول الذين سبقوا إلى الإيمان والطاعة والجهاد والتوبة والقضاء بالحق، وهم المقربون بين يدي الله تعالى.
وقسمة الخلق إلى ثلاثة أقسام دليل غلبة الرحمة، فلم يجعل الله سبحانه قسما رابعا وهم المتخلفون المؤخرون عن أصحاب الشمال، لشدة الغضب عليهم، في مقابل المقربين.
وهذه القسمة كقوله تعالى: فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ، وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ، وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ [فاطر ٣٥/ ٣٢] ولم يقل: منهم متخلف عن الكل.
[سورة الواقعة (٥٦) : الآيات ١٣ الى ٢٦]
ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٣) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (١٤) عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (١٥) مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ (١٦) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ (١٧)
بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (١٨) لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ (١٩) وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (٢٠) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢١) وَحُورٌ عِينٌ (٢٢)
كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (٢٣) جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً (٢٥) إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً (٢٦)
الإعراب:
ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ، وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ، عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ، مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ ثُلَّةٌ: إما مبتدأ مؤخر، وخبره: فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ المتقدم عليه، أو خبر مبتدأ محذوف، تقديره: هم ثلة. وقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ: معطوف عليه، وعَلى سُرُرٍ: خبر ثان، ومُتَّكِئِينَ ومُتَقابِلِينَ حال من ضميره عَلى سُرُرٍ.
وَحُورٌ عِينٌ، كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ، جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ حُورٌ: على تقدير:
ولهم حور، جمع أحور وحوراء، ويقرأ بالنصب على تقدير: ويعطى حورا، وبالجر بالعطف على ما قبله: بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ. وعِينٌ: جمع أعين وعيناء، وكان قياسا أن يجمع على فعل بضم الفاء، إلا أنها كسرت، لأن العين ياء. وجَزاءً: إما مصدر مؤكد لما قبله، أو مفعول لأجله.
إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً قِيلًا: منصوب على الاستثناء المنقطع، أو منصوب ب يَسْمَعُونَ. وسَلاماً منصوب بالقول، أو مصدر، أي يتداعون فيها، وسلمك الله سلاما، أو وصف ل (قيل).
البلاغة:
الْأَوَّلِينَ والْآخِرِينَ بينهما طباق.
وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ تشبيه مرسل مجمل، حذف منه وجه الشبه، أي كأمثال اللؤلؤ في بياضه وصفائه.
المفردات اللغوية:
ثُلَّةٌ جماعة كثيرة أو قليلة. مِنَ الْأَوَّلِينَ من الأمم الماضية. وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يخالف ذلك
قوله صلى الله عليه وسلم: «إن أمتي يكثرون سائر الأمم» «١»
لجواز أن يكون سابقو سائر الأمم أكثر من سابقي هذه الأمة، وتابعو هذه الأمة أكثر من تابعيهم، ولا يرده قوله تعالى في أصحاب اليمين: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ لأن كثرة الفريقين لا تنافي أكثرية أحدهما.
مَوْضُونَةٍ منسوجة بإحكام، أو بقضبان الذهب والجواهر. وِلْدانٌ صبيان جمع ولد. مُخَلَّدُونَ باقون على صفتهم أبدا، لا يهرمون كأولاد الدنيا. بِأَكْوابٍ آنية لا عرى لها ولا خراطيم، جمع كوب. وَأَبارِيقَ أوان لها عرى وخراطيم، جمع إبريق. وَكَأْسٍ إناء شرب الخمر. مِنْ مَعِينٍ أي من خمر جارية من منبع لا ينقطع أبدا.
لا يُصَدَّعُونَ عَنْها لا يحصل لهم منها صداع كما يحدث ذلك من خمر الدنيا.
وَلا يُنْزِفُونَ ولا تذهب عقولهم بالسكر منها، بخلاف خمر الدنيا، ويقرأ بفتح الزاي وكسرها، من نزف الشارب وأنزف: إذا ذهب عقله، ويقال للسكران: نزيف ومنزوف. يَتَخَيَّرُونَ يختارون ويرضون.
وَحُورٌ عِينٌ أي ولهم حور أي نساء شديدات سواد العيون وبياضها، جمع حوراء وأحور، وعِينٌ ضخام الأعين واسعات، حسان، جمع أعين وعيناء. الْمَكْنُونِ المصون أو المستور الذي لم تمسه الأيدي، فهو مصون عما يضرّ به في الصفاء والنقاء. جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ يفعل ذلك كله بهم جزاء بأعمالهم. لا يَسْمَعُونَ فِيها في الجنة. لَغْواً فاحشا أو ساقطا من القول. وَلا تَأْثِيماً ما يؤثم. إِلَّا قِيلًا: سَلاماً سَلاماً أي لكن قولا: سلاما سلاما أي يقولون: سلّمك الله سلاما. وتكرار سَلاماً للدلالة على فشّو السلام بينهم.
سبب النزول: نزول الآية (١٣ و٣٩) :
ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ..: أخرج أحمد وابن المنذر وابن أبي حاتم بسند فيه من لا يعرف عن أبي هريرة قال: لما نزلت: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ
وأخرج ابن عساكر في تاريخ دمشق بسند فيه نظر، من طريق عروة بن رويم عن جابر بن عبد الله قال: «لما نزلت إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ وذكر فيها ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ بكى عمر، وقال: يا رسول الله، آمنا بك، وصدقناك، ومع هذا كله، من ينجو منا قليل، فأنزل الله تعالى: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ، وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ فدعا رسول الله ﷺ عمر، فقال: يا عمر بن الخطاب، قد أنزل الله فيما قلت، فجعل ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ، وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ، فقال عمر: رضينا عن ربنا وتصديق نبينا».
والخلاصة: أن كلتا الروايتين مشكوك فيهما.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى الصنف الثالث من الناس يوم القيامة، وهم السابقون، ذكر ما يتمتعون به من أنواع النعيم في الفرش والخدم والطعام والشراب والنساء والأحاديث الخالية من اللغو والفحش والإثم، مع إفشاء السلام بينهم.
التفسير والبيان:
ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ، وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ أي إن السابقين السابقين المقربين هم جماعة كثيرة لا يحصر عددهم، من الأمم السابقة، من لدن آدم إلى نبينا صلى الله عليه وسلم، وقليل من هذه الأمة، وسموا قليلا بالنسبة إلى من كان قبلهم وهم كثيرون، لكثرة الأنبياء فيهم، وكثرة من أجابهم.
والدليل على أن (القليل) من أمة محمد صلى الله عليه وسلم
قوله ﷺ فيما رواه الشيخان وأحمد والنسائي عن أبي هريرة: «نحن الآخرون، السابقون يوم القيامة»
بما رواه الإمام أحمد وأبو محمد بن أبي حاتم وابن المنذر وابن مردويه عن أبي هريرة قال: «لما نزلت ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ، وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ شق ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة، ثلث أهل الجنة، بل أنتم نصف أهل الجنة، أو شطر أهل الجنة، وتقاسمونهم النصف الثاني».
أما أصحاب اليمين كما يأتي وهم أهل الجنة، فإنهم كثيرون من هذه الأمة، لأنهم كل من آمن بالله ورسوله وعمل صالحا، فإنهم ثلة من الأولين، وثلة من الآخرين، فلا يمتنع أن يكون في أصحاب اليمين من هذه الأمة من هو أكثر من أصحاب اليمين من غيرهم، فيجتمع من قليل سابقي هذه الأمة، ومن ثلة أصحاب اليمين منها من يكوّن نصف أهل الجنة، كما في الحديث المتقدم.
والخلاصة: إن مجموع هذه الأمة كثرة على من سواها، وإن سابقي الأمم السوالف أكثر من سابقي أمتنا، وتابعي أمتنا أكثر من تابعي الأمم. وإن كثرة سابقي الأولين ليس إلا بأنبيائهم، فما على سابقي هذه الأمة بأس إذا كثرهم سابقو الأمم بضم الأنبياء عليهم السلام «١».
ثم وصف الله تعالى حال المقربين، فقال:
عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ، مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ أي هم في الجنة حالة كونهم على أسرّة منسوجة بخيوط الذهب، مشبكة بالدرّ والياقوت والزبرجد، مستقرّين على السرر، متكئين عليها متقابلين مواجهة، لا ينظر بعضهم قفا بعض، فهم في بسط وسرور، وصفاء وحبور، لا يملّون ولا يكلون، ولا يتخاصمون ولا يتشاحنون، وهم مخدومون كما قال تعالى:
بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ، لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ أي يطوفون عليهم بأقداح مستديرة الأفواه لا آذان لها ولا عرى ولا خراطيم، وأباريق ذات عرى وخراطيم، وكؤوس مترعة من خمر الجنة الجارية من الينابيع والعيون، ولا تعصر عصرا كخمر الدنيا، فهي صافية نقية، لا تتصدع رؤوسهم من شربها، ولا يسكرون منها، فتذهب عقولهم.
قال ابن عباس: في الخمر أربع خصال: السكر، والصداع، والقيء، والبول، فذكر الله تعالى خمر الجنة، ونزهها عن هذه الخصال.
وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ، وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ أي ويطوفون عليهم مما يختارونه من ثمار الفاكهة، وأنواع لحوم الطيور التي يتمنونها وتشتهيها نفوسهم، مما لذّ وطاب، علما بأن لحم الطير أفضل من غيره من اللحوم وألذ. والحكمة في تقديم الفاكهة على اللحم: أنها ألطف، وأسرع انحدارا، وأيسر هضما، وأصح طبا، وأكثر تحريكا لشهوة الأكل وتهيئة النفس للطعام.
وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ أي ولهم نساء حور بيض، مع شدة سواد سواد العين، وشدة بياض بياضها، وواسعات الأعين حسانها، مثل أنواع اللآلي والدرر المستورة التي لم تمسها الأيدي صفاء وبهجة، وبياضا وحسن ألوان، كما في آية أخرى: كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ [الصافات ٣٧/ ٤٩]. والكاف في قوله:
كَأَمْثالِ للمبالغة في التشبيه.
جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ أي يفعل بهم ذلك كله، للجزاء على أعمالهم، أو مجازاة لهم على ما أحسنوا من العمل.
تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ [إبراهيم ١٤/ ٢٣]. والمراد أن هذا النعيم ليس مصحوبا بألم كنعيم الدنيا، وإنما هو خال من الكدر والهم، واللغو، والقبح. والحكمة في تأخير ذكر ذلك عن الجزاء، مع أنه من النعم العظيمة: أنه من أتم النعم، فجعله من باب الزيادة والتمييز، لأنه نعمة اجتماعية تدل على نظافة الوسط الاجتماعي، بعد ذكر النعم الشخصية.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- إن فئة السابقين المقربين تشتمل على جماعة من الأمم الماضية، وقليل ممن آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، لأن الأنبياء المتقدمين كثيرون، فكثر السابقون إلى الإيمان منهم، فزادوا على عدد من سبق إلى التصديق من أمتنا.
والأصح أن هذه الآية: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ، وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ محكمة غير منسوخة، لأنها خبر، ولأن ذلك في جماعتين مختلفتين، والنسخ في الأخبار أي في مدلولها مطلقا غير جائز في الأرجح، فإذا أخبر تعالى عنهم بالقلة، لم يجز أن يخبر عنهم بالكثرة من ذلك الوجه.
قال الحسن البصري: سابقو من مضى أكثر من سابقينا، فلذلك قال:
وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ وقال في أصحاب اليمين، وهم سوى السابقين: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ، وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ ولذلك
قال النبي ﷺ كما تقدم: «إني لأرجو
٢- للسابقين في الجنة ألوان من النعيم في المجلس والطعام والشراب والزواج والكلام، فمجالسهم على سرر منسوجة بقضبان الذهب، مشبكة بالدر والياقوت، ويخدمهم غلمان خدم لهم لا يموتون ولا يهرمون ولا يتغيرون. وأداة الشراب آنية براقة صافية لا عرى لها ولا خراطيم، وأباريق لها عرى وخراطيم، وكؤوس من ماء أو خمر، والمراد هنا: الخمر الجارية من العيون، ولا تنصدع رؤوسهم من شربها، فهي لذيذة لا تؤذي، بخلاف شراب الدنيا، ولا يسكرون فتذهب عقولهم.
وطعامهم مما لذّ وطاب من لحوم الطيور، ويتخيرون ما شاؤوا من الفواكه لكثرتها.
ويتزوجون بنساء حور بارعات الجمال، عيونهن شديدات السواد والبياض، واسعات حسان، مثل اللؤلؤ والدر صفاء وتلألؤا، متناسقات أجسادهن في الحسن من جميع الجوانب.
وكلامهم أطيب الكلام، ليس فيه باطل ولا كذب ولا لغو هراء ساقط، ولا موقع في الإثم، لا يؤثّم بعضهم بعضا، ولا يسمعون شتما ولا مأثما، وإنما يتبادلون التحيات والسلامات من بعضهم بعضا.
٣- أتحفهم الله بهذه النعم الجزيلة جزاء حسنا على أعمالهم الصالحة، وما قدموا في دنياهم من خيّر الأفعال، وأحسن الأقوال. وقوله: بِما كانُوا يَعْمَلُونَ يدل على أن العمل عملهم، وحاصل بفعلهم.
[سورة الواقعة (٥٦) : الآيات ٢٧ الى ٤٠]
وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ (٢٧) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (٢٨) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (٢٩) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (٣٠) وَماءٍ مَسْكُوبٍ (٣١)
وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (٣٢) لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ (٣٣) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (٣٤) إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (٣٥) فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً (٣٦)
عُرُباً أَتْراباً (٣٧) لِأَصْحابِ الْيَمِينِ (٣٨) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (٣٩) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (٤٠)
الإعراب:
إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً هنّ: يعود على «الحور» المذكورات في نعيم السابقين، أو على أصحاب اليمين، أو على فُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ واختار ابن الأنباري أن يكون الضمير غير عائد إلى مذكور على ما جرت به عادتهم إذا فهم المعنى، كقوله تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ [الرحمن ٥٥/ ٢٦] وأراد به الأرض، ولم يسبق ذكرها، وقوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ
[القدر ٩٧/ ١] وأراد به القرآن، وإن لم يجر له ذكر، لأن هذا أول السورة، ولم يتقدم للقرآن ذكر فيه، وكقوله تعالى: حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ [ص ٣٨/ ٣٢] أراد به الشمس، وإن لم يجر لها ذكر، فكذلك ها هنا أريد بالضمير «الحور» في هذه القصة، وإن لم يجر لهن ذكر، لما عرف المعنى.
فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً، عُرُباً أَتْراباً، لِأَصْحابِ الْيَمِينِ أَبْكاراً جمع بكر، وعُرُباً جمع عروب، لأن فعولا يجمع على فعل، كرسول ورسل، ويجوز «عربا» بضم العين وسكون الراء.
وأَتْراباً جمع ترب، يقال: هي تربه ولدته وقرنه، أي على سنّه. ولِأَصْحابِ الْيَمِينِ:
إما صله لما قبله أو خبر لقوله تعالى: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ.
ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ خبر لمبتدأ محذوف أي هم ثلة.
البلاغة:
وَأَصْحابُ الْيَمِينِ، ما أَصْحابُ الْيَمِينِ كرره بطريق الاستفهام للتفخيم والتعظيم.
وَأَصْحابُ الْيَمِينِ.. بعد قوله: فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ.. تفنن في العبارة، كما في أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ وأَصْحابُ الشِّمالِ.
المفردات اللغوية:
سِدْرٍ شجر النبق: وهو شجر يمتاز بكثرة أوراقه وأغصانه، إلا أن له شوكا.
مَخْضُودٍ لا شوك فيه، مقطوع الشوك، من خضد شوكة، أي قطع. وَطَلْحٍ شجر الموز.
مَنْضُودٍ متراكب الثمر، نضّد حمله من أسفله إلى أعلاه، فليست له سوق بارزة، بل ثمره مرصوص بعضه فوق بعض بنظام جميل. مَمْدُودٍ دائم باق، لا يزول، منبسط لا يتقلص ولا يتفاوت. مَسْكُوبٍ جار دائم لا ينقطع، مصبوب يسكب لهم.
وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ كثيرة الأجناس والكميات. لا مَقْطُوعَةٍ لا تنقطع في وقت.
وَلا مَمْنُوعَةٍ ولا تمتنع عن متناولها بوجه كثمن أو غيره، فهي مباحة سهلة التناول. وَفُرُشٍ جمع فراش كسرج وسراج. مَرْفُوعَةٍ عالية منضدة مرفوعة على السرر. إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً خلقناهن خلقا جديدا من غير ولادة، وهن الحور العين. أَبْكاراً عذارى، كلما أتاهن أزواجهن وجدوهن عذارى. عُرُباً جمع عروب، وقرئ «عربا» متحبّبات إلى أزواجهن عشقا له.
أَتْراباً مستويات السن، جمع ترب.
سبب النزول:
نزول الآية (٢٧) :
وَأَصْحابُ الْيَمِينِ..: أخرج سعيد بن منصور في سننه والبيهقي في البعث عن عطاء ومجاهد قالا: لما سأل أهل الطائف الوادي يحمى لهم، وفيه عسل، ففعل، وهو واد معجب، فسمعوا الناس يقولون: في الجنة كذا وكذا، قالوا: يا ليت لنا في الجنة مثل هذا الوادي، فأنزل الله: وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ، فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ الآيات.
نزول الآية (٢٩) :
وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ: أخرج البيهقي من وجه آخر عن مجاهد قال: كانوا
وَأَصْحابُ الْيَمِينِ، ما أَصْحابُ الْيَمِينِ، فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ، وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ، وَظِلٍّ مَمْدُودٍ.
المناسبة:
لما بيّن الله تعالى حال السابقين وأوصاف نعيمهم، شرع في بيان حال أصحاب اليمين من الأصناف الثلاثة في الآخرة، وعدد أوصاف نعمهم من فواكه وظلال ومياه وفرش ونساء حسان عذارى في سن واحدة.
التفسير والبيان:
وَأَصْحابُ الْيَمِينِ، ما أَصْحابُ الْيَمِينِ هذا عطف على السابقين المقربين، وهم أصحاب اليمين الأبرار الذين يؤتون كتبهم بأيمانهم، منزلتهم دون المقربين، فهم أقل درجة في النعيم من السابقين، لأنهم كانوا في الدنيا أضعف إيمانا، وأقل إخلاصا وعملا، فأشجارهم وفواكههم وما يؤتون به من النعيم لا يبلغ درجة ما يناله أصحاب السبق.
ومع ذلك، فهم في درجة عالية ومنزلة رفيعة، لذا جاء الكلام في مدحهم على نحو هذا الأسلوب العربي لإفادة المبالغة في المدح، كما يقال: فلان ما فلان؟
والمعنى: وأما أصحاب اليمين السعداء، فما أدراك ما هم، وأي شيء هم، وما حالهم، وكيف مآلهم؟! وهذا يلفت النظر ويثير الانتباه للتعرف على مصيرهم. لذا جاء التفصيل لبيان ما أبهم من حالهم، فقال تعالى:
فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ، وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ، وَظِلٍّ مَمْدُودٍ، وَماءٍ مَسْكُوبٍ، وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ، لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ أي هم يتمتعون في جنات ذات شجر مورق كثير الورق، مقطوع الشوك، وشجر موز منضد متراكب الثمر بعضه فوق بعض،
ويلاحظ أنه قدم الشجر المورق على الشجر المثمر، على طريقة الارتقاء من نعمة إلى نعمة فوقها، والفواكه أتم نعمة، وذكر الأشجار المورقة بأنفسها وذكر أشجار الفاكهة بثمارها، لأن حسن الأوراق عند كونها على الشجر، وأما الثمار فهي في أنفسها مطلوبة، سواء كانت عليها أو مقطوعة.
ووصف الفاكهة بالكثرة لا بالطيب واللذة، لأن طيبها معروف بالطبيعة، والمقصود بيان الكثرة والتنوع لإفادة التنعم الواسع، ووصفها بقوله:
لا مَقْطُوعَةٍ للدلالة على أنها ليست كفواكه الدنيا، فإنها تنقطع في أكثر الأوقات والأزمان، وفي كثير من المواضع والأماكن، كما أنه وصفها بكونها غير ممنوعة بثمن أو عوض أو غيره، خلافا لفاكهة الدنيا التي تمنع عن البعض، وقدم كونها غير مقطوعة على المنع، لأن القطع للموجود، والمنع بعد الوجود، لأنها توجد أولا، ثم تمنع.
ثم ذكر الله تعالى وسائل التمتع في المجالس، فقال:
وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ أي وأهل اليمين يجلسون وينامون على فرش مرفوعة على الأسرّة، ورفيعة القدر والثمن. والفرش جمع فراش: وهو ما يفترش للجلوس عليه والنوم. وقيل: الفرش مجاز عن النساء، والمعنى: ونساء مرتفعات الأقدار في حسنهن وكمالهن.
ثم ذكر تمتعهم بالنساء، فقال:
إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً، فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً، عُرُباً أَتْراباً، لِأَصْحابِ الْيَمِينِ
ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ، وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ أي إن أصحاب اليمين جماعة من الأولين، وهم مؤمنو الأمم الماضية، وجماعة من الآخرين، وهم المؤمنون بالنّبي ﷺ إلى قيام الساعة.
ولا تنافي بين قوله: وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ وقوله قبل: وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ لأن قوله: مِنَ الْآخِرِينَ هو من السابقين، وقوله: وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ هو في أصحاب اليمين «٢». وإنما لم يذكر هنا كون الجزاء مقابل العمل، كما فعل في حق السابقين، لأن عمل أصحاب اليمين أقل من عمل السابقين، فلم يحتج للتنويه به، وإشارة إلى أن الله غمر أهل اليمين بالفضل والرحمة والإحسان.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- أشاد الله تعالى بأهل اليمين وخصالهم ومنازلهم، ومدحهم مدحا عظيما.
روى الطبراني عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أهل الجنة إذا جامعوا نساءهم عدن أبكارا».
(٢) البحر المحيط: ٨/ ٢٠٧
وهم يستمتعون بأشجار الموز وأنواع الفواكه الكثيرة الطازجة التي لم تقطع عن الشجر، ولا تنقطع في وقت من الأوقات، كانقطاع فواكه الصيف في الشتاء، ولا تمنع ولا تحظر عن أحد كثمار الدنيا.
ويجلسون وينامون على فرش مرفوعة على السرر.
ولهم نساء حوريات رائعات الجمال خلقهن الله خلقا جديدا، وأبدعهن إبداعا فريدا لم يسبق، وجعلهن أبكارا عواشق لأزواجهن، متحببات إليهم، مستويات أو متماثلات متشابهات في السن والأخلاق، لا تباغض بينهن ولا تحاسد، وهن بنات ثلاث وثلاثين كأزواجهن.
٣- أصحاب اليمين في الجنة هم جماعة عظيمة من الأمم السابقة، وجماعة أخرى من الأمم اللاحقة. قال الواحدي: أصحاب الجنة نصفان: نصف من الأمم الماضية، ونصف من هذه الأمة.
[سورة الواقعة (٥٦) : الآيات ٤١ الى ٥٦]
وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ (٤١) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (٤٢) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (٤٣) لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (٤٤) إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ (٤٥)
وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (٤٦) وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٤٧) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (٤٨) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (٤٩) لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (٥٠)
ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (٥١) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (٥٢) فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٥٣) فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (٥٤) فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (٥٥)
هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (٥٦)
الإعراب:
لَمَبْعُوثُونَ أتى باللام المؤكدة مع أنها لا تذكر في النفي، لأن الصيغة ليست تصريحا بالنفي.
فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ شُرْبَ بضم الشين: اسم، وهو منصوب على المصدر، وتقديره: فشاربون شربا مثل شرب الهيم، فحذف المصدر وصلته، وأقيم ما أضيفت إليه الصفة مقام المصدر. وقرئ بالفتح، فهو مصدر. والْهِيمِ الإبل التي لا تروى من الماء، لما بها من داء وهو الهيام، وهو جمع أهيم وهيماء. وكان الأصل فيه أن يجمع على فعل بضم الفاء، إلا أنها كسرت لمكان الياء، كما تقدم في (عين) جمع (عيناء).
البلاغة:
فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ، فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ توافق الفواصل في الحرف الأخير، لزيادة جرس الكلام وجماله.
هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ التفات من الخطاب إلى الغيبة، تحقيرا لشأنهم، بعد قوله تعالى:
ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ فالأصل أن يقول: هذا نزلكم.
المفردات اللغوية:
سَمُومٍ ريح شديدة الحرارة تنفذ في المسام. وَحَمِيمٍ ماء شديد الحرارة. يَحْمُومٍ دخان أسود شديد السواد. لا بارِدٍ لا هو بارد كغيره من الظلال. وَلا كَرِيمٍ ولا هو نافع يدفع أذى الحر لمن يأوي إليه. قَبْلَ ذلِكَ في الدنيا. مُتْرَفِينَ منعمين منهمكين في الشهوات. يُصِرُّونَ يقيمون. الْحِنْثِ الْعَظِيمِ الذنب العظيم وهو الشرك والوثنية.
.. أَإِذا مِتْنا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ كررت الهمزة للدلالة على إنكار البعث مطلقا.
أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ الهمزة للاستفهام، والاستفهام هنا وما قبله للاستبعاد، وفيه دلالة على أن ذلك أشد إنكارا في حقهم لتقادم زمانهم، ويقرأ بسكون الواو (أو) عطفا بأو، والمعطوف عليه محل إِنَّ واسمها لَمَجْمُوعُونَ وقرئ: لمجمعون. مِيقاتِ وقت، أي ما وقت به الشيء.
يَوْمٍ مَعْلُومٍ يوم القيامة، وسمي بذلك، لأنه وقتت به الدنيا.
ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ بالبعث، والخطاب لأهل مكة وأمثالهم. لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ مِنْ الأولى للابتداء، والثانية للبيان، والزقوم: شجر في غاية المرارة ينبت في أصل الجحيم. فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ مالئون من الشجر البطون لشدة الجوع. فَشارِبُونَ عَلَيْهِ على الزقوم المأكول، لغلبة العطش، وتأنيث ضمير مِنْهَا وتذكيره في عَلَيْهِ الأول لمراعاة المعنى، والثاني لمراعاة اللفظ. الْهِيمِ الإبل العطاش، جمع أهيم وهيمان للذكر، وهيمى للأنثى، كعطشان وعطشى، وهي المصابة بداء الهيام: وهو داء يشبه الاستسقاء يصيب الإبل، فتشرب حتى تموت أو تمرض. نُزُلُهُمْ النزل: ما يعد للضيف أول نزوله تكرمة له. يَوْمَ الدِّينِ يوم الجزاء والقيامة.
المناسبة:
بعد بيان أحوال فريقين من الأصناف الثلاثة يوم القيامة، وهما السابقون وأصحاب اليمين، بيّن الله تعالى عطفا عليهم حال أصحاب الشمال وما يلقونه في نار جهنم من أنواع العذاب والنكال، مع بيان سبب ذلك، وهو انهماكهم في الشهوات في الدنيا، وشركهم، وإنكارهم يوم البعث.
وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ أي وأصحاب الشمال أي شيء هم فيه، وأي وصف لهم حال تعذيبهم في الآخرة؟! وهذا الحال والوصف ما قاله تعالى:
فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ، وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ، لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ أي هم في ريح حارة من حر النار، وماء شديد الحرارة، وظل من دخان جهنم شديد السواد، ليس باردا كغيره من الظلال التي تكون عادة باردة، ولا حسن المنظر ولا نافعا. وكل ما لا خير فيه فهو ليس بكريم. والمشهور أن السموم: ريح حارة تهب فتمرض أو تقتل غالبا، قال الرازي: والأولى أن يقال: هي هواء متعفن، يتحرك من جانب إلى جانب، فإذا استنشق الإنسان منه يفسد قلبه بسبب العفونة ويقتله.
وذكر السموم والحميم، وترك ذكر النار وأهوالها، إشارة بالأدنى إلى الأعلى، فإذا كان هواؤهم الذي يستنشقونه سموما، وماؤهم الذي يستغيثون به حميما، مع أن الهواء والماء أبرد الأشياء في الدنيا، فما ظنك بنارهم التي هي في الدنيا أحرّ شيء! وكأنه تعالى يقول: إذا كان أبرد الأشياء لديهم أحرها، فكيف حالهم مع أحرّها؟! ونظير الآية قوله تعالى: انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ، انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ، لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ، إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ، كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ [المرسلات ٧٧/ ٢٩- ٣٣].
وسبب عذابهم ما قال تعالى:
إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ، وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ، وَكانُوا
«١» لَمَبْعُوثُونَ. أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ؟ أي إنهم كانوا في الدار الدنيا منعمين بما لا يحل لهم، منهمكين في الشهوات، مقبلين على لذات أنفسهم، لا يأبهون بما جاءت به الرسل، وكانوا في إصرار دائم على الذنب العظيم لا يتوبون عنه، وهو الشرك، أو الكفر بالله، واتخاذ الأوثان والأنداد أربابا من دون الله، وكانوا ينكرون ويستبعدون البعث بعد الموت، قائلين: كيف نبعث إذا متنا وصرنا أجسادا بالية وعظاما نخرة؟ بل كيف يبعث آباؤنا وأجدادنا الأولون لتقادم الزمن الطويل عليهم وتقدم موتهم؟
فهم أشد إنكارا واستبعادا لبعث أصولهم الأوائل. ويلاحظ أنهم حكوا كلامهم على طريقة الاستفهام بمعنى الإنكار.
ويلاحظ أنه تعالى عند إيصال الثواب لا يذكر أعمال العباد الصالحة، لذا لم يذكر سبب كون أصحاب اليمين في النعيم، وعند إيقاع العقاب يذكر أعمال المسيئين، لأن الثواب فضل، والعقاب عدل، والفضل سواء ذكر سببه أم لم يذكر لا يتوهم في المتفضل به نقص وظلم، وأما العدل فإن لم يعلم سبب العقاب، يظن أن هناك ظلما، فقال تعالى: هم فيها بسبب ترفعهم.
فأجابهم الله تعالى على أسباب إنكارهم البعث وهي الحياة بعد الموت، وتحول الأجساد إلى تراب، وطول العهد على موت الآباء، فقال:
قُلْ: إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ أي قل لهم أيها الرسول: إن الأولين من الأمم الذين تستبعدون بعثهم، والآخرين منهم الذين أنتم ومن سيأتي في المستقبل من جملتهم، سيجمعون بعد البعث إلى ساحات القيامة في يوم محدود، معلوم الأجل، لا يتأخر ولا يتقدم، ولا يزيد ولا ينقص، كما قال تعالى: فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ، فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ
ثم ذكر الله تعالى بعض مظاهر العذاب في المأكل والمشرب، فقال: ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ، لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ، فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ، فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ، فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ أي إنكم معشر الضالين عن الحق، الذين أنكرتم وجود الله ووحدانيته، وكذبتم رسله، وأنكرتم البعث والجزاء يوم القيامة: إنكم ستأكلون في الآخرة من شجر الزقوم الذي هو شجر كريه المنظر، كريه الطعم، حتى تملؤوا بطونكم، لشدة الجوع، ثم إنكم سوف تشربون على الزقوم عقب أكله من الماء الحار، لشدة العطش، ويكون شربكم منه شرب الإبل العطاش الظماء، التي لا تروى لداء يصيبها، أي لا يكون شربكم من الحميم شربا معتادا، بل مثل شرب الهيم التي تعطش ولا تروى أبدا بشرب الماء حتى تموت، قال ابن عباس وجماعة من التابعين: الْهِيمِ الإبل العطاش الظماء. وقال السدي: الهيم داء يأخذ الإبل فلا تروى أبدا حتى تموت، فكذلك أهل جهنم، لا يروون من الحميم أبدا. وعن خالد بن معدان: أنه كان يكره أن يشرب شرب الهيم غبة واحدة، من غير أن يتنفس ثلاثا.
ثم أبان الله تعالى أن هذا عذابهم، فقال:
هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ أي هذا الذي وصفنا من المأكول والمشروب، من شجر الزقوم، وشراب الحميم هو على سبيل السخرية والاستهزاء ضيافتهم عند ربهم يوم حسابهم، وهو الذي يعد لهم ويأكلونه يوم القيامة. وفي رأي الرازي: أن هذا ليس كل العذاب، بل هذا أول ما يلقونه وهو بعض منه.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- إن أصحاب الشمال هم الذين يأخذون كتبهم بشمائلهم، عظّم الله تعالى بلاءهم وعذابهم، وأثار فينا العجب من حالهم وشأنهم.
٢- إنهم يعذبون في ريح حارة تدخل مسام البدن، ويشربون من ماء حار قد انتهى حرّه، لشدة العطش، فإذا أحرقت النار أكبادهم وأجسادهم فزعوا إلى الحميم، فيجدونه حميما حارا في نهاية الحرارة، وإذا فزعوا من السّموم إلى الظل، كما يفزع أهل الدنيا، فيجدونه ظلا من يحموم، أي من دخان جهنم أسود شديد السواد.
فهو ليس باردا، بل حار، لأنه من دخان شفير جهنم، ولا حسن المنظر ولا عذب، ولا نافع ولا خير فيه، فهو ليس بكريم.
٣- إن أعمالهم الموجبة لهذا العقاب أو سبب استحقاقهم هذه العقوبة: أنهم كانوا في الدنيا مترفين منعّمين بالحرام، متكبرين عن التوحيد والطاعة والإخلاص، وكانوا يقيمون على الذنب الكبير ويلازمونه ولا يتوبون منه وهو الشرك، وقيل: اليمين الغموس، لأنهم كانوا يحلفون أنهم لا يبعثون، وكانوا يقسمون ألا بعث وأن الأصنام أنداد لله، فذلك حنثهم، وكانوا يقولون استبعادا منهم لأمر البعث، وتكذيبا له، لا حياة بعد الموت، ولا يمكن إعادة الحياة للأجساد التي بليت والعظام التي نخرت، وبعث آبائنا أبعد، فإنا إذا كنا ترابا بعد موتنا، والآباء حالهم فوق حال العظام الرفات، فكيف يمكن البعث؟!
والمراد: أنه يسلط عليهم الجوع حتى يضطروا إلى أكل الزقوم، ثم يسلط عليهم العطش إلى أن يضطروا إلى شرب الحميم كالإبل الهيم.
٥- هذا رزقهم الذي يعدّ لهم يوم الجزاء يَوْمَ الدِّينِ في جهنم، كالنزل الذي يعدّ للأضياف تكرمة لهم، وفي هذا الوصف تهكم، كما في قوله تعالى:
فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ [التوبة ٩/ ٣٤].
أدلة الألوهية وإثبات القدرة على البعث والجزاء
[سورة الواقعة (٥٦) : الآيات ٥٧ الى ٧٤]
نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ (٥٧) أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (٥٨) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (٥٩) نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٦٠) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ (٦١)
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ (٦٢) أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (٦٣) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (٦٤) لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (٦٥) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (٦٦)
بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (٦٧) أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (٦٨) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (٦٩) لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ (٧٠) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (٧١)
أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (٧٢) نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ (٧٣) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٧٤)
أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ، أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ أَأَنْتُمْ | نَحْنُ الْخالِقُونَ في موضع المفعول الثاني على أن الرؤية علمية، ومستأنفة على أنها بصرية. |
المفعول الثاني.
فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ أصله: ظللتم، يقرأ بفتح الظاء وكسرها، فمن قرأ بالفتح حذف اللام الأولى بحركتها تخفيفا، ومن قرأ بالكسر نقل حركة اللام الأولى إلى الظاء، وحذفها، وهما لغتان.
المفردات اللغوية:
فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ بالخلق متيقنين، تقيمون الدليل على التصديق بالأعمال الدالة عليه، أو فلولا تصدقون وتقرون بالبعث والإعادة، كما أقررتم بالنشأة الأولى، وهي خلقهم، فإن من قدر على الإبداء قادر على الإعادة. ما تُمْنُونَ ما تقذفونه أو تصبونه من المني في الأرحام. أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ تجعلون المني بشرا سويا تام الخلق. قَدَّرْنا قضينا وأقّتنا موت كل واحد بوقت معين. وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ لا يسبقنا أحد، فيهرب من الموت، أو لا يغلبنا أحد، فلسنا بعاجزين.
عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ
نخلق أشباهكم وقوله: عَلى
إما متعلق بقوله: نَحْنُ قَدَّرْنا أي نحن قادرون، قدرنا بينكم الموت على أن نبدل أمثالكم، أي بموت طائفة، ونبدلها بطائفة قرنا بعد قرن، وهذا قول الطبري. وإما متعلق بمسبوقين، أي لا نسبق على أن نبدل أمثالكم جمع مثل، وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ
من الصفات، أي نحن قادرون على أن نعدمكم أو نميتكم، وننشئ أمثالكم، وعلى تغيير أوصافكم، مما لا يحيط به فكركم «١».
وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ
نخلقكم خلقا آخر لا تعلمونه وأطوارا لا تعهدونها، أو نخلق صفات لا تعلمونها.
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى، فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ أي علمتم الخلقة الأولى، فهلا تتذكرون أن من قدر عليها، قدر على النشأة الأخرى، لسبق المثال، وفيه دليل على صحة القياس.
تَحْرُثُونَ تثيرون الأرض وتلقون البذور فيها. تَزْرَعُونَهُ تنبتونه، من الزرع:
الإنبات. الزَّارِعُونَ المنبتون. حُطاماً هشيما هالكا متكسرا. فَظَلْتُمْ أصله ظللتم،
مَحْرُومُونَ ممنوعون رزقنا، أو محدودون غير مجدودين (غير محظوظين).
الْمُزْنِ السحاب، جمع مزنة. الْمُنْزِلُونَ بقدرتنا. أُجاجاً ملحا لا يمكن شربه.
فَلَوْلا تَشْكُرُونَ فهلا تشكرون أمثال هذه النعم الضرورية. تُورُونَ تقدحون، أو تخرجونها نارا. أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها الشجرة التي منها الزناد، كالمرخ والعفار والكلخ التي تقدح نارا بالتماس. جَعَلْناها جعلنا نار الزناد. تَذْكِرَةً أنموذجا لنار جهنم، أو تبصرة في أمر البعث، أو تذكيرا. وَمَتاعاً منفعة. لِلْمُقْوِينَ للمسافرين، مأخوذ من أقوى القوم:
الذين ينزلون القواء، أي القفر والمفاوز التي لا نبات فيها ولا ماء. فَسَبِّحْ نزّه. بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ أي نزّه الله تعالى، وقل: سبحان الله العظيم، وأحدث التسبيح بذكر اسمه، أو بذكره، فإن إطلاق اسم الشيء: ذكره، والْعَظِيمِ: صفة للاسم أو الرب.
المناسبة:
بعد بيان حال الأصناف الثلاثة من المخلوقات يوم القيامة، ومآل كل صنف، ردّ الله تعالى على المكذبين من أهل الزيغ والإلحاد، فأقام الأدلة على الألوهية بالخلق والرزق والإمداد بالنعم الدائمة، وقرر المعاد، وأثبت البعث والجزاء.
التفسير والبيان:
نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ أي نحن ابتدأنا خلقكم أول مرة، بعد أن لم تكونوا شيئا مذكورا، وأنتم تعلمون ذلك، فهلا تصدقون بالبعث، كما تقرّون بالخلق، فإن من قدر على البداءة قادر على الإعادة بطريق الأولى والأحرى؟
وهذا تقرير للمعاد وإثبات له بطريق القياس، ثم أقام أدلة أخرى على ذلك فقال:
أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ، أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ أي أخبروني عما تقذفون من المني أو النطف في أرحام النساء، أأنتم تقرونه في الأرحام وتخلقونه
وهذا دليل على كذب المكذبين بالبعث، وصدق الرسل في الحشر، لأن قوله: أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ إلزام بالإقرار بأن الخالق في الابتداء هو الله تعالى، ولما كان قادرا على الخلق أولا، كان قادرا على الخلق ثانيا.
ثم أورد الله تعالى دليلا آخر على إمكان البعث مقرر لما سبق، فقال:
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى، فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ أي قد علمتم أن الله أنشأكم بعد أن لم تكونوا شيئا مذكورا، فخلقكم على مراحل وأطوار من نطفة ثم من علقة، ثم من مضغة، ثم من هيكل عظمي، ثم كساكم باللحم، وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة فهلا تتذكرون قدرة الله سبحانه على النشأة الأخيرة، وتقيسونها على النشأة الأولى؟ فإن الذي قدر على الأولى قادر على الأخرى، وهي الإعادة بطريق الأولى والأحرى، كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ، ثُمَّ يُعِيدُهُ، وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم ٣٠/ ٢٧]، وقال سبحانه: أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ، وَلَمْ يَكُ شَيْئاً [مريم ١٩/ ٦٧]، وقال عزّ وجلّ: قُلْ: يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ
وهذا دليل الحشر وتقرير النشأة الثانية، بالتذكير بالنشأة الأولى، ليكون تذكيرا بعد تذكير.
ثم ذكر الله تعالى دليلا آخر على قدرته، مع الاستدلال على كمال عنايته ورحمته ببريته، فقال:
أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ، أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ أي أخبروني عما تحرثون أو تقلبون من أرضكم، فتطرحون فيه البذر، والحرث: شق الأرض وإلقاء البذر فيها، أأنتم تنبتونه وتجعلونه زرعا بحيث يكون نباتا كاملا يكون فيه السنبل والحب، بل نحن الذي ننبته في الأرض ونصيره زرعا تاما؟ كان حجر المنذري إذا قرأ: أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ وأمثالها يقول: بل أنت يا ربّ.
وهذا دليل الرزق الذي بالبقاء بعد ذكر دليل الخلق الذي به الابتداء، وفيه أمور ثلاثة: المأكول المذكور هنا أولا، لأنه هو الغذاء، ثم ذكر المشروب، لأن به الاستمراء، ثم النار التي بها الإصلاح.
لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً، فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ، إِنَّا لَمُغْرَمُونَ، بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ أي نحن أنبتناه بلطفنا ورحمتنا وأبقيناه لكم رحمة بكم، ولو نشاء لأيبسناه، وجعلناه متحطما متكسرا لا ينتفع به قبل استوائه واستحصاده، ولا يحصل منه حب ولا شيء آخر يطلب من الحرث، فصرتم تعجبون من سوء حاله وما نزل به، قائلين: إننا لخاسرون مغرمون، والمغرم: الذي ذهب ماله بغير عوض، أو إننا لهالكون هلاك أرزقنا، بل إننا حرمنا رزقنا بهلاك
ثم ذكر الله تعالى من دليل الرزق بعد المأكول وهو المشروب، فقال:
أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ، أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ، أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ؟ أي أخبروني أيها الناس عن الماء العذب الذي تشربونه لإطفاء العطش، أأنتم أنزلتموه من السحاب، أم نحن المنزلون بقدرتنا دون غيرنا، فكيف لا تقرّون بالتوحيد، وتصدقون بالبعث؟
لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً، فَلَوْلا تَشْكُرُونَ أي لا عمل لكم في إنزال الماء أصلا، فهو محض النعمة، ولو نريد لجعلناه ملحا لا يصلح لشرب ولا زرع، فهلا تشكرون نعمة الله الذي خلق لكم ماء عذبا زلالا، تشربون منه وتنتفعون به، كما قال تعالى: لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ، وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ، يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ، وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [النحل ١٦/ ١٠- ١١].
روى ابن أبي حاتم عن أبي جعفر عن النّبي ﷺ أنه كان إذا شرب الماء، قال: «الحمد لله الذي سقانا عذبا فراتا برحمته، ولم يجعله ملحا أجاجا بذنوبنا».
ثم ذكر النار أداة الإصلاح، فقال:
أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ، أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ أي أفرأيتم النار التي تستخرجونها بالقدح من الزناد، أأنتم أنشأتم شجرتها التي كانوا يقدحون منها النار، أم نحن المنشئون لها بقدرتنا دونكم؟ وكان للعرب شجرتان يقدحون بهما النار وهما المرخ والعفار، بأن يؤخذ منهما غصنان أخضران، ويحك أحدهما بالآخر، فيتناثر من بينهما شرر النار.
أخرج أحمد والبخاري ومسلم عن أبي هريرة عن النّبي ﷺ قال: «نار بني آدم التي يوقدون جزء من سبعين جزءا من نار جهنم» فقالوا:
يا رسول الله، إن كانت لكافية فقال: «إنها قد فضلت عليها بتسعة وستين جزءا».
وخصص المقوون، أي المسافرون بالذكر، لشدة حاجتهم إلى النار، وإن كان ذلك عاما في حق الناس كلهم، لما
رواه الإمام أحمد وأبو داود عن رجل من المهاجرين من قرن أن رسول الله ﷺ قال: «المسلمون شركاء في ثلاثة: النار، والكلأ، والماء».
فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ أي نزّه ربّك العظيم الذي بقدرته خلق هذه الأشياء المختلفة المتضادة، فخلق الماء الزلال العذب البارد، ولو شاء لجعله ملحا أجاجا كالبحار والمحيطات، وخلق النار المحرقة، وجعل ذلك مصلحة للعباد ومنفعة لهم في معاشهم، وزجرا لهم في المعاد. وفائدة هذا أنه تعالى لما ذكر حال المكذبين بالحشر والوحدانية، وذكر الدليل عليهما بالخلق والرزق، ولم يفدهم الإيمان، أمر الله نبيّه بأن يعنى بوظيفته وهي إكمال نفسه، بعلمه بربّه، وعمله لربّه.
فقه الحياة أو الأحكام:
أثبت الله تعالى قدرته على البعث والحشر والنشر بدليلين هنا: دليل الخلق، ودليل الرزق.
أما دليل ابتداء الخلق: فيشمل خلق الذوات وخلق الصفات، أما خلق الذوات فهو النشأة الأولى بالخلق من النطفة، ثم من العلقة، ثم من المضغة، دون أن نكون شيئا، من طريق التزاوج بين الذكر والأنثى، والتقاء نطفتي الرجل
والله سبحانه هو الذي يقدر على الإماتة، والذي يقدر على الإماتة يقدر على الخلق، وإذا قدر على الخلق قدر على البعث.
والله عزّ وجلّ قادر على خلق الأجيال، جيلا بعد جيل، وتجديد صفات المخلوقات وأحوالهم، وصورهم وهيئاتهم، والقادر على ذلك قادر على الإعادة.
جاء في الخبر: «عجبا كل العجب للمكذّب بالنشأة الأخرى، وهو يرى النشأة الأولى، وعجبا للمصدّق بالنشأة الأخرى، وهو لا يسعى لدار القرار» «١».
وأما دليل الرزق فيشمل المأكول والمشروب وما به إصلاح المأكول. فذكر تعالى المأكول أولا لأنه الغذاء، بطريق الاستفهام المراد به الطلب، وهو أخبروني عما تحرثونه من أرضكم، فتطرحون فيها البذر، أأنتم تنبتونه وتحصّلونه زرعا، فيكون فيه السنبل والحبّ، أم نحن نفعل ذلك؟ وإنما منكم البذر وشقّ الأرض، فإذا أقررتم بأن إخراج السّنبل من الحبّ ليس إليكم، فكيف تنكرون إخراج الأموات من الأرض وإعادتهم؟ وأضاف الحرث إلى العباد، والزرع إليه تعالى، لأن الحرث فعلهم وباختيارهم، والزرع من فعل الله تعالى، وإنباته باختياره، لا باختيارهم.
أخرج البزار وابن جرير وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي في شعب الإيمان- وضعفه- وابن حبان عن أبي هريرة عن النّبي ﷺ أنه قال: «لا يقولن أحدكم: زرعت، وليقل: حرثت، فإن الزارع هو الله»
قال أبو هريرة: ألم
والمستحب لكل من يلقي البذر في الأرض أن يقرأ بعد الاستعاذة:
أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ الآية، ثم يقول: بل الله الزارع والمنبت والمبلغ، اللهم صل على محمد، وارزقنا ثمره، وجنّبنا ضرره، واجعلنا لأنعمك من الشاكرين، ولآلائك من الذاكرين، وبارك لنا فيه يا ربّ العالمين. ويقال: إن هذا القول أمان لذلك الزرع من جميع الآفات: الدود والجراد وغير ذلك.
والله سبحانه قادر أن يجعل الزرع متكسرا هشيما هالكا لا ينتفع به في مطعم ولا زرع، وفي هذا تنبيه على أمرين: أحدهما- ما أولاهم به من النّعم في زرعهم، إذ لم يجعله حطاما ليشكروه، الثاني- ليعتبروا بذلك في أنفسهم، فكما أنه يجعل الزرع حطاما إذا شاء، كذلك يهلكهم إذا شاء ليتعظوا وينزجروا.
وإذا جعله الله حطاما لم يجد الإنسان سبيلا آخر للتعويض، فيعجب من ذهاب الزرع، ويندم مما حلّ به، ويقول: إنني لخاسر مغرم، أو لمعذب هالك، محروم مما طلبت من الريع والربح.
ثم ذكر الله تعالى المشروب الذي لا بدّ منه للحياة، والتابع للمطعوم، فهو نعمة عظمي، والله هو الذي أنزله من السحاب، لإحياء النفوس، وإرواء العطش، وإذا عرف أن الله أنزله، فلم لا يشكره العباد بإخلاص العبادة له، ولم ينكرون قدرته على الإعادة؟
والله قادر على أن يجعله ملحا شديد الملوحة، لا ينتفع به في شرب ولا زرع ولا غيرهما، فهلا أيها البشر تشكرون الله الذي صنع ذلك لكم! فهذا دليل آخر على قدرة الله، ونعمة أخرى.
ونار الدنيا أيضا موعظة للنار الكبرى، وسبب منفعة وتمتع للمسافرين وكل الناس، فلا يستغني عنها أحد في مرافق الحياة والمعايش، فيها الخبز والطبخ والإنارة والطاقة المولدة لمحركات الآلات الحديثة في البر والجو والبحر، وهذا تذكير بالإنعام الإلهي على الناس.
وما عليك أيها الإنسان بعد إيراد هذه الأدلة والتذكير بهذه النعم إلا أن تنزه الله عما أضافه إليه المشركون من الأنداد، والعجز عن البعث.
ويلاحظ حسن الترتيب في بيان هذه الأدلة، حيث بدأ تعالى بذكر خلق الإنسان، لأن النعمة فيه سابقة على جميع النعم، ثم أعقبه بذكر ما فيه قوام الناس وقيام معاشهم وهو الحبّ، ثم أتبعه الماء الذي به يتم العجين، ثم ختم بالنار التي بها يحصل الخبز. وذكر عقيب كل واحد ما يمكن أن يأتي عليه ويفسده، فقال في الأولى: نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وفي الثانية: لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً وفي الثالثة: لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً ولم يقل في الرابعة وهي النار ما يفسدها، بل قال: نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً تتعظون بها، ولا تنسون نار جهنم، كما
أخرج الترمذي عن أبي سعيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ناركم هذه جزء من سبعين جزءا من نار جهنم، لكل جزء منها حرها».
[سورة الواقعة (٥٦) : الآيات ٧٥ الى ٩٦]
فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (٧٥) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (٧٦) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (٧٧) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (٧٨) لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (٧٩)
تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٨٠) أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (٨١) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (٨٢) فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (٨٣) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (٨٤)
وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ (٨٥) فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (٨٦) تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٨٧) فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٨٨) فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (٨٩)
وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (٩٠) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (٩١) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (٩٢) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (٩٣) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (٩٤)
إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (٩٥) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٩٦)
الإعراب:
فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ.. إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ في الجمل تقديم وتأخير من وجهين: أحدهما- أنه فصل بين القسم والمقسم عليه بقوله: لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ فقدمه على المقسم عليه وتقديره:
«أقسم بمواقع النجوم إنه لقرآن كريم..» إلخ. الثاني- أنه فصل بين الصفة والموصوف بقوله لَوْ تَعْلَمُونَ وتقديره: وإنه لقسم عظيم لو تعلمون، فقدمه على الصفة.
لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ لا نافية غير ناهية، ويَمَسُّهُ فعل مضارع مرفوع، ويكون المراد بقوله: الْمُطَهَّرُونَ الملائكة.
فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ تقديره: فلولا ترجعونها إذا بلغت الحلقوم، ولولا: بمعنى «هلا». فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ، فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ أما: حرف تفصيل وشرط، بمنزلة
وهكذا الكلام على قوله تعالى: وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ، فَسَلامٌ وقوله تعالى:
وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ، فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ.
البلاغة:
وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ- لَوْ تَعْلَمُونَ- عَظِيمٌ جملة اعتراضية بين القسم والمقسم عليه لتأكيد القسم، وقوله: لَوْ تَعْلَمُونَ جملة اعتراضية بين الصفة والموصوف لبيان أهمية القسم.
المفردات اللغوية:
فَلا أُقْسِمُ هذا قسم في كلام العرب، و «لا» مزيدة للتأكيد، كما في قوله تعالى:
لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ [الحديد ٥٧/ ٢٩]. واستعمال هذه الصيغة للدلالة على أن الأمر أوضح من أن يحتاج إلى قسم، أو المراد: فأقسم بِمَواقِعِ النُّجُومِ مساقط الكواكب ومغاربها، وتخصيص المغارب، للدلالة على وجود مؤثر، لا يزول تأثيره. وَإِنَّهُ أي القسم بها. لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ أي لو كنتم من ذوي العلم لعلمتم عظم هذا القسم، لما في المقسم به من الدلالة على عظيم القدرة، وكمال الحكمة، وفرط الرحمة، ومن مقتضيات رحمته ألا يترك عباده سدى. إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ إن المتلو عليكم لقرآن كثير النفع، لاشتماله على أصول العلوم المهمة في إصلاح المعاش والمعاد.
فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ في مكتوب مصون عن التغيير والتبديل، وهو المصحف، أو اللوح المحفوظ.
لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ لا النافية، والْمُطَهَّرُونَ الملائكة، أي لا يقربه ولا يطلع عليه إلا المنزهون من الحظوظ النفسية، وهم الملائكة. أو هو خبر بمعنى النهي، أي لا يمس القرآن إلا المطهّرون من الأحداث، فيكون نفيا بمعنى نهي. وقرئ: «المتطهرون». و «المطّهرون» بالإدغام، و «المطهرون» من أطهره، و «المطّهرون»، أي أنفسهم أو غيرهم بالاستغفار لهم والإلهام. تَنْزِيلٌ صفة رابعة للقرآن، أي منزّل من رب العالمين، أو وصف بالمصدر، لأنه نزّل مقسطا منجما من بين سائر كتب الله تعالى، فكأنه في نفسه تنزيل، لذا سمي به، ويقال: جاء في التنزيل كذا، ونطق به التنزيل، أو هو تنزيل، على حذف المبتدأ، وقرئ: تنزيلا أي نزل تنزيلا.
أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ القرآن. مُدْهِنُونَ متهاونون، كمن يدهن في الأمر، أي يلين جانبه، ولا يتصلب فيه، تهاونا به، ومنه يقال: المداهنة: الملاينة والمداراة. وهذا استعمال للفظ
أنواء.
فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ أي فلا إذا وصلت الروح وقت النزع الحلقوم، أي أعلى مجرى الطعام. وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ وأنتم يا من يكون حول المحتضر تنظرون إليه، والواو للحال.
وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ أي ونحن أعلم بحال المحتضر منكم، ولكن لا تعلمون ذلك، أو لا تدركون كنه ما يجري عليه، عبر عن العلم بالقرب الذي هو أقوى أسباب الاطلاع. فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ أي فهلا إن كنتم غير مجزيين يوم القيامة، أي غير مبعوثين بزعمكم. تَرْجِعُونَها تردون الروح إلى الجسد، بعد بلوغ الحلقوم. إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فيما زعمتم. والمعنى: هلا ترجعون الروح إلى مقرّها إن نفيتم البعث، صادقين في نفيه، بأن تزيلوا الموت الذي يعقبه البعث.
ولولا الثانية تأكيد للأولى. وإذا ظرف لفعل: تَرْجِعُونَها.
فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ أي إن كان المتوفى من السابقين. فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ فله استراحة، ورزق حسن طيب، وجنة ذات تنعم. وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ، فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ أي وإن كان من أهل اليمين، فسلام من العذاب وتحية لك يا صاحب اليمين من إخوانك أصحاب اليمين، من جهة أنه منهم.
وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ أي من أصحاب الشمال الذين كذبوا بالله ورسله وضلوا عن الهدى، وإنما وصفهم بأفعالهم زجرا عنها، وإشعار بسبب وعيدهم. فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ أي فالنزل المعدّ لك أول قدومك: ماء شديد الحرارة، والاصطلاء بنار الجحيم وإذاقة حرها. إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ أي إن هذا المذكور في السورة لهو حق الخبر اليقين، أي الحق الثابت الذي لا شك فيه. فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ فنزهه بذكر اسمه عما لا يليق بعظمة شأنه.
فَلا أُقْسِمُ..:
أخرج مسلم عن ابن عباس قال: مطر الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أصبح من الناس شاكر، ومنهم كافر، قالوا: هذه رحمة وضعها الله، وقال بعضهم: لقد صدق نوء كذا، فنزلت هذه الآيات: فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ حتى بلغ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ.
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي حزرة قال: نزلت هذه الآيات في رجل من الأنصار في غزوة تبوك نزلوا الحجر «١»، فأمرهم رسول الله ﷺ ألا يحملوا من مائها شيئا، ثم ارتحل ونزل منزلا آخر، وليس معهم ماء، فشكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقام، فصلى ركعتين، ثم دعا، فأرسل الله سحابة، فأمطرت عليهم حتى استقوا منها، فقال رجل من الأنصار لآخر من قومه يتهم بالنفاق: ويحك أما ترى ما دعا النبي صلى الله عليه وسلم، فأمطر الله علينا السماء، فقال: إنما مطرنا بنوء كذا وكذا.
وفي رواية أخرى لمسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألم تروا إلى ما قال ربكم؟ قال: ما أنعمت على عبادي من نعمة إلا أصبح فريق بها كافرين، يقول: الكوكب، وبالكوكب».
المناسبة:
بعد بيان أدلة إثبات الألوهية والبعث والجزاء، أقام الله تعالى الأدلة على النبوة وصدق القرآن العظيم، وأقسم بمواقع النجوم تعظيما لشأن القرآن أنه تنزيل من رب العالمين، ثم وبخ المشركين على اعتقادهم الباطل بجحود الله وتكذيب
التفسير والبيان:
فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ أي أقسم بمساقط النجوم وهي مغاربها، ولله في رأي الجمهور أن يقسم بما شاء من خلقه، وهو دليل على عظمته. وإنما خص القسم بمساقط النجوم، لما في غروبها من زوال أثرها، والدلالة على وجود مؤثر دائم لا يزول تأثيره، لذا استدل إبراهيم عليه السلام بالأفول على وجود الإله، وكذلك لا ريب أن لأواخر الليل خواص شريفة.
وجاء القسم على هذا النحو: فَلا أُقْسِمُ بالنفي مريدا: أُقْسِمُ، لأن العرب تزيد (لا) قبل فعل أُقْسِمُ كأنه ينفي ما سوى المقسم عليه، فيفيد التأكيد، والمراد أن الأمر أوضح من أن يحتاج إلى قسم ما، فضلا عن هذا القسم العظيم. وورد القسم على مثال ذلك كثيرا في القرآن الكريم، مثل: فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ، وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ [الانشقاق ٨٤/ ١٦] وفَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ، الْجَوارِ الْكُنَّسِ [التكوير ٨١/ ١٥] ولا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ [القيامة ٧٥/ ١] وفَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ [الحاقة ٦٩/ ٣٨] وفَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ [المعارج ٧٠/ ٤٠] ولا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ [البلد ٩٠/ ١] ووَ لا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ [القيامة ٧٥/ ٢].
ويرى بعض المفسرين أن (لا) ليست زائدة لا معنى لها، بل يؤتى بها في أول القسم إذا كان مقسما به على منفي، كقول عائشة رضي الله عنها: «لا والله ما مسّت يد رسول الله ﷺ يد امرأة قط».
فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ، إِنَّهُ لَحَقٌّ [الذاريات ٥١/ ٢٣] وتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ [الأنبياء ٢١/ ٥٧]. وإما قسم من الله بأشياء من خلقه، دلالة على عظمة مبدعها، كالصافات، والطور، والذاريات، والنجم ومواقع النجوم، والشمس والقمر، والليل والنهار، ويوم القيامة، والفجر والبلد والتين والزيتون.
وقد يكون القسم بالقرآن: يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ [يس ٣٦/ ١- ٢].
ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ [ص ٨٨/ ١]. ق، وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ [ق ٤٥/ ١].
حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ [الزخرف ٤٣/ ١- ٢] [والدخان ٩٠/ ١- ٢] في الزخرف والدخان.
وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ- لَوْ تَعْلَمُونَ- عَظِيمٌ أي وإن هذا القسم عظيم لو تعلمون ذلك. والضمير يرجع إلى القسم المفهوم من الكلام المتقدم.
إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ هذا هو المقسم عليه، أي إن هذا القرآن الذي نزل على محمد لكتاب عظيم، كثير المنافع والفوائد، لما فيه من الهدى والعلم والحكمة والإرشاد إلى سعادة الدنيا والآخرة. وهذه الصفة الأولى للقرآن.
والمناسبة واضحة بين المقسم به وهو النجوم، وبين المقسم عليه وهو القرآن، لأن النجوم تضيء الظلمات، وآيات القرآن تنير الطريق، وتبدد ظلمات الجهل والضلالة، والأولى ظلمات حسية، والثانية ظلمات معنوية.
فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ، لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ، تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ هذه ثلاث صفات أخرى للقرآن العظيم: وهي أنه في اللوح المحفوظ مصون مستور لا يطلع عليه إلا الملائكة المقربون، وهم الكروبيون، ولا يمسه في السماء إلا الملائكة الأطهار، ولا يمسه في الدنيا إلا المطهرون من الحدثين: الأصغر
ويدل فحوى الآية على أنه لا يمس القرآن كافر ولا جنب ولا محدث،
روى مالك في موطئه وابن حبان في صحيحة: أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله ﷺ لعمرو بن حزم ألا يمس القرآن إلا طاهر.
وروى أبو داود في المراسيل وأصحاب السنن من حديث الزهري قال: قرأت في صحيفة عبد أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم: أن رسول الله ﷺ قال: «ولا يمس القرآن إلا طاهر»
وأسنده الدارقطني عن عمرو بن حزم وعبد الله بن عمر وعثمان بن أبي العاص، لكن في إسناد كل منهما نظر.
وعدم مس المحدث للمصحف أمر يكاد يجمع عليه العلماء، وأجاز بعض الفقهاء وهم المالكية مس المحدث له لضرورة التعلم والتعليم. لكن رجح العلماء أن المراد من الكتاب: الكتاب الذي بأيدي الملائكة، على نحو ما هو مذكور في قوله تعالى: فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ، مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ، بِأَيْدِي سَفَرَةٍ، كِرامٍ بَرَرَةٍ [عبس ٨٠/ ١٣- ١٦] لأن الآية سيقت تنزيها للقرآن عن أن تنزل به الشياطين، ولأن السورة مكية، وأغلب عناية القرآن المكي في أصول الدين من تقرير التوحيد والمعاد والنبوة، وأما الأحكام الفرعية ففي القرآن المدني، ولأن قوله مَكْنُونٍ معناه مصون مستور عن الأعين لا تناله أيدي البشر، ولو أريد به المصحف الذي بأيدينا لم يكن وصفه بكونه مكنونا فائدة كبيرة.
ثم وبخ الله تعالى المتهاونين بشأن القرآن، فقال:
أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ أي أبهذا القرآن الموصوف بالأوصاف الأربعة السابقة متهاونون، تمالئون الكفار على الكفر، وتركنوا إليهم؟
وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ أي وتجعلون شكر رزقكم من السماء وهو
فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ، وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ، وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ، وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ أي فهلا إذا وصلت الروح أو النفس الحلق حين الاحتضار، وأنتم ترون المحتضر قد قارب فراق الحياة، تنظرون إليه وما يكابده من سكرات الموت، ونحن بالعلم والقدرة والرؤية وبملائكتنا أقرب إليه منكم، ولكن لا تبصرون ملائكة الموت الذين يتولون قبضه. وجواب فَلَوْلا سيأتي بعد وهو تَرْجِعُونَها.
ثم أكّد الله تعالى الحث والتحضيض، فقال:
فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ، تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي فهلا إن كنتم غير محاسبين ولا مجزيين ولا مبعوثين، تمنعون موته، وترجعون الروح التي قد بلغت الحلقوم إلى مقرها الذي كانت فيه، إن كنتم صادقين في زعمكم أنكم لن تبعثوا وأنكم غير مربوبين ولا مملوكين للخالق؟
والمعنى المراد: أنه إذا لم يكن لكم خالق، وأنتم الخالقون، فلم لا ترجعون الأرواح إلى أجسادها حين بلوغها الحلقوم؟! وإن صدقتم ألا بعث، فردوا روح المحتضر إلى جسده، ليرتفع عنه الموت، فينتفي البعث؟ أي إن تحقق الشرطان أو الوصفان منكم: إن كنتم غير مدينين، وإن كنتم صادقين فردوا روح الميت إليه.
ونظير الآية قوله تعالى: كَلَّا إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ، وَقِيلَ: مَنْ راقٍ؟
[القيامة ٧٥/ ٢٦- ٢٩].
ثم بيّن الله تعالى مصائر هؤلاء الناس عند احتضارهم وبعد وفاتهم، وجعلهم أقساما ثلاثة فقال:
١- فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ، فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ، وَجَنَّةُ نَعِيمٍ أي إن كان المحتضر أو المتوفى من فئة السابقين المقربين: وهم الذين فعلوا الواجبات والمستحبات، وتركوا المحرمات والمكروهات، وبعض المباحات، وهم الصنف الأول في مطلع السورة، فلهم راحة، واستراحة وطمأنينة من أحوال الدنيا، ورزق واسع ونعيم في الجنة، وتبشرهم الملائكة بذلك عند الموت. والروح:
الاستراحة، وهو يعم الروح والبدن، والريحان: الرزق، وهو للبدن، وجنة النعيم للروح، يتنعم بلقاء المليك المقتدر. يروى: أن المؤمن لا يخرج من الدنيا إلا ويؤتى إليه بريحان من الجنة يشمه. فاللهم اجعلنا من هؤلاء يا ذا الجلال والإكرام.
٢- وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ، فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ أي وأما إن كان المحتضر أو المتوفى من أهل اليمين: وهم الذين يؤتون كتبهم بأيمانهم، فتبشرهم الملائكة بذلك، وتقول لهم: سلام لك يا صاحب اليمين من إخوانك أصحاب اليمين، لا بأس عليك أنت إلى سلامة، أنت من أصحاب اليمين، وذلك لأنك ستكون معهم، فيستقبلونك بالسلام.
وذلك كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا: رَبُّنَا اللَّهُ، ثُمَّ اسْتَقامُوا، تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا، وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ. نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ، وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ، نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ [فصلت ٤١/ ٣٠- ٣٢].
ثم حسم الله تعالى الأمر وأبان مدى صحة الخبر، فقال:
إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ أي ن هذا الخبر والمذكور في هذه السورة من أمر البعث وغيره لهو محض اليقين وخالصة، والحق الثابت الذي لا شك فيه ولا ريب، ولا محيد لأحد عنه.
ثم أمر الله نبيه بما يكمل نفسه، فقال:
فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ أي نزّه الله عما لا يليق بشأنه، لما علمت من أخبار علمه وقدرته. والباء في قوله: بِاسْمِ زائدة، أي سبّح اسم ربك، والاسم: المسمى.
أخرج الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه وصححه الحاكم عن عقبة بن عامر قال: لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ قال:
«اجعلوها في ركوعكم»
ولما نزلت سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اجعلوها في سجودكم».
والفرق بين العظيم والأعلى: أن العظيم يدل على القرب، والأعلى يدل على البعد، فهو سبحانه قريب من كل ممكن، وقريب من الكل، وهو أعلى من أن يحيط به إدراكنا، وفي غاية البعد عن كل شيء.
أخرج الجماعة إلا أبا داود عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم».
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- أقسم الله تعالى بمساقط النجوم ومغاربها، وهو قسم عظيم لو يعلم الناس، على أن القرآن قرآن كريم، كثير النفع، ليس بسحر ولا كهانة، وليس بمفترى، بل هو قرآن كريم محمود، جعله الله تعالى معجزة لنبيه صلى الله عليه وسلم، وهو كريم على المؤمنين، لأنه كلام ربهم، وشفاء صدروهم، كريم على أهل السماء، لأنه تنزيل ربهم ووحيه.
قال القشيري عن صيغة القسم: فَلا أُقْسِمُ... : هو قسم، ولله تعالى أن يقسم بما يريد، وليس لنا أن نقسم بغير الله تعالى وصفاته القديمة.
٢- وصف الله تعالى القرآن في هذه الآيات بأربع صفات: هي أنه كريم، أي كثير الخير والنفع والفائدة، وفي كتاب مكنون، أي في اللوح المحفوظ، مصون عند الله تعالى، ومحفوظ عن الباطل والتغيير والتبديل، ولا يمس ذلك الكتاب إلا المطهرون من الذنوب، وهم الملائكة، ومنزل من رب العالمين.
والأصح أن المراد من الكتاب المكنون: اللوح المحفوظ. والضمير في لا يَمَسُّهُ للكتاب.
أما مس المصحف على غير وضوء، فالجمهور ومنهم أئمة المذاهب الأربعة على المنع من مسّه،
لحديث عمرو بن حزم المتقدم: «لا يمس القرآن إلا طاهر»
وأجاز المالكية مسّ القرآن للمحدث لضرورة التعلم والتعليم.
وروي عن الحكم وحماد وداود بن علي الظاهري: أنه لا بأس بحمل القرآن
٣- بعد إثبات النبوة وصدق الوحي والقرآن الكريم وبّخ الله تعالى المتهاونين بالقرآن المكذبين به، وهذا قلب للأوضاع، فإن الجاحدين جعلوا شكر الرزق من الله والإنعام هو التكذيب، فوضعوا الكذب مكان الشكر، كقوله تعالى: وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً [الأنفال ٨/ ٣٥] أي لم يكونوا يصلّون، ولكنهم كانوا يصفّرون ويصفّقون مكان الصلاة.
قال القرطبي: وفي هذا بيان أن ما أصاب العباد من خير، فلا ينبغي أن يروه من قبل الوسائط التي جرت العادة بأن تكون أسبابا، بل ينبغي أن يروه من قبل الله تعالى، ثم يقابلونه بشكر إن كان نعمة، أو صبر إن كان مكروها، تعبّدا له وتذللا «١».
٤- تحدى الله منكري البعث بأنهم إن كانوا صادقين في زعمهم ألا بعث، وأنهم غير مجزيين ولا محاسبين ولا مبعوثين يوم المعاد، فليمنعوا الموت عن الإنسان حين الاحتضار، وليردوا الروح إليه إذا بلغت الحلقوم، وإذا انتفى الموت انتفى البعث، والحق أنهم عاجزون عن ذلك، لا يقدرون على شيء من هذا، وهم ينظرون إلى المحتضر محزونين آيسين، والله سبحانه أقرب إلى المحتضر بالقدرة والعلم والرؤية، ولكن الحاضرين حوله لا يدركون ذلك، ولا يرون الملائكة الرسل الذين يتولون قبض الروح.
٥- الناس عند الاحتضار ثم الوفاة أصناف ثلاثة: المقربون السابقون،
وأما أصحاب اليمين، فإنهم يسلمون من عذاب الله، ويسلم الله عليهم، وتسلّم الملائكة أيضا عليهم قائلين لهم: سلام لك من إخوانك أصحاب اليمين.
قال ابن مسعود: إذا جاء ملك الموت ليقبض روح المؤمن قال: ربك يقرئك السلام. وكذلك يسلم عليهم منكر ونكير عند المساءلة في القبر، وتسلم عليهم الملائكة عند البعث في القيامة، قبل الوصول إليها.
فالملائكة تسلم على صاحب اليمين في المواطن الثلاثة، ويكون ذلك إكراما بعد إكرام «١».
وأما أصحاب الشمال المكذبون بالبعث، الضالون عن الهدى وطريق الحق، فلهم رزق من حميم: ماء تناهي حره، وإدخال في النار.
٦- إن جميع هذا المذكور في هذه السورة محض اليقين وخالصة، وهو الحق الثابت الذي لا شك فيه، ولا محيد عنه. قال قتادة في هذه الآية: إن الله ليس بتارك أحدا من الناس حتى يقفه على اليقين من هذا القرآن، فأما المؤمن فأيقن في الدنيا فنفعه ذلك يوم القيامة، وأما الكافر فأيقن يوم القيامة حين لا ينفعه اليقين.
٧- أمر الله نبيه والمؤمنين من بعده بأن ينزه الله تعالى عن السوء وعن كل ما لا يليق به، ما دام الحق قد ظهر، واستبان اليقين، وبطل زيف الكفار والمشركين.
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الحديدمكيّة، وهي تسع وعشرون آية.
مدنيتها:
هي كما ذكر القرطبي مدنية في قول الجميع، وهو الظاهر، وقيل: إنها مكية وهو رأي مرجوح.
تسميتها:
سميت سورة الحديد، للإشارة في الآية (٢٥) منها إلى منافع الحديد، واعتماد مظاهر المدنية والعمران والحضارة عليه، سواء في السلم والحرب.
مناسبتها لما قبلها:
وجه اتصال هذه السورة بالواقعة من ناحيتين.
١- ختمت سورة الواقعة بالأمر بالتسبيح، وبدئت هذه بذكر التسبيح من كل ما في السموات والأرض.
٢- إن سورة الحديد واقعة موقع العلة للأمر بالتسبيح في الواقعة، فكأنه قيل: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ لأنه سبح له ما في السموات والأرض، فالله أمر بالتسبيح، ثم أخبر أن التسبيح المأمور به قد فعله، والتزمه كل ما في السموات والأرض.
موضوع هذه السورة كغالب السور المدنية بيان الأحكام الشرعية المتعلقة بالعقيدة والإيمان، والجهاد والإنفاق في سبيل الله، والترفع عن مفاتن الدنيا، وبيان أصول الحكم الإسلامي، وكشف مخازي المنافقين، وشرائع الأنبياء في الحياة الخاصة والعامة.
ابتدأت بالحديث عن صفات الله وأسمائه الحسنى، وظهور آثار عظمته في خلق الكون. ثم دعت المسلمين إلى الإنفاق في سبيل الله لإعلاء كلمة الله، وإعزاز الإسلام، ورفع مجده وشأنه.
وقارنت أثر هذه الدعوة إلى البذل والجهاد بين المؤمنين المجاهدين الذين يتميزون بأنوارهم في الآخرة، وبين المنافقين الذين يبخلون ويجبنون، ويتخبطون في ظلمات الجهل والكفر.
ثم أبانت السورة حقيقة الدنيا وحقيقة الآخرة، فالدنيا دار الفناء واللهو واللعب، والآخرة دار الخلود والبقاء والسعادة والراحة الكبرى، وفي ذلك تحذير من الاغترار بالدنيا، وترغيب في الآخرة والعمل من أجلها. ونصحت المؤمنين بالصبر على المصائب، وذمت أهل الاختيال والكبر والبخلاء، وحضّت على العدل وعمارة الكون، وأبانت الغاية من بعثة الرسل الكرام، وأمرت بتقوى الله، واتّباع هدي الرسل والأنبياء.
وختمت السورة بالاعتبار بالأمم السابقة، وبقصص نوح وإبراهيم وأحفادهم الرسل، وبقصة عيسى بن مريم، وموقف أتباعه من دعوته، وأوضحت ثواب المتقين، ومضاعفة أجر المؤمنين برسلهم، وأبانت أن الرسالة اصطفاء من الله، وفضل يختص به من يشاء من عباده.