مكية في قول الجميع
ﰡ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ١ الى ١١]بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (١) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (٢) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (٣) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ (٤)وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (٥) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٦) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (٧) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (٨) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ (٩)
أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (١٠) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١١)
سورة المؤمنين مكية في قول الجميع.
(١٠١٢) روى عمر بن الخطّاب رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «لقد أُنزلت علينا عشر آيات من أقامهنَّ دخل الجنة، ثم قرأ: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (١) إِلى عشر آيات»، رواه الحاكم أبو عبد الله في «صحيحه».
(١٠١٣) وروى أبو سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «إِن الله تعالى حاط حائط الجنّة
ضعيف. أخرجه البزار ٣٥٠٨ وأبو نعيم في «حلية الأولياء» ٦/ ٢٠٤ وفي «صفة الجنة» ١/ ١٣٧/ ١٤٠ والبيهقي في «البعث» ٢٣٦ من حديث أبي سعيد وضعفه البزار بقوله: لا نعلم رفعه إلا عدي بن الفضل، وليس هو بالحافظ، وكذا ضعفه البيهقي. وجاء في «الميزان» : عدي بن الفضل، قال ابن معين وأبو حاتم:
متروك الحديث، وقال يحيى: لا يكتب حديثه، وقال غير واحد: ضعيف اه. فالرجل ضعيف جدا. وله شاهد: أخرجه الحاكم ٢/ ٣٩٢ والبيهقي في «الصفات» ٢/ ٤٧ وأبو نعيم في «صفة الجنة» ١٧ من حديث أنس، وإسناده ضعيف لضعف علي بن عاصم الواسطي. وذكره الذهبي في «الميزان» بهذا الحديث وحديث آخر، وقال: هذان باطلان اه. والحديث صححه الحاكم، وتعقبه الذهبي بقوله: بل ضعيف اه. وله شاهد من حديث ابن عباس، أخرجه الطبراني في ١١٤٣٩ وفي «الأوسط» ٤٧٦ وأبو نعيم في «صفة الجنة» ١٦.
وقال المنذري في «الترغيب والترهيب» ٥٤٦٨: رواه الطبراني في الكبير والأوسط بإسنادين أحدهما جيد.
وتبعه على ذلك الهيثمي في «المجمع» ١٨٦٣٩، وأما ابن كثير- رحمه الله- فأعلّه بضعف رواية بقية عن الحجازيين والمعروف أن إسماعيل بن عياش هو الذي بهذه الصفة، وإنما علّة الحديث هي أن بقية مدلس، وقد عنعن، قال أحمد: توهمت أن بقية، لا يحدث المناكير إلا عن المجاهيل، فإذا هو يحدث المناكير عن المشاهير. وللحديث علة أخرى ابن جريج أيضا مدلس، وقد عنعن، لكن الحمل فيه على بقية أولى. والله أعلم.
تنبيه: وقع في الأوسط تصريح بقية بالتحديث، وهو خطأ من شيخ الطبراني أو من هشام بن خالد فإنه كان يجعل ما رواه بقية ب «عن» «حدثنا» توهما، راجع ذلك في الميزان، وانظر «تفسير ابن كثير» ٣/ ٢٩٩ والشوكاني ١٦٨٩ بتخريجنا.
قال الفرّاء: «قد» ها هنا يجوز أن تكون تأكيداً لفلاح المؤمنين. ويجوز أن تكون تقريباً للماضي من الحال، لأن «قد» تقرِّب الماضي من الحال حتى تُلحقَه بحكمه، ألا تراهم يقولون: قد قامت الصلاة، قبل حال قيامها، فيكون معنى الآية: إِن الفلاح قد حصل لهم وإِنهم عليه في الحال. وقرأ أُبيّ بن كعب، وعكرمة، وعاصم الجحدري، وطلحة بن مصرِّف: «قد أُفْلِحَ» بضم الألف وكسر اللام وفتح الحاء، على ما لم يُسمَّ فاعله. قال الزجاج: ومعنى الآية: قد نال المؤمنون البقاء الدائم في الخير. ومن قرأ: «قد أُفْلِحَ» بضم الألف، كان معناه: قد أُصيروا إِلى الفلاح. وأصل الخشوع في اللغة: الخضوع والتواضع. وفي المراد بالخشوع في الصلاة أربعة أقوال: «١» أحدها: أنه النظر إِلى موضع السجود.
(١٠١٤) روى أبو هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إِذا صلى رفع بصره إِلى السماء، فنزلت:
«الذين هم في صلاتهم خاشعون» فنكس رأسه. وإِلى هذا المعنى ذهب مسلم بن يسار، وقتادة.
والثاني: أنه تركُ الالتفات في الصلاة، وأن تُلين كنفك للرجل المسلم، قاله عليّ بن أبي طالب.
صحيح على شرط الشيخين لولا خلاف فيه على محمد، فقد قيل عنه مرسلا. وصوب الذهبي الإرسال، وهو كما قال كذا رواه الثقات عند الطبري، ومع ذلك لا يصح رفعه. فقد أخرجه الطبري عن ابن سيرين قال: كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم... ليس فيه ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، فالصواب موقوف. وأخرجه الطبري ٢٥٤١٤ بسند صحيح عن ابن سيرين مرسلا، والمرسل من قسم الضعيف. وكرره ٢٥٤١٦ من وجه آخر عن ابن سيرين قال: نبئت أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم... وهذا ضعيف لجهالة المنبئ لابن سيرين. وانظر «أحكام القرآن» ١٥٢٣، و «تفسير الشوكاني» ١٦٩٣، والله الموفق.
__________
(١) قال الطبري رحمه الله ٩/ ١٩٨: الخشوع: التذلل والخضوع، ولم يكن الله تعالى ذكره دلّ على أن مراده من ذلك معنى دون معنى في عقل ولا خبر، فكان معلوما أن معنى مراده من ذلك العموم، وتأويل الكلام على ذلك أنه: والذين هم في صلاتهم متذللون لله بإدامة ما ألزمهم من فرضه وعبادته، وإذا تذلل لله فيها العبد رؤيت ذلة خضوعه في سكون أطرافه، وشغله بفرضه وتركه ما أمر بتركه فيها.
والثاني: الباطل، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثالث: المعاصي، قاله الحسن. والرابع:
الكذب: قاله السدي. والخامس: الشتم والأذى الذي كانوا يسمعونه من الكفار، قاله مقاتل. قاله الزجاج: واللغو: كل لعب ولهو، وكل معصية فهي مطَّرَحة مُلغاة. فالمعنى شغلهم الجِدُّ فيما أمرهم الله به عن اللغو.
قوله تعالى: لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ أي: مؤدُّون «١»، فعبَّر عن التأدية بالفعل، لأنه فعل.
قوله تعالى: إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ قال الفراء: «على» بمعنى «مِنْ». وقال الزجاج: المعنى: أنهم يُلامون في إِطلاق ما حُظر عليهم وأُمروا بحفظه «٢»، إِلا على أزواجهم أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فإنهم لا يُلامون. قوله تعالى: فَمَنِ ابْتَغى أي: طَلَب وَراءَ ذلِكَ أي: سوى الأزواج والمملوكات فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ يعني الجائرين الظالمين، لأنهم قد تجاوزوا إلى ما لا يَحلُّ، وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ قرأ ابن كثير: «لأمانتهم» وهو اسم جنس، والمعنى: للأمانات التي ائتُمنوا عليها، فتارة تكون الأمانة بين العبد وبين ربِّه، وتارة تكون بينه وبين جنسه، فعليه مراعاة الكُلِّ. وكذلك العهد. ومعنى راعُونَ: حافظون.
قال الزجاج: وأصل الرعي في اللغة: القيام على إِصلاح ما يتولاَّه الراعي من كلّ شيء. قوله تعالى:
على صلاتهم قرأ ابن كثير، وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر: «صَلَواتِهِمْ» على الجمع. وقرأ حمزة، والكسائي: «صلاتِهم» على التوحيد، وهو اسم جنس. والمحافظة على الصلوات: أداؤها في أوقاتها.
قوله تعالى: أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ ذكر السدي عن أشياخه أن الله تعالى يرفع للكفار الجنة، فينظرون إِلى بيوتهم فيها لو أنهم أطاعوا، ثم تقسم بين المؤمنين فيرِثونهم، فذلك قوله: «أولئك هم الوارثون». وقد شرحنا هذا في الأعراف «٣» عند قوله: أُورِثْتُمُوها، وشرحنا معنى الفردوس في الكهف «٤».
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ١٢ الى ١٣]
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (١٢) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (١٣)
والظاهر أن التي فرضت بالمدينة إنما هي ذات الأنصبة. والمقادير الخاصة، وإلا فالظاهر أن أصل الزكاة كان واجبا بمكة، كما قال تعالى في سورة الأنعام، وهي مكية وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ. وقد يحتمل أن يكون المراد بالزكاة ها هنا زكاة النفس من الشرك والدنس، كقوله: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها. وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها وكقوله وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ. الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ فصلت: ٦ على أحد القولين في تفسيرها، وقد يحتمل أن يكون كلا الأمرين مرادا، وهو زكاة النفوس وزكاة الأموال، فإنه من جملة زكاة النفوس، والمؤمن الكامل هو الذي يتعاطى هذا، وهذا، والله أعلم.
(٢) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ٣/ ٣٠٠: والذين حفظوا فروجهم من الحرام، فلا يقعون فيما نهاهم الله عنه من زنا أو لواط، ولا يقربون سوى أزواجهم التي أحلّها الله لهم، وما ملكت أيمانهم من السراري، ومن تعاطى ما أحله الله له فلا لوم عليه ولا حرج، وقد استدل الإمام الشافعي رحمه الله ومن وافقه على تحريم الاستمناء باليد بهذه الآية الكريمة، قال فهذا الصنيع خارج عن هذين القسمين وقد قال: فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ.
(٣) سورة الأعراف: ٤٣. [.....]
(٤) سورة الكهف: ١٠٧.
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ١٢ الى ١٦]
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (١٢) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (١٣) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (١٤) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ (١٦)قوله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فيه قولان: أحدهما: أنه آدم عليه السلام. وإِنما قيل: «مِنْ سُلالة» لأنه استُلَّ من كل الأرض، هذا مذهب سلمان الفارسي، وابن عباس في رواية، وقتادة.
والثاني: أنه ابن آدم، والسُّلالة: النطفة استُلَّت من الطين، والطين: آدم عليه السلام، قاله أبو صالح عن ابن عباس. قال الزجاج: والسُّلالة: فُعالة، وهي القليل مما يُنْسَل، وكل مبنيٍّ على «فُعالة» يراد به القليل، من ذلك: الفُضالة، والنُّخَالة، والقُلامة.
قوله تعالى: ثُمَّ جَعَلْناهُ يعني: ابن آدم نُطْفَةً فِي قَرارٍ وهو الرَّحِم مَكِينٍ أي: حريز، قد هيّئ لاستقراره فيه. وقد شرحنا في سورة الحج «١» معنى النُّطفة والعَلقة والمُضغة.
قوله تعالى: فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: «عظاماً فكسونا العظام» على الجمع. وقرأ ابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: «عظما فسكونا العَظْم» على التوحيد.
قوله تعالى: ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ هذه الحالة السّابعة. قال عليّ رضي الله عنه لا تكون موؤودة حتى تمرَّ على التارات السبع. وفي محل هذا الإِنشاء قولان: أحدهما: أنه بطن الأم. ثم في صفة الإِنشاء قولان: أحدهما: أنه نفخ الروح فيه، رواه عطاء عن ابن عباس، وبه قال أبو العالية، والشعبي، ومجاهد، وعكرمة، والضحاك في آخرين. والثاني: أنه جعْله ذكراً أو أنثى، قاله الحسن. والقول الثاني: أنه بعد خروجه من بطن أُمه. ثم في صفة هذا الإِنشاء أربعة أقوال: أحدها: أن ابتداء ذلك الإِنشاء أنه استُهلَّ، ثم دُلَّ على الثدي، وعُلِّم كيف يبسط رجليه إِلى أن قعد، إِلى أن قام على رجليه، إِلى أن مشى، إِلى أن فُطم، إِلى أن بلغ الحُلُم، إِلى أن تقلَّب في البلاد، رواه العوفي عن ابن عباس.
والثاني: أنه استواء الشباب، قاله ابن عمر، ومجاهد. والثالث: أنه خروج الأسنان والشَّعْر، قاله الضحاك، فقيل له: أليس يولَد وعلى رأسه الشعر؟ فقال: وأين العانة والإِبط؟. والرابع: أنه إِعطاء العقل والفهم، حكاه الثعلبي.
قوله تعالى: فَتَبارَكَ اللَّهُ أي: استحق التعظيم والثناء. وقد شرحنا معنى «تبارك» في الأعراف «٢» أَحْسَنُ الْخالِقِينَ أي: المصوِّرين والمقدِّرين. والخَلْق في اللغة: التقدير. وجاء في الحديث.
(١٠١٥) أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قرأ هذه الآية وعنده عمر، إِلى قوله تعالى: خَلْقاً آخَرَ، فقال عمر: فتبارك الله أحسن الخالقين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «لقد خُتمتْ بما تكلمتَ به يا ابن الخطّاب».
فذكره منها والوهن فيه فقط في الفقرة الأخيرة وهي ما يتعلق بهذه الآية. وإسناده ضعيف لضعف علي بن زيد بن جدعان، وهو ضعيف روى مناكير كثيرة، ولا يحتج بما ينفرد به.
وأصل الحديث في الصحيحين دون الموافقة المذكورة في هذه الآية. وانظر «تفسير الشوكاني» ١٧٠٠ و «تفسير ابن كثير» ٣/ ٣٠٤ و «تفسير القرطبي» ٤٤٦٠ جميعا بتخريجنا، ولله الحمد والمنة.
__________
(١) سورة الحج: ٥.
(٢) سورة الأعراف: ٥٤.
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ١٢ الى ١٦]
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (١٢) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (١٣) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (١٤) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ (١٦)قوله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فيه قولان: أحدهما: أنه آدم عليه السلام. وإِنما قيل: «مِنْ سُلالة» لأنه استُلَّ من كل الأرض، هذا مذهب سلمان الفارسي، وابن عباس في رواية، وقتادة.
والثاني: أنه ابن آدم، والسُّلالة: النطفة استُلَّت من الطين، والطين: آدم عليه السلام، قاله أبو صالح عن ابن عباس. قال الزجاج: والسُّلالة: فُعالة، وهي القليل مما يُنْسَل، وكل مبنيٍّ على «فُعالة» يراد به القليل، من ذلك: الفُضالة، والنُّخَالة، والقُلامة.
قوله تعالى: ثُمَّ جَعَلْناهُ يعني: ابن آدم نُطْفَةً فِي قَرارٍ وهو الرَّحِم مَكِينٍ أي: حريز، قد هيّئ لاستقراره فيه. وقد شرحنا في سورة الحج «١» معنى النُّطفة والعَلقة والمُضغة.
قوله تعالى: فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: «عظاماً فكسونا العظام» على الجمع. وقرأ ابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: «عظما فسكونا العَظْم» على التوحيد.
قوله تعالى: ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ هذه الحالة السّابعة. قال عليّ رضي الله عنه لا تكون موؤودة حتى تمرَّ على التارات السبع. وفي محل هذا الإِنشاء قولان: أحدهما: أنه بطن الأم. ثم في صفة الإِنشاء قولان: أحدهما: أنه نفخ الروح فيه، رواه عطاء عن ابن عباس، وبه قال أبو العالية، والشعبي، ومجاهد، وعكرمة، والضحاك في آخرين. والثاني: أنه جعْله ذكراً أو أنثى، قاله الحسن. والقول الثاني: أنه بعد خروجه من بطن أُمه. ثم في صفة هذا الإِنشاء أربعة أقوال: أحدها: أن ابتداء ذلك الإِنشاء أنه استُهلَّ، ثم دُلَّ على الثدي، وعُلِّم كيف يبسط رجليه إِلى أن قعد، إِلى أن قام على رجليه، إِلى أن مشى، إِلى أن فُطم، إِلى أن بلغ الحُلُم، إِلى أن تقلَّب في البلاد، رواه العوفي عن ابن عباس.
والثاني: أنه استواء الشباب، قاله ابن عمر، ومجاهد. والثالث: أنه خروج الأسنان والشَّعْر، قاله الضحاك، فقيل له: أليس يولَد وعلى رأسه الشعر؟ فقال: وأين العانة والإِبط؟. والرابع: أنه إِعطاء العقل والفهم، حكاه الثعلبي.
قوله تعالى: فَتَبارَكَ اللَّهُ أي: استحق التعظيم والثناء. وقد شرحنا معنى «تبارك» في الأعراف «٢» أَحْسَنُ الْخالِقِينَ أي: المصوِّرين والمقدِّرين. والخَلْق في اللغة: التقدير. وجاء في الحديث.
(١٠١٥) أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قرأ هذه الآية وعنده عمر، إِلى قوله تعالى: خَلْقاً آخَرَ، فقال عمر: فتبارك الله أحسن الخالقين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «لقد خُتمتْ بما تكلمتَ به يا ابن الخطّاب».
فذكره منها والوهن فيه فقط في الفقرة الأخيرة وهي ما يتعلق بهذه الآية. وإسناده ضعيف لضعف علي بن زيد بن جدعان، وهو ضعيف روى مناكير كثيرة، ولا يحتج بما ينفرد به.
وأصل الحديث في الصحيحين دون الموافقة المذكورة في هذه الآية. وانظر «تفسير الشوكاني» ١٧٠٠ و «تفسير ابن كثير» ٣/ ٣٠٤ و «تفسير القرطبي» ٤٤٦٠ جميعا بتخريجنا، ولله الحمد والمنة.
__________
(١) سورة الحج: ٥.
(٢) سورة الأعراف: ٥٤.
فالجواب: أن الخلق يكون بمعنى الإِيجاد، ولا موجِد سوى الله، ويكون بمعنى التقدير، كقول زهير:
وبعض القومِ يَخْلُقُ ثم لا يَفْرِي «٢»
فهذا المراد ها هنا، أن بني آدم قد يصوِّرون ويقدِّرون ويصنعون الشيء، فالله خير المصوِّرين والمقدِّرين. وقال الأخفش: الخالقون ها هنا هم الصانعون، فالله خير الخالقين.
قوله تعالى: ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ أي: بعد ما ذُكر من تمام الخَلْق لَمَيِّتُونَ عند انقضاء آجالكم.
وقرأ أبو رزين العقيلي، وعكرمة، وابن أبي عبلة: «لمائتون» بألف. قال الفراء: والعرب تقول لمن لم يمت: إِنك مائت عن قليل، وميت، ولا يقولون للميت الذي قد مات: هذا مائت، إِنما يقال في الاستقبال فقط، وكذلك يقال: هذا سيِّد قومه اليوم، فاذا أخبرتَ أنه يسودهم عن قليل، قلتَ: هذا سائد قومه عن قليل، وكذلك هذا شريف القوم، وهذا شارف عن قليل وهذا الباب كلُّه في العربية على ما وصفتُ لك.
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ١٧ الى ٢٠]
وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ (١٧) وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ (١٨) فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (١٩) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (٢٠)
قوله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ يعني: السموات السبع، قال الزجاج: كل واحدة طريقة. وقال ابن قتيبة: إِنما سميت «طرائق» بالتَّطارق، لأن بعضها فوق بعض، يقال: طارقتُ الشيء:
إِذا جعلتَ بعضه فوق بعض.
قوله تعالى: وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: ما غفلنا عنهم إِذ بنينا فوقهم سماءً أطلعنا فيها الشمس والقمر والكواكب. والثاني: ما كنا تاركين لهم بغير رزق، فأنزلنا المطر.
والثالث: لم نغفُل عن حفظهم من أن تسقط السماء عليهم فتهلكهم. قوله تعالى: وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ يعلمه الله، وقال مقاتل: بقدر ما يكفيهم للمعيشة.
(٢) هو جزء من بيت لزهير بن أبي سلمى وتمامه:
ولأنت تفري ما خلقت وبعض | القوم يخلق ثم لا يفري |
فإن قيل: لماذا خص هذه الشجرة من بين الشجر؟ فالجواب من أربعة أوجه:
أحدها: لكثرة انتفاعهم بها، فذكَّرهم من نِعَمِه ما يعرفون، وكذلك خص النخيل والأعناب في الآية الأولى، لأنهما كانا جُلَّ ثمار الحجاز وما والاها، وكانت النخيل لأهل المدينة، والأعناب لأهل الطائف. والثاني: لأنهم لا يكادون يتعاهدونها بالسقي، وهي تُخرج الثمرة التي يكون منها الدُّهن.
والثالث: أنها تنبت بالماء الذي هو ضد النار، وفي ثمرتها حياة للنار ومادة لها. والرابع: لأن أول زيتونة نبتت بذلك المكان فيما زعم مقاتل.
قوله تعالى: طُورِ سَيْناءَ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، «طور سِيناء» مكسورة السين، وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، مفتوحة السين، وكلُّهم مدَّها. قال الفراء: العرب تقول:
سَيناء، بفتح السين في جميع اللغات، إِلا بني كنانة، فإنهم يكسرون السين. قال أبو علي: ولا تنصرف هذه الكلمة، لأنها جُعلت اسماً لبقعة أو أرض، وكذلك «سينين» ولو جعلت اسما للمنزل أو للمكان أو نحو ذلك من الأسماء المذكَّرة لصُرفت، لأنك كنت قد سمَّيت مذكَّراً بمذكَّر. والطُّور: الجبل. وفي معنى «سَيْناء» خمسة أقوال: أحدها: أنه بمعنى الحسن، رواه أبو صالح عن ابن عباس. وقال الضحاك:
«الطور» : الجبل بالسريانية، و «سَيْناء» : الحسن بالنبطية. وقال عطاء: يريد: الجبل الحسن. والثاني:
أنه المبارك، رواه العوفي عن ابن عباس. والثالث: أنه اسم حجارة بعينها، أضيف الجبل إِليها لوجودها عنده، قاله مجاهد. والرابع: أن طور سيناء: الجبل المشجَّر، قاله ابن السائب. والخامس: أن سيناء:
اسم المكان الذي به هذا الجبل، قاله الزجاج قال الواحدي: وهو أصح الأقوال «١» قال ابن زيد:
وهذا هو الجبل الذي نودي منه موسى، وهو بين مصر وأيلة.
قوله تعالى: تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: «تُنْبِت» برفع التاء وكسر الباء. وقرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي بفتح التاء وضم الباء. قال الفراء: وهما لغتان: نبتت وأنبتت، وكذلك قال الزجاج: يقال: نبت الشجر وأنبت في معنى واحد، قال زهير:
رأيتُ ذَوِي الحاجاتِ حَوْلَ بُيُوتِهم | قَطِيناً لهم حتى إِذا أَنْبَتَ البَقْلُ «٢» |
قوله تعالى: وَصِبْغٍ وقرأ ابن مسعود، وابن مسعود، وابن يعمر، وإِبراهيم النخعي، والأعمش: «وصِبْغاً» بالنصب. وقرأ ابن السميفع: «وصِبَاغٍ» بألف مع الخفض. قال ابن قتيبة: الصِّبغ مِثْل الصِّباغ، كما يقال: دِبْغ ودِبَاغ، ولِبْس ولِبَاس. قال المفسّرون: والمراد بالصّبغ ها هنا: الزّيت، لأنه
(٢) في «اللسان» : القطينة، سكن الدار.
(٣) سورة الحج: ٢٥.
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٢١ الى ٢٢]
وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٢١) وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (٢٢)
قوله تعالى: وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ وقرأ نافع، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم:
«نَسْقِيكُم» بفتح النون. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: بضمها.
وقد شرحنا هذا في النحل «١» إِلى قوله تعالى: وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ يعني: في ظهورها وألبانها وأولادها وأصوافها وأشعارها وَمِنْها تَأْكُلُونَ من لحومها وأولادها والكسب عليها. قوله تعالى:
عَلَيْها
يعني: الإبل خاصّة عَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ
فالإِبل تحمل في البَرِّ والسفن تحمل في البحر.
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٢٣ الى ٤٤]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٢٣) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (٢٤) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (٢٥) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (٢٦) فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (٢٧)
فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢٨) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (٢٩) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (٣٠) ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (٣١) فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٣٢)
وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (٣٣) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (٣٤) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (٣٥) هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ (٣٦) إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (٣٧)
إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (٣٨) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (٣٩) قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ (٤٠) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤١) ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ (٤٢)
ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (٤٣) ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (٤٤)
قوله تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ قال المفسّرون: هذا تعزية لرسول الله صلى الله عليه وسلّم بذكر هذا
قوله تعالى: يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ أي: يعلوكم بالفضيلة، فيصير متبوعاً، وَلَوْ شاءَ اللَّهُ أن لا يُعبَد شيء سواه لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً تبلّغ عنه أمره، لم يرسل بشراً ما سَمِعْنا بِهذا الذي يدعونا إِليه نوح من التوحيد فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ. فأما الجِنَّةُ فمعناها: الجنون.
وفي قوله: حَتَّى حِينٍ قولان: أحدهما: أنه الموت، فتقديره: انتظروا موته. والثاني: أنه وقت منكَّر. قوله تعالى: قالَ رَبِّ انْصُرْنِي وقرأ عكرمة، وابن محيصن: «قال ربُّ» بضم الباء، وفي القصّة الأخرى. قوله تعالى: بِما كَذَّبُونِ وقرأ يعقوب: «كذَّبوني» بياء، وفي القصة التي تليها أيضاً:
«فاتقوني» «أن يحضروني» «ربّ ارجعوني» «ولا تكلّموني» أثبتهن في الحالين يعقوب، والمعنى:
انصرني بتكذيبهم، أي: انصرني بإهلاكهم جزاءً لهم بتكذيبهم. فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ قد شرحناه في هود «١» إِلى قوله: فَاسْلُكْ فِيها أي: أدخل في سفينتك مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: «من كلِّ» بكسر اللام من غير تنوين. وقرأ حفص عن عاصم: مِنْ كُلٍّ بالتنوين. قال أبو علي: قراءة الجمهور إِضافة «كلّ» إِلى «زوجين» وقراءة حفص تؤول إِلى زوجين، لأن المعنى: من كل الأزواج زوجين. قوله تعالى:
وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: «مُنْزَلاً» بضم الميم. وروى أبو بكر عن عاصم فتحها. والمَنزِلُ، بفتح الميم: اسم لكل ما نزلتَ به، والمُنْزَلُ، بضمها: المصدر: بمعنى الإِنزال، تقول: أنزلتُه إِنزالاً ومُنْزَلاً. وفي الوقت الذي قال فيه نوح ذاك قولان: أحدهما: عند نزوله في السفينة. والثاني: عند نزوله من السفينة.
قوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ أي: في قصة نوح وقومه لَآياتٍ وَإِنْ كُنَّا أي: وما كنا لَمُبْتَلِينَ أي: لمختبرين إِياهم بإرسال نوح إِليهم. ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ يعني عاداً فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ وهو هود، هذا قول الأكثرين وقال أبو سليمان الدمشقي: هم ثمود، والرسول صالح. وما بعد هذا ظاهر إِلى قوله: أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ قال الزجاج: موضع «أنَّكم» نصب على معنى: أَيَعِدُكُمْ أنَّكم مخرجون إِذا مِتُّم فلما طال الكلام أُعيد ذِكْر «أنَّ» كقوله: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ «٢».
قوله تعالى: هَيْهاتَ هَيْهاتَ قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: هَيْهاتَ هَيْهاتَ بفتح التاء فيهما في الوصل، وإسكانها في الوقف. وقرأ أبيّ بن كعب، وأبو مجلز، وهارون عن أبي عمرو: «هيهاتاً هيهاتاً» بالنصب والتنوين. وقرأ ابن مسعود، وعاصم الجحدري، وأبو حيوة الحضرمي، وابن السميفع: «هيهاتٌ هيهاتٌ» بالرفع والتنوين. وقرأ أبو العالية، وقتادة: «هيهاتٍ هيهاتٍ» بالخفض والتنوين. وقرأ أبو جعفر: «هيهاتِ هيهاتِ» بالخفض من غير تنوين، وكان يقف بالهاء. وقرأ أبو المتوكل الناجي، وسعيد بن جبير، وعكرمة: «هيهاتُ هيهاتُ» بالرفع من غير تنوين، وقرأ معاذ القارئ، وابن يعمر، وأبو رجاء، وخارجة عن أبي عمرو: «هيهات هيهات»
(٢) سورة التوبة: ٦٣.
تذكَّرُ أياماً مَضَيْن من الصِّبا | وهيهاتِ هيهاتاً إِليك رجوعُها |
وأيهاتَ أيهاتَ العقِيقُ ومَنْ بهِ | وأيهاتَ وصلٌ بالعقيقِ نُواصله |
قوله تعالى: لِما تُوعَدُونَ قرأ ابن مسعود، وابن أبي عبلة: «ما تُوعَدُون» بغير لام. قال المفسرون: استبعد القومُ بعثهم بعد الموت إِغفالاً منهم للتفكُّر في بدوِّ أمرهم وقُدرة الله على إِيجادهم، وأرادوا بهذا الاستبعاد أنه لا يكون أبداً، إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا يعنون: ما الحياة إِلا ما نحن فيه، وليس بعد الموت حياة. فإن قيل: كيف قالوا: نَمُوتُ وَنَحْيا وهم لا يقرُّون بالبعث؟ فعنه ثلاثة أجوبة ذكرها الزجاج: أحدها: نموت ويحيا أولادنا، فكأنهم قالوا: يموت قوم ويحيا قوم. والثاني: نحيا ونموت، لأن الواو للجمع، لا للترتيب. والثالث: أبتداؤنا موات في أصل الخلقة، ثم نحيا، ثم نموت.
قوله تعالى: إِنْ هُوَ يعنون الرسول. وقد سبق تفسير ما بعد هذا «١» إِلى قوله: قالَ عَمَّا قَلِيلٍ قال الزجاج: معناه: عن قليل، و «ما» زائدة بمعنى التوكيد.
قوله تعالى: لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ أي: على كفرهم، فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ أي: باستحقاقهم العذاب بكفرهم. قال المفسرون: صاح بهم جبريل صيحة رجفت لها الأرض من تحتهم، فصاروا لشدَّتها غُثاءً. قال أبو عبيدة: الغُثاء: ما أشبه الزَّبد وما ارتفع على السيل ونحو ذلك مما لا يُنتفَع به في شيء. وقال ابن قتيبة: المعنى: فجعلناهم هَلْكَى كالغُثاء، وهو ما علا السَّيل من الزَّبد والقَمش «٢»، لأنه يذهب ويتفرَّق. وقال الزجاج: الغُثاء: الهالك والبالي من ورق الشجر الذي إِذا جرى السَّيل رأيته مخالطاً زَبَده. وما بعد هذا قد سبق شرحه «٣» إلى قوله تعالى: ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وأبو جعفر: «تترىً كلَّما» منونة والوقف بالألف. وقرأ نافع، وابن عامر، وعاصم، وحمزة، والكسائي: بلا تنوين، والوقف عند نافع وابن عامر، بألف. وروى هبيرة، وحفص عن عاصم، أنه
(٢) في «اللسان» القمش: الرديء من كل شيء، والجمع قماش: وهو ما كان على وجه الأرض من فتات الأشياء حتى يقال لرذالة الناس: قماش. وقماش كل شيء: فتاته.
(٣) سورة الحجر: ٥. [.....]
منقطعة متفاوتة، لأن بين كل نبيَّين دهراً طويلاً، وقال أبو هريرة: لا بأس بقضاء رمضان تترى، أي:
منقطعاً، فإذا قيل: واتر فلان كتبه، فالمعنى: تابعها، وبين كل كتابين فترة.
قوله تعالى: فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً أي: أهلكنا الأمم بعضهم في إِثر بعض وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ قال أبو عبيدة: أي يُتمثَّل بهم في الشرِّ، ولا يقال في الخير: جعلته حديثا.
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٤٥ الى ٤٨]
ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٤٥) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ (٤٦) فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ (٤٧) فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (٤٨)
قوله تعالى: فَاسْتَكْبَرُوا أي: عن الإِيمان بالله وعبادته وَكانُوا قَوْماً عالِينَ أي: قاهرين للناس بالبغي والتطاول عليهم. قوله تعالى: وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ أي: مطيعون. قال أبو عبيدة: كل من دان لملك فهو عابد له.
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٤٩ الى ٥٠]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٤٩) وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ (٥٠)
قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ يعني: التوراة، أُعطيها جملة واحدة بعد غرق فرعون لَعَلَّهُمْ يعني: بني إِسرائيل، والمعنى: لكي يهتدوا.
قوله تعالى: وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وقرأ ابن مسعود، وابن أبي عبلة: «آيتين» على التثنية، وهذا كقوله: وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً «١» وقد سبق شرحه.
قوله تعالى: وَآوَيْناهُما أي: جعلناهما يأويان إِلى رَبْوَةٍ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي: «رُبوة» بضم الراء، وقرأ عاصم، وابن عامر: بفتحها. وقد شرحنا معنى الربوة في البقرة «٢»، ذاتِ قَرارٍ أي: مستوية يستقر عليها ساكنوها، والمعنى: ذات موضع قَرار. وقال الزجاج:
أي: ذات مستقَرّ وَمَعِينٍ وهو الماء الجاري من العيون. وقال ابن قتيبة: «ذات قرار» أي: يُستقَرُّ بها للعمارة «ومَعينٍ» هو الماء الظاهر، ويقال: هو مفعول من العين، كأنّ أصله معيون، كم يقال: ثوب
(٢) سورة البقرة: ٢٦٥.
أنها دمشق، رواه عكرمة عن ابن عباس، وبه قال عبد الله بن سلام، وسعيد بن المسيب. والثاني: أنها بيت المقدس، رواه عطاء عن ابن عباس، وبه قال قتادة. وعن الحسن كالقولين. والثالث: أنها الرملة من أرض فلسطين، قاله أبو هريرة. والرابع: مصر، قاله وهب بن منبه، وابن زيد، وابن السائب. فأما السبب الذي لأجله أَوَيَا إِلى الربوة، فقال أبو صالح عن ابن عباس: فرَّت مريم بابنها عيسى من ملكهم، ثم رجعت إِلى أهلها بعد اثنتي عشرة سنة. قال وهب بن منبه: وكان الملك أراد قتل عيسى.
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٥١ الى ٥٦]
يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٥١) وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (٥٢) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (٥٣) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (٥٤) أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ (٥٥)
نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ (٥٦)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الرُّسُلُ قال ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وقتادة في آخرين: يعني بالرّسل ها هنا محمّدا صلى الله عليه وسلّم وحده، وهو مذهب العرب في مخاطبة الواحد خطاب الجميع، ويتضمن هذا أن الرسل جميعاً كذا أُمِروا، وإِلى هذا المعنى ذهب ابن قتيبة، والزجاج، والمراد بالطيِّبات: الحلال.
قال عمرو بن شرحبيل: كان عيسى عليه السلام يأكل من غَزْل أُمِّه.
قوله تعالى: وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو: «وأنَّ» بالفتح وتشديد النون.
وافق ابنُ عامر في فتح الألف، لكنه سكَّن النون. وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي: «وإِنَّ» بكسر الألف وتشديد النون. قال الفراء: من فتح، عطف على قوله: «إِني بما تعملون عليم» وبأنَّ هذه أمّتكم، فموضعها خفض لأنها مردودة على «ما»، وإِن شئتَ كانت منصوبة بفعل مضمر، كأنك قلت: واعلموا هذا ومن كسر استأنف. قال أبو علي الفارسي: وأما ابن عامر، فإنه خفف النون المشدَّدة، وإِذا خُفِّفت تعلَّق بها ما يتعلَّق بالمشدَّدة. وقد شرحنا معنى الآية والتي بعدها في الأنبياء «٢» إِلى قوله: زُبُراً وقرأ ابن عباس، وأبو عمران الجوني: «زُبَراً» برفع الزاي وفتح الباء. وقرأ أبو الجوزاء، وابن السميفع:
«زُبْراً» برفع الزاي وإِسكان الباء. قال الزجاج: من قرأ «زُبُراً» بضم الباء، فتأويله: جعلوا دينهم كُتُباً مختلفة، جمع زَبُور. ومن قرأ «زُبَراً» بفتح الباء، أراد قِطَعاً. قوله تعالى: كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ أي: بما عندهم من الدِّين الذي ابتدعوه مُعْجَبون، يرون أنهم على الحقّ. وفي المشار إِليهم قولان:
أحدهما: أنهم أهل الكتاب، قاله مجاهد. والثاني: أنهم أهل الكتاب ومشركو العرب، قاله ابن السائب.
و «معين» أي فيها نبع ماء صالحة للشرب، وليس بالأمر اليسير انتقال مريم عليها السّلام من بيت المقدس إلى دمشق، ومن ذا الذي يوصلها إليه. فالصحيح أن ذلك كان في بيت المقدس أو في بيت لحم، وغير ذلك بعيد غريب، والله أعلم. فالصواب أنها لم تفارق موطنها الأصلي فلسطين، وبقيت في قومها وزكريا يحوطها ويرعاها، والله أعلم.
(٢) سورة الأنبياء: ٩٢.
قال الزجاج: في عَمايتهم وحَيرتهم حَتَّى حِينٍ أي: إِلى حين يأتيهم ما وُعدوا به من العذاب. قال مقاتل: يعني كفار مكة.
فصل:
وهل هذه الآية منسوخة، أم لا؟ فيها قولان: أحدهما: أنها منسوخة بآية السيف.
والثاني: أن معناها التهديد، فهي محكَمة.
قوله تعالى: أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ وقرأ عكرمة، وأبو الجوزاء: «يُمِدُّهم» بالياء المرفوعة وكسر الميم. وقرأ أبو عمران الجوني: «نَمُدُّهُم» بنون مفتوحة ورفع الميم. قال الزجاج: المعنى:
أيحسبون أن الذي نمدهم به مِنْ مالٍ وَبَنِينَ مجازاة لهم؟! إِنما هو استدراج، نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ أي:
نسارع لهم به في الخيرات. وقرأ ابن عباس، وعكرمة، وأيوب السختياني: «يُسَارِعُ» بياء مرفوعة وكسر الراء. وقرأ معاذ القارئ، وأبو المتوكّل مثله، إلّا أنهما فتح الراء وقرأ أبو عمران الجوني، وعاصم الجحدري، وابن السميفع: «يُسْرَعُ» بياء مرفوعة وسكون السين ونصب الراء من غير ألف. قوله تعالى:
بَلْ لا يَشْعُرُونَ أي: لا يعلمون أن ذلك استدراج لهم.
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٥٧ الى ٦١]
إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٥٧) وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (٥٨) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (٥٩) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (٦٠) أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ (٦١)
ثم ذكر المؤمنين فقال: إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ وقد شرحنا هذا المعنى في قوله:
وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ «١».
قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وقرأ عاصم الجحدري: «يأتون ما أتوا» بقصر همزة «أتوا».
(١٠١٦) وسألت عائشة رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن هذه الآية فقالت: يا رسول الله، أهم الذين يُذنبون وهم مشفقون؟ فقال: «لا، بل هم الذين يصلُّون وهم مشفقون، ويصومون وهم مشفقون، ويتصدّقون
الخلاصة: هو حديث حسن صحيح، بمجموع طرقه، والله أعلم.
__________
(١) سورة الأنبياء: ٢٨.
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٦٢ الى ٦٧]
وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٦٢) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ (٦٣) حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ (٦٤) لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ (٦٥) قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ (٦٦)
مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ (٦٧)
قوله تعالى: وَلَدَيْنا كِتابٌ يعني: اللوح المحفوظ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ قد أُثبت فيه أعمال الخلق، فهو ينطق بما يعملون وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ أي: لا يُنْقَصون من ثواب أعمالهم. ثم عاد إِلى الكفار، فقال:
بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا قال مقاتل: في غفلة عن الإِيمان بالقرآن. وقال ابن جرير: في عمىً عن هذا القرآن. قال الزجاج: يجوز أن يكون إِشارة إِلى ما وصف من أعمال البِرِّ في قوله: أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ، فيكون المعنى: بل قلوب هؤلاء في عماية من هذا ويجوز أن يكو إِشارة إِلى الكتاب، فيكون المعنى: بل قلوبهم في غمرة من الكتاب الذي ينطق بالحقّ وأعماُلهم مُحْصَاةٌ فيه. فخرج في المشار إِليه ب «هذا» ثلاثة أقوال: أحدها: القرآن. والثاني: أعمال البِرِّ. والثالث: اللوح المحفوظ.
قوله تعالى: وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ فيه أربعة أقوال: أحدها: أعمال سيِّئة دون الشِّرك، رواه عكرمة عن ابن عباس: والثاني: خطايا من دون ذلك الحق، قاله مجاهد. وقال ابن جرير: من دون أعمال المؤمنين وأهل التقوى والخشية. والثالث: أعمالٌ غير الأعمال التي ذُكِروا بها سيعملونها، قاله الزجاج. والرابع: أعمال- من قبل الحين الذي قدَّر الله تعالى أنه يعذِّبهم عند مجيئه- من المعاصي، قاله أبو سليمان الدمشقي. قوله تعالى: هُمْ لَها عامِلُونَ إِخبار بما سيعملونه من أعمالهم الخبيثة التي كُتبت عليهم لا بدَّ لهم من عملها.
قوله تعالى: حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ أي: أغنياءهم ورؤساءهم، والإِشارة إِلى قريش. وفي المراد «بالعذاب» قولان: أحدهما: ضرب السيوف يوم بدر، قاله ابن عباس، ومجاهد، والضحاك. والثاني:
الجوع الذي عُذِّبوا به سبع سنين، قاله ابن السّائب. ويَجْأَرُونَ بمعنى: يصيحون. لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ أي: لا تستغيثوا من العذاب إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ أي: لا تُمْنَعون من عذابنا. قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ يعني: القرآن فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ أي: ترجعون وتتأخَّرون عن الإِيمان بها، مُسْتَكْبِرِينَ منصوب على الحال. وقوله: بِهِ الكناية عن البيت الحرام، وهي كناية عن غير مذكور والمعنى: إِنكم تستكبرون وتفتخرون بالبيت والحرم، لأمنكم فيه مع خوف سائر الناس في
والثالث: تهجرون البيت، قاله أبو صالح. وقال سعيد بن جبير: كانت قريش تَسْمُر حول البيت، وتفتخر به ولا تطوف به. والرابع: تقولون هُجْراً من القول، وهو اللغو والهَذَيان، قاله ابن قتيبة. قال الفراء: يقال: قد هَجَر الرجل في منامه: إِذا هذى، والمعنى: إِنكم تقولون في رسول الله صلى الله عليه وسلّم ما ليس فيه وما لا يَضُرُّه. وقرأ ابن عباس، وسعيد بن جبير، وقتادة، وابن محيصن، ونافع: «تُهْجِرُون» بضم التاء وكسر الجيم. قال ابن قتيبة: وهذا من الهُجْر، وهو السَّبُّ والإِفحاش من المنطق، يريد سبّهم للنبيّ صلى الله عليه وسلّم ومن اتَّبعه. وقرأ أبو العالية، وعكرمة، وعاصم الجحدري، وأبو نهيك: «تُهَجِّرُون» بتشديد الجيم ورفع التاء قال ابن الأنباري: ومعناها معنى قراءة ابن عباس.
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٦٨ الى ٧٠]
أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (٦٨) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٦٩) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (٧٠)
قوله تعالى: أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ يعني: القرآن، فيعرفوا ما فيه من الدلالات والعِبَر على صدق رسولهم أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ المعنى: أليس قد أُرسل الأنبياء إلى أممهم كما أرسل محمّد صلى الله عليه وسلّم؟! أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ هذا توبيخ لهم، لأنهم عرفوا نسبه وصدقه وأمانته صغيراً وكبيراً ثم أعرضوا عنه. والجِنَّة: الجنون، بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ يعني القرآن.
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٧١ الى ٧٣]
وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (٧١) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٧٢) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٣)
قوله تعالى: وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ في المراد بالحقّ قولان: أحدهما: أنه الله عزّ وجلّ، قاله مجاهد، وابن جريج، والسدي في آخرين. والثاني: أنه القرآن، ذكره الفراء، والزجاج. فعلى القول الأول يكون المعنى: لو جعل الله لنفسه شريكاً كما يحبُّون. وعلى الثاني: لو نزَّل القرآن بما يحبُّون من جعل شريك لله لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ أي: فما فيه شرفهم وفخرهم وهو القرآن فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ أي: قد تولَّوا عما جاءهم من شرف الدنيا والآخرة. وقرأ ابن
عدل عنه.
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٧٤ الى ٧٧]
وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ (٧٤) وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (٧٥) وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ (٧٦) حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (٧٧)
قوله تعالى: وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ.
(١٠١٧) قال ابن عباس: الضّرّ ها هنا: الجوع الذي نزل بأهل مكة حين دعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال: «اللهم أَعِنِّي على قريش بسنين كَسِنِيِّ يوسف»، فجاء أبو سفيان إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فشكا إِليه الضُّرَّ، وأنهم قد أكلوا القِدَّ «١» والعظام، فنزلت هذه الآية والتي بعدها، وهو العذاب المذكور في قوله:
وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ.
قوله تعالى: حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يوم بدر، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثاني: أنَّهُ الجوع الذي أصابهم، قاله مقاتل. والثالث: بابٌ من عذاب جهنم في الآخرة، حكاه الماوردي.
قوله تعالى: إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، وأبو المتوكل، وأبو نهيك، ومعاذ القارئ: «مبلَسون» بفتح اللام. وقد شرحنا معنى المُبلس في سورة الأنعام.
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٧٨ الى ٨٥]
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (٧٨) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٧٩) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٨٠) بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ (٨١) قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٨٢)
لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٨٣) قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٤) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٨٥)
أخرجه النسائي في «الكبرى» ١١٣٥٢ وفي «التفسير» ٣٧٢ والطبري ٢٥٦٣٢ والواحدي ٦٢٩ والطبراني ١١/ ٣٧٠ ح ١٢٠٣٨ والحاكم ٢/ ٣٩٤ والبيهقي في «الدلائل» ٢/ ٩٠ من وجوه عن يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس به، وهو حديث حسن بطرقه. ويشهد لأصله ما أخرجه البخاري ٤٨٢٤ ومسلم ٢٧٩٨ والترمذي ٣٢٥٤ وأحمد ١/ ٣٨٠ من حديث ابن مسعود وفيه «... اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف... ».
__________
(١) في «اللسان» : القدّ: السير الذي يقدّ من الجلد.
قوله تعالى: ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ أي: خلقكم من الأرض.
قوله تعالى: وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أي: هو الذي جعلهما مختلفَين يتعاقبان ويختلفان في السّواد والبياض أَفَلا تَعْقِلُونَ مال ترون مِنْ صُنعه؟! وما بعد هذا ظاهر إِلى قوله: قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ أي: قل لأهل مكة المكذِّبين بالبعث: لِمَن الأرض وَمَنْ فِيها مِن الخَلْق إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ بحالها، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قرأ أبو عمرو: «لله» بغير ألف ها هنا، وفي اللَّذَين بعدها بألف. وقرأ الباقون:
«لله» في المواضع الثلاثة. وقراءة أبي عمرو على القياس. قال الزجاج: ومن قرأ: «سيقولون الله» فهو جواب السؤال، ومن قرأ «لله» فجيّد أيضاً، لأنك إِذا قلتَ مَنْ صاحبُ هذه الدار؟ فقيل: لزيد، جاز، لأن معنى «مَن صاحب هذه الدار؟» : لمن هي؟ وقال أبو علي الفارسي: من قرأ «لله» في الموضعين الآخَرين، فقد أجاب على المعنى دون ما يقتضيه اللفظ. وقرأ سعيد بن جبير، وأبو المتوكل، وأبو الجوزاء: «سيقولون الله» «الله» «الله» بألف فيهن كلِّهن. قال أبو علي الأهوازي: وهو في مصاحف أهل البصرة بألف فيهن. قوله تعالى: قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ فتعلمون أن من قدر على خلق ذلك ابتداء، أقدر على إحياء الأموات؟!
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٨٦ الى ٨٩]
قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٨٦) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (٨٧) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٨) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (٨٩)
قوله تعالى: أَفَلا تَتَّقُونَ فيه قولان: أحدهما: تتقون عبادة غيره. والثاني: تخشَون عذابه. فأما الملكوت، فقد شرحناه في سورة الأنعام «١».
قوله تعالى: وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ أي: يمنع من السوء من شاء، ولا يمنع منه من أراده بسوء، يقال: أَجَرْتُ فلاناً: أي: حميته، وأجرتُ عليه: أي: حميت عنه.
قوله تعالى: فَأَنَّى تُسْحَرُونَ قال ابن قتيبة: أنَّى تُخْدَعون وتُصْرَفون عن هذا؟!.
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٩٠ الى ٩٢]
بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٩٠) مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (٩١) عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٩٢)
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٩٣ الى ٩٨]
قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ (٩٣) رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٩٤) وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ (٩٥) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ (٩٦) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (٩٧)
وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (٩٨)
قوله تعالى: إِمَّا تُرِيَنِّي وقرأ أبو عمران الجوني، والضحاك: «تُرئَنِّي» بالهمز بين الراء والنون من غير ياء. والمعنى: إِن أريتني ما يوعَدون من القتل والعذاب، فاجعلني خارجاً عنهم ولا تهلكني بهلاكهم فأراهم الله تعالى ما وعدهم ببدر وغيرها، ونجّاه ومن معه.
قوله تعالى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ فيه أربعة أقوال: أحدها: ادفع إِساءة المسيءِ بالصفح، قاله الحسن. والثاني: ادفع الفُحش بالسلام، قاله عطاء، والضحاك. والثالث: ادفع الشِّرك بالتوحيد، قاله ابن السائب. والرابع: ادفع المنكَر بالموعظة، حكاه الماوردي. وذكر بعض المفسرين أن هذا منسوخ بآية السيف «١».
قوله تعالى: نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ أي: بما يقولون من الشِّرك والتكذيب والمعنى: إِنَّا نجازيهم على ذلك. وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ أي: ألجأ وأمتنع بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ قال ابن قتيبة: هو نَخْسُها وطَعْنُها، ومنه قيل للعائب: هُمَزَةٌ، كأنه يطعن ويَنْخَس إِذا عاب. وقال ابن فارس: الهَمْزُ كالعَصْر، يقال: همزتُ الشيء في كفِّي، ومنه الهَمْز في الكلام، لأنه كأنه يضغط الحرف، وقال غيره:
الهَمْز في اللغة: الدَّفع، وهَمَزات الشياطين: دَفْعُهم بالإِغواء إِلى المعاصي.
قوله تعالى: أَنْ يَحْضُرُونِ أي: أن يَشْهَدُون والمعنى: أن يصيبوني بسوءٍ، لأن الشيطان لا يحضر ابن آدم إِلا بسوءٍ. ثم أخبر أن هؤلاء الكفار المنكِرين للبعث يسألون الرجعة إِلى الدنيا عند الموت بالآية التي تلي هذه، وقيل: هذا السؤال منهم للملائكة الذين يقبضون أرواحهم.
فإن قيل: كيف قال: «ارجعون» وهو يريد: «ارجعني» ؟
فالجواب: أن هذا اللفظ تعرفه العرب للعظيم الشأن، وذلك أنه يخبر عن نفسه فيه بما تخبر به الجماعة، كقوله: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ «٢»، فجاء خطابه عن نفسه، هذا قول الزّجّاج.
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٩٩ الى ١٠٤]
حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (٩٩) لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٠٠) فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ (١٠١) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٢) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ (١٠٣)
تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ (١٠٤)
(٢) سورة ق: ٤٣.
فيما تركت من العمل الصالح. قوله تعالى: كَلَّا أي: لا يرجع إِلى الدنيا إِنَّها يعني: مسألته الرجعة كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها أي: هو كلام لا فائدة له فيه وَمِنْ وَرائِهِمْ أي: أمامهم وبين أيديهم بَرْزَخٌ قال ابن قتيبة: البرزخ: ما بين الدنيا والآخرة، وكل شيء بين شيئين فهو برزخ. وقال الزجاج:
البرزخ في اللغة: الحاجز، وهو ها هنا: ما بين موت الميت وبعثه.
قوله تعالى: فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ في هذه النفخة قولان: أحدهما: أنها النفخة الأولى، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس. والثاني: أنها الثانية، رواه عطاء عن ابن عباس.
قوله تعالى: فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ في الكلام محذوف، تقديره: لا أنساب بينهم يومئذ يتفاخرون بها أو يتقاطعون بها، لأن الأنساب لا تنقطع يومئذ، إنما يرفع التّواصل والتّفاخر بها.
وفي قوله: وَلا يَتَساءَلُونَ ثلاثة أقوال: أحدها: لا يتساءلون بالأنساب أن يترك بعضهم لبعض حَقَّه. والثاني: لا يسأل بعضهم بعضاً عن شأنه، لاشتغال كل واحد بنفسه. والثالث: لا يسأل بعضهم بعضاً من أي قبيل أنت، كما تفعل العرب لتعرف النسب فتعرف قدر الرجل. وما بعد هذا قد سبق تفسيره إِلى قوله: تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ قال الزجاج: تلفح وتنفح بمعنىً واحد، إِلا أن اللفح أعظم تأثيراً، والكالح: الذي قد تشمَّرت شفته عن أسنانه، نحو ما ترى من رؤوس الغنم إِذا برزت الأسنان وتشمَّرت الشفاه. وقال ابن مسعود: قد بدت أسنانهم وتقلّصت شفاهم كالرأس المشيط بالنار.
(١٠١٨) وروى أبو عبد الله الحاكم في ( «صحيحه» ) من حديث أبي سعيد الخدريّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال في هذه الآية: «تشويه النار فتقلِّص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه وتسترخي شفته الشّفلى حتى تبلغ سرّته».
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ١٠٥ الى ١١١]
أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (١٠٥) قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ (١٠٦) رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ (١٠٧) قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ (١٠٨) إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١٠٩)
فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (١١٠) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ (١١١)
قوله تعالى: اخْسَؤُا قال الزجاج: تباعدوا تباعد سخط، يقال: خَسَأْتُ الكلب أَخْسَؤه: إِذا زجرتَه ليتباعد. قوله تعالى: وَلا تُكَلِّمُونِ أي: في رفع العذاب عنكم. قال عبد الله بن عمرو: إِن أهل جهنم يدعون مالكاً أربعين عاماً، فلا يجيبهم، ثم يقول: إِنَّكُمْ ماكِثُونَ «١»، ثم ينادون ربَّهم:
رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فيدعهم مثل عمر الدنيا، ثم يقول: إِنَّكُمْ ماكِثُونَ ثم ينادون ربَّهم: رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فيدعهم مثل عمر الدنيا، ثم يردّ عليهم: اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ فما ينبس القومُ بعد ذلك بكلمة إِن كان، إِلا الزفير والشهيق.
ثم بيَّن الذي لأجله أخسأهم بقوله: إِنَّهُ وقرأ ابن مسعود، وأبو عمران الجوني، وعاصم الجحدري: «أنَّه» بفتح الهمزة كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي قال ابن عباس: يريد المهاجرين.
قوله تعالى: فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ قال الزجاج: الأجود إِدغام الذال في التاء لقرب المخرجين، وإِن شئتَ أظهرتَ، لأن الذال من كلمة والتاء من كلمة والتاء، من كلمة، وبين الذال والتاء في المخرج شيء من التباعد. قوله تعالى: سِخْرِيًّا قرأ نافع، وحمزة، والكسائي، وأبو حاتم عن يعقوب: «سخريّا» بضمّ السين ها هنا وفي سورة ص «٢»، تابعهم المفضل في ص. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم، وابن عامر: بكسر السين في السورتين. ولم يختلف في ضم السين في الحرف الذي في الزخرف. واختار الفراء الضم، والزجاج الكسر. وهل هما بمعنىً؟ فيه قولان: أحدهما: أنهما لغتان ومعناهما واحد، قاله الخليل، وسيبويه، ومثله قول العرب: بحر لُجِّيٌّ ولِجِيٌّ، وكوكبٌ دُرِيٌّ ودِرِّيٌّ. والثاني: أن الكسر بمعنى الهمز، والضمّ بمعنى السّخرة والاستبعاد، قاله أبو عبيدة، وحكاه الفراء، وهو مروي عن الحسن، وقتادة. قال أبو علي: قراءة من كسر أرجح من قراءة من ضمّ، لأنه من الهزء، والأكثر في الهزء كسر السين.
(١٠١٩) قال مقاتل: كان رؤوس كفار قريش كأبي جهل وعقبة والوليد قد اتخذوا فقراء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم كعمَّار وبلال وخبَّاب وصهيب سِخْرِيّاً يستهزئون بهم ويضحكون منهم.
قوله تعالى: حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي أي: أنساكم الاشتغال بالاستهزاء بهم ذِكْري، فنسب الفعل إلى
__________
(١) سورة الزخرف: ٧٧.
(٢) سورة ص: ٦٣.
قوله تعالى: إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أي: على أذاكم واستهزائكم أَنَّهُمْ قرأ ابن كثير ونافع وعاصم وأبو عمرو وابن عامر: «أنَّهم» بفتح الألف. وقرأ حمزة والكسائي: «إِنَّهم» بكسرها. فمن فتح «أنَّهم» فالمعنى: جزيتُهم بصبرهم الفور، ومن كسر «إنهم»، استأنف.
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ١١٢ الى ١١٨]
قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (١١٢) قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ (١١٣) قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١٤) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ (١١٥) فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (١١٦)
وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (١١٧) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١١٨)
قوله تعالى: قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ قرأ نافع، وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر: «قال كم لبثتم» وهذا سؤال الله تعالى للكافرين. وفي وقته قولان: أحدهما: أنه يسألهم يوم البعث. والثاني: بعد حصولهم في النار. وقرأ ابن كثير، وحمزة، والكسائي: «قل كم لبثتم» وفيها قولان: أحدهما: أنه خطاب لكل واحد منهم، والمعنى: قل يا أيها الكافر. والثاني: أن المعنى: قولوا، فأخرجه مخرج الأمر للواحد، والمراد الجماعة، لأن المعنى مفهوم. وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي يدغمون ثاء «لبثتم»، والباقون لا يدغمونها فمن أدغم، فلتقارب مخرج الثاء والتاء، ومن لم يدغم، فلتباين المخرجين.
وفي المراد بالأرض قولان: أحدهما: أنها القبور. والثاني: الدنيا. فاحتقر القوم ما لبثوا لِما عاينوا من الأهوال والعذاب فقالوا: لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قال الفراء: والمعنى: لا ندري كم لبثنا.
وفي المراد بالعادِّين قولان: أحدهما: الملائكة، قاله مجاهد. والثاني: الحُسَّاب، قاله قتادة. وقرأ الحسن، والزهري، وأبو عمران الجوني، وابن يعمر: «العادِين» بتخفيف الدال.
قوله تعالى: قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر: «قال إِن لبثتم». وقرأ حمزة، والكسائي: «قل إِن لبثتم» على معنى: قل أيها السائل عن لبثهم. وزعموا أن في مصحف أهل الكوفة «قل» في الموضعين، فقرأهما حمزة، والكسائي على ما في مصاحفهم، أي: ما لبثتم في الأرض إِلَّا قَلِيلًا لأن مكثهم في الأرض وإِن طال، فإنه مُتَنَاهٍ ومكثهم في النار لا يتناهى.
وفي قوله: لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ قولان: أحدهما: لو علمتم قدر لبثكم في الأرض. والثاني: لو علمتم أنكم إِلى الله ترجعون، فعملتم لذلك.
قوله تعالى: أَفَحَسِبْتُمْ أي: أفظننتم أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً أي: للعبث والعبث في اللغة:
اللعب، وقيل: هو الفعل لا لغرض صحيح، وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم: «لا تُرْجَعون» بضم التاء. وقرأ حمزة، والكسائي بفتحها. فَتَعالَى اللَّهُ عمَّا يَصِفُه به الجاهلون من الشِّرك والولد، الْمَلِكُ قال الخطّابي: هو التامّ المُلك الجامع لأصناف المملوكات.
قوله تعالى: رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ والكريم في صفة الجماد بمعنى: الحسن. وقرأ ابن محيصن: «الكريم» برفع الميم، يعني الله عزّ وجلّ.
قوله تعالى: لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ أي: لا حُجَّة له به ولا دليل وقال بعضهم: معناه: فلا برهان له به. قوله تعالى: فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ أي: جزاؤه عند ربّه.