ﰡ
[سورة عبس (٨٠) : الآيات ١ الى ١٠]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
عَبَسَ وَتَوَلَّى (١) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (٢) وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (٣) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (٤)أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (٥) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (٦) وَما عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (٧) وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى (٨) وَهُوَ يَخْشى (٩)
فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (١٠)
الإعراب:
عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى أَنْ جاءَهُ: في موضع نصب لأنه مفعول لأجله، وتقديره: لأن جاءه، فحذف اللام فاتصل الفعل به. ومنهم من جعله في موضع جر، بإعمال حرف الجر مع الحذف، لكثرة حذفها معها، وهي وحرف الجر في موضع نصب بالفعل قبلها.
فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى فَتَنْفَعَهُ: بالنصب على جواب الترجي: (لعل) بالفاء بتقدير (أن). وبالرفع بالعطف على يَذَّكَّرُ.
وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى يَسْعى: حال من فاعل: جاء. وَهُوَ يَخْشى حال من فاعل: يسعى، وهو الأعمى.
البلاغة:
عَبَسَ وَتَوَلَّى.. ثم قال: وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى التفات من الغيبة إلى الخطاب دلالة على مزيد الإنكار، وزيادة في العتاب، وتنبيها للرسول صلّى الله عليه وسلّم إلى العناية بشأن الأعمى، كمن يشكو جانيا بطريق الغيبة، وهو حاضر، ثم يقبل على الجاني مواجها بالتوبيخ. وفي ذكر الأعمى إنكار أيضا لأن العمى يوجب العطف والرأفة عند ذوي الآداب غالبا، لا التولي والعبوس.
يَذَّكَّرُ والذِّكْرى جناس اشتقاق.
عَبَسَ وَتَوَلَّى، أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى، وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى سجع مرصع.
تَصَدَّى تَلَهَّى بينهما طباق.
عَبَسَ قطّب وجهه. وَتَوَلَّى أعرض. أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى لأجل أن جاءه عبد الله بن أم مكتوم، فقطعه عما هو مشغول به من محاولة هداية أشراف قريش إلى الإسلام. وقد أطبق المفسرون على أن الذي عبس هو الرسول صلّى الله عليه وسلّم، والأعمى: هو ابن أم مكتوم، واسمه عبد الله بن شريح بن مالك بن ربيعة الزهري. وقد عاتب الله نبيه على عبوسه في وجه الأعمى، حتى لا تنكسر قلوب أهل الصّفّة أو ليعلم أن المؤمن الفقير خير من الغني، وأن النظر إلى المؤمن أولى وأصلح، وإن كان فقيرا، من النظر إلى غيره، وهو الإقبال على الأغنياء طمعا في إيمانهم، وإن كان فيه نوع من المصلحة أيضا «١».
وَما يُدْرِيكَ أي: أيّ شيء يعلمك ويعرّفك حال هذا الأعمى؟ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى يتطهر من الذنوب بما يسمع منك وبما يتعرف عليه من الشرائع، وفيه إيماء بأن إعراضه كان لتزكية غيره. أَوْ يَذَّكَّرُ يتعظ، أصله يتذكر، فأدغم التاء في الذال. فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى العظة المسموعة منك.
اسْتَغْنى بالمال والجاه والقوة عن سماع القرآن. تَصَدَّى تقبل وتعرض، وقرئ:
تَصَدَّى وأصله: تتصدى. فأدغم التاء الثانية بالصاد. أَلَّا يَزَّكَّى يتطهر ويؤمن، أي ليس عليك بأس في ألا يتزكى بالإسلام، حتى يبعثك الحرص على إسلامه إلى الإعراض عمن أسلم، إن عليك إلا البلاغ. وَهُوَ يَخْشى أي يخاف الله، وهو الأعمى. تَلَهَّى تتشاغل، وأصله تتلهى، فحذفت التاء الأخرى.
سبب النزول: نزول الآية (١) :
عَبَسَ:
أخرج الترمذي والحاكم عن عائشة رضي الله عنها قالت: أنزل عَبَسَ وَتَوَلَّى في ابن أم مكتوم الأعمى، أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فجعل يقول: يا رسول الله، أرشدني، وعند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجل من عظماء المشركين، فجعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعرض عنه، ويقبل على الآخر، فيقول له:
أترى بما أقول بأسا؟ فيقول: لا، فنزلت: عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى.
وأخرج أبو يعلى مثله عن أنس.
عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى أي قطب النبي صلّى الله عليه وسلّم وجهه، وأعرض، لأن جاءه الأعمى وقطع كلامه، وهو عبد الله بن أم مكتوم، فكره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يقطع عليه ابن أم مكتوم كلامه، فأعرض عنه، فنزلت.
وعذر ابن أم مكتوم أنه لم يدر بتشاغل النبي صلّى الله عليه وسلّم.
وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى، أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى؟ أي وما يعلمك ويعرفك يا محمد لعل الأعمى يتطهر من الذنوب بالعمل الصالح بسبب ما يتعلمه منك، أو يتذكر فيتعظ بما تعلمه من المواعظ، فتنفعه الموعظة.
وفي هذا إيماء إلى أن غير الأعمى ممن تصدى لتزكيتهم وتذكيرهم من المشركين لا يرجى منهم الهداية. وفيه تعظيم من الله سبحانه لابن أم مكتوم.
وكان هذا التصرف من النبي صلّى الله عليه وسلّم بمثابة ترك الاحتياط وترك الأفضل، فلم يكن ذلك ذنبا البتة، ولا مصادما لمبدأ عصمة الأنبياء، لصدور الفعل عن أمر تابع للجبلّة الإنسانية كالرضا والغضب والضحك والبكاء، والتي رفع عنها التكليف في شريعة الإسلام.
وبعد هذا الوصف المؤذن بالعتاب جاء العتاب صريحا في قوله تعالى:
١- أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى أي أما من استغنى بماله وثروته وقوته عما لديك من معارف القرآن والهداية الإلهية، وعن الإيمان والعلم، فأنت تقبل عليه بوجهك وحديثك، وهو يظهر الاستغناء عنك والإعراض عما جئت به.
وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى أي لا بأس ولا شيء عليك في ألا يسلم ولا يهتدي، ولا يتطهر من الذنوب، فإنه ليس عليك إلا البلاغ، فلا تهتم بأمر من كان مثل هؤلاء من الكفار.
لذا أمر الله تعالى رسوله صلّى الله عليه وسلّم ألا يخص بالإنذار أحدا، بل يساوي فيه بين الشريف والضعيف، والغني والفقير، والسادة والعبيد، والرجال والنساء، والصغار والكبار، ثم يهدي الله تعالى من يشاء إلى صراط مستقيم.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- الآية عتاب من الله تعالى لنبيه صلّى الله عليه وسلّم في إعراضه وتوليه عن عبد الله بن أم مكتوم، حتى لا تنكسر قلوب الفقراء، وليعلم أن المؤمن الفقير خير من الغني.
٢- بالرغم من أن ابن أم مكتوم كان يستحق التأديب والزجر لأنه أبى إلا أن يكلم النبي صلّى الله عليه وسلّم حتى يعلّمه، فكان في هذا نوع جفاء منه، بالرغم من هذا عاتب الله تعالى نبيه صلّى الله عليه وسلّم لأن الأهم مقدم على المهم. ويستحق التأديب أيضا لأنه كان قد أسلم وتعلّم ما كان يحتاج إليه من أمر الدين. أما أولئك الكفار فما كانوا قد أسلموا، وإسلامهم سبب لإسلام جمع عظيم.
٣- عذر ابن أم مكتوم: أنه لم يكن عالما بأن النبي صلّى الله عليه وسلّم مشغول بغيره، وأنه يرجو إسلامهم.
٤- الآية دليل واضح على وجوب المساواة في الإسلام في شأن الإنذار وتبليغ الدعوة دون تمييز بين فقير وغني. ونظير هذه الآية في العتاب قوله تعالى:
وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [الأنعام ٦/ ٥٢] وقوله سبحانه: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ
[الكهف ١٨/ ٢٨].
٥- أراد الله توفير جهد نبيه صلّى الله عليه وسلّم في دعوة رؤساء قريش إلى الإسلام، وهم في الحقيقة لن يؤمنوا، وكفاهم ما بلّغهم به من دعوته إلى التوحيد، ونبذ عبادة الأوثان، وليس عليه بأس بعدئذ في ألا يهتدوا ولا يؤمنوا، فإنما هو رسول، ما عليه إلا البلاغ، ولا يصح أن يكون الحرص على إسلامهم مؤديا إلى الإعراض عمن أسلم، للاشتغال بدعوة من لم يسلم.
القرآن موعظة وتذكرة ونعم الله في نفس الإنسان
[سورة عبس (٨٠) : الآيات ١١ الى ٢٣]
كَلاَّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ (١١) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (١٢) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (١٣) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (١٤) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (١٥)
كِرامٍ بَرَرَةٍ (١٦) قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (١٧) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (١٨) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (١٩) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (٢٠)
ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ (٢١) ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (٢٢) كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ (٢٣)
الإعراب:
فِي صُحُفٍ خبر ثان ل إِنَّها وما قبله اعتراض، أو خبر لمبتدأ محذوف.
قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ ما إما تعجبية، وإما استفهامية.
ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ السبيل منصوب بفعل يفسره الظاهر، للمبالغة في التيسير.
كَلَّا لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ لَمَّا حرف جزم، معناه النفي لما قرب من الحال. وما أَمَرَهُ تقديره: لما أمر به، فحذف الباء من «به» ثم حذف الهاء العائدة إلى «ما» فصار: لما أمره.
قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ؟ أسلوب التعجب، تعجب من إفراط كفره، مع كثرة إحسان الله إليه.
مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ إجمال، ثم تفصيل بقوله: مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ، ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ، ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ.
ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ كناية بالسبيل عن خروجه من فرج الأم.
فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ، مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ، بِأَيْدِي سَفَرَةٍ، كِرامٍ بَرَرَةٍ إلخ توافق الفواصل مراعاة لرؤوس الآيات، وهو المسمى، بالسجع المرصع.
المفردات اللغوية:
كَلَّا كلمة ردع وزجر، والمراد هنا زجر المخاطب عن المعاتب عليه، أو عن معاودة مثله، أي لا تفعل مثل ذلك. إِنَّها أي الهداية أو آيات القرآن. تَذْكِرَةٌ موعظة، وهي في معنى الذكر والوعظ، لذا ذكر الضمير العائد إليها في قوله: فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ أي اتعظ به، أو حفظه. والمراد أن هذا القرآن، أو هذا التأديب الذي عرّفناكه في إجلال الفقراء وعدم الالتفات إلى أهل الدنيا ثبت في اللوح المحفوظ الذي قد وكل بحفظه أكابر الملائكة.
فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ أي إن التذكرة مثبتة كائنة مودعة في صحف شريفة عند الله.
مَرْفُوعَةٍ رفيعة القدر في السماء. مُطَهَّرَةٍ منزهة عن أيدي الشياطين، وعن النقص.
بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كتبة من الملائكة ينسخونها من اللوح المحفوظ. كِرامٍ إعزاء على الله تعالى.
بَرَرَةٍ أتقياء مطيعين لله تعالى، وهم الملائكة.
قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ دعاء عليه بأشنع الدعوات، وتعجب من إفراطه في كفران النعم أو استفهام توبيخ، أي ما حمله على الكفر؟! مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ بيان لما أنعم عليه، والاستفهام للتحقير.
مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ من مني ثم من علقة ثم من مضغة إلى آخر خلقه. فَقَدَّرَهُ أي أنشأه في أطوار وأحوال مختلفة. ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ أي سهّل له مخرجه من بطن أمه، وهو كناية، أو سهل له طريق الخير والشر. فَأَقْبَرَهُ جعله في قبر يستره، ويوارى فيه. أَنْشَرَهُ بعثه بعد الموت. كَلَّا ردع للإنسان عما هو عليه من الترفع والتكبر. لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ أي لم يفعل ما أمره الله به بنحو كامل إذ لا يخلو أحد من التقصير في شيء ما.
قُتِلَ الْإِنْسانُ..: أخرج ابن المنذر عن عكرمة في قوله: قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ قال: نزلت في عتبة بن أبي لهب حين قال: كفرت برب النجم.
المناسبة:
بعد عتاب الله لنبيه على عبوسه في وجه عبد الله بن أم مكتوم بسبب انشغاله مع رؤساء قريش، سرّى الله عنه بقوله: كَلَّا أي لا تفعل مثل ذلك، وعرّفه بأن الهداية لا تحتاج لجهود ومحاولات كثيرة، وأن هذا التأديب الذي أوحى إليه به كان لإجلال الفقراء وعدم الالتفات إلى أهل الدنيا، وهذا القرآن مجرد تذكرة لتنبيه الغافلين، فمن رغب فيها، اتعظ بها وحفظها وعمل بموجبها، وهي مودعة في صحف شريفة القدر.
وبعد بيان حال القرآن وأنه كتاب الذكرى والموعظة، ذمّ الله الإنسان ووبخه على كفران نعم ربه، وتكبره وتعاظمه عن قبول هداية الله له، وأنه استحق أعظم أنواع العقاب لأجل ارتكابه أعظم أنواع القبائح.
التفسير والبيان:
كَلَّا، إِنَّها تَذْكِرَةٌ أي لا تفعل مثل فعلك مع ابن أم مكتوم، من الإعراض عن الفقير، والتصدي للغني مع كونه ليس ممن يتزكى، وإن هذه الآيات أو السورة أو القرآن موعظة، جدير بك وبأمتك أن تتعظ بها وتعمل بموجبها.
ثم وصف تلك التذكرة بأمرين:
١- فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ أي إن هذه تذكرة بيّنة ظاهرة، مقدور على فهمها والاتعاظ بها والعمل بموجبها، فمن رغب فيها اتعظ بها، وحفظها، وعمل بموجبها.
٢- فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ، مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ، بِأَيْدِي سَفَرَةٍ، كِرامٍ بَرَرَةٍ أي إنها تذكرة مثبتة مودعة كائنة في صحف مكرمة عند الله، لما فيها من العلم والحكمة، ولنزولها من اللوح المحفوظ، رفيعة القدر عند الله، منزّهة لا يمسّها إلا المطهرون، مصانة عن الشياطين والكفار، لا ينالونها، ومنزّهة عن النقص والضلالات، محمولة بأيدي ملائكة سفرة وسائط يسفرون بالوحي بين الله ورسله لتبليغها للناس، من السفارة: وهي السعي بين القوم.
وهم كرام على ربهم، كرام عن المعاصي، أتقياء مطيعون لربهم، صادقون في إيمانهم، أي إن الله تعالى وصف الملائكة بصفات ثلاث: هي كونهم سفراء ينزلون بالوحي بين الله وبين رسله، وكرام على ربهم، ومطيعون لله، كما قال تعالى:
بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ [الأنبياء ٢١/ ٢٦] وقال: لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ [التحريم ٦٦/ ٦].
قال ابن جرير الطبري: والصحيح أن السفرة: الملائكة، والسفرة يعني بين الله تعالى وبين خلقه، ومنه يقال: السفير: الذي يسعى بين الناس في الصلح والخير.
أخرج الجماعة أحمد وأصحاب الكتب الستة عن عائشة رضي الله عنها
ثم ذم الله تعالى من أنكر البعث والنشور من الناس بقوله:
قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ أي لعن الإنسان الكافر أو قتل أو عذب ما أشد كفره؟! وهذا دعاء عليه بأشنع الدعوات، وتعجب من إفراطه في الكفر، ودليل على سخط عظيم وذم بليغ، يدل على قبح حاله، وبلوغه حدا من العتو والكبر لا يستحق معه الحياة. وهذا جار على أسلوب العرب عند التعجب من شيء، فيقال: قاتله الله ما أفصحه؟! والمراد بالكلام الملائم في حقه تعالى هنا:
إرادة إيصال العقاب الشديد للكافر.
ثم ذكّره بخلقه من الشيء الحقير، وأنه قادر على إعادته كما بدأه، فقال تعالى:
مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ؟ مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ أي من أي شيء مهين حقير، خلق الله هذا الكافر بربّه؟ فلا ينبغي له التكبر عن الطاعة، إنه تعالى خلقه من ماء مهين، وقدّره أطوارا وأحوالا، وسوّاه وهيّأه لمصالح نفسه، وأتمّ خلقه وأكمله بأعضائه الملائمة لحاجاته مدة حياته، وزوّده بطاقات العقل والفكر والفهم، والقوى والحواس للاستفادة من نعم الله تعالى، فلا يستعملها فيما يغضب الله، وإنما عليه استعمالها في رضوان الله.
ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ إما كناية عن خروجه بسهولة من فرج أمه، وإما أنه تعالى يسر له الطريق إلى تحصيل الخير أو الشر، كما قال تعالى: وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ [البلد ٩٠/ ١٠] أي بيّنا له طريق الخير وطريق الشر، وقال سبحانه:
إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ، إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً [الدهر ٧٦/ ٣].
ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ، ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ أي أنه بعد خلقه له وتمكينه من الحياة قبض روحه، وجعله في قبر يوارى فيه إكراما له، ولم يجعله ملقى على
والإماتة ستر للعيوب بعد الهرم أو المرض، والإقبار تكرمة حيث لم يلق للطير والسباع، والإنشار أي البعث عدل وفضل. ثم لامه على تقصيره، وأكد كفره بالنعم، فقال:
كَلَّا لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ أي هذا ردع وزجر للإنسان عما هو عليه، فلم يخل إنسان من تقصير قط، فبعض الناس أخل بالكفر، وبعضهم بالعصيان، وبعضهم بارتكاب خلاف الأولى والأفضل لما يليق بمنزلته، وما قضى ما أمره الله إلا القليل. والآية تدل على العجب من حال الإنسان، فإنه قد ينكر خالقه بعد قيام الأدلة على وجوده في نفسه وفي السموات والأرض، وقد يجحد نعمة ربه، فلا يقابلها بالحمد والشكر وعرفان الجميل، وينسبها إلى نفسه، وقد يعصي الله بالرغم من وجود أدلة الهداية والرشد، وإدراكه مخاطر العصيان.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- القرآن الكريم كتاب تذكرة وموعظة وتبصرة للناس جميعا، فمن أراد اتعظ بالقرآن وانتفع به وعمل بموجبه. وهذا دليل على حرية الاختيار.
٢- القرآن كتاب جليل عند الله، فهو مثبت مودع في صحف مكرمة عند الله، لما فيها من العلم والحكمة، رفيعة القدر عند الله، مطهرة من كل دنس، مصانة عن أن ينالها الكفار، محمولة بأيدي ملائكة جعلهم الله سفراء بينه وبين رسله، وهم كرام على ربهم، كرام عن المعاصي، يرفعون أنفسهم عنها، مطيعون
٣- لعن الإنسان حيث كفر بالقرآن، وما أظلمه حيث أنكر البعث والنشور، فالله قادر على إعادته كما قدر على بدء خلقه، فإنه خلقه من ماء يسير مهين، ثم جعله يمر بأطوار بعد كونه نطفة، إلى وقت إنشائه خلقا آخر، وبأحوال من كونه ذكرا أو أنثى أو شقيا أو سعيدا، حسنا أو دميما، قصيرا أو طويلا، فكيف يليق به التكبر والتجبر عن أوامر الله؟ ثم يسر له سلوك طريق الخير والشر، أي بيّن له ذلك، كما قال: إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ [الدهر ٧٦/ ٣] وقال: وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ [البلد ٩٠/ ١٠].
ثم جعل له قبرا يوارى فيه إكراما له، ولم يجعله مما يلقى على وجه الأرض تأكله الطير والسباع. وهذا دليل على أن الله سبحانه أمر بدفن الأموات الإنسية تكرمة لهم، سواء أكانوا مؤمنين أم كفارا، دون أن يطرحوا على وجه الأرض، طعمة للسباع، كسائر الحيوان.
ثم إذا شاء الله أنشره، أي أحياه بعد موته.
وكل هذه الانتقالات دلالات واضحة على أنه سبحانه إذا شاء أن ينشر الإنسان ببعثه من قبره أنشره. وهذه الانتقالات أو المراتب ثلاث: الأولى- بداية خلقه من ماء مهين، وهذا دليل على زيادة التقرير في التحقير، والثانية المتوسطة- التمييز بين الخير والشر، والثالثة الأخيرة- الإماتة والإقبار، والإنشار، أي الإحياء بعد البعث.
٤- كل إنسان إلا القليل مقصر في حق الله، فلا يقضي أحد ما أمر به، من الإيمان والطاعة، والتأمل في دلائل الله، والتدبر في عجائب خلق الله وبينات حكمته.
[سورة عبس (٨٠) : الآيات ٢٤ الى ٣٢]
فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ (٢٤) أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا (٢٥) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (٢٦) فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا (٢٧) وَعِنَباً وَقَضْباً (٢٨)
وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً (٢٩) وَحَدائِقَ غُلْباً (٣٠) وَفاكِهَةً وَأَبًّا (٣١) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (٣٢)
الإعراب:
فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ، أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا أَنَّا إما بدل من طَعامِهِ بدل اشتمال لأن هذه الأشياء تشتمل على الطعام، وإما على تقدير اللام، أي لأنا صببنا. وتقرأ بالكسر أَنَّا على الابتداء والاستئناف.
المفردات اللغوية:
فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ نظر تأمل واعتبار. إِلى طَعامِهِ كيف أوجد وقدر ودبر له والظاهر أن الطعام هو المطعوم. أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا أي أنزلناه بسخاء وكثرة من السحاب، وهو بيان لكيفية إحداث الطعام. ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا أي شققناه بالنبات، وإسناد الصب والشق إلى الله نفسه إسناد الفعل إلى السبب. فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا كالحنطة والشعير. وَقَضْباً هو القت الرطب أو البرسيم، سمي قضبا لأنه يقضب، أي يقطع مرة بعد أخرى. وَحَدائِقَ غُلْباً بساتين ضخاما عظاما، كثيرة الأشجار، جمع غلباء، وصف به الحدائق لتكاثفها وكثرة أشجارها. وَأَبًّا الأب: العشب أو ما ترعاه البهائم، سمي أبّا لأنه يؤبّ، أي يؤم وينتجع.
مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ متعة أو تمتيعا، أي أنبتناه لكم لتتمتعوا وتنتفع أنعامكم، فبعض الأنواع المذكورة طعام وبعضها علف.
المناسبة:
بعد بيان الدلائل على قدرة الله تعالى وتعداد نعمه في الأنفس البشرية أو الذوات، ذكر الله دلائل الآفاق، وعدّد النعم التي يحتاج إليها الإنسان لقوام حياته.
فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ أي فليتأمل الإنسان كيف خلق الله طعامه الذي يعيش به، ويكون سببا لحياته، وكيف دبره وهيأه له. وفي هذا امتنان بهذه النعمة، واستدلال بإحياء النبات من الأرض الهامدة على إحياء الأجسام بعد ما كانت عظاما بالية.
ثم أوضح كيفية إيجاد الطعام، فقال:
أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا، ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا أننا أنزلنا الماء من السماء أو سحاب على الأرض بغزارة وكثرة، فصب الماء هو المطر، ثم أسكناه في الأرض، ثم روينا البذر المودع فيها، ثم شققناها بالنبات الخارج منها، فارتفع وظهر على وجهها، فكان هناك أنواع مختلفة من النباتات في الصغر والكبر، والهيئة والشكل، واللون والطعم، والأغراض المتنوعة كالغذاء والدواء والمرعى، لذا ذكر تعالى بعدئذ ثمانية أنواع من النبات بقوله:
١- ٣- فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا وَعِنَباً وَقَضْباً أي فأنبتنا في الأرض الحبوب التي يتغذى بها كالحنطة والشعير والذرة، والأعناب المتنوعة، والرطبة أو القت أو البرسيم أو الفصفصة التي تأكلها الدواب رطبة. والمعنى أن النبات لا يزال ينمو ويتزايد إلى أن يصير حبا وعنبا وقضبا. وقيل: القضب: العلف.
٤- ٥- وَزَيْتُوناً وَنَخْلًا أي وأنبتنا أيضا شجر الزيتون والنخيل، وثمرتهما معروفة.
٦- ٨- وَحَدائِقَ غُلْباً، وَفاكِهَةً، وَأَبًّا أي بساتين ذات أشجار ضخمة ومتكاثفة كثيرة، وفاكهة وهي كل ما يتفكه به من الثمار، أي يستمتع به، كالتفاح والكمثّرى والموز والخوخ والتين ونحوها، وعشبا أو حشيشا مرعى
ثم ذكر وجه النعمة أو الحكمة في خلق هذه النباتات، فقال:
مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ أي جعلنا ذلك متعة أو عيشة لكم ولأنعامكم، لتنتفعوا بها وتأكلها بهائمكم، والأنعام: هي الإبل والبقر والغنم.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- أمر الله تعالى بالنظر والاستدلال والتدبر إلى الطعام الذي يتناوله الإنسان، ويعيش به، كيف دبّر الله أمره، من إنزال الماء من السماء، ثم شق الأرض بالنبات أو بالحراثة على الدواب أو بالآلات، وإخراج أنواع النبات المختلفة.
٢- ذكر الله تعالى ثمانية أنواع من النبات: وهي الحب: وهو كل ما حصد من نحو الحنطة والشعير وغيرهما، وقدّم لأنه كالأصل في الغذاء، والعنب، وذكر بعد الحب، لأنه غذاء من وجه وفاكهة من وجه آخر، والقضب عند أهل مكة واليمن: وهو الرطبة المسماة بالقت، والزيتون والنخيل، والحدائق ذات الأشجار الضخمة الكثيرة، والفاكهة: وهي ما يأكله الناس من الثمار، وقد ذكرها مجملة ليعم جميع أنواعها، والأب: وهو المرعى الذي يؤبّ أي يؤم وينتجع، وهو ما تأكله البهائم من العشب.
٣- الغاية من خلق هذه النباتات التي تشمل ما يتغذي به الإنسان والحيوان: هي الانتفاع بها، سواء بالنسبة للناس أو للدواب لأن إنبات هذه الأشياء إمتاع لجميع الحيوانات.
والخلاصة: أن المقصود من هذه الأشياء أمور ثلاثة:
أولها- إيراد الدلائل الدالة على التوحيد.
وثانيها- إيراد الدلائل الدالة على القدرة على المعاد.
وثالثها- الترغيب بالإيمان والطاعة فإنه لا يليق بالعاقل أن يتمرد عن طاعة الإله الذي أحسن إلى عباده بهذه الأنواع العظيمة من الإحسان.
أهوال القيامة
[سورة عبس (٨٠) : الآيات ٣٣ الى ٤٢]
فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (٣٣) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (٣٤) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (٣٥) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (٣٦) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (٣٧)
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (٣٨) ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (٣٩) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (٤٠) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (٤١) أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (٤٢)
الإعراب:
فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ جواب إذا: لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ أي استقر لكل امرئ منهم.
البلاغة:
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ، ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ، تَرْهَقُها قَتَرَةٌ بينهما مقابلة، قابل فيها بين وجوه السعداء ووجوه الأشقياء.
الصَّاخَّةُ هي القارعة أو الطامة الكبرى أو القيامة، وهي النفخة الثانية التي يكون معها البعث، والمراد بها الصيحة التي تصم الآذان لشدتها، وصفت بها مجازا لأن الناس يصخون لها، والصخ: الضرب بالحديد على الحديد أو بالعصا على شيء، فيسمع صوت شديد.
يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لاشتغاله بشأنه، وعلمه بأنهم لا ينفعونه. لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ شغل أو حال يكفيه في الاهتمام به، ويشغله عن شأن غيره، أي اشتغل كل واحد بنفسه، مما يدل على الرهبة والخوف الشديد، ويُغْنِيهِ يصرفه عن غيره.
مُسْفِرَةٌ مضيئة متهللة مشرقة من البشر، يقال: أسفر الصبح: إذا أضاء.
مُسْتَبْشِرَةٌ فرحة بما ترى من النعيم، وهم المؤمنون. غَبَرَةٌ غبار وكدورة، وهم الكافرون.
تَرْهَقُها تغشاها. قَتَرَةٌ سواد وظلمة كالدخان. أُولئِكَ أصحاب هذه الحالة. هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ الجامعون بين أنواع الكفر: (إنكار وجود الله أو إنكار وحدانيته) والفجور:
العصيان والخروج عن حدود الله.
المناسبة:
بعد بيان نعم الله تعالى في نفس الإنسان وفي الآفاق، وإقامة الأدلة والبراهين بها على كمال قدرة الله عز وجل على البعث وكل شيء، أبان الله تعالى بعض أهوال القيامة وأحوالها التي تملأ النفس خوفا ورهبة، ليكون ذلك مدعاة إلى التأمل في الدلائل والإيمان بها والإعراض عن الكفر، وإلى ترك التكبر على الناس، وإلى إظهار التواضع إلى كل أحد.
والناس في ذلك الموقف فريقان: سعداء وأشقياء، والفريق الأول ضاحك مستبشر: وهو من امن بالله ورسله وأطاع ما أمر الله به. والفريق الثاني عابس متكدر، تعلو وجهه الغبرة وترهقه القترة: وهو الذي أنكر وجود الله وتوحيده، وأعرض عن قبول ما جاءت به رسل الله.
قال القرطبي: لما ذكر أمر المعاش، ذكر أمر المعاد، ليتزودوا له بالأعمال الصالحة، وبالإنفاق مما امتنّ به عليهم.
فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ أي إذا جاءت القيامة أو صيحة يوم القيامة التي تصخ الأذن، أي تصمها فلا تسمع. والصاخّة: اسم من أسماء القيامة، عظّمه الله وحذّر عباده. قال البغوي: الصاخة: يعني صيحة يوم القيامة، سميت بذلك لأنها تصخّ الأسماع وتصمّ الآذان لشدتها، أي تبالغ في إسماعها حتى تكاد تصمّها.
وقال ابن جرير: لعله اسم للنفخة في الصور.
يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ، وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ، وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ أي إذا جاءت الصاخة حين يرى المرء أعز أقاربه وأخصهم لديه، وأولاهم بالحنو والرأفة والعطف، من أخ وأم وأب وزوجة وولد، ويفر منهم ويبتعد عنهم لأن الهول عظيم والخطب جليل، ولكل امرئ منهم يومئذ حال أو شغل يشغله عن الأقرباء ويصرفه منهم، ويفرّ عنهم، حذرا من مطالبتهم إياه بشيء يهمهم، ولئلا يروا ما هو فيه من الشدة، وهو كقوله تعالى: يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً، وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ
[الدخان ٤٤/ ٤١] وقوله سبحانه: وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً [المعارج ٧٠/ ١٠].
والمراد: أن الذين كان المرء في دار الدنيا يفر إليهم ويستجير بهم، فإنه يفر منهم في دار الآخرة. وفائدة الترتيب واضحة، وهي الفرار من الأبعد وهو الأخ، ثم من الأبوين، ثم من الزوجة والولد، من قبيل الترقي إلى الأحب عادة والأقرب، قال الزمخشري: بدأ بالأخ، ثم بالأبوين لأنهما أقرب منه، ثم الصاحبة والبنين لأنهم أقرب وأحب، كأنه قال: يفر من أخيه، بل من أبويه، بل من صاحبته وبنيه. وأيده الرازي في هذا.
وعقب النظام النيسابوري في غرائب القرآن على ذلك فقال: هذا القول يستلزم أن تكون الصاحبة أقرب وأحب من الأبوين، ولعله خلاف العقل
والأظهر أن الفرار المعنى: هو قلة الاهتمام بشأن هؤلاء، بدليل قوله:
لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ أي يصرفه ويصدّه عن قرابته «٢».
روى ابن أبي حاتم والنسائي والترمذي عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «تحشرون حفاة عراة مشاة غرلا، أي غير مختونين، قال:
فقالت زوجته: يا رسول الله، ننظر أو يرى بعضنا عورة بعض؟ قال: لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ» أو قال: «ما أشغله عن النظر!!».
ثم ذكر الله تعالى أحوال الناس حينئذ وانقسامهم في ذلك اليوم إلى سعداء وأشقياء، فقال واصفا السعداء أولا:
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ، ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ أي يكون الناس هنالك فريقين: وجوه متهللة مشرقة مضيئة، وهي وجوه المؤمنين أهل الجنة لأنهم قد علموا إذ ذاك ما لهم من النعيم والكرامة.
ثم وصف الأشقياء بقوله:
وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ، تَرْهَقُها قَتَرَةٌ، أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ أي ووجوه أخرى في القيامة عليها غبار وكدورة، لما تراه مما أعدّه الله لها من
(٢) غرائب القرآن، المكان السابق.
ووجود هذين الفريقين في هذه الآية ونحوها لا يقتضي نفي وجود فريق ثالث وهم المؤمنون العصاة أو الفساق، كما قال الرازي «١».
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- إذا جاءت صيحة القيامة وهي النفخة الثانية أو الأخيرة، والتي يهرب في يومها الأخ من أخيه، والولد من والديه، والزوج من زوجته وأولاده، لاشتغاله بنفسه، يكون لكل إنسان يومئذ حال أو شغل يشغله عن غيره.
جاء في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلا» قلت:
يا رسول الله! الرجال والنساء جميعا ينظر بعضهم إلى بعض؟ قال:
«يا عائشة، الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض».
ولفظ
رواية الترمذي عن ابن عباس: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «يحشرون حفاة عراة غرلا، فقالت امرأة: أينظر بعضنا، أو يرى بعضنا عورة بعض؟
قال: حديث حسن صحيح.
٢- يكون الناس يوم القيامة فريقين: فريق وجوههم مشرقة مضيئة، مسرورة فرحة مستبشرة بما آتاها الله من الكرامة، قد علمت ما لها من الفوز والنعيم، وهي وجوه المؤمنين. وفريق وجوههم يعلوها غبار ودخان تغشاها ظلمة وسواد، وهي وجوه الكافرين بالله وبرسله، العاصين الكاذبين المفترين على الله تعالى.
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة التكويرمكيّة، وهي تسع وعشرون آية.
تسميتها:
سميت سورة التكوير، لافتتاحها بقوله تعالى: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ أي جمع بعضها إلى بعض، ثم لفّت، فرمى بها، ومحى ضوؤها.
مناسبتها لما قبلها:
توضح كل من السورتين أهوال القيامة وشدائدها، ففي سورة عبس قال تعالى: فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ، يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ.. [٣٣- ٤٢] وفي هذه السورة قال سبحانه: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ.. إلخ، فلما ذكر سبحانه الطامة والصاخة في خاتمتي السورتين المتقدمتين، أردفهما بذكر سورتين مشتملتين على أمارات القيامة وعلامات يوم الجزاء.
ما اشتملت عليه السورة:
هذه السورة كغيرها من السور المكية تتعلق بالعقيدة، فهي تقرر ما يوجد في يوم القيامة من أحوال، وتثبت أن القرآن الكريم منزل من عند الله تعالى.
وقد ابتدأت ببيان أهوال القيامة، وما يصحبها من تغيرات كونية غريبة، تشمل كل ما يشاهده الإنسان في الدنيا من السماء وكواكبها، والأرض وجبالها وبحارها ووحوشها، والنفوس البشرية ومظالمها، وتبرز بعدئذ الجحيم ونيرانها، والجنة ونعيمها: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ.. [الآيات: ١- ١٤].