وتسمى سورة الصاخة وسورة السفرة وسميت في غير كتاب سورة الأعمى وهي مكية بلا خلاف وآيها اثنتان وأربعون في الحجازي والكوفي وإحدى وأربعون في البصري وأربعون في الشامي والمدني الأول
ﰡ
وتسمى سورة الصاخة وسورة السفرة وسميت في غير كتاب سورة الأعمى وهي مكية لا خلاف وآيها اثنتان وأربعون في الحجازي والكوفي، وإحدى وأربعون في البصري، وأربعون في الشامي والمدني الأول ولما ذكر سبحانه فيما قبلها إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها [النازعات: ٤٥] ذكر عز وجل في هذه من ينفعه الإنذار ومن لم ينفعه فقال عز من قائل:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى إلخ روي أن ابن أم مكتوم وهو ابن خال خديجة واسمه عمرو بن قيس بن زائدة بن جندب بن هرم بن رواحة بن حجر بن معيص بن عامر بن لؤي القرشي وقيل عبد الله بن عمرو وقيل عبد الله بن شريح بن مالك بن أبي ربيعة الفهري والأول أكثر وأشهر كما في جامع الأصول وأم مكتوم كنية أمه واسمها عاتكة بنت عبد الله المخزومية، وغلط الزمخشري في جعلها في الكشاف جدته وكان أعمى وعمي بعد نور وقيل ولد أعمى ولذا قيل لأمه أم مكتوم.
أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلم وعنده صناديد قريش عتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبو جهل والعباس بن عبد المطلب وأمية بن خلف والوليد بن المغيرة يناجيهم ويدعوهم إلى الإسلام رجاء أن يسلم بإسلامهم غيرهم فقال: يا رسول الله أقرئني وعلمني مما علمك الله تعالى وكرر ذلك ولم يعلم تشاغله بالقوم، فكره رسول الله صلّى الله عليه وسلم قطعه لكلامه وعبس وأعرض عنه فنزلت. فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يكرمه ويقول إذا رآه: «مرحبا بمن عاتبني فيه ربي» ويقول: «هل لك من حاجة».
واستخلفه صلّى الله عليه وسلم على المدينة فكان يصلي بالناس ثلاث عشرة مرة كما رواه ابن عبد البر في الاستيعاب عن
أَوْ يَذَّكَّرُ أي يتعظ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى أي ذكراك وموعظتك والمعنى أنك لا تدري ما هو مترقب منه من تزك أو تذكر ولو دريت لما كان الذي كان والغرض نفي دراية أنه يزكى أو يذكر والترجي راجع إلى الأعمى أو إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلم على ما قيل دلالة على أن رجاء تزكية أو كونه ممن يرجى منه ذلك كاف في الامتناع من العبوس والإعراض كيف وقد كان استزكاؤه محققا، ولما هضم من حقه في تعلق الرجاء به لا التحقق اعتبر متعلق التزكي بعض الأوضار ترشيحا لذلك وفيه إظهار ما يقتضي مقام العظمة هاهنا من إطلاق التزكي وحمله على ما ينطلق عليه الاسم لا الكامل. وقال بعضهم: متعلق الدراية محذوف أي ما يدريك أمره وعاقبة حاله ويطلعك على ذلك. وقوله سبحانه لَعَلَّهُ إلخ استئناف وارد لبيان ما يلوح به ما قبله فإنه مع إشعاره بأن له شأنا منافيا للإعراض عنه خارجا عن دراية الغير ودرائه مؤذن بأنه تعالى يدريه ذلك. واعتبر في التزكي الكمال فقال: أي لعله يتطهر بما يقتبس منك من أوضار الإثم بالكلية أو يتذكر فتنفعه موعظتك إن لم تبلغ درجة التزكي التام، ولعل الأول أبعد مغزى. وقدم التزكي على التذكر لتقدم التخلية على التحلية وخص بعضهم الثاني بما إذا كان ما يتعلمه من النوافل والأول بما إذا كان سوى ذلك وهو كما ترى وفي الآية تعريض وإشعار بأن من تصدى صلّى الله عليه وسلم لتزكيتهم وتذكيرهم من الكفرة لا يرجى منهم التزكي والتذكر أصلا فهي كقولك لمن يقرر مسألة لمن لا يفهمها وعنده آخر قابل لفهمها: لعل هذا يفهم ما تقرر فإنه يشعر بأنه قصد تفهيم غيره وليس بأهل لما قصده، وقيل: جاء التعريض من جهة أن المحدث عنه كان متزكيا من الآثام متعظا
لا أبتغي وصل من لا يبتغي صلتي | ولا ألين لمن لا يبتغي ليني |
والله لو كرهت كفي مصاحبتي | يوما لقلت لها عن صحبتي بيني |
والضمير في قوله تعالى إِنَّها للقرآن العظيم والتأنيث لتأنيث الخبر أعني قوله سبحانه تَذْكِرَةٌ أي موعظة يجب أن يتعظ بها ويعمل بموجبها وكذا الضمير في قوله عز وجل فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ والجملة والمؤكدة تعليل لما أفادته كلا ببيان علو رتبة القرآن العظيم الذي استغنى عنه من تصدى عليه الصلاة والسلام له والجملة الثانية اعتراض جيء به للترغيب في القرآن والحث على حفظه أو الاتعاظ به واقتران الجملة المعترض بها بالفاء قد صرح به ابن مالك في التسهيل من غير نقل اختلاف فيه وكلام الزمخشري في الكشاف عند الكلام على قوله تعالى فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ [النحل: ٤٣، الأنبياء: ٧] نص في ذلك نعم قيل إنه قيل له فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ اعتراض فقال لا لأن الاعتراض شرطه أن يكون بالواو أو بدونه فأما بالفاء فلا أي وهو استطراد لكن تعقب بأن النقل لمنافاته ذلك ليس بثبت، ويمكن أن يكون في القوم من ينكر ذلك فوافقه تارة وخالفه أخرى، وما ألطف قول السعد في التلويح الاعتراض يكون بالواو والفاء:
فاعلم فعلم المرء ينفعه هذا وقيل الضمير الأول للسورة أو للآيات السابقة والثاني للتذكرة والتذكير لأنها بمعنى الذكر والوعظ أو لمرجع الأول والتذكير باعتبار كون ذلك قرآنا ورجح بعدم ارتكاب التأويل قبل الاحتياج إليه وتعقب بأنه ليس بذاك فإن السورة أو الآيات وإن كانت متصفة بما سيأتي إن شاء الله تعالى من الصفات الشريفة لكنها ليست مما ألقى على من استغنى عنه واستحق بسبب ذلك ما سيأتي إن شاء الله تعالى من الدعاء عليه والتعجب من كفره المفرط لنزولها بعد الحادثة وجوز كون الضميرين للمعاتبة الواقعة وتذكير الثاني لكونها عتابا وفيه أنه يأباه الوصف بالصفات الآتية وإن كان باعتبار أن العتاب وقع بالآيات المذكورة قبل وهي متصفة بما ذكر جاء ما سمعت آنفا وقيل لك أن تجعلهما للدعوة إلى الإسلام وتذكير الثاني لكونها دعاء وهذا على ما فيه مما يأباه المقام. وقوله تعالى فِي صُحُفٍ متعلق بمضمر هو صفة لتذكرة أو خبر ثان لأن أي كائنة أو مثبتة في صحف والمراد بها الصحف المنتسخة من اللوح المحفوظ. وعن ابن عباس هي اللوح نفسه وهو غير ظاهر وقيل الصحف المنزلة على الأنبياء عليهم السلام كقوله تعالى وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ [الشعراء: ١٩٦] وقيل:
صحف المسلمين على أنه إخبار بالغيب فإن القرآن بمكة لم يكن في الصحف وإنما كان متفرقا في الدفاف والجريد ونحوهما، وأول ما جمع في صحيفة في عهد أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه وهو كما ترى مُكَرَّمَةٍ عند الله عز وجل مَرْفُوعَةٍ أي في السماء السابعة كما قال يحيى بن سلام أو مرفوعة القدر كما
وعن ابن عباس هم الملائكة المتوسطون بين الله تعالى وأنبيائه عليهم السلام على أن جمع سافر أيضا بمعنى سفير أي رسول وواسطة، والمشهور في مصدره بهذا المعنى السفارة بكسر السين وفتحها وجاء فيه السفر أيضا كما في القاموس. وقيل: هم الأنبياء عليهم السلام لأنهم سفراء بين الله تعالى والأمة أو لأنهم يكتبون الوحي ولا يخفى بعده فإن الأنبياء عليهم السلام وظيفتهم التلقي من الوحي لا الكتب لما يوحى على أن خاتمهم صلّى الله عليه وسلم لم يكن يكتب القرآن بل لم يكتب أصلا على ما هو الشائع وقد مر تحقيقه وكذا وظيفتهم إرشاد الأمة بالأمر والنهي وتعليم الشرائع والأحكام لا مجرد السفارة إليهم. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن وهب بن منبه أنهم أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلم قيل لأنهم سفراء ووسائط بينه عليه الصلاة والسلام وبين سائر الأمة، وقيل: لأن بعضهم يسفر إلى بعض في الخير والتعليم والتعلم وفي رواية عن قتادة أنهم القراء وكان القولين ليس بالمعول عليه وقد قالوا هذه اللفظة مختصة بالملائكة عليهم السلام لا تكاد تطلق على غيرهم وإن جاز الإطلاق بحسب اللغة ومادتها موضوعة بجميع تراكيبها لما يتضمن الكشف كسفرت المرأة إذا كشفت القناع عن وجهها والباء قيل متعلقة ب مُطَهَّرَةٍ وقيل بمضمر هو صفة أخرى ل صُحُفٍ كِرامٍ أي أعزاء على الله تعالى معظمين عنده عز وجل فهو من الكرامة بمعنى التوقير أو متعطفين على المؤمنين يستغفرون لهم ويرشدونهم إلى ما فيه الخير بالإلهام وينزلون بما فيه تكميلهم من الشرائع فهو من الكرم ضد اللؤم بَرَرَةٍ أي أتقياء وقيل مطيعين الله تعالى من قولهم فلان يبر خالقه أي يطيعه وقيل صادقين من بر في يمينه وهو جمع بر لا غير، وأما أبرار فيكون جمع بر كرب وأرباب وجمع بار كصاحب وأصحاب وإن منعه بعض النحاة لعدم اطّراده واختص على ما قيل الجمع الأول بالملائكة والثاني بالآدميين في القرآن ولسان الشارع صلّى الله عليه وسلم وكان ذلك لأن الأبرار من صيغ القلة دون البررة، ومتقو الملائكة أكثر من متقي الآدميين فناسب استعمال صيغة القلة وإن لم ترد حقيقتها في الآدميين دونهم. وقال الراغب. خص البررة بهم من حيث إنه أبلغ من أبرار فإنه جمع بر وأبرار جمع بار، وبر أبلغ من بار كما أن عدلا أبلغ من عادل وكأنه عنى أن الوصف ببر أبلغ لكونه من قبيل الوصف بالمصدر من الوصف ببار لكن قد سمعت أن أبرارا يكون جمع بر كما يكون جمع بار وأيضا في كون الملائكة أحق بالوصف بالأبلغ بالنسبة إلى الآدميين مطلقا بحث. وقيل: إن الأبرار أبلغ من البررة إذ هو جمع بار والبررة جمع بر وبار أبلغ منه لزيادة بنيته ولما كانت صفات الكمال في بني آدم تكون كاملة وناقصة وصفوا بالأبرار إشارة إلى مدحهم بأكمل الأوصاف، وأما الملائكة فصفات الكمال فيهم لا تكون ناقصة فوصفوا بالبررة لأنه يدل على أصل الوصف بقطع النظر عن المبالغة فيه لعدم احتياجهم لذلك وإشارة لفضيلة البشر لما في كونهم أبرارا من المجاهدة وعصيان داعي الجبلة وفيه ما لا يخفى ومن استعمال البررة في الملائكة ما
أخرجه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة عن عائشة قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأه وهو عليه شاق له أجران».
قُتِلَ الْإِنْسانُ دعاء عليه بأشنع الدعوات وأفظعها ما أَكْفَرَهُ تعجيب من إفراطه في الكفران وبيان لاستحقاقه الدعاء عليه والمراد به إما من استغنى عن القرآن الكريم الذي ذكرت نعوته الجليلة الموجبة للإقبال
أخرج ابن للمنذر عن عكرمة في عتبة بن أبي لهب غاضب أباه فأسلم ثم استصلحه أبوه وأعطاه مالا وجهزه إلى الشام، فبعث إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم إنه كافر برب النجم إذا هوى فقال صلّى الله عليه وسلم: «اللهم ابعث عليه كلبك حتى يفترسه»
فلما كان في أثناء الطريق ذكر الدعاء فجعل لمن معه ألف دينار إن أصبح حيا فجعلوه وسط الرفقة والمتاع حوله فأقبل أسد إلى الرحال ووثب فإذا هو فوقه فمزقه فكان أبوه يندبه ويبكي عليه ويقول: ما قال محمد صلّى الله عليه وسلم شيئا قط إلّا كان وسيأتي إن شاء الله تعالى خبر في هذه القصة أطول من هذا الخبر فلا تغفل ثم إن هذا كلام في غاية الإيجاز. وقد قال جار الله: لا ترى أسلوبا أغلظ منه ولا أدل على سخط ولا أبعد شوطا في المذمة مع تقارب طرفيه ولا أجمع للأئمة على قصر متنه حيث اشتمل على ما سمعت من الدعاء مرادا إذ لا يتصور منه تعالى لازمه وعلى التعجب المراد به لاستحالته عليه سبحانه التعجيب لكل سامع. وقال الإمام: إن الجملة الأولى تدل على استحقاقهم أعظم أنواع العقاب عرفا، والثانية تنبيه على أنهم اتصفوا بأعظم أنواع القبائح والمنكرات شرعا ولم يسمع ذلك قبل نزول القرآن وما نسب إلى امرئ القيس من قوله:
يتمنى المرء في الصيف الشتا | فإذا جاء الشتا أنكره |
فهو لا يرضى بحال واحد | قتل الإنسان ما أكفره |
هو سبيل الهدى والضلال أي سهل له الطريق الذي يريد سلوكه من طريق الخير والهدى وطريق الشر والضلال بأن أقدره عز وجل على كل ومكنه منه والإقدار على المراد نعمة ظاهرة بقطع النظر عن خيريته وشريته فلا يرد عليه أنه كيف يعد تسهيل طريق الشر والضلال من النعم وقل إنه عد منها لأنه لو لم يكن مسهلا كسبيل الخير لم يستحق المدح والثواب بالإعراض عنه وتركه مبني على القول بأن ترك المحرم كالزنا مع عدم القدرة عليه
العجز عن الشر نعمة وأنشد:
جكونه شكر ابن نعمت كزارم | كه زور مردم آزارى ندارم |
وفي تعريفه باللام دون الإضافة إشعار بعمومه فإنه لو قيل سبيله أوهم أنه على التوزيع وإن لكل إنسان سبيلا يخصه وخص بعضهم هذه النكتة بالمعنى الأخير للسبيل فتدبر. وعلى هذا المعنى قيل إن فيه إيماء إلى أن الدنيا طريق المقصد غيرها لما أشعرت به الآية من أن الميسر سبيل المكلفين الذي يترتب عليه الثواب والعقاب وفيه خفاء وأيّا ما كان فالضمير المنصوب في يَسَّرَهُ للسبيل وليس في التفكيك لبس حتى يكون نقصا في البيان ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ أي جعله ذا قبر توارى فيه جيفته تكرمة له ولم يجعله مطروحا على الأرض يستقذره من يراه وتقتسمه السباع والطير إذا ظفرت به كسائر الحيوان والمراد من جعله إذا قبر أمره عز وجل بدفنه يقال: قبر الميت إذا دفنه بيده، ومنه قول الأعشى:
لو أسندت ميتا إلى نحرها | عاش ولم ينقل إلى قابر |
والظاهر عليه أن كَلَّا بمعنى حقا أيضا وقوله سبحانه فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ على معنى إذا كان هذا حال الإنسان وهو أنه إلى الآن لم يقض ما أمره مع أن مقتضى النعم السابقة القضاء فلينظر إلى طعامه إلخ لعله يقضي. وفي الحواشي العصامية لا يخفى ما في قوله تعالى لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ من كمال تهييج الإنسان وتحريضه على امتثال ما يعقبه من الأمر بالنظر وتفريع الأمر عليه مبني على أن الائتمار كما ينبغي أن يتيسر بعد الارتداع عما هو عليه، والظاهر أن المراد بالإنسان هنا نحو ما أريد به في قوله تعالى قُتِلَ الْإِنْسانُ ولما جوز صاحب الحواشي المذكورة حمل عدم القضاء على السلب الكلي وجعل الكلام في الإنسان المبالغ في الكفر قال: فالمراد بضمير يَقْضِ غير الإنسان الذي أمر بالنظر فإنه عام فلذا أظهر وتضمن ما مر ذكر النعم الذاتية أي ما يتعلق بذات الإنسان من الذات نفسها ولوازمها، وهذا ذكر النعم الخارجية المقابلة لذلك وقيل: الأولى نعم خاصة والثانية نعم عامة. وقيل: تلك نعم متعلقة بالحدوث وهذه نعم متعلقة بالبقاء وفيه نظر. والظاهر أن المراد بالطعام المطعوم بأنواعه واقتصر عليه ولم يذكر المشروب لأن آثار القدرة فيه أكثر من آثارها في المشروب واعتبار التغليب لا يخفى ما فيه.
وقوله تعالى أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ بدل منه بدل اشتمال فإنه لكونه من أسباب تكونه كالمشتمل عليه والعائد محذوف أي صببنا له، وجوز كونه بدل كل من كل على معنى فلينظر الإنسان إلى إنعامنا في طعامه إنا صببنا إلخ وهو كما ترى وأيّا ما كان فالمقصود بالنظر هو البدل وبذلك يضعف ما روي عن أبيّ وابن عباس ومجاهد والحسن وغيرهم أن المعنى فلينظر إلى طعامه إذا صار رجيعا ليتأمل عاقبة الدنيا وما تهالك عليه أهلها، ولعمري إن هذا بعيد الإرادة عن السياق ولا أظن أنه وقع على صحة روايته عن هؤلاء الأجلّة الاتفاق. وظاهر الصب يقتضي تخصيص الماء بالغيث وهو المروي عن ابن عباس وجوز بعضهم إرادة الأعم. وقال: إن في كل ماء صبا من الله تعالى بخلق أسبابه على أصول النباتات وأنت تعلم أن إيصال الماء إلى أصول النباتات يبعد تسميته صبا وتأكيد الجملة للاعتناء بمضمونها مع كونها مظنة لإنكار القاصر لعدم الإحساس بفعل من الله تعالى وإنما يعرف الاستناد إليه عز وجل بالنظر الصحيح. وقرأ الأكثر «إنّا» بالكسر على الاستئناف البياني كأنه لما أمر سبحانه بالنظر إلى ما رزقه جل وعلا من أنواع المأكولات قيل كيف أحدث ذلك وأوجد بعد أن لم يكن فقيل أَنَّا صَبَبْنَا إلخ
وقرأ الإمام الحسين ابن أمير المؤمنين علي كرم الله تعالى وجههما ورضي سبحانه
على معنى فلينظر الإنسان كيف صببنا الماء صَبًّا عجيبا ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ أي بالنبات كما قال ابن عباس شَقًّا بديعا لائقا بما يشقها من النبات صغرا وكبرا وشكلا وهيئة.
وقيل: شقها بالكراب وإسناده إلى ضميره تعالى مجاز من باب الإسناد إلى السبب وإن كان الله تعالى عز وجل هو الموجد حقيقة فقد تبين في موضعه أن إسناد الفعل حقيقة لمن قام به لا من صدر عنه إيجادا ولهذا يشتق اسم الفاعل له وتعقب بأنه يأباه كلمة ثم والفاء في قوله تعالى فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا فإن الشق بالمعنى المذكور لا ترتب بينه وبين الإمطار أصلا ولا بينه وبين إنبات الحب بلا مهلة فإن المراد بالنبات ما نبت من الأرض إلى أن يتكامل النمو وينعقد الحب فإن انشقاق الأرض بالنبات لا يزال يتزايد ويتسع إلى تلك المرتبة على أن مساق النظم الكريم لبيان النعم الفائضة من جنابه تعالى على وجه بديع خارج عن العادات المعهودة كما ينبىء منه إرداف الفعلين بالمصدرين فتوسيط فعل المنعم عليه في حصول تلك النعم مخل بالمرام وللبحث فيه مجال. وقيل عليه أيضا إن الشق بالكراب لا يظهر في العنب والزيتون والنخل وأجيب بأنه ليس من لوازم العطف تقييد المعطوف بجميع ما قيد به المعطوف عليه ويحتمل أن يكون ذكر الكراب في القيل على سبيل التمثيل، أو أريد به ما يشمل الحفر وجوز أن يكون المراد شقها بالعيون على أن المراد بصب الماء إمطار المطر وبهذا إجراء الأنهار، وتعقب بأنه يأباه ترتب الشق على صب الماء بكلمة التراخي وأيضا ترتيب الإنبات على مجموع الصب والشق بالمعنى المذكور لا يلائم قوله تعالى وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا [النبأ: ١٤، ١٥] الآية لإشعارة باستقلال الصب وإنزال الغيث في ذلك، ودفعا بأن ماء العيون من المطر لا من الأبخرة المحتبسة في الأرض ولا يخفى على ذي عين أن هذا الوجه بعيد متكلف. والمراد بالحب جنس الحبوب التي يتقوت بها وتدخر كالحنطة والشعير والذرة وغيرها وَعِنَباً معروف وَقَضْباً أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال هو الفصفصة وقيدها الخليل بالرطبة وقال:
إذا يبست فهي القت وسميت بمصدر قضبه أي قطعة مبالغة كأنها لتكرر قطعها وتكثره نفسه القطع، وضعف هذا من فسر الأب بما يشمل ذلك وقيل هو كل ما يقضب ليأكله ابن آدم غضا من النبات كالبقول والهليون.
وفي البحر عن الحبر إنه الرطب وهو يقضب من النخل واستأنس له بذكره مع العنب ولا يخفى ما فيه وَزَيْتُوناً وَنَخْلًا هما معروفان وَحَدائِقَ رياضا غُلْباً أي عظاما وأصله جمع أغلب وغلباء صفة العنق وقد يوصف به الرجل لكن الأول هو الأغلب ومنه قول الأعشى:
يمشي بها غلب الرقاب كأنهم | بزل كسين من الكحيل (١) جلالا |
جذمنا (١) قيس ونجد دارنا | ولنا الأب بها والمكرع |
له دعوة ميمونة ريحها الصبا | بها ينبت الله الحصيدة والأبا |
ترى به الأب واليقطين مختلطا ووقع في شعر بعض الصحابة كما سمعت ومن تتبع وجد غير ذلك. مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ قيل إما مفعول له أي فعل ذلك تمتيعا لكم ولمواشيكم فإن بعض النعم المعدودة طعام لهم وبعضها علف لدوابهم ويوزع وينزل كل على مقتضاه والالتفات لتكميل الامتناع، وإما مصدر مؤكد لفعله المضمر بحذف الزوائد أي متعكم بذلك متاعا أو لفعل مرتب عليه أي فتمتعتم بذلك متاعا أي تمتعا أو مصدر من غير لفظه فإن ما ذكر
أصم بك الداعي وإن كان أسمعا ثم قال: ولعمر الله تعالى إن صيحة القيامة مسمعة تصم عن الدنيا وتسمع أمور الآخرة. والكلام في جواب (إذا) وفي يَوْمَ من قوله تعالى يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ أي زوجته وَبَنِيهِ على نحو ما تقدم في النازعات فتذكره فما في العهد من قدم أي يوم يعرض عنهم ولا يصاحبهم.
ولا يسأل عن حالهم كما في الدنيا لاشتغاله بحال نفسه كما يؤذن به قوله تعالى لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ فإنه استئناف وارد لبيان سبب الفرار وجعله جواب فَإِذا والاعتذار عن عدم التصدير بالفاء بتقدير الماضي بغير قد أو المضارع المثبت أو بالفاء إبدال يوم يفر المرء عنه إياه لأن البدل لا يطلب جزاء لا يخفى حاله على من شرط الإنصاف على نفسه أي لكل واحد من المذكورين شغل شاغل وخطب هائل يكفيه في الاهتمام به.
وأخرج الطبراني وابن مردويه والبيهقي والحاكم وصححه عن أم المؤمنين سودة بنت زمعة قالت:
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلا قد ألجمهم العرق وبلغ شحوم الآذان» قلت: يا رسول الله وا سوأتاه ينظر بعضهم إلى بعض؟ قال: «شغل الناس عن ذلك» وتلا يَوْمَ يَفِرُّ الآية
وجاء في رواية الطبراني عن سهل بن سعد أنه قيل له عليه الصلاة والسلام: ما شغلهم؟ فقال صلّى الله عليه وسلم: «نشر الصحائف فيها مثاقيل الذر ومثاقيل الخردل»
. وقيل يفر منهم لعلمه أنهم لا يغنون عنه شيئا وكلام الكشاف يشعر بذلك ويأباه ما سمعت وكذا ما قيل يفر منهم حذرا من مطالبتهم بالتبعات يقول الأخ لم تواسني بمالك، والأبوان قصرت في برنا، والصاحبة أطعمتني الحرام وفعلت وصنعت، والبنون لم تعلمنا ولم ترشدنا ويشعر بذلك ما أخرج أبو عبيد وابن المنذر عن قتادة قال: ليس شيء أشد على الإنسان يوم القيامة من أن يرى من يعرفه مخافة أن يكون يطلبه بمظلمة. ثم قرأ يَوْمَ يَفِرُّ الآية وذكر المرء بناء على أنه الرجل لا الإنسان ليعلم منه حال المرأة من باب أولى. وقيل: هو من باب التغليب وفيه نظر وجعل القاضي ذكر المتعاطفات على هذا النمط من باب الترقي على اعتبار الأب على الأم سابقا على عطفهما على الأخ فيكون المجموع معطوفا عليه وكذا في صاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ فقال: تأخير الأحب فالأحب للمبالغة كأنه قيل: يفر من أخيه بل من أبويه بل من صاحبته وبنيه، ولا يخفى تكلفه مع اختلاف الناس والطباع في أمر الحب ولعل عدم مراعاة ترق أو تدل لهذا الاختلاف مع الرمز إلى أن الأمر يومئذ أبعد من أن يخطر بالبال فيه ذلك.
وروي عن ابن عباس أنه يفر قابيل من أخيه هابيل، ويفر النبي صلّى الله عليه وسلم من أمه، ويفر إبراهيم عليه السلام من أبيه، ويفر نوح عليه السلام من ابنه، ويفر لوط عليه السلام من امرأته. وفي خبر رواه ابن عساكر عن الحسن نحو ذلك
وفيه فيرون أن هذه الآية أعني يوم يفر
كم من أب قد سما بابن ذرى شرف | كما سما برسول الله عدنان |
قوله صلّى الله عليه وسلم: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه»
لا من عناه إذا قصده كما زعمه أبو حيان. وقوله تعالى وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ بيان لمآل أمر المذكورين وانقسامهم إلى السعداء والأشقياء بعد ذكر وقوعهم في داهية دهياء ف وُجُوهٌ مبتدأ وسوغ الابتداء به كونه في حيز التنويع كما مر ومُسْفِرَةٌ خبره ويَوْمَئِذٍ متعلق به أي مضيئة متهللة من أسفر الصبح إذا أضاء وعن ابن عباس إن ذلك من قيام الليل. وعن الضحاك من آثار الوضوء فيختص ذلك بهذه الأمة أي لأن الوضوء من خواصهم قيل أي بالنسبة إلى الأمم السابقة فقط لا مع أنبيائهم عليهم السلام وقيل من طول ما اغبرّت في سبيل الله تعالى ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ أي مسرورة بما تشاهد من النعيم المقيم والبهجة الدائمة وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ أي غبار وكدورة تَرْهَقُها أي تعلوها وتغشاها قَتَرَةٌ أي سواد وظلمة ولا ترى أوحش من اجتماع الغرة والسواد في الوجه وسوّى الفيروزآبادي والجوهري بين الغبرة والقترة فقيل المراد بالقترة الغبار حقيقة، وبالغبرة ما يغشاهم من العبوس من الهم. وقيل: هما على حقيقتهما والمعنى أن عليها غبارا وكدورة فوق غبار وكدورة.
وقال زيد بن أسلم: الغبرة ما انحطت إلى الأرض والقترة ما ارتفع إلى السماء، والمراد وصول الغبار إلى وجوههم من فوق ومن تحت والمعول عليه ما تقدم. وقرأ ابن أبي عبلة «قترة» بسكون التاء أُولئِكَ إشارة إلى أصحاب تلك الوجوه وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد درجتهم في سوء الحال أي أولئك الموصوفون بما ذكر هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ أي الجامعون بين الكفر والفجور فلذلك جمع الله تعالى لهم بين الغبرة والقترة وكان الغبرة للفجور والقترة للكفور نعوذ بالله عز وجل من ذلك.