تفسير سورة المؤمنون

تفسير الألوسي
تفسير سورة سورة المؤمنون من كتاب روح المعاني المعروف بـتفسير الألوسي .
لمؤلفه الألوسي . المتوفي سنة 1342 هـ
سورة المؤمنون
عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وفي البحر هي مكية بلا خلاف واستثنى منها كما في الأنفال قوله تعالى حتى إذا أخذناهم مترفين إلى قوله سبحانه مبلسون واستشكل الحكم على ما عداه بكونه مكيا لما فيه من ذكر الزكاة وهي إنما فرضت بالمدينة وأجيب بأنه بعد تسليم أن ما ذكر فيه يدل على فرضيتها يقال إن الزكاة كانت واجبة بمكة والمفروض بالمدينة ذات النصب وتستمع تمام الكلام في ذلك إن شاء الله تعالى وهي كما في كتاب العدد للداني الطبرسي مائة وثمان وعشرة آية في الكوفي ومائة وسبع عشر آية في الباقي وقد مدح النبي صلى الله عليه وسلم العشر الأول منها فقد أخرج أحمد والترمذي والنسائي والحاكم وصححه والضياء في المختارة وغيرهم عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال كان إذا نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي نسمع عند وجهه كدوي النحل فأنزل عليه يوما فمكتا ساعة فسري عنه فاستقبل القبلة فرفع يديه فقال اللهم زدنا ولا تنقصنا وأكرمنا ولا تهنا وأعطنا ولا تحرمنا وآثرنا ولا تؤثر علينا وارض عنا وأرضنا ثم قال لقد أنزلت علي عشر آيات من أقامهن دخل الجنة ثم قرأ قد أفلح المؤمنون حتى ختم العشر ومناسبتها لآخر السور قبلها ظاهرة لأنه تعالى خاطب المؤمنين بقوله سبحانه يا أيها الذين آمنوا اركعوا الآية وفيها لعلكم تفلحون فناسب أن يحقق ذلك فقال عز قائلا بسم الله الرحمن الرحيم ﴿ قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون ﴾.

سورة المؤمنون
مكية كما أخرج ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وفي البحر هي مكية بلا خلاف، واستثنى منها كما يقال في الإتقان قوله تعالى: حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ [المؤمنون: ٦٤] إلى قوله سبحانه: مُبْلِسُونَ [المؤمنون: ٧٧] واستشكل الحكم على ما عداه بكونه مكيا لما فيه من ذكر الزكاة وهي إنما فرضت بالمدينة، وأجيب بأنه بعد تسليم أن ما ذكر فيه يدل على فرضيتها يقال: إن الزكاة كانت واجبة بمكة والمفروض بالمدينة ذات النصب وستسمع تمام الكلام في ذلك إن شاء الله تعالى وهي كما في كتاب العدد للداني ومجمع البيان للطبرسي مائة وثمان عشرة آية في الكوفي ومائة وسبع عشرة آية في الباقي، وقد مدح النبي صلّى الله عليه وسلّم العشر الأول منها
فقد أخرج أحمد والترمذي والنسائي والحاكم وصححه والضياء في المختارة وغيرهم عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: «كان إذا نزل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الوحي نسمع عند وجهه كدوي النحل فأنزل عليه يوما فمكثنا ساعة فسري عنه فاستقبل القبلة فرفع يديه فقال: اللهم زدنا ولا تنقصنا وأكرمنا ولا تهنا وأعطنا ولا تحرمنا وآثرنا ولا تؤثر علينا وارض عنا وارضنا ثم قال: «لقد أنزلت عليّ عشر آيات من أقامهن دخل الجنة» ثم قرأ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [المؤمنون: ١]
حتى ختم العشر، ومناسبتها لآخر السورة قبلها ظاهرة لأنه تعالى خاطب المؤمنين بقوله سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا [المؤمنون: ١. ٢٢] لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الحج: ٧٧] فناسب أن يحقق ذلك فقال عز قائلا:
205
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ والفلاح الفوز بالمرام، وقيل: البقاء في الخير والإفلاح الدخول في ذلك كالإبشار الذي هو الدخول بالبشارة، وقد يجيء متعديا وعليه قراءة طلحة بن مصرف وعمرو بن عبيد «أفلح» بالبناء للمفعول، وقَدْ لثبوت أمر متوقع وتحققه، والظاهر أنه هنا الفلاح لأن قد دخلت على فعله وهو متوقع الثبوت من حال المؤمنين، وجعله الزمخشري الأخبار بثباته وذلك لأن الفلاح مستقبل أبرز في معرض الماضي مؤكدا بقد دلالة على تحققه فيفيد تحقق البشارة وثباتها كأنه قيل: قد تحقق أن المؤمنين من أهل الفلاح في الآخرة، وجوز أن يكون جملة قَدْ أَفْلَحَ جواب قسم محذوف وقد ذكر الزجاج في قوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها [الشمس: ٩] أنه جواب القسم المذكور قبله بتقدير اللام.
وقرأ ورش عن نافع «قد أفلح» بإلقاء حركة الهمزة على الدال وحذفها لفظا لالتقاء الساكنين كما قال أبو البقاء وهما الهمزة الساكنة بعد نقل حركتها والدال الساكنة بحسب الأصل لأنه لا يعتد بحركتها العارضة.
وقرأ طلحة أيضا «وقد أفلحوا» بضم الهمزة والحاء وإلقاء واو الجمع وهي مخرجة على لغة أكلوني البراغيث، وقول ابن عطية هي قراءة مردودة مردود، وعن عيسى بن عمر قال: سمعت طلحة يقرأ «قد أفلحوا المؤمنون» فقلت له:
أتلحن؟ قال: نعم كما لحن أصحابي، ولعل مراده أن مرجع قراءتي الرواية ومتى صحت في شيء لا يكون لحنا في نفس الأمر وإن كان كذلك ظاهرا، وإثبات الواو في الرسم مروي عن كتاب ابن خالويه.
وفي اللوامح أنها حذفت في الدرج لالتقاء الساكنين وحملت الكتابة على ذلك فهي محذوفة فيها أيضا، ونظير ذلك يَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ [الشورى: ٢٤] وقد جاء حذف الواو لفظا وكتابة والاكتفاء بالضمة الدالة عليها كما في قوله:
ولو أن الأطباء كان حولي وكان مع الأطباء الاساة
وهو ضرورة عند بعض النحاة، والمراد بالمؤمنين قيل إما المصدقون بما علم ضرورة أنه من دين نبينا صلّى الله عليه وسلّم من التوحيد والنبوة والحشر الجسماني والجزاء ونظائرها فقوله تعالى: الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ وما عطف عليه صفات مخصصة لهم، وإما الآتون بفروعه أيضا كما ينبىء عنه إضافة الصلاة إليهم فهي صفات موضحة أو مادحة لهم، وفي بعض الآثار ما يؤيد كونها مخصصة وجعل الزمخشري الإضافة للإشارة إلى أنهم هم المنتفعون بالصلاة دون المصلى له عز وجل، والخشوع التذلل مع خوف وسكون للجوارح، ولذا قال ابن عباس فيما رواه عنه ابن جرير وغيره خاشعون خائفون ساكنون وعن مجاهد أنه غض البصر وخفض الجناح، وقال مسلم بن يسار وقتادة: تنكيس الرأس،
وعن علي كرّم الله تعالى وجهه ترك الالتفات
، وقال الضحاك: وضع اليمين على الشمال.
وعن أبي الدرداء إعظام المقام وإخلاص المقال واليقين التام وجمع الاهتمام، ويتبع ذلك ترك الالتفات وهو من
206
الشيطان
فقد روى البخاري وأبو داود والنسائي عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الالتفات في الصلاة فقال: «هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد».
وأخرج ابن أبي شيبة عن أبي هريرة أنه قال في مرضه: أقعدوني أقعدوني فإن عندي وديعة أودعنيها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يلتفت أحدكم في صلاته فإن كان لا بدّ فاعلا ففي غير ما افترض الله تعالى عليه».
وترك العبث بثيابه أو شيء من جسده، وإنكار منافاته للخشوع مكابرة، وقد أخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول لكن بسند ضعيف
عن أبي هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه رأى رجلا يعبث بلحيته في صلاته فقال: «لو خشع قلب هذا خشعت جوارحه»
، وترك رفع البصر إلى السماء وإن كان المصلي أعمى وقد جاء النهي عنه،
فقد أخرج مسلم وأبو داود وابن ماجة عن جابر بن سمرة قال: «قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لينتهين أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة أو لا ترجع إليهم»
وكان قبل نزول الآية غير منهي عنه،
فقد أخرج الحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في سننه عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان إذا صلى رفع بصره إلى السماء فنزلت الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ فطأطأ رأسه
، وترك الاختصار وهو وضع اليد على الخاصرة وقد ذكروا أنه مكروه،
وجاء عنه صلّى الله عليه وسلّم «الاختصار في الصلاة أصل النار»
أي إن ذلك فعل اليهود في صلاتهم استراحة وهم أهل النار لا أن فيها راحة كيف وقد قال تعالى: لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ [الزخرف: ٧٥] ومن أفعالهم أيضا فيها التميل وقد جاء النهي عنه.
أخرج الحكيم الترمذي من طريق القاسم بن محمد عن أسماء بنت أبي بكر عن أم رومان والدة عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: رآني أبو بكر رضي الله تعالى عنه أتميل في صلاتي فزجرني زجرة كدت أنصرف عن صلاتي ثم قال: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إذا قام أحدكم في الصلاة فليسكن أطرافه لا يتميل تميل اليهود فإن سكون الأطراف في الصلاة من تمام الصلاة»
وقال في الكشاف: من الخشوع أن يستعمل الآداب وذكر من ذلك توقي كف الثوب والتمطي والتثاؤب والتغميض (١) وتغطية الفم والسدل والفرقعة والتشبيك وتقلب الحصى، وفي البحر نقلا عن التحرير أنه اختلف في الخشوع هل هو من فرائض الصلاة أو من فضائلها ومكملاتها على قولين والصحيح الأول ومحله القلب اهـ، والصحيح عندنا خلافه، نعم الحق أنه شرط القبول لا الإجزاء.
وفي المنهاج وشرحه لابن حجر ويسن الخشوع في كل صلاته بقلبه بأن لا يحضر فيه غير ما هو فيه وإن تعلق بالآخرة وبجوارحه بأن لا يعبث بأحدها، وظاهر أن هذا مراد النووي من الخشوع لأنه سيذكر الأول بقوله: ويسن دخول الصلاة بنشاط وفراغ قلب إلا أن يجعل ذلك سببا له ولذا خصه بحالة الدخول.
وفي الآية المراد كل منهما كما هو ظاهر أيضا، وكان سنة لثناء الله تعالى في كتابه العزيز على فاعليه ولانتفاء ثواب الصلاة بانتفائه كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة، ولأن لنا وجها اختاره جمع أنه شرط للصحة لكن في البعض فيكره الاسترسال مع حديث النفس والعبث كتسوية ردائه أو عمامته لغير ضرورة من تحصيل سنة أو دفع مضرة، وقيل يحرم اهـ، وللإمام في هذا المقام كلام طويل من أراده فليرجع إليه.
وتقديم الظرف قيل لرعاية الفواصل، وقيل ليقرب ذكر الصلاة من ذكر الإيمان فإنهما أخوان وقد جاء إطلاق
(١) قيل هو فعل اليهود وجاء النهي عنه لكن من طريق ضعيف، وقال النووي: عندي أنه لا يكره ما لم يخف ضررا انتهى، وربما يقال: إن فيه منعا لتفريق الذهن فيكون سببا لحضور القلب والخشوع، ولذا أفتى ابن عبد السلام بأنه أولى إذا شوش عدمه خشوعه أو حضور قلبه مع ربه عز وجل اهـ منه.
207
الإيمان عليها في قوله تعالى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ [البقرة: ١٤٣] وقيل للحصر على معنى الذين هم في جميع صلاتهم دون بعضها خاشعون، وفي تقديم وصفهم بالخشوع في الصلاة على سائر ما يذكر بعد ما لا يخفى من التنويه بشأن الخشوع، وجاء أن الخشوع أول ما يرفع من الناس، ففي خبر رواه الحاكم وصححه أن عبادة بن الصامت قال: يوشك أن تدخل المسجد فلا ترى فيه رجلا خاشعا.
وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد في الزهد والحاكم وصححه عن حذيفة قال: «أول ما تفقدون من دينكم الخشوع وآخر ما تفقدون من دينكم الصلاة وتنتقض عرى الإسلام عروة عروة» الخبر
وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ وهو ما لا يعتد به من الأقوال والأفعال، وعن ابن عباس تفسيره بالباطل، وشاع في الكلام الذي يورد لا عن روية وفكر فيجري مجرى اللغاء وهو صوت العصافير ونحوها من الطير وقد يسمى كل كلام قبيح لغوا، ويقال فيه كما قال أبو عبيدة لغو ولغا نحو عيب وعاب، وأنشد. عن اللغا ورفث التكليم. مُعْرِضُونَ في عامة أوقاتهم لما فيه من الحالة الداعية إلى الإعراض عنه مع ما فيهم من الاشتغال بما يعنيهم، وهذا أبلغ من أن يقال: لا يلهون من وجوه، جعل الجملة اسمية دالة على الثبات والدوام، وتقديم الضمير المفيد لتقوي الحكم بتكريره، والتعبير في المسند بالاسم الدال كما شاع على الثبات، وتقديم الظرف عليه المفيد للحصر، وإقامة الإعراض مقام الترك ليدل على تباعدهم عنه رأسا مباشرة وتسببا وميلا وحضورا فإن أصله أن يكون في عرض أي ناحية غير عرضه وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ الظاهر أن المراد بالزكاة المعنى المصدري- أعني التزكية- لأنه الذي يتعلق به فعلهم، وأما المعنى الثاني وهو القدر الذي يخرجه المزكي فلا يكون نفسه مفعولا لهم فلا بد إذا أريد من تقدير مضاف أي لأداء الزكاة فاعلون أو تضمين فاعِلُونَ معنى مؤدون وبذلك فسره التبريزي إلا أنه تعقب بأنه لا يقال فعلت الزكاة أي أديتها، وإذا أريد المعنى الأول أدى وصفهم بفعل التزكية إلى أداء العين بطريق الكناية التي هي أبلغ، وهذا أحد الوجوه للعدول عن والذين يزكون إلى ما في النظم الكريم.
وجميع ما مر آنفا في بيان أبلغية وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ من والذين لا يلهون جار هنا سوى الوجه الخامس اتفاقا والرابع عند بعض لأن المقدم متعلق تعلق الجار والمجرور بما بعده كيف واللام زائدة لتقوية العمل من وجهين، تقديم المعمول، وكون العامل اسما.
وقال بعض آخر: يمكن جريان مثله حيث قدم المعمول مع ضعف عامله لا للتخصيص بل لكونه مصب الفائدة، ويجوز اعتبار التخصيص الإضافي أيضا بالنسبة إلى الإنفاق فيما لا يليق، ووصفهم بذلك بعد وصفهم بالخشوع في الصلاة للدلالة على أنهم لم يألوا جهدا بالعبادة البدنية والمالية، وتوسيط حديث الإعراض بينهما لكمال ملابسته بالخشوع في الصلاة وإلا فأكثر ما تذكر هاتان العبادتان في القرآن معا بلا فاصل.
وعن أبي مسلم أن الزكاة هنا بمعنى العمل الصالح كما في قوله: خَيْراً مِنْهُ زَكاةً [الكهف: ٨١] واختار الراغب أن الزكاة بمعنى الطهارة واللام للتعليل، والمعنى والذين يفعلون ما يفعلون من العبادة ليزكيهم الله تعالى أو ليزكوا أنفسهم، ونقل نحوه الطيبي عن صاحب الكشف فقال: قال صاحب الكشف: معنى الآية الذين هم لأجل الطهارة وتزكية النفس عاملون الخير، ويرشد إلى ذلك قوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى [الأعلى: ١٤، ١٥] وقَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها [الشمس: ٩] فإن القرآن يفسر بعضه بعضا ولا ينبغي أن يعدل عن تفسير بعضه ببعض ما أمكن، وقال بعض الأجلة: إن اقتران ذلك بالصلاة ينادي على أن المراد وصفهم بأداء الزكاة الذي هو عبادة مالية، وتنظير ما نحن فيه بالآيتين بعيد لأنهما ليستا من هذا القبيل في شيء، وربما يقال: الفصل بينهما يشعر
208
بما اختاره الراغب ومن حذا حذوه، وأيضا كون السورة مكية والزكاة فرضت بالمدينة يؤيده لئلا يحتاج إلى التأويل بما مر فتدبر.
وأيا ما كان فالآية في أعلى مراتب الفصاحة والبلاغة، وقول بعض زنادقة الأعاجم الذين حرموا ذوق العربية: ألا قيل مؤدون بدل فاعِلُونَ من محض الجهل والحماقة التي أعيت من يداويها فإنه لو فرض أن القرآن وحاشا لله سبحانه كلام النبي صلّى الله عليه وسلّم فهو عليه الصلاة والسلام الذي مخضت له الفصاحة زبدها وأعطته البلاغة مقودها وكان صلّى الله عليه وسلّم بين مصاقع نقاد لم يألوا جهدا في طلب طعن ليستريحوا به من طعن الصعاد، وقد جاء نظير ذلك في كلام أمية بن أبي الصلت قال:
المطعمون الطعام في السنة الأزمة والفاعلون للزكوات
ولم يرد عليه أحد من فصحاء العرب ولا أعابوه، واختار الزمخشري في هذا حمل الزكاة على العين وتقدير المضاف دون الآية، وعلل بجمعها وهو إنما يكون للعين دون المصدر، وتعقب بأنه قد جاء كثير من المصادر مجموعة كالظنون والعلوم والحلوم والأشغال وغير ذلك، وهي إذا اختلف فالأكثرون على جواز جمعها وقد اختلفت هاهنا بحسب متعلقاتها فإن إخراج النقد غير إخراج الحيوان وإخراج الحيوان غير إخراج النبات فليحفظ.
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ وصف لهم بالعفة وهو وان استدعاه وصفهم بالإعراض عن اللغو إلا أنه جيء به اعتناء بشأنه، ويجوز أن يقال: إن ما تقدم وإن استدعى وصفهم بأصل العفة لكن جيء بهذا لما فيه من الإيذان بأن قوتهم الشهوية داعية لهم إلى ما لا يخفى وإنهم حافظون لها عن استيفاء مقتضاها وبذلك يتحقق كمال العفة، واللام للتقوية كما مر في نظيره، وعَلى متعلق بحافظون لتضمينه معنى ممسكون على ما اختاره أبو حيان والإمساك يتعدى بعلى كما في قوله تعالى: أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ [الأحزاب: ٣٧] وذهب جمع إلى اعتبار معنى النفي المفهوم من الإمساك ليصح التفريغ فكأنه قيل حافظون فروجهم لا يرسلونها على أحد إلا على أزواجهم، وقال بعضهم: لا يلزم ذلك الصحة العموم هنا فيصح التفريغ في الإيجاب، وفي الكشف الوجه أن يقال: ما في الآية من قبيل حفظت على الصبي ماله إذا ضبطه مقصورا عليه لا يتعداه، والأصل حافظون فروجهم على الأزواج لا تتعداهن ثم قيل غير حافظين إلا على الأزواج تأكيدا على تأكيد، وعلى هذا تضمين معنى النفي الذي ذكره الزمخشري من السياق واستدعاء الاستثناء المفرغ ذلك ولم يؤخذ مما في الحفظ من معنى المنع والإمساك لأن حرف الاستعلاء يمنعه انتهى وفيه ما فيه.
ويا ليت شعري كيف عد حرف الاستعلاء مانعا عن ذلك مع أن كون الإمساك مما يتعدى به أمر شائع، وقال الفراء وتبعه ابن مالك وغيره: إن عَلى هنا بمعنى من أي إلا من أزواجهم كما أن من بمعنى على في قوله تعالى:
وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ [الأنبياء: ٧٧] أي على القوم، وقيل هي متعلقة بمحذوف وقع حالا من ضمير حافِظُونَ والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال أي حافظون لفروجهم في جميع الأحوال إلا حال كونهم والين وقوامين على أزواجهم من قولك: كان فلان على فلانة فمات عنها، ومنه قولهم: فلانة تحت فلان ولذا سميت المرأة فراشا أو متعلقة بمحذوف يدل على غَيْرُ مَلُومِينَ كأنه قيل: يلامون إلا على أزواجهم أي يلامون على كل مباشر إلا على ما أطلق لهم فإنهم غير ملومين عليه، وكلا الوجهين ذكرهما الزمخشري.
واعترض بأنهما متكلفان ظاهرا فيهما العجمة وأورد على الأخير أن إثبات اللوم لهم في أثناء المدح غير مناسب مع أنه لا يختص بهم، وكون ذلك على فرض عصيانهم وهو مثل قوله تعالى: فَمَنِ ابْتَغى إلخ لا يدفعه كما توهم
209
ولا يجوز أن تتعلق بملومين المذكور بعد لما قال أبو البقاء من أن ما بعد أن لا يعمل فيما قبلها وأن المضاف إليه لا يعمل فيما قبله، والمراد مما ملكت أيمانهم السريات، والتخصيص ذلك للإجماع على عدم حل وطء المملوك الذكر، والتعبير عنهن- بما- على القول باختصاصها بغير العقلاء لأنهن يشبهن السلع بيعا وشراء أو لأنهن لأنوثتهن المنبئة عن قلة عقولهن جاريات مجرى العقلاء، وهذا ظاهر فيما إذا كن من الجركس أو الروم أو نحوهم فكيف إذا كن من الزنج والحبش وسائر السودان فلعمري إنهن حينئذ إن لم يكن من نوع البهائم فما نوع البهائم منهن ببعيد، والآية خاصة بالرجال فإن التسري للنساء لا يجوز بالإجماع، وعن قتادة (١) قال تسرت امرأة غلاما فذكرت لعمر رضي الله تعالى عنه فسألها ما حملك على هذا؟ فقالت: كنت أرى أنه يحل لي ما يحل للرجال من ملك اليمين فاستشار عمر فيها أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: تأولت كتاب الله تعالى على غير تأويله فقال رضي الله تعالى عنه: لا جرم لا أحلك لحر بعده أبدا كأنه عاقبها بذلك ودرأ الحد عنها وأمر العبد أن لا يقربها، ولو كانت المرأة متزوجة بعبد فملكته فأعتقته حالة الملك انفسخ النكاح عند فقهاء الأمصار.
وقال النخعي والشعبي وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة: يبقيان على نكاحهما فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ تعليل لما يفيده الاستثناء من عدم حفظ فروجهم من المذكورات أي فإنهم غير ملومين على ترك حفظها منهن.
وقيل الفاء في جواب شرط مقدر أي فإن بذلوا فروجهم لأزواجهم أو إمائهم فإنهم غير ملومين على ذلك، والمراد بيان جنس ما يحل وطؤه في الجملة وإلا فقد قالوا: يحرم وطء الحائض والأمة إذا زوجت والمظاهر منها حتى يكفر وهذا مجمع عليه.
وفي الجمع بين الأختين من ملك اليمين وبين المملوكة وعمتها أو خالتها خلاف على ما في البحر،
وذكر الآمدي في الأحكام أن عليا كرّم الله تعالى وجهه احتج على جواز الجمع بين الأختين في الملك بقوله تعالى: أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ
فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ أي المذكور من الحد المتسع وهو أربع من الحرائر وما شاء من الإماء، وانتصاب وَراءَ على أنه مفعول ابْتَغى أي خلاف ذلك وهو الذي ذهب إليه أبو حيان، وقال بعض المحققين:
إن وَراءَ ظرف لا يصلح أن يكون مفعولا به وإنما هو ساد مسد المفعول به، ولذا قال الزمخشري: أي فمن أحدث ابتغاء وراء ذلك فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ الكاملون في العدوان المتناهون فيه كما يشير إليه الإشارة والتعريف وتوسيط الضمير المفيد لجعلهم جنس العادين أو جميعهم، وفي الآية رعاية لفظ (من) ومعناها ويدخل فيما وراء ذلك الزنا واللواط ومواقعة البهائم وهذا مما لا خلاف فيه.
واختلف في وطء جارية أبيح له وطؤها فقال الجمهور: هو داخل فيما وراء ذلك أيضا فيحرم وهو قول الحسن وابن سيرين وروي ذلك عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، فقد أخرج ابن أبي شيبة وعبد الرزاق عنه أنه سئل عن امرأة أحلت جاريتها لزوجها فقال: لا يحل لك أن تطأ فرجا أي غير فرج زوجتك إلا فرجا إن شئت بعت وإن شئت وهبت وإن شئت أعتقت، وعن ابن عباس أنه غير داخل فلا يحرم، فقد أخرج عبد الرزاق عنه رضي الله تعالى عنه قال: إذا أحلت امرأة الرجل أو ابنته أو أخته له جاريتها فليصبها وهي لها وهو قول طاوس، أخرج عنه عبد الرزاق أيضا أنه قال: هو أحل من الطعام فإن ولدت فولدها للذي أحلت، وهي لسيدها الأول، وأخرج عن عطاء أنه قال: كان يفعل ذلك يحل الرجل وليدته لغلامه وابنه وأخيه وأبيه والمرأة لزوجها وقد بلغني أن الرجل يرسل وليدته لصديقه وإلى هذا ذهبت
(١) أخرجه عبد الرزاق اهـ منه.
210
الشيعة، والآية ظاهرة في هذه لظهور أن المعارة للجماع ليست بزوجة ولا مملوكة وكذا قوله تعالى فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ [النساء: ٣] فإن السكوت في معرض البيان يفيد الحصر خصوصا إذا كان المقام مقتضيا لذكر جميع ما لا يجب العدل فيه، وفي عدم وجوب العدل تكون العارية أقدم من الكل إذ لا يجب فيها ألا تحمل منة مالك الفرج فقط وكذا قوله سبحانه: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ. إلى قوله تعالى: ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ [النساء: ٢٥] فإنه لو جازت العارية لما كان خوف العنت والحاجة إلى نكاح الإماء وإلى الصبر على ترك نكاحهن متحققا، ونحوه قوله سبحانه:
وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النور: ٣٣] فإنه لو كانت العارية جائزة لم يؤمر الذين لا يجدون نكاحا بالاستعفاف، ولعل الرواية السابقة عن ابن عباس غير صحيحة، وكذا اختلف في المتعة فذهبت الشيعة أيضا إلى جوازها، ويرد عليهم بما ذكرنا من الآيات الظاهرة في تحريم العارية، وأخرج عبد الرزاق وأبو داود في ناسخه عن القاسم بن محمد أنه سئل عن المتعة فقال: هي محرمة في كتاب الله تعالى وتلا: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ الآية وقرر وجه دلالة الآية على ذلك أن المستمتع بها ليست ملك اليمين ولا زوجة فوجب أن لا تحل له أما أنها ليست ملك اليمين فظاهر وأما أنها ليست زوجة له فلأنهما لا يتوارثان بالإجماع ولو كانت زوجة لحصل التوارث لقوله تعالى: وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ [النساء: ١٢] وتعقبه في الكشف بأن لهم أن يقولوا: إنها زوجة يكشف الموت عن بينونتها قبيله كما أنها تبين بانقضاء الأجل قضاء لحق التعليق والتأجيل، وحاصله منع استفسار في الملازمة إن أريد لو كانت زوجة حال الحياة لم يفد وإن أريد بعد الموت فالملازمة ممنوعة فإن قيل: لا تبين بالموت كالنكاح المؤبد، أجيب بأنه قياس في عين ما افترق النكاحان به وهو فاسد بالإجماع.
وتعقب هذا شيخ الإسلام لخفاء معناه عليه بأنه ليس للترديد معنى محصل ولو قيل: إن أريد لو كانت زوجة حال الحياة فالملازمة ممنوعة وإن أريد بعد الموت لم يفد لكان له وجه، وقال هو في رد الاستدلال لهم أن يقولوا إنها زوجة له في الجملة وأما إن كل زوجة ترث فهم لا يسلمونه، وقال بعضهم: الحق أن الآية دليل على الشيعة فإن ظاهر كلامهم أنها ليست بزوجة أصلا حيث ينفون عنها لوازم الزوجية بالكلية من العدة والطلاق والإيلاء والظهار وحصول الإحصان وإمكان اللعان والنفقة والكسوة والتوارث ويقولون بجواز جمع ما شاء بالمتعة ولا شك أن نفي اللازم دليل نفي الملزوم. وتعقب بأن هذا حق لو سلم أنهم ينفون اللوازم كلها لكنه لا يسلم، ونفي بعض اللوازم لا يكفي في الرد عليهم إذا قالوا: إن الزوجية قسمان كاملة وغير كاملة إذ بنفي ذلك البعض إنما ينتفي القسم الأول وهو لا يضرهم، وقيل: الذي يقتضيه الإنصاف أن الآية ظاهرة في تحريم المتعة فإن المستمتع بها لا يقال لها زوجة في العرف ولا يقصد منها ما هو السر في مشروعية النكاح من التوالد والتناسل لبقاء النوع بل مجرد قضاء الوطر وتسكين دغدغة المني ونحو ذلك، وزعم أنه يتم الاستدلال بالآية بهذا الطرز على التحريم سواء نفيت اللوازم أم لم تنف كما هو مذهب بعض القائلين بالحل كما سنشير إليه إن شاء الله تعالى.
ولعل الأقرب إلى الإنصاف أن يقال: متى قيل بنفي اللوازم من حصول الإحصان حرمة الزيادة على الأربع ونحو ذلك كانت الآية دليلا على الحرمة لأن المتبادر من الزوجية فيها الزوجية التي يلزمها مثل ذلك وهو كاف في الاستدلال على مثل هذا المطلب الفرعي، ومتى لم يقل بنفي اللوازم ولم يفرق بينها وبين النكاح المؤبد إلا بالتوقيت وعدمه لم تكن الآية دليلا على التحريم، هذا ولي هاهنا بحث لم أر من تعرض له وهو أنه قد ذكر في الصحيحين أن النبي صلّى الله عليه وسلّم حرم المتعة يوم خيبر، وفي صحيح مسلم أنه عليه الصلاة والسلام حرمها يوم الفتح، ووافق ابن الهمام بأنها
211
حرمت مرتين مرة يوم خيبر ومرة يوم الفتح وذلك يقتضي أنها كانت حلالا قبل هذين اليومين، وقد سمعت آنفا ما يدل على أن هذه الآية مكية بالاتفاق فإذا كانت دالة على التحريم كما سمعت عن القاسم بن محمد وروى مثله ابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن عائشة رضي الله تعالى عنها لزم أن تكون محرمة بمكة يوم نزلت الآية وهو قبل هذين اليومين فتكون قد حرمت ثلاث مرات ولم أر أحدا صرح بذلك، وإذا التزمناه يبقى شيء آخر وهو عدم تمامية الاستدلال بها وحدها على تحريم المتعة لمن يعلم أنها أحلت بعد نزولها كما لا يخفى، لا يقال: إن للناس في المكي والمدني اصطلاحات ثلاثة، الأول أن المكي ما نزل قبل الهجرة والمدني ما نزل بعدها سواء نزل بالمدينة أم بمكة عام الفتح أم عام حجة الوداع أم بسفر من الأسفار، الثاني أن المكي ما نزل بمكة ولو بعد الهجرة والمدني ما نزل بالمدينة وعلى هذا تثبت الواسطة، فما نزل بالأسفار لا يطلق عليه مكي ولا مدني، الثالث أن المكي ما وقع خطابا لأهل مكة والمدني ما وقع خطابا لأهل المدينة، وحينئذ يمكن أن تكون هذه الآية مكية بالاصطلاح الثاني وتكون نازلة يوم الفتح يوم حرمت المتعة في المرة الثانية ولا يكون التحريم إلا مرتين ويكون استدلال من استدلوا بها من الصحابة والتابعين وغيرهم على التحريم وإن علموا أن المتعة أحلت بعد الهجرة في بعض الغزوات مما لا غبار عليه، وإذا التزم هذا الاصطلاح في مكية جميع السورة المجمع عليها حسبما سمعت عن البحر ينحل إشكال حمل الزكاة على الزكاة الشرعية مع فرضيته بالمدينة بأن يقال: إن أوائل السورة نزلت بعد فرضية الزكاة في المدينة عام الفتح في مكة لأنا نقول: لا شبهة في أنه يمكن كون الآية مكية بالاصطلاح الثاني وكونها نازلة يوم الفتح وكذلك يمكن كون كل السورة أو أغلبها مكيا بذلك الاصطلاح وكل ما بني على ذلك صحيح بناء عليه إلا أن المتبادر من المكي والمدني المعني المصطلح عليه أولا لأن الاصطلاح الأول أشهر الاصطلاحات الثلاثة كما قال الجلال السيوطي في الإتقان.
فالظاهر من قولهم: إن هذه السورة مكية أنها نزلت قبل الهجرة بل قد صرح الجلال المذكور بأنها إلا ما استثني منها مما سمعته مكية على الاصطلاح الأول دون الثاني ولا يحرم مثله بذلك إلا عن وقوف فما ذكر مجرد تجويز أمر لا يساعد على ثبوته صريح نقل بل النقل الصريح مساعد على خلافه وهو المرجع فيما نحن فيه.
فقد قال القاضي أبو بكر في الانتصار: إنما يرجع في معرفة المكي والمدني لحفظ الصحابة والتابعين، وكونهما قد يعرفان بالقياس على ما ذكره الجعبري وغيره مع عدم جدواه ليس بشيء. نعم إذا جعل استدلال الصحابي أو التابعي المطلع على إباحة المتعة بعد الهجرة بها قولا باستثنائها عن أخواتها من آيات السورة وحكما عليها بنزولها بعد الهجرة دونهن فالأمر واضح، وستطلع أيضا إن شاء الله تعالى على ما يوجب استثناء غير ذلك، وبالجملة متى قيل المدار في أمثال هذه المقامات صريح النقل تعين القول بأن الآية مكية بمعنى أنها نزلت قبل الهجرة، وأشكل الاستدلال بها على تحريم المتعة بعد تحليلها بعد الهجرة لكون دليل التحليل مخصصا لعمومها، ومذهب الأئمة الأربعة جواز تخصيص عموم القرآن بالسنة مطلقا وهو المختار ويحتاج حينئذ إلى دليل غيرها على التحريم، وبعد ثبوت الدليل تكون هي دليلا آخر بمعونته وهذا الدليل الأخبار الصحيحة من تحريم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إياها وقد تقدم بعضها،
وفي صحيح مسلم عنه عليه الصلاة والسلام «كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء وقد حرم الله تعالى ذلك إلى يوم القيامة».
وأخرج الحازمي بسنده إلى جابر قال: «خرجنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى غزوة تبوك حتى إذا كنا عند العقبة مما
212
يلي الشام جاءت نسوة فذكرنا تمتعنا وهن يطفن في رحالنا فجاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنظر إليهن وقال: من هؤلاء النسوة؟
فقلنا: يا رسول الله نسوة تمتعنا منهن فغضب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى احمرت وجنتاه وتمعر وجهه وقام فينا خطيبا فحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم نهى عن المتعة فتوادعنا يومئذ الرجال والنساء ولم نعد ولا نعود أبدا»، وقد روى تحريمها عنه عليه الصلاة والسلام أيضا عليّ كرم الله تعالى وجهه
وجاء ذلك في صحيح مسلم ووقع على ما قيل إجماع الصحابة على أنها حرام وصح عند بعض رجوع ابن عباس رضي الله تعالى عنهما إلى القول بالحرمة بعد قوله بحلها مطلقا أو وقت الاضطرار إليها، واستدل ابن الهمام على رجوعه بما رواه الترمذي عنه أنه قال: إنما كانت المتعة في أول الإسلام كان الرجل يقدم البلد ليس له بها معرفة فيتزوج بقدر ما يرى أنه مقيم فتحفظ له متاعه وتصلح له شأنه حتى إذا نزلت الآية إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ. قال ابن عباس: فكل فرج سواهما فهو حرام، ولا أدري ما عنى بأول الإسلام فإن عنى ما كان في مكة قبل الهجرة أفاد الخبر أنها كانت تفعل قبل إلى أن نزلت الآية فإن كان نزولها قبل الهجرة فلا إشكال في الاستدلال بها على الحرمة لو لم يكن بعد نزولها إباحة لكنه قد كان ذلك، وإن عنى ما كان بعد الهجرة أوائلها وأنها كانت مباحة إذ ذاك إلى أن نزلت الآية كان ذلك قولا بنزول الآية بعد الهجرة وهو خلاف ما روي عنه من أن السورة مكية المتبادر منه الاصطلاح الأول ولعله يلتزم ذلك ويقال: إن استدلاله بالآية قوله باستثنائها كما مر آنفا أو يقال: إن هذا الخبر لم يصح، ويؤيدها قول العلامة ابن حجر: إن حكاية الرجوع عن ابن عباس لم تصح بل صح كما قال بعضهم عن جمع أنهم وافقوه في الحل لكن خالفوه فقالوا: لا يترتب على ذلك أحكام النكاح، وبهذا نازع الزركشي في حكاية الإجماع فقال: الخلاف محقق وإن ادعى جمع نفيه انتهى. ويفهم منه أن ابن عباس يدخل المستمتع بها في الأزواج وحينئذ لا تقوم الآية دليلا عليه فتدبر.
ونسب القول بجواز المتعة إلى مالك رضي الله تعالى عنه وهو افتراء عليه بل هو كغيره من الأئمة قائل بحرمتها بل قيل إنه زيادة على القول بالحرمة يوجب الحد على المستمتع لم يوجبه غيره من القائلين بالحرمة لمكان الشبهة.
وكذا اختلف في استمناء الرجل بيده ويسمى الخضخضة وجلد عميرة فجمهور الأئمة على تحريمه وهو عندهم داخل فيما وراء ذلك، وكان أحمد بن حنبل يجيزه لأن المني فضلة في البدن فجاز إخراجها عند الحاجة كالفصد والحجامة، وقال ابن الهمام: يحرم فإن غلبته الشهوة ففعل إرادة تسكينها به فالرجاء أن لا يعاقب ومن الناس من منع دخوله فيما ذكر ففي البحر: كان قد جرى لي في ذلك كلام مع قاضي القضاة أبي الفتح محمد بن علي ابن مطيع القشيري بن دقيق العيد فاستدل على منع ذلك بهذه الآية فقلت: إن ذلك خرج مخرج ما كانت العرب تفعله من الزنا والتفاخر به في أشعارها وكان ذلك كثيرا فيهم بحيث كان في بغاياهم صاحبات رايات ولم يكونوا ينكرون ذلك وأما جلد عميرة فلم يكن معهودا فيهم ولا ذكره أحد منهم في شعر فيما علمناه فليس بمندرج فيما وراء ذلك انتهى، وأنت تعلم أنه إذا ثبت أن جلد عميرة كناية عن الاستمناء باليد عند العرب كما هو ظاهر عبارة القاموس فالظاهر أن هذا الفعل كان موجودا فيما بينهم وإن لم يكن كثيرا شائعا كالزنا فمتى كان ذلك من أفراد العام لم يتوقف اندراجه تحته على شيوعه كسائر أفراده، وفي الأحكام إذا كان من عادة المخاطبين تناول طعام خاص مثلا فورد خطاب عام بتحريم الطعام نحو حرمت عليكم الطعام فقد اتفق الجمهور من العلماء على إجراء اللفظ على عمومه في تحريم كل طعام على وجه يدخل فيه المعتاد وغيره وأن العادة لا تكون منزلة للعموم على تحريم المعتاد دون غيره خلافا لأبي حنيفة عليه الرحمة وذلك لأن الحجة إنما هي في اللفظ الوارد وهو مستغرق لكل مطعوم بلفظه ولا ارتباط له بالعوائد وهو حاكم على العوائد فلا تكون العوائد حاكمة عليه، نعم لو كانت العادة في الطعام المعتاد أكله قد خصصت بعرف
213
الاستعمال اسم الطعام بذلك كما خصصت الدابة بذوات القوائم الأربع لكان لفظ الطعام منزلا عليه دون غيره ضرورة تنزيل مخاطبة الشارع للعرب على ما هو المفهوم لهم من لغتهم.
والفرق أن العادة أولا إنما هي مطردة في اعتياد أكل ذلك الطعام المخصوص فلا تكون قاضية على ما اقتضاه عموم لفظ الطعام، وثانيا هي مطردة في تخصيص اسم الطعام بذلك الطعام الخاص فتكون قاضية على الاستعمال الأصلي اهـ، ومنه يعلم أن الاستمناء باليد إن كان قد جرت عادة العرب على إطلاق ما وراء ذلك عليه دخل عند الجمهور وإن لم تجر عادتهم على فعله وإن كان لم تجر عادتهم على إطلاق ذلك عليه وجرت على إطلاقه على ما عداه من الزنا ونحوه لم يدخل ذلك الفعل في العموم عن الجمهور.
ومن الناس من استدل على تحريمه بشيء آخر نحو ما ذكره المشايخ من
قوله صلّى الله عليه وسلّم: «ناكح اليد معلون»
وعن سعيد بن جبير: عذب الله تعالى أمة كانوا يعبثون بمذاكيرهم
، وعن عطاء: سمعت قوما يحشرون وأيديهم حبالى وأظن أنهم الذين يستمنون بأيديهم والله تعالى أعلم، وتمام الكلام في هذا المقام يطلب من محله، ولا يخفى أن كل ما يدخل في العموم تفيد الآية حرمة فعله على أبلغ وجه ونظير ذلك إفادة قوله تعالى: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى [الإسراء: ٣٢] حرمة فعل الزنا فافهم.
وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ قائمون بحفظها وإصلاحها، وأصل الرعي حفظ الحيوان إما بغذائه الحافظ لحياته أو بذب العدو عنه، ثم استعمل في الحفظ مطلقا، والأمانات جمع أمانة وهي في الأصل مصدر لكن أريد بها هنا ما ائتمن عليه إذ الحفظ للعين لا للمعنى وأما جمعها فلا يعين ذلك إذ المصادر قد تجمع كما قدمنا غير بعيد، وكذا العهد مصدر أريد به ما عوهد عليه لذلك، والآية عند أكثر المفسرين عامة في كل ما ائتمنوا عليه وعوهدوا من جهة الله تعالى ومن جهة الناس كالتكاليف الشرعية والأموال المودعة والأيمان والنذور والعقود ونحوها، وجمعت الأمانة دون العهد قيل لأنها متنوعة متعددة جدا بالنسبة إلى كل مكلف من جهته تعالى ولا يكاد يخلو مكلف من ذلك ولا كذلك العهد.
وجوز بعض المفسرين كونها خاصة فيما ائتمنوا عليه وعوهدوا من جهة الناس وليس بذاك، ويجوز عندي أن يراد بالأمانات ما ائتمنهم الله تعالى عليه من الأعضاء والقوى، والمراد برعيها حفظها عن التصرف بها على خلاف أمره عز وجل. وأن يراد بالعهد ما عاهدهم الله تعالى عليه مما أمرهم به سبحانه بكتابه وعلى لسان رسوله صلّى الله عليه وسلّم، والمراد برعيه حفظه عن الإخلال به وذلك بفعله على أكمل وجه فحفظ الأمانات كالتخلية وحفظ العهد كالتحلية، وكأنه جل وعلا بعد أن ذكر حفظهم لفروجهم ذكر حفظهم لما يشملها وغيرها، ويجوز أن تعمم الأمانات بحيث تشمل الأموال ونحوها وجمعها لما فيها لمن التعدد المحسوس المشاهد فتأمل.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو في رواية «لأمانتهم» بالإفراد وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ المكتوبة عليهم كما أخرج ابن المنذر عن أبي صالح وعبد بن حميد عن عكرمة يُحافِظُونَ بتأديتها في أوقاتها بشروطها وإتمام ركوعها وسجودها وسائر أركانها كما روي عن قتادة.
وأخرج جماعة عن ابن مسعود أنه قيل: إن الله تعالى يكثر ذكر الصلاة في القرآن الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ [المعارج: ٢٣] وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ قال ذاك على مواقيتها قالوا: ما كنا نرى ذلك إلا على فعلها وعدم تركها قال: تركها الكفر، وقيل: المحافظة عليها المواظبة على فعلها على أكمل وجه. وجيء بالفعل دون الاسم كما في سائر رؤوس الآية السابقة لما في الصلاة من التجدد والتكرر ولذلك جمعت في قراءة السبعة ما
214
عدا الأخوين وليس ذلك تكريرا لما وصفهم به أولا من الخشوع في جنس الصلاة للمغايرة التامة بين ما هنا وما هناك كما لا يخفى.
وفي تصدير الأوصاف وختمها بأمر الصلاة تعظيم لشأنها، وتقديم الخشوع للاهتمام به فإن الصلاة بدونه كلا صلاة بالإجماع وقد قالوا: صلاة بلا خشوع جسد بلا روح، وقيل: تقديمه لعموم ما هنا له أُولئِكَ إشارة إلى المؤمنين باعتبار اتصافهم بما ذكر من الصفات وإيثارها على الإضمار للإشعار بامتيازهم بها عن غيرهم ونزولهم منزلة المشار إليهم حسا، وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو طبقتهم وبعد درجتهم في الفضل والشرف أي أولئك المنعوتون بالنعوت الجليلة المذكورة هُمُ الْوارِثُونَ أي الأحقاء أن يسموا وراثا دون من عداهم ممن لم يتصف بتلك الصفات من المؤمنين، وقيل: ممن ورث رغائب الأموال والذخائر وكرائمها.
الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ صفة كاشفة أو عطف بيان أو بدل، وإيّا ما كان ففيه بيان لما يرثونه وتقييد للوراثة بعد إطلاقها تفخيما لها وتأكيدا، والفردوس أعلى الجنان،
أخرج عبد بن حميد والترمذي وقال: حسن صحيح غريب عن أنس رضي الله تعالى عنه أن الربيع بنت نضير أتت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكان ابنها الحارث بن سراقة أصيب يوم بدر أصابه سهم غرب فقالت: أخبرني عن حارثة فإن كان أصاب الجنة احتسبت وصبرت وإن كان لم يصب الجنة اجتهدت في الدعاء فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنها جنان في جنة وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى والفردوس ربوة الجنة وأوسطها وأفضلها»
وعلى هذا لا إشكال في الحصر على ما أشرنا إليه أولا فإن غير المتصف بما ذكر من الصفات وإن دخل الجنة لا يرث الفردوس التي هي أفضلها، وبتقدير إرثه إياها فهو ليس حقيقا بأن يسمى وارثا لما أن ذلك إنما يكون في الأغلب بعد كد ونصب، وإرثهم إياها من الكفار حيث فوتوها على أنفسهم لأنه تعالى خلق لكل منزلا في الجنة ومنزلا في النار.
أخرج سعيد بن منصور وابن ماجة وابن جرير وابن المنذر وغيرهم عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما منكم من أحد إلا وله منزلان منزل في الجنة ومنزل في النار فإذا مات فدخل النار ورث أهل الجنة منزله فذلك قوله تعالى: أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ»
وقيل الإرث استعارة للاستحقاق وفي ذلك من المبالغة ما فيه لأن الإرث أقوى أسباب الملك، واختير الأول لأنه تفسير رسول الله عليه الصلاة والسلام على ما صححه القرطبي هُمْ فِيها أي في الفردوس وهو على ما ذكره ابن الشحنة مما يؤنث ويذكر.
وذكر بعضهم أن التأنيث باعتبار أنه اسم للجنة أو لطبقتها العليا، وقد تقدم لك تمام الكلام في الفردوس.
خالِدُونَ لا يخرجون منها أبدا، والجملة إما مستأنفة مقررة لما قبلها وإما حال مقدرة من فاعل يَرِثُونَ أو مفعوله كما قال أبو البقاء إذ فيها ذكر كل منهما، ومعنى الكلام لا يموتون ولا يخرجون منها.
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ لما ذكر سبحانه أولا أحوال السعداء عقبه بذكر مبدئهم ومآل أمرهم في ضمن ما يعمهم وغيرهم وفي ذلك إعظام للمنة عليهم وحث على الاتصاف بالصفات الحميدة وتحمل مؤن التكليفات الشديدة أو لما ذكر إرث الفردوس عقبه بذكر البعث لتوقفه عليه أو لما حث على عبادته سبحانه وامتثال أمره عقبه بما يدل على ألوهيته لتوقف العبادة على ذلك ولعل الأول أولى في وجه مناسبة الآية لما قبلها، ويجوز أن يكون مجموع الأمور المذكورة، واللام واقعة في جواب القسم والواو للاستئناف.
وقال ابن عطية: هي عاطفة جملة كلام على جملة وإن تباينتا في المعاني وفيه نظر، والمراد بالإنسان الجنس، والسلالة من سللت الشيء من الشيء إذا استخرجته منه فهي ما سلّ من الشيء واستخرج منه فإن فعالة اسم لما يحصل
215
من الفعل فتارة تكون مقصودة منه كالخلاصة وأخرى غير مقصودة منه كالقلامة والكناسة والسلالة من قبيل الأول فإنها مقصودة بالسل.
وذكر الزمخشري أن هذا البناء يدل على القلة، ومن الأولى ابتدائية متعلقة بالخلق، ومن الثانية يحتمل أن تكون كذلك إلا أنها متعلقة بسلالة على أنها بمعنى مسلولة أو متعلقة بمحذوف وقع صفة لسلالة، ويحتمل أن تكون على هذا تبعيضية وأن تكون بيانية، وجوز أن يكون مِنْ طِينٍ بدلا أو عطف بيان بإعادة الجار، وخلق جنس الإنسان مما ذكر باعتبار خلق أول الأفراد وأصل النوع وهو آدم عليه السلام منه فيكون الكل مخلوقا من ذلك خلقا إجماليا في ضمن خلقه كما مر تحقيقه، وقيل: خلق الجنس من ذلك باعتبار أنه مبدأ بعيد لأفراد الجنس فإنهم من النطف الحاصلة من الغذاء الذي هو سلالة الطين وصفوته، وفيه وصف الجنس بوصف أكثر أفراده لأن خلق آدم عليه السلام لم يكن كذلك أو يقال ترك بيان حاله عليه السلام لأنه معلوم، واقتصر على بيان حال أولاده. وجاء ذلك في بعض الروايات عن ابن عباس، وقيل المراد بالطين آدم عليه السلام على أنه من مجاز الكون، والمراد بالسلالة النطفة وبالإنسان الجنس ووصفه بما ذكر باعتبار أكثر أفراده أو يقال كما قيل آنفا، ولا يخفى خفاء قرينة المجاز وعدم تبادر النطفة من السلالة، وقيل المراد بالإنسان آدم عليه السلام وروي ذلك عن جماعة وما ذهبنا إليه أولا أولى، والضمير في قوله تعالى: ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً عائد على الجنس باعتبار أفراده المغايرة لآدم عليه السلام، وإذا أريد بالإنسان أولا آدم عليه السلام فالضمير على ما في البحر عائد على غير مذكور وهو ابن آدم، وجاز لوضوح الأمر وشهرته وهو كما ترى أو على الإنسان والكلام على حذف مضاف أي ثم جعلنا نسله، وقيل يراد بالإنسان أولا آدم عليه السلام وعند عود الضمير عليه ما تناسل منه على سبيل الاستخدام، ومن البعيد جدا أن يراد بالإنسان أفراد بني آدم والضمير عائد عليه ويقدر مضاف في أول الكلام أي ولقد خلقنا أصل الإنسان إلخ، ومثله أن يراد بالإنسان الجنس أو آدم عليه السلام والضمير عائد على سُلالَةٍ والتذكير بتأويل المسلول أو الماء أي ثم صيرنا السلالة نطفة.
والظاهر أن نُطْفَةً في سائر الوجوه مفعولا ثانيا للجعل على أنه بمعنى التصيير وهو على الوجه الأخير ظاهر، وأما على وجه عود الضمير على الإنسان فلا بد من ارتكاب مجاز الأول بأن يراد بالإنسان ما سيصير إنسانا، ويجوز أن يكون الجعل بمعنى الخلق المتعدي إلى مفعول واحد ويكون نُطْفَةً منصوبا بنزع الخافض واختاره بعض المحققين أي ثم خلقنا الإنسان من نطفة كائنة فِي قَرارٍ أي مستقر وهو في الأصل من قريقر قرارا بمعنى ثبت ثبوتا وأطلق على ذلك مبالغة، والمراد به الرحم ووصفه بقوله تعالى: مَكِينٍ أي متمكن مع أن التمكن وصف ذي المكان وهو النطفة هنا على سبيل المجاز كما يقال طريق سائر، وجوز أن يقال: إن الرحم نفسها متمكنة ومعنى تمكنها أنها لا تنفصل لثقل حملها أولا تمج ما فيها فهو كناية عن جعل النطفة محرزة مصونة وهو وجه وجيه ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً أي دما جامدا وذلك بإفاضة أعراض الدم عليها فتصيرها دما بحسب الوصف، وهذا من باب الحركة في الكيف فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً أي قطعة لحم بقدر ما يمضغ لا استبانة ولا تمايز فيها، وهذا التصيير على ما قيل بحسب الذات كتصيير الماء حجرا وبالعكس، وحقيقته إزالة الصورة الأولى عن المادة وإفاضة صورة أخرى عليها وهو من باب الكون والفساد ولا يخلو ذلك من الحركة في الكيفية الاستعدادية فإن استعداد الماء مثلا للصورة الأولى الفاسدة يأخذ في الانتقاص واستعداده للصورة الثانية الكائنة يأخذ في الاشتداد ولا يزال الأول ينقص والثاني يشتد إلى أن تنتهي المادة إلى حيث تزول عنها الصورة الأولى فتحدث فيها الثانية دفعة فتتوارد هذه الاستعدادات التي هي من مقولة الكيف على موضوع واحد فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ غالبها ومعظمها أو كلها عِظاماً
216
صغارا وعظاما حسبما تقتضيه الحكمة وذلك التصيير بالتصليب لما يراد جعله عظاما من المضغة وهذا أيضا تصيير بحسب الوصف فيكون من الباب الأول.
وفي كلام العلامة البيضاوي إشارة ما إلى مجموع ما ذكرنا وهو يستلزم القول بأن النطفة والعلقة متحدان في الحقيقة وإنما الاختلاف بالأعراض كالحمرة والبياض مثلا وكذا المضغة والعظام متحدان في الحقيقة وإنما الاختلاف بنحو الرخاوة والصلابة وأن العلقة والمضغة مختلفان في الحقيقة كما أنهما مختلفان بالأعراض.
والظاهر أنه تتعاقب في جميع هذه الأطوار على مادة واحدة صور حسب تعاقب الاستعدادات إلى أن تنتهي إلى الصورة الإنسانية، ونحن نقول به إلى أن يقوم الدليل على خلافه فتدبر فَكَسَوْنَا الْعِظامَ المعهودة لَحْماً أي جعلنا ساترا لكل منها كاللباس، وذلك اللحم يحتمل أن يكون من لحم المضغة بأن لم تجعل كلها عظاما بل بعضها ويبقى البعض فيمد على العظام حتى يسترها، ويحتمل أن يكون لحما آخر خلقه الله تعالى على العظام من دم في الرحم.
وجمع الْعِظامَ دون غيرها مما في الأطوار لأنها متغايرة هيئة وصلابة بخلاف غيرها ألا ترى عظم الساق وعظم الأصابع وأطراف الأضلاع، وعدة العظام مطلقا على ما قيل مائتان وثمانية وأربعون عظما وهي عدة رحم بالجمل الكبير، وجعل بعضهم هذه عدة أجزاء الإنسان والله تعالى أعلم.
وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم وأبان والمفضل والحسن وقتادة وهارون والجعفي ويونس عن أبي عمرو وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهما بإفراد الْعِظامَ في الموضعين اكتفاء باسم الجنس الصادق على القليل والكثير مع عدم اللبس كما في قوله: «كلوا في بعض بطنكم تعفوا». واختصاص مثل ذلك بالضرورة على ما نقل عن سيبويه لا يخلو عن نظر، وفي الإفراد هنا مشاكلة لما ذكر قبل في الأطوار كما ذكره ابن جني.
وقرأ السلمي وقتادة أيضا والأعرج والأعمش ومجاهد وابن محيصن بإفراد الأول وجمع الثاني.
وقرأ أبو رجاء وإبراهيم بن أبي بكر ومجاهد أيضا بجمع الأول وإفراد الثاني ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ مباينا للخلق الأول مباينة ما أبعدها حيث جعل حيوانا ناطقا سميعا بصيرا وأودع كل عضو منه وكل جزء عجائب وغرائب لا تدرك بوصف ولا تبلغ بشرح، ومن هنا قيل:
وتزعم أنك جرم صغير... وفيك انطوى العالم الأكبر
وقيل الخلق الآخر الروح والمراد بها النفس الناطقة. والمعنى أنشأنا له أو فيه خلقا آخر، والمتبادر من إنشاء الروح خلقها وظاهر العطف بثم يقتضي حدوث البدن وهو قول أكثر الإسلاميين وإليه ذهب أرسطو، وقيل إنشاؤها نفخها في البدن وهو عند بعض عبارة عن جعلها متعلقة به، وعند أكثر المسلمين جعلها سارية فيه، وإذا أريد بالروح الروح الحيوانية فلا كلام في حدوثها بعد البدن وسريانها فيه، وقيل: الخلق الآخر القوى الحساسة، وقال الضحاك ويكاد يضحك منه فيما أخرجه عنه عبد بن حميد: الخلق الآخر الأسنان والشعر فقيل له: أليس يولد وعلى رأسه الشعر؟ فقال: فأين العانة والإبط، وما أشرنا إليه من كون ثُمَّ للترتيب الزماني هو ما يقتضيه أكثر استعمالاتها، ويجوز أن تكون للترتيب الرتبي فإن الخلق الثاني أعظم من الأول ورتبته أعلى وجاءت المعطوفات الأول بعضها بثم وبعضها بالفاء ولم يجىء جميعها بثم أو بالفاء مع صحة ذلك في مثلها للإشارة إلى تفاوت الاستحالات فالمعطوف بثم مستبعد حصوله مما قبله فجعل الاستبعاد عقلا أو رتبة بمنزلة التراخي والبعد الحسي لأن حصول النطفة من أجزاء ترابية غريب جدا وكذا جعل النطفة البيضاء السيالة دما أحمر جامدا بخلاف جعل الدم لحما مشابها له في اللون والصورة
217
وكذا تصليب المضغة حتى تصير عظما وكذا مد لحمها عليه ليستره كذا قيل ولا يخلو عن قيل وقال.
واستدل الإمام أبو حنيفة بقوله تعالى: ثُمَّ أَنْشَأْناهُ إلخ على أن من غصب بيضة فأفرخت عنده لزمه ضمان البيضة لا الفرخ لأنه خلق آخر، قال في الكشف: وفي هذا الاستدلال نظر على أصل مخالفيه لأن مباينته للأول لا تخرجه عن ملكه عندهم، وقال صاحب التقريب: إن تضمينه للفرخ لكونه جزءا من المغضوب لا لكونه عينه أو مسمى باسمه، وفي هذا بحث وفي المسألة خلاف كثير وكلام طويل يطلب من كتب الفروع المبسوطة.
وقال الإمام: قالوا في الآية دلالة على بطلان قول النظام: إن الإنسان هو الروح لا البدن فإنه تعالى بين فيها أن الإنسان مركب من هذه الأشياء، وعلى بطلان قول الفلاسفة: إن الإنسان لا ينقسم وإنه ليس بجسم وكأنهم أرادوا أن الإنسان هو النفس الناطقة والروح الأمرية المجردة فإنها التي ليست بجسم عندهم ولا تقبل الانقسام بوجه وليست داخل البدن ولا خارجه فَتَبارَكَ اللَّهُ فتعالى وتقدس شأنه سبحانه في علمه الشامل وقدرته الباهرة، و (تبارك) فعل ماض لا يتصرف والأكثر إسناده إلى غير مؤنث، والالتفات إلى الاسم الجليل لتربية المهابة وإدخال الروعة والإشعار بأن ما ذكر من الأفاعيل العجيبة من أحكام الألوهية وللإيذان بأن حق كل من سمع ما فصل من آثار قدرته عز وجل أو لاحظه أن يسارع إلى التكلم به إجلالا وإعظاما لشؤونه جل وعلا أَحْسَنُ الْخالِقِينَ نعت للاسم الجليل، وإضافة أفعل التفضيل محضة فتفيده تعريفا إذا أضيف إلى معرفة على الأصح.
وقال أبو البقاء: لا يجوز أن يكون نعتا لأنه نكرة وإن أضيف لأن المضاف إليه عوض عن- من- وهكذا جميع باب أفعل منك وجعله بدلا وهو يقل في المشتقات أو خبر مبتدأ مقدر أي هو أحسن الخالقين والأصل عدم التقدير، وتميز أفعل محذوف لدلالة الخالقين عليه أي أحسن الخالقين خلقا فالحسن للخلق قيل: نظيره
قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله تعالى جميل يحب الجمال»
أي جميل فعله فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه فانقلب مرفوعا فاستتر، والخلق بمعنى التقدير وهو وصف يطلق على غيره تعالى كما في قوله تعالى: وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ [المائدة: ١١٠] وقول زهير:
ولأنت تفري ما خلقت... وبعض القوم يخلق ثم لا يفري
وفي معنى ذلك تفسيره بالصنع كما فعل ابن عطية، ولا يصح تفسيره بالإيجاد عندنا إذ لا خالق بذلك المعنى غيره تعالى إلا أن يكون على الفرض والتقدير. والمعتزلة يفسرونه بذلك لقولهم بأن العبد خالق لأفعاله وموجد لها استقلالا فالخالق الموجد متعدد عندهم، وقد تكفلت الكتب الكلامية بردهم.
ومعنى حسن خلقه تعالى إتقانه وإحكامه، ويجوز أن يراد بالحسن مقابل القبح وكل شيء منه عز شأنه حسن لا يتصف بالقبح أصلا من حيث إنه منه فلا دليل فيه للمعتزلة بأنه تعالى لا يخلق الكفر والمعاصي كما لا يخفى.
روي أن عبد الله بن سعيد بن أبي سرح كان يكتب لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأملى عليه صلّى الله عليه وسلّم قوله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ حتى إذا بلغ عليه الصلاة والسلام ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ نطق عبد الله بقوله تعالى: فَتَبارَكَ اللَّهُ إلخ قبل إملائه فقال له عليه الصلاة والسلام: هكذا نزلت فقال عبد الله: إن كان محمد نبيا يوحى إليه فأنا نبي يوحى إليّ فارتد
ولحق بمكة كافرا ثم أسلم قبل وفاته عليه الصلاة والسلام وحسن إسلامه، وقيل: مات كافرا، وطعن بعضهم في صحة هذه الرواية بأن السورة مكية وارتداده بالمدينة كما تقتضيه الرواية، وأجيب بأنه يمكن الجمع بأن تكون الآية نازلة بمكة واستكتبها صلّى الله عليه وسلّم إياه بالمدينة فكان ما كان أو يلتزم كون الآية مدنية لهذا الخبر، وقوله: إن السورة مكية باعتبار الأكثر وعلى هذا يكون اقتصار الجلال السيوطي على استثناء قوله تعالى: حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ إلى
218
قوله سبحانه: مُبْلِسُونَ قصورا فتذكر. وتروى هذه الموافقة عن معاذ بن جبل.
أخرج ابن راهويه وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط وابن مردويه عن زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه قال: أملى عليّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هذه الآية وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ إلى قوله: خَلْقاً آخَرَ فقال معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ فضحك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال له معاذ: مم ضحكت يا رسول الله؟ قال: «بها ختمت» ورويت أيضا عن عمر رضي الله عنه
، أخرج الطبراني، وأبو نعيم في فضائل الصحابة وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: لما نزلت وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ إلى آخر الآية قال عمر رضي الله تعالى عنه: فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ فنزلت كما قال. وأخرج ابن عساكر، وجماعة عن أنس أن عمر رضي الله تعالى عنه كان يفتخر بذلك ويذكر أنها إحدى موافقاته الأربع لربه عز وجل، ثم إن ذلك من حسن نظم القرآن الكريم حيث تدل صدور كثير من آياته على إعجازها، وقد مدحت بعض الأشعار بذلك فقيل:
قصائد إن تكن تتلى على ملإ صدورها علمت منها قوافيها
لا يقال: فقد تكلم البشر ابتداء بمثل نظم القرآن الكريم وذلك قادح في إعجازه لما أن الخارج عن قدرة البشر على الصحيح ما كان مقدار أقصر سورة منه على أن إعجاز هذه الآية الكريمة منوط بما قبلها كما تعرب عنه الفاء فإنها اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ أي بعد ما ذكر من الأمور العجيبة حسبما ينبىء عنه ما في اسم الإشارة من معنى البعد المشعر بعلو رتبة المشار إليه وبعد منزلته في الفضل والكمال وكونه بذلك ممتازا منزلا منزلة الأمور الحسية لَمَيِّتُونَ أي لصائرون إلى الموت لا محالة كما يؤذن به اسمية الجملة وإن اللام وصيغة النعت الذي هو للثبوت، وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما وابن أبي عبلة وابن محيصن «لمائتون» وهو اسم فاعل يراد به الحدوث، قال الفراء وابن مالك: إنما يقال مايت في الاستقبال فقط.
ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عند النفخة الثانية تُبْعَثُونَ من قبوركم للحساب والمجازاة بالثواب والعقاب، ولم يؤكد سبحانه أمر البعث تأكيده لأمر الموت مع كثرة المترددين فيه والمنكرين له اكتفاء بتقديم ما يغني عن كثرة التأكيد ويشيد أركان الدعوى أتم تشييد من خلقه تعالى الإنسان من سلالة من طين ثم نقله من طور إلى طور حتى أنشأه خلقا آخر يستغرق العجائب ويستجمع الغرائب فإن في ذلك أدل دليل على حكمته وعظيم قدرته عز وجل على بعثه وإعادته وأنه جل وعلا لا يهمل أمره ويتركه بعد موته نسيا منسيا مستقرا في رحم العدم كأن لم يكن شيئا، ولما تضمنت الجملة السابقة المبالغة في أنه تعالى شأنه أحكم خلق الإنسان وأتقنه بالغ سبحانه عز وجل في تأكيد الجملة الدالة على موته مع أنه غير منكر لما أن ذلك سبب لاستبعاد العقل إياه أشد استبعاد حتى يوشك أن ينكر وقوعه من لم يشاهده وسمع أن الله جل جلاله أحكم خلق الإنسان وأتقنه غاية الإتقان، وهذا وجه دقيق لزيادة التأكيد في الجملة الدالة على الموت وعدم زيادته في الجملة الدالة على البعث لم أر أني سبقت إليه، وقيل في ذلك: إنه تعالى شأنه لما ذكر في الآيات السابقة من التكليفات ما ذكر نبه على أنه سبحانه أبدع خلق الإنسان وقلبه في الأطوار حتى أوصله إلى طور هو غاية كماله وبه يصح تكليفه بنحو تلك التكليفات وهو كونه حيا عاقلا سميعا بصيرا وكان ذلك مستدعيا لذكر طور يقع فيه الجزاء على ما كلفه تعالى به وهو أن يبعث يوم القيامة فنبه سبحانه عليه بقوله: ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ فالمقصود الأهم بعد بيان خلقه وتأهله للتكليف بيان بعثه لكن وسط حديث الموت لأنه برزخ بين طوره الذي تأهل به للأعمال التي تستدعي الجزاء وبين بعثه فلا بد من قطعه للوصول إلى ذلك فكأنه قيل: أيها المخلوق العجيب الشأن إن ماهيتك وحقيقتك تفنى وتعدم ثم إنها
219
بعينها من الأجزاء المتفرقة والعظام البالية والجلود المتمزقة المتلاشية في أقطار الشرق والغرب تبعث وتنشر ليوم الجزاء لإثابة من أحسن فيما كلفناه به وعقاب من أساء فيه، فالقرينة الثانية وهي الجملة الدالة على البعث لم تفتقر إلى التوكيد افتقار الأولى وهي الجملة الدالة على الموت لأنها كالمقدمة لها وتوكيدها راجع إليها، ومنه يعلم سر نقل الكلام من الغيبة إلى الخطاب انتهى، وفيه من البعد ما فيه.
وقيل: إنما بولغ في القرينة الأولى لتمادي المخاطبين في الغفلة فكأنهم نزلوا منزلة المنكرين لذلك وأخليت الثانية لوضوح أدلتها وسطوع براهينها، قال الطيبي: هذا كلام حسن لو ساعد عليه النظم الفائق، وربما يقال: إن شدة كراهة الموت طبعا التي لا يكاد يسلم منها أحد نزلت منزلة شدة الإنكار فبولغ في تأكيد الجملة الدالة عليه، وأما البعث فمن حيث إنه حياة بعد الموت لا تكرهه النفوس ومن حيث إنه مظنة للشدائد تكرهه فلما لم يكن حاله كحال الموت ولا كحال الحياة بل بين بين أكدت الجملة الدالة عليه تأكيدا واحدا، وهذا وجه للتأكيد لم يذكره أحد من علماء المعاني ولا يضر فيه ذلك إذا كان وجيها في نفسه، وتكرير حرف التراخي للإيذان بتفاوت المراتب، وقد تضمنت الآية ذكر تسعة أطوار ووقع الموت فيها الطور الثامن ووافق ذلك أن من يولد لثمانية أشهر من حمله قلما يعيش، ولم يذكر سبحانه طور الحياة في القبر لأنه من جنس الإعادة وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ إن لخلق ما يحتاج إليه بقاؤهم إثر بيان خلقهم، وقيل: استدلال على البعث أي خلقنا في جهة العلو من غير اعتبار فوقيتها لهم لأن تلك النسبة إنما تعرض بعد خلقهم سَبْعَ طَرائِقَ هي السماوات السبع، وطَرائِقَ جمع طريقة بمعنى مطروقة من طرق النعل والخوافي إذ وضع طاقاتها بعضها فوق بعض قاله الخليل والفراء والزجاج، فهذا كقوله تعالى: طِباقاً [الملك: ٣، نوح: ١٥] ولكل من السبع نسبة وتعلق بالمطارقة فلا تغليب، وقيل: جمع طريقة بمعناها المعروف وسميت السماوات بذلك لأنها طرائق الملائكة عليهم السلام في هبوطهم وعروجهم لمصالح العباد أو لأنها طرائق الكواكب في مسيرها.
وقال ابن عطية: يجوز أن يكون الطرائق بمعنى المبسوطات من طرقت الحديد مثلا إذا بسطته وهذا لا ينافي القول بكريتها، وقيل: سميت طرائق لأن كل سماء طريقة وهيئة غير هيئة الأخرى، وأنت تعلم أن الظاهر أن الهيئة واحدة، نعم أودع الله تعالى في كل سماء ما لم يودعه سبحانه في الأخرى فيجوز أن تكون تسميتها طرائق لذلك وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ أي عن جميع المخلوقات التي من جملتها السماوات السبع غافِلِينَ مهملين أمره بل نفيض على كل ما تقتضيه الحكمة، ويجوز أن يراد بالخلق الناس، والمعنى أن خلقنا السماوات لأجل منافعهم ولسنا غافلين عن مصالحهم، وأل على الوجهين للاستغراق وجوز أن تكون للعهد على أن المراد بالخلق المخلوق المذكور وهو السماوات السبع أي وما كنا عنها غافلين بل نحفظها عن الزوال والاختلال وندبر أمرها، والإظهار في مقام الإضمار للاعتناء بشأنها، وإفراد الخلق على سائر الأوجه لأنه مصدر في الأصل أو لأن المتعدد عنده تعالى في حكم شيء واحد.
وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً هو المطر عند كثير من المفسرين، والمراد بالسماء جهة العلو أو السحاب أو معناها المعروف ولا يعجز الله تعالى شيء، وكان الظاهر على هذا- منها- بدل السَّماءِ ليعود الضمير على الطرائق إلا أنه عدل عنه إلى الإضمار لأن الإنزال منها لا يعتبر فيه كونها طرائق بل مجرد كونها جهة العلو، وتقديم الجار والمجرور على المفعول الصريح للاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر، وقوله تعالى: بِقَدَرٍ صفة ماءً أي أنزلنا ماء متلبسا بمقدار ما يكفيهم في حاجهم ومصالحهم أو بتقدير لائق لاستجلاب منافعهم ودفع مضارهم، وجوز على هذا أن
220
يكون في موضع الحال من الضمير، وقيل: هو صفة لمصدر محذوف أي إنزالا متلبسا بذلك، وقيل: في الجار والمجرور غير ذلك فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ أي جعلناه ثابتا قارا فيها ومن ذلك ماء العيون ونحوها، ومعظم الفلاسفة يزعمون أن ذلك الماء من انقلاب البخار المحتبس في الأرض ماء إذا مال إلى جهة منها وبرد وليس لماء المطر دخل فيه، وكونه من السماء باعتبار أن لأشعة الكواكب التي فيها مدخلا فيه من حيث الفاعلية.
وقال ابن سينا في نجاته: هذه الأبخرة المحتبسة في الأرض إذا انبعث عيونا أمدت البحار بصب الأنهار إليها ثم ارتفع من البحار والبطائح وبطون الجبال خاصة أبخرة أخرى ثم قطرت ثانيا إليها فقامت بدل ما يتحلل منها على الدور دائما. وما في الآية يؤيد ما ذهب إليه أبو البركات البغدادي منهم فقد قال في المعتبر: إن السبب في العيون والقنوات وما يجري مجراها هو ما يسيل من الثلوج ومياه الأمطار لأنا نجدها تزيد بزيادتها وتنقص بنقصانها وإن استحالة الأهوية والأبخرة المنحصرة في الأرض لا مدخل لها في ذلك فإن باطن الأرض في الصيف أشد بردا منه في الشتاء فلو كان ذلك سبب استحالتها لوجب أن تكون العيون والقنوات ومياه الآبار في الصيف أزيد وفي الشتاء أنقص مع أن الأمر بخلاف ذلك على ما دلت عليه التجربة انتهى، واختار القاضي حسين المبيدي أن لكل من الأمرين مدخلا، واعترض على دليل أبي البركات بأنه لا يدل إلا على نفي كون تلك الاستحالة سببا تاما وأما على أنها لا مدخل لها أصلا فلا.
والحق ما يشهد له كتاب الله تعالى فهو سبحانه أعلم بخلقه، وكل ما يذكره الفلاسفة في أمثال هذه المقامات لا دليل لهم عليه يفيد اليقين كما أشار إليه شارح حكمة العين، وقيل: المراد بهذا الماء ماء أنهار خمسة،
فقد روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «أنزل الله تعالى من الجنة إلى الأرض خمسة أنهار سيحون وهو نهر الهند وجيحون وهو نهر بلخ ودجلة والفرات وهما نهرا العراق والنيل وهو نهر مصر أنزلها الله تعالى من عين واحدة من عيون الجنة من أسفل درجة من درجاتها على جناحي جبريل عليه السلام فاستودعها الجبال وأجراها في الأرض»
وجعلها منافع للناس في أصناف معايشهم وذلك قوله تعالى: وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ فإذا كان عند خروج يأجوج ومأجوج أرسل الله تعالى جبريل عليه السلام فرفع من الأرض القرآن والعلم كله والحجر من ركن البيت ومقام إبراهيم عليه السلام وتابوت موسى عليه السلام بما فيه وهذه الأنهار الخمسة فيرفع كل ذلك إلى السماء فذلك قول الله تعالى: وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ فإذا رفعت هذه الأشياء من الأرض فقد أهلها خير الدنيا والآخرة. ولا يخفى على المتتبع أن هذا الخبر أخرجه ابن مردويه والخطيب بسند ضعيف، نعم حديث أربعة أنهار من الجنة سيحان وجيحان وهما غير سيحون وجيحون لأنهما نهران بالعواصم عند المصيصة وطرسوس وسيحون وجيحون نهرا الهند وبلخ كما سمعت على ما قاله ابن عبد البر والفرات والنيل صحيح لكن الكلام في تفسير الآية بذلك. وعن مجاهد أنه حمل الماء على ما يعم ماء المطر وماء البحر وقال ليس في الأرض ماء إلا وهو من السماء، وأنت تعلم أن الأوفق بالأخبار وبما يذكر بعد في الآية الكريمة كون المراد به ما عدا ماء البحر.
إِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ أي على إزالته بإخراجه عن المائية أو بتغويره بحيث يتعذر استخراجه أو بنحو ذلك لَقادِرُونَ كما كنا قادرين على إنزاله، فالجملة في موضع الحال وفي تنكير ذَهابٍ إيماء إلى كثرة طرقه لعموم النكرة وإن كانت في الإثبات وبواسطة ذلك تفهم المبالغة في الإثبات، وهذه الآية أكثر مبالغة من قوله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ [الملك: ٣٠].
وذكر صاحب التقريب ثمانية عشر وجها للأبلغية، الأول أن ذلك على الفروض والتقدير، وهذا الجزم على معنى أنه أدل على تحقيق ما أوعد به وإن لم يقع، الثاني التوكيد بأن الثالث اللام في الخبر الرابع أن هذه في مطلق الماء المنزل من السماء وتلك في ماء مضاف إليهم الخامس أن الغائر قد يكون باقيا بخلاف الذاهب السادس ما في
221
تنكير ذَهابٍ من المبالغة السابع اسناده هاهنا إلى مذهب بخلافه تمت حيث قيل غَوْراً. الثامن ما في ضمير المعظم نفسه من الروعة التاسع ما في «قادرون» من الدلالة على القدرة عليه والفعل الواقع من القادر أبلغ. العاشر ما في جمعه. الحادي عشر ما في لفظ بِهِ من الدلالة على أن ما يمسكه فلا مرسل له، الثاني عشر إخلاؤه من التعقيب بأطماع وهنالك ذكر الإتيان المطمع. الثالث عشر تقديم ما فيه الإيعاد وهو الذهاب على ما هو كالمتعلق له أو متعلقة على المذهبين البصري والكوفي. الرابع عشر ما بين الجملتين الاسمية والفعلية من التفاوت ثباتا وغيره.
الخامس عشر ما في لفظ «أصبح» من الدلالة على الانتقال والصيرورة. السادس عشر أن الإذهاب هاهنا مصرح به.
وهنالك مفهوم من سياق الاستفهام. السابع عشر أن هنالك نفي ماء خاص أعني المعين بخلافه هاهنا. الثامن عشر اعتبار مجموع هذه الأمور التي يكفي كل منها مؤكدا. ثم قال: هذا ما يحضرنا الآن والله تعالى أعلم اهـ. وفي النفس من عد الأخير وجها شيء.
وقد يزاد على ذلك فيقال: التاسع عشر إخباره تعالى نفسه به من دون أمر للغير هاهنا بخلافه هنالك فإنه سبحانه أمر نبيه عليه الصلاة والسلام أن يقول ذلك. العشرون عدم تخصيص مخاطب هاهنا وتخصيص الكفار بالخطاب هنالك. الحادي والعشرون التشبيه المستفاد من جعل الجملة حالا كما أشرنا إليه فإنه يفيد تحقيق القدرة ولا تشبيه ثمت. الثاني والعشرون إسناد القدرة إليه تعالى مرتين، وقد زاد بعض أجلة أهل العصر المعاصرين سلاف التحقيق من كرم أذهانهم الكريمة أكرم عصر أعني به ثالث الرافعي والنواوي أخي الملا محمد أفندي الزهاوي فقال: الثالث والعشرون تضمين الإيعاد هنا إيعادهم بالإبعاد عن رحمة الله تعالى لأن ذهب به يستلزم مصاحبة الفاعل المفعول وذهاب الله تعالى عنهم مع الماء بمعنى ذهاب رحمته سبحانه عنهم ولعنهم وطردهم عنها ولا كذلك ما هناك. الرابع والعشرون أنه ليس الوقت للذهاب معينا هنا بخلافه في إِنْ أَصْبَحَ فإنه يفهم منه أن الصيرورة في الصبح على أحد استعمالي أصبح ناقصا. الخامس والعشرون أن جهة الذهاب به ليست معينة بأنها السفل. السادس والعشرون أن الإيعاد هنا بما لم يبتلوا به قط بخلافه بما هنالك. السابع والعشرون إن الموعد به هنا إن وقع فهم هالكون البتة. الثامن والعشرون أنه لم يبق هنا لهم متشبث ولو ضعيفا في تأميل امتناع الموعد به وهناك حيث أسند الإصباح غورا إلى الماء ومعلوم أن الماء لا يصبح غورا بنفسه كما هو تحقيق مذهب الحكيم أيضا احتمل أن يتوهم الشرطية مع صدقها ممتنعة المقدم فيأمنوا وقوعه. التاسع والعشرون أن الموعد به هنا يحتمل في بادي النظر وقوعه حالا بخلافه هناك فإن المستقبل متعين لوقوعه لمكان إِنْ وظاهر أن التهديد بمحتمل الوقوع في الحال أهول ومتعين الوقوع في الاستقبال أهون. الثلاثون أن ما هنا لا يحتمل غير الإيعاد بخلاف ما هناك فإنه يحتمل ولو علم بعد أن يكون المراد به الامتنان بأنه إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فلا يأتيكم بماء معين سوى الله تعالى، ويؤيده ما سن بعده من قول الله ربنا ورب العالمين انتهى فتأمل ولا تغفل والله تعالى الهادي لأسرار كتابه.
واختيرت المبالغة هاهنا على ما قاله بعض المحققين لأن المقام يقتضيها إذ هو لتعداد آيات الآفاق والأنفس على وجه يتضمن الدلالة على القدرة والرحمة مع كمال عظمة المتصف بهما ولذا ابتدئ بضمير العظمة مع التأكيد بخلاف ما تمت فإنه تتميم للحث على العبادة والترغيب فيها وهو كاف في ذلك فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ أي بذلك الماء وهو ظاهر فيما عليه السلف، وقال الخلف: المراد أنشأنا عنده جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ قدمهما لكثرتهما وكثرة الانتفاع بهما لا سيما في الحجاز والطائف والمدينة لَكُمْ فِيها أي في الجنات فَواكِهُ كَثِيرَةٌ تتفكهون بها وتتنعمون زيادة على المعتاد من الغذاء الأصلي، والمراد بها ما عدا ثمرات النخيل والأعناب.
222
وَمِنْها أي من الجنات والمراد من زروعها وثمارها، ومن ابتدائية وقيل إنها تبعيضية ومضمونها مفعول تَأْكُلُونَ والمراد بالأكل معناه الحقيقي.
وجوز أن يكون مجازا أو كناية عن العيش مطلقا أي ومنها ترزقون وتحصلون معايشكم من قولهم فلان يأكل من حرفته، وجوز أن يعود الضميران للنخيل والأعناب أي لكم في ثمراتها أنواع من الفواكه الرطب والعنب والتمر والزبيب والدبس من كل منهما وغير ذلك وطعام تأكلونه فثمرتها جامعة للتفكه والغذاء بخلاف ثمرة ما عداهما وعلى هذا تكون الفاكهة مطلقة على ثمرتهما.
وذكر الراغب في الفاكهة قولين: الأول أنها الثمار كلها، والثاني أنها ما عدا العنب والرمان، وصاحب القاموس اختار الأول وقال: قول مخرج التمر والرمان منها مستدلا بقوله تعالى: فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ [الرحمن: ٦٨] باطل مردود، وقد بينت ذلك مبسوسا في اللامع المعلم العجاب اهـ وأنت تعلم أن للفقهاء خلافا في الفاكهة فذهب الإمام أبو حنيفة إلى أنها التفاح والبطيخ والمشمش والكمثرى ونحوها لا العنب والرمان والرطب، وقال صاحباه:
المستثنيات أيضا فاكهة وعليه الفتوى، ولا خلاف كما في القهستاني نقلا عن الكرماني في أن اليابس منها كالزبيب والتمر وحب الرمان ليس بفاكهة.
وفي الدر المختار أن الخلاف بين الإمام وصاحبيه خلاف عصر فالعبرة فيمن حلف لا يأكل الفاكهة العرف فيحنث بأكل ما يعد فاكهة عرفا ذكر ذلك الشمني وأقره الغزي، ولا يخفى أن شيئا واحدا يقال له فاكهة في عرف قوم ولا يقال له ذلك في عرف آخرين، ففي النهر عن المحيط ما روي من أن الجوز واللوز فاكهة فهو في عرفهم أما في عرفنا فإنه لا يؤكل للتفكه اهـ، ثم إني لم أر أحدا من اللغويين ولا من الفقهاء عد الدبس فاكهة فتدبر ولا تغفل.
وَشَجَرَةً بالنصب عطف على جَنَّاتٍ، وقرىء بالرفع على أنه مبتدأ خبره محذوف، والأولى تقديره مقدما أي أنشأنا لكم شجرة تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ وهو جبل موسى عليه السلام الذي ناجى ربه سبحانه عنده وهو بين مصر وأيلة، ويقال لها اليوم العقبة، وقيل بفلسطين من أرض الشام، ويقال له طور سينين، وجمهور العرب على فتح سين سيناء والمد. وبذلك قرأ عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ويعقوب وأكثر السبعة هو اسم للبقعة والطور اسم للجبل المخصوص أو لكل جبل وهو مضاف إلى سَيْناءَ كما أجمعوا عليه، ويقصد تنكيره على الأول كما في سائر الأعلام إذا أضيفت وعلى الثاني يكون طور سيناء كمنارة المسجد.
وجوز أن يكون كامرىء القيس بمعنى أنه جعل مجموع المضاف والمضاف إليه علما على ذلك العلم، وقيل سيناء اسم لحجارة بعينها أضيف الجبل إليها لوجودها عنده. وروي هذا عن مجاهد وفي الصحاح طور سيناء جبل بالشام وهو طور أضيف إلى سيناء وهو شجر وقيل هو اسم الجبل والإضافة من إضافة العام إلى الخاص كما في جبل أحد.
وحكي هذا القول في البحر عن الجمهور لكن صحح القول بأنه اسم البقعة وهو ممنوع من الصرف للألف الممدودة فوزنه فعلاء كصحراء، وقيل: منع من الصرف للعلمية والعجمة، وقيل: للعلمية والتأنيث بتأويل البقعة ووزنه فيعال لا فعلال إذ لا يوجد هذا الوزن في غير المضاعف في كلام العرب إلا نادرا كخزعال لظلع الإبل حكاه الفراء ولم يثبته أبو البقاء والأكثرون على أنه ليس بعربي بل هو أما نبطي أو حبشي وأصل معناه الحسن أو المبارك، وجوز بعض أن يكون عربيا من السناء بالمد وهو الرفعة أو السنا بالقصر وهو النور.
وتعقبه أبو حيان بأن المادتين مختلفتان لأن عين السناء أو السنا نون وعين سيناء ياء. ورد بأن القائل بذلك يقول
223
إنه فيعال ويجعل عينه النون وياءه مزيدة وهمزته منقلبة عن واو، الحرميان وأبو عمرو والحسن «سيناء» بكسر السين والمد وهي لغة لبني كنانة وهو أيضا ممنوع من الصرف للألف الممدودة عند الكوفيين لأنهم يثبتون أن همزة فعلاء تكون للتأنيث: وعند البصريين ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة أو العلمية والتأنيث لأن ألف فعلاء عندهم لا تكون للتأنيث بل للإلحاق بفعلال كعلباء وحزباء وهو ملحق بقرطاس وسرداح وهمزته منقلبة عن واو أو ياء لأن الإلحاق يكون بهما، وقال أبو البقاء: همزة سيناء بالكسر أصل مثل حملاق وليست للتأنيث إذ ليس في الكلام مثل حمراء والياء أصل إذ ليس في الكلام سناء، وجوز بعضهم أن يكون فيعالا كديماس، وقرأ الأعمش «سينا» بالفتح والقصر، وقرىء «سناء» بالكسر والقصر فألفه للتأنيث إن لم يكن أعجميا، والمراد بهذه الشجرة شجرة الزيتون وتخصيصه بالذكر من بين سائر الأشجار لاستقلالها بمنافع معروفة. وقد قيل هي أول شجرة نبتت بعد الطوفان وتعمر كثيرا، ففي التذكرة أنها تدوم ألف عام ولا تبعد صحته لكن علله بقوله: لتعلقها بالكوكب العالي وهو بعيد الصحة. وفي تفسير الخازن قيل تبقى ثلاثة آلاف سنة وتخصيصها بالوصف بالخروج من الطور مع خروجها من سائر البقاع أيضا وأكثر ما تكون في المواضع التي زاد عرضها على ميلها واشتد بردها وكانت جبلية ذا تربة بيضاء أو حمراء لتعظيمها أو لأنه المنشأ الأصلي لها. ولعل جعله للتعظيم أولى فيكون هذا مدحا لها باعتبار مكانها.
وقوله تعالى: تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ مدحا لها باعتبار ما هي عليه في نفسها، والباء للملابسة والمصاحبة مثلها في قولك: جاء بثياب السفر وهي متعلقة بمحذوف وقع حالا من ضمير الشجرة أي تنبت ملتبسة بالدهن وهو عصارة كل ما فيه دسم، والمراد به هنا الزيت وملابستها به باعتبار ملابسة ثمرها فإنه الملابس له في الحقيقة.
وجوز أن تكون الباء متعلقة بالفعل معدية له كما في قولك: ذهبت بزيد كأنه قيل: تنبت الدهن بمعنى تتضمنه وتحصله، ولا يخفى أن هذا وإن صح إلا أن إنبات الدهن غير معروف في الاستعمال.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وسلام وسهل ورويس والجحدري «تنبت» بضم التاء المثناة من فوق وكسر الباء على أنه من باب الافعال، وخرج ذلك على أنه من أنبت بمعنى نبت فالهمزة فيه ليست للتعدية وقد جاء كذلك في قول زهير:
رأيت ذوي الحاجات حول بيوتهم قطينا لهم حتى إذا أنبت البقل
وأنكر ذلك الأصمعي وقال: إن الرواية في البيت نبت بدون همزة مع أنه يحتمل أن تكون همزة أنبت فيه إن كانت للتعدية بتقدير مفعول أي أنبت البقل ثمره أو ما يأكلون، ومنهم من خرج ما في الآية على ذلك وقال: التقدير تنبت زيتونها بالدهن، والجار والمجرور على هذا في موضع الحال من المفعول أو من الضمير المستتر في الفعل وقيل: الباء زائدة كما في قوله تعالى: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة: ١٩٥] ونسبة الإنبات إلى الشجرة بل وإلى الدهن مجازية قال الخفاجي: ويحتمل تعدية أنبت بالباء لمفعول ثان.
وقرأ الحسن والزهري وابن هرمز «تنبت» بضم أوله وفتح ما قبل آخره مبنيا للمفعول والجار والمجرور في موضع الحال، وقرأ زر بن حبيش «تنبت» من الافعال «الدهن» بالنصب وقرأ سليمان بن عبد الملك والأشهب «بالدهان» جمع دهن كرماح جمع رمح، وما رووا من قراءة عبد الله تخرج الدهن وقراءة أبي تثمر بالدهن محمول على التفسير ما في البحر لمخالفته سواد المصحف المجمع عليه ولأن الرواية الثابتة عنهما كقراءة الجمهور.
وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ معطوف على الدهن، ومغايرته له التي يقتضيها العطف باعتبار المفهوم وإلا فذاتهما واحدة عند كثير من المفسرين، وقد جاء كثيرا تنزيل تغاير المفهومين منزلة تغاير الذاتين، ومنه قوله:
224
إلى الملك القرم وابن الهمام وليث الكتيبة في المزدحم
والمعنى تنبت بالشيء الجامع بين كونه دهن يدهن به ويسرج منه وكونه إداما يصبغ فيه الخبز أي يغمس للائتدام قال في المغرب يقال: صبغ الثوب بصبغ حسن وصباغ ومنه الصبغ والصباغ من الإدام لأن الخبز يغمس فيه ويلون به كالخل والزيت، وظاهر هذا اختصاصه بكل إدام مائع وبه صرح في المصباح. وصرح بعضهم بأن إطلاق الصبغ على ذلك مجاز، ولعل في كلام المغرب نوع إشارة إليه وروي عن مقاتل أنه قال: الدهن الزيت والصبغ الزيتون وعلى هذا يكون العطف من عطف المتغايرين ذاتا وهو الأكثر في العطف، ولا بد أن يقال عليه: إن الصبغ الإدام مطلقا وهو ما يؤكل تبعا للخبز في الغالب مائعا كان أم جامدا والزيتون أكثر ما يأكله الفقراء في بلادنا تبعا للخبز والأغنياء يأكلونه تبعا لنحو الأرز وقلما يأكلونه تبعا للخبز، وأنا مشغوف به مذ أنا يافع فكثيرا ما آكله تبعا واستقلالا، وأما الزيت فلم أر في أهل بغداد من اصطبغ منه وشذ من أكل منهم طعاما وهو فيه وأكثرهم يعجب ممن يأكله ومنشأ ذلك قلة وجوده عندهم وعدم الفهم له فتعافه نفوسهم، وقد كنت قديما تعافه نفسي وتدريجا ألفته والحمد لله تعالى، فقد كان صلّى الله عليه وسلّم يأكله.
وصح أنه صلّى الله عليه وسلّم طبخ له لسان شاة بزيت فأكل منه
وأخرج أبو نعيم في الطب عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كلوا الزيت وادهنوا به فإنه شفاء من سبعين داء منها الجذام»
وأخرج الترمذي في الأطعمة عن عمر رضي الله تعالى عنه مرفوعا «كلوا الزيت وادهنوا به فإنه يخرج من شجرة مباركة»
لكن قال بعضهم: هذا الأمر لمن قدر على استعماله ووافق مزاجه وهو كذلك فلا اعتراض على من لم يوافق مزاجه في عدم استعماله بل الظاهر حرمة استعماله عليه إن أضر به كما قالوا بحرمة استعمال الصفراوي للعسل ولا فرق في ذلك بين الأكل والادهان فإن الأدهان به قد يضر كالأكل، قال ابن القيم: الدهن في البلاد الحارة كالحجاز من أسباب حفظ الصحة وإصلاح البدن وهو كالضروري لأهلها وأما في البلاد الباردة فضار وكثرة دهن الرأس بالزيت فيها فيه خطر على البصر انتهى.
وقرأ عامر بن عبد الله «وصباغا» وهو بمعنى صبغ كما مرت إليه الإشارة ومنه دبغ ودباغ ونصبه بالعطف على موضع بِالدُّهْنِ وفي تفسير ابن عطية وقرأ عامر بن عبد قيس ومتاعا للآكلين وهو محمول على التفسير.
وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً بيان للنعم الواصلة إليهم من جهة الحيوان إثر بيان النعم الفائضة من جهة الماء والنبات وقد بين أنها مع كونها في نفسها نعمة ينتفعون بها على وجوه شتى عبرة لا بد من أن يعتبروا بها ويستدلوا بأحوالها على عظم قدرة الله عز وجل وسابغ رحمته ويشكروه ولا يكفروه، وخص هذا بالحيوان لما أن محل العبرة فيه أظهر.
وقوله تعالى: نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها تفصيل لما فيها من مواقع العبر. وما في بطونها عبارة إما عن الألبان فمن تبعيضية والمراد بالبطون الأجواف فإن اللبن في الضروع أو عن العلف الذي يتكون منه اللبن فمن ابتدائية والبطون على حقيقتها. وأيا ما كان فضمير بُطُونِها للأنعام باعتبار نسبة ما للبعض إلى الكل لا للإناث منها على استخدام لأن عموم ما بعده يأباه، وقرىء بفتح النون وبالتاء أي تسقيكم الأنعام.
وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ غير ما ذكر من أصوافها وأشعارها وأوبارها وَمِنْها تَأْكُلُونَ الظاهر أن الأكل على معناه الحقيقي ومن تبعيضية لأن من أجزاء الأنعام ما لا يؤكل، وتقديم المعمول للفاصلة أو للحصر الإضافي بالنسبة إلى الحمير ونحوها أو الحصر باعتبار ما في تَأْكُلُونَ من الدلالة على العادة المستمرة، وكان هذا بيان لانتفاعهم بأعيانها وما قبله بيان لانتفاعهم بمرافقها وما يحصل منها ويجوز عندي ولم أر من صرح به أن يكون الأكل مجازا أو كناية عن التعيش مطلقا كما سمعت قبل أي ومنها ترزقون وتحصلون معايشكم.
225
ﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞ ﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚ ﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥ ﯧﯨﯩﯪﯫ ﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟ ﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨ ﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰ ﭲﭳﭴﭵﭶﭷ ﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇ ﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡ ﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩ ﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔ ﯖﯗﯘﯙﯚ ﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥ ﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲ ﯴﯵﯶﯷﯸ ﯺﯻﯼﯽﯾ ﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈ ﰊﰋﰌﰍﰎﰏ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗ ﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮ ﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷ ﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿ ﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇ ﮉﮊﮋﮌ ﮎﮏﮐﮑﮒﮓ ﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟ ﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬ ﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖ ﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡ ﯣﯤﯥﯦﯧ ﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯ ﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸ ﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀ ﰂﰃﰄﰅﰆ ﰈﰉﰊﰋﰌ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚ ﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢ ﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰ ﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿ
عَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ
في البر والبحر بأنفسكم وأثقالكم. وضميرلَيْها
للأنعام باعتبار نسبة ما للبعض إلى الكل أيضا. ويجوز أن يكون لها باعتبار أن المراد بها الإبل على سبيل الاستخدام لأنها هي المحمول عليها عندهم والمناسبة للفلك فإنها سفائن البر قال ذو الرمة في صيدحة:
سفينة بر تحت خدي زمامها وهذا مما لا بأس به، وأما حمل الأنعام من أول الأمر على الإبل فلا يناسب مقام الامتنان ولا سياق الكلام، وفي الجمع بينهما وبين الفلك في إيقاع الحمل عليها مبالغة في تحملها للحمل، قيل: وهذا هو الداعي إلى تأخير هذه المنفعة مع كونها من المنافع الحاصلة منها عن ذكر منفعة الأكل المتعلقة بعينها.
226
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ [المؤمنون: ٢٣. ٦٣] شروع في بيان إهمال الناس وتركهم النظر والاعتبار فيما عدد سبحانه من النعم وما حاقهم من زوالها وفي ذلك تخويف لقريش.
وتقديم قصة نوح عليه السلام على سائر القصص مما لا يخفى وجهه، وفي إيرادها إثر قوله تعالى: عَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ
من حسن الموقع ما لا يوصف، وتصديرها بالقسم لإظهار كمال الاعتناء بمضمونها، والكلام في نسب نوح عليه السلام وكمية لبثه في قومه ونحو ذلك قد مر، والأصح أنه عليه السلام لم تكن رسالته عامة بل أرسل إلى قوم مخصوصين فَقالَ متعطفا عليهم ومستميلا لهم إلى الحق يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ أي اعبدوه وحده كما يفصح عنه قوله تعالى في سورة [هود: ٢] أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ وترك التقييد به للإيذان بأنها هي العبادة فقط وأما العبادة مع الإشراك فليست من العبادة في شيء رأسا، وقوله تعالى: ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ استئناف مسوق لتعليل العبادة المأمور بها أو تعليل الأمر بها، وغَيْرُهُ بالرفع صفة لإله باعتبار محله الذي هو الرفع على أنه فاعل- بلكم- أو مبتدأ خبره لَكُمْ أو محذوف ولَكُمْ للتخصيص والتبيين أي ما لكم في الوجود إله غيره تعالى. وقرىء «غيره» بالجر اعتبارا للفظ «إله» أَفَلا تَتَّقُونَ الهمزة لإنكار الواقع واستقباحه والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي أتعرفون ذلك أي مضمون قوله تعالى ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ فلا تتقون عذابه تعالى الذي يستوجبه ما أنتم عليه من ترك عبادته سبحانه وحده وإشراككم به عز وجل في العبادة ما لا يستحق الوجود لولا إيجاد الله تعالى إياه فضلا عن استحقاق العبادة فالمنكر عدم الاتقاء مع تحقق ما يوجبه، ويجوز أن يكون التقدير ألا تلاحظون فلا تتقون فالمنكر كلا الأمرين فالمبالغة حينئذ في الكمية وفي الأول في الكيفية، وتقدير مفعول تَتَّقُونَ حسبما أشرنا إليه أولى من تقدير بعضهم إياه زوال النعم ولا نسلم أن المقام يقتضيه كما لا يخفى فَقالَ الْمَلَأُ أي الإشراف الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ وصف الملإ بالكفر مع اشتراك الكل فيه للإيذان بكمال عراقتهم وشدة شكيمتهم فيه، وليس المراد من ذلك إلا ذمهم دون التمييز عن أشراف آخرين آمنوا به عليه السلام إذ لم يؤمن به أحد من أشرافهم كما يفصح عنه قول: ما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا وقال الخفاجي: يصح أن يكون الوصف بذلك للتمييز وإن لم يؤمن بعض أشرافهم وقت التكلم بهذا الكلام لأن من أهله عليه السلام المتبعين له أشرافا وأما قول ما نَراكَ [هود: ٢٧] إلخ فعلى زعمهم أو لقلة المتبعين له من الأشراف، وأيا ما كان فالمعنى فقال الملأ لعوامهم ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أي في الجنس والوصف من غير فرق بينكم وبينه وصفوه عليه السلام بذلك مبالغة في وضع رتبته العالية وحطها عن منصب النبوة، ووصفوه بقوله سبحانه: يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ إغضابا للمخاطبين عليه عليه السلام وإغراء لهم على
227
معاداته، والتفضل طلب الفضل وهو كناية عن السيادة كأنه قيل: يريد أن يسودكم ويتقدمكم بادعائه الرسالة مع كونه مثلكم، وقيل: صيغة التفعل مستعارة للكمال فإنه ما يتكلف له يكون على أكمل وجه فكأنه قيل: يريد كمال الفضل عليكم وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً بيان لعدم رسالة البشر على الإطلاق على زعمهم الفاسد بعد تحقيق بشريته عليه السلام أي ولو شاء الله تعالى إرسال الرسول لأرسل رسلا من الملائكة، وإنما قيل لَأَنْزَلَ لأن إرسال الملائكة لا يكون إلا بطريق الإنزال فمفعول المشيئة مطلق الإرسال المفهوم من الجواب لا نفس مضمونه كما في قوله تعالى:
وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ [النحل: ٩] ولا بأس في ذلك، وأما القول بأن مفعول المشيئة إنما يحذف إذا لم يكن أمرا غريبا وكان مضمون الجزاء فهو ضابطة للحذف المطرد فيه لا مطلقا فإنه كسائر المفاعيل يحذف ويقدر بحسب القرائن، وعلى هذا يجوز أن يقال: التقدير ولو شاء الله تعالى عبادته وحده لأنزل ملائكة يبلغوننا ذلك عنه عز وجل وكان هذا منهم طعن في قوله عليه السلام لهم اعْبُدُوا اللَّهَ وكذا قوله تعالى: ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ بل هو طعن فيما ذكر على التقدير الأول أيضا وذلك بناء على أن هذا إشارة إلى الكلام المتضمن الأمر بعبادة الله عز وجل خاصة والكلام على تقدير مضاف أي ما سمعنا بمثل هذا الكلام في آبائنا الماضين قبل بعثته عليه السلام، وقدر المضاف لأن عدم السماع بكلام نوح المذكور لا يصلح للرد فإن السماع بمثله كاف للقبول، وقيل: الإشارة إلى نفس هذا الكلام مع قطع النظر عن المشخصات فلا حاجة إلى تقدير المضاف وهو كلام وجيه ثم إن قولهم هذا إما لكونهم وآبائهم في فترة وإما لفرط غلوهم في التكذيب والعناد وانهماكهم في الغي والفساد، وأيا ما كان ينبغي أن يكون هو الصادر عنهم في مبادي دعوته عليه السلام كما ينبىء عنه الفاء الظاهرة في التعقيب في قوله تعالى: فَقالَ الْمَلَأُ إلخ.
وقيل: هذا إشارة إلى نوح عليه السلام على معنى ما سمعنا بخبر نبوته، وقيل: إلى اسمه وهو لفظ نوح والمعنى لو كان نبيا لكان له ذكر في آبائنا الأولين، وعلى هذين القولين يكون قولهم المذكور من متأخري قومه المولودين بعد بعثته بمدة طويلة فيكون المراد من آبائهم الأولين من مضى قبلهم في زمنه عليه الصلاة والسلام، وصدور ذلك عنهم في أواخر أمره عليه السلام وقيل: بعد مضي آبائهم ولا يلزم أن يكون في الأواخر، وعليهما أيضا يكون قولهم: إِنْ هُوَ أي ما هو إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ أي جنون أو جن يخبلونه ولذلك يقول ما يقول فَتَرَبَّصُوا بِهِ فاحتملوه واصبروا عليه وانتظروا حَتَّى حِينٍ لعله يفيق مما هو فيه محمولا على ترامي أحوالهم في المكابرة والعناد وإضرابهم عما وصفوه عليه السلام به من البشرية وإرادة التفضل إلى وصفه بما ترى وهم يعرفون أنه عليه السلام أرجح الناس عقلا وأرزنهم قولا، وهو على ما تقدم محمول على تناقض مقالاتهم الفاسدة قاتلهم الله تعالى أنى يؤفكون قالَ استئناف بياني كأنه قيل: فماذا قال عليه السلام بعد ما سمع منهم هذه الأباطيل؟ فقيل: قال لما رآهم قد أصروا على ما هم فيه وتمادوا على الضلال حتى يئس من إيمانهم بالكلية وقد أوحي إليه أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ [هود: ٣٦] رَبِّ انْصُرْنِي بإهلاكهم بالمرة بناء على أنه حكاية إجمالية لقوله عليه السلام رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً [نوح: ٢٦] إلخ، والباء في قوله تعالى: بِما كَذَّبُونِ للسببية أو للبدل وما مصدرية أي بسبب تكذيبهم إياي أو بدل تكذيبهم، وجوز أن تكون الباء آلية وما موصولة أي انصرني بالذي كذبوني به وهو العذاب الذي وعدتهم إياه ضمن قولي: إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الأعراف: ٥٩، الشعراء:
١٣٥، الأحقاف: ٢١] وحاصله انصرني بإنجاز ذلك، ولا يخفى ما في حذف مثل هذا العائد من الكلام، وقرأ أبو جعفر وابن محيصن «رب» بضم الباء ولا يخفى وجهه فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ عقيب ذلك، وقيل: بسبب ذلك أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ أَنِ مفسرة لما في الوحي من معنى القول بِأَعْيُنِنا ملتبسا بمزيد حفظنا ورعايتنا لك من التعدي أو من
228
الزيغ في الصنع وَوَحْيِنا وأمرنا وتعليمنا لكيفية صنعها، والفاء في قوله تعالى: فَإِذا جاءَ أَمْرُنا لترتيب مضمون ما بعدها على إتمام صنع الفلك، والمراد بالأمر العذاب كما في قوله تعالى: لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [هود: ٤٣] فهو واحد الأمور لا الأمر بالركوب فهو واحد الأوامر كما قيل، والمراد بمجيئه كمال اقترابه أي ابتداء ظهوره أي إذا جاء أثر تمام الفلك عذابنا، وقوله سبحانه: وَفارَ التَّنُّورُ بيان وتفسير لمجيء الأمر، روي أنه قيل له عليه السلام إذا فار التنور اركب أنت ومن معك وكان تنور آدم عليه السلام فصار إلى نوح عليه السلام فلما نبع منه الماء أخبرته امرأته فركبوا، واختلفوا في مكانه فقيل كان في مسجد الكوفة أي في موضعه عن يمين الداخل من باب كندة اليوم، وقيل:
كان في عين وردة من الشام، وقيل: بالجزيرة قريبا من الموصل، وقيل: التنور وجه الأرض، وقيل: فار التنور مثل كحمي الوطيس،
وعن علي كرّم الله تعالى وجهه أنه فسر فارَ التَّنُّورُ بطلع الفجر
فقيل: معناه إن فوران التنور كان عند طلوع الفجر وفيه بعد وتمام الكلام في ذلك قد تقدم لك.
فَاسْلُكْ فِيها أي ادخل فيها يقال سلك فيه أي دخل فيه وسلكه فيه أي أدخله فيه، ومنه قوله تعالى: ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ [المدثر: ٤٢] مِنْ كُلٍّ أي من كل أمة زَوْجَيْنِ أي فردين مزدوجين كما يعرب عنه قوله تعالى: اثْنَيْنِ فإنه ظاهر في الفردين دون الجمعين.
وقرأ أكثر القراء من «كل زوجين» بالإضافة على أن المفعول «اثنين» أي اسلك من كل أمتي الذكر والأنثى واحدين مزدوجين كجمل وناقة وحصان ورمكة. روي أنه عليه السلام لم يحمل في الفلك من ذلك إلا ما يلد ويبيض وأما ما يتولد من العفونات كالبق والذباب والدود فلم يحمل شيئا منه، ولعل نحو البغال ملحقة في عدم الحمل بهذا الجنس لأنه يحصل بالتوالد من نوعين فالحمل منهما مغن عن الحمل منه إذا كان الحمل لئلا ينقطع النوع كما هو الظاهر فيحتاج إلى خلق جديد كما خلق في ابتداء الأمر. والآية صريحة في أن الأمر بالإدخال كان قبل صنعه الفلك، وفي سورة [هود: ٤٠] حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ فالوجه أن يحمل على أنه حكاية لأمر آخر تنجيزي ورد عند فوران التنور الذي نيط به الأمر التعليقي اعتناء بشأن المأمور به أو على أن ذلك هو الأمر السابق بعينه لكن لما كان الأمر التعليقي قبل تحقق المعلق به في حق إيجاب المأمور به بمنزلة العدم جعل كأنه إنما حدث عند تحققه فحكي على صورة التنجيز وَأَهْلَكَ قيل عطف على اثْنَيْنِ على قراءة الإضافة وعلى زَوْجَيْنِ على قراءة التنوين، ولا يخفى اختلال المعنى عليه فهو منصوب بفعل معطوف على فَاسْلُكْ أي واسلك أهلك، والمراد بهم أمة الإجابة الذين آمنوا به عليه الصلاة والسلام سواء كانوا من ذوي قرابته أم لا وجاء إطلاق الأهل على ذلك، وإنما حمل عليه هنا دون المعنى المشهور ليشمل من آمن ممن ليس ذا قرابة فإنهم قد ذكروا في سورة هود والقرآن يفسر بعضه بعضا، وعلى هذا يكون قوله تعالى: إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ استثناء منقطعا، واختار بعضهم حمل الأهل على المشهور وإرادة امرأته وبنيه منه كما في سورة هود وحينئذ يكون الاستثناء متصلا كما كان هناك، وعدم ذكر من آمن للاكتفاء بالتصريح به ثمت مع دلالة ما في الاستثناء وكذا ما بعده على أنه ينبغي إدخاله، وتأخير الأمر بإدخال الأهل على التقديرين عما ذكر من إدخال الأزواج لأن إدخال الأزواج يحتاج إلى مزاولة الأعمال منه عليه السلام وإلى معاونة أهله إياه وأما هم فإنما يدخلون باختيارهم، ولأن في المؤخر ضرب تفصيل بذكر الاستثناء وغيره فتقديمه يخل بتجاوب النظم الكريم، والمراد بالقول القول بالإهلاك، والمراد بسبق ذلك تحققه في الأزل أو كتابة ما يدل عليه في اللوح المحفوظ قبل أن تخلق الدنيا، وجيء بعلى لكون السابق ضارا كما جيء باللام في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى [الأنبياء: ١٠١] لكون السابق نافعا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا أي لا تكلمني فيهم بشفاعة وإنجاء لهم من الغرق ونحوه، وإذا كان المراد بهم من سبق عليه القول
229
فالإظهار في مقام الإضمار لا يخفى وجهه إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ تعليل للنهي أو لما ينبىء عنه من عدم قبول الشفاعة لهم أي إنهم مقضي عليهم بالإغراق لا محالة لظلمهم بالإشراك وسائر المعاصي ومن هذا شأنه لا ينبغي أن يشفع له أو يشفع فيه وكيف ينبغي ذلك وهلاكه من النعم التي يؤمر بالحمد عليها كما يؤذن به قوله تعالى: فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ من أهلك وأتباعك عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ فإن الحمد على الإنجاء منهم متضمن للحمد على إهلاكهم، وإنما قيل ما ذكر ولم يقل فقل الحمد لله الذي أهلك القوم الظالمين لأن نعمة الإنجاء أتم، وقال الخفاجي: إن في ذلك إشارة إلى أنه لا ينبغي المسرة بمصيبة أحد ولو عدوا من حيث كونها مصيبة له بل لما تضمنته من السلامة من ضرره أو تطهير الأرض من وسخ شركه وإضلاله.
وأنت تعلم أن الحمد هنا رديف الشكر فإذا خص بالنعمة الواصلة إلى الشاكر لا يصح أن يتعلق بالمصيبة من حيث إنها مصيبة وهو ظاهر، وفي أمره عليه السلام بالحمد على نجاة أتباعه إلى أنه نعمة عليه أيضا.
وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي في الفلك مُنْزَلًا أي إنزالا أو موضع إنزال مُبارَكاً يتسبب لمزيد الخير في الدارين وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ أي من يطلق عليه ذلك، والدعاء بذلك إذا كان بعد الدخول فالمراد إدامة ذلك الإنزال ولعل المقصود إدامة البركة، وجوز أن يكون دعاء بالتوفيق للنزول في أبرك منازلها لأنها واسعة، وإن كان قبل الدخول فالأمر واضح، وروى جماعة عن مجاهد أن هذا دعاء أمر نوح عليه السلام أن يقوله عند النزول من السفينة فالمعنى رب أنزلني منها في الأرض منزلا إلخ، وأخذ منه قتادة. ندب أن يقول راكب السفينة عند النزول منها رَبِّ أَنْزِلْنِي إلخ، واستظهر بعضهم الأول إذ العطف ظاهر في أن القولين وقت الاستواء. وأعاد قُلْ لتعدد الدعاء، والأول متضمن دفع مضرة ولذا قدم وهذا لجلب منفعة.
وأمره عليه السلام أن يشفع دعاءه ما يطابقه من ثنائه عز وجل توسلا به إلى الإجابة فإن الثناء على المحسن يكون مستدعيا لإحسانه، وقد قالوا: الثناء على الكريم يعني عن سؤاله، وإفراده عليه السلام بالأمر مع شركة الكل في الاستواء لإظهار فضله عليه السلام وأنه لا يليق غيره منهم للقرب من الله تعالى والفوز بعز الحضور في مقام الإحسان مع الإيماء إلى كبريائه عز وجل وأنه سبحانه لا يخاطب كل أحد من عباده والإشعار بأن في دعائه عليه السلام وثنائه مندوحة عما عداه.
وقرأ أبو بكر والمفضل وأبو حيوة وابن أبي عبلة وأبان «منزلا» بفتح الميم وفتح الزاي أي مكان نزول، وقرأ أبو بكر عن عاصم «منزلا» بفتح الميم وكسر الزاي. قال أبو علي: يحتمل أن يكون المنزل على هذه القراءة مصدرا وأن يكون موضع نزول إِنَّ فِي ذلِكَ الذي ذكر مما فعل به عليه السلام وبقومه لَآياتٍ جليلة يستدل بها أولو الأبصار ويعتبر ذوو الاعتبار وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ إن مخففة من ان واللام فارقة بينها وبين إن النافية وليست إن نافية واللام بمعنى إلا والجملة حالية أي وإن الشأن كنا مصيبين قوم نوح ببلاء عظيم وعقاب شديد أو مختبرين بهذه الآيات عبادنا لننظر من يعتبر ويتذكر، والمراد معاملين معاملة المختبر وهذا كقوله تعالى: وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر: ١٥] ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ أي من بعد إهلاك قوم نوح عليه السلام قَرْناً آخَرِينَ هم عاد أو ثمود فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ هو هود أو صالح عليهما السلام، والأول هو المأثور عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وإليه ذهب أكثر المفسرين، وأيد بقوله تعالى حكاية عن هود وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ [الأعراف: ٦٩] وبمجيء قصة عاد بعد قصة نوح في سورة الأعراف وسورة هود وغيرهما واختار أبو سليمان الدمشقي والطبري الثاني واستدلا عليه بذكر الصيحة آخر القصة والمعروف أن قوم صالح هم المهلكون بها دون قوم
230
هود، وسيأتي الجواب عنه إن شاء الله تعالى، وجعل القرن ظرفا للإرسال كما في قوله تعالى: كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ [الرعد: ٣٠] لا غاية له كما في قوله تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ للإيذان من أول الأمر أن من أرسل إليهم لم يأتهم من غير مكانهم بل إنما نشأ فيما بين أظهرهم، وأَنِ في قوله تعالى: أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مفسرة لتضمن الإرسال معنى القول أي قلنا لهم على لسان الرسول اعبدوا الله، وجوز كونها مصدرية ولا مانع من وصلها بفعل الأمر وقبلها جار مقدر أي أرسلنا فيهم رسولا بأن اعبدوا الله وحده ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ الكلام فيه كالكلام في نظيره المار في قصة نوح عليه السلام وَقالَ الْمَلَأُ أي الأشراف مِنْ قَوْمِهِ بيان لهم، وقوله تعالى:
الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ أي بلقاء ما فيها من الحساب والثواب والعقاب أو بالمعاد أو بالحياة الثانية صفة للملأ جيء بها ذما لهم وتنبيها على غلوهم في الكفر، ويجوز أن تكون للتمييز إن كان في ذلك القرن من آمن من الأشراف، وتقديم مِنْ قَوْمِهِ هنا على الصفة مع تأخيره في القصة السابقة لئلا يطول الفصل بين البيان والمبين لو جيء به بعد الصفة وما في حيزها مما تعلق بالصلة مع ما في ذلك من توهم تعلقه بالدنيا أو يفصل بين المعطوف والمعطوف عليه لو جيء به بعد الوصف وقبل العطف كذا قيل.
وتعقب بأنه لا حاجة إلى ارتكاب جعل الَّذِينَ صفة للملأ وإبداء نكتة للتقديم المذكور مع ظهور جواز جعله صفة لقومه. ورد بأن الداعي لارتكابه عطف قوله تعالى: وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا أي نعمناهم ووسعنا عليهم فيها على الصلة فيكون صفة معنى للموصوف بالموصول والمتعارف إنما هو وصف الأشراف بالمترفين دون غيرهم وكذا الحال إذا لم يعطف وجعل حالا من ضمير كَذَّبُوا وأنت تعلم أنا لا نسلم أن المتعارف إنما هو وصف الأشراف بالمترفين ولئن سلمنا فوصفهم بذلك قد يبقى مع جعل الموصول صفة لقومه بأن يجعل جملة أَتْرَفْناهُمْ حالا من الْمَلَأُ بدون تقدير قد أو بتقديرها أي قال الملأ في حق رسولنا ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ إلخ في حال إحساننا عليهم.
نعم الظاهر لفظا جملة أَتْرَفْناهُمْ على جملة الصلة، والأبلغ معنى جعلها حالا من الضمير لإفادته الإساءة إلى من أحسن وهو أقوى في الذم، وجيء بالواو العاطفة في وَقالَ الْمَلَأُ هنا ولم يجأ بها بل جيء بالجملة مستأنفة استئنافا بيانيا في موضع آخر لأن ما نحن فيه حكاية لتفاوت ما بين المقالتين أعني مقالة المرسل ومقالة المرسل إليهم لا حكاية المقاولة لأن المرسل إليهم قالوا ما قالوا بعضهم لبعض وظاهر إباء ذلك الاستئناف وأما هنالك فيحق الاستئناف لأنه في حكاية المقاولة بين المرسل والمرسل إليهم واستدعاء مقام المخاطبة ذلك بين كذا في الكشف، ولا يحسم مادة السؤال إذ يقال معه: لم حكي هنالك المقاولة وهنا التفاوت بين المقالتين ولم يعكس؟ ومثل هذا يرد على من علل الذكر هنا والترك هناك بالتفنن بأن يقال: إنه لو عكس بأن ترك هنا وذكر هناك لحصل التفنن أيضا، وأنا لم يظهر لي السر في ذلك، وأما الإتيان بالواو هنا والفاء في فَقالَ الْمَلَأُ في قصة نوح عليه السلام فقد قيل: لعله لأن كلام الملأ هنا لم يتصل بكلام رسولهم بخلاف كلام قوم نوح عليه السلام والله تعالى أعلم بحقائق الأمور.
ولا يخفى ما في قولهم ما هذا إلخ من المبالغة في توهين أمر الرسول عليه السلام وتهوينه قاتلهم الله ما أجهلهم، وقوله تعالى: يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ تقرير للمماثلة، والظاهر أن ما الثانية موصولة والعائد إليها ضمير مجرور حذف مع الجار لدلالة ما قبله عليه الحذف هنا مثله في قولك: مررت بالذي مررت في استيفاء الشرائط، وحسنه هنا كون تَشْرَبُونَ فاصلة.
وفي التحرير زعم الفراء حذف العائد المجرور مع الجار في هذه الآية وهذا لا يجوز عند البصريين، والآية إما لا
231
حذف فيها أو فيها حذف المفعول فقط لأن ما إذا كانت مصدرية لم تحتج إلى عائد وإن كانت موصولة فالعائد المحذوف ضمير منصوب على المفعولية متصل بالفعل والتقدير مما تشربونه اهـ، وهذا تخريج على قاعدة البصريين ويفوت عليه فصاحة معادلة التركيب على أن الوجه الأول محوج إلى تأويل المصدر باسم المفعول وبعد ذلك يحتاج إلى تكلف لصحة المعنى ويحتاج إلى ذلك التكلف على الوجه الثاني أيضا إذ لا يشرب أحد من مشروبهم ولا من الذي يشربونه وإنما يشرب من فرد آخر من الجنس فلا بد من إرادة الجنس على الوجهين.
وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ فيما ذكر من الأحوال والصفات أي إن امتثلتم بأوامره إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ عقولكم ومغبونون في آرائكم حيث أذللتم أنفسكم، واللام موطئة للقسم وجملة إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ جواب القسم، وإِذاً فيما أميل إليه ظرفية متعلقة بما تدل عليه النسبة بين المبتدأ والخبر من الثبوت أو بالخبر واللام لا تمنع عن العمل في مثل ذلك، وجواب الشرط محذوف دل عليه المذكور.
قال أبو حيان: ولو كان هذا هو الجواب للزمت الفاء فيه بأن يقال: فإنكم إلخ بل لو كان بالفاء في تركيب غير القرآن الكريم لم يكن ذلك التركيب جائزا إلا عند الفراء، والبصريون لا يجيزونه وهو عندهم خطأ اهـ.
وذكر بعضهم أن «إذا» هنا للجزاء والجواب وتكلف لذلك ولا يدعو إليه سوى ظن وجوب اتباع المشهور وأن الحق في أمثال هذه المقامات منحصر فيما عليه الجمهور، وفي همع الهوامع وكذا في الإتقان للجلال السيوطي في هذا البحث ما ينفعك مراجعته فراجعه أَيَعِدُكُمْ استئناف مسوق لتقرير ما قبله من زجرهم عن اتباعه عليه السلام بإنكار وقوع ما يدعوهم للإيمان به واستبعاده، وقوله تعالى: أَنَّكُمْ على تقدير حرف الجر أي بأنكم، ويجوز أن لا يقدر ونحو وعدتك الخير إِذا مِتُّمْ بكسر الميم من مات يمات، وقرىء بضمها من مات يموت وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أي وكان بعض أجزائكم من اللحم ونظائره ترابا وبعضها عظاما نخرة مجردة عن اللحوم والأعصاب، وتقديم التراب لعراقته في الاستبعاد وانقلابه من الأجزاء البادية أو وكان متقدموكم ترابا صرفا ومتأخروكم عظاما، وقوله تعالى: أَنَّكُمْ تأكيد لأنكم الأول لطول الفصل بينه وبين خبره الذي هو قوله تعالى: مُخْرَجُونَ وإذا ظرف متعلق به أي أيعدكم أنكم مخرجون من قبوركم أحياء كما كنتم أولا إذا متم وكنتم ترابا.
واختار هذا الإعراب الفراء والجرمي والمبرد، ولا يلزم من ذلك كون الإخراج وقت الموت كما لا يخفى خلافا لما توهمه أبو نزار الملقب بملك النحاة. ورده السخاوي ونقله عنه الجلال السيوطي في الأشباه والمنقول عن سيبويه أن أَنَّكُمْ بدل من أَنَّكُمْ الأول وفيه معنى التأكيد وخبر أن الأولى محذوف لدلالة خبر الثانية عليه أي أيعدكم أنكم تبعثون إذا متم وهذا الخبر المحذوف هو العامل في إذا، ولا يجوز أن يكون هو الخبر لأن ظرف الزمان لا يخبر به عن الجثة، وإذا أول بحذف المضاف أي إن إخراجكم إذا متم جاز، وكان المبرد يأبى البدل لكونه من غير مستقل إذ لم يذكر خبر أن الأولى.
وذهب الأخفش إلى أن أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ مقدر بمصدر مرفوع بفعل محذوف تقديره يحدث إخراجكم، فعلى هذا التقدير يجوز أن تكون الجملة الشرطية خبر أَنَّكُمْ الأول ويكون جواب إِذا ذلك الفعل المحذوف، ويجوز أن يكون ذلك الفعل هو خبر أن ويكون عاملا في إذا، وبعضهم يحكي عن الأخفش أنه يجعل أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ فاعلا بإذا كما يجعل الخروج في قولك: يوم الجمعة الخروج فاعلا بيوم على معنى يستقر الخروج يوم الجمعة.
وجوز بعضهم أن يكون أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ مبتدأ وإِذا مِتُّمْ خبرا على معنى إخراجكم إذا متم وتجعل
232
الجملة خبر أن الأولى، قال في البحر: وهذا تخريج سهل لا تكلف فيه ونسبه السخاوي في سفر السعادة إلى المبرد، والذي يقتضيه جزالة النظم الكريم ما ذكرناه عن الفراء ومن معه، وفي قراءة عبد الله «أيعدكم إذا متم» بإسقاط أَنَّكُمْ الأولى هَيْهاتَ اسم لبعد وهو في الأصل اسم صوت وفاعله مستتر فيه يرجع للتصديق أو الصحة أو الوقوع أو نحو ذلك مما يفهمه السياق فكأنه قيل بعد التصديق أو الصحة أو الوقوع، وقوله تعالى: هَيْهاتَ تكرير لتأكيد البعد، والغالب في هذه الكلمة مجيئها مكررة وجاءت غير مكررة في قول جرير:
وهيهات خل بالعقيق نواصله وقوله سبحانه: لِما تُوعَدُونَ بيان لمرجع ذلك الضمير فاللام متعلقة بمقدر كما في سقيا له أي التصديق أو الوقوع المتصف بالبعد كائن لما توعدون، ولا ينبغي أن يقال: إنه متعلق بالضمير الراجع إلى المصدر كما في قوله:
وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم وما هو عنها بالحديث المرجم
فإن إعمال ضمير المصدر وإن ذهب إليه الكوفيون نادر جدا لا ينبغي أن يخرج عليه كلام الله تعالى، وقيل: لم يثبت والبيت قابل للتأويل وهذا كله مع كون الضمير بارزا فما ظنك إذا كان مستترا، والقول بأن الفاعل محذوف وليس بضمير مستتر وهو مصدر كالوقوع والتصديق والجار متعلق به مما لا ينبغي أن يلتفت إليه أصلا لا سيما إذا كان ذلك المصدر المحذوف معرفا كما لا يخفى، ويجوز أن يكون الفاعل ضمير البعد واللام للبيان كأنه قيل، فعل البعد ووقع ثم قيل لماذا؟ فقيل: لما توعدون، وقيل: فاعل هَيْهاتَ ما توعدون واللام سيف خطيب، وأيد بقراءة ابن أبي عبلة «هيهات هيهات ما توعدون» بغير لام ورد بأنها لم تعهد زيادتها في الفاعل، وقيل: هيهات بمعنى البعد وهو مبتدأ مبني اعتبارا لأصله خبره لِما تُوعَدُونَ أي البعد كائن لما توعدون ونسب هذا التفسير للزجاج.
وتعقبه في البحر بأنه ينبغي أن يكون تفسير معنى لا تفسير إعراب لأنه لم تثبت مصدرية هَيْهاتَ وقرأ هارون عن أبي عمرو «هيهاتا هيهاتا» بفتحهما منونتين للتنكير كما في سائر أسماء الأفعال إذا نونت فهو اسم فعل نكرة، وقيل:
هو على هذه القراءة اسم متمكن منصوب على المصدرية، وقرأ أبو حيوة والأحمر بالضم والتنوين، قال صاحب اللوامح: يحتمل على هذا أن تكون هَيْهاتَ اسما متمكنا مرتفعا بالابتداء ولِما تُوعَدُونَ خبره والتكرار للتأكيد، ويحتمل أن يكون اسما للفعل والضم للبناء مثل حوب في زجر الإبل لكنه نون لكونه نكرة اهـ، وقيل: هو اسم متمكن مرفوع على الفاعلية أي وقع بعد، وعن سيبويه أنها جمع كبيضات، وأخذ بعضهم منه تساوي مفرديهما في الرنة فقال مفردها هيهة كبيضة. وفي رواية عن أبي حيوة أنه ضمها من غير تنوين تشبيها لهما بقبل وبعد ذلك. وقرأ أبو جعفر وشيبة بالكسر فيهما من غير تنوين. وروي هذا عن عيسى وهو لغة في تميم وأسد وعنه أيضا وعن خالد بن الياس أنهما قرآ بكسرهما والتنوين.
وقرأ خارجة بن مصعب عن أبي عمرو والأعرج وعيسى أيضا بالإسكان فيهما، فمنهم من يبقي التاء ويقف عليها كما في مسلمات، ومنهم من يبدلها هاء تشبيها بتاء التأنيث ويقف على الهاء، وقيل: الوقف على الهاء لاتباع الرسم، والذي يفهم من مجمع البيان أن هَيْهاتَ بالفتح تكتب بالهاء كأرطاة وأصلها هيهية كزلزلة قلبت الياء الثانية ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها وكذا هيهات بالرفع والتنوين، وهي على هذا اسم معرب مفرد، ومتى اعتبرت جمعا كتبت بالتاء وذلك إذا كانت مكسورة منونة أو غير منونة ونقل ذلك عن ابن جني.
وقرأ «أيهاه» بإبدال الهزة من الهاء الأولى والوقف بالسكون على الهاء، والذي أميل إليه أن جميع هذه القراءات لغات والمعنى واحد، وفي هذه الكلمة ما يزيد على أربعين لغة وقد ذكر ذلك في التكميل لشرح التسهيل وغيره إِنْ
233
هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا
أصله إن الحياة إلا حياتنا الدنيا ثم وضع الضمير موضع الحياة لأن الخبر يدل عليها ويبينها فالضمير عائد على متأخر وعوده كذلك جائز في صور، منها إذا فسر بالخبر كما هنا كذا قالوا. واعترض بأن الخبر موصوف فتلاحظ الصفة في ضميره كما هو المشهور في الضمير الراجع إلى موصوف وحينئذ يصير التقدير إن حياتنا الدنيا إلا حياتنا الدنيا.
وأجيب بأن الضمير قد يعود إلى الموصوف بدون صفته، وهذا في الآخرة يعود إلى القول بأن الضمير عائد على ما يفهم من جنس الحياة ليفيد الحمل ما قصدوه من نفي البعث فكأنهم قالوا: لا حياة إلا حياتنا الدنيا ومن ذلك يعلم خطأ من قال: إنه كشعري شعري، ومن هذا القبيل على رأي قولهم: هي العرب تقول ما شاءت، وقوله:
هي النفس ما حملتها تتحمل وللدهر أيام تجور وتعدل
وفي الكشف ليس المعنى النفس النفس لأنه لا يصلح الثاني حينئذ تفسيرا والجملة بعدها بيانا بل الضمير راجع إلى معهود ذهني أشير إليه ثم أخبر بما بعده كما في هذا أخوك انتهى فتأمل ولا تغفل، وقوله تعالى: نَمُوتُ وَنَحْيا جملة مفسرة لما ادعوه من أن الحياة هي الحياة الدنيا وأرادوا بذلك يموت بعضنا ويولد بعض وهكذا، وليس المراد بالحياة حياة أخرى بعد الموت إذ لا تصلح الجملة حينئذ للتفسير ولا يذم قائلها وناقضت قولهم: وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ وقيل: أرادوا بالموت العدم السابق على الوجود أو أرادوا بالحياة بقاء أولادهم فإن بقاء الأولاد في حكم حياة الآباء ولا يخفى بعده، ومثله على ما قيل وأنا لا أراه كذلك أن القوم كانوا قائلين بالتناسخ فحياتهم بتعلق النفس التي فارقت أبدانهم بأبدان أخر عنصرية تنقلت في الأطوار حتى استعدت لأن تتعلق بها تلك النفس المفارقة فزيد مثلا إذا مات تتعلق نفسه ببدن آخر قد استعد في الرحم للتعلق ثم يولد فإذا مات أيضا تتعلق نفسه ببدن آخر كذلك وهكذا إلى ما لا يتناهى، وهذا مذهب لبعض التناسخية وهم مليون ونحليون، ويمكن أن يقال: إن هذا على حد قوله تعالى لعيسى عليه السلام: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ [آل عمران: ٥٥] على قول فإن العطف فيه بالواو وهي لا تقتضي الترتيب فيجوز أن تكون الحياة التي عنوها الحياة قبل الموت ويحتمل أنهم قالوا نحيا ونموت إلا أنه لما حكي عنهم قيل: نَمُوتُ وَنَحْيا ليكون أوفق بقوله تعالى: إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا ثم المراد بقولهم وَما نَحْنُ إلخ استمرار النفي وتأكيده إِنْ هُوَ أي ما هو إِلَّا رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فيما يدعيه من إرساله تعالى إياه وفيما يعدنا من أن الله تعالى يبعثنا وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ بمصدقين فيما يقوله، والمراد أيضا استمرار النفي وتأكيده قالَ أي رسولهم عند يأسه من إيمانهم بعد ما سلك في دعوتهم كل مسلك متضرعا إلى الله عز وجل رَبِّ انْصُرْنِي عليهم وانتقم لي منهم بِما كَذَّبُونِ أي بسبب تكذيبهم إياي وإصرارهم عليه أو بدل تكذيبهم، ويجوز أن تكون الباء آلية وما موصولة كما مر في قصة نوح عليه السلام قالَ تعالى إجابة لدعائه وعدة بما طلب عَمَّا قَلِيلٍ أي عن زمان قليل فما صلة بين الجار والمجرور جيء بها لتأكيد معنى القلة وقَلِيلٍ صفة لزمان حذف واستغني به عنه ومجيئه كذلك كثير، وجوز أن تكون (ما) نكرة تامة وقَلِيلٍ بدلا منها، وأن تكون نكرة موصوفة بقليل، و (عن) بمعنى بعد هنا وهي متعلقة بقوله تعالى: لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ وتعلقها بكل من الفعل والوصف محتمل، وجاز ذلك مع توسط لام القسم لأن الجار كالظرف يتوسع فيه ما لا يتوسع في غيره.
وقال أبو حيان: جمهور أصحابنا على أن لام القسم لا يتقدمها معمول ما بعدها سواء كان ظرفا أم جارا ومجرورا أم غيرهما، وعليه يكون ذلك متعلقا بمحذوف يدل عليه ما قبله والتقدير عما قليل تنصر أو ما بعده أي يصبحون عما قليل ليصبحن إلخ، ومذهب الفراء وأبي عبيدة أنه يجوز تقديم معمول ما في حيز هذه اللام عليها
234
مطلقا، و «يصبح» بمعنى يصير أي بالله تعالى ليصيرن نادمين على ما فعلوا من التكذيب بعد زمان قليل وذلك وقت نزول العذاب في الدنيا ومعاينتهم له، وقيل: بعد الموت، وفي اللوامح عن بعضهم «لتصبحن» بتاء على المخاطبة فلو ذهب ذاهب إلى أن القول من الرسول إلى الكفار بعد ما أجيب دعاؤه لكان جائزا.
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ أي صيحة جبريل عليه السلام صاح عليه السلام بهم فدمرهم، وهذا على القول بأن القرن قوم صالح عليه السلام ظاهر، ومن قال: إنهم قوم هود عليه السلام أشكل ظاهر هذا عليه بناء على أن المصرح به في غير هذه السورة أنهم أهلكوا بريح عاتية، وأجاب بأن جبريل عليه السلام صاح بهم من الريح كما روي في بعض الأحاديث، وفي ذكر كل على حدة إشارة إلى أن كلّا لو انفرد لتدميرهم لكفى، ويجوز أن يراد بالصيحة العقوبة الهائلة والعذاب المصطلم كما في قوله:
صاح الزمان بآل برمك صيحة خروا لشدتها على الأذقان
بِالْحَقِّ متعلق بالأخذ أي بالأمر الثابت الذي لا مدافع له كما في قوله تعالى: وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ [ق: ١٩] أو بالعدل من الله عز وجل من قولك: فلان يقضي بالحق إذا كان عادلا في قضاياه أو بالوعد الصدق الذي وعده الرسول في ضمن قوله تعالى: عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً أي كغثاء السيل وهو ما يحمله من الورق والعيدان البالية ويجمع على أغثاء شذوذا وقد تشدد ثاؤه كما في قول امرئ القيس:
كأن ذرى رأس المجيمر (١) غدوة من السيل والغثاء فلكة مغزل
فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ يحتمل الاخبار والدعاء، والبعد ضد القرب والهلاك وفعلهما ككرم وفرح والمتعارف الأول في الأول والثاني في الثاني وهو منصوب بمقدر أي بعدوا بعدا من رحمة الله تعالى أو من كل خير أو من النجاة أو هلكوا هلاكا، ويجب حذف ناصب هذا المصدر عند سيبويه فيما إذا كان دعائيا كما صرح به في الدر المصون، واللام لبيان من دعي عليه أو أخبر ببعده فهي متعلقة بمحذوف لا ببعدا، وضع الظاهر موضع الضمير إيذانا بأن إبعادهم لظلمهم ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ أي بعد هلاكهم قُرُوناً آخَرِينَ هم عند أكثر المفسرين قوم صالح وقوم لوط وقوم شعيب وغير ذلك.
ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها أي ما تتقدم أمة من الأمم المهلكة الوقت الذي عين لهلاكهم فمن سيف خطيب جيء بها لتأكيد الاستغراق المستفاد من النكرة الواقعة في سياق النفي، وحاصل المعنى ما تهلك أمة من الأمم قبل مجيء أجلها وَما يَسْتَأْخِرُونَ ذلك الأجل ساعة، وضمير الجمع عائد على أُمَّةٍ باعتبار المعنى.
ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا عطف على أَنْشَأْنا لكن لا على معنى أن إرسالهم متراخ عن إنشاء القرون المذكورة جميعا بل على معنى أن إرسال كل رسول متأخر عن إرسال قرن مخصوص بذلك الرسول كأنه قيل: ثم أنشأنا من بعدهم قرونا آخرين قد أرسلنا إلى كل قرن منهم رسولا خاصا به، والفصل بين المعطوفين بالجملة المعترضة للمسارعة إلى بيان هلاك أولئك القرون على وجه إجمالي، وتعليق الإرسال بالرسل نظير تعليق القتل بالقتيل في من قتل قتيلا وللعلماء فيه توجيهات تَتْرا من المواترة وهو التتابع مع فصل ومهلة على ما قاله الأصمعي واختاره الحريري في الدرة.
(١) من جبال بني أسد اهـ منه. [.....]
235
وفي الصحاح المواترة المتابعة ولا تكون المواترة بين الأشياء إلا إذا وقعت بينها فترة وإلا فهي مداركة ومثله في القاموس، وعن أبي علي أنه قال: المواترة أن يتبع الخبر الخبر والكتاب الكتاب فلا يكون بينهما فصل كثير، ونقل في البحر عن بعض أن المواترة التتابع بغير مهلة، وقيل: هو التتابع مطلقا، والتاء الأولى بدل من الواو كما في تراث وتجاه ويدل على ذلك الاشتقاق، وجمهور القراء والعرب على عدم تنوينه فألفه للتأنيث كألف دعوى وذكرى وهو مصدر في موضع الحال والظاهر أنه حال من المفعول، والمراد كما قال أبو حيان والراغب وغيرهما ثم أرسلنا رسلنا متواترين، وقيل: حال من الفاعل والمراد أرسلنا متواترين.
وقيل هو صفة لمصدر مقدر أي إرسالا متواترا، وقيل مفعول مطلق لأرسلنا لأنه بمعنى واترنا وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وقتادة وأبو جعفر وشعبة وابن محيصن والإمام الشافعي عليه الرحمة «تترى» بالتنوين وهو لغة كنانة، قال في البحر: وينبغي عند من ينون أن تكون الألف فيه للإلحاق كما في أرطى وعلقى لكن ألف الإلحاق في المصادر نادرة، وقيل: إنها لا توجد فيها.
وقال الفراء: يقال تتر في الرفع وتتر في الجر وتترى في النصب فهو مثل صبر ونصر ووزنه فعل لا فعلى ومتى قيل تترى بالألف فألفه بدل التنوين كما في صبرت صبرا عند الوقف. ورد بأنه لم يسمع فيه إجراء الحركات الثلاث على الراء وعلى مدعيه الإثبات، وأيضا كتبه بالياء يأبى ذلك، وما ذكرنا من مصدرية تَتْرا هو المشهور، وقيل:
هو جمع، وقيل: اسم جمع وعلى القولين هو حال أيضا.
وقوله تعالى: كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ استئناف مبين لمجيء كل رسول لأمته ولما صدر عنهم عند تبليغ الرسالة، والمراد بالمجيء إما التبليغ وإما حقيقة المجيء للإيذان بأنهم كذبوه في أول الملاقاة، وإضافة الرسول إلى الأمة مع إضافة كلهم فيما سبق إلى نون العظمة لتحقيق أن كل رسول جاء أمته الخاصة به لا أن كلهم جاؤوا كل الأمم وللإشعار بكمال شناعة المكذبين وضلالهم حيث كذبوا الرسول المعين لهم، وقيل: أضاف سبحانه الرسول مع الإرسال إليه عز وجل ومع المجيء إلى المرسل إليهم لأن الإرسال إليه عز وجل ومع المجيء إلى المرسل إليهم لأن الإرسال الذي هو مبدأ الأمر منه تعالى والمجيء الذي هو منتهاه إليهم فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً في الهلاك حسبما تبع بعضهم بعضا في مباشرة سببه وهو تكذيب الرسول وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ جمع أحدوثة وهو ما يتحدث به تعجبا وتلهيا كأعاجيب جمع أعجوبة وهو ما يتعجب منه أي جعلناهم أحاديث يتحدث بها على سبيل التعجب والتلهي، ولا تقال الأحدوثة عند الأخفش إلا في الشر.
وجوز أن يكون جمع حديث وهو جمع شاذ مخالف للقياس كقطيع وأقاطيع ويسميه الزمخشري اسم جمع، والمراد إنا أهلكناهم ولم يبق إلا خبرهم فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ اقتصر هاهنا على وصفهم بعدم الإيمان حسبما اقتصر على حكاية تكذيبهم إجمالا، وأما القرون الأولون فحيث نقل عنهم ما مر من الغلو وتجاوز الحد في الكفر والعدوان وصفوا بالظلم ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا أي بالآيات المعهودة وهي الآيات التسع وقد تقدم الكلام في تفصيلها وما قيل فيه، وهارُونَ بدل أو عطف بيان، وتعرض لإخوته لموسى عليهما السلام للإشارة إلى تبعيته له في الإرسال وَسُلْطانٍ مُبِينٍ أي حجة واضحة أو مظهرة للحق، والمراد بها عند جمع العصا، وإفرادها بالذكر مع اندراجها في الآيات لتفردها بالمزايا حتى صارت كأنها شيء آخر، وجوز أن يراد بها الآيات والتعاطف من تعاطف المتحدين في الماصدق لتغاير مدلوليهما كعطف الصفة على الصفة مع اتحاد الذات وقد مر نظيره آنفا أو هو من ناب قولك: مررت بالرجل والنسمة المباركة حيث جرد من نفس الآيات سلطان مبين وعطف عليه مبالغة،
236
والإتيان به مفردا لأنه مصدر في الأصل أو للاتحاد في المراد، وعن الحسن أن المراد بالآيات التكاليف الدينية وبالسلطان المبين المعجز، وقال أبو حيان: يجوز أن يراد بالآيات نفس المعجزات وبالسلطان المبين كيفية دلالتها لأنها وإن شاركت آيات الأنبياء عليهم السلام في أصل الدلالة على الصدق فقد فارقتها في قوة دلالتها على ذلك وهو كما ترى، وممكن أن يقال: المراد بالسلطان تسلط موسى عليه السلام في المحاورة والاستدلال على الصانع عز وجل وقوة الجأش والإقدام «إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ أي أشراف قومه خصوا بالذكر لأن إرسال بني إسرائيل وهو مما أرسلا عليهما السلام لأجله منوط بآرائهم، ويمكن أن يراد بالملأ قومه فقد جاء استعماله بمعنى الجماعة مطلقا فَاسْتَكْبَرُوا عن الانقياد لما أمروا به ودعوا إليه من الإيمان وإرسال بني إسرائيل وترك تعذيبهم، ليست الدعوة مختصة بإرسال بني إسرائيل وإطلاقهم من الأسر ففي سورة [النازعات: ١٧- ١٩] اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى وأيضا فيما نحن فيه ما يدل على عدم الاختصاص.
وَكانُوا قَوْماً عالِينَ متكبرين أو متطاولين بالبغي والظلم والمراد كانوا قوما عادتهم العلو.
فَقالُوا عطف على (استكبروا) وما بينهما اعتراض مقرر للاستكبار، والمراد فقالوا فيما بينهم بطريق المناصحة أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا ثنى البشر لأنه يطلق على الواحد كقوله تعالى: بَشَراً سَوِيًّا
[مريم: ١٧] ويطلق على الجمع كما في قوله تعالى: فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً [مريم: ٢٦] ولم يثن مثل نظرا إلى كونه في حكم المصدر، ولو أفرد البشر لصح لأنه اسم جنس يطلق على الواحد وغيره، وكذا لو ثنى المثل فإنه جاء مثنى في قوله تعالى: يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ ومجموعا في قوله سبحانه: ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ نظرا إلى أنه في تأويل الوصف إلا أن المرجح لتثنيته الأول وإفراده الثاني الإشارة بالأول إلى قلتهما وانفرادهما عن قومهما مع كثرة الملأ واجتماعهم وبالثاني إلى شدة تماثلهم حتى كأنهم مع البشرين شيء واحد وهو أدل على ما عنوه.
وهذه القصص كما ترى تدل على أن مدار شبه المنكرين للنبوة قياس حال الأنبياء عليهم السلام على أحوالهم بناء على جهلهم بتفاصيل شؤون الحقيقة البشرية وتباين طبقات أفرادها في مراقي الكمال ومهاوي النقصان بحيث يكون بعضها في أعلى عليين وهم المختصون بالنفوس الزكية المؤيدون بالقوة القدسية المتعلقون لصفاء جواهرهم بكلا العالمين اللطيف والكثيف فيتلقون من جانب ويلقون إلى جانب ولا يعوقهم التعلق بمصالح الخلق عن التبتل إلى حضرة الحق وبعضها في أسفل سافلين وهم كأولئك الجهلة الذين هم كالأنعام بل هم أضل سبيلا.
ومن العجب أنهم لم يرضوا للنبوة ببشر، وقد رضي أكثرهم للإلهية بحجر فقاتلهم الله تعالى ما أجهلهم، والهمزة للإنكار أي لا نؤمن لبشرين مثلنا وَقَوْمُهُما يعنون سائر بني إسرائيل لَنا عابِدُونَ خادمون منقادون لنا كالعبيد ففي عابِدُونَ استعارة تبعية نظرا إلى متعارف اللغة.
ونقل الخفاجي عن الراغب أنه صرح بأن العابد بمعنى الخادم حقيقة، وقال أبو عبيدة: العرب تسمي كل من دان للملك عابدا، وجوز الزمخشري الحمل على حقيقة العبادة فإن فرعون كان يدعي الإلهية فادعى للناس العبادة على الحقيقة.
واعترض بأن الظاهر أن هذا القول من الملأ وهو يأبى ذلك، وكونهم قالوه على لسان فرعون كما يقول خواص ملك: نحن ذوو رعية كثيرة وملك طويل عريض ومرادهم أن ملكنا ذو رعية إلخ خلاف الظاهر، وقيل عليه أيضا على تقدير أن يكون القائل فرعون: لا يلزم من ادعائه الإلهية عبادة بني إسرائيل له أو كونه يعتقد أو يدعي عبادتهم على
237
الحقيقة له وأنت تعلم أنه متى سلم أن القائل فرعون وأنه يدعي الإلهية لا يقدح في إرادته حقيقة العباد عدم اعتقاده ذلك لأنه على ما تدل عليه بعض الآثار كثيرا ما يظهر خلاف ما يبطن حتى أنها تدل على أن دعواه الإلهية من ذلك، نعم الأولى تفسير عابِدُونَ بخادمون وهو مما يصح إسناده إلى فرعون وملئه، وكأنهم قصدوا بذلك التعريض بشأن الرسولين عليهما السلام وحط رتبتهما العلية عن منصب الرسالة من وجه آخر غير البشرية، واللام في لَنا متعلقة بعابدون قدمت عليه رعاية للفواصل، وقيل للحصر أي لنا عابدون لا لهما، والجملة حال من فاعل نُؤْمِنُ مؤكدة لإنكار الإيمان لهما بناء على زعمهم الفاسد المؤسس على قياس الرياسة الدينية على الرياسة الدنيوية الدائرة على التقدم في نيل الحظوظ الدنيوية من المال والجاه كدأب قريش حيث قالوا: لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: ٣١] وجهلهم بأن مناط الاصطفاء للرسالة هو السبق في حيازة النعوت العلية والملكات السنية التي يتفضل الله تعالى بها على من يشاء من خلقه فَكَذَّبُوهُما فاستمروا على تكذيبهما وأصروا واستكبروا استكبارا فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ بالغرق في بحر القلزم، والتعقيب باعتبار آخر زمان التكذيب الذي استمروا عليه، وقيل: تعقيب التكذيب بذلك بناء على أن المراد محكوم عليهم بالإهلاك، وقيل: الفاء المحض السببية أي فكانوا بسبب تكذيب الرسولين من المهلكين.
وَلَقَدْ آتَيْنا بعد إهلاكهم وإنجاء بني إسرائيل من مملكتهم مُوسَى الْكِتابَ أي التوراة، وحيث كان إيتاؤه عليه السلام إياها لإرشاد قومه إلى الحق كما هو شأن الكتب الإلهية جعلوا كأنهم أوتوها فقيل: لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ أي إلى طريق الحق علما وعملا لما تضمنته من الاعتقاديات والعمليات.
وجوز أن يكون الكلام على تقدير مضاف أي أتينا قوم موسى وضمير لَعَلَّهُمْ عائد عليه، وقيل أريد بموسى عليه السلام قومه كما يقال تميم وثقيف للقبيلة وتعقب بأن المعروف في مثله إطلاق أبي القبيلة عليهم وإطلاق موسى عليه السلام على قومه ليس من هذا القبيل وإن كان لا مانع منه، ولم يجعل ضمير لَعَلَّهُمْ لفرعون وملئه لظهور أن التوراة إنما نزلت بعد إغراقهم لبني إسرائيل وقد يستشهد على ذلك بقوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى [القصص: ٤٣] بناء على أن المراد بالقرون الأولى ما يعم فرعون وقومه ومن قبلهم من المهلكين كقوم نوح وهود لا ما يخص من قبلهم من الأمم المهلكين لأن تقييد الأخبار بإتيانه عليه السلام الكتاب بأنه بعد إهلاك من تقدم من الأمم معلوم فلو لم يدخل فرعون وقومه لم يكن فيه فائدة كما قيل، ولم يذكر هارون مع موسى عليهما السلام اقتصارا على من هو كالأصل في الإيتاء، وقيل لأن الكتاب نزل بالطور وهارون عليه السلام كان غائبا مع بني إسرائيل.
وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً أي آية دالة على عظيم قدرتنا بولادته منها من غير مسيس بشر فالآية أمر واحد مشترك بينهما فلذا أفردت، وجوز أن يكون الكلام على تقدير مضاف أي جعلنا حال ابن مريم وأمه آية أو جعلنا ابن مريم وأمه ذوي آية وأن يكون على حذف آية من الأول لدلالة الثاني عليه أو بالعكس أي جعلنا ابن مريم آية لما ظهر فيه عليه السلام من الخوارق كتكلمه في المهد بما تكلم صغيرا وإحيائه الموتى وإبرائه الأكمه والأبرص وغير ذلك كبيرا وجعلنا أمة آية بأن ولدت من غير مسيس، وقال الحسن: إنها عليها السلام تكلمت في صغرها أيضا حيث قالت:
هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ [آل عمران: ٣٧] ولم تلتقم ثديا قط، وقال الخفاجي: لك أن تقول: إنما يحتاج إلى توجيه إفراد الآية بما ذكر إذا أريد أنها آية على قدرة الله تعالى أما إذا كانت بمعنى المعجزة أو الإرهاص فلا لأنها إنما هي لعيسى عليه السلام لنبوته دون مريم اهـ. ولا يخفى ما فيه والوجه عندي ما تقدم، والتعبير
238
عن عيسى عليه السلام بابن مريم وعن مريم بأمه للإيذان من أول الأمر بحيثية كونهما آية فإن نسبته عليه السلام إليها مع أن النسب إلى الآباء دالة على أن لا أب له أي جعلنا ابن مريم وحدها من غير أن يكون له أب وأمه التي ولدته خاصة من غير مشاركة الأب آية، وتقديمه عليه السلام لأصالته فيما ذكر من كونه آية كما قيل أن تقديم أمه في قوله تعالى: وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء: ٩١] لأصالتها فيما نسب إليها من الإحصان والنفخ، ثم اعلم أن الذي أجمع عليه الإسلاميون أنه ليس لمريم ابن سوى عيسى عليه السلام.
وزعم بعض النصارى قاتلهم الله تعالى أنها بعد أن ولدت عيسى تزوجت بيوسف النجار وولدت منه ثلاثة أبناء، والمعتمد عليه عندهم أنها كانت في حال الصغر خطيبة يوسف النجار وعقد عليها ولم يقربها ولما رأى حملها بعيسى عليه السلام وهم بتخليتها فرأى في المنام ملكا أوقفه على حقيقة الحال فلما ولدت بقيت عنده مع عيسى عليه السلام فجعل يربيه ويتعهده مع أولاد له من زوجة غيرها فأما هي فلم يكن يقربها أصلا، والمسلمون لا يسلمون أنها كانت معقودا عليها ليوسف ويسلمون أنها كانت خطيبته وأنه تعهدها وتعهد عيسى عليه السلام ويقولون: كان ذلك لقرابته منها وَآوَيْناهُما أي جعلناهما يأويان إِلى رَبْوَةٍ هي ما ارتفع من الأرض دون الجبل.
واختلف في المراد هنا فأخرج وكيع وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن عساكر بسند صحيح عن ابن عباس أنه قال في قوله تعالى: إِلى رَبْوَةٍ أنبئنا أنها دمشق، وأخرج ابن عساكر عن عبد الله بن سلام وعن يزيد بن شجرة الصحابي وعن سعيد بن المسيب وعن قتادة عن الحسن أنهم قالوا: الربوة هي دمشق، وفي ذلك حديث مرفوع أخرجه ابن عساكر عن أبي أمامة بسند ضعيف.
وأخرج جماعة عن أبي هريرة أنه قال: هي الرملة من فلسطين، وأخرج ذلك ابن مردويه من حديثه مرفوعا،
وأخرج الطبراني في الأوسط، وجماعة عن مرة البهزي قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: الربوة الرملة
، وأخرج ابن جرير وغيره عن الضحاك أنه قال: هي بيت المقدس، وأخرج هو وغيره أيضا عن قتادة أنه قال: كنا نحدث أن الربوة بيت المقدس، وذكروا عن كعب أن أرضه كبد الأرض وأقربها إلى السماء بثمانية عشر ميلا ولذا كان المعراج ورفع عيسى عليه السلام منه، وهذا القول أوفق بإطلاق الربوة على ما سمعت من معناها، وأخرج ابن المنذر، وغيره عن وهب وابن جرير وغيره عن ابن زيد الربوة مصر، وروي عن زيد بن أسلم أنه قال: هي الاسكندرية، وذكروا أي قرى مصر كل واحدة منها على ربوة مرتفعة لعموم النيل في زيادته جميع أرضها فلو لم تكن القرى على الربى لغرقت، وذكر أن سبب هذا الإيواء أن ملك ذلك الزمان عزم على قتل عيسى عليه السلام ففرت به أمه إلى أحد هذه الأماكن التي ذكرت كذا في البحر، ورأيت في إنجيل متى أن عيسى عليه السلام لما ولد في بيت لحم في أيام هيرودس الملك وافى جماعة من المجوس من المشرق إلى أورشليم يقولون: أين المولود ملك اليهود فقد رأينا نجمة في المشرق وجئنا لنسجد له فلما سمع هيرودس اضطرب وجمع رؤساء الكهنة وكتبة الشعب فسألهم أين يولد المسيح؟ فقالوا: في بيت لحم فدعا المجوس سرا وتحقق منهم الزمان الذي ظهر لهم فيه النجم وأرسلهم إلى بيت لحم وقال لهم: اجهدوا في البحث عن هذا المولود فإذا وجدتموه فأخبروني لأسجد له معكم فذهبوا فوجوده مع مريم فسجدوا وقربوا القرابين ورأوا في المنام أن لا يرجعوا إلى هيرودس فذهبوا إلى كورتهم ورأى يوسف في المنام ملكا يقول له قم فخذ الطفل وأمه واهرب إلى مصر وكن هناك حتى أقول لك فإن هيردوس قد عزم على أن يطلب الطفل ليهلكه فقام وأخذ الطفل وأمه ليلا ومضى إلى مصر وكان هناك وفاة هيرودس فلما توفي رأى يوسف الملك في المنام يقول له: قم فخذ الطفل وأمه واذهب إلى
239
أرض إسرائيل فقد مات من يطلب نفس الطفل فقام وأخذهما وجاء إلى أرض إسرائيل فلما سمع أن أرشلاوس قد ملك على اليهودية بعد أبيه هيرودس خاف أن يذهب هناك فأخبر في المنام وذهب إلى تخوم الجليل فسكن في مدينة تدعى ناصرة اهـ، فإن صح هذا كان الظاهر أن الربوة في أرض مصر أو ناصرة من أرض الشام والله تعالى أعلم، وقرأ أكثر القراء «ربوة» بضم الراء وهي لغة قريش.
وقرأ أبو إسحاق السبيعي «ربوة» بكسرها، وابن أبي إسحاق «رباة» بضم الراء وبالألف، وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهما والأشهب العقيلي والفرزدق والسلمي في نقل صاحب اللوامح بفتحها وبالألف. وقرىء بكسرها وبالألف ذاتِ قَرارٍ أي مستقر من أرض منبسطة، والمراد أنها في واد فسيح تنبسط به نفس من يأوي إليه، وقال مجاهد: ذات ثمار وزروع، والمراد أنها محل صالح لقرار الناس فيه لما فيه من الزروع والثمار وهو أنسب بقوله تعالى:
وَمَعِينٍ أي وماء معين أي جار، ووزنه فعيل على أن الميم أصلية من معنى جرى، وأصله الإبعاد في الشيء ومنه أمعن النظر.
وفي البحر معن الشيء معانة كثر أو من الماعون، وإطلاقه على الماء الجاري لنفعه، وجوز أن يكون وزنه مفعول كمخيط على أن الميم زائدة من عانه أدركه بعينه كركبه إذا ضربه بركبته وإطلاقه على الماء الجاري لما أنه في الأغلب يكون ظاهرا مشاهدا بالعين، ووصف الماء بذلك لأنه الجامع لانشراح الصدر وطيب المكان وكثرة المنافع يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ حكاية لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم على وجه الإجمال لما خوطب به كل رسول في عصره جيء بها إثر حكاية إيواء عيسى وأمه عليهما السلام إلى الربوة إيذانا بأن ترتيب مبادي النعم لم تكن من خصائص عيسى عليه السلام بل إباحة الطيبات شرع قديم جرى عليه جميع الرسل عليهم السلام ووصوا به أي وقلنا لكل رسول كل من الطيبات واعمل صالحا فعبر عن تلك الأوامر المتعددة المتعلقة بالرسل بصيغة الجمع عند الحكاية إجمالا للإيجاز أو حكاية لما ذكر لعيسى وأمه عليهما السلام عند إيوائهما إلى الربوة ليقتديا بالرسل في تناول ما رزقا كأنه قيل آويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين وقلنا أو قائلين لهما هذا أي أعلمناهما أو معلميهما أن الرسل كلهم خوطبوا بهذا فكلا واعملا اقتداء بهم، وجوز أن يكون نداء لعيسى عليه السلام وأمرا له بأن يأكل من الطيبات،
فقد جاء في حديث مرسل عن حفص ابن أبي جبلة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال في قوله تعالى: يا أَيُّهَا الرُّسُلُ إلخ: ذاك عيسى ابن مريم كان يأكل (١) من غزل أمه
، وعن الحسن ومجاهد وقتادة والسدي والكلبي أنه نداء لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم وخطاب له والجمع للتعظيم واستظهر ذلك النيسابوري، وما وقع في شرح التلخيص تبعا للرضي من أن قصد التعظيم بصيغة الجمع في غير ضمير المتكلم لم يقع في الكلام القديم خطأ لكثرته في كلام العرب مطلقا بل في جميع الألسنة وقد صرح به الثعالبي في فقه اللغة، والمراد بالطيبات على ما اختاره شيخ الإسلام وغيره ما يستطاب ويستلذ من مباحات المأكل والفواكه، واستدل له بأن السياق يقتضيه والأمر عليه للإباحة والترفيه وفيه إبطال للرهبانية التي ابتدعتها النصارى، وقيل المراد بالطيبات ما حل والأمر تكليفي، وأيد بتعقيبه بقوله تعالى: وَاعْمَلُوا صالِحاً أي عملا صالحا، وقد يؤيد بما
أخرجه أحمد في الزهد وابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم وصححه عن أم عبد الله أخت شداد بن أوس رضي الله تعالى عنها أنها بعثت إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم بقدح لبن عند فطره وهو صائم فرد إليها رسولها أنى لك هذا اللبن؟ قالت: من شاة لي فرد إليها رسولها أنى لك الشاة؟ فقالت: اشتريتها من مالي فشرب منه عليه الصلاة والسلام فلما كان من الغد أتته أم
(١) والمشهور أنه عليه السلام كان يأكل من بطن البرية اهـ منه.
240
عبد الله فقالت: يا رسول الله بعثت إليك بلبن فرددت إليّ الرسول فيه فقال صلّى الله عليه وسلّم لها: «بذلك أمرت الرسل قبلي أن لا تأكل إلا طيبا ولا تعمل إلا صالحا»
وكذا بما
أخرجه مسلم والترمذي وغيرهما عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يا أيها الناس إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا وإن الله تعالى أمر المؤمنين بما أمر به المسلمين فقال: يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً وقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ [البقرة: ١٧٢] ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب فأنى يستجاب لذلك»
وتقديم الأمر بأكل الحلال لأن أكل الحلال معين على العمل الصالح.
وجاء في بعض الأخبار أن الله تعالى لا يقبل عبادة من في جوفه لقمة من حرام، وصح أيما لحم نبت من سحت فالنار أولى به. ولعل تقديم الأمر الأول على تقدير حمل الطيب على ما يستلذ من المباحات لأنه أوفق بقوله تعالى: وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ وفي الأمر بعده بالعمل الصالح حث على الشكر.
إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ من الأعمال الظاهرة والباطنة عَلِيمٌ فأجازيكم عليه، وفي البحر أن هذا تحذير للرسل عليهم السلام في الظاهر والمراد أتباعهم وَإِنَّ هذِهِ أي الملة والشريعة، وأشير إليها بهذه للإشارة إلى كمال ظهور أمرها في الصحة والسداد وانتظامها بسبب ذلك في سلك الأمور المشاهدة أُمَّتُكُمْ أي ملتكم وشريعتكم والخطاب للرسل عليهم السلام على نحو ما مر وقيل عام لهم ولغيرهم وروي ذلك عن مجاهد، والجملة على ما قال الخفاجي عطف على الجملة إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ فالواو من المحكي، وقيل هي من الحكاية وقد عطفت قولا على قول، والتقدير قلنا يا أيها الرسل كلوا إلخ وقلنا لهم إن هذه أمتكم ولا يخفى بعده.
وقيل: الواو ليست للعطف والجملة بعدها مستأنفة غير معطوفة على ما قبلها وهو كما ترى، وقوله سبحانه أُمَّةً واحِدَةً حال مبنية من الخبر والعامل فيها معنى الإشارة أي أشير إليها في حال كونها شريعة متحدة في الأصول التي لا تتبدل بتبدل الأعصار وقيل هذِهِ إشارة إلى الأمم الماضية للرسل، والمعنى أن هذه جماعتكم جماعة واحدة متفقة على الإيمان والتوحيد في العبادة وَأَنَا رَبُّكُمْ أي من غير أن يكون لي شريك في الربوبية، وهذه الجملة عطف على جملة «إن هذه» إلخ المعطوفة على ما تقدم وهما داخلان في حيز التعليل للعمل الصالح لأن الظاهر أن قوله سبحانه: إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ تعليل لذلك، ولعل المراد بالعمل الصالح ما يشمل العقائد الحقة والأعمال الصحيحة، واقتضاء المجازاة والربوبية لذلك ظاهر وأما اقتضاء اتحاد الشريعة في الأصول التي لا تتبدل لذلك فباعتبار أنه دليل حقية العقائد وحقيقتها تقتضي الإتيان بها والإتيان بها يقتضي الإتيان بغيرها من الأعمال الصالحة بل قيل لا يصح الاعتقاد مع ترك العمل، وعلى هذا يكون قوله تعالى: فَاتَّقُونِ كالتصريح بالنتيجة فيكون الكلام نظير قولك: العالم حادث لأنه متغير وكل متغير حادث فالعالم حادث.
وفي إرشاد العقل السليم أن ضمير الخطاب في قوله تعالى: رَبُّكُمْ وفي قوله سبحانه: فَاتَّقُونِ للرسل والأمم جميعا على أن الأمر في حق الرسل للتهييج والإلهاب وفي حق الأمة للتحذير والإيجاب، والفاء لترتيب الأمر أو وجوب الامتثال به على ما قبله من اختصاص الربوبية به سبحانه واتحاد الأمة فإن كلّا منهما موجب للاتقاء حتما، والمعنى فاتقون في شق العصا والمخالفة بالإخلال بموجب ما ذكر.
وقرأ الحرميان وأبو عمرو «وأن» بفتح الهمزة وتشديد النون، وخرج على تقدير حرف الجر أي ولأن هذه إلخ، والجار والمجرور متعلق باتقون، قال الخفاجي: والكلام في الفاء الداخلة عليه كالكلام في فاء قوله تعالى: فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ وهي للسببية وللعطف على ما قبله وهو اعْمَلُوا والمعنى اتقوني لأن العقول متفقة على ربوبيتي والعقائد
241
الحقة الموجبة للتقوى انتهى، ولا يخلو عن شيء، وجوز أن تكون إِنَّ هذِهِ إلخ على هذه القراءة معطوفا على ما تَعْمَلُونَ والمعنى إني عليم بما تعملون وبأن هذه أمتكم أمة واحدة إلخ فهو داخل في حيز المعلوم. وضعف بأنه لا جزالة في المعنى عليه، وقيل: هو معمول لفعل محذوف أي واعلموا أن هذه أمتكم إلخ وهذا المحذوف معطوف على «اعملوا» ولا يخفى أن هذا التقدير خلاف الظاهر.
وقرأ ابن عامر «وأن» بفتح الهمزة وتخفيف النون على أنها المخففة من الثقيلة ويعلم توجيه الفتح مما ذكرنا.
فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ الضمير لما دل عليه الأمة من أربابها إن كانت بمعنى الملة أو لها وإن كانت بمعنى الجماعة، وجوز أن يراد بالأمة أولا الملة وعند عود الضمير عليها الجماعة على أن ذلك من باب الاستخدام، والمراد حكاية ما ظهر من أمم الرسل عليهم السلام من مخالفة الأمر، والفاء لترتيب عصيانهم على الأمر لزيادة تقبيح حالهم، وتقطع بمعنى قطع كتقدم بمعنى قدم والمراد بأمرهم أمر دينهم إما على تقدير مضاف أو على جعل الإضافة عهدية أي قطعوا أمر دينهم وجعلوه أديانا مختلفة مع اتحاده، وجوز أن يراد بالتقطع التفرق، و «أمرهم» منصوب بنزع الخافض أي فتفرقوا وتحزبوا في أمرهم، ويجوز أن يكون أَمْرَهُمْ على هذا نصبا على التمييز عند الكوفيين المجوزين تعريف التمييز بَيْنَهُمْ زُبُراً أي قطعا جمع زبور بمعنى فرقة، ويؤيده أنه قرىء «زبرا» بضم الزاي وفتح الباء فإنه مشهور ثابت في جمع زبرة بمعنى قطعة وهو حال من «أمرهم» أو من واو (تقطعوا) أو مفعول ثان له فإنه مضمن معنى جعلوا، وقيل: جمع زبور بمعنى كتاب من زبرت بمعنى كتبت وهو مفعول ثان لتقطعوا المضمن معنى الجعل أي قطعوا أمر دينهم جاعلين له كتبا.
وجوز أن يكون حالا من أَمْرَهُمْ على اعتبار تقطعوا لازما أي تفرقوا في أمرهم حال كونه مثل الكتب السماوية عندهم. وقيل: إنها حال مقدرة أو منصوب بنزع الخافض أي في كتب، وتفسير زُبُراً بكتب رواه جماعة عن قتادة كما في الدر المنثور، ولا يخفى خفاء المعنى عليه ولا يكاد يستقيم إلا بتأويل فتدبر.
وقرىء «زبرا» بإسكان الباء للتخفيف كرسل في رسل، وجاء فَتَقَطَّعُوا هنا بالفاء إيذانا بأن ذلك اعتقب الأمر وفيه مبالغة في الذم كما أشرنا إليه، وجاء في سورة الأنبياء بالواو فاحتمل معنى الفاء واحتمل تأخر تقطعهم عن الأمر، وجاء هنا وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ وهو أبلغ في التخويف والتحذير مما جاء هناك من قوله تعالى هناك: وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: ٩٢] لأن هذه جاءت عقيب إهلاك طوائف كثيرين قوم نوح والأمم الذين من بعدهم وفي تلك السورة وإن تقدمت أيضا قصة نوح وما قبلها فإنه جاء بعدها ما يدل على الإحسان واللطف التام في قصة أيوب وزكريا ومريم فناسب الأمر بالعبادة لمن هذه صفته عز وجل قاله أبو حيان، وما ذكره أولا غير واف بالمقصود، وما ذكره ثانيا قيل عليه: إنه مبني على أن الآية تذييل للقصص السابقة أو لقصة عيسى عليه السلام لابتداء كلام فإنه حينئذ لا يفيد ذلك إلا أن يراد أنه وقع في الحكاية لهذه المناسبة فتأمل.
كُلُّ حِزْبٍ من أولئك المتحزبين بِما لَدَيْهِمْ من الأمر الذي اختاروه فَرِحُونَ مسرورون منشرحو الصدر، والمراد أنهم معجبون به معتقدون أنه الحق، وفي هذا من ذم أولئك المتحزبين ما فيه.
فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ خطاب له صلّى الله عليه وسلّم في شأن قريش الذين تقطعوا في أمر الدين الحق، والغمرة الماء الذي يغمر القامة وأصلها من الستر والمراد بها الجهالة بجامع الغلبة والاستهلاك، وكأنه لما ذكر سبحانه في ضمن ما كان من أمم الأنبياء عليهم السلام توزعهم واقتسامهم ما كان يجب اجتماعه واتفاق الكلمة عليه من الدين وفرحهم بفعلهم الباطل ومعتقدهم العاطل قال لنبيه صلّى الله عليه وسلّم: فإذ ذاك دعهم في جهلهم هذا الذي لا جهل فوقه تخلية وخذلانا ودلالة على
242
اليأس من أن ينجع القول فيهم وضمن التسلية في ذكر الغاية أعني قوله سبحانه: حَتَّى حِينٍ فإن المراد بذلك حين قتلهم وهو يوم بدر على ما روي عن مقاتل أو موتهم على الكفر الموجب للعذاب أو عذابهم، وفي التنكير والإبهام ما لا يخفى من التهويل.
وجوز أن يقال: شبه حال هؤلاء مع ما هم عليه من محاولة الباطل والانغماس فيه بحال من يدخل في الماء الغامر للعب والجامع تضييع الوقت بعد الكدح في العمل، والكلام حينئذ على منوال سابقه أعني قوله تعالى: كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ لما جعلوا فرحين غرورا جعلوا لاعبين أيضا والأول أظهر وقد يجعل الكلام عليه أيضا استعارة تمثيلية بل هو أولى عند البلغاء كما لا يخفى.
وقرأ عليّ كرم الله تعالى وجهه وأبو حيوة والسلمي «في غمراتهم»
على الجمع لأن لكل واحد غمرة.
أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ أي الذي نعطيهم إياه ونجعله مددا لهم، فما موصولة اسم أن ولا يضر كونها موصولة لأنها في الإمام كذلك لسر لا نعرفه. وقوله تعالى: مِنْ مالٍ وَبَنِينَ بيان لها. وتقديم المال على النبيين مع كونهم أعز منه قد مر وجهه، وقوله سبحانه: نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ خبر أن والراجع إلى الاسم محذوف أي أيحسبون أن الذي نمدهم به من المال والبنين نسارع به لهم فيما فيه خيرهم وإكرامهم على أن الهمزة لإنكار الواقع واستقباحه وحذف هذا العائد لطول الكلام مع تقدم نظيره في الصلة إلا أن حذف مثله قليل، وقال هشام بن معاوية:
الرابط هو الاسم الظاهر وهو الْخَيْراتِ وكأن المعنى نسارع لهم فيه ثم أظهر فقيل في الخيرات، وهذا يتمشى على مذهب الأخفش في إجازته نحو زيد قام أبو عبد الله إذا كان أبو عبد الله كنية لزيد، قيل: ولا يجوز أن يكون الخبر مِنْ مالٍ وَبَنِينَ لأن الله تعالى أمدهم بذلك فلا يعاب ولا ينكر عليهم اعتقاد المدد به كما يفيده الاستفهام الانكاري وتعقب بأنه لا يبعد أن يكون المراد ما نجعله مددا نافعا لهم في الآخرة ليس المال والبنين بل الاعتقاد والعمل الصالح كقوله تعالى: يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء: ٨٨] وفيه ما فيه. وما ذكرنا من كون ما موصولة هو الظاهر، ومن جوز كونها مصدرية وجعل المصدر الحاصل بعد السبك اسم أن وخبرها نُسارِعُ على تقدير مسارعة بناء على أن الأصل أن نسارع فحذفت أن وارتفع الفعل لم يوف القرآن الكريم حقه، وكذا من جعلها كافة كالكسائي ونقل ذلك عنه أبو حيان، وجوز عليه الوقف على بَنِينَ معللا بأن ما بعد يحسب قد انتظم مسندا ومسندا إليه من حيث المعنى وإن كان في تأويل مفرد وهو كما ترى، وقرأ ابن وثاب «إنما نمدهم» بكسر همزة إن، وقرأ ابن كثير في رواية «يمدهم» بالياء.
وقرأ السلمي وعبد الرحمن بن أبي بكرة «يسارع» بالياء وكسر الراء فإن كان فاعله ضميره تعالى فالكلام في الرابط، على ما سمعت، وإن كان ضمير الموصول فهو الرابط وعن ابن أبي بكرة المذكور أنه قرأ «يسارع» بالياء وفتح الراء مبنيا للمفعول، وقرأ الحر النحوي «نسرع» بالنون مضارع أسرع، وقرىء على ما في الكشاف «يسرع» بالياء مضارع أسرع أيضا وفي فاعله الاحتمالان المشار إليهما آنفا بَلْ لا يَشْعُرُونَ عطف على مقدر ينسحب عليه الكلام أي كلا لا نفعل ذلك بل لا يشعرون أي ليس من شأنهم الشعور أن هم إلا كالأنعام بل هم أضل حتى يتأملوا ويتفكروا في ذلك هو استدراج أم مسارعة ومبادرة في الخيرات ومن هنا قيل: من يعص الله تعالى ولم ير نقصانا فيما أعطاه سبحانه من الدنيا فليعلم أنه مستدرج قد مكر به، وقال قتادة: لا تعتبروا الناس بأموالهم وأولادهم ولكن اعتبروهم بالإيمان والعمل الصالح.
إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ الكلام فيه نظير ما مر في نظيره في سورة الأنبياء بيد أن استمرار
243
الإشفاق هنا في الدنيا والآخرة للمؤمنين ترددا وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ المنزلة والمنصوبة في الآفاق والأنفس، والباء للملابسة وهي متعلقة بقوله تعالى: يُؤْمِنُونَ أي يصدقون، والمراد التصديق بمدلولها إذ لا مدح في التصديق بوجودها، والتعبير بالمضارع دون الاسم للإشارة إلى أنه كلما وقفوا على آية آمنوا بها وصدقوا بمدلولها وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ فيخلصون بالعبادة له عز وجل فالمراد نفي الشرك الخفي كالرياء بالعبادة كذا قيل، وقد اختار بعض المحققين التعميم أي لا يشركون به تعالى شركا جليا ولا خفيا ولعله الأولى، ولا يغني عن ذلك وصفهم بالإيمان بآيات الله تعالى.
وجوز أن يراد مما سبق وصفهم بتوحيد الربوبية ومما هنا وصفهم بتوحيد الألوهية، ولم يقتصر على الأول لأن أكثر الكفار متصفون بتوحيد الربوبية وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان: ٢٥، الزمر:
٣٨] ولا يأباه التعرض لعنوان الربوبية فإنه في المواضع الثلاثة للإشعار بالعلية وذلك العنوان يصلح لأن يكون علة لتوحيد الألوهية كما لا يخفى.
وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا أي يعطون ما أعطوا من الصدقات وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ خائفة من أن لا يقبل منهم وأن لا يقع على الوجه اللائق فيؤاخذوا به. وقرأت عائشة وابن عباس وقتادة والأعمش والحسن والنخعي
يأتون ما اتوا من الإتيان لا الإيتاء فيهما، وأخرج ابن مردويه وسعيد بن منصور عن عائشة أنه صلّى الله عليه وسلّم قرأ كذلك
وأطلق عليها المفسرون قراءة رسول الله عليه الصلاة والسلام يعنون أن المحدثين نقلوها عنه صلّى الله عليه وسلّم ولم يروها القراء من طرقهم والمعنى عليها يفعلون من العبادات ما فعلوه وقلوبهم وجلة، وروي نحو هذا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
فقد أخرج أحمد والترمذي وابن ماجة والحاكم وصححه وابن المنذر وابن جرير وجماعة عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قلت يا رسول الله قول الله وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أهو الرجل يسرق ويزني ويشرب الخمر وهو مع ذلك يخاف الله تعالى؟ قال: لا ولكنه الرجل يصوم ويتصدق ويصلي وهو مع ذلك يخاف الله تعالى أن لا يتقبل منه
، وجملة قُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ في القراءتين في موضع الحال من ضمير الجمع في الصلة الأولى، والتعبير بالمضارع فيها للدلالة على الاستمرار وفي الثانية للدلالة على التحقق، وقوله تعالى: أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ بتقدير اللام التعليلية وهي متعلقة بوجلة أي خائفة من عدم القبول وعدم الوقوع على الوجه اللائق لأنهم راجعون إليه تعالى ومبعوثون يوم القيامة وحينئذ تنكشف الحقائق ويحتاج العبد إلى عمل مقبول لائق فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة: ٧، ٨].
وجوز أن يكون بتقدير من الابتدائية التي يتعدى بها الوجل أي وجلة من أن رجوعهم إليه عز وجل على أن مناط الوجل أن لا يقبل ذلك منهم وأن لا يقع على الوجه اللائق فيؤاخذوا به حينئذ لا مجرد رجوعهم إليه عز وجل، وقد يؤيد الوجه الأول بقراءة الأعمش أَنَّهُمْ بكسر الهمزة، ولعل التعبير بالجملة الاسمية المخبر فيها بالوصف دون الفعل المضارع للمبالغة في تحقق الرجوع حتى كأنه من الأمور الثابتة المستمرة كذا قيل.
وجوز على بعد أن يكون المراد من الرجوع المذكور الرجوع إليه عز وجل بالعبودية، فوجه التعبير بالجملة الاسمية عليه أظهر من أن يخفى، ووجه تعليل الخوف من عدم القبول وعدم وقوع فعلهم كائنا ما كان على الوجه اللائق بأنهم راجعون إليه تعالى بالعبودية عدم وجوب قبول عملهم عليه تعالى حينئذ لأنه سبحانه مالك وللمالك أن يفعل بملكه ما يشاء وظهور نقصهم كيف كانوا عن كماله جل جلاله والناقص مظنة أن لا يأتي بما يليق بالكامل لا سيما إذا كان ذلك الكامل هو الله عز وجل الذي لا يتناهى كماله ولا أراك ترى في هذا الوجه كلفا سوى كلف العبد
244
فتأمل، ثم إن المواصلات الأربع على ما قاله شيخ الإسلام، وغيره عبارة عن طائفة واحدة متصفة بما ذكر في حيز صلاتها من الأوصاف الأربعة لا عن طوائف كل واحدة منها متصفة بواحد من الأوصاف المذكورة كأنه قيل: إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون وبآيات ربهم يؤمنون إلخ، وإنما كرر الموصول إيذانا باستقلال كل واحدة من تلك الصفات بفضيلة باهرة على حيالها وتنزيلا لاستقلالها منزلة استقلال الموصوف بها، وهذا جار على كلتا القراءتين في قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وللعلامة الطيبي في هذا المقام كلام لا أظنك تستطيبه كيف وفيه القول بأن الذين هم بربهم لا يشركون والذين يأتون ما آتوا وقلوبهم وجلة هم العاصون من أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم وهو في غاية البعد.
وقد ذكر الإمام أن الصفة الرابعة نهاية مقامات الصديقين أُولئِكَ إشارة إلى من ذكر باعتبار اتصافهم بتلك الصفات، وما فيه من معنى البعد للإشعار بعد رتبتهم في الفضل وهو مبتدأ خبره قوله تعالى: يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ والجملة من المبتدأ وخبره خبر إن، والكلام استئناف مسوق لبيان من له المسارعة في الخيرات إثر إقناط الكفار عنها وإبطال حسبانهم الكاذب أي أولئك المنعوتون بما فصل من النعوت الجليلة خاصة دون أولئك الكفرة يسارعون في نيل الخيرات التي من جملتها الخيرات العاجلة الموعودة على الأعمال الصالحة كما في قوله تعالى:
فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ [آل عمران: ١٤٨] وقوله سبحانه: وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ [النحل: ١٢٢] فقد أثبت لهم ما نفي عن أضدادهم خلا أنه غير الأسلوب حيث لم يقل أولئك يسارع لهم في الخيرات بل أسند المسارعة إليهم إيماء إلى استحقاقهم لنيل الخيرات بمحاسن أعمالهم، وإيثار كلمة في على كلمة إلى للإيذان بأنهم متقلبون في فنون الخيرات لا أنهم خارجون عنها متوجهون إليها بطريق المسارعة كما في قوله تعالى: وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ [آل عمران: ١٣٣] وَهُمْ لَها أي للخيرات التي من جملتها ما سمعت، والجار والمجرور متعلق بقوله تعالى: سابِقُونَ وهو إما منزل منزلة اللازم أي فاعلون السبق أو مفعوله محذوف أي سابقون الناس أو الكفار، وهو يتعدى باللام وبإلى فيقال: سبقت إلى كذا ولكذا، والمراد بسبقهم إلى الخيرات ظفرهم بها ونيلهم إياها.
وجعل أبو حيان هذه الجملة تأكيدا للجملة الأولى، وقيل سابقون متعد للضمير بنفسه واللام مزيدة، وحسن زيادتها كون العامل فرعيا وتقدم المعمول المضمر أي وهم سابقون إياها، والمراد بسبقهم إياها لازم معناه أيضا وهو النيل أي وهم ينالونها قبل الآخرة حيث عجلت لهم في الدنيا فلا يرد ما قيل: إن سبق الشيء الشيء يدل على تقدم السابق على المسبوق فكيف يقال: هم يسبقون الخيرات والاحتياج إلى إرادة اللازم على هذا الوجه أشد منه على الوجه السابق ولهذا مع التزام الزيادة فيه قيل إنه وجه متكلف.
وجوز أن يكون المراد بالخيرات الطاعات وضمير لَها لها أيضا واللام للتعليل وهو متعلق بما بعده والمعنى يرغبون في الطاعات والعبادات أشد الرغبة وهم لأجلها فاعلون السبق أو لأجلها سابقون الناس إلى الثواب أو إلى الجنة، وجوز على تقدير أن يراد بالخيرات الطاعات أن يكون لَها خبر المبتدأ وسابِقُونَ خبر بعد خبر، ومعنى هُمْ لَها أنهم معدون لفعل مثلها من الأمور العظيمة، وهذا كقولك: لمن يطلب منه حاجة لا ترجى من غيره: أنت لها وهو من بليغ كلامهم، وعلى ذلك قوله:
مشكلات أعضلت ودهت... يا رسول الله أنت لها
ورجح هذا الوجه الطبري بأن اللام متمكنة في هذا المعنى، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ما هو ظاهر في جعل لَها خبرا وإن لم يكن ظاهرا في جعل الضمير للخيرات بمعنى الطاعات، ففي البحر نقلا عنه أن المعنى
245
سبقت لهم السعادة في الأزل فهم لها، وأنت تعلم أن أكثر هذه الأوجه خلاف الظاهر وأن التفسير الأول للخيرات أحسن طباقا للآية المتقدمة، ومن الناس من زعم أن ضمير لَها للجنة. ومنهم من زعم أنه للأمم وهو كما ترى. وقرأ الحر النحوي «يسرعون» مضارع أسرع يقال: أسرعت إلى الشيء وسرعت إليه بمعنى واحد و «يسارعون» كما قال الزجاج أبلغ من يسرعون، ووجه بأن المفاعلة تكون من اثنين فنقتفي حث النفس على السبق لأن من عارضك في شيء تشتهي أن تغلبه فيه وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها جملة مستأنفة سيقت للتحريض على ما وصف به أولئك المشار إليهم من فعل الطاعات ببيان سهولته وكونه غير خارج عن حد الوسع والطاعة أي عادتنا جارية على أن لا نكلف نفسا من النفوس إلا ما في وسعها وقدر طاقتها على أن المراد استمرار النفي بمعونة المقام لا نفي الاستمرار أو للترخيص فيما هو قاصر عن درجة أعمال أولئك ببيان أنه تعالى لا يكلف عباده إلا ما في وسعهم فإن لم يبلغوا في فعل الطاعات مراتب السابقين فلا عليهم بعد أن يبذلوا طاقتهم ويستفرغوا وسعهم. قال مقاتل: من لم يستطع القيام فليصل قاعدا ومن لم يستطع القعود فليوم إيماء.
وقوله سبحانه: وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ تتمة لما قبله ببيان أحوال ما كلفوه من الأعمال وأحكامها المترتبة عليها من الحساب والثواب والعقاب، والمراد بالكتاب صحائف الأعمال التي يقرؤونها عند الحساب حسبما يؤذن به الوصف بهو كما في قوله تعالى: هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الجاثية: ٢٩] و (الحق) المطابق للواقع والنطق به مجاز عن إظهاره أي عندنا كتاب يظهر الحق المطابق للواقع على ما هو عليه ذاتا ووصفا ويبينه للناظر كما يبينه النطق ويظهره للسامع فيظهر هناك جلائل الأعمال ودقائقها ويترتب عليها أجزيتها إن خيرا فخير وإن شرا فشر. وقيل: المراد بالكتاب صحائف يقرؤونها فيها ما ثبت لهم في اللوح المحفوظ من الجزاء وهو دون القول الأول، وأدون منه ما قيل: إن المراد به القرآن الكريم، وقوله تعالى: وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ لبيان فضله عز وجل وعدله في الجزاء على أتم وجه إثر بيان لطفه سبحانه في التكليف وكتب الأعمال على ما هي عليه أي لا يظلمون في الجزاء بنقص ثواب أو زيادة عذاب بل يجزون بقدر أعمالهم التي كلفوها ونطقت بها صحائفها بالحق، وجوز أن يكون تقريرا لما قبل من التكليف وكتب الأعمال أي لا يظلمون بتكليف ما ليس في وسعهم ولا بكتب بعض أعمالهم التي من جملتها أعمال غير السابقين بناء على قصورها عن درجة أعمال السابقين بل يكتب كل منها على مقاديرها وطبقاتها.
وقوله عز وجل: بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا إضراب عما قبله ورجوع إلى بيان حال الكفرة فالضمير للكفرة أي بل قلوب الكفرة في غفلة وجهالة من هذا الذي بين في القرآن من أن لديه تعالى كتابا ينطق بالحق ويظهر لهم أعمالهم السيئة على رؤوس الأشهاد فيجزون بها كما ينبىء عنه ما سيأتي إن شاء الله تعالى من قوله سبحانه: قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ إلخ، وقيل: الإشارة إلى القرآن الكريم وما بين فيه مطلقا وروي ذلك عن مجاهد، وقيل:
إلى ما عليه أولئك الموصوفون بالأعمال الصالحة وروي هذا عن قتادة، وقيل: إلى الدين بجملته، وقيل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم والأول أظهر وَلَهُمْ أَعْمالٌ سيئة كثيرة مِنْ دُونِ ذلِكَ الذي ذكر من كون قلوبهم في غمرة مما ذكر وهي فنون كفرهم ومعاصيهم التي من جملتها طعنهم في القرآن الكريم المشار إليه في قوله تعالى: مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ.
وأخرج ابن المنذر وغيره عن ابن عباس أن المراد بالغمرة الكفرة والشك وأن ذلِكَ إشارة إلى هذا المذكور، والمعنى لهم أعمال دون الكفر وأخرج ابن جرير وغيره عن قتادة أن ذلِكَ كهذا إشارة إلى ما وصف به المؤمنون
246
ﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈ ﰿ ﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑ ﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛ ﮝﮞﮟﮠ ﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫ ﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔ ﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠ ﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲ ﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽ ﯿﰀﰁﰂﰃ ﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜ ﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥ ﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲ ﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾ ﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆ ﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒ ﮔﮕﮖﮗﮘﮙ ﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢ ﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯ ﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙ ﯛﯜﯝﯞﯟﯠ ﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩ ﯫﯬﯭﯮﯯﯰ ﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿ ﰁﰂﰃﰄﰅﰆ ﭑﭒﭓﭔﭕ ﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰ ﭲﭳﭴﭵﭶﭷ ﭹﭺﭻﭼﭽﭾ ﮀﮁﮂﮃﮄﮅ ﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍ ﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘ ﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠ ﮢﮣﮤﮥﮦ ﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯ ﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤ ﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯ ﯱﯲﯳﯴﯵﯶ ﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁ ﰃﰄﰅﰆﰇﰈ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘ ﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡ ﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩ ﭫﭬﭭﭮﭯ ﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾ ﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇ ﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐ ﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘ ﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡ ﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬ ﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖ ﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣ ﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷ ﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿ
من الأعمال الصالحة أي لهم أعمال متخطية لما وصف به المؤمنون أي أضداد ما وصفوا به مما وقع في حيز الصلات وهذا غاية الذم لهم هُمْ لَها عامِلُونَ أي مستمرون عليها معتادون فعلها ضارون بها لا يفطمون عنها وعامِلُونَ عامل في الضمير قبله واللام للتقوية، هذا وقال أبو مسلم: إن الضمير في قوله تعالى: بَلْ هم إلخ عائد على المؤمنين الموصوفين بما تقدم من الصفات كأنه سبحانه قال بعد وصفهم: ولا نكلف نفسا إلا وسعها ونهايته ما أتى به هؤلاء المشفقون ولدينا كتاب يحفظ أعمالهم ينطق بالحق فلا يظلمون بل يوفي عليهم ثواب أعمالهم، ثم وصفهم سبحانه بالحيرة في قوله تعالى: بل قلوبهم في غمرة فكأنه عز وجل قال: وهم مع ذلك الوجل والخوف كالمتحيرين في أعمالهم أهي مقبولة أم مردودة ولهم أعمال من دون ذلك أي لهم أيضا من النوافل ووجوه البرسوي ما هم عليه انتهى، قال الإمام: وهو الأولى لأنه إذا أمكن رد الكلام إلى ما يتصل به من ذكر المشفقين كان أولى من رده إلى ما بعد منه خصوصا وقد يرغب المرء في فعل الخير بأن يذكر أن أعماله محفوظة كما يحذر بذلك من الشر، وقد يوصف المرء لشدة فكره في أمر آخرته بأن قلبه في غمرة ويراد أنه قد استولى عليه الفكر في قبول عمله أورده وفي أنه هل أداه كما يجب أو قصر، وهذا على هذا إشارة إلى إشفاقهم ووجلهم انتهى، ولا يخفى ما فيه على من ليس قلبه في غمرة.
247
حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ حَتَّى على ما في الكشاف هي التي يبتدأ بعدها الكلام وهي مع ذلك غاية لما قبلها كأنه قيل: لا يزالون يعملون أعمالهم إلى حيث إذا أخذنا إلخ، وقال ابن عطية: هي ابتداء لا غير، وإِذا الأولى والثانية يمنعان من أن تكون غاية لعاملون وفيه نظر، وإِذا شرطية شرطها أَخَذْنا وهي مضافة إليه وجزاؤها قوله تعالى: إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ وهي معمولة له وإذا فيه فجائية نائبة مناب الفاء، وقال الحوفي: حتى غاية وهي عاطفة وإذا ظرف يضاف إلى ما بعده فيه معنى الشرط وإذا الثانية في موضع جواب الأولى ومعنى الكلام عامل في إذا الأولى والعامل في الثانية أَخَذْنا انتهى.
وهو كلام مخبط يبعد صدوره من مثل هذا الفاضل، والمترف المتوسع في النعمة، والمراد بالعذاب ما أصابهم
248
يوم بدر من القتل والأسر كما روي عن ابن عباس ومجاهد وابن جبير وقتادة، وقد قتل وأسر في ذلك اليوم كثير من صناديدهم ورؤسائهم والجؤار مثل الخوار يقال جأر الثور يجأر إذا صاح وجأر الرجل إلى الله تعالى إذا تضرع بالدعاء كما في الصحاح وفي الأساس جأر الداعي إلى الله تعالى ضج ورفع صوته والمراد به الصراخ إما مطلقا أو باستغاثة.
وضميرا الجمع راجعان على ما رجع إليه الضمائر السابقة في مُتْرَفِيهِمْ ولَهُمْ وقُلُوبُهُمْ وغيرها وهم كفار أهل مكة لكن بإرادة من بقي منهم بعد أخذ المترفين بالقتل. قال ابن جريج المعذبين قتلى بدر والذين يجأرون أهل مكة لأنهم ناحوا واستغاثوا، وفي إنسان العيون أو قريشا ناحوا على قتلاهم في بدر شهرا وجز نساؤهم شعورهن وكن يأتين بفرس الرجل أو راحلته ويسترنها بالستور وينحن حولها ويخرجن بها إلى الأزقة إلى أن أشير عليهم بترك ذلك خوف الشماتة، وقال الربيع بن أنس: المراد بالجؤار الجزع إذ هو سبب الصراخ وفيه بعد لخفاء قرينة المجاز، وعن الضحاك أن المراد بالعذاب عذاب الجوع وذلك أنه صلّى الله عليه وسلّم دعا عليهم
فقال: اللهم اشدد وطأتك على مضر اللهم اجعلها عليهم سنين مثل سني يوسف
فاستجيب له عليه الصلاة والسلام فأصابتهم سنة أكلوا فيها الجيف والجلود والعظام المحرقة والعلهز وفي الأخبار ما يدل على أن ذلك كان قبل الهجرة. وفيها أيضا ما يدل على أنه كان قبلها. ووفق البيهقي بأنه لعله كان مرتين، وسيأتي ذلك قريبا إن شاء الله تعالى وتخصيص المترفين بالذكر لأنه إذا جاع المترف جاع غيره من باب أولى، وقيل: المراد بالعذاب عذاب الآخرة، وتخصيص المترفين بما ذكر لغاية ظهور انعكاس حالهم وانتكاس أمرهم وكون ذلك أشق عليهم ولأنهم مع كونهم متمنعين محميين بحماية غيرهم من المنعة والحشم لقوا ما لقوا من الحالة الفظيعة فلأن يلقاها من عداهم من الحماة والخدم أولى وأقدم.
وقال شيخ الإسلام: إن هذا القول هو الحق لأن العذاب الأخروي هو الذي يفاجئون عنده الجؤار فيجابون بالرد والإقناط من النصر وأما عذاب يوم بدر فلم يوجد لهم عنده جؤار حسبما ينبىء عنه قوله تعالى: وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ [المؤمنون: ٧٦] فإن المراد بهذا العذاب ما جرى عليهم يوم بدر من القتل والأسر حتما وأما عذاب الجوع فإن قريشا وإن تضرعوا فيه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لكن لم يرد عليهم بالإقناط حيث
روي أنه عليه الصلاة والسلام دعا بكشفه فكشف عنهم ذلك
انتهى، وستعلم إن شاء الله تعالى ما فيه، نعم حمل العذاب على ذلك أوفق بجعل ما في حيز حَتَّى غاية لما قبلها.
لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ على تقدير القول أي قلنا لهم ذلك، والكلام استئناف مسوق لبيان إقناطهم وعدم انتفاعهم بجؤارهم، والمراد باليوم الوقت الحاضر الذي اعتراهم فيه ما اعتراهم، والتقييد بذلك لزيادة إقناطهم والمبالغة في إفادة عدم نفع جؤارهم.
وقال شيخ الإسلام: إن ذلك التهويل اليوم والإيذان بتفويتهم وقت الجؤار والمراد بالقول على ما قيل: ما كان بلسان الحال كما في قوله: امتلأ الحوض وقال قطني. وجوز أن يراد به حقيقة القول وصدوره إما من الله تعالى وإما من الملائكة عليهم السلام، والظاهر على هذا الوجه أن يكون القول في الآخرة وكونه في الدنيا مع عدم إسماعهم إياه لا يخلو عن شيء، وتقديره فعل الأمر مسندا إلى ضميره صلّى الله عليه وسلّم أي قل لهم من قبلنا لا تجأروا بعيد جدا، ومن الناس من جوز كون القول المقدر جواب إِذا الشرطية وحينئذ يكون إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ قيدا للشرط أو بدلا من إذا الأولى، وعلى الأول المعنى أخذنا مترفيهم وقت جؤارهم أو حال مفاجأتهم لجواز أن تكون إِذا ظرفية أو فجائية حينئذ، ولم يجوز جعل النهي المذكور جوابا لخلوّه عن الفاء اللازمة فيه إذا وقع كذلك. وتعقب هذا القول بأنه لا يخفى أن المقصود الأصلي من الجملة الشرطية هو الجواب فيؤدي ذلك إلى أن يكون مفاجأتهم الجؤار غير مقصود أصلي.
249
وقوله تعالى: إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ تعليل للنهي عن الجؤار ببيان عدم نفعه ومن ابتدائية أي لا يلحقكم منا نصرة تنجيكم مما أنتم فيه، وجوز أن تكون من صلة النصر وضمن معنى المنع أو تجوز به عنه أي لا تمنعون منا.
وتعقب بأنه لا يساعده سباق النظم الكريم لأن جؤارهم ليس إلى غيره تعالى حتى يرد عليهم بعدم منصوريتهم من قبله تعالى ولا سياقه فإن قوله تعالى: قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ
إلى آخره صريح في أنه تعليل لعدم لحوق النصر من جهته تعالى بسبب كفرهم بالآيات ولو كان النصر المنفي متوهما من الغير لعلل بعجزه أو بعزة الله تعالى وقوته، وأنت تعلم أنهم المشركون الذين شركاؤهم نصب أعينهم ولم يقيد الجؤار بكونه إلى الله تعالى وأمر التعليل سهل، وقد يقال: المعنى على هذا الوجه دعوى الصراخ فإنه لا يمنعكم منا ولا ينفعكم عندنا فقد ارتكبتم أمرا عظيما وإثما كبيرا لا يدفعه ذلك، ثم لا يخفى ما في كلام المتعقب بعد، والمراد قد كانت آياتي تتلى عليكم قبل أن يأخذ مترفيكم العذاب فَكُنْتُمْ عند تلاوتها عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ أي تعرضون عن سمائها أشد الإعراض فضلا عن تصديقها والعمل بها، والنكوص الرجوع، والأعقاب جمع عقب وهو مؤخر الرجل ورجوع الشخص على عقبه رجوعه في طريقه الأولى كما يقال رجع عوده على بدئه، وجعل بعضهم التقييد بالأعقاب من باب التأكيد كما في بصرته بعيني بناء على أن النكوص الرجوع قهقرى وعلى الأعقاب، وأيا ما كان فهو مستعار للإعراض.
وقرأ عليّ كرّم الله تعالى وجهه «تنكصون» بضم الكاف
مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ أي بالبيت الحرام. والباء للسببية، وسوغ هذا الإضمار مع أنه لم يجر له ذكر اشتهار استكبارهم وافتخارهم بأنهم خدام البيت وقوامه وهذا ما عليه جمهور المفسرين، وقريب منه كون الضمير للحرام، وقال في البحر: الضمير عائد على المصدر الدال عليه «تنكصون» وتعقب بأنه لا يفيد كثير معنى فإن ذلك مفهوم من جعل مستكبرين حالا. واعترض عليه بما فيه بحث، وذكر منذر بن سعيد أن الضمير لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ويحسنه أن في قوله تعالى: قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ دلالة عليه عليه الصلاة والسلام، والباء إما للتعدية على تضمين الاستكبار معنى التكذيب أو جعله مجازا عنه وإما للسببية لأن استكبارهم ظهر ببعثته صلّى الله عليه وسلّم. وجوز أن يعود على القرآن المفهوم من الآيات أو عليها باعتبار تأويلها به وأمر الباء كما سمعت آنفا، وجوز أن تكون متعلقة بقوله تعالى: سامِراً أي تسمرون بذكر القرآن والطعن فيه وذلك أنهم كانوا يجتمعون حول البيت بالليل يسمرون وكانت عامة سمرهم ذكر القرآن وتسميته سحرا وشعرا، والمعنى على ذاك وإن لم يعلق به بِهِ ويجوز على تقدير تعلقه بسامرا عود الضمير على النبي عليه الصلاة والسلام، وكذا يجوز كون المعنى عليه وإن لم يعلق به، وقيل: هي متعلقة بتهجرون وفيه من البعد ما فيه، ونصب «سامرا» على الحال وهو اسم جمع كالحاج والحاضر والجامل والباقر، وقيل: هو مصدر وقع حالا على التأويل المشهور فهو يشمل القليل والكثير باعتبار أصله ولا يخفى أن مجيء المصدر على وزن فاعل نادر ومنه العافية والعاقبة.
والسمر في الأصل ظل القمر وسمي بذلك على ما في المطلع لسمرته، وفي البحر هو ما يقع على الشجر من ضوء القمر، وقال الراغب: هو سواد الليل ثم أطلق على الحديث بالليل، وفسر بعضهم السامر بالليل المظلم، وكونه هنا بهذا المعنى وجعله منصوبا بما بعده على نزع الخافض ليس بشيء، وقرأ ابن مسعود وابن عباس وأبو حيوة وابن محيصن وعكرمة والزعفراني ومحبوب عن أبي عمرو «سمرا» بضم السين وشد الميم مفتوحة جمع سامر، وابن عباس أيضا، وزيد بن علي وأبو رجاء وأبو نهيك «سمارا» بزيادة ألف بعد الميم وهو جمع سامر أيضا وهما جمعان مقيسان في مثل ذلك تَهْجُرُونَ من الهجر بفتح فسكون بمعنى القطع والترك، والجملة في موضع الحال أي تاركين الحق أو القرآن أو النبي صلّى الله عليه وسلّم، وعن ابن عباس تهجرون البيت ولا تعمرونه بما يليق به من العبادة.
250
وجاء الهجر بمعنى الهذيان كما في الصحاح يقال: هجر المريض يهجر هجرا إذا هذى، وجوز أن يكون المعنى عليه أي تهذون في شأن القرآن أو النبي عليه الصلاة والسلام أو أصحابه رضي الله تعالى عنهم أو ما يعم جميع ذلك.
وفي الدر المصون أن ما كان بمعنى الهذيان هو الهجر بفتحتين.
وجوز أن يكون من الهجر بضم فسكون وهو الكلام القبيح، قال الراغب: الهجر الكلام المهجور لقبحه وهجر فلان إذا أتى بهجر من الكلام عن قصد وأهجر المريض إذا أتى بذلك من غير قصد، وفي المصباح هجر المريض في كلامه هذى والهجر بالضم اسم مصدر بمعنى الفحش من هجر كقتل وفيه لغة أخرى اهجر بالألف وعلى هذه اللغة قراءة ابن عباس وابن محيصن ونافع وحميد «تهجرون» بضم التاء وكسر الجيم وهي تبعد كون «تهجرون» في قراءة الجمهور من الهجر بمعنى القطع.
وقرأ ابن أبي عاصم بالياء على سبيل الالتفات، وقرأ ابن مسعود وابن عباس أيضا وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهم، وعكرمة وأبو نهيك. وابن محيصن أيضا وأبو حيوة «تهجّرون» بضم التاء وفتح الهاء وكسر الجيم وشدها على أنه من مضاعف هجر من الهجر بالفتح أو بالضم فالمعنى تقطعون أو تهذون أو تفحشون كثيرا.
أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ الهمزة لإنكار الواقع واستقباحه والفاء للعطف على مقدر ينسحب عليه الكلام أي افعلوا ما فعلوا من النكوص والاستكبار والهجر فلم يتدبروا القرآن ليعلموا بما فيه من وجوه الإعجاز أنه الحق من ربهم فيؤمنوا به، و «أم» في قوله تعالى: أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ منقطعة، وما فيها من معنى بل للإضراب والانتقال من التوبيخ بما ذكر إلى التوبيخ بآخر، والهمزة لإنكار الوقوع لا لإنكار الواقع أي بل أجاءهم من الكتاب ما لم يأت آباءهم الأولين حتى استبعدوه فوقعوا فيما وقعوا فيه من الكفر والضلال بمعنى أن مجيء الكتب من جهته تعالى إلى الرسل عليهم السلام لينذروا بها الناس سنة قديمة له تعالى لا تكاد تنكر وأن مجيء القرآن على طريقته فمم ينكرونه، وقيل: المعنى أفلم يتدبروا القرآن ليخافوا عند تدبر آياته وأقاصيصه مثل ما نزل بمن قبلهم من المكذبين أم جاءهم من الأمن ما لم يأت آباءهم الأولين حين خافوا الله تعالى فآمنوا به وبكتبه ورسله وأطاعوه فالمراد بآبائهم المؤمنون كإسماعيل عليه السلام وعدنان وقحطان، وكأن وصفهم بالأولين على هذا الإخراج الأقربين.
وفي الخبر «لا تسبوا مضر وربيعة فإنهما كانا مسلمين ولا تسبوا قسا فإنه كان مسلما ولا تسبوا الحارث بن كعب ولا أسد بن خزيمة ولا تميم بن مر فإنهم كانوا على الإسلام وما شككتم في شيء فلا تشكوا في أن تبعا كان مسلما»
وروي أن ضبة بن أد كان مسلما وكان على شرطة سليمان بن داود عليهما السلام.
وفي الكشف أن جعل فائدة التدبر استعقاب العلم فالهمزة في المنقطعة للتقرير وإثبات أنهم مصرون على التقليد فلذلك لم يتدبروا ولم يعلموا، وإن جعلت الاعتبار والخوف فالهمزة فيها للإنكار أو التقرير تهكما اهـ فتدبر، ثم لا يخفى أن إسناد المجيء إلى الأمن غير ظاهر ظهور إسناده إلى الكتاب وبهذا تنحط درجة هذا الوجه عن الوجه الأول.
أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ إضراب وانتقال من التوبيخ بما ذكر إلى التوبيخ بوجه آخر، والهمزة لإنكار الوقوع أيضا أي بل ألم يعرفوه عليه الصلاة والسلام بالأمانة والصدق وحسن الأخلاق إلى غير ذلك من الكمالات اللائقة بالأنبياء عليهم السلام.
وقد صح أن أبا طالب يوم نكاح النبي صلّى الله عليه وسلّم خطب بمحضر رؤساء مضر وقريش فقال: أحمد الله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم وزرع إسماعيل وضئضىء معد وعنصر مضر وجعلنا حضنة بيته وسواس حرمه وجعل لنا بيتا محجوجا
251
وحرما آمنا وجعلنا الحكام على الناس ثم إن ابن أخي هذا محمد بن عبد الله لا يوزن برجل إلا رجح به فإن كان في المال قل فإن المال ظل زائل وأمر حائل ومحمد من قد عرفتم قرابته وقد خطب خديجة بنت خويلد وبذل لها من الصداق ما آجله وعاجله من مالي كذا وهو والله بعد هذا له نبأ عظيم وخطر جليل.
وفي هذا دليل واضح على أنهم عرفوه صلّى الله عليه وسلّم بغاية الكمال وإلا لأنكروا قول أبي طالب فيه عليه الصلاة والسلام ما قال.
فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ الفاء سببية لتسبب الإنكار عن عدم المعرفة فالجملة داخلة في حيز الإنكار ومآل المعنى هم عرفوه بالكمال اللائق بالأنبياء عليهم السلام فكيف ينكرونه، واللام للتقوية، وتقديم المعمول للتخصيص أو الفاصلة، والكلام على تقدير مضاف أي منكرون لدعواه أو لرسالته عليه الصلاة والسلام.
أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ انتقال إلى توبيخ آخر والهمزة لإنكار الواقع كالأولى أي بل أيقولون به جنة أي جنون مع أنه عليه الصلاة والسلام أرجح الناس عقلا وأثقبهم رأيا وأوفرهم رزانة، وقد روعي في هذه التوبيخات الأربع التي اثنان منها متعلقان بالقرآن والباقيان به عليه الصلاة والسلام الترقي من الأدنى إلى الأعلى كما يبينه شيخ الإسلام، وقوله تعالى: بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ إضراب عما يدل عليه ما سبق أي ليس الأمر كما زعموا في حق القرآن والرسول صلّى الله عليه وسلّم بل جاءهم بالحق أي بالصدق الثابت الذي لا محيد عنه، والمراد به التوحيد ودين الإسلام الذي تضمنه القرآن ويجوز أن يراد به القرآن.
وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ لما في جبلتهم من كمال الزيغ والانحراف، والظاهر أن الضمائر لقريش، وتقييد الحكم بأكثرهم لأن منهم من أبى الإسلام واتباع الحق حذرا من تعيير قومه أو نحو ذلك لا كراهة للحق من حيث هو حق، فلا يرد ما قيل: إن من أحب شيئا كره ضده فمن أحب البقاء على الكفر فقد كره الانتقال إلى الإيمان ضرورة، وقال ابن المنير: يحتمل أن يحمل الأكثر على الكل كما حمل القليل على النفي وفيه بعد، وكذا ما اختاره من كون ضمير أَكْثَرُهُمْ للناس كافة لا لقريش فيكون الكلام نظير قوله تعالى: وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف: ١٠٣] وقد يقال: حيث كان المراد إثبات الكراهة للحق على سبيل الاستمرار وعلم الله تعالى أن فيهم من يؤمن ويتبع الحق لم يكن بد من تقييد الحكم بالأكثر، والظاهر بناء على القاعدة الأغلبية في إعادة المعرفة أن الحق الثاني عين الحق الأول، وأظهر في مقام الإضمار لأنه أظهر في الذم والضمير ربما يتوهم عوده للرسول عليه الصلاة والسلام، وقيل: اللام في الأول للعهد وفي الثاني للاستغراق أو للجنس أي وأكثرهم للحق أي حق كان لا لهذا الحق فقط كما ينبىء عنه الإظهار كارهون، وتخصيص أكثرهم بهذا الوصف لا يقتضي إلا عدم كراهة بعضهم لكل حق من الحقوق وذلك لا ينافي كراهتهم لهذا الحق وفيه بحث إذ لا يكاد يسلم أن أكثرهم كارهون لكل حق، وكذا الظاهر أن يراد بالحق في قوله تعالى: وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ الحق الذي جاء به النبي صلّى الله عليه وسلّم وجعل الاتباع حقيقيا والإسناد مجازيا، وقيل ما آل المعنى لو اتبع النبي صلّى الله عليه وسلّم أهواءهم فجاءهم بالشرك بدل ما أرسل به لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ أي لخرب الله تعالى العالم وقامت القيامة لفرط غضبه سبحانه وهو فرض محال من تبديله عليه الصلاة والسلام وما أرسل به من عنده، وجوز أن يكون المراد بالحق الأمر المطابق للواقع في شأن الألوهية والاتباع مجازا عن الموافقة أي لو وافق الأمر المطابق للواقع أهواءهم بأن كان الشرك حقا لفسدت السموات والأرض حسبما قرر في قوله تعالى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الأنبياء: ٢٢] ولعل الكلام عليه اعتراض للإشارة إلى أنهم كرهوا شيئا لا يمكن خلافه أصلا فلا فائدة لهم في هذه الكراهة.
252
واعترض بأنه لا يناسب المقام وفيه بحث، وكذا ما قيل: إن ما يوافق أهواءهم هو الشرك في الألوهية لأن قريشا كانوا وثنية وهو لا يستلزم الفساد والذي يستلزمه إنما هو الشرك في الربوبية كما تزعمه الثنوية وهم لم يكونوا كذلك كما ينبىء عنه قوله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان: ٢٥، الزمر: ٣٨].
وجوز أن يكون المعنى لو وافق الحق مطلقا أهواءهم لخرجت السموات والأرض عن الصلاح والانتظام بالكلية، والكلام استطراد لتعظيم شأن الحق مطلقا بأن السموات والأرض ما قامت ولا من فيهن إلا به ولا يخلو عن حسن. وقيل: المراد بالحق هو الله تعالى.
وقد أخرجه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي صالح، وحكاه بعضهم عن ابن جريج والزمخشري عن قتادة، والمعنى عليه لو كان الله تعالى يتبع أهواءهم ويفعل ما يريدون فيشرع لهم الشرك ويأمرهم به لم يكن سبحانه إلها فتفسد السموات والأرض. وهذا مبني على أن شرع الشرك نقص يجب تنزيه الله تعالى عنه. وقد ذكر ذلك الخفاجي وذكر أنه قد قام الدليل العقلي عليه وأنه لا خلاف فيه. ولعل الكلام عليه اعتراض أيضا للإشارة إلى عدم إمكان إرسال النبي عليه الصلاة والسلام إليهم بخلاف ما جاء به مما لا يكرهونه فكراهتهم لما جاء به عليه الصلاة والسلام لا تجديهم نفعا فالقول بأنه بعيد عن مقتضى المقام ليس في محله. وقيل: المعنى عليه لو فعل الله تعالى ما يوافق أهواءهم لاختل نظام العالم لما أن آراءهم متناقضة، وفيه إشارة إلى فساد عقولهم وأنهم لذلك كرهوا ما كرهوه من الحق الذي جاء به عليه الصلاة والسلام وهو كما ترى.
وقرأ ابن وثاب «ولو اتبع» بضم الواو بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ انتقال من تشنيعهم بكراهة الحق إلى تشنيعهم بالإعراض عما جبل عليه كل نفس من الرغبة فيما فيه خيرها. والمراد بالذكر القرآن الذي هو فخرهم وشرفهم حسبما ينطق به قوله تعالى: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [الزخرف: ٤٤] أي بل أتيناهم بفخرهم وشرفهم الذي كان يجب عليهم أن يقبلوا عليه أكمل إقبال ويقبلوا ما فيه أكمل قبول فَهُمْ بما فعلوا من النكوص عَنْ ذِكْرِهِمْ أي فخرهم وشرفهم خاصة مُعْرِضُونَ لا عن غير ذلك مما لا يوجب الإقبال عليه والاعتناء به، وفي وضع الظاهر موضع الضمير مزيد تشنيع لهم وتقريع، والفاء لترتيب ما بعدها من إعراضهم عن ذكرهم على ما قبلها من الإتيان بذكرهم، ومن فسر (الحق) في قوله تعالى: بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ بالقرآن الكريم قال هنا: في إسناد الإتيان بالذكر إلى نون العظمة بعد إسناده إلى ضميره عليه الصلاة والسلام تنويه بشأن النبي صلّى الله عليه وسلّم وتنبيه على كونه عليه الصلاة والسلام بمثابة عظيمة منه عز وجل، وفي إيراد القرآن الكريم عند نسبته إليه صلّى الله عليه وسلّم بعنوان الحقية وعند نسبته إليه تعالى بعنوان الذكر من النكتة السرية والحكمة العبقرية ما لا يخفى فإن التصريح بحقيته المستلزمة لحقية من جاء به هو الذي يقتضيه مقام حكاية ما قاله المبطلون في شأنه وأما التشريف فإنما يليق به تعالى لا سيما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أحد المشرفين. وقيل: المراد بذكرهم ما تمنوه بقولهم: «لو أن عندنا ذكرا من الأولين لكنا عباد الله المخلصين» فكأنه قيل: بل أتيناهم الكتاب الذي تمنوه وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المراد بالذكر الوعظ.
وأيد بقراءة عيسى «بذكراهم» بألف التأنيث، ورجح القولان الأولان بأن التشنيع عليهما أشد فإن الإعراض عن وعظهم ليس بمثابة إعراضهم عن شرفهم وفخرهم أو عن كتابهم الذي تمنوه في الشناعة والقباحة.
وقيل: إن الوعظ فيه بيان ما يصلح به حال من يوعظ فالتشنيع بالإعراض عنه لا يقصر عن التشنيع بالإعراض عن أحد ذينك الأمرين ولا يخفى ما فيه من المكابرة.
253
وقرأ ابن أبي إسحاق وعيسى بن عمر ويونس عن أبي عمرو «بل أتيتهم» بتاء المتكلم، وابن أبي إسحاق وعيسى أيضا وأبو حيوة والجحدري وابن قطيب وأبو رجاء «بل أتيتهم» بتاء الخطاب للرسول صلّى الله عليه وسلّم وأبو عمرو وفي رواية «أتيناهم» بالمد ولا حاجة على هذه القراءة إلى ارتكاب مجاز أو دعوى حذف مضاف كما في قراءة الجمهور على تقدير جعل الباء للمصاحبة وقرأ قتادة «نذكرهم» بالنون مضارع ذكر أَمْ تَسْأَلُهُمْ متعلق بقوله تعالى: أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ فهو انتقال إلى توبيخ آخر، وغير للخطاب لمناسبته ما بعده، وكان المراد أم يزعمون أنك تسألهم على أداء الرسالة خَرْجاً أي جعلا فلأجل ذلك لا يؤمنون بك، وقوله تعالى: فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ أي رزقه في الدنيا وثوابه في الآخرة تعليل لنفي السؤال المستفاد من الإنكار أي لا تسألهم ذلك فإن ما رزقك الله تعالى في الدنيا والعقبى خير من ذلك لسعته ودوامه وعدم تحمل منة الرجال فيه، وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام من تعليل الحكم وتشريفه صلّى الله عليه وسلّم ما لا يخفى.
و «الخرج» بإزاء الدخل يقال لكل ما تخرجه إلى غيرك والخراج غالب في الضريبة على الأرض ففيه إشعار بالكثرة واللزوم فيكون أبلغ ولذلك عبر به عن عطاء الله تعالى، وكذا على ما قيل من أن الخرج ما تبرعت به والخراج ما لزمك واللزوم بالنسبة إليه تعالى إنما هو لفضل وعده عز وجل، وقيل الخرج أعم من الخراج وساوى بينهما بعضهم.
وقرأ عامر «خرجا فخرج» وحمزة والكسائي «خراجا فخراج» للمشاكلة وقرأ الحسن وعيسى «خرجا فخرج» وكأن اختيار خَرْجاً في جانبه عليه الصلاة والسلام للإشارة إلى قوة تمكنهم في الكفر واختيار «خرجا» في جانبه تعالى للمبالغة في حط قدر خراجهم حيث كان المعنى فالشيء القليل منه عز وجل خير من كثيرهم فما الظن بكثيره جل وعلا وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ تأكيد لخيرية خراجه سبحانه وتعالى فإن من كان خير الرازقين يكون رزقه خيرا من رزق غيره.
واستدل الجبائي بذلك على أنه سبحانه لا يساويه أحد في الإفضال على عباده وعلى أن العباد قد يرزق بعضهم بعضا وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ تشهد العقول السليمة باستقامته ليس فيه شائبة اعوجاج توجب الاتهام، قال الزمخشري: ولقد ألزمهم عز وجل الحجة وأزاح عللهم في هذه الآيات بأن الذي أرسل إليهم رجل معروف أمره وحاله مخبور سره وعلنه خليق بأن يجتبى مثله للرسالة من بين ظهرانيهم وأنه لم يعرض له حتى يدعي مثل هذه الدعوى العظيمة بباطل ولم يجعل ذلك سلما إلى النيل من دنياهم واستعطاء أموالهم ولم يدعهم إلا إلى دين الإسلام الذي هو الصراط المستقيم مع إبراز المكنون من أدوائهم وهو إخلالهم بالتدبر والتأمل واستهتارهم بدين الآباء الضلال من غير برهان وتعللهم بأنه مجنون بعد ظهور الحق وثبات التصديق من الله تعالى بالمعجزات والآيات النيرة وكراهتهم للحق وإعراضهم عما فيه حفظهم من الذكر اهـ. وهو من الحسن بمكان.
وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ هم كفرة قريش المحدث عنهم فيما مر وصفوا بذلك تشنيعا لهم مما هم عليه من الانهماك في الدنيا وزعمهم أن لا حياة بعدها وإشعار بعلة الحكم فإن الإيمان بالآخرة وخوف ما فيها من الدواهي من أقوى الدواعي إلى طلب الحق وسلوك سبيله، وجوز أن يكون المراد بهم ما يعمهم وغيرهم من الكفرة المنكرين للحشر ويدخلون في ذلك دخولا أوليا عَنِ الصِّراطِ المستقيم الذي تدعو إليه لَناكِبُونَ أي لعادلون، وقيل: المراد بالصراط جنسه أي إنهم عن جنس الصراط فضلا عن الصراط المستقيم الذي تدعوهم إليه لناكبون، ورجح بأنه أدل على كمال ضلالهم وغاية غوايتهم لما أنه ينبىء عن كون ما ذهبوا إليه مما لا يطلق عليه اسم الصراط
254
ولو كان معوجا، وفيه أن التعليل بمضمون الصلة لا يساعد إلا على إرادة الصراط المستقيم، وأظن أنه قد نكب عن الصراط من زعم أن المراد هنا الصراط الممدود على متن جهنم وهو طريق الجنة أي أنهم يوم القيامة عن طريق الجنة لمائلون يمنة ويسرة إلى النار.
وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ أي من سوء حال، قيل: هو ما عراهم بسبب أخذ مترفيهم بالعذاب يوم بدر أعني الجزع عليهم وذلك بإحيائهم وإعادتهم إلى الدنيا بعد القتل أي ولو رحمناهم وكشفنا ضرهم بإرجاع مترفيهم إليهم لَلَجُّوا لتمادوا فِي طُغْيانِهِمْ إفراطهم في الكفر والاستكبار وعداوة الرسول صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين يَعْمَهُونَ عامهين مترددين في الضلال يقال عمه كمنع وفرح عمها وعموها وعموهة وعمهانا، وقيل: هو ما هم فيه من شدة الخوف من القتل والسبي ومزيد الاضطراب من ذلك لما رأوا ما حل بمترفيهم يوم بدر وكشفه بأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بالكف عن قتالهم وسبيهم بعد أو بنحو ذلك وهو وجه ليس بالبعيد وقيل: المراد بالضر عذاب الآخرة أي إنهم في الرداءة والتمرد إلى أنهم لو رحموا وكشف عنهم عذاب النار وردوا إلى الدنيا لعادوا لشدة لجاجهم فيما هم عليه وفيه من البعد ما فيه.
واستظهر أبو حيان أن المراد به القحط والجوع الذي أصابهم بدعاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وذكر أنه مروي عن ابن عباس وابن جريج، وقد دعا عليهم صلّى الله عليه وسلّم بذلك في مكة يوم ألقى عليه المشركون وهو قائم يصلي عند البيت صلى جزور
فقال: اللهم اشدد وطأتك على مضر اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف
ودعا بذلك أيضا بالمدينة، فقد روي أنه عليه الصلاة والسلام مكث شهرا إذا رفع رأسه من الركعة الثانية من صلاة الفجر بعد قوله سمع الله لمن حمده يقول: اللهم انج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة والمستضعفين من المؤمنين بمكة اللهم اشدد وطأتك إلخ، وربما فعل ذلك بعد رفعه من الركعة الأخيرة من صلاة العشاء، وكلتا الروايتين ذكرهما برهان الدين الحلبي في سيرته، والكثير على أنه الجوع الذي أصابهم من منع ثمامة الميرة عنهم، وذلك أن ثمامة بن أثال الحنفي جاءت به إلى المدينة سرية محمد بن مسلمة حين بعثها صلّى الله عليه وسلّم إلى بني بكر بن كلاب فأسلم بعد أن امتنع من الإسلام ثلاثة أيام ثم خرج معتمرا فلما قدم مكة لبى وهو أول من دخلها ملبيا ومن هنا قال الحنفي:
ومنا الذي لبى بمكة معلنا برغم أبي سفيان في الأشهر الحرم
فأخذته قريش فقالوا: لقد اجترأت علينا وقد صبوت يا ثمامة قال: أسلمت واتبعت خير دين دين محمد صلّى الله عليه وسلّم والله لا يصل إليكم حبة من اليمامة وكانت ريفا لأهل مكة حتى يأذن فيها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم خرج ثمامة إلى اليمامة فمنعهم أن يحملوا إلى مكة شيئا حتى أضر بهم الجوع وأكلت قريش العلهز.
فكتبت قريش إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ألست تزعم أنك بعثت رحمة للعالمين فقد قتلت الآباء بالسيف والأبناء بالجوع إنك تأمر بصلة الرحم وأنت قد قطعت أرحامنا فكتب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى ثمامة رضي الله تعالى عنه خل بين قومي وبين ميرتهم ففعل
، وفي رواية أن أبا سفيان جاءه صلّى الله عليه وسلّم فقال: ألست إلخ، ووجه الجمع ظاهر وكان هذا قبل الفتح بقليل، وعندي أن لَوْ تبعد هذا القول كما لا يخفى، نعم أخرج ابن جرير وجماعة عن ابن عباس ما هو نص في أن قصة ثمامة سبب لنزول قوله تعالى:
وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ إلى آخره فيكون الجوع مرادا من العذاب المذكور فيه على ذلك، ولا يرد على من قال به قوله تعالى: فَمَا اسْتَكانُوا فما خضعوا بذلك لِرَبِّهِمْ لأن له أن يقول: المراد بالخضوع له عز وجل الانقياد لأمره سبحانه والإيمان به جل وعلا وما كان منهم مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليس منه شيء، والمشهور أن المراد بالعذاب ما نالهم يوم بدر من القتل والأسر، ولا يرد على من فسر العذاب في قوله سبحانه: حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ
255
به أيضا لزوم المنافاة بين ما هناك من قوله تعالى: إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ وما هنا من نفي الاستكانة لربهم ونفي التضرع المستفاد من قوله سبحانه: وَما يَتَضَرَّعُونَ إذ له أن يقول: الجؤار مطلق الصراخ وهو غير الاستكانة لله عز وجل وغير التضرع إليه سبحانه وهو ظاهر، وكذا إذا أريد بالجؤار الصراخ باستغاثة بناء على أن المراد بالاستكانة له تعالى ما علمت آنفا من الانقياد لأمره عز وجل وأن التضرع ما كان عن صميم الفؤاد والجؤار ما لم يكن كذلك، وكأن التعبير هناك بالجؤار للإشارة إلى أن استغاثتهم كانت أشبه شيء بأصوات الحيوانات، وقيل: ما تقدم لبيان حال المقتولين وما هنا لبيان حال الباقين، وعبر في التضرع بالمضارع ليفيد الدوام إلا أن المراد دوام النفي لا نفي الدوام أي وليس من عادتهم التضرع إليه تعالى أصلا، ولو حمل ذلك على نفي الدوام كما هو الظاهر لا يرد ما يتوهم من المنافاة بين قوله تعالى: إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ وقوله سبحانه: وَما يَتَضَرَّعُونَ أيضا، واستكان استفعل من الكون، وأصل معناه انتقل من كون إلى كون كاستحجر ثم غلب العرف على استعماله في الانتقال من كون الكبر إلى كون الخضوع فلا إجمال فيه عرفا، وقال أبو العباس أحمد بن فارس: سئلت عن ذلك في بغداد لما دخلتها زمن الإمام الناصر وجمع لي علماءها فقلت واستحسن مني: هو مشتق من قول العرب: كنت لك إذا خضعت وهي لغة هذيلية وقد نقلها أبو عبيدة في الغريبين وعليه يكون من باب قر واستقر، ولا يجعل من استفعل المبني للمبالغة مثل استعصم واستحسر إلا أن يراد في الآية حينئذ المبالغة في النفي لا نفي المبالغة، وقيل هو من الكين اللحمة المستبطنة في الفرج لذلة المستكين، وجوز الزمخشري أن يكون افتعل من السكون والألف إشباع كما في قوله:
وأنت من الغوائل حين ترمي ومن ذم الرجال بمنتزاح
وقوله:
أعوذ بالله من العقراب الشائلات عقد الأذناب
واعترض بأن الإشباع المذكور مخصوص بضرورة الشعر وبأنه لم يعهد بكونه في جميع تصاريف الكلمة واستكان جميع تصاريفه كذلك فهو يدل على أنه ليس مما فيه إشباع حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ من عذاب الآخرة كما ينبىء عنه التهويل بفتح الباب والوصف بالشدة وإلى هذا ذهب الجبائي، وحَتَّى مع كونها غاية للنفي السابق مبتدأ لما بعدها من مضمون الشرطية كأنه قيل: هم مستمرون على هذه الحال حتى إذا فتحنا عليهم يوم القيامة بابا ذا عذاب شديد إِذا هُمْ فِيهِ أي في ذلك الباب أو في ذلك العذاب أو بسبب الفتح أقوال مُبْلِسُونَ متحيرون آيسون من كل خير أو ذوو حزن من شدة البأس وهذا كقوله تعالى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ [الروم: ١٢] لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ [الزخرف: ٧٥] وقيل: هذا الباب استيلاء النبي صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين عليهم يوم الفتح وقد أيسوا في ذلك اليوم من كل ما كانوا يتوهمونه من الخير. وأخرج ابن جرير أنه الجوع الذي أكلوا فيه العلهز، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه القتل يوم بدر، وروت الإمامية- وهم بيت الكذب-
عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه أن ذلك عذاب يعذبون به في الرجعة
، ولعمري لقد افتروا على الله تعالى الكذب وضلوا ضلالا بعيدا، والوجه في الآية عندي ما تقدم، والظاهر أن هذه الآيات مدنية وبعض من قال بمكيتها ادعى أن فيها أخبارا عن المستقبل بالماضي للدلالة على تحقق الوقوع.
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ لتحسوا بها الآيات التنزيلية والتكوينية وَالْأَفْئِدَةَ لتتفكروا بها في الآيات وتستدلوا بها إلى غير ذلك من المنافع، وقدم السمع لكثرة منافعه، وأفرد لأنه مصدر في الأصل ولم يجمعه الفصحاء في الأكثر، وقيل: أفرد لأنه يدرك به نوع واحد من المدركات وهو الأصوات بخلاف البصر فإنه يدرك به
256
الأضواء والألوان والأكوان والأشكال وبخلاف الفؤاد فإنه يدرك به أنواع شتى من التصورات والتصديقات. وفي الآية إشارة إلى الدليل الحسي والعقلي، وتقديم ما يشير إلى الأول قد تقدم فتذكر فما في العهد من قدم قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ أي شكرا قليلا تشكرون تلك النعم الجليلة لأن العمدة في الشكر صرف تلك القوى التي هي في أنفسها نعم باهرة إلى ما خلقت هي له فنصب قَلِيلًا على أنه صفة مصدر محذوف، والقلة على ظاهرها بناء على أن الخطاب للناس بتغليب المؤمنين، وجوز أن تكون بمعنى النفي بناء على أن الخطاب للمشركين على سبيل الالتفات، وقيل: هو للمؤمنين خاصة وليس بشيء، والأولى عندي للمشركين خاصة مع جواز كون القلة على ظاهرها كما لا يخفى على المتدبر وما علا سائر الأقوال مزيدة للتأكيد.
وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ أي خلقكم وبثكم فيها وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ أي تجمعون يوم القيامة بعد تفرقكم لا إلى غيره تعالى فما لكم لا تؤمنون به سبحانه وتشكرونه عز وجل وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ من غير أن يشاركه في ذلك شيء من الأشياء وَلَهُ تعالى شأنه خاصة اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أي هو سبحانه وتعالى المؤثر في اختلافهما أي تعاقبهما من قولهم: فلان يختلف إلى فلان أي يتردد عليه بالمجيء والذهاب أو تخالفهما زيادة ونقصا، وقيل: المعنى لأمره تعالى وقضائه سبحانه اختلافهما ففي الكلام مضاف مقدر، واللام عليه يجوز أن تكون للتعليل أَفَلا تَعْقِلُونَ أي ألا تتفكرون فلا تعقلون أو أتتفكرون فلا تعقلون بالنظر والتأمل أن الكل صار منا وأن قدرتنا تعم جميع الممكنات التي من جملتها البعث، وقرأ أبو عمرو في رواية «يعقلون» على أن الالتفات إلى الغيبة لحكاية سوء حال المخاطبين، وقيل: على أن الخطاب الأول لتغليب المؤمنين وليس بذاك.
بَلْ قالُوا عطف على مضمر يقتضيه المقام أي فلم يعقلوا بل قالوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ أي آباؤهم ومن دان بدينهم من الكفرة المنكرين للبعث قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ تفسير لما قبله من المبهم وتفصيل لما فيه من الإجمال وقد مر الكلام فيه لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا البعث مِنْ قَبْلُ متعلق بالفعل من حيث إسناده إلى المعطوف عليه والمعطوف على ما هو الظاهر، وصح ذلك بالنسبة إليهم لأن الأنبياء المخبرين بالبعث كانوا يخبرون به بالنسبة إلى جميع من يموت، ويجوز أن يكون متعلقا به من حيث إسناده إلى آبائهم لا إليهم أي ووعد آباؤنا من قبل أو بمحذوف وقع حالا من آبائنا أي كائنين من قبل إِنْ هذا أي ما هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أي أكاذيبهم التي سطروها جمع أسطورة كأحدوثة وأعجوبة وإلى هذا ذهب المبرد وجماعة، وقيل: جمع أسطار جمع سطر كفرس وأفراس، والأول كما قال الزمخشري أوفق لأن جمع المفرد أولى وأقيس ولأن بنية أفعولة تجيء لما فيه التلهي فيكون حينئذ كأنه قيل مكتوبات لا طائل تحتها قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها من المخلوقات تغليبا للعقلاء على غيرهم إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ جوابه محذوف ثقة بدلالة الاستفهام عليه أي إن كنتم من أهل العلم ومن العقلاء أو عالمين بذلك فأخبروني به. وفي الآية من المبالغة في الاستهانة بهم وتقرير فرط جهالتهم ما لا يخفى.
ويقوي هذا أنه أخبر عن الجواب قبل أن يجيبوا فقال سبحانه: سَيَقُولُونَ لِلَّهِ فإن بداهة العقل تضطرهم إلى الاعتراف بأنه سبحانه خلقها فاللام للملك باعتبار الخلق قُلْ أي عند اعترافهم بذلك تبكيتا لهم أَفَلا تَذَكَّرُونَ أي أتعلمون أو أتقولون ذلك فلا تتذكرون أي من فطر الأرض ومن فيها ابتداء قادر على إعادتها ثانيا فإن البدء ليس بأهون من الإعادة بل الأمر بالعكس في قياس المعقول. وقرىء «تتذكرون» على الأصل قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ أعيد لفظ الرب تنويها بشأن العرش ورفعا لمحله من أن يكون تبعا للسماوات وجودا وذكرا، وقرأ ابن محيصن «العظيم» بالرفع نعتا للرب.
257
سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قرأ أبو عمرو ويعقوب بغير لام فيه. وفيما بعده ولم يقرأ على ما قيل في السابق بترك اللام والقراءة بغير لام على الظاهر وباللام على المعنى وكلا الأمرين جائزان فلو قيل: من صاحب هذه الدار؟ فقيل: زيد كان جوابا عن لفظ السؤال، ولو قيل: لزيد لكان جوابا على المعنى لأن معنى من صاحب هذه الدار؟ لمن هذه الدار وكلا الأمرين وارد في كلامهم، أنشد صاحب المطلع:
إذا قيل من رب المزالف والقرى ورب الجياد الجرد قلت لخالد
وأنشد الزجاج:
وقال السائلون لمن حفرتم فقال المخبرون لهم وزير
قُلْ إفحاما لهم وتوبيخا أَفَلا تَتَّقُونَ أي أتعلمون ذلك ولا تتقون أنفسكم عقابه على ترك العمل بموجب العلم حيث تكفرون به تعالى وتنكرون ما أخبر به من البعث وتثبتون له سبحانه شريكا.
قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ مما ذكر ومما لم يذكر وصيغة الملكوت للمبالغة في الملك فالمراد به الملك الشامل الظاهر، وقيل: المالكية والمدبرية، وقيل: الخزائن وَهُوَ يُجِيرُ أي يمنع من يشاء ممن يشاء وَلا يُجارُ عَلَيْهِ ولا يمنع أحد منه جل وعلا أحدا، وتعدية الفعل بعلى لتضمنه معنى النصرة أو الاستعلاء إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ تكرير لاستهانتهم وتجهيلهم على ما مر سَيَقُولُونَ لِلَّهِ ملكوت كل شيء والوصف بأنه الذي يجير ولا يجار عليه قُلْ تهجينا لهم وتقريعا فَأَنَّى تُسْحَرُونَ كيف أو من أين تخدعون وتصرفون عن الرشد مع علمكم به إلى ما أنتم عليه من البغي فإن من لا يكون مسحورا مختل العقل لا يكون كذلك، وهذه الآيات الثلاث أعني قُلْ لِمَنِ إلى هنا على ما قرر في الكشف تقرير للسابق وتمهيد للاحق وقد روعي في السؤال فيها قضية الترقي فسئل عمن له الأرض ومن فيها، وقيل: مَنْ تغليبا للعقلاء ولأنه يلزم أن يكون له غيرهم من طريق الأولى ثم سئل عمن له السموات والعرش العظيم والأرض بالنسبة إليه كلا شيء ثم سئل عمن بيده ملكوت كل شيء فأتى بأعم العام وكلمة الإحاطة وأوثر الملكوت وهو الملك الواسع، وقيل: بِيَدِهِ تصويرا وتخييلا وكذلك روعي هذه النكتة في الفواصل فعيروا أولا بعدم التذكر فإن أيسر النظر يكفي في انحلال عقدهم ثم بعدم الاتقاء وفيه وعيد ثم بالتعجب من خدع عقولهم فتخيل الباطل حقا والحق باطلا وأنى لها التذكر والخوف.
بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ إضراب عن قولهم: إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ والمراد بالحق الوعد بالبعث وقيل: ما يعمه والتوحيد ويدل على ذلك السياق وقرىء «بل أتيتهم» بتاء المتكلم وقرأ ابن أبي إسحاق بتاء الخطاب وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ في قولهم: إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أو في ذلك قولهم بما ينافي التوحيد مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ لتنزهه عز وجل عن الاحتياج وتقدسه تعالى عن مماثلة أحد.
وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ يشاركه سبحانه في الألوهية إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ أي لاستبد بالذي خلقه واستقل به تصرفا وامتاز ملكه عن ملك الآخر وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ ولوقع التحارب والتغالب بينهم كما هو الجاري فيما بين الملوك والتالي باطل لما يلزم من ذلك نفي ألوهية الجميع أو ألوهية ما عدا واحدا منهم وهو خلاف المفروض أو لما أنه يلزم أن لا يكون بيده تعالى وحده ملكوت كل شيء وهو باطل في نفسه لما برهن عليه في الكلام وعند الخصم لأنه يقول باختصاص ملكوت كل شيء به تعالى كما يدل عليه السؤال والجواب السابقان آنفا كذا قيل، ولا يخفى أن اللزوم في الشرطية المفهومة من الآية عادي لا عقلي ولذا قيل: إن الآية إشارة إلى دليل إقناعي للتوحيد لا قطعي.
258
وفي الكشف قد لاح لنا من لطف الله تعالى وتأييده أن الآية برهان نير على توحيده سبحانه، وتقريره أن مرجح الممكنات الواجب الوجود تعالى شأنه جل عن كل كثرة أما كثرة المقومات أو الأجزاء الكمية فبينة الانتفاء لإيذائها بالإمكان، وأما التعدد مع الاتحاد في الماهية فكذلك للافتقار إلى المميز ولا يكون مقتضى الماهية لاتحادهما فيه فيلزم الإمكان، ثم الميزان في الطرفين صفتا كمال لأن الاتصاف بما لا كمال فيه نقص فهما ناقصان ممكنان مفتقران في الوجود إلى مكمل خارج هو الواجب بالحقيقة، وكذلك الافتقار في كمال ما للوجود يوجب الإمكان لإيجابه أن يكون فيه أمر بالفعل وأمر بالقوة واقتضائه التركيب والإمكان.
ومن هنا قال العلماء: إن واجب الوجود بذاته واجب بجميع صفاته ليس له أمر منتظر ومع الاختلاف في الماهية يلزم أن لا يكون المرجح مرجحا أي لا يكون الإله إلها لأن كل واحد واحد من الممكنات إن استقلا بترجيحه لزم توارد العلتين التامتين على معلول شخصي وهو ظاهر الاستحالة فكونه مرجحا إلها يوجب الافتقار إليه وكون غيره مستقلا بالترجيح يوجب الاستغناء عنه فيكون مرجحا غير مرجح في حالة واحدة، وإن تعاونا فكمثل إذ ليس ولا واحد منهما بمرجح وفرضا مرجحين مع ما فيه من العجز عن الإيجاد والافتقار إلى الآخر، وإن اختص كل منهما ببعض مع أن الافتقار إليهما على السواء لزم اختصاص ذلك المرجح بمخصص يخصصه بذلك البعض بالضرورة وليس الذات لأن الافتقار إليهما على السواء فلا أولوية للترجيح من حيث الذات ولا معلول الذات لأنه يكون ممكنا والكلام فيه عائد فيلزم المحال من الوجهين الأولين أعني الافتقار إلى مميز غير الذات ومقتضاها ولزوم النقص لكل واحد لأن هذا المميز صفة كمال ثم مخصص كل بذلك التمييز هو الواجب الخارج لا هما، وإلى المحال الأول الإشارة بقوله تعالى: إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وهو لازم على تقدير التخالف في الماهية واختصاص كل ببعض، وخص هذا القسم لأن ما سواه أظهر استحالة، وإلى الثاني الإشارة بقوله سبحانه وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ أي إما مطلقا وإما من وجه فيكون العالي هو الإله أو لا يكون ثم إله أصلا وهذا لازم على تقديري التخالف والاتحاد والاختصاص وغيره فهو تكميل للبرهان من وجه وبرهان ثان من آخر، فقد تبين ولا كفرق الفجر أنه تعالى هو الواحد الأحد جعل وجوده زائدا على الماهية أو لا فاعلا بالاختيار أو لا، وليس برهان الوحدة مبنيا على أنه تعالى فاعل بالاختيار كما ظنه الإمام الرازي قدس سره انتهى، وهو كلام يلوح عليه مخايل التحقيق، وربما يورد عليه بعض مناقشات تندفع بالتأمل الصادق، وما أشرنا إليه من انفهام قضية شرطية من الآية ظاهر جدا على ما ذهب إليه الفراء فقد قال: إن إذا حيث جاءت بعدها اللام فقبلها لو مقدرة إن لم تكن ظاهرة نحو إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ فكأنه قيل: لو كان معه آلهة كما تزعمون لذهب كل إلخ.
وقال أبو حيان: إذا حرف جواب وجزاء ويقدر قسم يكون لَذَهَبَ جوابا له، والتقدير والله إذا أي إن كان معه من إله لذهب وهو في معنى ليذهبن كقوله تعالى: وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا [الروم: ٥١] أي ليظلن لأن إذا تقتضي الاستقبال وهو كما ترى، وقد يقال: إن إذا هذه ليست الكلمة المعهودة وإنما هي إذا الشرطية حذفت جملتها التي تضاف إليها وعوض عنها التنوين كما في يومئذ والأصل إذا كان معه من إله لذهب إلخ، والتعبير بإذا من قبيل مجاراة الخصم، وقيل: كُلُّ إِلهٍ لما أن النفي عام يفيد استغراق الجنس ومَا في بِما خَلَقَ موصولة حذف عائدها كما أشرنا إليه.
وجوز أن تكون مصدرية ويحتاج إلى نوع تكلف لا يخفى. ولم يستدل على انتفاء اتخاذ الولد إما لغاية ظهور فساده أو للاكتفاء بالدليل الذي أقيم على انتفاء أن يكون معه سبحانه إله بناء على ما قيل إن ابن الإله يلزم أن يكون
259
إلها إذ الولد يكون من جنس الوالد وجوهره وفيه بحث سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ مبالغة في تنزيهه تعالى عن الولد والشريك، وما موصولة وجوز أن تكون مصدرية. وقرىء «تصفون» بتاء الخطاب وعالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أي كل غيب وشهادة، وجر عالِمِ على أنه بدل من الاسم الجليل أو صفة له لأنه أريد به الثبوت والاستمرار فيتعرف بالإضافة.
وقرأ جماعة من السبعة، وغيرهم برفعه على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو عالم، والجر أجود عند الأخفش والرفع أبرع عند ابن عطية، وأيا ما كان فهو على ما قيل إشارة إلى دليل آخر على انتفاء الشريك بناء على توافق المسلمين والمشركين في تفرده تعالى بذلك، وفي الكشف أن في قوله سبحانه: عالِمِ إلخ إشارة إلى برهان آخر راجع إلى إثبات العلو أو لزوم الجهل الذي هو نقص وضد العلو لأن المتعددين لا سبيل لهما إلى أن يعلم كل واحد حقيقة الآخر كعلم ذلك الآخر بنفسه بالضرورة وهو نوع جهل وقصور، ثم علمه به يكون انفعاليا تابعا لوجود المعلوم فيكون في إحدى صفات الكمال- أعني العلم- مفتقرا وهو يؤذن بالنقصان والإمكان فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ تفريع على كونه تعالى عالما بذلك فهو كالنتيجة لما أشار إليه من الدليل.
وقال ابن عطية: الفاء عاطفة كأنه قيل علم الغيب والشهادة فتعالى كما تقول زيد شجاع فعظمت منزلته على معنى شجع فعظمت، ويحتمل أن يكون المعنى فأقول تعالى إلخ على أنه إخبار مستأنف قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي أي إن كان لا بد من أن تريني لأن ما والنون زيدتا للتأكيد ما يُوعَدُونَ أي الذي يوعدونه من العذاب الدنيوي المستأصل وأما العذاب الأخروي فلا يناسب المقام رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أي قرينا لهم فيما هم فيه من العذاب، ووضع الظاهر موضع الضمير للإشارة إلى استحقاقهم للعذاب، وجاء الدعاء قبل الشرط وقبل الجزاء مبالغة في الابتهال والتضرع، واختير لفظ الرب لما فيه من الإيذان بأنه سبحانه المالك الناظر في مصالح العبد، وفي أمره صلّى الله عليه وسلّم أن يدعو بذلك مع أنه عليه الصلاة والسلام في حرز عظيم من أن يجعل قرينا لهم إيذان بكمال فظاعة العذاب الموعود وكونه بحيث يجب أن يستعيذ منه من لا يكاد يمكن أن يحيق به. وهو متضمن رد إنكارهم العذاب واستعجالهم به على طريقة الاستهزاء.
وقيل أمر صلّى الله عليه وسلّم بذلك هضما لنفسه وإظهارا لكمال العبودية، وقيل لأن شؤم الكفرة قد يحيق بمن سواهم كقوله تعالى وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الأنفال: ٢٥] وروي عن الحسن أنه جل شأنه أخبر نبيه صلّى الله عليه وسلّم بأن له في أمته (١) نقمة ولم يطلعه على وقتها أهو في حياته أم بعدها فأمره بهذا الدعاء.
وقرأ الضحاك وأبو عمران الجوني «ترئني» بالهمز بدل الياء وهو كما في البحر إبدال ضعيف.
وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ من العذاب لَقادِرُونَ ولكنا لا نفعل بل نؤخره عنهم لعلمنا بأن بعضهم أو بعض أعقابهم سيؤمنون أو لأنا لا نعذبهم وأنت فيهم، وقيل قد أراه سبحانه ذلك وهو ما أصابهم يوم بدر أو فتح مكة، قال شيخ الإسلام: ولا يخفى بعده فإن المتبادر أن يكون ما يستحقونه من العذاب الموعود عذابا هائلا مستأصلا لا يظهر على يديه صلّى الله عليه وسلّم للحكمة الداعية إليه.
ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أي ادفع بالحسنة التي هي أحسن الحسنات التي يدفع بها السَّيِّئَةَ بأن تحسن إلى المسيء في مقابلتها ما استطعت، ودون هذا في الحسن أن يحسن إليه في الجملة، ودونه أن يصفح عن إساءته
(١) أي أمة الدعوة اهـ منه.
260
فقط، وفي ذلك من الحث له صلّى الله عليه وسلّم إلى ما يليق بشأنه الكريم من حسن الأخلاق ما لا يخفى، وهو أبلغ من ادفع بالحسنة السيئة لمكان أَحْسَنُ والمفاضلة فيه على حقيقتها على ما ذكرنا وهو وجه حسن في الآية، وجوز أن تعتبر المفاضلة بين الحسنة والسيئة على معنى أن الحسنة في باب الحسنات أزيد به من السيئة في باب السيئات ويطرد هذا في كل مفاضلة بين ضدين كقولهم: العسل أحلى من الخل فإنهم يعنون أنه في الأصناف الحلوة أميز من الخل في الأصناف الحامضة، ومن هذا القبيل ما يحكى عن أشعب الماجن أنه قال: نشأت أنا والأعمش في حجر فلان فما زال يعلو وأسفل حتى استوينا فإنه عنى استواءهما في بلوغ كل منهما الغاية حيث بلغ هو الغاية في التدلي والأعمش الغاية في التعلي، وعلى الوجهين لا يتعين هذا الأحسن وكذا السيئة.
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو نعيم في الحلية عن أنس أنه قال في الآية: يقول الرجل لأخيه ما ليس فيه فيقول: إن كنت كاذبا فأنا أسأل الله تعالى أن يغفر لك وإن كنت صادقا فأنا أسأل الله تعالى أن يغفر لي.
وقيل: التي هي أحسن شهادة أن لا إله إلا الله والسيئة الشرك، وقال عطاء والضحاك: التي هي أحسن السلام والسيئة الفحش، وقيل: الأول الموعظة والثاني المنكر، واختار بعضهم العموم وأن ما ذكر قبيل التمثيل، والآية قيل:
منسوخة بآية السيف، وقيل: هي محكمة لأن الدفع المذكور مطلوب ما لم يؤد إلى ثلم الدين والإزراء بالمروءة نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ أي بوصفهم إياك أو بالذي يصفونك به مما أنت بخلافه، وفيه وعيد لهم بالجزاء والعقوبة وتسلية لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم وإرشاد له عليه الصلاة والسلام إلى تفويض أمره إليه عز وجل، والظاهر من هذا أن الآية آية موادعة فافهم.
وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ أي وساوسهم المغرية على خلاف ما أمرت به وهي جمع همزة، والهمز النخس والدفع بيد أو غيرها، ومنه مهماز الرائض لحديدة تربط على مؤخر رجله ينخس به الدابة لتسرع أو لتثب، وإطلاق ذلك على الوسوسة والحث على المعاصي لما بينهما من الشبه الظاهر، والجمع للمرات أو لتنوع الوساوس أو لتعدد الشياطين وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ أي من حضورهم حولي في حال من الأحوال، وتخصيص حال الصلاة وقراءة القرآن كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وحال حلول الأجل كما روي عن عكرمة لأنها أحرى الأحوال بالاستعاذة منها لا سيما الحال الأخيرة ولذا قيل: اللهم إني أعوذ بك من النزع عند النزع، وإلى العموم ذهب ابن زيد، وفي الأمر بالتعوذ من الحضور بعد الأمر بالتعوذ من همزاتهم مبالغة في التحذير من ملابستهم، وإعادة الفعل مع تكرير النداء لإظهار كمال الاعتناء بالمأمور به وعرض نهاية الابتهال في الاستدعاء ويسن التعوذ من همزات الشياطين وحضورهم عند إرادة النوم،
فقد أخرج أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وحسنه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعلمنا كلمات نقولهن عند النوم من الفزع بسم الله أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه وشر عباده ومن همزات الشياطين وأن يحضرون»
حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ حَتَّى ابتدائية وغاية لمقدر يدل عليه ما قبلها والتقدير فلا أكون كالكفار الذين تهمزهم الشياطين وتحضرهم حتى إذا جاء إلخ، ونظير ذلك قوله:
فيا عجبا حتى كليب تسبني فإن التقدير يسبني كل الناس حتى كليب إلا أنه حذفت الجملة هنا لدلالة ما بعد حتى، وقيل إن هذا الكلام مردود على يَصِفُونَ الثاني على معنى إن حتى متعلقة بمحذوف يدل عليه كأنه قيل: لا يزالون على سوء المقالة والطعن في حضرة الرسالة حتى إذا إلخ، وقوله تعالى: وَقُلْ رَبِّ إلخ اعتراض مؤكد للإغضاء المدلول عليه بقوله سبحانه: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إلخ بالاستعاذة به تعالى من الشياطين أن يزلوه عليه الصلاة والسلام عما أمر به،
261
وقيل على يَصِفُونَ الأول أو على يُشْرِكُونَ وليس بشيء.
وجوز الزمخشري أن يكون مرورا على قوله تعالى: وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ ويكون من قوله سبحانه مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ إلى هذا المقام من اعتراض تحقيقا لكذبهم ولاستحقاقهم جزاءه وليس بالوجه، ويفهم من كلام ابن عطية أنه يجوز أن تكون حَتَّى هنا ابتدائية لا غاية لما قبلها. وتعقبه أبو حيان بأنها إذا كانت ابتدائية لا تفارقها الغاية، والظاهر الذي لا ينبغي العدول عنه أن ضمير أَحَدَهُمُ راجع إلى الكفار، والمراد من مجيء الموت ظهورا إماراته أي إذا ظهر لأحدهم أي أحد كان منهم أمارات الموت وبدت له أحوال الآخرة قالَ تحسرا على ما فرط في جنب الله تعالى رَبِّ ارْجِعُونِ أي ردني إلى الدنيا، والواو لتعظم المخاطب وهو الله تعالى كما في قوله:
لا فارحموني يا إله محمد فإن لم أكن أهلا فأنت له أهل
وقول الآخر:
وإن شئت حرمت النساء سواكم وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا (١)
والحق أن التعظيم يكون في ضمير المتكلم والمخاطب بل والغائب والاسم الظاهر وإنكار ذلك غير رضي والإيهام الذي يدعيه ابن مالك هنا لا يلتفت إليه، وقيل: الواو لكون الخطاب للملائكة عليهم السلام والكلام على تقدير مضاف أي يا ملائكة ربي ارجعوني، وجوز أن يكون رَبِّ استغاثة به تعالى وارْجِعُونِ خطاب للملائكة عليهم السلام، وربما يستأنس لذلك بما
أخرجه ابن جرير وابن المنذر عن ابن جريج قال: زعموا أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لعائشة رضي الله تعالى عنها: إن المؤمن إذا عاين الملائكة قالوا: نرجعك إلى دار الدنيا؟ قال: إلى دار الهموم والأحزان بل قدوما إلى الله تعالى وأما الكافر فيقولون له: نرجعك؟ فيقول: رب ارجعوني
، وقال المازني: جمع الضمير ليدل على التكرار فكأنه قال: رب ارجعني ارجعني ارجعني، ومثل ذلك تتنبه الضمير في قفا نبك ونحوه.
واستشكل ذلك الخفاجي بأنه إذا كان أصل ارجعوا مثلا ارجع ارجع إرجع لم يكن ضمير الجمع بل تركيبه الذي فيه حقيقة فإذا كان مجازا فمن أي أنواعه وكيف دلالته على المراد وما علاقته وإلا فهو مما لا وجه له، ومن غريبه أن ضميره كان مفردا واجب الاستتار فصار غير مفرد واجب الإظهار ثم قال: لم تزل هذه الشبهة قديما في خاطري والذي خطر لي أن لنا استعارة أخرى غير ما ذكر في المعاني ولكونها لا علاقة لها بالمعنى لم تذكر وهي استعارة لفظ مكان لفظ آخر لنكتة بقطع النظر عن معناه وهو كثير في الضمائر كاستعمال الضمير المجرور الظاهر مكان المرفوع المستتر في كفى به حتى لزم انتقاله عن صفة إلى صفة أخرى ومن لفظ إلى لفظ آخر وما نحن فيه من هذا القبيل فإنه غير الضمائر المستترة إلى ضمير جمع ظاهر فلزم الاكتفاء بأحد ألفاظ الفعل وجعل دلالة ضمير الجمع على تكرر الفعل قائما مقامه في التأكيد من غير تجوز فيه، ولابن جني في الخصائص كلام يدل على ما ذكرناه فتأمل انتهى كلامه.
ولعمري لقد أبعد جدا، ولعل الأقرب أن يقال: أراد المازني أنه جمع الضمير للتعظيم بتنزيل المخاطب الواحد منزلة الجماعة المخاطبين ويتبع ذلك كون الفعل الصادر منه بمنزلة الفعل الصادر من الجماعة ويتبعهما كون ارْجِعُونِ مثلا بمنزلة ارجعني ارجعني أرجعني لكن إجراء نحو هذا في نحو- قفا نبك- لا يتسنى إلا إذا قيل بأنه قد يقصد بضمير التثنية التعظيم كما قد يقصد ذلك بضمير الجمع ولم يخطر لي أني رأيته فليتتبع وليتدبر
(١) النقاخ هو الماء البارد والبرد النوم اهـ منه.
262
لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ أي في الإيمان الذي تركته، ولعل للترجي وهو إما راجع للعمل والإيمان لعلمه بعدم الرجوع أو للعمل فقط لتحقيق إيمانه إن رجع فهو كما في قولك: لعليّ أربح في هذا المال أو كقولك: لعليّ أبني على أس أي أأسس ثم أبني، وقيل: فيما تركت من المال أو من الدنيا جعل مفارقة ذلك تركا له، ويجوز أن تكون لعل للتعليل.
وفي البرهان حكى البغوي عن الواقدي أن جميع ما في القرآن من لعل فإنها للتعليل إلا قوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ فإنها للتشبيه.
وأخرج ابن أبي حاتم من طريق السدي عن أبي مالك نحوه، ثم إن طلب الرجعة ليس من خواص الكفار. فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن مانع الزكاة وتارك الحج المستطيع يسألان الرجعة عند الموت
وأخرج الديلمي عن جابر بن عبد الله قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إذا حضر الإنسان الوفاة يجمع له كل شيء يمنعه عن الحق فيجعل بين عينيه فعند ذلك يقول: رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ»
وهذا الخبر يؤيد أن المراد مما تركت المال ونحوه كَلَّا ردع عن طلب الرجعة واستبعاد لها إِنَّها أي قوله: رَبِّ ارْجِعُونِ إلخ كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها لا محالة لا يخليها ولا يسكت عنها لاستيلاء الحسرة وتسلط الندم عليه فتقديم المسند إليه للتقوى أو هو قائلها وحده فالتقديم للاختصاص، ومعنى ذلك أنه لا يجاب إليها ولا تسمع منه بتنزيل الإجابة والاعتداد منزلة قولها حتى كأن المعتد بها شريك لقائلها، ومثل هذا متداول فيقول من كلمه صاحبه بما لا جدوى تحته: اشتغل أنت وحدك بهذه الكلمة فتكلم واستمع يعني أنها مما لا تسمع منك ولا تستحق الجواب، والكلمة هنا بمعنى الكلام كما في قولهم: كلمة الشهادة وهي في هذا المعنى مجاز عند النحاة، وأما عند اللغويين فقيل حقيقة، وقيل مجاز مشهور.
والظاهر أن كَلَّا وما بعدها من كلامه تعالى، وأبعد جدا من زعم أن كَلَّا من قول من عاين الموت وأنه يقول ذلك لنفسه على سبيل التحسر والندم وَمِنْ وَرائِهِمْ أي أمامهم وقد مر تحقيقه، والضمير لأحدهم والجمع باعتبار المعنى لأنه في حكم كلهم كما أن الافراد في الضمائر الأول باعتبار اللفظ بَرْزَخٌ حاجز بينهم وبين الرجعة إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ من قبورهم وهو يوم القيامة، وهذا تعليق لرجعتهم إلى الدنيا بالمحال كتعليق دخولهم الجنة بقوله سبحانه: حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ [الأعراف: ٤٠] وعن ابن زيد أن المراد من ورائهم حاجز بين الموت والبعث في القيامة من القبور باق إلى يوم يبعثون، وقيل: حاجز بينهم وبين الجزاء التام باق إلى يوم القيامة فإذا جاء ذلك اليوم جوزوا على أتم وجه فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ لقيام الساعة وهي النفخة الثانية التي يقع عندها البعث والنشور، وقيل: المعنى فإذا نفخ في الأجساد أرواحها على أن الصور جمع صورة على نحو بسر وبسرة لا القرن، وأيد بقراءة ابن عباس والحسن وابن عياض «في الصور» بضم الصاد وفتح الواو، وقراءة ابن رزين «في الصور» بكسر الصاد وفتح الواو فإن المذكور في هاتين القراءتين جمع صورة لا بمعنى القرن قطعا والأصل توافق معاني القراءات، ولا تنافي بين النفخ في الصور بمعنى القرن الذي جاء في الخبر ودلت عليه آيات أخر وبين النفخ في الصور جمع صورة فقد جاء أن هذا النفخ عند ذاك فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ أي يوم إذ نفخ في الصور كما هي بينهم اليوم، والمراد أنها لا تنفعهم شيئا فهي منزلة منزلة العدم لعظم الهول واشتغال كل بنفسه بحيث يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه.
وقد أخرج ابن المبارك في الزهد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو نعيم في الحلية وابن عساكر عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: إذا كان يوم القيامة جمع الله تعالى الأولين والآخرين وفي لفظ «يؤخذ بيد العبد أو الأمة يوم القيامة على رؤوس الأولين والآخرين ثم ينادي مناد ألا إن هذا فلان ابن فلان فمن كان له حق قبله فليأت إلى
263
حقه- وفي لفظ- من كان له مظلمة فليجىء ليأخذ حقه فيفرح والله المرء أن يكون له الحق على والده أو ولده أو زوجته وإن كان صغيرا
ومصداق ذلك في كتاب الله تعالى فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ» وهذا الأثر يدل على أن هذا الحكم غير خاص بالكفرة بل يعمهم وغيرهم، وقيل: هو خاص بهم كما يقتضيه سياق الآية، وقيل لا ينفع نسب يومئذ إلا نسبه صلّى الله عليه وسلّم.
فقد أخرج البزار والطبراني والبيهقي وأبو نعيم والحاكم والضياء في المختارة عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: كل سبب ونسب منقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي».
وقد أخرج جماعة نحوه عن مسور بن مخرمة رضي الله تعالى عنه مرفوعا، وأخرج ابن عساكر نحوه مرفوعا أيضا عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما
وهو خبر مقبول لا يكاد يرده إلا من في قلبه شائبة نصب، نعم ينبغي القول بأن نفع نسبه صلّى الله عليه وسلّم إنما هو بالنسبة للمؤمنين الذين تشرفوا به وأما الكافر والعياذ بالله تعالى فلا نفع له بذلك أصلا، وقد يقال: إن هذا الخبر لا ينافي إرادة العموم في الآية بأن يكون المراد نفي الالتفات إلى الأنساب عقيب النفخة الثانية من غير فصل حسبما يؤذن به الفاء الجزائية فإنها على المختار تدل على التعقيب ويكون المراد تهويل شأن ذلك الوقت ببيان أنه يذهل فيه كل أحد عمن بينه وبينه نسب ولا يلتفت إليه ولا يخطر هو بباله فضلا عن أنه ينفعه أو لا ينفعه، وهذا لا يدل على عدم نفع كل نسب فضلا عن عدم نفع نسبه صلّى الله عليه وسلّم، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وحكي عن الجبائي أن المراد أنه لا يفتخر يومئذ بالأنساب كما يفتخر بها في الدنيا وإنما يفتخر هناك بالأعمال والنجاة من الأهوال فحيث لم يفتخر بها ثمت كانت كأنها لم تكن، فعلى هذا وكذا على ما تقدم يكون قوله تعالى: فَلا أَنْسابَ من باب المجاز.
وجوز أن يكون صفة مقدرة أي فلا أنساب نافعة أو ملتفتا إليها أو مفتخرا بها وليس بذاك، والظاهر أن العامل في يَوْمَئِذٍ هو العامل في بَيْنَهُمْ لا أَنْسابَ لما لا يخفى وَلا يَتَساءَلُونَ أي ولا يسأل بعضهم بعضا عن حاله وممن هو ونحو ذلك لاشتغال كل منهم بنفسه عن الالتفات إلى أبناء جنسه وذلك عقيب النفخة الثانية من غير فصل أيضا فهو مقيد بيومئذ وإن لم يذكر بعده اكتفاء بما تقدم، وكأن كلا الحكمين بعد تحقق أمر تلك النفخة لديهم ومعرفة أنها لماذا كانت، وحينئذ يجوز أن يقال: إن قولهم مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا [يس: ٥٢] قبل تحقق أمر تلك النفخة لديهم فلا إشكال، ويحتمل أن كلا الحكمين في مبدأ الأمر قبل القول المذكور كأنهم حين يسمعون الصيحة يذهلون عن كل شيء الأنساب وغيرها كالنائم إذا صيح به صيحة مفزعة فهب من منامه فزعا ذاهلا عمن عنده مثلا فإذا سكن روعهم في الجملة قال قائلهم: مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا وقيل: لا نسلم أن قولهم مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا أنه كان بطريق التساؤل، وعلى الاحتمالين لا يشكل هذا مع قوله تعالى في شأن الكفرة يوم القيامة وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ [الصافات: ٢٧، الطور: ٢٥] وفي شأن المؤمنين فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ [الصافات: ٥٠] فإن تساؤل الكفرة المنفي في موطن وتساؤلهم المثبت في موطن آخر ولعله عند جهنم وهو بعد النفخة الثانية بكثير، وكذا تساؤل المؤمنين بعدها بكثير أيضا فإنه في الجنة كما يرشد إليه الرجوع إلى ما قبل الآية، وقد يقال: إن التساؤل المنفي هنا تساؤل التعارف ونحوه مما يترتب عليه دفع مضرة أو جلب منفعة والتساؤل المثبت لأهل النار تساؤل وراء ذلك وقد بينه سبحانه بقوله عز من قائل: قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ [الصافات: ٢٨] الآية، وقد بين جل وعلا تساؤل أهل الجنة بقوله سبحانه: قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ [الصافات: ٥١] الآية، وهو أيضا نوع آخر من التساؤل ليس فيه أكثر من الاستئناس دون دفع مضرة عمن يتكلم معه أو جلب منفعة له.
264
وقيل المنفي التساؤل بالأنساب فكأنه قيل لا أنساب بينهم ولا يسأل بعضهم بعضا بها، والمراد أنها لا تنفع في نفسها وعندهم والآية في شأن الكفرة وتساؤلهم المثبت في آية أخرى ليس تساؤلا بالأنساب وهو ظاهر فلا إشكال. وروى جماعة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه سئل عن وجه الجمع بين النفي هنا والإثبات في قوله سبحانه: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ [الصافات: ٢٧] فقال: إن نفي التساؤل في النفخة الأولى حين لا يبقى على وجه الأرض شيء وإثباته في النفخة الثانية، وعلى هذا فالمراد عنده بقوله تعالى: فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فإذا نفخ النفخة الأولى وهذه إحدى روايتين عنه رضي الله تعالى عنه، والرواية الثانية حمله على النفخة الثانية، وحينئذ يختار في وجه الجمع أحد الأوجه التي أشرنا إليها، وقرأ ابن مسعود «ولا يسّاءلون» بتشديد السين فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ أي موزونات حسناته من العقائد والأعمال، ويجوز أن تكون الموازين جمع ميزان ووجه جمعه قد مر.
والمعنى عليه من ثقلت موازينه بالحسنات فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون بكل مطلوب الناجون عن كل مهروب وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ أي موازين أعماله الحسنة أو أعماله التي لا وزن لها ولا اعتداد بها وهي أعماله السيئة كذا قيل وهو مبني على اختلافهم في وزن أعمال الكفرة فمن قال به قال بالأول ومن لم يقل به قال بالثاني، وقد تقدم الكلام في نظير هذه الآية في سورة الأعراف فتذكر.
فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ ضيعوها بتضييع زمان استكمالها وأبطلوا استعدادها لنيل كمالها، واسم الإشارة في الموضعين عبارة عن الموصول، وجمعه باعتبار معناه كما أن افراد الضميرين في الصلتين باعتبار لفظه.
فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ خبر ثان لأولئك، وجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي هم خالدون في جهنم، والجملة إما استئنافية جيء بها لبيان خسرانهم أنفسهم، وإما خبر ثان لأولئك أيضا، وجوز أن يكون «الذين» نعتا لاسم الإشارة خالِدُونَ وهو الخبر، وقيل: خالِدُونَ مع معموله بدل من الصلة، قال الخفاجي: أي بدل اشتمال لأن خلودهم في جهنم مشتمل على خسرانهم، وجعل كذلك نظرا لأنه بمعنى يخلدون في جهنم وبذلك يصلح لأن يكون صلة كما يقتضيه الإبدال من الصلة، وظاهر صنيع الزمخشري يقتضي ترجيح هذا الوجه وليس عندي بالوجه كما لا يخفى وجهه. وتعقب أبو حيان القول بأن فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ بدل فقال: هذا بدل غريب وحقيقته أن يكون البدل ما يتعلق به فِي جَهَنَّمَ أي استقروا، وكأنه من بدل الشيء من الشيء وهما لمسمى واحد على سبيل المجاز لأن من خسر نفسه استقر في جهنم، وأنت تعلم أن الظاهر تعلق فِي جَهَنَّمَ بخالدون وأن تعليقه بمحذوف وجعل ذلك المحذوف بدلا وإبقاء خالِدُونَ مفلتا مما لا ينبغي أن يلتفت إليه مع ظهور الوجه الذي لا تكلف فيه، وقوله تعالى: تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ جملة حالية أو مستأنفة، واللفح مس لهب النار الشيء وهو كما قال الزجاج أشد من النفح تأثيرا، والمراد تحرق وجوههم النار، وتخصيص الوجوه بذلك لأنها أشرف الأعضاء فبيان حالها أزجر عن المعاصي المؤدية إلى النار وهو السر في تقديمها على الفاعل.
وَهُمْ فِيها كالِحُونَ متقلصو الشفاه عن الأسنان من أثر ذلك اللفح،
وقد صح من رواية الترمذي وجماعة عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال في الآية: «تشويه النار فتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه وتسترخي شفته السفلى حتى تضرب سرته»
وأخرج ابن مردويه والضياء في صفة النار عن أبي الدرداء قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في قوله تعالى: تَلْفَحُ إلخ: تلفحهم لفحة فتسيل لحومهم على أعقابهم
، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الكلوح بسور الوجه وتقطيبه، وقرأ أبو حيوة وأبو بحرية وابن أبي عبلة «كلحون»
بغير ألف جمع كلح كحذر أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ على إضمار القول أي يقال لهم تعنيفا وتوبيخا وتذكيرا لما به
265
استحقوا ما ابتلوا به من العذاب ألم تكن آياتي تتلى عليكم في الدنيا فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ حينئذ قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا أي استولت علينا وملكتنا شقاوتنا التي اقتضاها سوء استعدادنا كما يومىء إلى ذلك إضافتها إلى أنفسهم. وقرأ شبل في اختياره «شقوتنا» بفتح الشين، وقرأ عبد الله والحسن وقتادة وحمزة والكسائي والمفضل عن عاصم وأبان والزعفراني وابن مقسم «شقاوتنا» بفتح الشين وألف بعد القاف، وقرأ قتادة أيضا والحسن في رواية خالد بن حوشب عنه «شقاوتنا» بالألف وكسر الشين وهي في جميع ذلك مصدر ومعناها ضد السعادة، وفسرها جماعة بسوء العاقبة التي علم الله تعالى أنهم يستحقونها بسوء أعمالهم ونسب ذلك لجمهور المعتزلة، وعن الأشاعرة أن المراد بها ما كتبه الله تعالى عليهم في الأزل من الكفر والمعاصي، وقال الجبائي: المراد بها الهوى وقضاء اللذات مجازا من باب إطلاق المسبب على السبب، وأيا ما كان فنسبة الغلب إليها لاعتبار تشبيهها بمن يتحقق منه ذلك ففي الكلام استعارة مكنية تخييلية ولعل الأولى أن يخرج الكلام مخرج التمثيل ومرادهم بذلك على جميع الأقوال في الشقوة الاعتراف بقيام حجة الله تعالى عليهم لأن منشأها على جميع الأقوال عند التحقيق ما هم عليه في أنفسهم فكأنهم قالوا: ربنا غلب علينا أمر منشؤه ذواتنا وَكُنَّا بسبب ذلك قَوْماً ضالِّينَ عن الحق مكذبين بما يتلى من الآيات فما تنسب إلى حيف في تعذيبنا، ولا يجوز أن يكون اعتذارا بما علمه الله تعالى فيهم وكتبه عليهم من الكفر أي غلب علينا ما كتبته علينا من الشقاوة وكنا في علمك قوما ضالين أو غلب علينا ما علمته وكتبته وكنا بسبب ذلك قوما ضالين فما وقع منا من التكذيب بآياتك لا قدرة لنا على رفعه والإلزام انقلاب العلم جهلا وهو محال لأن ذلك باطل في نفسه لا يصلح للاعتذار فإنه سبحانه ما كتب إلا ما علم وما علم إلا ما هم عليه في نفس الأمر من سوء الاستعداد المؤدي إلى سوء الاختيار فإن العلم على ما حقق في موضعه تابع للمعلوم، ويؤيد دعوى الاعتراف قوله تعالى حكاية عنهم.
رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ أي ربنا أخرجنا من النار وأرجعنا إلى الدنيا فإن عدنا بعد ذلك إلى ما كنا عليه فيها من الكفر والمعاصي فإنا متجاوزون الحد في الظلم لأن اجتراءهم على هذا الطلب أوفق بكون ما قبله اعترافا فإنه كثيرا ما يهون به المذنب غضب من أذنب إليه، والاعتذار وإن كان كذلك بل أعظم إلا أن هذا الاعتذار أشبه شيء بالاعتراض الموجب لشدة الغضب الذي لا يحسن معه الإقدام على مثل هذا الطلب، هذا مع أنهم لو لم يعتقدوا أن ذلك عذر مقبول والاعتذار به نافع لم يقدموا عليه ومع هذا الاعتقاد لا حاجة بهم إلى طلب الإخراج والإرجاع، ولا يقال مثل هذا على تقدير كونه اعترافا لأنهم إنما قالوه تمهيدا للطلب المذكور لما أنه مظنة تسكين لهب نار الغضب على ما سمعت، ثم إن القوم لعلهم ظنوا تغير ما هم عليه من سوء الاستعداد لو عادوا لما شاهدوا من حالهم في ذلك اليوم ولذلك طلبوا ما طلبوا.
وفي قولهم: عُدْنا إشارة إلى أنهم حين الطلب على الإيمان والطاعة فيكون الموعود على تقدير الرجعة إلى الدنيا الثبات عليهما لينتفعوا بهما بعد أن يموتوا ويحشروا فتأمل قالَ الله سبحانه إقناطا لهم أشد إقناط اخْسَؤُا فِيها أي ذلوا وانزجروا انزجار الكلاب إذا زجرت من خسأت الكلب إذا زجرته فخسأ أي انزجر أو اسكتوا سكوت هوان ففيه استعارة مكنية قرينتها تصريحية وَلا تُكَلِّمُونِ باستدعاء الإخراج من النار والرجع إلى الدنيا، وقيل: لا تكلمون في رفع العذاب، ولعل الأول أوفق بما قبله وبالتعليل الآتي، وقيل: لا تكلمون أبدا وهو آخر كلام يتكلمون به.
أخرج ابن أبي الدنيا في صفة النار عن حذيفة «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: إن الله تعالى إذا قال لأهل النار اخسؤوا فيها
266
ولا تكلمون عادت وجوههم قطعة لحم ليس فيها أفواه ولا مناخر يتردد النفس في أجوافهم»
وأخرج الطبراني والبيهقي في البعث وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد والحاكم وصححه وجماعة عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: إن أهل جهنم ينادون مالكا ليقض علينا ربك فيذرهم أربعين عاما لا يجيبهم ثم يجيبهم إنكم ماكثون ثم ينادون ربهم ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون فيذرهم مثلي الدنيا لا يجيبهم ثم يجيبهم اخسؤوا فيها ولا تكلمون قال: فما يبس القوم بعدها بكلمة وما هو إلا الزفير والشهيق.
وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر وغيرهما عن محمد بن كعب قال: لأهل النار خمس دعوات يجيبهم الله تعالى في أربعة فإذا كانت الخامسة لم يتكلموا بعدها أبدا يقولون: رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ [غافر: ١١] فيجيبهم الله تعالى ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ [غافر: ١٢] ثم يقولون: رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ [السجدة:
١٢] فيجيبهم الله تعالى: فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [السجدة: ١٤] ثم يقولون رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ [إبراهيم: ٤٤] فيجيبهم الله تعالى: أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ [إبراهيم: ٤٤] ثم يقولون: رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ [فاطر: ٣٧] فيجيبهم الله تعالى: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ [فاطر: ٣٧] ثم يقولون: رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ فيجيبهم الله تعالى: اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ فلا يتكلمون بعدها أبدا، وفي بعض الآثار أنهم يلهجون بكل دعاء ألف سنة، ويشكل على هذه الأخبار ظواهر الخطابات الآتية كما لا يخفى ولعلها لا يصح منها شيء وتصحيح الحاكم محكوم عليه بعدم الاعتبار والله تعالى أعلم.
إِنَّهُ تعليل لما قبله من الزجر عن الدعاء أي إن الشأن، وقرأ أبي وهارون العتكي «أنه» بفتح الهمزة أي لأن الشأن كانَ في الدنيا التي تريدون الرجعة إليها فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي وهم المؤمنون، وقيل: هم الصحابة، وقيل:
أهل الصفة رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا أي هزوا أي اسكتوا عن الدعاء بقولكم رَبَّنا إلخ لأنكم كنتم تستهزئون بالداعين خوفا من هذا اليوم بقولهم رَبَّنا آمَنَّا إلخ حَتَّى أَنْسَوْكُمْ بتشاغلكم بالاستهزاء بهم ذِكْرِي أي خوف عقابي في هذا اليوم.
وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ وذلك غاية الاستهزاء، وقيل: التعليل على معنى إنما خسأناكم كالكلب ولم نحتفلكم إذ دعوتم لأنكم استهزأتم غاية الاستهزاء بأوليائي حين دعوا واستمر ذلك منكم حتى نسيتم ذكري بالكلية ولم تخافوا عقابي فهذا جزاؤكم، وقيل: خلاصة معنى الآية أنه كان فريق من عبادي يدعون فتشاغلتم بهم ساخرين واستمر تشاغلكم باستهزائهم إلى أن جركم ذلك إلى ترك ذكري في أوليائي فلم تخافوني في الاستهزاء بهم، ثم قيل: وهذا التذنيب لازم ليصح قوله تعالى: إِنَّهُ كانَ إلخ تعليلا ويرتبط الكلام ويتلاءم مع قوله سبحانه: وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ ولو لم يرد به ذلك يكون إنساء الذكر كالأجنبي في هذا المقام، وفيه تسخط عظيم لفعلهم ذلك ودلالة على اختصاص بالغ لأولئك العباد المسخور منهم كما نبه عليه أولا في قوله تعالى: مِنْ عِبادِي وختمه بقوله سبحانه: إِنِّي جَزَيْتُهُمُ إلى قوله تعالى: هُمُ الْفائِزُونَ وزاد في خسئهم بإعزاز أضدادهم انتهى ولا يخلو عن بحث.
267
وقرأ نافع وحمزة والكسائي «سخريا» بضم السين وباقي السبعة بكسرها، والمعنى عليهما واحد وهو الهزو عند الخليل وأبي زيد الأنصاري وسيبويه وقال أبو عبيدة والكسائي والفراء: مضموم السين بمعنى الاستخدام من غير أجرة ومكسورها بمعنى الاستهزاء، وقال يونس: إذا أريد الاستخدام ضم السين لا غير وإذا أريد الهزؤ جاز الضم والكسر، وهو في الحالين مصدر زيدت فيه ياء النسبة للمبالغة كما في أحمري.
وقوله تعالى: إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أي بسبب صبرهم على أذيتكم استئناف لبيان حسن حالهم وأنهم انتفعوا بما آذوهم، وفيه إغاظة لهم، وقوله سبحانه: أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ إما في موضع المفعول الثاني للجزاء وهو يتعدى له بنفسه وبالباء كما قال الراغب أي جزيتهم فوزهم بمجامع مراداتهم كما يؤذن به معمول الوصف حال كونهم مخصوصين بذلك كما يؤذن به توسيط ضمير الفصل، وأما في موضع جر بلام تعليل مقدرة أي لفوزهم بالتوحيد المؤدي إلى كل سعادة، ولا يمنع من ذلك تعليل الجزاء بالصبر لأن الأسباب لكونها ليست عللا تامة يجوز تعددها.
وقرأ زيد بن علي وحمزة والكسائي وخارجة عن نافع «إنهم» بالكسر على أن الجملة استئناف معلل للجزاء، وقيل: مبين لكيفيته فتدبر، قالَ الله تعالى شأنه أو الملك المأمور بذلك لا بعض رؤساء أهل النار كما قيل تذكيرا لما لبثوا فيما سألوا الرجعة إليه من الدنيا بعد التنبيه على استحالته وفيه توبيخ على إنكارهم الآخرة، وقرأ حمزة والكسائي وابن كثير «قل» على الأمر للملك لا لبعض الرؤساء كما قيل ولا لجميع الكفار على إقامة الواحد مقام الجماعة كما زعمه الثعالبي كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ التي تدعون أن ترجعوا إليها أي كم أقمتم فيها أحياء عَدَدَ سِنِينَ تمييز لكم وهي ظرف زمان للبثتم، وقال أبو البقاء: «عددا» بدل من كَمْ، وقرأ الأعمش والمفضل عن عاصم «عددا» بالتنوين فقال أبو الفضل الرازي «سنين» نصب على الظرف و «عددا» مصدر أقيم مقام الاسم فهو نعت مقدم على المنعوت، وتجويز أن يكون معنى «لبثتم» عددتم بعيد، وقال أبو البقاء: «سنين» على هذه القراءة بدل من «عددا».
قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ استقصارا لمدة لبثهم بالنسبة إلى ما تحققوه من طول زمان خلودهم في النار، وقيل: استقصروها لأنها كانت أيام سرورهم بالنسبة إلى ما هم فيه وأيام السرور قصار، وقيل: لأنها كانت منقضية والمنقضي لا يعتنى بشأنه فلا يدرى مقداره طولا وقصرا فيظن أنه كان قصيرا فَسْئَلِ الْعادِّينَ أي المتمكنين من العد فإنا بما ذهمنا من العذاب بمعزل من ذلك أو الملائكة العادين لأعمار العباد وأعمالهم على ما رواه جماعة عن مجاهد.
وقرأ الحسن والكسائي في رواية «العادين» بتخفيف الدال أي الظلمة فإنهم يقولون كما نقول كان الأتباع يسمون الرؤساء بذلك لظلمهم إياهم بإضلالهم، وقرىء «العاديّين» بتشديد الياء جمع عادي نسبة إلى قوم عاد والمراد بهم المعمرون لأن قوم عاد كانوا يعمرون كثيرا أي فاسأل القدماء المعمرين فإنهم أيضا يستقصرون مدة لبثهم قالَ أي الله تعالى أو الملك وقرأ الإخوان «قل» على الأمر كما قرأ فيما مر كذلك.
وفي الدر المصون الفعلان في مصاحف الكوفة بغير ألف وبألف في مصاحف مكة والمدينة: والشام والبصرة، ونقل مثله عن ابن عطية، وفي الكشاف عكس ذلك وكأن الرسم بدون ألف يحتمل حذفها من الماضي على خلاف القياس وفي رسم المصحف من الغرائب ما لا يخفى فلا تغفل.
إِنْ لَبِثْتُمْ أي ما لبثتم إِلَّا قَلِيلًا تصديق لهم في مقالتهم لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي تعلمون شيئا أو
268
لو كنتم من أهل العلم، ولَوْ شرطية وجوابها محذوف ثقة بدلالة الكلام عليه أي لو كنتم تعلمون لعلمتم يومئذ قصر أيام الدنيا كما علمتم اليوم ولعلمتم بموجب ذلك ولم يصدر منكم ما أوجب خلودكم في النار وقولنا لكم اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ وقيل المعنى لو كنتم تعلمون قلة لبثكم في الدنيا بالنسبة للآخرة ما اغتررتم بها وعصيتم، وكأن نفي العلم بذلك عنهم على هذا لعدم عملهم بموجبه ومن لم يعمل بعلمه فهو والجاهل سواء.
وقدر أبو البقاء الجواب لما أجبتم بهذه المدة، ولعله يجعل الكلام السابق ردا عليهم لا تصديقا وإلا لا يصح هذا التقدير، وجوز أن تكون لَوْ للتمني فلا تحتاج لجواب، ولا ينبغي أن تجعل وصلية لأنها بدون الواو نادرة أو غير موجودة، هذا وقال غير واحد من المفسرين: المراد سؤالهم عن مدة لبثهم في القبور حيث إنهم كانوا يزعمون أنهم بعد الموت يصيرون ترابا ولا يقومون من قبورهم أبدا.
وزعم ابن عطية أن هذا هو الأصوب وأن قوله سبحانه فيما بعد وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ يقتضيه وفيه منع ظاهر، ويؤيد ما ذهبنا إليه ما
روي مرفوعا «أن الله تعالى إذا أدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار قال: يا أهل الجنة كم لبثم في الأرض عدد سنين قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم قال: لنعم ما أنجزتم في يوم أو بعض يوم رحمتي ورضواني وجنتي امكثوا فيها خالدين مخلدين ثم يقول: يا أهل النار كم لبثتم في الأرض عدد سنين قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فيقول بئسما انجزتم في يوم أو بعض يوم ناري وسخطي امكثوا فيها خالدين مخلدين
أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً أي ألم تعلموا شيئا فحسبتم أنما خلقناكم بغير حكمة حتى أنكرتم البعث فعبثا حال من نون العظمة أي عابثين أو مفعول له أي أفحسبتم أنما خلقناكم للعبث وهو ما خلا عن الفائدة مطلقا أو عن الفائدة المعتد بها أو عما يقاوم الفعل كما ذكره الأصوليون.
واستظهر الخفاجي إرادة المعنى الأول هنا واختار بعض المحققين الثاني وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ عطف على أَنَّما خَلَقْناكُمْ أي أفحسبتم ذلك وحسبتم أنكم لا تبعثون.
وجوز أن يكون عطفا على عَبَثاً والمعنى أفحسبتم أنما خلقناكم للعبث ولترككم غير مرجوعين أو عابثين ومقدرين أنكم إلينا لا ترجعون، وفي الآية توبيخ لهم على تغافلهم وإشارة إلى أن الحكمة تقتضي تكليفهم وبعثهم للجزاء، وقرأ الأخوان «ترجعون»
بفتح التاء من الرجوع فَتَعالَى اللَّهُ استعظام له تعالى ولشؤونه سبحانه التي يصرف عليها عباده جل وعلا من البدء والإعادة والإثابة والعقاب بموجب الحكمة البالغة أي ارتفع سبحانه بذاته وتنزه عن مماثلة المخلوقين في ذاته وصفاته وأفعاله وعن خلو أفعاله عن الحكم والمصالح الحميدة.
الْمَلِكُ الْحَقُّ أي الحقيق بالمالكية على الإطلاق إيجادا وإعداما بدءا وإعادة إحياء وإماتة عقابا وإثابة وكل ما سواه مملوك له مقهور تحت ملكوتيته، وقيل: الحق أي الثابت الذي لا يزول ولا يزول ملكه، وهذا وإن كان أشهر إلا أن الأول أوفق بالمقام لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فإن كل ما عداه عبيده تعالى: رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ وهو جرم عظيم وراء عالم الأجسام والأجرام وهو أعظمها وقد جاء في وصف عظمة ما يبهر العقول فيلزم من كونه تعالى ربه كونه سبحانه رب كل الأجسام والأجرام، ووصف بالكريم لشرفه وكل ما شرف في بابه وصف بالكرم كما في قوله تعالى:
وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ [الدخان: ٢٦] وقوله سبحانه: وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً [الإسراء: ٢٣] إلى غير ذلك.
وقد شرف بما أودع الله تعالى فيه من الأسرار، وأعظم شرف له تخصيصه باستوائه سبحانه عليه، وقيل إسناد الكرم إليه مجازي والمراد الكريم ربه أو المراد ذلك على سبيل الكناية، وقيل: هو على تشبيه العرش لنزول الرحمة والبركة منه بشخص كريم ولعل ما ذكرناه هو الأظهر.
269
وقرأ أبان بن تغلب وابن محيصن وأبو جعفر وإسماعيل عن ابن كثير «الكريم» بالرفع على أنه صفة الرب، وجوز أن يكون صفة للعرش على القطع وقد يرجح بأنه أوفق بقراءة الجمهور وَمَنْ يَدْعُ أي يعبد مَعَ اللَّهِ أي مع وجوده تعالى وتحققه سبحانه إِلهاً آخَرَ إفرادا أو إشراكا أو من يعبد مع عبادة الله تعالى إلها آخر كذلك، ويتحقق هذا في الكافر إذا أفرد معبوده الباطل بالعبادة تارة وأشركه مع الله تعالى أخرى، وقد يقتصر على إرادة الإشراك في الوجهين ويعلم حال من عبد غير الله سبحانه افرادا بالأولى.
وذكر آخَرَ قيل إنه للتصريح بألوهيته تعالى وللدلالة على الشريك فيها وهو المقصود فليس ذكره تأكيدا لما تدل عليه المعية وإن جوز ذلك فتأمل.
نعم قوله تعالى: لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ صفة لازمة لإلها لا مقيدة جيء بها للتأكيد، وبناء الحكم المستفاد من جزاء الشرط من الوعيد بالجزاء على قدر ما يستحق تنبيها على أن التدين بما لا دليل عليه ممنوع فضلا عما دل الدليل على خلافه، ويجوز أن يكون اعتراضا بين الشرط والجزاء جيء به للتأكيد كما في قولك: من أحسن إلى زيد لا أحق منه بالإحسان فالله تعالى مثيبه.
ومن الناس من زعم أنه جواب الشرط دون قوله تعالى: فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وجعله تفريعا على الجملة وليس بصحيح لأنه يلزم عليه حذف الفاء في جواب الشرط ولا يجوز ذلك كما قال أبو حيان إلا في الشعر.
والحساب كناية عن المجازاة كأنه قيل: من يعبد إلها مع الله تعالى فالله سبحانه مجاز له على قدر ما يستحقه إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ أي إن الشأن لا يفلح إلخ.
وقرأ الحسن وقتادة «أنه» بالفتح على التعليل أو جعل الحاصل من السبك خبر حِسابُهُ أي حسابه عدم الفلاح، وهذا على ما قال الخفاجي من باب. تحية بينهم ضرب وجيع. وبهذا مع عدم الاحتياج إلى التقدير رجح هذا الوجه على سابقه وتوافق القراءتين عليه في حاصل المعنى، ورجح الأول بأن التوافق عليه أتم، وأصل الكلام على الأخبار فإنما حسابه عند ربه أنه لا يفلح هو فوضع الْكافِرُونَ موضع الضمير لأن مَنْ يَدْعُ في معنى الجمع وكذلك حسابه أنه لا يفلح في معنى حسابهم أنهم لا يفلحون.
وقرأ الحسن «يفلح» بفتح الياء واللام، وما ألطف افتتاح هذه السورة بتقدير فلاح المؤمنين وإيراد عدم فلاح الكافرين في اختتامها، ولا يخفى ما في هذه الجمل من تسلية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكأنه سبحانه بعد ما سلاه بذكر مآل من لا ينجع دعاؤه فيه أمره بما يرمز إلى متاركة مخالفيه فقال جل وعلا: وَقُلْ رَبِّ وقرأ ابن محيصن «ربّ» بالضم اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ والظاهر أن طلب كل من المغفرة والرحمة على وجه العموم له عليه الصلاة والسلام ولمتبعيه وهو أيضا أعم من طلب أصل الفعل والمداومة عليه فلا إشكال، وقد يقال في دفعه غير ذلك، وفي تخصيص هذا الدعاء بالذكر ما يدل على أهمية ما فيه، وقد علم صلّى الله عليه وسلّم أبا بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أن يقول نحوه في صلاته.
فقد أخرج البخاري ومسلم والترمذي وابن ماجة وابن حبان وجماعة عن أبي بكر رضي الله تعالى عنه أنه قال: يا رسول الله علمني دعاء أدعو به في صلاتي قال: قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا وأنه لا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم.
270
ولقراءة هذه الآيات أعني قوله تعالى: أَفَحَسِبْتُمْ إلى آخر السورة على المصاب نفع عظيم وكذا المداومة على قراءة بعضها في السفر.
أخرج الحكيم الترمذي وابن المنذر وأبو نعيم في الحلية وآخرون عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قرأ في أذن مصاب أَفَحَسِبْتُمْ حتى ختم السورة فبرأ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «والذي نفسي بيده لو أن رجلا موقنا قرأ بها على جبل لزال».
وأخرج ابن السني وابن منده وأبو نعيم في المعرفة بسند حسن من طريق محمد بن إبراهيم بن الحارث التميمي عن أبيه قال: «بعثنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في سرية وأمرنا أن نقول إذا أمسينا وأصبحنا أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ فقرأناها فغنمنا وسلمنا»
هذا والله تعالى المسئول لكل خير.
ومن باب الإشارة في الآيات قيل: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ أي وصلوا إلى المحل الأعلى والقربة والسعادة الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ ظاهرا وباطنا، والخشوع في الظاهر انتكاس الرأس والنظر إلى موضع السجود وإلى ما بين يديه وترك الالتفات والطمأنينة في الأركان ونحو ذلك، والخشوع في الباطن سكون النفس عن الخواطر والهواجس الدنيوية بالكلية أو ترك الاسترسال معها وحضور القلب لمعاني القراءة والأذكار ومراقبة السر بترك الالتفات إلى المكونات واستغراق الروح في بحر المحبة، والخشوع شرط لصحة الصلاة عند بعض الخواص نقل الغزالي عن أبي طالب المكي عن بشر الحافي من لم يخشع فسدت صلاته وهو قول لبعض الفقهاء وتفصيله في كتبهم، ولا خلاف في أنه لا ثواب في قول أو فعل من أقوال أو أفعال الصلاة أدى مع الغفلة وما أقبح مصل يقول الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [الفاتحة: ٢] وهو غافل عن الرب جل شأنه متوجه بشراشره إلى الدرهم والدينار ثم يقول: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة: ٥] وليس في قلبه وفكره غيرهما ونحو هذا كثير، ومن هنا قال الحسن: كل صلاة لا يحضر فيها القلب فهي إلى العقوبة أسرع.
وقد ذكروا أن الصلاة معراج المؤمن افترى مثل صلاة هذا تصلح لذلك حاش لله تعالى من زعم ذلك فقد افترى وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ قال بعضهم: اللغو كل ما يشغل عن الحق عز وجل.
وقال أبو عثمان: كل شيء فيه للنفس حظ فهو لغو، وقال أبو بكر بن طاهر: كل ما سوى الله تعالى فهو لغو وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ هي تزكية النفس عن الأخلاق الذميمة وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ إشارة إلى استيلائهم على القوة الشهوية فلا يتجاوزون فيها ما حد لهم، وقيل: الإشارة فيه إلى حفظ الأسرار أي والذين هم ساترون لما يقبح كشفه من الأسرار عن الأغيار إلا على أقرانهم ومن ازدوج معهم أو على مريديهم الذين هم كالعبيد لهم وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ.
قال محمد بن الفضل: سائر جوارحهم وَعَهْدِهِمْ الميثاق الأزلي راعُونَ فهم حسنو الأفعال والأقوال والاعتقادات وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ فيؤدونها بشرائطها ولا يفعلون فيها وبعدها ما يضيعها كالرياء والعجب وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ قيل المخلوق من ذلك هو الهيكل المحسوس وأما الروح فهي مخلوقة من نور إلهي يعز على العقول إدراك حقيقته، وفي قوله سبحانه: ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ إشارة إلى نفخ تلك الروح المخلوقة من ذلك النور وهي الحقيقة الآدمية المرادة في
قوله صلّى الله عليه وسلّم «خلق الله تعالى آدم على صورته»
أي على صفته سبحانه من كونه حيا عالما مريدا قادرا إلى غير ذلك من الصفات وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ إشارة إلى مراتب النفس التي بعضها فوق بعض وكل مرتبة سفلى
271
منها تحجب العليا أو إشارة إلى حجب الحواس الخمس الظاهرة وحاستي الوهم والخيال، وقيل غير ذلك وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ قيل أي سماء العناية ماءً أي ماء الرحمة بِقَدَرٍ أي بمقدار استعداد السالك فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ أي أرض وجوده فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ أي نخيل المعارف وَأَعْنابٍ أي أعناب الكشوف، وقيل النخيل إشارة إلى علوم الشريعة والأعناب إشارة إلى علوم الطريقة لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ هي ما كان منها زائدا على الواجب وَمِنْها تَأْكُلُونَ إشارة إلى ما كان واجبا لا يتم قوام الشريعة والطريقة بدونه وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ إشارة إلى النور الذي يشرق من طور القلب بواسطة ما حصل له من التجلي الإلهي تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ أي تنبت بالجامع لهذين الوصفين وهو الاستعداد، والآكلين إشارة إلى المتغذين بأطعمة المعارف ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ فيه من الأمر بمكارم الأخلاق ما فيه. وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ فيه إشارة إلى أنه لا ينبغي الاغترار بالأعمال وإرشاد إلى التشبث برحمة الملك المتعال، نسأل الله تعالى أن يوفقنا لطاعته ويغفر لنا ما ارتكبناه من مخالفته ويتفضل علينا بأعظم مما نؤمله من رحمته كرامة لنبيه الكريم وحبيبه الذي هو بالمؤمنين رؤوف رحيم صلى الله تعالى عليه وعلى آله وصحبه وسلم وشرف وعظم وكرم.
272
Icon