تفسير سورة المؤمنون

زهرة التفاسير
تفسير سورة سورة المؤمنون من كتاب زهرة التفاسير المعروف بـزهرة التفاسير .
لمؤلفه محمد أبو زهرة . المتوفي سنة 1394 هـ

هذه أوصاف المؤمنين حقا وصدقا، وهم الذين يفوزون بجنة الفردوس، ويخلدون فيها، وهم الذين يفلحون أمام الله، وقد أكد فلاحهم بقد، التي لم تستعمل في القرآن الكريم إلا للتحقيق، وتأكيد القول، وقد عبر بالماضي، مع أن دخول الفردوس، والفوز سيكون بعد يوم القيامة والحساب؛ إذ من بعد ذلك يكون الثواب بالفوز بالفردوس، وذلك لتأكد الوقوع، وأنه لَا محالة سيكون كقوله تعالى: (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ...).
وقد ذكر اللَّه تعالى في هذه صفات للمؤمنين بها تتنزه نفوسهم وجوارحهم.
أولى هذه الصفات الخشوع في الصلاة، وقد قال تعالى في هذه الصفة:
(الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (٢)
الخشوع: الضراعة وخضوع القلب، ومن
5044
مظهر الخشوع في الصلاة ألا يلتفت المصلي يمينا أو شمالا بأن يكون كل اتجاهه إلى اللَّه تعالى قلبا ونفسا وإحساسا، وجوارح، والخشوع في ذاته محله القلب، والجوارح مظهره، وروي عن النبي - ﷺ - أنه رأى رجلا يعبث بلحيته في الصلاة، فقال: " لو خشع قلب هذا الرجل لخشعت جوارحه " (١). وإن الخشوع يتضمن أن يكون المصلي قد عمر قلبه بذكر اللَّه تعالى، وإذا عمر قلبه استحضر اللَّه في كل أركان الصلاة وأحس بأنه في حضرة اللَّه تعالى، فلا يحس بسواه.
وابتدأ بهذا الوصف، لأنه الطهارة النفسية والقلبية التي هي الأصل في تربية المؤمن.
والصفة الثانية: الإعراض عن اللغو، وقال تعالى:
________
(١) رواه الحكيم عن أبي هريرة رضي الله عنه. الفتح الكبير (١٠٠٣٠): ج ٣/ ٤٥.
5045
(وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (٣)
هو جاء في مفردات القرآن للراغب الأصفهاني " اللغو من الكلام، ما لا يعتد به وهو الذي يورد لَا عن روية وفكر، فيجرى مجرى اللغا، وهو صوت العصافير، ونحوها من الطيور.. قال تعالى: (لا يسْمعونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا).
وإن سماع اللغو من القول يهون في النفس الأمور الخطيرة، ويجعلها في حال عبث ولهو، ومع الإكثار من سماع اللغو تنماع النفس انمياعا، ولا تقوى على تحمل مشاق التكليفات الشرعية، وما تقتضيه من صبر، وضبط نفس، ولا يكون رجلا نافعا أبدا، وتقديم (عن اللغو) يفيد أهمية الإعراض عن اللغو، وأنه لَا يعرض إلا عن اللغو، لتكون كل نفسه للجد من الأمور والمشاركة في الأعمال النافعة، والإعراض يفيد البعد عن اللاغين، وعن مجالسهم... ألا فليعتبر الذين يجعلون حياتهم لهوا ولعبا وعبثا.
وِالصفة الثالثة إيتاء الزكاة، ولقد ذكر سبحانه هذه الصفة بقوله تعالى:
(وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (٤)
المعروف في تعبير القرآن الكريم أنه يعبر عن الزكاة بقوله عز من قائل: (وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ)، وهو مناسب لمعناها، لأن الزكاة عطاء، وفضلها في إيتائها، ولكن
5045
هنا عبر عنها بـ (فاعلون). قال الزمخشري في هذا لِمَنْ يُعطى، ومعنى من المعاني ينسب للمعطي على أنه فعلها، فهو قد فعل الأمر المعنوي، وهو أنه أخرج الزكاة راضيا بالعطاء، ونقول إنه يرشح لهذا المعنى أن الآيات كلها تتجه إلى النواحي المعنوية، لَا إلى مجرد الأعمال الحسية، والزكاة لها ناحيتها المعنوية، وهو أن يدفعها طيبة نفسه، راضية يحسبها مغنما، ولا يعدها مغرمًا، وهذا هو الخير فيها، فإن الأمة تكون بخير ما عدت الزكاة مغنما ولم تعدها مغرما، وأن المعطِي لها يغنم من العطاء أكثر مما يعطيه المعطَى له من مال.
وإن ذلك يكون أعلى درجات الإحساس بالتعاون الإنساني والاجتماعي والإسلامي.
الوصف الرابع العفة: والمحافظة على النسل، وهذا ما عبر اللَّه تعالى عنه بقوله:
5046
(وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (٥) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٦)
الفروج جمع فرج، وهو عضو التناسل عند الرجل وعند المرأة، واللام لتقوية التعدية بسبب تقدم الفروج على اسم الفاعل (حافظ)، وحفظ الفروج يتضمن ثلاثة معان:
أولها - معنى الصيانة، فهو يصونها عن رجس الحرام، ورجس الحرام معنوي ومادي. أما المعنوي فهو ما في الحرام من خبث يطهر نفسه منه، وأما المادي فهو يكون في الزنى من تعرض لأمراض خبيثة، هي التي جاءت من الأوربيين، والتي يسمى بعضها المرض الإفرنجي، ولا مانع من أن نشير إليها عند تفسير الآية، وإن لم تكن معروفة، ولكنها عرفت. فمنزل القرآن هو علام الغيوب.
ثانيها - الاستمساك والتحفظ بالعفة، وألا يرمي ماءه في غير محله، وليحفظ له نسبه.
5046
ثالثها - التقيد، أي ليسوا منطلقين يلقونها في أي مكان، وعلى أي امرأة، كل ينزو كما تنزو القردة، وكالحمار ينزو على كل أتان.
والحفظ عن كل النساء وفي كل الأحوال.
5047
(إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ... (٦)
ولتضمن الحفظ معنى الاستمساك والصيانة، كانت الإباحة متعدية بـ (على) في المستثنى (إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ)، لَا يرسل نفسه إلا على زوجه أو ما ملكت يمينه، أي أنه مرسل على زوجه أو ما ملكت يمينه وأن التعدية بـ " على " جار مجرى قولهم: فلانة تحت فلان، أو فلان تحته فلانة، وربما يكون التعبير مأخوذا من الواقع الحسي، وفي التعدية بـ " على " إشارة إلى الحقيقة الإسلامية (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ...).
ويصح أن يكون الاستثناء منقطعا، ويكون المعنى وصفهم بأنهم يحافظون على فروجهم في كل الأحوال، وباستمرار، ولكن على أزواجهم وما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين، ولا يمنع ذلك من جواز أن يكون متصلا.
وقوله تعالى: (فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) " الفاء " للإفصاح لأنها تفصح في شرط مقدر مأخوذ من الكلام، أي فإذا كان ذلك (عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِين) أي ليس حراما، وفي التعبير بقوله تعالى: (غَيْرُ مَلُومِينَ) إشارة إلى أن عدم المحافظة والانطلاق موضع لوم في ذاته مع تحريمه؛ لأنه لَا يليق بأهل العقل والحكمة والفضيلة.
والوطء بملك اليمين حلال؛ لأن فيه تكريما للأمة وإعلاء لمنزلتها كالزوجة، وذريعة لعتقها، ومنع بيعها؛ لأنها إذا صارت أم ولد حرم بيعها، وإذا ولدت عتقت.
وإن من سار في غير ذلك وراء شهوته فهو المعتدي.
(فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (٧)
" الفاء " تفيد ترتيب ما بعدها على ما قبلها، أي إذا كان الحلال في هذه الدائرة فغيره عدوان على الأسر، وعلى المجتمع وعلى النفس، فيترتب على التحريم السابق
5047
منع ابتغاء المحرمات، والابتغاء هو الطلب الشديد الذي يؤدي إلى العدوان؛ لأن الابتغاء افتعال من البغي، والبغي في ذاته في معنى التعدي، وأولئك الذين تنحرف طبائعهم، فلا يقفون عند الانحلال يطلبون الشهوات بشدة تؤدي بهم إلى الانحراف عن الجادة، وقوله: (وَرَاءَ ذَلِكَ) أي سواه، وعبر عنه بـ " وراء " إشارة إلى أنه انحطاط في الرتبة، وإلى أنه وراء الإنسانية المستقيمة، وانحراف في القصد: (فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ) الإشارة إلى هؤلاء الذين يبتغون غير الحلال، والإشارة إلى الموصوف بصفة فيها بيان أن هذه هي علة الحكم، والحكم أنهم عادون، أي ظالمون ومتجاوزون، فقد تجاوزوا حد الحلال وهو واسع: يجوز زواج أربع، والتسري بمن يشاء من الإماء، وهو ظالم لنفسه بارتكاب الحرام، وظالم لنسله، وظالم للمجتمع، والظلم مرتعه وخيم، ولا شك أن نكاح المتعة مما وراء ذلك؛ لأنها ليست زواجا، ولا ملك يمين، وبها احتجت عائشة على ابن عباس، وأخطأ الزمخشري ومن تبعه إذ عدها زواجا، وما هي بزواج، وما سماها أحد من السلف زواجا.
الوصف الخامس: مراعاة الأمانة، وهكذا انتقلت الآيات من مرتبة النفس إلى التعاون الاجتماعي إلى إقامة الأسرة على أساس العدل، والمحافظة على النسل، ثم بينت بعد ذلك الأسس التي يقوم عليها التعامل الإنساني، وهو الأمانة، فقال عز من قائل:
5048
(وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (٨)
الأمانة: ما يؤتمن عليه الإنسان، والعهد ما يكون اتفاقا بين طرفين يتعهد كل واحد لصاحبه، والمحافظة على الأمانة والعهد من صفات المؤمنين، وخيانتهما من صفات المنافقين، وقد ورد في الحديث الصحيح " آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا اؤتمن خان، وإذا عاهد غدر "، وزيدت في رواية أخرى رابعة، " وإذا خاصم فجر ".
ورعاية الأمانة - والعهد القيام عليهما وملاحظتهما، والدقة في المحافظة عليهما، كما يرعى الراعي رعيته، وقال الزمخشري في ذلك: والراعي القائم على
5048
الشيء يحفظه بهمة وإصلاح كراعي الغنم وراعي الرعية ويقال: مَنْ راعي هذا الشيء أيْ متوليه وصاحبه.
وإن اللفظ يشمل كل ما يؤتمن عليه الإنسان من مال وشرف، وسر وعرض، وكل ما يطلع عليه الإنسان، ولا يكون من المروءة إعلانه، وكل ما يعاهد عليه، ويكون من البر والخير الوفاء به، ولقد قرن اللَّه تعالى الأمر بأداء الأمانة بالأمرِ بالعدل، فقال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ...)، فأداء الأمانات وإقامة العدل يستقيم بهما أمر الناس، ويتعاونون فيما بينهم من غير شطط ولا مجاوزة للحد، ويكون المجتمع فاضلا.
وقرنت خيانة الأمانة بخيانة اللَّه ورسوله، فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ).
الوصف السادس: هو المحافظة على الصلاة، وهو غير الخشوع، فالأول وصفهم بالخشوع، وهنا الوصف بالمحافظة عليها، وكلاهما لازم، ومطلوب، وهو صفة للمؤمن، فالمؤمن يحافظ على الصلاة، ويخشع فيها، ولكن قدم الخشوع على المحافظة؛ لأن الخشوع لبها، ولأنه أساس كل الفضائل الإسلامية؛ ولأنه روحانية الصلاة؛ ولأنه امتلاء النفس بها، وقال تعالى في المحافظة عليها:
5049
(وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (٩)
والمحافظة على الصلاة تقتضي:
أولا - المداومة عليها.
ثانيا - أداؤها في أوقاتها.
ثالثا - إقامتها بإتيانها مقومة ظاهرة وباطنة، وإن المداومة على الصلاة في أوقاتها مع إقامتها مصحوبة بذكر اللَّه واستحضاره في قراءتها وقيامها وركوعها وسجودها، وامتلاء النفس بالخشية تكون مذهبة لصدأ النفوس، يبتدئ يومه بصلاة
5049
الصبح، ليقبل على اليوم طاهر النفس خاشعا من خشية اللَّه، حتى إذا ابتدأ الصدأ يعلوها بمعالجة الحياة وأعمالها جاءت صلاة الظهر، ثم صلاة العصر، ثم صلاتا العشي؛ المغرب والعشاء، ثم ينام طاهرا مطهرا، كما ابتدأ طاهرا، والمحافظة على الصلاة في أوقاتها تجعل المؤمن في خشية دائمة، وهو مشفق منه سبحانه.
تنبيهان:
أولهما - أن الأوصاف التي وصف الله تعالى عباده المؤمنين بها كان سبحانه يذكرها مقرونة بعبارات تفيد اختصاصهم بها، وأنها مقصورة عليهم، وهم مقصورون عليها بدليل اقتران (هُمْ) بكل الأوصاف.
فقال سبحانه في الخشوع: (الَّذِينَ هُمْ فِى صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ) فهم مختصون من بين عباد اللَّه تعالى من الإنس والجن بأنهم الخاشعون في صلاتهم، وأنهم وحدهم الذين هم عن اللغو معرضون؛ وأنهم الذين هم للزكاة فاعلون راغبين في إعطائها معتبرين ذلك مغنما وليس مغرما، وأنهم هم وحدهم الذين يستمسكون بالمحافظة على أعراضهم، وأنهم وحدهم الذين يداومون على الصلوات، وأنهم هم الذين يراعون العهود والأمانات، وإنه في هذه الأمور يعبر عنهم باسم الفاعل ما عدا الأخير فقد عبر بالمضارع للدلالة على أنه صار لهم صفة.
والثاني - ما أشرنا إليه من أن الآية تدل على المباح من العلاقة بين الرجل والمرأة، وهو ما يكون بالزواج أو بملك اليمين، وعلى ذلك تكون المتعة حراما، وتكون داخلة في قوله تعالى: (فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ) وليست زواجا، حتى عند الذين يبيحونها؛ ولذلك احتجت بهذه الآيات عائشة - رضي اللَّه عنها وعن أبيها - على عبد اللَّه بن عباس عندما بلغها أنه يبيح المتعة، وهي لا تتوافر فيها شروط الزواج حتى تكونه؛ لأن من شروط عقد الزواج ألا يكون فيه ما يدل على التوقيت.
وقد ذكر اللَّه سبحانه بعد ذلك جزاء أولئك المتصفين بهذه الصفات، وهم المؤمنون حقا، فقال عز من قائل:
5050
(أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (١٠) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (١١)
الإرث انتقال المال من إنسان لإنسان بحكم الخلافة عنه، أو بحكم البقاء دونه، وهذا المعنى هو الظاهر من العبارات، فإن أولئك المشركين كانوا يحسبون أنهم وحدهم الباقون؛ لأنهم أكثر مالا وأعز نفرا، وبقاؤهم في هذه الدنيا؛ لأنهم ما كانوا يؤمنون بالبعث، ويقولون أئذا متنا وكنا ترابا أئنا لفي خلق جديد، ويفرضون أنه إن كان بعث فإنهم أصحاب السلطان يوم البعث.
فبين اللَّه تعالى أن أهل هذه الصفات هم الذين يرثون، ويخلفون غيرهم، وأنهم الباقون، وأن كل متع الآخرة تكون لهم؛ لأنهم أبقى وسجاياهم تجعلهم أهل النعيم الباقي، ولذا قال عن ميراثهم:
(يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (١١)
الفردوس الأرض الواسعة المملوءة بالحدائق الغناء، والمثمرات اليانعات، والجنات المزهرة، وينعمون فيها بخيراتها ومناظرها إذ تجري من تحتها الأنهار، وينعمون مع ذلك بالخلود؛ ولذا قال تعالى: (هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)، والضمير في (فِيهَا) يعود إلى الفردوس على أساس معناها، لأن معناها الجنة -
* * *
آية الله في خلق الإنسان
قال تعالى:
(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (١٢) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (١٣) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (١٤) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (١٦)
* * *
5051
السلالة: هي صفو الطين هنا، والإنسان دخل في تكوينه صفو الطين مرتين: المرة الأولى - عندما خلق آدم من تراب فكان صفو الطين في تكوينه، والثانية - أن الطين يدخل في تكوينه بعد أن صار كيانا إنسيا؛ ذلك أن غذاءه يتكون من النبات والحيوان وكلاهما من صفو الطين؛ لأن النبات ينبت من اختلاط الطين بالماء، والحيوان آكل من النبات، فكانت سلالة من طين فيه
5052
(مِن) في قوله تعالى: (مِن سُلالَة) هي (مِن) الابتداء التي تدل على أن الإنسان يكون من سلالة طين و (مِّن) الثانية بيانية، أي من سلالة هي طين.
ولقد ذكر سبحانه خلقه بعد أن صار في أصلاب الآباء، ثم أرحام الأمهات، فقال:
(ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (١٣)
العطف بـ " ثم " له موضعه؛ لأنه مر بأصلاب الآباء، ثم دفق الماء الذي هو النطفة في أرحام الأمهات، كما قال تعالى في تكوينه: (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (٥) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (٦) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (٧) إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (٨) يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (٩) فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ (١٠)، وقوله: (ثُمَّ جَعَلْنَاهُ)، الضمير يعود إلى الطين الذي جعل سلالته أي ما ينسل منه - نطفة.
و (جَعَلْنَاهُ) هنا بمعنى حولناه في أصلاب الآباء نطفة هي الماء الدافق الذي ألقي في أرحام الأمهات، وهذه الأرحام هي (القرار المكين) فالقرار معناه المستقر، ووصف بأنه مكين، أي أنه محكم، ما استقر فيه لَا يمكن أن يخرج منه، ووصف المستقر بأنه مكين من حيث إن ما يدخله يكون ثابتا، بل يتربى في موضعه ويتغذى حتى يحين ميقاته، فوصف الموضع بالاستقرار، والمكانة والثبات مع أن الثابت المستقر هو ما أودعه، كما يوصف الطريق بأنه سائر مع أن السائر هو الماشي فيه.
وإن الله الخلاق العليم يجعل الأرحام عندما يدفق فيها الماء يغلق عليه ويتربى فيه، ويتغذى من الدم، حتى يحين ميعاد الولادة، والأدوار التي يذكرها اللَّه تعالى بعد ذلك وهو في القرار المكين، حتى خلق خلقا جديدا فقال تعالى:
(ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (١٤)
العطف بـ " ثم " في خلق العلقة من الماء السائل الأبيض في موضعه؛ لأنه يكون في وقت أطول، إذ إنه يتحول إلى لحمة حمراء، ويتحيز في مكان بعد أن كان سائلا ليس له مكان متحيز فيه يملأ فراغا، وعبر هنا بالخلق، ولم يعبر بالجعل، لأنه أنشأه إنشاءً، إذ إن تحول ما ينسل من الطين إلى ماء هو النطفة تحويل بخلق الخالق، ولذا عبر بـ " جعل " التي تدل على الخلق، والتصيير والتحويل، بعد ذلك (فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً)، أي أن العلقة تحولت إلى مُضْغة، والأصل في المضغة قدر ما يمضغ في الفم من اللحم، ويبتدئ في المضغة تشكيل اللحم وتصويره بالصورة التي تكون عليه؛ ولذا جاء في سورة الحج: (ثُمَّ مِن مُضْغَةٍ مخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مخَلَّقَةٍ...)، فيبتدئ في المضغة التخليق، وينتهي بأن يكسى عظاما، والتعبير بـ (خَلَقْنَا) هنا للإشارة إلى أن ذلك التصيير أو التحويل إنما هو بخلق اللَّه تعالى لَا بالسببية التي تحول الجنين من نطفة إلى علقة ثم إلى مضغة، فإن اللَّه تعالى هو الخلاق العليم الذي ينشئ الشيء، فلا ينشأ شيء بغير إرادته، إنما إرادة اللَّه تعالى وقدرته هي الفاعلة.
ثم قال سبحانه: (فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا)، أي بعد أن تخلقت المضغة، وتميزت أجزاؤها، جعلها اللَّه تعالى عظاما أي جعل من هذه المضغة عظاما صلبة تتحمل. سبحان اللَّه تعالى، طين فماء مهين فقطعة لحم، فمضغة مخلقة وغير مخلقة، ثم قال تعالى: (فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لحْمًا)، أي جعلنا العظام التي خلقت من المضغة - مكسوة باللحم، وظاهر أن ذلك بخلق اللَّه وتكوينه، ابتدأت بماء مهين، ثم بقطعة لحم ثم بمضغة قدر ما يمضغه الإنسان، ثم بتخليقها، وجعلها عظاما ثم يكسو العظام باللحم، ذلك بقدرة العليم الحكيم وخلقه.
وهنا نلاحظ أن العطف كان بالفاء الدالة على الترتيب والتعقيب، في قوله تعالى: (فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا)؛ وذلك للدلالة على سرعة
5053
التكوين مع تفاوت هذا التكوين، أو التحول بإرادة اللَّه تعالى وحده، وبذلك يتبين أنه سهلٌ يسيرٌ عليه، وأن إعادته تكون أيسر، وما خلق الإنسان بأكبر من خلق السماء والأرض.
وأما قوله تعالى في سورة الحج: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا...).
وكان العطف بـ " ثم " لا بـ " الفاء "؛ لأن السياق لبيان المراحل، كما قال سبحانه: (لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ) وقد اقتضى هذا أن يكون العطف بما يدل على التراخي، وإن ذلك نسبي، فهو بالنسبة لنا تراخ حقيقي، إذ إن تكوّن العلقة من النطفة يحتاج إلى زمن، وإن كان عند اللَّه يسيرا، فأيامنا عنده أزمان قصيرة، وإن طالت عندنا، وقال تعالى: (ثُمَّ أَنشَأنَاهُ خَلْقًا آخَرَ)، أي أوجدنا فيه حالا غير الأحوال السابقة، فقد خرج إلى الحياة طفلا، ثم بلغ أشده ومنهم من يتوفى، ومنهم من يرد إلى أرذل العمر؛ لكيلا يعلم من بعد علم شيئا، وقد جعل اللَّه تعالى لهم سمعا وبصرا وأفئدة، وبذلك صار إنسانًا سويا، وأرسل إليه الرسل فَضَلَّ من ضلَّ واهتدىِ من اهتدى، وكل هذا أشار إليه سبحانه وتعالى بقوله عز من قائل: (ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ) وكان العطف بـ " ثم " له موضعه؛ لأن ذلك الخلق الآخر أخذ أدوارا مختلفة.
وكلمة (آخَرَ) تشير إلى أنه وصل إلى حال هي غير الطينِ وغير العلقة وغير المضغة، بل إنه خلق كامل، وقد قال في ذلك الزمخشري: (خَلْقًا آخَرَ)، أي خلقا مباينا للخلق الأول مباينة ما أبعدها حيث جعله حيوانا، وكان جمادا، وناطقا وكان أبكم، وسميعا، وكان أصم، وبصيرا، وكان أكمه، وأودع باطنه وظاهره، وكل عضو من أعضائه، وكل جزء من أجزائه عجائب قدرته، وغرائب حكمه لَا تدرك بوصف الواصف، ولا بشرح الشارح.
(فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) " الفاء " للإفصاح؛ لأنها تفصح عن شرط مقدر معناه إذا كان اللَّه هو الذي خلق ذلك الخلق فتبارك اللَّه أحسن الخالقين، وروي أن
5054
عمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل عندما سمعا الآية من قوله: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَان مِن سُلالَة مِّن طين) إلى قوله تعالى: (ثُمَّ أَنشَأنَاهُ خَلْقًا آخَرَ)، قالا: (فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) فقال النبي - ﷺ -: هكذا أنزلت (١)، ونحن لَا نرضى هذه الرواية، ولكن ذكرناها؛ لأنها تنبئ عن أن هذه الجملة السامية ثمرة طيبة للخلق السابق.
والبركة أصلها من موضع برك الجمل، وقد أطلقت على كل أمر خير ثابت، (فَتَبَارَكَ) معناها تسامي في البركة وعلا، حتى لَا يناهده أحد في خيره الدائم، و (أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ)، أفعل التفضيل ليس على بابه إنما معناه أن خلق اللَّه تعالى وصل إلى أعلى درجات الحسن، بحيث لَا يناصبه حسن قط، وحقا لقد خلق اللَّه الإنسان في أحسن تقويم، كما قال تعالى: (لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيم).
وإن نهاية هذا الإنسان في الدنيا هي الموت، ولم يخلق عبثًا، بل يكون بعد الموت البعث؛ ولذا قال تعالى:
________
(١) رواه الطيالسي، وابن أبي حاتم وابن مردويه، وابن عساكر، وهو صحيح. كما في كنز العمال (٣٥٧٤٧): ج ١/ ٢٥٤٩.
5055
(ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (١٦)
العطف بـ " ثم " في موضعه؛ لأن مؤداه أنهم بعد خلقهم في أحسن خلقة، ومنهم من يرده اللَّه تعالى إلى أسفل السافلين، ويستمرون إلى أجل مسمى، ضَلوا فيه أو اهتدوا، أخلصوا دينهم لِلَّهِ أو كفروا، وبعث فيهم الرسل مبشرين ومنذرين إنهم، بعد هذا الدور لميتون، وقد أكد سبحانه موت الناس مع أنه واقع مشاهد كل يوم يموت ناس ويولد ناس، وكان التأكيد بـ " أنَّ " وبالجملة الاسمية، وباللام وبالوصف، (مَيِّتُون) وكان ذلك التوكيد لكيلا يغتر الناس بغرور هذه الدنيا، وأنها إلى فناء مهما طَالت، وأن الحياة الآخرة هي الباقية الخالدة في سعادة ونعيم، أو في شقاء وجحيم.
وفى التعبير بالوصف (مَيِّتُونَ) إشارة إلى أن حياتهم في الدنيا كانها الموت لأنه يترصدهم، فلا يغتروا بغرورها، وبعد الموت يكون البعث، ولذا قال تعالى:
(ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (١٦)
كان العطف بـ " ثم " له موضعه؛ لأن الأجسام تبقى في القبور أو حيث تكون في أجزاء أخرى كما قال تعالى: (قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (٥٠) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ...) وقد أكد سبحانه وتعالى: البعث لأن اللَّه تعالى لم يخلقنا عبثا، وقال عز من قائل: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجعون).
أكد اللَّه سبحانه وتعالى البعث ليعظم إنكارهم له، ولقد بالغوا في إنكاره كشأن الذين لَا يؤمنون إلا بما يحسون ولا يؤمنون بالغيب، وأكده سبحانه بـ " أن " وبالجملة الاسمية، وجعل ذلك يوم القيامة، واللَّه سبحانه وتعالى هو الذي خلق وأبدع، وخلقه في الإنشاء، دليل على قدرته على الإعادة.
* * *
خلق الكون ونعم الله على الإنسان
قال تعالى:
(وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (١٧) وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (١٨) فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (١٩) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (٢٠) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (٢١) وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (٢٢)
* * *
5056
بعد أن بين اللَّه تعالى خلق الإنسان، وما فيه من عجائب تدل على قدرة اللَّه تعالى - جل وعز - أخذ يبين سبحانه وتعالى خلق ما هو أكبر من الإنسان، وما فيه حياة الإنسان ومعاشه، وما هو مسخر له في السماوات والأرض فقال تعالى:
5057
(وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ).
الطرائق جمع طريقة، وهي هنا بمعنى مطروقة من طرق النقل من حيث إنها مسالك، ومن طرق الخوافي في الطير، بمعنى أن كل طبقة منها فوق الطبقة الأخرى، وطرائق السماء أفلاكها، إذ كل فلك فوق الفلك الآخر وكل مربوطة بأرسان (١) من الجاذبية والنواميس الكونية، بحيث تكون متماسكة، كل نجم وكوكب فيها مشدود بالآخر، كأن حبلا أو سلكا يمسكه، وفسر بعض علماء الفلك هذا النص السامي بأن سبع طرائق سبعة أفلاك لكل سماء طريق يجري بما فيها من الأقمار والنجوم.
وقوله تعالى: (وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ) أي أن هذه الطرائق بما فيها من كواكب ونجوم مسخرات بأمره سبحانه يجري كل تحت رعاية اللَّه تعالى وعينه، وهو القائم على كل شيء يسيره بأمره سبحانه إنه عليم خبير (أَلا يَعْلَمُ منْ خَلَقَ وَهُو اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ).
ونفَى سبحانه وتعالى الغفلة عن ذاته العلية، وهي منفية بحكم علمه الكامل ولكن كان نفي الغفلة كناية عن كمال عنايته بخلقه، وأنه يمسك السماوات والأرض أن تزولا، وأن كل الوجود تحت رعايته وعنايته، وأنه يسير بأمره، وعلى مقتضى إرادته النافذة، وحكمته العالية.
وصيغة النفي تدل على أن الغفلة ليست من شأنه تعالى، لأنه نفي الكينونة بقوله تعالى: (وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ)، أي ليس من شأننا أن نغفل عن خلقنا، بل نحن قائمون عليه مراقبون له محافظون عليه،
________
(١) أرسان جمع رَسَن، وهو الحبل.
5057
ولقد بين سبحانه وتعالى بعد ذلك نعمه على خلقه في صلة الأرض بما فوقها، فقال تعالى:
5058
(وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (١٨)
يمن اللَّه علينا، وله المن والفضل، بأننا نعيش في الأرض برخاء، ونجد حاجاتنا منها موفورة، وأسبابها قائمة بقوله: (وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءَ بِقَدَرٍ)، أي بمقدار مصلح للأرض على أن يكون غيثا لَا عتيا، فالمطر الزائد كالسيل الجارف لا يكون غيثا بل يكون عتيا، ويهدد الله به الظالمين من الناس، كالسيل الذي أغرق قوم نوح، فقوله تعالى: (بِقَدَرٍ) أي على القدر الذي تعنيه الحاجات، ويكون إصلاحا، ولا يكون فيه فساد للزرع والضرع، ويقول سبحانه: (فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ) أي جعلنا في الأرض مستقرا له، كأنما يسكنها، كما يأوي الآوي إلى مسكنه.
وذلك أن ما تنزله السماء قسمان: قسم عارض ممطر يغيث في وقت الجدب، ولا ينزل بانتظام كالمطر الذي ينزل بالاستسقاء، كما كان النبي - ﷺ - يستسقي، ومن بعده أهل الصلاح والتقوى، وقسم يجري في أنهار ويسلك ينابيع الأرض في عيون، وهذا يُسكنه الأرض، كنهر النيل، فإنه ينزل على الجبال، وفي البحيرات التي تمده، وهذا يبدو كأنه الساكن في الأرض، وإن كان في سير دائم من منبعه إلى مصبه، وهذا وأشباهه يوجد الخصب والنماء بإذن اللَّه تعالى، ومن الناس مَن اعتقد أنه دائم لا يغيض، ولذا قال تعالى: (وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ) أي إنا على إذهابه لقادرون، والباء للتعدية، ولقوة الإذهاب كقوله تعالى: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ)، وإن مثل الأنهار العيون، فهي ينابيع في الأرض قد اختزنتها الأرض في جوفها وهي للَّه، (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (٣٠).
وقد قال تعالى في بيان بعض نعم الماء:
(فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (١٩)
الفاء عاطفة، وانشأنا، خلقنا بإنشاء جديد لَا بمجرد التوليد لشيء من شيء، فإن إخراج الحي من الجامد ليس توليدا مجردا، إنما هو إنشاء لمخلوق جديد، واقرأ قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٩٥)، ثم يقول تعالى: (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٩٩).
وقوله تعالى: (مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَاب)، من هنا بيانية، فهي بيان لنوع الجنات، (وَأَعْنَاب)، جمع عنب، وجمعه لأنه أنواع مختلفة فالأعناب بكل أنواعها، خلقها اللَّه تعالى وأنشأها إنشاء، ولم تذكر الحبوب؛ لأنها كانت قليلة في مكة وما حولها، وإنما كان النخيل والأعناب فيها، وفي الطائف القريبة منها.
وهذان النوعان النخيل والأعناب، فاكهة يانعة يتفكهون بها، وغذاء طيب يستغنون به عن كل الأطعمة، فإذا كان عند الرجل نخلة وناقة، فعنده الغذاء الموفور من التمر واللبن، ولذا قال تعالى: (لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ)، أي إنها فاكهة وغذاء، فالعنب يؤكل رطبا وزبيبا، والبلح يؤكل رطبا وبسرا، وهو أنواع مختلفة.
وذكر سبحانه وتعالى نوعا ثالثا من الأشجار، وهو الزيتون، فقال تعالى:
(وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (٢٠)
الواو عاطفة، (شَجَرَةً) معطوفة على (جنات)، أي أنشأنا شجرة، وقال المفسرون جميعا، إنها شجرة الزيتون وهي شجرة مباركة، وتنكيرها لبيان فضل خيراتها، و (مِن) للابتداء أو بمعنى (فِي)، والمعنى شجرة تخرج مباركة في طور
5059
سيناء، والطور هو جبل الطور، والمراد كل سيناء، وعرفت بأكرم مكان فيها؛ لأن فيه تجلى اللَّه على موسى كليمه، وهي أرض مقدسة من الأراضي التي شرفها اللَّه تعالى بتقديسه، وقد أقسم اللَّه تعالى بها، فقد قال عز من قائل: (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (١) وَطُورِ سِينِينَ (٢) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (٣)، فقرنها في القسم بالبلد الأمين بيت اللَّه الحرام، وكان ذكرها لتوجيه الأنظار إليها وعدم تركها لقتلة الأنبياء وفسقة الأرض، وليس لليهود أن يطلبوا تراث موسى أو ما خلفه، لأن أحق الناس بموسى عليه السلام محمد - ﷺ - ومن اتبعه، فلو كان موسى حيا ما وسعه إلا أن يتبعه، فإن يهود هذا الزمان ومن قبلهم مقطوعون عن موسى - عليه السلام - قد قتلوا الأنبياء؛ ولأن شريعة محمد - ﷺ - قد نسخت شريعة التوراة، وما جاء به موسى إلا ما أبقاه القرآن الكريم كشريعة القصاص.
وإن ذكر طور سيناء منسوبة إليها شجرة الزيتون، لتوجيه عقول المسلمين إليها، إذ الزيتون شجرته في كثير من أرض اللَّه تعالى، وقد وصف اللَّه تعالى شجرة الزيتون بقوله: (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ)، أي تنبت هذه الشجرة المباركة مصاحبة للدهن، أي تنبت وقد أودعها اللَّه تعالى الدهن، وإن الذي ينبت هو أخشاب الشجرة، ولكن لأن الدهن خلقه اللَّه تعالى فيها، وتفيض به جعلت كأنها أنبتت الدهن ذاته، أو أن الدهن نبت مع أخشابها، والدهن هو الزيت، وإن فيه شفاء للناس، وقد وصف اللَّه تعالى شجرته بأنها مباركة فقال تعالى في سورة النور:
(اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ...).
والصبغ، وهو إدام الطعام، وإنه يؤخذ من زيتون الشجرة إذا لم يعصر زيته إدام للطعام، يسهل تناوله، وذكر سبحانه بعد ذلك نعم اللَّه تعالى التي تجيء ثمرة للنبات الذي أنتجه اللَّه تعالى بالماء.
5060
(وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (٢١)
الأنعام: جمع نعم وهي الإبل والبقر والغنم، وما يشبهها فيما يؤدي مؤداها ما يزلل للإنسان، ويكون تحت سلطانه، ويطوَّع لإرادته، وأول ما حكم به سبحانه أن فيها عبرة أي اعتبارًا بدلالتها على خلق الخالق وقدرته وإبقائه على الإنسان، فهي حيوان مسخر للإنسان، ومع أن له إرادة، وإن لم تكن عاقلة، وكونا مستقلا، سخره اللَّه تعالى للإنسان مطوعة له مستأنسة له، وذكر من هذه العبر ما في درها من لبن يسقينا إياه رب العالمين، ولكم فيها منافع، فيتخذ من أصوافها، وأوبارها وأشعارها أثاثا، ويتخذ من جلودها بيوتا وأخبية، (وَمِنْهَا تَأْكلُونَ) أي نأكل لحمها فهو حلال طيب، فحياتها كلها خير تدر لبنا، ويؤخذ منها أثاث، وبيوت ومساكن، ولحمها يؤكل، وكل هذه نعم يجب علينا شكرها، ولا يصح أن نكفر بها، ونشرك باللَّه تعالى المنعم؛ إذ شكر المنعم واجب بحكم العقل والإيمان.
ويقول سبحانه وتعالى:
(وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (٢٢)
الضمير في (عَلَيْهَا) يعود على الأنعام، وليس معناه أن كلها يحمل الإنسان بل إن بعضها، وهو الإبل، والخيل والبغال والحمير إن أدخلناها في عموم النعم، ومن المؤكد أن بعضها وهو الإبل يتخذ للحمل حتى سموا الإبل سفينة الصحراء، وقد قال ذو الرمة في الإبل: سفينة بر تحت خدي زمامها.
ولذا ذكرت وراء الإبل من الأنعام الفلك، فإن الفلك تجري بقدرة اللَّه تعالى حاملة الأمتعة والمنافع من الشرق إلى الغرب، رابطة الأقاليم في الأرض بعضها إلى بعض، فهي التي تنقل خيرات الأرض بعضها لبعض.
* * *
5061
من أخبار الرسل
قال تعالى:
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (٢٣) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (٢٤) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (٢٥) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (٢٦) فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (٢٧) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢٨) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (٢٩) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (٣٠)
* * *
قص اللَّه تعالى بعد ذلك قصص النبيين تسلية للنبي - ﷺ -، وتعليما له وبيانا لتشابه إجابة الكافرين؛ مما يدل على موطن الشك في قلوبهم الذي ينادي بها إلى الكفر، وظلم النبيين، وإنكار الحقائق التي تؤيدها الفطرة، وإنهم إذ يتشابهون في الكفر قد تشابهوا فيما يتذرعون به من إنكار، كما أن دعوات النبيين واحدة في
5062
ابتدائها وهي الدعوة إلى عبادة اللَّه تعالى وحده، وهذا نوح الأب الثاني للبشرية يقول اللَّه تعالت كلماته فيه:
5063
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (٢٣).
ناداهم مقربا لنفوسهم متلطفا معهم في القول: (يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ) ابتدأ بذكر أنهم قومه الذين ألفهم وألفوه، وجربوه، ولم يعهدوا عليه كذبا، وما أشبه هذا بقول محمد - ﷺ - في أول دعوته لقريش: " أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟ قالوا: نعم؛ ما جربنا عليك إلا صدقا، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد " (١) قال نوح لقومه: (يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ) أي وحده فلا عبادة إلا له وحده؛ ولذا قال بعد ذلك (مَا لَكُم مِنْ إِلَهٍ غيْرُهُ) (مِّنْ) لاستغراق النفي، أي ليس لكم أي إله غيره، فلا ألوهية إلا له سبحانه وتعالى، وحرضهم على الطاعة، وخلع عبادة الأوثان، فقال: (أَفَلا تَتَّقُونَ)، الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، أي ترتب على الأمر بعبادته سبحانه وحده وبطلان عبادة الأوثان التي يعبدونها أن يطلب منهم محرضا تقوى اللَّه واتقاء عذابه، والفاء مؤخرة عن تقديم لأن الاستفهام له الصدارة، والاستفهام للتنبيه، والتحريض على اتقاء العذاب، كما قال النبي - ﷺ - لقومه في أول دعوته: " إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد. وإنها للجنة أبدا أو النار أبدا " (٢).
هذا كلام نوح - عليه السلام - في دعوته قومه، وقد بينا أنه يتشابه مع دعوة النبي - ﷺ - قومه، وقد كان جواب قومه بعد أن دعاهم عليه السلام مشابها لإجابة قريش لمحمد - ﷺ - بعد أن أمعن في دعوته، قالوا له عليه السلام:
________
(١) رواه البخاري: تفسير القرآن (وأنذر عشيرتك الأقربين) (٤٣٩٧) وبنحوه مسلم: الإيمان في قوله تعالى: (وأنذر عشسيرتك الأقربين) (٣٠٧) من رواية ابن عباس رضي اللَّه عنهما.
(٢) سبق تخريجه.
(فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (٢٤)
كانت إجابتهم إجابة من فوجئ بأمر لم يألفه ولم يعرفه، وكذلك كانت إجابة أهل مكة للنبي - ﷺ - قالوا أولا - (مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مثْلُكُمْ)، كذلك قال أهل مكة، قالوا: (مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ)، وقالوا ثانيا - (يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ) أي يطلب الفضل عليكم بالرياسة والسلطان، كذلك قال أبو جهل أحد زعماء الشرك وأطغاهم؛ فقد قال في سبب كفره: تنازعنا وبني عبد مناف الشرف، اطعموا فأطعمنا، وسقوا فسقينا، حتى إذا تحاذينا على الركب قالوا منا نبي، فأنى يكون لنا ذلك، واللَّه لَا نؤمن به أبدًا.
وقالوا ثالثا - (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأَنزَلَ مَلائِكَةً)، أي لو شاء اللَّه أن ينزل رسالة من عنده لأنزل بها ملكا يخاطبنا، كذلك طلب المشركون أن ينزل عليهم بالرسالة ملك، (وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (٨) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (٩).
وقالوا رابعا في رد دعوة نوح للتوحيد: (مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ)، أي إنهم لَا يتبعون إلا ما كان عليه آباؤهم، كما قال تعالى عن مشركي مكة، (بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ)، وهكذا نجد رد قوم نوح عليه السلام يشبهه تماما رد المشركين على النبي - ﷺ -، وقد كانت نتيجته أن أهلك اللَّه تعالى الكافرين من قوم نوح، وكان عليهم أن يتوقعوا مثل ما نزل بقوم نوح، لولا رحمة اللَّه، عسى أن يخرج اللَّه من أصلابهم من يعبد اللَّه، بل أن يكون منهم من ينصر الحق، ويجاهد مع المجاهدين.
ولقد استمرت دعوة نوح عليه السلام إلى الحق، واستمر عنادهم، ووصفوه بأنه مجنون، وأنهم ينتظرونه حتى يفيق.
(إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (٢٥)
(جِنَّةٌ) بكسر الجيم، أي مما هو إلا رجل به جنون (فَتَرَبَّصُوا بِهِ) الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، أي إذا كان به جنون فتربصوا به حتى حين، أي إلى حين
5064
يستفيق ويرشد، والتربص انتظار زوال أمر، أو مجيئه، أي انتظروه حتى يفيق، أو يعرض عن هذه الدعوة.
وكذلك قال قوم محمد - ﷺ - فقالوا مجنون، وقالوا إن كان الذي يأتيك رئيا من الجن بذلنا من أموالنا ما نكشفه عنك، وهكذا تشابهت أقوال الكفار لأنها تنبع جميعا من نفوس غير مؤمنة، وتشك في القول الحكيم المرشد.
يئس نوح من إيمان قومه أو الأكثرين منهم، وقال له اللَّه تعالى: (وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (٣٦)، فاتجه إلى ربه ضارعا طالبا النصرة.
5065
(قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (٢٦)
أي قال: انصرني عليهم لأنهم كذبوني ودفعهم تكذيبهم إلى الفساد، وقال:
(وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (٢٦) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (٢٧).
وهنا نجد الفارق بين نوح عليه السلام، وخاتم النبيين محمد - ﷺ -، فبينما نوح يدعو لهلاك الكافرين من قومه ويخاطب ربه، فيقول: (إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا)، يقول خاتم النبيين صاحب الرسالة الأخيرة الباقية: " إني لأرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لَا يشرك به شيئا " (١).
استجاب اللَّه تعالى لدعاء نوح، ودبر له الأمر لينجو نوح ومن آمن معه، وما آمن معه إلا قليل، وقال تعالى:
________
(١) متفق عليه، وقد سبق تخريجه.
(فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (٢٧)
ْأوحى الله تعالى إلى نوح أن يصنع الفلك لينجو فيه من أراد اللَّه تعالى نجاته وهم الذين آمنوا وأهل نوح الذين لم يكفروا، أن تفسيرية، لمعنى الإيحاء الذي أوحى به إلى نوح عليه السلام، فقوله: (اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا)، أي اصنع الفلك برعايتنا ورقابتنا، كمن يكون تحت العين والبصر، ولا يعد ذلك تأويلا، بل إنه ظاهر اللفظ، من غير تأويل، فلا حاجة إلى ما قيل إن هذا تأويل كقول الخلف، ولا إلى القول بأن للَّه عينا ليست كأعيننا، كما يُدَّعى أنه قول السلف (راجع في هذا رسالة الغزالي: إلجام العوام عن علم الكلام).
أي أن صناعة الفلك كانت برقابة اللَّه - تعالى - ورعايته ووحيه في البناء والتصرفات، (وَفَارَ التَّنُّورُ الفُرْنُ الذي يخبز فيه الخبز، والتعبير عن سبب سير السفينة الذي يقترن بسيرها بقوله تعالى: (وفَارَ التَّنُّورُ) فيه ما يشير إلى أنها كانت تسير ببخار الماء، وقد أشرنا إلى هذا المعنى في سورة هود.
(فَاسْلُكْ فِيهَا مِن كلٍّ زَوْجَيْنِ)، أي أدخل فيها من كل صنفين زوجين ذكر وأنثى، واسلك بمعنى أدخل هي في اللغة، ومن ذلك قوله تعالى: (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَر)، أي ما أدخلكم فيها، وقال تعالى: (وَأَهْلَكَ)، أي أدخل أهلك إلا من سبق عليه القول بهلاكهم لأنهم كافرون، وقد خاطبه نوح في شأن ابنه كما جاء في سورة هود إذ قال نوح - عليه السلام - إشفاقا على ابنه: (إنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي...)، فقال اللَّه تعالِىٍ له: (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غيْرُ صَالِحٍ...). وقوله: (مَن سَبقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ) وهو الحكم عليهم بالهلاك، ولذا تعدى بعَلَىَ وقد التفت الله تعالى حكمه، من بعد ذلك إلى نوح ومن معه مذكرًا لهم بعد أن أغرق الكافرين، فقال مخاطبا نوحا:
(فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢٨)
استويت، أي تمكنت واقتعدت أنت ومن معك مقاعدكم، (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)، وإن ذلك يدل على أن قوم نوح قد ساوروه بالأذى وإرادة
5066
إهلاكه وقومه، حتى أمر بأن يحمد الله تعالى على نجاته منهم وقد كانوا ظالمين، وهذا كقوله تعالى: (فَقطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالمِينَ)، وهكذا أمر اللَّه تعالى نوحا بأن يحمد اللَّه تعالى إذا استوى كما قال في سورة هود: (وَقَالَ ارْكَبُوا فيهَا بِسْمِ اللَّه مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ ربِي لَغَفُورٌ رحِيمٌ)، كما أمره سبحانه وتعالي أن يدعو اللَّه في قابل أمره شاكرا حامدا، فقال تعالى:
5067
(وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (٢٩)
الخطاب لنوح عليه السلام، وصوره: بـ (رَبِّ) للإشارة إلى أنه إذ نجاه لا يصح أن يلجأ إلا لعنايته وكلاءته وحمايته (أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا) المنزل هنا بمعنى المصدر، لَا بمعنى المكان، أي أنزلني إنزالا فيه خير ونماء وبركة، بأن يثبت اللَّه تعالى قلوب الذين آمنوا على الحق، وقد رأوا بأعينهم عاقبة الذين ظلموا أنفسهم بالكفر ومعاندة الحق، وقد بارك سبحانه من معه، فجعل منهم ذرية الخليقة فكان بحق الأب الثاني للإنسانية، وقد أثنى على ربه بما هو حقه، (وأَنتَ خَيْرُ الْمُنزِلينَ)، أي أنت الذي تنزل منازل أعلى ما يكون الإنزال المبارك.
وقد بين سبحانه وتعالى العبرة في هذا قصص المحكم الخاص بنوح وقومه، فقال عز من قائل:
(إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (٣٠)
أي أن في ذلك القصص الخاص بنوح وقومه، وكيف أرهقوه من أمر الرسالة عسرا، لآيات وعبر للذين يستبصرون، ويدركون أن الأمور البالية يتعرض أصحابها للمشقات من أهل الباطل والضلال، وقد كان إحجام الضالين أولا لأنه بشر مثلهم، ولأنهم ينكرون البعث ولا يؤمنون به، ولأنه اتبعه الضعفاء والفقراء الذين ازدرتهم أعين المستكبرين، وهكذا مما ابتليت به أنت، وكانت الآية الأخيرة أن الله تعالى أغرقهم، وقطع دابر الذين ظلموا، وفيه آية سامية في علوها وهي أن الزلفى عند اللَّه بالحق والإيمان به، لَا بالقرابة فهذا ابن نوح كان من المغرقين مع أنه أقرب الناس إلى نوح.
وإن من فضل اللَّه تعالى وشأنه أن يعامل الأخيار معاملة المختبرين، ولذا قال تعالى: (وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ) إن هنا هي المخففة من الثقيلة، وإنها ضمير الشأن،
5067
والمعنى، وإن الحال والشأن للذات العلية (كُنَّا لمُبْتَلِينَ)، و (كان) تدل على الدوام واللام واقعة في خبر إن مميزة لها، ومبتلين خبر كنا، وهي اسم فاعل، لَا اسم مفعول، أي إن الحال والشأن أن نعامل الأبرار معاملة المختبرين لكي يعرف خيرهم، ويظهر استحقاقهم للثواب، وإن المخير لَا يأتي عفوا سهلا ميسرا، لَا بد له من من جهاد، وعلى قدر الجهاد يكون الثواب، وكان حقا على محمد - ﷺ - أن يجاهد المشركين، ولا ييأس من نصر اللَّه، وللَّه ورسوله الغلبة والعزة.
* * *
الرسل بعد نوح لاقوا ما لاقى
قال تعالى:
(ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (٣١) فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (٣٢) وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (٣٣) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (٣٤) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (٣٥) هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (٣٦) إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (٣٧) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (٣٨) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (٣٩) قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ (٤٠) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤١)
* * *
5068
ذكر اللَّه تعالى نبذة صغيرة من قصة نوح عليه السلام مشيرة إلى سائرها الذي ذكر مفصلا في سورة هود، وهي نموذج قرآني لقصة الذين كانوا بين نوح ومحمد - ﷺ -، من الرسل، في تكذيب أقوامهم، ونوع هذا التكذيب، فهم يحسبون أن الرسول لَا يكون بشرا يأكل مما يأكلون، ويشرب مما يشربون، ويحسبون أنه لَا بعث ولا نشور، وأن الأتباع يكونون من الأقوياء لَا من الضعفاء الأذلين في زعمهم الفاسدين، وفي ذلك بيان أن ما ينزل بمحمد من بلاء الأقوياء المستكبرين هو صور من صور ما لاقاه النبيون من نوح. فعليه الصبر كما صبر أولو العزم من الرسل.
قال تعالى:
5069
(ثُمَّ أَنشَأنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ).
العطف بـ (ثُمَّ) لتطاول الزمن بين نوح، وبين من جاءوا بعد، والقرن جماعة من الناس، وذكرهم سبحانه وتعالى بالمفرد ولم يذكرهم بالجمع، لتشابه أحوالهم في نوع إنكارهم، وما يدعون إليه رسلهم، فكانوا كقرن واحد، وليسوا قرونا متعددين، وكلمة (آخَرِينَ)، أي ليس هم قوم نوح، وإن كانوا على شاكلتهم، وكفروا كفرهم، وضلوا ضلالهم. ولم يذكر سبحانه من هم هذا القرن، ولا شك أنه جاء بعد نوح عاد وثمود، ومدين، وأرسل لهم رسلا آخرين دعوهم إلى ما دعا إليه نوح عليه السلام، من توحيد، وإيمان بالبعث والنشور، وأن الثواب للمؤمنين، والعقاب للظالمين، ولم يذكر اللَّه تعالى بالتعيين هؤلاء الأقوام، وإن لم يقصص القرآن قصصهم فقد قال تعالى: (مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ). وإن أهل هذه القرون أُرسل إليهم رسل فقال تعالى:
(فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (٣٢)
في هذا النص أنه سبحانه وتعالى أرسل إليهم رسولا، مع أن الذين جاءوا بعد نوح رسل في أقاليم مختلفة، وفي قرون متوالية، رسولا بعد رسول، وربما يكونون عدة رسل في جيل واحد، كإبراهيم ولوط، وكموسى وهارون، ولكن أفرد ذكر الرسول؛ لأنهم جميعا جاءوا برسالة واحدة وهي التوحيد، والإصلاح، فهم وإن
5069
تعددوا هم كرسول واحد، وذكرت الدعوة بالصيغة التي ذكرت بها دعوة نوح عليه السلام: (أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ) و (أَن) هنا تفسيرية؛ لأن ما بعدها تفسير لـ (فَأَرْسَلْنَا)، أي أرسلناهم بأن يقولوا اعبدوا اللَّه ما لكم من إله غيره. أي ليس لكم من إله أي إله غيره، (أَفَلا تَتَّقونَ)، وقد تقدم ذكر معناها قريبًا، ولقد ذكر سبحانه أن الرسول منهم يعرفونه ويألفونه، ويكون من أوسطهم نسبا، وأعلاهم مكانة، ولقد كان رد قومه عليه - وهو مثل من الرسل الذين جاءوا بعد نوح - كرد قوم نوح فقال تعالى عنهم:
5070
(وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (٣٣)
وصف الله الذين كفروا وكذبوا بثلاث صفات هي الصفات الملازمة لمعارضي الأنبياء ومعانديهم، الصفة الأولى: أنهم من الملأ، أي من أشراف قومه وبطانة الرؤساء والكبراء، وليسوا من الضعفاء ولا الفقراء والعبيد، الصفة الثانية: أنهم كذبوا بلقاء الآخرة، لَا يؤمنون بالبعث والنشور؛ لأنهم استغرقتهم المادة، فلا يؤمنون بالبعث، ولا يصدقون إلا المحسوس الذي يرونه، ومن لَا يؤمن إلا بما يحس فقلبه أعمى وعقله في ضلال، وهو كالأنعام بل أضل سبيلا، وقوله تعالى: (وَكَذبُوا بِلِقَاءِ الآخِرةِ) من إضافة المصدر إلى ظرفه، أي اللقاء الذي يكون في الآخرة، وهو لقاء الحساب والعقاب والثواب، ولقاء ملائكة العذاب، أي أنه يلقى كل في الآخرة كل ما هو شقاء مرهوب.
والصفة الثالثة: قوله تعالى (وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) والترف التوسع في النعيم، وأترفوا في الحياة الدنيا معناها وسع لهم فيها، ونالوا نعيمها، وذكر (الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) إشارة إلى أنهم ينعمون في الحياة الدنيا، ولم يلهموا شكر النعمة فيها؛ لأنهم لو ألهموا الشكر، لوسعت عليهم النعمة في الدنيا والآخرة.
وذكر الإتراف في هذه الحياة الدنيا؛ لأن الترف فيها لَا يجعلهم يعملون للآخرة؛ إذ تلهيهم أموالهم وأولادهم عن العمل للآخرة، كما قال الله تعالى
5070
للكافرين: (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (١) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (٢)؛
ولأن الترف من غير إيمان يجعل النفس مائعة غير جادة إلا فيما يعني جمع المال؛ ولأن كثرة المادة تمنع إدراك معاني الإيمان لأن المادة تستغرق الإدراك، وأساس الإيمان هو الإيمان بالغيب، وبما وراء الحس، ولا يكون ذلك إلا بقلب مملوء بالرحمة والمعاني الإنسانية السامية.
ومع هذه الأوصاف نجد سبب إنكارهم أنه بشر مثلهم، فيقولون في تكذيبهم:
(مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ) فهم أولا يحكمون بالمثلية لهم، وفي ذلك إشعار بأنهم ينفسون عليه مكانته من النبوة دونهم، وأن ذلك يومئ بحقدهم عليه، وحسدهم له على ما آتاه اللَّه تعالى من فضله، ووضحوا هذه المثلية بقوله تعالى عنهم: (يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ) فأقيستهم مادية صرفة، ولا يؤمنون بمعنى من المعاني العالية، ولقد قرروا خسرانهم إن أطاعوا بشرًا مثلهم، فقال تعالى حاكيا عنهم:
5071
(وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (٣٤)
أكدوا من فرط حسدهم خسرانهم إن أطاعوا بشرا مثلهم، وأكدوه بلام القسم، وبالقسم، وبالتأكيد في الجواب بـ (إن) أوبلام التوكيد الواقعة في جواب (إن)، وإنهم في زعمهم يخسرون مكانتهم في قومهم وشرفهم المزعوم في قبيلهم، وسلطانهم في أقوامهم، ويصيرون تابعين لمثلهم، وهم المتبوعون في أقوامهم، وذلك كله غرور الترف، وفساد المقاييس، وسيطرة المادة.
ويذكرون بعد ذلك أشد ما يدعوهم استنكارا، وهو وعدهم بالبعث، فيقول تعالى عنهم:
(أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (٣٥)
كانت المادة الأولى لإنكارهم التي سوغت كفرهم أنه بشر مثلهم، ثم كانت المادة الثانية أنه يعدهم بأنهم سيبعثون، قالوا مستنكرين ومستبعدين: (أَيَعِدُكمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكنتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُم مُّخْرَجُونَ) الاستفهام للإنكار، أي استنكار هذا الوعد، لإنكار الواقع، فهو في معنى التوبيخ للنبيين على هذا الوعد الذي وعدوه، والذي هو جزء من رسالتهم، ويذكرون سبب الإنكار في أمرين:
5071
ْأولا - أنهم ماتوا.
والثاني - أنهم صاروا ترابا وعظاما بالية، وهي رميم، وإن ذلك يجعل الإعادة في نظرهم مستحيلة؛ لأن الأرواح زهقت بالموت، والأجسام بليت، ونسوا أن الذي بدأهم وأنشاهم من العدم، كما قال سبحانه: (كمَا بَدَأَكُمْ تَعودُونَ)، وأن الذي فطرهم أولا هو الذي يعيدهم ثانية. ويزيدون في استبعادهم أو إنكارهم أنهم مخرجون من دفائن القبور إلى ظاهر الوجود، وكل ذلك من سيطرة المادة.
ويؤكدون ذلك فيقولون:
5072
(هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (٣٦)
(هَيْهَاتَ) يقول النحويون: إنها اسم فعل ماضٍ بمعنى بَعُدَ، وقد أكدوا البعد بالتوكيد اللفظي بتكرار الكلمة، كما أكد الاستبعاد باللام في قوله تعالى: (لِمَا تُوعَدُونَ) فكأن مضمون الكلام البعد المؤكد لما توعدون، أي الذي توعدونه من بعث ونشور وعقاب وحساب، كاللام في قوله تعالى: (هَيْتَ لَكَ...)، أي النداء لك أو لإغرائك.
وهكذا قد غشيت المادة تفكيرهم، حتى صاروا لَا يفكرون إلا عن طريقها، ويستبعدون بأهوائهم، ولا يفكرون بعقولهم، ويؤكدون إنكار البعث، فيقولون كما حكى اللَّه تعالى عنهم بقوله:
(إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (٣٧)
فصلت هذه الجملة عما قبلها؛ لأنها في معنى البيان لها، وتوكيدها، وقد انتقلوا من مرتبة الإنكار، إلى مرتبة ادعاء النقيض وادعاء أنه لَا حياة بعد هذه الحياة قالوا: (إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا) فإن نافية، ففي الجملة نفي وإيجاب، وهذا يفيد القصر، أي لَا حياة إلا هذه الحياة الدنيا، والدنيا مؤنث أدنى، أي هذه الدنيا القريبة وليست الحياة البعيدة (هِيَ) - تفيد التوكيد، إذ مضمونها أن هذه الحياة وحدها.
5072
(نَمُوتُ وَنَحْيَا) أي يولد من يولد، ويموت من يموت، ويحيا بالميلاد من يحيا، كما نرى الموتى والأحياء، فهم يقرون بالواقع المحسوس فقط، ليموت من يموت، ولا يعود، ويولد من يولد فيحيا ثم يموت، ولا عود لمن مات، ولذا حكى عنهم أنهم يقولون: (وَمَا نَحْنُ بِمَبْعوثِينَ) أكدوا النفي بالباء، وبنفي الوصف، أي ليس من شأننا أن نبعث؛ لأن من مات لَا يعود؛ ولأنه لَا تحيا العظام بعد أن صارت رميما.
بعد هذا الإنكار الذي من شأن الذين كذبوا بلقاء الآخرة ينتقلون من مرتبة الإنكار المجرد، إلى مرتبة التهجم على مقام الرسالة، فيقولون:
5073
(إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (٣٨)
الافتراء: الاختلاق؛ لأنه افتعال من فرى بمعنى قطع، أي أنه قطع واشتد في اختلاق الكذب، بما قال من قول بعيد عن معقولهم وأهوائهم، وادعوا أنه افتراء الكذب على اللَّه تعالى، وهو أعظم الافتراء، (إِنْ) نافية، وبعدها الاستثناء فهو نفي وإيجاب، ومعنى ذلك أنهم قصروا حال الرسول على افتراء الكذب على اللَّه تعالى، وكأن عبارتهم فيها نوع تحقير لرسولهم، إذ يقولون: (إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ) من غير أن يذكروا اسمه، أو رسالته، ويحصرونه في الافتراء عليه سبحانه، ثم يردفون ذلك مؤكدين كفرهم (وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ)، أي ما نحن بمذعنين لقوله ولا مصدقين به، ولتضمن الإيمان معنى الإذعان والتسليم عدي باللام، أي ما نحن بمصدقين، ولا مذعنين له.
كان كلامهم هذا إيذانا بالإيذاء، وقد هددوه، ولذا يتجه الرسول إلى من أرسله، فيطلب نصره:
(قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (٣٩)
اتجه الرسول، وهو أي رسول جاء بعد نوح، فهم في معاندة الكافرين لهم، والتجائهم إلى ربهم بسبب صورة واحدة تكررت في القرون التي جاءت بعده عليه
5073
السلام، تبين طبائع بعض الناس في تلقي الحق، وتبين صبر الرسل، وبقاء العنت من أقوامهم. ونادى ربه الحافظ الكالئ الحامي، (انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ)، أي التكذيب، وما تبع التكذيب من إعنات وإيذاء، ومقاومة عنيفة آثمة، فطلب النصرة لا يكون من التكذيب المجرد، إنما يكون مما يصحبه ويكون ملازما له.
أجابه ربه بأن نصره قريب فقال له:
5074
(قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ (٤٠)
(عَمَّا) هنا لتأكيد القول، ولبيان القلة الزمنية التي تكون حتى ينزل عليهم عذاب اللَّه الساحق الماحق، أي عن قليل من الزمن متجاوزين عنه أي تاركين له أي قلة في غيهم يرتعون (لَّيُصْبِحُنَّ نَادِمِين) على كفرهم وعلى عنادهم، وصدهم عن سبيل الله بعد مقاومتهم للحق.
وقد تأكد نزول العذاب بهم بمؤكدات، فأكد أولا - بـ " مَا "، المؤكدة، وثانيا - بالقسم، وثالثا - لام القسم، ورابعا - نون التوكيد الثقيلة، وقد بين سبحانه كيف نزل بهم العذاب، فعبر عن أمر اللَّه بعذابهم بصيحة أرجفت أرضهم وديارهم، وجاءتهم بريح صرصر عاتية، فقال:
(فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤١)
" الفاء " عاطفة على القسم السابق جاء ما بعده فوره، أي بعد زمن ليس ببعيد في علم، والصيحة بالحق هي إرادة اللَّه التي تكون بالحق دائما، فهي كناية عن إرادة اللَّه تعالى التي لَا يتخلف حكمها ساعة من زمان، وكانت هذه الإرادة تتجلى في رجفة تجعل عالي الأرض سافلها، أو تدكدك الديار، أو بريح صرصر عاتية، كما فعل اللَّه مع قوم لوط وعاد وثمود.
وقوله تعالى: (فَأخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ) تعبير مجازي مؤداه أنه نزلت بهم آثارها التي أرادها اللَّه تعالى بهم، وقد شبهت الصيحة بسبع: التهمهم وأخذهم؛ لأنها لم تُبقِ منهم ولم تذر، وقال تعالى: (فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً) الفاء عاطفة على (فَأخَذَتْهمُ)،
5074
أي أن هذه أمور متعاقبة من غير تراخ، والغثاء الأشياء التي ليس لها كيان ولكن تبدو كأنها شيء موجود له كيان، جاء في مفردات الراغب الأصفهاني في مفردات القرآن، الغثاء غثاء السيل والقدر، وهو ما يطفح ويغرق من النبات اليابس، وزبد القدر، ويضرب به المثل فيما يضيع، ويذهب غير معتد به، ويقال: " غثا الوادي غثوا، وغثت نفسه تغثى غثيانا غثيت ".
ومؤدى هذا القول: أن أولئك الذين كانوا يحسبون أنهم كجلاميد الصخر في عنفهم وعنادهم وإيذائهم قد صاروا شيئا ليس له كيان، وإن كان لهم كيان، فهو لا يبقى زمانين، بل كان رغاء، يعلو وينتفخ ويزول بنفخة واحدة، وقال تعالى: (فَبُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظَّالمِينَ) الفاء للإفصاح، أي إذا كانوا قد صاروا غثاء فقد بعدوا وهلكوا فبعدا وهلاكا لهم، والبعد ضد القرب، والبعد لغير أوبة هلاك وموت؛ لذا يقال: " بعِد " بكسر العين بمعنى مات وهلك، كما قال تعالى: (كمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ)، أي هلكت، وأظهر سبحانه في موضع الإضمار لبيان أن ذلك كان بسبب ظلمهم لأنفسهم، وللناس، وللحقائق، ولتدليهم في الشرك فعقابهم قصاص من ظلمهم، وما ربك بظلام للعبيد.
* * *
القرون من بعدهم
قال تعالى:
(ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ (٤٢) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (٤٣) ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (٤٤) ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (٤٥) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَإِهِ
5075
فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ (٤٦) فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (٤٧) فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (٤٨) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٤٩) وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (٥٠)
* * *
5076
(ثُمَّ) للترتيب والتراخي، وقد ذكرت هنا للإشارة إلى أنها مهما تتطاول الأزمنة، فإنها متعاقبة، لَا يخلو جيل من رسول، وقد توالت النذر، و (أَنْشَأْنَا) معناها أوجدنا بعد عدم (الفاسقين) الظالمين قبلهم (قُرُونًا)، أي أجيالا آخرين، يجيئون جيلا بعد جيل، يخلف كل جيل ما قبله، والقادر الحكيم العليم هو المنشئ لها جميعا.
وإن كل جيل أمة واحدة تجيء في ميقاتها تعقب من سبقها، ويسبق من بعدها، والدنيا لَا تقف حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا، وحتى يبعث اللَّه مَن في القبور.
(مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (٤٣)
الأجل الوقت المعلوم المحدود لها، فلا توجد أمة قبل ميقاتها تجيء في وقت، (وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ)، أي ما يطلبون تأخير وقتها فتزيد في عمرها، بل إن ما حدَّه اللَّه تعالى، هو الواقع في حده، وعاد الضمير إلى الأمة بضمير الجمع العاقل للإشارة إلى أن الأمة مجموعة العقلاء المدركين المكلفين، المخاطبين من الرسل، وإن حد زمن كل أمة محدود برسولها الذي بُعث بخطاب اللَّه تعالى لها، ولذا قال تعالى ذاكرا رسلهم المرسلين إليهم فقال:
(ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (٤٤)
ذكر (ثُمَّ) هنا كما أشرنا لتطاول الأزمنة، وقوله تعالى: (تَتْرَا) أصلها وترى، والألف للتأنيث كما قال الزمخشري أو للإلحاق، وهناك قراءة بالتنوين، أيِ تترًا (١)، والمعنى واحد، أي أرسلنا رسلنا وترا، أي واحدا بعد واحد (كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذبوهُ) ومجيء الرسول لأمة هو مجيء دعوته ورسالته التي كلفه اللَّه تعالى بتبليغها، فليس مجيء الرسول مجيء شخصي مجرد، إنما مجيئه بوصف كونه رسولا من اللَّه تعالى، وبهذا الوصف يكون مجيء الرسالة، والتكذيب له في هذه الرسالة مع أنه في كل الأحوال معروف بالصدق بينهم، ولا يختار الرسول إلا من الصادقين أهل الأمانة.
(فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا) الضمير يعود إلى المكذبين، والإتباع إنما هو إتباع المكذبين بالإهلاك أي بعضهم في الهلاك يتبع من سبقوه، فتوالى الإرسال، وتوالى الجحود، وتوالى الهلاك من بعد ذلك، وقد صاروا بعد الهلاك المتعاقب أحاديث تذكر للعبرة والاعتبار، و (أَحَادِيثَ) اسم جنس لحديث.
والمعنى أنهم بعد هلاكهم المتوالي في العصور والأزمان صاروا أحاديث للناس يعتبر بها من يعتبر، ويستبصر بها من يستبصر، ويتلهى بها من يتلهى بأخبار الأولين.
(فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ)، أي فهلاكا لقوم لَا يؤمنون، أي ليس من شأنهم الإيمان والإذعان للحق المبين، والفاء للسببية أي بسبب ذلك التكذيب المتتابع، والهلاك المترادف تكون الدعوة بالهلاك للذين لَا يؤمنون، ويتجدد كذبهم آنًا بعد آنٍ.
وبعد أن ذكر سبحانه تتابع الرسل في أرض العرب، أشار سبحانه إلى أنبياء بني إسرائيل، وابتدأ بموسى وأخيه هارون اللذين أنقذ اللَّه تعالى بني إسرائيل على أيديهما فقال:
________
(١) قرأها بالتنوين: ابن كثير وأبو عمرو، ويزيد: أبو جعفر المدني، وقرأ الباقون بغير تنوين. غاية الاختصار ٢/ ٥٨٤.
5077
(ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (٤٥) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَإِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ (٤٦)
العطف بـ
5078
(ثُمَّ) التي للتراخي لبعد الزمان وبعد المكان، وللانتقال من قوم متشابهين إلى غيرهم، ذكر اللَّه تعالى رسالة موسى وهارون؛ لأن الله تعالى استجاب لموسى عندما دعا ربه أن يجعل له وزيرا من أهله، هارون، وقد خاطبا معا فرعون ذا الأوتاد عندما لقياه.
أرسلهما اللَّه تعالى بآياته، وقد بلغت تسعا، (وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ) أي بحجة باهرة، فالسلطان في لغة القرآن يطلق على الحجة؛ ولأن الحجة سلطان الداعي وقوته، ولا قوة لمن لَا حجة له ولو كان فرعون، ووصف اللَّه تعالى السلطان بأنه (مّبِينٍ)، أي واضح بين من حيث الحجية؛ إذ إنه غير قابل للنقض، ومعلوم معروف؛ لأنه غير قابل للإنكار.
وقد ذكر الله تعالى من أرسل إليه موسى وأخاه هارون فقال:
(إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَإِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ (٤٦)
فرعون في عصره كان طاغية الدنيا، وكان المصريون قد استسلموا له وكان ملؤه حكام مصر يحكمون بطغيانه، ويسولون له كل ما يفعل، ويسوغون له ما به يعلو ويسرف، وباسمه عتوا عن أمر العقل والمنطق والحق، بعث الله تعالى موسى وهارون إلى هؤلاء وكل يعتز بعزة فرعون، وكانوا يستفتحون بعزته، فكانوا من منطق الوقائع، لَا من منطق الحق والعقل مستكبرين؛ ولذا رتب على حالهم أنهم مستكبرون فقال: (فَاسْتَكْبَرُوا)، و (الفاء) فاء السببية، أي بسبب هذه الطغواء استكبروا وكانوا قوما عالين، أي مرتفعين عن الناس، لَا في ذات أنفسهم، بل بحكم واقع الحكم والأمور التي تسير سيرا مطردا، وهم يعلون في أنفسهم ادعاء وغلوا وطغيانا لَا يستمعون إلى الحق، ولا يصغون إلى داعية، يغالون في رده، ولقد قال تعالى: (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٤)، وقد ذكر اللَّه تعالى مضمون ردهم، فكان كرد غيرهم، وهو استبعاد أن يكون الرسول مثلهم، وقد تواضعوا في ذكر هذه المثلية.
(فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (٤٧)
الفاء عاطفة ما بعدها على (فَاسْتَكْبَرُوا)، وقولهم (أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا) الاستفهام هنا للإنكار بمعنى النفي مع الإنكار الشديد، فالمعنى لَا نؤمن ولا نذعن لبشرين مثلنا، وقد سببوا كفرهم بسببين.
أولهما - أنهما مثلهم في البشرية، وكأنهم تصوروا أن الرسالة الإلهية لَا تكون لبشر، وقد لفوا في هذا لف غيرهم من المشركين الذين مر ذكرهم.
والثاني - أن قومهما - وهم بنو إسرائيل - لهم عابدون، أي خاضعون خضوعا مطلقا قد استذلوهم وذبحوا أبناءهم واستحيوا نساءهم، وعبَّدوهم، كما فرض فرعون على المصريين أن يعبدوه، وقال لهم: (مَا عَلِمْتُ لَكُم مِنْ إِلَهٍ غَيرِي...)، ومهما يكن فهم كانوا يعدونهم دونهم، كما يعد القوي دائما الضعيف الذليل دونه قدرا ومكانا.
(فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (٤٨)
" الفاء " للإفصاح، والمعنى إذا كان ذلك قولهم فقد كذبوهما، وكفروا برسالة موسى - عليه السلام - مع توالي الآيات المثبتة لرسالته، ومع غلبه عليهم، وقد جمعوا الجموع من المدائن حاشرين، ولذلك كانوا مهلكين، ولذا قال تعالى: (فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ) أي فرعون وملؤه وجيوشه، فقد فتح البحر لبني إسرائيل، فكان كل فرق كالطود العظيم، فسار فرعون وملؤه وجنده فانطبق عليهم، فكانوا من المغرقين، ونجا المصريون الذين لم يكونوا من ملته ولا من جنده.
وإن حكم فرعون كان يقوم على إرادته المنفردة، فما أراده فهو قانون، يفرض بالقسر والقوة، فعندما بعث فيهم موسى بين لهم أن القانون من الله، لَا من فرعون وأشباهه، وأنه أتى لهم بهذا القانون في التوراة، ولذا قال تعالى:
(وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٤٩)
أكد الله تعالى أنه أعطاهم كتابا ينظم العلاقة بين الناس بعضهم مع بعض، والعلاقة بين الحاكم والمحكوم، وينظم الأسرة، ويقيم العلاقات بين آحادها، وأكد
5079
سبحانه وتعالى إيتاء موسى هذا الكتاب الذي يعد دستور الحكم لأرض مصر وغيرها، ويقيد فرعون وغيره، ويكفه عن طغيانه، جاء موسى بهذا من عند اللَّه تعالى في عصر لم يكن يعرف إلا حكم الطاغوت من فرعون وأشباهه من طواغيت أهل مصر، (لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ)، أي رجاء أن يهتدوا إلى العمل الصالح، وأن يعرفوا ما لهم من حقوق إنسانية، وما عليهم من واجبات، وتنظم بها العلاقات بين الناس على أساس من العدل والحق.
ويجب أن ننبه هنا إلى أن الذي بين أيدينا مما يسمى كتب العهد القديم ليست هي توراة موسى، بل نسوا حظا مما ذكروا به، وزيد فيها أحاديث ما أنزل اللَّه بها من سلطان بل هي أساطير الأولين.
وبعد موسى جاء أنبياء ينفذون أحكام التوراة التي كانت صادقة، كداود وسليمان وأيوب وغيرهم، ثم جاء من بعدهم عيسى عليه السلام، ولذا قال تعالى:
5080
(وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (٥٠) أي صيرنا ابن مريم وأمه آية، أي معجزة خارقة للعادة، وعرف عيسى بأنه ابن مريم لبيان أنه ليس له أب، وأن مريم ولدته من غير أب، وكان بذلك هو وأمه آية خارقة لمجرى العادات، ذلك أن مجرى العادات في الأسباب والمسببات أن الولد يكون من نطفة توضع في رحم المرأة فيجيء الولد بإذن اللَّه تعالى، كما تبين في قوله تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (١٢) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (١٣).
إلى آخر الآيات الكريمات، فكانت المعجزة في أن عيسى جاء من غير أب؛ وذلك لإثبات قدرة اللَّه تعالى وإرادته، وأنه مختار فعال لما يريد، ذلك أن الفلسفة الأيونية التي ظهرت في آسيا الصغرى، وتولدت منها الفلسفة اليونانية كانت تؤمن إيمانا عميقا - ولو كان باطلا - بأن الدنيا وجدت بالسببية، أي بوجود المعلول عن علة، حتى قالوا إن الكون كله وجد عن السبب الأول بالعلة، وبولادة عيسى من غير أب تبين أن اللَّه فاعل مختار، رزاق، وهو ذو القوة المتين، وكان عيسى عليه السلام وأمه آية خارقة للعادة، فأمه - عليها السلام - حملت من غير نطفة، وهو ولد من غير أب، فكانت المعجزة في كليهما، ومكونة منهما.
5080
ويقول تعالى: (وَآوَيْنَاهُمَا)، أي جعلنا مأواهما ربوة، أي مكانا مرتفعا، قد أوت إليه مريم عندما فأجأها المخاض إلى جذع النخلة، حتى لَا يراها الناس وقد قال تعالى في ذلك: (فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (٢٣) فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (٢٤) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (٢٥) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (٢٦).
والربوة مع أنها مرتفع من الأرض (ذَاتِ قَرِارٍ وَمَعِينٍ)، أي يمكن القرار فوقها، لأنها مستوية، فيها مهاد كالفراش، (وَمعِينٍ) أي ماء طاهر ثرّ. وقال الزجاج: هو الماء الجاري، وقال بعض الباحثين في اللغة يقال: معن الماء إذا جرى، وهكذا اقترنت ولادة عيسى بمعجزات، فكانت الربوة في المرتفع عن الأرض، ذات قرار ممهد، وفيها الماء الجاري، وتكلم في المهد صبيا، وكان هو في ذاته معجزة.
* * *
الأنبياء بشر يأكلون، والكفر بهم واحد
قال اللَّه تعالى:
(يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٥١) وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (٥٢) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (٥٣) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (٥٤) أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (٥٥) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (٥٦) إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٥٧) وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (٥٨) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (٥٩)
5081
وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (٦٠) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (٦١) وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (٦٢) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (٦٣) حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (٦٤) لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ (٦٥)
* * *
5082
(يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ) النداء للرسل، وهو نداء لبيان حقيقة الرسل، وأنهم من البشر يأكلون الطعام، وكان النداء لهم وقد مضوا إلى ربهم، ولم يكن عند نزول الآية الكريمة إلا محمد - ﷺ -، وذكر النداء في هذا للدلالة على أنهم كانوا يخاطبون بهذا الخطاب، رسول منهم كان يخاطب بهذا الخطاب، وتباح له طيبات الطعام، والطيبات من الرزق، ويؤمر به كالأمر بكل مباح، والطيبات تتحقق طيبتها بأمور؛ منها: أولهما ألا يكون خبيثا في ذاته كالميتة والدم ولحم الخنزير، وأن يكون قد سمي عليه عند ذبحه، وأن يكون قد كسب من حلال، فيجتمع فيه الحل الذاتي والحل الديني، (وَاعْمَلُوا صَالِحًا) وليس الأمر الذي يكون به متميزا عن سائر البشر إلا العمل الصالح بأن يكون خالصا له، والعمل الصالح هو العمل الطيب الذي يكون خيرا محضا للناس لَا يكون معه شر لَا في ذاته، ولا في نيته، والعمل الصالح ما يكون فيه النفع لأكبر عدد ممكن، وما تكون فيه سعادة عاجلة لأكثر الناس، أو سعادة آجلة لعامتهم، ويدخل في هذا دعوتهم إلى الهداية والرشاد، والتبليغ عن أمر ربهم.
(إِنِي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) وقد وثق اللَّه تعالى العمل الصالح عليهم ببيان إحاطة علمه تعالى به، فقال: (إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ)، وقد أكد اللَّه تعالى علمه بكل ما
5082
يعملون ليترقبوا جزاءه الوفاق لأعمالهم، وهم بشر يجزون بالخير على ما يقدمون كغيرهم من البشر.
وقد أشار سبحانه إلى أن الناس جميعا فطرة واحدة ينبعثون عن غرائز واحدة، ويختلفون عند اصطدام هذه الغرائز، واختلاف النزوع باختلافها، ولذا قال عز من قائل:
5083
(وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (٥٢)
(وَإِنَّ هَذِهِ) إن بالكسر، على أن الواو لاستئناف كلام جديد، له وثيق الصلة بالآية السابقة، وقال أكثر المفسرين: إن الأمة بمعنى الدين والملة، وأمة منصوبة بالحال، أي أن هذه أمتكم حال كونها أمة واحدة أي على دين واحد، وهو توحيد اللَّه - تعالى - بلغته الرسل أجمعون، ولكن جاء الاختلاف، فتقطعوا زبرا، وصاروا أحزابا، ولكن كل حزب بما لديهم فرحون، وقوله تعالى: (وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَقُونِ)، أي أن ربكم واحد، كما أن دينكم واحد، أجمع عليه الرسل الذين بعثوا من عند اللَّه، والفاء في قوله تعالى: (فَاتَّقون) سببية، أي بسبب أني ربكم الذي خلقكم، ويكلؤكم بالليل والنهار (فَاتَّقُونِ)، أي اعبدوه، واجعلوا بينكم وبين غضبه وقاية.
هذه على تفسير أمتكم بمعنى دينكم الواجب اتباعه، ولا يصح أن تسمى غير التوحيد دينا قيما، وقد عرض لي أن نفسر كلمة أمة بما فسرناها به في سورة البقرة، في قوله تعالى: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً...)، أي صنفا على طريقة واحدة، وعلى غرائز واحدة وقد تتناحر نوازع نفوس التي تسير وراء الغرائز من غير تهذيب بدين يجيء به نبي مرسل، وبذلك يترتب التقاطع من هذه الوحدة في الغرائز والطبائع، فإذا كان حب الغلب غريزة، فإنه لابد من التغالب؛ لأن كلا يجد في نفسه دافعا لأن يكون هو الغالب، فيكون التنازع والتقاطع، ويكون التعبير بالفاء في قوله في الآية الآتية:
(فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا...)، أي أنه جاء التقطع من وحدة الغرائز.
هذا ما بدر لنا، واللَّه أعلم بمراده، وقوله: (وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ)، أي أن النداء بالتقوى لكف الغرائز، وتهذيبها هو الذي يكفها، ويجعلها في ميزان الاعتدال.
5083
(فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (٥٣)
الزبر جمع زبرة أو اسم جنس جمعي، وهو الذي يفرق فيه بين المفرد والجمع بالتاء أو بياء النسب، كروم ورومي، والزبرة قطعة من الحديد، وقد شبهت الجماعات المختلفة في نزاعها بزبر الحديد، من حيث إن كل واحدة شديدة في التمسك بما عندها كأنها صلب الحديد، لَا تترك رأيها، كما لَا تتفرق زبر الحديد.
أي اختلفوا متقطعين متنابزين غير مجتمعين في أمرهم، بحيث لَا متسع للالتقاء فيما بينهم، يتحزبون في تفكيرهم: (كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ)، أي كل جماعة متحزبة متعصبة لما عندها، فرحة به، وتحسب أنه الحق الذي لَا ريب فيه، وهو الضلال المبين، وإن التحزب لفكرة يدفع إلى التعصب لها، والتعصب يعمي ويصم، وتقديم الجار والمجرور - بما لديهم - لبيان أهميته عندهم.
وهنا ننبه إلى أن الفاء في قوله: (فَتَقَطَّعُوا) فاء السببية، وهي بهذا المعنى يرجح أن معنى الأمة ما بدر لنا، وتبعا أن يكون معناها: دين التوحيد؛ لأنه لا يترتب عليه التقاطع والتفرق.
5084
(فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (٥٤)
الخطاب للنبي - ﷺ -، والضمير يعود إلى المشركين، فإنهم حاضرون في ذهن النبي - ﷺ - في أنهم في كفرهم وعنادهم موضوع القول، وتسرية اللَّه لنبيه لأجل أذاهم المستمر اللحوح، والغمرة الماء الكثير الذي يغمر من ينزل فيه، والمراد الجهالة، أي ذرهم في جهالتهم التي غطت عقولهم وفكرهم كما تغطي الغمرة: التي تغطي أجسامهم، وإن جهالتهم هذه جعلتهم في حيرة بين حق رأوا دلائله، وباطل قد استولى على نفوسهم، وقوله تعالى: (حَتَّى حِينٍ) إلى حين ليس ببعيد، وإنه لقريب؛ لأنه واقع، وكل واقع قريب مهما يتباعد زمانه.
والفاء فاء الإفصاح، والمعنى إذا كانوا قد أعرضوا عن الحق، ولجوا في إعراضهم جهالة وحيرة فذرهم حتى حين، والحين الذي ينتهي عنده انتظار أمر الله
5084
هو ما بعد الهجرة، ولقاؤهم في ميدان القتال، ويكون دفع ظلمهم ووقفهم عند حدودهم، ولا يصح أن يظنوا أن مالهم وأولادهم تغني عنهم شيئا، ولذا قال تعالى: (أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (٥٥) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (٥٦) هذه الآية الكريمة متصلة بما قبلها؛ إذ مغزى الآية السابقة أن اللَّه تعالى ينذرهم بأنهم بعد حين سيتسلط عليهم العباد المؤمنون، وإذا كانت نقمة اللَّه تعالى نازلة بهم لَا محالة على أيدي عباد اللَّه الصابرين، فلا يصح أن يظنوا أن اللَّه يسارع لهم في الخيرات،
5085
(أَيَحْسَبُونَ) الاستفهام للاستنكار بمعنى النفي مع رميهم بالجهل والغرور، أي لَا يحسبون أن الذي نمدهم من مال وبنين، وكل أسباب القوة مسارعة لهم في خير لهم، إنما هو مطاولة، وإمهال من غير إهمال،
(بَل لَا يَشْعُرُونَ) بل للإضراب، أي إضراب عن هذا الزعم الذي يزعمونه، والحسبان الذي يظنون، إنما هم لَا يشعرون، أي لَا يشعرون بما يرتكبون من جرائم، ولا يشعرون بأن عذاب اللَّه واقع، ولذا لَا يستعدون.
ولقد ذكر بعد ذلك المؤمنين فقال عز من قائل:
(إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٥٧)
الخشية خوف يشوبه تعظيم، والإشفاق خوف تشوبه محبة، وكذلك شأن المؤمن فهو يخاف اللَّه ويعظمه، ويحبه، فهو يحب اللَّه تعالى، ويحبه اللَّه تعالى، وهو يعظم اللَّه تعالى، ويخاف عذابه، فهو يستكثر أخطاءه، ويخاف العقاب، ولذلك كان من شأن أهل الإيمان أن يغلب في نفوسهم خوف العقاب على رجاء الثواب، وقد أكد سبحانه خشية المؤمنين وإشفاقهم بمؤكدات:
أولها - (إِنَّ) فهي لتوكيد الكلام.
وثانيها - ضمير الفصل (هُم).
5085
ْوثالثها - تقديم الخشية على متعلقها.
ورابعها - التعبير بربهم، أي القائم على أمورهم وكالئهم، وحاميهم.
هذا هو الوصف الأول من أوصاف أهل الإيمان الذين يستحقون الثواب، ولهم الغرفات الآمنة عند ربهم.
وذُكر أولا - لأنه يتضمن إذعان القلب، وامتلاء النفس بهيبته سبحانه، فيكون قريبا منه، يفطن لآياته، ولذا قال سبحانه في الوصف الثاني:
5086
(وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (٥٨)
إنهم لخشيتهم من ربهم، وإشفاقهم، ومحبتهم لربهم تصفو نفوسهم، وتذهب الكدرة من أفهامهم، فإذا رأوا الآيات توجهوا إليها بقلب سليم مشرق، قذف به نور الإخلاص، والواو عاطفة تعطف صفة على صفة؛ ولذا قال تعالى: (وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنون) يصدقون موجب هذه الآيات، وما تدعو إليه؛ ذلك أن الإخلاص إذا دخل القلب ملأه بنور الحكمة، فأدرك به، ولم تقف حوائل دون الإدراك فيكون الإدراك سليمًا، ولا ينطق اللسان إلا بالحق، ولقد تأكد الحكم بما تأكد به الوصف الأول، والتعبير بالمضارع يفيد تجدد الإيمان بتجدد الآيات، فكلما كانت آية من آيات اللَّه وهي كثيرة زادت المؤمن إيمانا، فإيمانهم متجدد في نماء، ويزيد بزيادة الآيات، وقال سبحانه في الوصف الثالث:
(وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (٥٩)
الشرك يجيء دائما من أوهام تسيطر على النفس الإنسانية، فتجعلها تعتقد قوة في حجر، أو في شخص، وقد تكون مسوغات موهمة، وقد يكون الوهم نفسيا من ذات النفس، ونفس المؤمن سليمة صافية فيها نور الحق، قد استضاءت به، وعمرت بذكر اللَّه تعالى وامتلأت به فلا تضل أبدا، ولذا قال تعالى: في الوصف الثالث من أوصاف المؤمنين (وَالَّذينَ هُم بِربِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ) إنهم يعترفون أن العبادة لَا تكون إلا للقادر على كل شيء الذى لَا مثيل له الواحد في ذاته وصفاته وخلقه، فهم كما عرفوا آياته وأذعنوا، فهم أيضا يذعنون لمعاني الوحدانية، فلا يشركون به شيئا، وفي الجملة السامية التوكيدات في الآيات السابقة وإن من أجل صفات المؤمنين كما أشرنا من قبل أنهم يستصغرون حسناتهم، ويستكثرون أخطاءهم، ولذا قال فيهم رب العالمين.
(وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (٦٠)
ذلك هو الوصف الرابع، وهو أنهم في وجل من لقاء ربهم مع ما يعطون من حسنات.
الوجل: الخوف مع الاضطراب الشديد، والإحساس بالقصور، وهذا هو الوصف الرابع لأهل الإيمان، والإيتاء: الإعطاء، والمعنى أن هؤلاء المؤمنين لفرط إحساسهم بخشية ربهم، وإشفاقه يعطون العطاء الكبير ويخشون مع ذلك ألا يقبل منهم لرياء أو نحوه مما يمحق الحسنات، أو لوجود داء يذهب بخير القربات، ولقد قال الحسن البصري سيد أهل البصرة: لقد أدركنا أقواما كانوا من حسناتهم أن ترد أشفق منكم على سيئاتكم أن تعذبوا عليها، ولا شك أن ذلك من تغليب خوفهم على رجائهم، وقوله تعالى: (وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) حال من فاعل يؤتون (١).
ووجلهم من أنهم إلى ربهم راجعون، وهذا يدل على أمرين:
أحدهما - أنهم ذاكرون دائما لليوم الآخر، ويغلبون خوفهم منه على رجائهم فيه، لفرط إحساسهم بالخشية من اللَّه تعالى.
ويدل ثانيا - على أنهم يرهبون الوقوف أمام اللَّه استصغارا لحسناتهم، واستكثارا لسيئاتهم.
وقد قال تعالى في جزائهم:
________
(١) عن عَائِشَةَ، زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ هَذِهِ الآيَةِ: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ﴾ [المؤمنون: ٦٠] قَالَتْ عَائِشَةُ: أَهُمُ الَّذِينَ يَشْرَبُونَ الخَمْرَ وَيَسْرِقُونَ؟ قَالَ: " لَا يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ، وَلَكِنَّهُمُ [ص: ٣٢٨] الَّذِينَ يَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَتَصَدَّقُونَ، وَهُمْ يَخَافُونَ أَنْ لَا تُقْبَلَ مِنْهُمْ ﴿أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ﴾. رراه الترمذي - تفسير القرآن - رمن سورة المؤمنون (٣٠٩٩)، كما رراه ابن ماجه في الزهد (٤١٨٨).
(أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (٦١)
الإشارة إلى الحاملين لأوصاف السبق عند اللَّه تعالى، الذين هم من خشية ربهم مشفقون، والذين هم يذعنون لدلائل آيات ربهم، ولا يشركون شيئا في
5087
العبادة، والذين يقطعون من أموالهم للفقراء، ويوجلون إذ يعلمون أنهم إلى ربهم راجعون، هؤلاء بهذه الصفات التي تسمو بهم يسارعون في الخيرات، لأنهم يتنقلون في وسط صفات سامية، فيتنقلون مسرعين في وسط خيرات، ويلاحظ هنا أن التعدية بـ " في " تفيد أنهم ينتقلون من مرتبة خير إلى أعلى منها مسارعين بهذه الصفات السامية، فهم وسط دائرة الخير دائما يتنقلون في درجاتها، أو الخير يمهِّد للخير، وكل خير يمهد إلى أعلى منه: (وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ) الجملة حال من فاعل يسارعون، فهم بهذه المسارعة المتنقلة بهم من خير إلى خير يسابقون إليها وكأنما يسبقون إلى الجزاء الأوفى، والنعيم، فجزاء المسارعة في الخير، سبق إليه، والضمير يعود إلى الخيرات، والمعنى أن السبق إلى الخير هو نفسه خير، وينتهي إلى جزائه، فهؤلاء يبتدئ جزاؤهم من أعمالهم براحة ضمائرهم، واستمتاعهم برضا ربهم، وإحساسهم بإنسانيتهم الكريمة، فالخير جزاؤه يبتدئ من ذات فعله، وينتهي به إلى النعيم يوم القيامة.
وبين سبحانه أن الله تعالى يريد اليسر من عباده، ولا يريد العسر، وأنه لا يكلف سبحانه إلا بما يكون في دائرة الطاقة في يسر ومن غير مشقة، فيقول تعالت حكمته:
5088
(وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (٦٢) الواو للاستئناف، (وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) أي إلا ما في طاقتها، وتستطيع القيام به في سعة من غير إرهاق ولا إجهاد، فلفظ (وُسْعَهَا)، يشير إلى أنه تكون عند عمله في سعة من غير ضيق ولا إحراج، فلا حرج في الدين ولا ضيق، وكذلك كل تكليفات الإسلام ليس فيها شقة فوق الطاقة، وما يكون فيها شقة ربما تكون شديدة أحيانا لَا تكون على الكافة كالجهاد، بل يكون ابتداء فرض كفاية إلا أن يدخل العدو أرضنا، فيكون فرض عين على كل قادر على حمل السلاح؛ لأنه يكون شقة شديدة لدفع شقة أشد، وهي شقة الذل وضياع الدين، وهذه أشد الشُّقات.
5088
والصفات التي اتصف بها المؤمنون، والأعمال التي يقومون بها في الطاقة، والعمل عن سعة ويسر وسهولة إلا على الذين لَا يؤمنون باللَّه واليوم الآخر.
وإن كل عمل خيرا أو شرا في إحصاء دقيق لَا يتخلف عنه شيء، ولذا قال تعالى: (وَلَدَيْنَا كتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ) قالوا: إنه كتاب الأعمال الذي يحصى فيه كل عمل خيرا كان أو شرا، ويصح أن نقول: إن ذلك تصوير لعلم اللَّه بما يفعله كل إنسان، ويوم القيامة يجده محضرا يخبر به ويحاسب عليه، لَا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، وصور اللَّه سبحانه وتعالى إحصاء أعماله كله كأنها تنطق به متلبسة بالحق مخالطة له غير بعيدة، وأكد سبحانه أنهم لَا يظلمون، فقال: (وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)، فلا ينقص من خير فعلوه، ولا يزاد على سيئاتهم سيئات، بل إن اللَّه يعفو عن السيئات إذا كثرت الحسنات: (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ...).
هذه صفات المؤمنين وعقباها جاء بها سبحانه وسط وصف الكافرين، واستكبارهم ليكون المؤمنون مجال اعتبارة وليمكن لهم، ثم أخذ سبحانه يتمم بيان ضلال الكافرين، فقال تعالى:
5089
(بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (٦٣)
الإضراب هنا فيه بيان أنهم لَا ينتفعون بالعظات والعبر، ولا يستبصرون بهداية المهتدين، ولا يترفون مال الحق وأهله، ولا مآل الباطل وأهله (فِي غَمْرَةٍ منْ هَذَا) الغمرة أصلها ما يغمر الإنسان من الماء، وقد فسر بعضهم الغمرة بالغفلة التي غمرتهم، وهو تفسير حسن، وقد غفلوا أولا عن الكتاب الذي يكتب الحسنات والسيئات، أو علم اللَّه تعالى الذي لا يغادر صغيرة أو كبيرة إلا أحصاها، وغفلوا عن رقابة اللَّه تعالى لأعمالهم وغفلوا عن أعمال المؤمنين واستقامة قلوبهم، وهم أناس مثلهم، قد سبقوهم في الفضل وشرف الإيمان، والمسارعة في الخيرات والسبق فيها، وأنهم قد سارعوا في الكفر، كما سارع المؤمنون في الخيرات، وسبقوا إليها،
5089
فكان لهم في الكفر أعمال كثيرة منها: أنهم حرموا على أنفسهم ما لم يحرم اللَّه تعالى، كما حرموا السائبة والوصيلة والبحيرة... ، ومنها: أنهم جعلوا للأوثان نصيبا من الحرث، ومنها: أنهم صدوا عن سبيل اللَّه، ومنها: أنهم فتنوا المؤمنين في دينهم، ومنها: أنهم آذوهم وأخرجوهم، ومنها: أن رءوسهم صارت عشا للخرافات والأوهام؛ ولذا قال تعالى: (وَلَهُمْ أَعْمَالٌ من دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ) وقد أشرنا إلى بعض هذه الأعمال. ومنها: طوافهم بالبيت عراة، وادعاؤهم أن اللَّه تعالى أمر بها (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا...)، وقوله تعالى:
(مِّن دُونِ ذَلِكَ) الإشارة إلى الشرك والكفر بآيات اللَّه تعالى، وإنكار التوحيد، و (مِّن) بيانية، (دُونِ) أي غيرها وأدنى منها درجة في التكليف، وأنهم مستمرون، وهذا معنى قوله تعالى: (هُمْ لَهَا عَامِلُونَ) فالجملة حالية من ضمير " لها "، أي والحال أنهم مستمرون على هذه الأعمال غير منقطعين عنها فهم في ضلال مستمر.
(حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (٦٤) لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ (٦٥)
حتى للغاية، والمعنى: فهم في غفلتهم المستمرة الغامرة الحق بالباطل لا يستبصرون ولا يتيقظون، ولا ينبههم إلا قارعة تقرعهم؛ ولذا قال:
5090
(حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِم بِالْعَذَابِ) فتقرعهم القارعة، أي أنهم غافلون، حتى تنبههم من الغفلة قارعة تمس المترفين، وخص المترفين بالذكر، مع أن القارعة تعمهم وغيرهم إذ المهلكات تعم، ولا تخص المترفين منهم. خص المترفين؛ لأنهم أصل الإنكار الذين تلهيهم الغفلة عن الحق، أو يلهبهم ما هم فيه من ترف عن أن يدركوا الحق؛ لأنهم لا شدائد تنبههم، فالشدائد ترهف المدارك، وتوقظ الأفهام، ولأنهم لَا يصبرون على الابتلاء، بل يخرون صاغرين أمام أي شدة، أو كارثة تكرثهم؛ ولذا قال: (حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِم بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ) (إِذَا) للمفاجأة، والمفاجأة تحوُّل حالهم من استكبار واعتزاز وغفلة إلى صغار وتنبه، وضراعة، فالجؤار مصدر جأر وهو رفع الصوت بالضراعة والاستغاثة.
5090
والعذاب قيل: هو عذاب الدنيا بكارثة دنيوية أو حرب هازمة لهم، والتعبير (أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِم بِالْعَذَابِ) معناها أنزلنا بهم العذاب جزاء ما أجرموا. وكنى عن ذنوبهم بالعذاب الذي استحقوه بها، وقال أخذناهم، كناية عن أنه أخذهم حتى لا يفلتوا منه، وشبه إنزاله بهم بأخذهم إليه أخذا مصحوبا بالعذاب الشديد. وإنهم إذ يضرعون ويجأرون يفعلون ذلك في وقت غير مناسب؛ لأنه قد فات وقت الضراعة والاستعانة باللَّه، إذ إن تلك الضراعة كانت وهم في وقت التكليف؛ ولذا قال تعالى:
5091
(لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ (٦٥)
هذه الجملة السامية في مقام التعليل للجملة التي قبلها، أي لَا تضرعوا، لأنكم تأبيتم في وقت التكليف واستكبرتم علينا وكفرتم بِآياتنا، فلن ننصركم، وبقى عليكم أن تذوقوا مغبة أعمالكم، وذلك كقوله: (وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (١١) إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (١٢)، وكقوله تعالى: (كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ (٣).
* * *
حالهم في غفلتهم وإعراضهم
قال تعالى:
(قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (٦٦) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (٦٧) أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (٦٨) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٦٩) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (٧٠) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ
5091
وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (٧١) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٧٢) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٣) وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (٧٤)
* * *
الآيات هي الآيات القرآنية بدليل التعبير بقوله:
5092
(تُتْلَى)، والتلاوة القراءة المرتلة التي تجيء الكلمة تلو الكلمة واضحة في نطقها متقنة في صرفها عند النطق مستوفية مدها وهي الترتيل، كما قال تعالى: (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرتِيلًا)، وكما قال تعالى: (وَرَتَّلْنَاهُ) أالفرقان، ، وأن القرآن الكريم قد تواتر كتابة وقراءة وترتيلا، وهو في ترتيله قد تلقاه النبي - ﷺ - عن جبريل، علمه اللَّه تعالى إياه.
وقد أكد جط ت وتعالى بـ (قَدْ) الدالة على التحقيق و (كَانَتْ) تدل على استمرار التلاوة، ولكنهم ما كانوا ليتبعونها، ويتدبرونها، ويتعرفون مراميها وغايتها، معتبرين بعبرها، متأولين مآلها، بل إنهم يستمعون بآذانهم، وقلوبهم لاهية، وعقولهم معرضة، ولذا قال تعالى: (فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ) " الفاء " عاطفة، " كنتم " معناها أن هذه كانت حالا دائمة مستمرة لَا يستمعون إلا بآذانهم، وقلوبهم معرضة، وقوله تعالى: (عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ)، هذا التعبير تصوير للإعراض يظهر حسيا، كيف كان إعراضهم عن الحق (تَنكِصُونَ)، أي ترجعون وراءكم، ووجوهكم كأنها مقبلة، فهم يرجعون القهقرى، بأدبارهم، ويسيرون إلى الوراء بأعقابهم، وقد جاء في قراءة شاذة منسوبة لعلي بن أبي طالب " فكنتم على أدباركم "، ولعلها تفسير له رضي الله تعالى عنه، وهذا تشبيه حال بحال، فشبهت حالهم في أنهم يسمعون بآذانهم دون أن تعيه قلوبهم بحال من يلقون بوجوههم وهم يسيرون القهقرى إلى الوراء.
وبين سبحانه أن ذلك كان استكبارا، فقال:
(مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (٦٧)
(مُسْتَكْبِرِينَ) حال من " الواو " في (تَنكِصُونَ)، وهي تفرقة واضحة بين حالين، إحداهما تململهم عند سماع الحق حتى إنهم ينكصون على أعقابهم عند سماعهم، وحالهم وهم يجأرون ضارعين صاغرين عندما يؤخذون ببعض العذاب الذي يستحقون.
وقوله تعالى: (مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ) الضمير في (بِهِ) يعود إلى القرآن الذي تتلى آياته، مستكبرين استكبارا مصاحبا لسماعه، أي متعالين على القرآن نفسه، أو متعالين بسببه لأنهم لم يذعنوا لحقائقه، ويصح أن يكون متعلقا بـ (سَامِرًا) أي جاعلين القرآن موضع سمرهم حول الكعبة، (تهْجُرُونَ) (١)، أي يقولون الهجر من القول الفاحش، أي أنهم مع نكوصهم على أعقابهم عند سماع تلاوته يجعلون الطعن فيه وسب النبي - ﷺ - موضع سمرهم وقولهم الهَجْر من القول الفاحش، وقرئ يُهجرون، وبضم الياء وماضيها " أهجر " أي دخل في هجر القول.
وخلاصة المعنى على هذا أنهم ينكصون معرضين عند سماع التلاوة مستكبرين سامرا به بهجر القول، أي لَا سمر لهم إلا السخرية به وبمحمد - ﷺ - ناطقين بالهجر الفاحش من القول، ومع ذلك يجأرون ضارعين عندما يأخذهم عذاب يفجأهم أو كارثة تكرثهم، وكان حقا عليهم أن يتدبروا القرآن بدل أن يعرضوا عنه ويتخذوه موضوعا لسمرهم وهجرهم.
________
(١) قراءة (تُهجِرون) بضم التاء وكسر الجيم: نافع، وقرأ الباقون بفتح التاء وضم الجيم. غاية الاختصار: ٢/ ٥٨٤.
(أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (٦٨)
الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، وهي مؤخرة عن تقديم؛ لأن الاستفهام له الصدارة، ومؤدى القول أنهم قد نكصوا على أعقابهم ثم جأروا عندما اشتدت بهم الشديدة، أفما كان أولى من هذا أن يتدبروا القول بأن يتدبروا ما تلى عليهم ويتعرفوا معانيه، أم أنه جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين، فـ (أَمْ) على هذا هي التي تكون للمعادلة بين أمرين، والاستفهام هنا لاستنكار المعادلة، والمعنى ألم
5093
يتدبروا ما سمعوا من آيات تتلى أم أنهم جعلوا هذه الآية في منزلة ما جاء به آباؤهم فما دامت لم يجئ بها آباؤهم فهي في موضع الإنكار، وفي هذا توبيخ لهم من ناحيتين:
أولاهما - أنهم مقلدون لَا يفكرون بعقولهم تفكير موازنة بين حق وباطل.
وثانيهما - أنهم مقلدون آباءهم، ولو كان آباؤهم لَا يعقلون شيئًا ولا يهتدون.
5094
(أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٦٩)
(أَمْ) تتضمن معنى بل، والاستفهام الإنكاري، و " بل " معناها الإضراب، فالكلام فيه إضراب انتقالي، والمعنى نضرب عن هذا، ونسألهم ألم تعرفوا رسولكم فأنتم له منكرون، ومؤدى هذا التساؤل أنكم قد عرفتم رسولكم، فقد نشأ بينكم، وعرفتم صدقه وعدله واتزان فكره، وسلامة طبعه، وضئضئ نسبه، وأنه من أوسطكم، وأنه الأمين بينكم فكيف تنكرون رسالته، وتنكرون شخصه، وهو الأمين النسيب فيكم، وأرجح رجالكم عقلا.
(أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (٧٠)
(أَمْ) تدل على الإضراب والاستفهام معا، وهو إضراب انتقالي يضرب بها عن الكلام قبله، وينتقل إلى استفهام جديد، ولا شك أنهم يعرفون أمانته وصدقه، واستقامة نفسه وخلقه وعقله، وطبعه، ولا يتحول ذلك إلا إذا اضطرب كيانه العقلي والنفسي، وأصيب بجنون، والمعنى أيقولون به جنة؛ أي أتحول عن طبيعته، وأصابه جنون، وهو يقول القول الحكيم، ويتصرف التصرف الحكيم، فلم يكن به جنون، بل زاد بالبعث عقلا وعلما، وإنما هو الكراهية للحق، ولذا قال: (بَلْ جَاءَهُم بِالْحَقِّ وَأَكثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ)، (بَلْ) للإضراب عن كل ما سبق فهم يعرفون إعجاز القرآن وقد تحداهم أن يأتوا بمثله فعجزوا، وإذا لم يتدبروا القول، فهو يقرعهم بالحجة، وهم يعرفون الأمانة عنده، وهم لَا يقولون صادقين إنه مجنون، ليس هذا ولا شيء منه، ولكن الحق ثقل عليهم، وقد جاء به ليبطل عبادة الأوثان وتحريمهم
5094
ما أحل اللَّه، وأكثر أهل مكة كارهون للحق: (وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ...)، وإن هو إلا الهوى سيطر عليهم واتخذوا إلههم هواهم؛ ولذا قال تعالى:
5095
(وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (٧١)
الهوى ينبعث من مصدرين:
أولهما - الشهوة والسيطرة التي قد تجمح بصاحبها عن مناهج السداد، وموضع الاستقامة، والتي تضل معها الأفهام والعقول.
وثانيهما - سيطرة الأهواء، فيتخيل ثم يخال، وإن هذين الأمرين لَا يقوم بهما أمر صالح للبقاء، فالشهوات نزعات ولا تكون معها إلا لذات وقتية لَا تدوم، بل تنتهي بانتهاء وقتها؛ فلذة الخمر تنتهي بانتهاء وقتها، وكذلك كل لذة جسمية تنفعل بها النفس لَا تدوم، وشهوات الناس مختلفة، فيكون التضاد بين الناس والتنازع المستمر، والتناحر القاتل، كما نرى الآن في أمم أوربا وخاصة أمريكا، ثم الأوهام من شأنها أن تصور ما ليس واقعا كأنه واقع، ويتخيل الشخص، ثم يخال.
هذا هو الهوى، وأهواء العرب، كانت انحرافا فكريا أدى إلى استحسان الشر، وضعفا عقليا أدى إلى اتباع الآباء ولو كانوا لَا يعقلون شيئا، مما أدى إلى تحريم ما أحل اللَّه، وأدى إلى الطواف عرايا، للتخلص من نجاسة الثياب المعنوية، كما توهموا، وأدى إلى قتل أبنائهم ووأد بناتهم، وإلى استباحة أكل أموال الناس بالباطل.
هذه هي الأهواء ما كان معروفا منها بعضه عند العرب، أما الحق فإن مصدره العقل، والعقل يقوم على ثلاثة أمور:
أولها - الميزان بين الأشياء والأفعال فيتخير أنقاها وأثبتها وأصلحها، وأكثرها نفعا.
5095
وثانيها - القسطاس المستقيم الذي يكون ميزان الأشياء، وحكم الموازنة فيها.
وثالثها - أنه يقدر خير الأمور بأنه ما يكون باقيا، ولو كان في آجل. على هذا لَا يمكن أن يكون الحق متفقا مع الأهواء، وخصوصا أهواء العرب
التي أشرنا إلى بعضها؛ ولذا قال تعالى: (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَق أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ). أما فساد السماوات فلأنها قائمة على تماسك أجرأهما بأركان قوية منتظمة لَا تتخلف، ولو كانت خاضعة لأهواء أهل الشرك لتزايلت؛ لأن أهواء أهل الشرك تفرق المجتمع، كما كانت الحال بينهم، وأما الأرض فلأنها تعمر باستنباط خيرها، وتعرُّف إصلاحها والغرائز الإنسانية التي تمد النفوس بشهوة الغلب، وشهوة الجنس، وشهوة المال، وشهوة السلطان والتحكم، وإذا حكمت هذه وأشباهها، فإن الحاكم يعجل بفنائه، ولولا رحمة من ربك ببقاء سلطان الحق ولو في الأقوال دون الأفعال، لآذنت الدنيا بخراب، قال تعالى في بيان أن الرسل جميعا جاءوا بالحق وميزانه: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (٢٥).
(بَلْ أَتَيْنَاهُم بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكرِهِم مُعْرِضُونَ) بل للإضراب عن توهمهم أن الحق يساير أهواءهم، وأتيناهم بما بذكرهم الحق، ويبعدهم عن أهوائهم ويذكرهم بمعنى التذكير، وهو من إضافة المصدر إلى مفعوله، أي جئناهم بما يذكرهم، وينبههم إلى خلل تفكيرهم وبعدهم عن الحق وسيطرة أهوائهم (فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ) و " الفاء " لترتيب ما بعدها على ما قبلها، فرتبوا النقيض على نقيضه، وبنوا إهمال التذكير على التذكير، وذلك من ضلال العقول، فرتبوا الإعراض على التذكير. اللهم اكفنا شر ضلال الأهواء، إن النبي - ﷺ - يدعوهم إلى الحق الخالص، لَا يسألهم أجرا، ولا جزاء ولا سلطانا؛ ولذا قال تعالى:
(أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٧٢)
5096
(أَمْ) تتضمن معنى بل، وهمزة الاستفهام، والإضراب إضراب انتقالي، فنقلهم سبحانه من الحكم بأنهم يتبعون أهواءهم، إلى مكانة النبي - ﷺ -، وأنه لا يطلب منهم مالا، ولا سلطانا، والاستفهام هنا لإنكار الوقوع، أي لَا يسألكم خرجا والخرج المال الذي يأخذه السلطان من الرعية، والخراج العطاء الكثير، ما سألتهم خرجا حتى يدعوا أنك تريد سلطانا عليهم وجاها، فما أعطاه اللَّه تعالى خير، وهو كثير، وهو ربك وكافلك، ومديم العطاء عليك، وهو مغنيك دائما عن الناس، وهو خير الرازقين، فرزقه خير الأرزاق، وافر يتفضل على من وقف على بابه، والمعنى خراجه أي عطاؤه أغلى رزق وعطاء، وليس فوقه رزق لطالب رزق، ويصح أن نقول: إن المراد من خراج اللَّه تعالى نعمة على محمد - ﷺ -، وهي نعم معنوية، فما كان محمد - ﷺ - معروفا بالمال، إنما كان معروفا بالسمو الإنساني الكامل الذي لم يناصبه أحد فيه؛ ولذا اجتباه رب العالمين خاتما للنبيين، وكان آخر لبنة في صرح الرسالات الإلهية.
ولقد قال الزمخشري كلمة بليغة في معنى هذه الآية: قد ألزمهم الحجة في هذه الآيات، وقطع معاذيرهم، وعللهم، بأن الذي أرسل إليهم رجل معروف أمره وحاله، مخبور سره وعلنه، خليق بأن يجتبى مثله للرسالة من بين ظهرانيهم، وأنه لم يعرض له حتى يدعى بمثل هذه الدعوى العظيمة بباطل، ولم يجعل ذلك سلما للنيل من دنياهم واستعطاء أموالهم، ولم يدعهم إلا إلى الإسلام الذي هو الصراط المستقيم مع إبراز المكنون من أدوائهم، وهو إضلالهم بالتدبر والتأمل وتعللهم بانه مجنون بعد ظهور الحق وثبات التصديق من اللَّه بالمعجزات والآيات المنزلة، وكراهيتهم للحق وإعراضهم عما فيه حظهم من الذكر. اهـ ملخصا.
(وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٣)
وبعد أن أشار سبحانه إلى أنهم يبتغون الهوى المنبعث من أوهامهم وشهواته وتقليدهم، وأن الحق لَا يتبع أهواءهم، بين اللَّه سبحانه وتعالى أن دعوة محمد - ﷺ - هي دعوة الحق، وأمارة الحق استقامة طريقه فهو لَا اعوجاج فيه؛ ولذا قال تعالى:
5097
(وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) الخط المستقيم هو أقرب خط بين نقطتين، فالوصول إليه قريب سهل، والصراط هو الطريق المستقيم، ولقد شبه اللَّه تعالى الحق من حيث إنه أقرب طريق للوصول إلى اللَّه تعالى، فإن اللَّه هو الحق، وطريقه الحق، ورسالته الحق، وأكد اللَّه تعالى أن رسوله يدعو إلى الحق، وأن صراطه هو المستقيم بمؤكدات:
أولها - " إن " المؤكدة الدالة على التحقيق.
والثانية - اللام في خبرها.
والثالثة - الجملة الاسمية.
وهنا نجد تفرقة واضحة بين الحق الذي يدعو إليه النبيون، والهوى الذي يدعو إليه المشركون، فاللَّه يدعو ورسوله إلى طريق مستقيم يتفق مع العقول ولا اعوجاج فيه، ولا أمت، يرتفعون فيه وينخفضون، بينما الأهواء متفرقة المخارق متفاوتة في طريق يتنازعون فيها أمرهم.
وإن هؤلاء يتنكبون الصراط المستقيم؛ ولذا قال تعالى:
5098
(وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (٧٤)
يقال: نكب عنه أي: مال عنه وانحرف إلى غيره، والصراط هو الصراط المستقيم، وقد مالوا عنه إلى مثارات الشيطان، فالصراط المستقيم هو صراط الله تعالى كما قال تعالت كلماته: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٥٣).
وقد وصف اللَّه سبحانه الذين لَا يؤمنون بالآخرة بالميل عن طريق الحق؛ وذلك لأن الذين لَا يؤمنون بالآخرة ماديون لَا يؤمنون إلا بالمادة، والإنسان روح كماله في أن يؤمن بالغيب، ولذلك كان من أوصاف المؤمنين: الإيمان بالغيب، وإن الذين لَا يؤمنون بالغيب يحسبون أن الحياة الدنيا هي كل شيء فتسلط عليهم أهواؤهم وشهواتهم، والشهوات مردية، والأهواء فاتنة النفوس، والذين لَا يؤمنون
5098
بالآخرة يحسبون أنهم خلقوا عبثا، وأنه لَا جزاء لمن أحسن، ولا عقاب على من يسيء، كما قال تعالى: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ).
* * *
يذكرون الله في الشدة ولا يذكرونه في الرخاء
قال الله تعالى:
(وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (٧٥) وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (٧٦) حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (٧٧) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (٧٨) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٧٩) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (٨٠) بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (٨١) قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٨٢) لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٨٣)
* * *
إن من شأن من لَا يؤمن باللَّه واليوم الآخر، أن يكون إحساسه خاضعا للساعة التي يكون فيها لَا ينفذ ببصيرته إلى ما وراءها فيقول في كل شيء: ما هي إلا حياتنا الدنيا، ولا يفكر إلا في الحالة التي تظله.
5099
ومن شأنه أنه إذا نالته شدة أحس بسلطان اللَّه تعالى، وأنه كاشف الضر، فإذا زال عنه الضر عاد إلى كفره، وهذا المعنى بصوره قوله تعالى: (وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ).
لقد تضرع المشركون لبلاء نزل بهم فرقَّ النبي - ﷺ -، فقال اللَّه تعالى مبينا سنته فيهم وفي أمثالهم:
5100
(وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ).
أي لو غمرناهم برحمتنا في وقت شدتهم، فأزلنا عنهم الغم، وكشفنا الضر من مرض أو بلاء لاستمروا لاجين في ظلمهم الطاغي يعمهون، الكشف كناية عن ذهاب الضر؛ لأن الضرر يكون كالغمة، وكشفها إزالة كربها، وما المراد من الرحمة وكشف الضرر أهو زواله بعد النزول، أم أنه يستمر في الرحمة بأن يتمتع بنعمة الصحة والعافية وعدم وجود الضرر؛ إن الآية تحتملهما، وإن الرحمة هي التمتع بمتع الحياة، وعدم نزول الضرر، بل هو مكشوف عنها كل ضرر يحتمل أن يوجد، ويكون المعنى أن النعمة تغرهم فيكفرونها، وعدم نزول ضرر بهم كذلك، فيستمرون في حالهم لاجِّين فيها و (فِي طُغْيَانِهِمْ) أي في ظلمهم الطاغي (يَعْمَهُونَ)، أي يترددون ويتحيرون، فإن الطاغي متردد متحير دائما، إذ إن للفطرة العادلة صوتا وإن لم يكن مجلجلا، والظلم لجلج دائما، وإذا رأيت الظالم يعنف دائما، فاعلم أن ذلك لإسكات الصوت الخفي الذي ينبعث خافتا ليسكته.
وعلى الاحتمال الآخر، وهو أن هذا يكون بعد نزول ضرر وكشفه، فإنه واضح، ولكن نحن نرجح الأول لقوله تعالى: (لَلَجُّوا) - إلى آخره؛ لأن اللجاجة استمرار الحال قائمة، والشدة فيها، ويكون المعنى أن استمرار النعمة عليهم تطغيهم بالظلم، وتغريهم بالشر.
(وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (٧٦)
الضمير في قوله: (أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ) يعود إلى مشركي مكة الذين كانوا يعاندون النبي - ﷺ -، أو يعود إلى الكفار عامة من حيث إنه بيان لحال الكفار، في أنهم إذا نزلت بهم جائحة أو شديدة خنعوا في وقت نزولها، وما استكانوا لها وما تضرعوا لها وما تضرعوا بعدها وآمنوا. كان تفسير الزمخشري على أن موضوع القول، هم كفار مكة نزلت بهم مجاعة، كما جعل موضوع الآية السابقة والآية التالية أهل مكة، وذكر أن ثمامة بن أثال الحنفي منع الميرة عن أهل مكة، وقال: لا أعطيكم حبة حنطة إلا أن يأذن رسول اللَّه، فأخذهم الله تعالى بالسنين فجاء أبو سفيان إلى رسول الله في المدينة، وقال له: أنشدك اللَّه والرحم، ألست تزعم أنك بعثت رحمة للعالمين. فقال محمد - ﷺ - بلى، فقال: قتلت الآباء، وجوعت الأبناء فنزلت هذه الآيات الثلاث (١).
وربما يكون هذا الكلام مستقيما لو كانت الآيات بعد غزوة بدر، وبعد الغزوات كلها إلى الحديبية، ولكن السورة كلها مكية ونسقها مكي، فكيف تجيء آية بمعان مدنية لم تتحقق إلا في المدينة، ولم يثبت أن هذه الآيات نزلت بالمدينة استثناء من السورة.
ولذا نقول: إن الآيات الثلاث عامة في وصف غير الكفار في كفرهم من أنهم يخنعون عند الشدائد، ويعودون إلى الاستكبار، فيخنعون، ثم يتمردون، اقرأ قوله تعالى: (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (١٣٣) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (١٣٤) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (١٣٥).
فاللَّه جل علاه كان ينزل الشدائد على الكافرين، فيذلون عند نزولها، ولكن إذا انكشفت الغمة عادوا إلى كفرهم وطغيانهم، كما رأينا في فرعون وملئه، وقد ذكر سبحانه وتعالى أن ذلك شأن كل الكافرين يكشف اللَّه تعالى عنهم الضر إذا أصيبوا به، فيخنعون في وقته، ثم يعودون إلى كفرهم بعد كشفه.
________
(١) ذكره بنحو من ذلك: الطبري في جامع البيان: ١٨/ ٣٤، من رواية ابن حميد عن ابن عباس، وراجع سيرة ابن هشام: أسر ثمامة بن أثال الحنفي وإسلامه.
5101
وقوله تعالى: (فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ) " الفاء، للإفصاح، والاستكانة معناها كما أشار الراغب، وبين الزمخشري: الانتقال من كون إلى كون، وحال إلى حال، فهي افتعل من كان، أي فيما انتقلوا من الكَوْن الذي هم فيه وهو الكفر إلى الكون الذي يدعوهم رسولهم إليه، وهو الإيمان باللَّه ورسوله (وَمَا يَتَضَرَّعُونَ) أي لم ينتقلوا إلى كَوْن الإيمان، وما اتجهوا بالضراعة الدائمة المتجددة للَّه تعالى المستمرة شأن المؤمنين الضارعين لربهم، وكان نفي المضارع لنفي تجدد الضراعة ودوامها في كل أحوال الشخص، لَا في وقت الشدة فقط.
وقوله: (وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ)، معناها أخذناهم متلبسين بالعذاب، أي أنه سبحانه أخذهم، وهم في حال العذاب وأنقذهم، ومع ذلك استمروا على كفرهم، وأنهم يستمرون في غيهم حتى يجيئهم العذاب الذي لَا يزول؛ ولذا قال تعالى:
5102
(حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (٧٧)
سار الزمخشري على المنهاج الذي ارتضاه في الآيات الثلاث، وهو أن موضوع الآيات أهل مكة، فذكر أن الباب الذي فتحه اللَّه تعالى هو الجوع، وذكر أنه أشد الأبواب.
ونحن على رأينا، وهو أن الآيات وصف للمشركين في الشدائد تنزل بهم، والكفر المستمر الذي يلابسهم في كل أحوالهم، ويكون الباب الذي يفتح عليهم من العذاب ولا يغلق - يوم القيامة.
(حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ...).
(حَتَّى) هنا تفريعية لَا غائية أي يتفرع عن هذا اللهو الذي هم فيه سائرون، لا تنزع بهم الشدائد عن شرهم أن يُفاجَأوا إذا جاء باب من الشدة لَا يغلق، ولا يرجى أن يغلق، وهو يوم القيامة، وسماه سبحانه بابًا ذا عذاب شديد؛ لأنه كالباب الذي كان مسدودا، ثم فتحه اللَّه تعالى فلا يسد أبدا، فهو باب ابتدأ بالبعث والنشور، ثم ثنى سبحانه بالحساب وأعمالهم تنطق عليهم بآثامهم، وإنها لتنطق
5102
بالحق، ثم ختم بالإلقاء في الجحيم، وكل هذا تصوير لحالهم من حيث إنهم كانوا كلما نزلت بهم شديدة رجوا بعدها نجاة حتى جاءهم ما لَا ينتهي ولا يسد أبدا، وهو يوم القيامة، وسمي بابا؛ لأنه يفتح، وينتهي إلى الجحيم التي فيها يُسَجرون.
ويقول سبحانه: (إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ) الضمير يعود إلى الباب، ويقصد ما وراءه مما يدخلون فيه (مُبْلِسُونَ) أي متحيرون، كما يقول الله تعالى: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ)، وقال تعالى: (لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ)، والإبلاس كما أشرنا هو الحيرة الشديدة مع اليأس الذي لا رجاء فيه.
بعد ذلك بين سبحانه إنشاءه للإنسان، وإنه أنشأ له حواسه التي بها يحس، وعقله الذي به يدرك، ولكنه كفر بهذه النعم، فقال تعالى:
5103
(وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (٧٨)
بين الله سبحانه وتعالى أنه منحهم أسباب الإدراك، ولم يدركوا، ولم يشكروا اللَّه تعالى على ما أنعم، فهو سبحانه وتعالى أنشأ لكم السمع لتسمعوا الخير وتدركوه، ولتسمعوا آيات الله تعالى في الرعد، فترهبوه، ولتسمعوا النذر فتتقوا، ولتسمعوا المبشرات فترجوه. والأبصار: وهي جمع بصر، لتبصروا الكون وما فيه، فتبصروا الشمس والقمر، والنجوم في أبراجها، والماء ينزل فينبت الزرع، وتكون الأرض ذات منظر بهيج، وجمع الأبصار، ولم يأت بها مفردة كالسمع لتعدد المبصرات وتغايرها وتكاثرها، وفي كل مبصر منها آية تدل على وحدانية الله وقدرته، وكل مبصر له حيز وشكل وصور مختلفة، ولبيان أن في المبصرات مناظر مختلفة تسوغ تعدد البصر لأجلها.
والأفئدة جمع فؤاد، وهو القلب، والعرب كانت تجعل موضع الإدراك والتفكير القلب، وأنه عند التحقيق أوسع إدراكا من العقل؛ لأن القلب يشعر ويحس ويتصور، وفي الشعور علم، والعقل يدرك ويتصور ويربط الأسباب بالنتائج، ويقيس بين الأشياء، وجمع الأفئدة؛ لتعدد المدركات، وسموها أو انحدارها.
5103
وإن هذه الحواس والمدارك هي التي بها علا الإنسان، وقال تعالى: (قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ) (مَا) دالة على تأكد ما قبلها أي قليلا أي قلة (مَا تَشْكُرُونَ) فلا تقومون بحق هذه النعم كما قال تعالى: (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا)، وقال تعالى: (فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْء...)، إذ كانوا يجحدون بآيات الله تعالى، وإن أول شكر للنعمة الإقرار بفضل من أنعم، وألا يسوى بغيره مما لَا يضر ولا ينفع، وليس له سمع ولا بصر ولا فؤاد، بل هي أحجار لَا حياة فيها.
5104
(وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٧٩)
الضمير يعود على ذي الجلال والإكرام، والواو عاطفة، ذرأ معناها أظهر ونشر فهو اللَّه جل جلاله هو الذي أظهرنا في الأرض، ونشرنا في أقاليم شتى في الأرض، وجعلنا ألوانا وألسنة مختلفة، وتلك من آيات الله تعالى، كما قال جلت قدرته: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ...)، وذكر سبحانه وتعالى في قوله: (فِي الأَرْضِ) إشارة إلى أن الانتشار في عموم الأرض كلها، وإشارة إلى أننا منها وبثنا الله تعالى فيها، وإليها نعود، ثم قال تعالى مبينا المآل: (وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) تقديم الجار فيه معنى الاختصاص، أي إليه وحده تحشرون، لَا يكون معكم شيء مما تدعون من دونه، وقال سبحانه:
(تُحْشَرُونَ)، أي تُجمعون محشورين غير مفرقين، بل يكونون جمعا لَا تفاوت
(وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (٨٠)
الضمير يعود أيضا إلى الله جل جلاله؛ وذلك لتربية المهابة في النفس، والمعنى: هو اللَّه الخالق الذي يحيي الإنسان كل يوم وكل ساعة من زمان، فينشئ من يحييه، ويميت من ينتهي أجله، فإذا جاء أجله لَا يستأخر ساعة، ولا يتقدم ساعة، ولكل أجل كتاب.
5104
وكما ذكر اللَّه سبحانه وتعالى أنه يملك الحياة والموت، وأننا نعاين كل يوم من يموت، ومن يولد، ويستقبل الحياة فلله سبحانه وتعالى ما هو أعظم وأكبر، له الليل والنهار، وذكر سبحانه وتعالى الليل والنهار باللام على أن ذلك في سلطانه وقبضته سبحانه للإشارة إلى السماوات والأرض في قبضته؛ لأن الليل والنهار يجيئان من دوران الأرض حول الشمس أي من صلة الأرض بالسماء وطولهما وقصرهما يتبعان ذلك، فذكر الليل والنهار يومئ إلى سلطان اللَّه تعالى الكامل على السماء والأرض وما بينهما وعلى الوجود كله، وإذا كانت الحياة والموت تصور خلق الأحياء، وأنه في سلطان الحياة والموت، فإن ذكر اختلاف الليل والنهار يصور سلطانه - سبحانه وتعالى - على كل الوجود.
ثم قال تعالى: (أَفَلا تَعْقِلُونَ) " الفاء " لترتيب ما بعدها على ما قبلها، والاستفهام للتحريض على التفكير بعقولهم، والموازنة بين الحقائق التي يرونها بأعينهم، والمعنى إذا رأيتم ذلك عينا ومحسوسا ألا تدركون بعقولكم أن اللَّه قادر على كل شيء، وعلى الإعادة بعد الموت، وأنتم ترون كل يوم حياة وموتا، والليل والنهار خلفة، ذلك هو اللَّه خالق كل شيء، ولكنهم مع ذلك ينكرون البعث ودلائله قائمة ثابتة تقرع حسهم.
(بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (٨١) قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٨٢)
5105
بل للإضراب والانتقال، وهو الانتقال من ذكر أحوال الكافرين المتشابهة جيلا بعد جيل، إلى المشركين الذين يعاندون النبي - ﷺ -، وبيان المشابهة بين قولهم وقول من سبقوهم، وأوضح هذه المشابهة في كفر الحاضرين بالبعث، كما كفر الماضون، وعقد سبحانه المشابهة في كفرهم بالبعث، فقال: (بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الأَوَّلُونَ) الذين غلب على تفكيرهم المادة المحسوسة دون الغيب المعقول، وفسر اللَّه تعالى قولهم الذي شابهوا به من سبقوهم، والتقوا مجهم على مائدة الإنكار لغير المادي المحسوس، (أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابَا وَعِظَامًا أَئِنَّا لمَبْعُوثونَ) الاستفهام للإنكار، في قوله
5105
تعالى عنهم:
5106
(أَئِذَا مِتْنَا)، وقوله: (أَئِنَّا لمَبْعُوثُونَ)، في هذا الاستفهام إشارة إلى موضع استنكارهم، فموضع استنكارهم البعث بعد أن يموتوا ويصيروا ترابا وعظاما، كقولهم: (مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (٧٨) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ...)، وكرر سبحانه الاستفهام للنص على موضع إنكارهم أو استنكارهم، وذلك جهل منهم باللَّه وهو الخالق، وهو شديد المحال.
وقد أفرط المشركون في إنكارهم فقالوا:
(لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٨٣)
إن النبي - ﷺ - وعدهم بالبعث والنشور في أول دعوته لهم، فقد قال عندما أمره ربه أن يصدع بأمر ربه، وقال له: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكينَ)، وعندما قال له عز وجل: (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ)، قال - ﷺ -: " واللَّه لتموتن كما تنامون ولتبعثن كما تستيقظون " (١) واستمر يكرر هذه الدعوة لهم غير وانٍ ولا مقصر، وبمقدار استمراره كان جحود المشركين؛ ولذا أخبر اللَّه تعالى عنهم: (لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْن وَآبَاؤُنَا هَذَا مِن قَبْلُ) أكدوا أنهم وعدوا وآباؤهم الذين أدركوا النبي - ﷺ - من قبل هذا الزمان، وقد أكدوا أنه وعدهم بقد، وباللام، ولكن مع توكيد وعدهم أكدوا إنكارهم له، فقد قالوا: (إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ) (إِنْ) نافية أي ما هذا الوعد المكرر إلا أكاذيب الأولين التي تقال في موضع السمر والتفكه بفارغ القول، جاء في مفردات الراغب في الأساطير: " قال المبرد هي جمع أسطورة، نحو أرجوحة وأراجيح، وأِفية وأثافى وأحدوثة وأحاديث "، أي أنها أخبار غير صادقة يتفكه بها، ويقطع الوقت بالسمر عليها، فليست حقا تتبع، ولا جَدًّا من
القول يتعظ به.
________
(١) سبق تخريجه.
5106
الكون يخبر بواحدانية الله
قال اللَّه تعالى:
(قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٤) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (٨٥) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٨٦) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (٨٧) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٨) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (٨٩) بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (٩٠) مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (٩١) عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٩٢)
* * *
هذه الآيات كلها توجيه للعقول إلى اللَّه تعالى خالق الكون والقوام عليه، وهي استفهامات يتعين الجواب فيها وليس لديهم سبيل لإنكار الجواب، بل الجواب متعين، لَا مناص منه، ولا سبيل لغيره؛ لأن العرب كانوا يعلمون أن اللَّه خالق السماوات والأرض (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ...)، فهم ما كانوا يجهلون الله تعالى، بل كانوا يعلمون أنه خالق السماوات والأرض، وأنه الذي يلجأ إليه في الشدائد، ويعلمون أنه واحد في ذاته وصفاته، ولكنهم في العبادة يشركون به غيره، وكأنهم يحسبون أنهم لَا يصلون إلى مقام الذات العلية، فيتخذون بأوهامهم الأوثان ذرائع، ويقولون ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى اللَّه زلفى.
5107
قال اللَّه تعالى مخاطبا نبيه آمرا له:
5108
(قُل لمِنِ الأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كنتُمْ تَعْلَمُونَ) الأمر للنبي - ﷺ - بأن يواجههم بالحقائق وما يترتب على العلم بها، ولمن الأرض؛ أي من يملك الأرض ومن عليها من العقلاء ملكية كاملة بالخلق والإنشاء والتكوين؛ أمره أن يسألهم عن ذات الأرض، وعن العقلاء فيها، ولكن لم يسأل عن غير العقلاء من الدواب، وما في باطنها من معادن وفلزات، وما في بحارها من جواهر كريمة، ونقول: إن كلمة الأرض شملت بعمومها كل ما على ظاهرها من نبات وحيوان وجماد، وما في جوفها من فلزات سائلة وغير سائلة ومعادن أكثرها في باطنها. ولأن الملكية وإن وقعت على العقلاء باعترافهم فهي على غيرهم تثبت بالأولى؛ لأن غير العقلاء أشياء تشترى وتباع، فهي أولى بالملكية، ويعلق النبي - بأمر اللَّه - الإجابة على علمهم، والتعليق يومئ إلى علمهم وأنه حقيقة، ولكن ذكر بـ " إنْ " التي تفيد الشك في وقوع الشرط، للإشارة إلى أن علمهم كلا علم؛ لأنهم يعملون بنقيضه.
ولقد بين اللَّه تعالى إجابتهم، فقال:
(سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (٨٥)
السين لتأكيد القول، أي سيكون جوابهم حتما: للَّه، لما ذكرنا من أنهم يعلمون أن خالق الكون كله بما فيه ومن فيه هو اللَّه تعالى لَا ريب عندهم في ذلك، ولكنهم يفصلون النتيجة عن مقدماتها، فعلمهم بالخالق كان يوجب عليهم ألا يعبدوا غيره؛ لأن العبادة نتيجة الخلق والتكوين، ولذا قال تعالى: (قُلْ) والخطاب للنبي - ﷺ -: (أَفَلا تَذَكَرونَ) (الفاء) لترتيب ما بعدها على ما قبلها، أي لترتيب التذكر على إيمانهم بأن اللَّه تعالى خالق الأرض ومن فيها، أي إذا كنتم تعلمون هذا وتؤمنون فألا تذكرون، والاستفهام إنكاري لإنكار الواقع، أي أنهم في الواقع لَا يتذكرون، ولا يربطون المقدمات بنتائجها، والذكر هو إدراك موجبات العقل، والحقائق التي تؤمن بها القلوب.
وقد أمر اللَّه تعالى نبيه أن يسألهم في أمر كوني آخر.
(قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٨٦) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (٨٧)
الخطاب أيضا للنبي يأمره أن يسألهم (مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْع)، والربوبية تقتضي:
أولا - الخلق والتكوين.
وتقتضي ثانيا - الإمداد برحمته.
وتقتضي ثالثا - الرقابة عليه والتنظيم له، والتسيير له، والقيام على شئونه، والسماوات وصفها بأنها سبع، ثم قال تعالى: (وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ)، أي صاحب السلطان العظيم المهيمن على الوجود كله.
وإجابتهم لَا محالة
(سيَقُولُونَ لِلَّهِ... (٨٧)
السين لتأكيد القول في المستقبل، وذلك لما
ذكرنا من قبل من أنهم يعلمون أنه لَا سلطان في الخلق والتكوين والهيمنة على الوجود إلا للَّه، ولكنهم كما قلنا: لَا يرتبون النتائج على علمهم، بل يعبدون غير اللَّه بسيطرة أوهامهم على تفكيرهم، ونجد هنا افتراقا في الجواب عن السؤال، فالسؤال: مَن رب السماوات؟ والجواب: اللَّه، وظاهر الجواب أن يكون " اللَّه " من غير لام، ونقول في الجواب عن ذلك إن السؤال عن الربوبية يقتضي السؤال عن الملكية والسلطان، كأنه قيل لمن السلطان والملك فكان الجواب (للَّه).
ويلاحظ أنه تكرر لفظ الرب في قوله تعالى: (مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْع وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيم) ونقول: إن التكرار لتغاير معنى الربوبية، ففي الأولى السؤال عن الخالق، والمنمي، والقائم بالتدبير، والتسيير، والثاني معنى الربوبية السلطان والحكم، (قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ) الأمر موجه للنبي - ﷺ - ليقنعهم بخلق اللَّه مع استحقاقه وحده العبودية (أَفَلا تَتَّقُونَ) (الفاء) كما ذكرنا لترتيب ما بعدها على ما قبلها، أي أنه إذا كان يجب عليهم أن يتقوا اللَّه ويجعلوا وقاية بينهم وبين عذابه، ما دام هو رب هذا الوجود كله، ورب السلطان فيه وحده، وهو الذي يعذب من يشاء، ويغفر لمن يشاء.
5109
ولقد أمره سبحانه أن يسألهم سؤالا ثالثا:
5110
(قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٨) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (٨٩)
الملكوت صيغة مبالغة تفيد الملك الممكن الذي لا سلطان إلا له، فالواو والتاء للمبالغة، كجبروت، ورهبوت ورحموت، وزيادة المبني تدل على زيادة المعنى، و (مَنْ بِيَدِهِ)، أي من له السلطان والملك الكامل لأقصى أنواع الملك، وهو يقبضه كما يقبض صاحب الصولجان (١).
وقد صور اللَّه سبحانه وتعالى اتساع سلطانه، وفرضه على كل إنسان وكل شيء بذي قوة يضم إلى جواره من يشاء، ويمنعه من أن تصل إليه يد معتدية، لا يمكن أن يكون لأحد جوار يمنعه سبحانه من أن ينزل من الهلاك ما شاء لمن شاء؛ لأنه فوق العالمين (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ): (إِن كنتُمْ تَعْلَمُونَ)، وأتى بـ (إِن)؛ لأن حالهم من الشرك تدل على أنهم لَا يعلمون،
________
(١) الصولجان: فارسي معرب، وهو المحجن أي العود المعوج. الذي نراه في أيدي العظماء والملوك لسان العرب " بتصرف " (صلج).
(سَيَقُولُونَ لِلَّهِ... (٨٩)
التعدية باللام لتضمن السؤال معنى الملك والسلطان، أي أن الملكوت كله للَّه تعالى.
أمر اللَّه تعالى نبيه بقوله: (قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ) (الفاء) أيضا لترتيب ما بعدها على ما قبلها، أي يترتب على علمهم بأن اللَّه تعالى خالق الأرض، ومن فيها والسماوات السبع، وربوبيته للعرش ولها، وكونه صاحب السلطان الأعظم يترتب على كل هذا أن يسألوا كيف يُسحرون، أي ينخدعون ويميلون عن الحق الراكز في نفوسهم إلى الباطل الذي هو أوهام مخيلة، وليس حقائق ثابتة معلومة لكل ذي فكر وعقل وإدراك، و (أنى) هنا بمعنى كيف، كـ " أنى " في قوله تعالى: (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ...).
فهذه الآيات تبين كيف تسيطر الأوهام على ذوي الأهواء الذين لَا يفكرون، وتقاوم الحقائق الثابتة لديهم، وتسيرهم مع مخالفتها لكل معقول، ولما كان عندهم من علم سابق، ولقد قال تعالى:
5110
(بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (٩٠) مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (٩١)
هذا إضراب انتقالي، انتقل اللَّه بهم من المجاوبة التي تكون بينهم وبين النبي - ﷺ - إذ يوجه أنظارهم إلى ما ينبئ عن الحق وهو الوحدانية، يأخذها من نتائج ما يقولون، وإذا كان الأمر كما يقول المناطقة: النتائج متضمنة في مقدماتها، وما البرهان إلا كشف ما تطويه المقدمات من نتائج، فعلمهم بأن الكون كله مخلوق للَّه تعالى متضمن وحدانيته تعالى في العبادة.
الإضراب الانتقالي هو الانتقال من المجاوبة إلى تقرير الحق مبينا بطلان ما يدعون بطريق إثبات بطلانه في ذاته، وبيان صحة نقيضه، قال تعالى:
5111
(بَلْ أَتَيْنَاهُم بِالْحَقِّ)، أي بالأمر الثابت الذي لَا يتطرق إليه الريب، (وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) جعل وصفهم بالكذب المستمر مقابلا للحق الذي جاءهم اللَّه تعالى به؛ لأن الكذب إذا مردت عليه النفس فسدت، وصارت لَا تفرق بين باطل وحق، إذ تكون نفسه غير مؤمنة، لأن الإيمان تصديق دماذعان، فلابد من الصدق لكي يكون الإيمان، ولقد قال النبي - ﷺ -: " إياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور، والفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب حتى يكتب عند اللَّه كذابا " (١).
ولقد ذكر النبي - ﷺ - أن الإيمان والكذب نقيضان لَا يجتمعان، فقد سئل أيكون المؤمن بخيلا؟ قال: يكون، أو يكون المؤمن جبانا؟، قال: نعم يكون، وسئل: أيكون المؤمن كذابا؟ قال: لَا يكون المؤمن كذابا " (٢).
ولذا كان حقا أن يقابل الحق الذي يجيء به اللَّه تعالى ويتأكد كذبهم، وقد أكد اللَّه تعالى بـ " أن " المؤكدة، وباللام، وبالوصف، بأنهم من شأنهم الكذب، وبالجملة الاسمية.
________
(١) سبق تخريجه.
(٢) نْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ، أَنَّهُ قَالَ: قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيَكُونُ الْمُؤْمِنُ جَبَانًا؟ فَقَالَ: «نَعَمْ»، فَقِيلَ لَهُ: أَيَكُونُ الْمُؤْمِنُ بَخِيلًا؟ فَقَالَ: «نَعَمْ»، فَقِيلَ لَهُ: «أَيَكُونُ الْمُؤْمِنُ كَذَّابًا»؟ فَقَالَ: «لَا».. رواه مالك في الموطأ - الجامع (١٥٧١).
5111
ولا يفتح القلب للأوهام، ووسوسة الشيطان إلا أن يمرد على الكذب؛ لأن الكذب يخفت صوت الحق والبرهان والعقل، ولقد نفى اللَّه تعالى من بعد ذلك أوهامهم، فقال:
5112
(مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ... (٩١) نفى اللَّه تعالى أن يكون له ولد، وادعاءهم أن اللَّه اتخذ ولدا فالنصارى قالوا: اتخذ اللَّه عيسى ولدا له، وبعض المشركين قالوا: اتخذ اللَّه تعالى الملائكة بنات له، واليهود قالوا: اتخذ اللَّه عزيرا ولدا له، وتعبيرهم بـ (اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ) يشير إلى احتياج اللَّه تعالى للولد، كما يقول النصارى اتخذ اللَّه عيسى ولدا ليُقتل ويكفِّر عن خطيئة آدم، واللَّه سبحانه وتعالى غفار للذنوب قابل للتوب، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُم الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ)، أي المحمود على كرمه وإفضاله دائما.
والقسم الثاني من المشركين الذين اتخذوا الأوثان آلهة من دون اللَّه أو معه، وقد نفى اللَّه سبحانه وتعالى ذلك نفيا كاملا مستغرقا، و (مِن) في قوله: (مِن وَلَدٍ)، و (مِنْ إِلَهٍ)، لاستغراق النفي، والمعنى ما اتخذ اللَّه من ولد أيَّ ولد كان، فالكل خَلْق له، ولا تفاوت أمامه، وما كان معه من إله أي إله، ومن أي مادة.
ولقد بَرْهن سبحانه، على بطلان الشرك فقال: (إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ) أي إذا كان هناك آلهة غير اللَّه. فالتنوين في (إِذًا) ينبئ عن جملة أضيفت إليها (إذا)، وتكون في معنى الشرط، ولو كان هناك لترتب على ذلك أمران محالان، ولا وجود لهما، وإذا انتفيا انتفى ما أدى إليهما، فنفي اللازم يقتضي نفي الملزوم، والأمران هما:
الأول - أن يذهب كل وأحد بما خلق، وبذلك لَا يتحقق التناسق في الوجود، وكله نسق واحد، لَا تفاوت فيه.
5112
والثاني - أن يكون بينهما التعالي، فلا يكونان في قدرة واحدة، بل يكونان على أقدار مختلفة، وفرض التساوي في القدر ينتهي إلى أن يكونوا كشخص واحد أو كإله واحد، والواحد ضد التعدد، فلكي يستقيم فرض التعدد لابد أن يفرض أن بعضهم يعلو على بعض، وذلك يؤدي إلى التنازع، وهذا يؤدي إلى الفساد، كما قال تعالى: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٢٢).
وقال في هذه الآية، (سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ)، أي تقدس سبحانه وتعالى " ما " يصح أن تكون موصولا حرفيا، ويصح أن تكون موصولا اسميا، وعلى الأول يكون المعنى تقدس اللَّه تعالى وتنزه عن وصفهم له بأن له شريكا أو اتخذ ولدا، وعلى الثاني يكون المعنى تقدس اللَّه عن الذي يصفونه به وهو أن له شريكا، والمؤدى واحد.
وقد بين سبحانه ما يؤدي إلى نزاهته نزاهة مطلقة، فقال عز من قائل:
5113
(عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٩٢)
وقدم الغيب على الشهادة؛ لأن العلم بالغيب أبلغ في الدلالة على وصف العلم من الشهادة، وقال تعالى: (عَالِمِ الْغَيْبِ) من غير التعدية بالباء، للإشارة إلى أنه يعلم الغيب كله لَا يغيب عنه شيء في الأرض ولا في السماء، لَا في الغيب ولا في الشهادة، ومن كان كذلك فهو كامل الوجود، ليس له شبيه، ولا مثيل، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، فتعالى اللَّه عما يشركون، أي فتسامى سبحانه عن أن يشركوا به شيئا، و (ما) موصول حرفي، أي تعالى اللَّه عن إشراكهم به، ويصح أن تكون موصولا اسميا.
* * *
5113
ما يوعدون من عذاب
قال تعالى:
(قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (٩٣) رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٩٤) وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ (٩٥) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (٩٦) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (٩٧) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (٩٨) حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (٩٩) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٠٠)
* * *
في هذه الآيات الكريمة تهديد بما أعده اللَّه تعالى من عذاب للمشركين بعد أن بين لهم بالأدلة القاطعة أن الشرك باطل. وإن النفوس المنحرفة تخاطب بالدليل الهادي المرشد، فإن لم تجد الهداية المرشدة، والبراهين الساطعة كان الإنذار الشديد، وقد برهن فبقي الإنذار، ابتدأ سبحانه الإنذار الشديد، بأن أشار للنبي - ﷺ - إلى أنه إنذار لَا يقع في نظر النبي - ﷺ - مثله، وأنه يحسن أن يطلب رؤيته، فقال:
5114
(قُل رَّبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعدُونَ).
ابتدأ القول بالنداء بـ (رَبِّ) لبيان أن ذلك الذي ينذر به من مقتضى الربوبية، لأن مقتضى الربوبية؛ أن يجزى المحسن إحسانا، والمسيء بما يستحق، فلا يستوي الأعمى والبصير، ولا الظلمات ولا النور. (إِمَّا تُرِيَنِّي) " إما " - هي " إنْ " مدغمة في " ما "، و (ما) جاءت لتوكيد فعل الشرط، ولذلك جاءت نون التوكيد الثقيلة رادفة
5114
لتوكيد " ما " والجواب محذوف لتذهب النفوس فيه كل مذهب، وفي ذلك إشارة إلى هوله وأنه لَا تكتنه العقول كنهه، و (ما) في قوله تعالى: (مَا يُوعَدُونَ) ما هنا موصولة بمعنى الذي، وإن اللَّه تعالى وعدهم بالعذاب في الدنيا والعذاب في الآخرة، أما في الدنيا فالنصر الذي وعد اللَّه تعالى به نبيه الأمين، والذي كان له فيه الغلب، وكان النصر حليفه دائما ولم يهزم ولا في أحُد، وأما عذاب الآخرة فهو الجحيم خالدين فيها، وبئس المصير.
5115
(رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٩٤)
ضراعة من النبي - ﷺ - اتجه بها إلى ربه بأمر ربه، و (الفاء) تفصح عن شرط مقدر، وتقدير القول إذا كان ما يوعدون به من هذا الهول الذي لَا يُكتنه، ولا يقدر قدره من العذاب، فلا تجعلني فيهم، وأظهر في موضع الإضمار لإثبات ظلمهم، وأن ذلك العذاب هو بسبب ذلك الظلم، وهذا النص يتضمن براءة النبي - ﷺ - من أن يكون ظالما، وأن يكون من الأقوام الظالمين أو في صفوفهم، فإن الرضا عن الظلم كالظلم، وإن كان دونه جزاء.
(وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ (٩٥)
يبين اللَّه تعالى أنه سيُرِي رسوله، ما وعد به الكفار من عذاب في الدنيا بالغلب والانتصار، وفي ذلك تبشير وإنذار، تبشير للنبي - ﷺ - بأن ما يعدهم من عذاب على أيدي المؤمنين، وأن اللَّه تعالى قادر على أن يُريه لنبيه في حياته قبل أن يمضي لربه، وقد أكد سبحانه وتعالى قدرته على أن يريه النبي - ﷺ - في هذه الدنيا أكدها اللَّه سبحانه بالجملة الاسمية و " إنَّ "، وإضافة الأمر إليه سبحانه بضمير المتكلم العظيم المعظم، وثانيا باللام، وبالوصف بقادر. سبحانه وتعالى.
ولقد أمر الرسول إلى أن يريه عذابهم، ويحين حينه، ألا يكون غليظا فيهم، بل يدفع بالتي هي أحسن، حتى لَا يشمس نفوسهم، بل إن التبليغ يوجب عليه أن يدنيهم، ولو كانوا مناوئين، ولذا قال الحكيم العليم:
5115
5116
(ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (٩٦)
وقد بين اللَّه تعالى لنبيه أنه في سبيل التبليغ لَا يدفع السيئة بسيئة مئلها، بل يأخذهم بالصفح، والتجاوز عن الإساءة في سبيل دعوة الحق والإيمان، فقال تعالى: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ) السيئة مفعول، (الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)، أي الحال التي تكون أحسن الردود ردا مدنيا مقربا، وليس جافيا مبعدا، والتعبير بـ أفعل التفضيل معناه أن يتخير خير ما يدفع به سفه القول، وحمق الفعال من سخرية واستهزاء وتهكم بدعوته، وبالذين معه من ذكرهم بالسوء وإيذائهم وتعذيبهم، ورد الإساءة بالأمر الحسن فضيلة ذوي السلام من الرجال الصابرين، وقوله تعالى: (نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفونَ)، أي نحن نعلم علما ليس فوقه علم بالأوصاف التي يصفونك بها أنت وأصحابك، فلا تأخذك هذه الأوصاف إلى أن تعاملهم بمثلها، إنك جئت هاديا داعيا إلى الحق ومرشدا، وما جئت مجافيا ولا معاديا، وبالرفق تدنيهم وبالجفوة والغلظة تقصيهم، فألفهم، ولا تخاصمهم، وأحمق الدعاة من يوجد خصومة بينه وبين من يدعوهم، فتثور أعصابهم لتقاوم دعوته، وقد بين سبحانه أن مغاضبة من يدعوهم من همزات الشياطين، فقال:
(وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (٩٧) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (٩٨)
يأمر اللَّه تعالى نبيه بأن يلجأ إليه، ويعوذ به من همزات الشياطين، وأن يحضروه في معالجة الدعوة الخالصة للَّه تعالى، وتبليغ الرسالة الإلهية إلى خلقه، والهمزة: هي النخسة التي تكون من وراء، واللمزة هي النخسة التي تكون من الأمام، وهمزات الشيطان هي سورة الغضب وحدته، ونسبت إلى الشيطان؛ لأنها تكون من غير الحكمة، وأمر اللَّه تعالى نبيه بأن يستعيذ من همزات الشياطين هو أمر له بأن يدرع بالصبر وألا ينساق وراء الغضب من أفعال من يدعوهم، بل يسايرهم ويلاينهم ما لم يكن في ذلك ضياع حق أو علو بالباطل، فالأمر بالدعاء بالالتجاء إلى اللَّه من همزات الشياطين، أمر له عليه الصلاة والسلام بأن يتئد، ويدعو
5116
بالحكمة، كما قال تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ...).
5117
(وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (٩٨)
أي ألجأ إليك عائذا لائذا أن يحضر الشياطين دعوتي إلى الحق، حتى لَا أخرج عن جادة الدعوة بالتي هي أحسن، وإن هذا وما سبقه تحريض للنبي - ﷺ - بألطف عبارة، وأبلغ إشارة بأن يأخذ قومه بالرفق، والأناة، والمواتاة حتى لَا ينفروا، وكذلك الشأن في كل داع لأمر، أو لجديد من الحق لم يألفه الناس لَا يغاضبهم ولا ينافرهم، بل يتألفهم، ويقرب منهم، ولا يباعدهم.
وقد أنذر سبحانه المشركين بأنهم سيندمون حيث لَا ينفع الندم، وأنهم يحاولون أن يصلحوا من أنفسهم حيث فاتهم الأجل وسبقهم الزمن، وما سبقهم لا يعود.
(حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (٩٩) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٠٠)
الضمير في (أَحَدَهُمُ)، يعود إلى المشركين الذين كانوا يرددون: (أَئذَا مِتْنَا وَكنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِئا لمَبْعوثونَ)، والذين كانوا يرددون (إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ)، هؤلاء إذا حضر أحدهم الموت، ورأى رهبته وأدرك معاني الآيات الكونية والقرآنية، والدعوة المحمدية، علم أنه كان في ضلال، وذكر أحدهم مع أن الأمر يعمهم؛ للإشارة إلى أن الضلال كان من اجتماعهم وتألفهم على الباطل، وتعاونهم على إثمه - (قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ) الخطاب للجماعة التي تقبض الأرواح من الملائكة، أو هو عندما يكون قاب قوسين من الموت، ينادي من حوله أو في نفسه يقول: ارجعون، كما يقول المستغيث عندما يدلهم عليه الأمر، أو تحدثه نفسه بذلك، كما قال تعالى: (وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ...).
وقوله تعالى:
(لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ... (١٠٠)
أي رجاء أن أعمل صالحا فيما تركت من مال وقوة، وسلطان، وكان الرجاء والتردد لأنه لَا يضمن توفيق اللَّه، أو
5117
لأن الرجاء هو ما تقتضيه الكياسة، فهو يطلبه راجيا، وقد رد اللَّه تعالى رجاءه مكذبا له في عزمته على تدارك ما فاته، وإنما هي أمنية يتمناها ويخالفها كما كان يعد في الدنيا أنه إذا ذهب الكرب عاد إلى ربه مؤمنا، فإذا كشف اللَّه عنه الضر عاد كافرا. رد اللَّه تعالى كلامه بقوله: (كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا)، أي أن هذا الرجاء كلمة نطق بها، ولا تصادف عقيدة في قلبه، وأكد هذا بقوله تعالى: (هُوَ قَائِلُهَا) أي أنه لا يتجاوز النطق بها، ولا معنى لها في القلب، كما قال تعالى: (وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ...)، (وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثونَ) الوراء تدل على ما يستقبل أي ما يجيئهم بعد قولهم، وهذا كقوله: (وَكَانَ وَرَاءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كل سَفِينَةٍ غَصْبًا).
والضمير في (وَرَائِهِم) يعود إلى جماعة المشركين، وما قاله أحدهم هو المتردد على ألسنتهم جميعا، فعاد الضمير إليهم جميعا، والبرزخ هو الحاجز المانع، قال الجوهري: البرزخ الحاجز بين الشيئين، والبرزخ ما بين الدنيا والآخرة من وقت الموت إلى البعث، وقد قالوا: إنه القبر، ونقول: هو القبر لمن يقبر، والله أعلم.
* * *
يوم القيامة وما فيه من حساب وعقاب
قال تعالى:
(فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (١٠١) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٢) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (١٠٣) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (١٠٤)
5118
أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (١٠٥) قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (١٠٦) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (١٠٧) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (١٠٨) إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١٠٩) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (١١٠) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (١١١)
* * *
جاء في المفردات في تفسير كلمة الصور في قوله:
5119
(فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ) الصور مثل قرن ينفخ فيه فيجعل الله سبحانه ذلك سببا لعودة الصور والأرواح إلى أجسادها، أي أن البعث يكون على اللَّه يسيرا، إذ ليس إلا كنفخ القائد في البوق، فيجيء الناس بصورهم وأجسامهم، وأرواحهم تلتقي بأجسامهم بعد جمع متفرق من أماكنها التي كانت فيها متفرقة، والفاء في قوله تعالى: (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ) فاء الإفصاح لأنها تفصح عن محذوف، والفاء الثانية: (فَلا أَنسَابَ بيْنهُم) الواقعة في جواب الشرط، ومعنى فلا أنساب بينهم، أي أنهم يكونون أمام اللَّه تعالى على سواء، فلا أنساب بينهم يتفاخرون بها، ويعلو بعضهم على بعض بشرفهم ولا تفاوت بينهم بسببها، إنما الأعمال هي التي تكون مناط الفخر، وسر الاستكبار: (وَلا يَتَسَاءَلونَ)، أي يكون كل في شغل بنفسه من هول اليوم العظيم، فلا يسأل المرء عن زوجه ولا عن أبيه وأخيه، وابنه، بل ترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب اللَّه شديد، وفي هذا الوقت يكون الحكم الذي ترتضَى حكومته هو العمل، وميزان الأعمال، لذا قال تعالى:
(فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٢) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (١٠٣) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (١٠٤)
الفاء للإفصاح أيضا، وقد صور اللَّه الأعمال بأنها كالمحسوسات توزن فإن كانت جيدة يقبلها الله تعالى فإنها تكون في الميزان وتنخفض كفتها لثقلها، وإن ذلك تصوير للأعمال الراجحة المقبولة التي كانت مع الحق، ونفعت الناس، وكانت صالحة، وهذا تأويل حسن للميزان، بأنه تصوير دقيق للعدالة الربانية التي لَا تبخس الناس أشياءهم، ولا تنقص الناس أعمالهم، والسلفيون الذين لَا يؤولون، ولا يفسرون ويقولون: إنه يكون يوم القيامة ميزان حقيقي توزن به الأعمال.
وقد قال تعالى في جزاء الذين يقبل اللَّه أعمالهم، ويكافئهم عليها (فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الإشارة إلى ذوي الأعمال الطيبة التي عرفت بالميزان أو كان ذكر الميزان تصوير للعدالة ودقة الحساب، أي أولئك بسبب هذه الأعمال، والإشارة إليهم موصوفين بعملهم هم المفلحون أي الفائزون بالجنة ونعيمها، ورضوان اللَّه تعالى، وهو أكبر، وفي الكلام قصر، أي هم الفائزون وحدهم، ولو كانوا في الدنيا ضعفاء، وأرقاء ومساكين، وغيرهم عتاة مستكبرون، وقد دل على القصر تعريف الطرفين فإنه يفيد القصر، على ما هو معروف في علم البيان، وقد تأكد القصر بضمير الفصل، و (هُمُ).
هذا جزاء من ثقلت موازينه، أما من خفت موازينه، فقد قال سبحانه فيه:
(وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (١٠٣)
وإن ذلك تصوير لعدل اللَّه تعالى الذي لَا يظلم أحدا، فهو كالميزان الذي توضع فيه الأعمال، فلا يظلم أحد شيئا، أو يكون ثمة ميزان حقيقي، كما يقول السلفيون الذين يقولون: إن السلف لَا يؤول، ولكن يفوض، ويقول ثمة ميزان يناسب اليوم الآخر، وقد ذكر اللَّه تعالى لهم عقابهم، وهو مكون من ثلاثة:
5120
أولها - أنهم خسروا أنفسهم، فقد خسرا المعاني الروحية التي كانت ترفعهم من دركة الحيوانية إلى مرتبة الإنسانية، وخسروا العزاء النفسي الذي كان يكشف عنهم ضراء الحياة ويجعلهم يحتملونها، وخسروا الإيمان الصادق باللَّه فهو نعمة لا يحس بها إلا المؤمنون.
ثانيها - العذاب الشديد الذي ينزل بهم، وهو الدخول في جهنم، ولهذا قال اللَّه تعالى فيه: (فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ) وقدم الجار والمجرور؛ لبيان اختصاص جهنم بخلودهم فيها، أي خالدون في جهنم لَا في غير، فليس عندهم في هذا الخلود قسمة من نعيم.
والعنصر الثالث - من الجزاء ذكره بقوله تعالى:
5121
(تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (١٠٤)
هذه أوصاف جهنم أو ما يصيب الذين ينزلون فيها ويخلدون، ولفح: معناها أصابتهم بحَرّها وسمومها، فأجسامهم حطبها، ووجوههم تصاب بحرها وسمومها، ويقال: لفحته بالسيف إذا ضربته به، فهم في عذاب دائم مستمر لَا يسلم منه جزء من أجسامهم (وَهُمْ فِيهَا كالحُونَ) وعن ابن عباس في تفسير (وَهُمْ فِيهَا كالحُونَ) يريد كالذي كلح، وتقلصت شفتاه، وسالَ صديده، والمعنى الجملي، تشوي وجوههم النار، وتتقلص شفاههم وتعبس، ويقال: إن الكالح هو الذي تقلصت شفتاه، وبدت أسنانه، وفي الجملة شاهت منهم الوجوه وتحرقت الأجسام ويقول لهم ربهم وهم في هذه الحال.
(أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (١٠٥)
الاستفهام داخل على حرف نفي، وهو للإنكار بمعنى عدم الوقوع، ونفي النفي إثبات، والاستفهام مع دلالته على النفي فيه توبيخ وتذكير بجرائمهم، وجحودهم بالحق، وهو أبلج، والمعنى قد كانت آياتي تتلى عليكم، والواضح أنها آيات القرآن، لأنها هي التي تتلى مرتلة، كما أنزلها اللَّه تعالى على نبيه محمد - ﷺ -،
5121
وأضاف سبحانه وتعالى الآيات إلى ذاته العلية؛ لأنها آياته إذ هو كلام اللَّه تعالى، وهو تشريف لها، وبيان عظم جرمهم في تكذيبهم، إذ يكذبون اللَّه سبحانه وتعالى، وقوله تعالى: (فَكُنتُم) و (الفاء) للترتيب والتعقيب، أي فكنتم فور تلاوتها تسارعون بالتكذيب من غير تأمل وتدبر، وإنهم يكذبونها ويكذبون النبي - ﷺ - مع إقامته الحجة، وعجزهم عن أن يأتوا بمثله، ويكذبون اللَّه تعالى منزل الخلق، والذي خاطب خلقه، وعدَّى التكذيب بالباء للإشارة إلى أن موضوع التكذيب آيات اللَّه، أي أنهم كذبوا النبي، وكان موضوع تكذيبهم آيات اللَّه تعالى خالق كل شيء.
وقد أجاب المشركون يوم القيامة:
5122
(قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (١٠٦)
قالوا يوم القيامة عارفين ربهم مخاطبين له بلفظة: (رَبَّنَا) إذعانا لمعنى الربوبية الذي كانت أعمالهم منكرة له، والشِّقوة بكسر الشين كرِدة، معناها الشقاوة والشقاء وهو ضد السعادة، ولعل المراد بالملاذ والأهواء والشهوات الجامحة فهي التي غلبت عليهم وأنستهم أنفسهم والحق، ويكونون قد عبروا عن المسبب وأرادوا السبب على سبيل المجاز المرسل، وكأن المعنى سيطرت علينا ملاذنا التي أدت بنا إلى هذا الشقاء، وقد صرحوا بذلك وبانها أدت بهم الشهوات إلى الضلال فقالوا: (وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ)، أي استمررنا ضالين؛ لأن " كان " تدل على الاستمرار، أي عشنا حياتنا كلها ضالين الحق مجانبين الصواب، وذكر (قَوْمًا) للدلالة على أنهم تعاونوا على الإثم والعدوان، وقاوموا الحق، وضلوا مجتمعين.
أقروا بضلالهم، ولكنهم حسبوا أنهم إن عادوا أصلحوا من أمرهم، قالوا:
(رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (١٠٧)
ابتدءوا متضرعين متقدمين في ندائهم بالربوبية الكالئة معترفين (أخرجنا منها) الضمير يعود إلى الجحيم، على ألا يعودوا إلى ما كانوا عليه من كفر وفساد في الأرض، وخروج عن كل جادة مستقيمة (فَإِنْ عُدْنَا)، أي إلى ما كنا عليه من شرك
5122
وعصيان، (فَإِنَّا ظَالمُونَ) الفاء واقعة في جواب الشرط، حكموا على أنفسهم بأنهم يكونون ظالمين، أي يكون الظلم وصفا مستمرا لهم، وكأنَّهم يومئون إلى أنهم لم يكونوا ظالمين من قبل، أو كأنهم لم يعدوا الإعلام السابق عن طريق النبيين ليس معدودًا في الإعلام، وكأنَّه لَا إعلام إلا بالعذاب، وقال تعالى: (وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ...).
أجابهم اللَّه في ذلك بقوله:
5123
(قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (١٠٨)
القائل كما يظهر من ثنايا القول هو اللَّه جل حلاله، (اخْسَئُوا) أي ابعدوا (وَلا تُكَلِّمُونِ)، ياء المتكلم محذوفة والمعنى " لا تكلموني "؛ وذلك لأن كلام اللَّه تعالى منزلة من الرضا لَا يصل إليها إلا الأبرار المتقون الذين يكلمهم اللَّه وينظر إليهم ويزكيهم، أما هؤلاء فهم مطرودون من رحمته محرومون من رضاه، وذلك رد عنيف لطلبهم أن يخرجوا كأنهم يخدعون ربهم، وحالهم في الدنيا كاشف، وقد كانوا يتضرعون في الشديدة فإذا عادوا كأن لم يتضرعوا من قبل.
وقد ذكر سبحانه أسوأ أحوالهم، وهي السخرية ممن يتضرعون إلى اللَّه تعالى، فقال:
(إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١٠٩)
وإن الله تعالى ليذكرهم بأعمالهم مع المؤمنين الذين كانوا يضرعون إلى الله تعالى، ويرجون رحمته، ويخافون عذابه، فيقول: (إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ منْ عِبَادِي) هذه الجملة في مقام التعليل لإبعاد المشركين وطردهم، ومنعهم من الكلام معه، أي أنه سبحانه وتعالى يعاملهم يوم القيامة بهذه المعاملة البعدة الطاردة جزاء وفاقا لما كانوا يعملونه مع المؤمنين، والفريق من عباده هم فريق المؤمنين الذين كانوا يؤمنون به وبرسله ويضرعون إليه، يقولون: (رَبَّنَا آمَنَّا)، أي صدقنا وأذعنَّا، وصرنا ممن اتبعوا رسولك، (فَاغْفِرْ لَنَا).
5123
وشأن المؤمن الضارع أن يحسب أن ذنوبه قبل حسناته، فيطلب الغفران قبل طلب الجزاء على الطاعة؛ لأنه يحس أنه لم يقم بحق اللَّه تعالى عليه، حتى يطالب بحق له، (وَارْحَمْنَا)، أي امنن علينا بدوام الهداية، وأدخلنا في رحمتك، دعوا اللَّه تعالى أن يرحمهم ولم يدعوه بأن يكافئهم، بل يحسبون كشأن الأبرار أن ما كان يجزيهم به من خير فهو فضل رحمته ورضوانه، ولا يحسبون أنهم عملوا ما يستحقون عليه جزاء، (وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ)، أي وأنت الذي ترحم رحمة ليس فوقها رحمة يا رب العالمين.
ماذا كان لقاء المشركين لهؤلاء المؤمنين؛
5124
(فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (١١٠)
الفاء للإفصاح عن شرط مقدر، أي إذا كانوا على هذه الضراعة، فلم يقتدوا بهم ويأتسوا، بل اتخذوهم سخريا.. قرئ بضم السين، وقرئ بكسرها (١)، وفرق بعض اللغويين بأن القراءة بالضم معناها التسخير، وبالكسر معناها الاستهزاء، ولا يعرف هذه التفرقة الخليل بن أحمد ولا سيبويه ولا الكسائي ولا الفراء بل هما لغتان بمعنى واحد، ولقد كان المشركون يسخرون من الذين آمنوا، وقوله تعالى: (حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي)، أي أن هذه السخرية جعلتهم لَا يلتفتون إلى معاني الذكر الحكيم، ولا يتدبرون آياته، ولا يعتبرون بعبره، وإنه بسبب هذا كله ينسون ذكر اللَّه تعالى فلا تمتلئ قلوبهم به، ولا يخشونه، (وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ)، أي كنتم أيها المشركون الساكنون في جهنم تضحكون منهم، والضحك يميت القلب، ولا تكون معه عبرة ولا استبصار.
________
(١) قرأها بضم السين: نافع وأبو جعفر، وحمزة والكسائي وخلف، ووافق أبو يزيد (عن المفضل عن عاصم) - جبلة، وقرأ الباقون بكسر السين. غاية الاختصار: ٢/ ٤٨٥.
(إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (١١١)
قرئ بفتح همزة (أن) (١) وتكون مجرورة بلام محذوفة، والمعنى إني جزيتهم
5124
اليوم الذي تعذبون فيه هذا العذاب الأليم بسبب صبرهم على سخريتكم، وعلى الإيذاء الذي تؤذونهم، وكان ذلك الجزاء اليوم، أي في الوقت الذي تكونون فيه في الجحيم يكون هؤلاء الذين كنتم تتخذونهم سخريا، وكنتم منهم تضحكون في نعيم مقيم، ورضوان من اللَّه تعالى ينظر إليهم، ويكلمهم، ويزكيهم.
وعلى قراءة كسر همزة " إنَّ " (١) تكون (إن) جملة في معنى تعليل الجزاء، أو بيانه، (إِنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزونَ) (٢) أي هم وحدهم الفائزون، ودل على القصر تعريف الطرفين، والتأكيد بضمير الفصل، والجملة فيها عدة تأكيدات، فهي مؤكدة بـ " أن "، وبالجملة الاسمية، وبـ " هُم "، واللَّه سبحانه رءوف رحيم.
* * *
مدة البقاء فى الأرض
قال تعالى:
(قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (١١٢) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (١١٣) قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١٤) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (١١٥) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (١١٦) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (١١٧) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١١٨)
* * *
________
(١) (إنهم هم الفائزون) بكسر الهمزة، حمزة والكسائي، وقرأ الباقون بفتح همز - " إنْ. غاية الاختصار: ٢/ ٥٨٦.
(٢) انظر السابق.
5125
إن هذه الدنيا مع أدوارهم فيها من أجنة في الأرحام إلى الخروج من بطون أمهاتهم أطفالا فشبابا فكهولا يكون الإحساس بها، كأنها يوم أو بعض يوم؛ ولذا يسألون يوم القيامة عن مدة مكثهم
5126
(قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ)، أيَّ مدة بقيتم في الأرض قد اتخذتموها مهادا وفراشا وأفسدتم بها مما أفسدتم، وعادين ذلك بالسنين (عَدَدَ سِنِينَ) هذا بيان لأصل الاستفهام بعد نوع إيهام، أي كم لبثتم من عدد السنين، فالسؤال عن عدد السنين، لَا عن عدد الشهور والأيام؛ لأنهم في ذلك الوقت يكونون قرب الخروج من أرحام الأمهات أطفالا، فالسؤال عن وقت وعيهم وهو يكون بالسنين.
وقد أجابوا: بأنهم مكثوا يوما أو بعض يوم، لأنهم كانوا فيها يتمتعون ويرتعون في الحرام فكانت قصيرة في نظرهم، ولذا قالوا:
(قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (١١٣)
(الفاء) للإفصاح، أي أنهم يجهلون عدد السنين فلا يستطيعون الإجابة، وأحسوا بأن الذي يسألهم عنده وسائل المعرفة، وعده عليهم من سنين حياتهم في الدنيا، كما أحصى أعمالهم، ووجدوها محضرة، فمن أحصى الأعمال لابد أن يعرف عدد السنين؛ ولذا (فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ)، أي الذين من شأنهم أن يعدوا ويحصوا.
وقد أكد سبحانه أنهم ما لبثوا إلا قليلا، والقلة بالنسبة للآخرة، ولذا قال عز من قائل:
(قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١٤)
(إِن) نافية، أي ما لبثتم إلا زمنا قليلا؛ لأن الدنيا متاع قليل غير باق، والآخرة خير وأبقى، فمهما تطل الآجال في الدنيا فهي فانية، والفاني قليل إذا وزن بالباقي الذي لَا يفنى، وذلك ما لم يكونوا يعلمونه إذ كانوا يقولون ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا، وما نحن بمعوثين؛ ولذا قال تعالى: (لَوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ)، أي لو ثبت وقَرَّ في نفوسكم أنكم كنتم تعلمون حقيقة هذه الدنيا، وأنها معبر طال
5126
زمنه أو قصر إلى حياة دائمة باقية، إما أن تكون عذابا مستقرا أو فانية أو نعيما باقيا، و (لو) - حرف امتناع لامتناع، أي امتنع علمكم في الآخرة لامتناع علمكم في الدنيا بأنها سنون قليلة بالنسبة للآخرة، وقد أكد نفي علمهم بـ (إن)، وبـ " كان "، وللَّه في خلقه شئون، وقد انتفى علمهم، لأنهم حسبوا أنه لَا حياة بعد الموت؛ ولذا قال عز من قائل:
5127
(أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (١١٥)
قلنا: إن الآية السابقة فيها إيماء إلى أن الحياة الدنيا أمدها قصير بالنسبة للآخرة، وإنها لجنة أبدا ولنار أبدا، وإن ذلك مع ما سبق يتبين أنه لابد من البعث، وأن حكمة الخلق والإيجاد للإنسان لَا تتحقق إلا به، ولذا قال تعالى: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا) (الفاء) تفيد ترتيب السؤال على ما قبلها، وهي مؤخرة عن تقديم، ؛ لأن أداة الاستفهام لها الصدارة، والاستفهام للاستنكار أي إنكار ما وقع، فهم حسبوا ذلك، وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين، و (أَنَّمَا) أداة حصر، أي ما خلقناكم إلا عبثا، أي من غير حكمة باهرة ظاهرة، والعبث أي من غير حكمة من الله تعالى، وعبثا منكم أي خلقناكم لتعبثوا من غير طلب مطلوب منكم، ولا غاية تتجهون إليها، لتلهو أو تلعبوا وتقولوا وما الحياة الدنيا إلا لهو ولعب، ولا محاسب يحاسبكم، (وَأَنَّكمْ إِلَيْنَا لَا ترْجَعونَ) الواو عاطفة أي وحسبتم أنكم إلينا لَا ترجعون لتحاسبوا على ما كان منكم من لهو عابث، وتقديم الجار والمجرور يدل على الاختصاص والتهديد بالرجوع إليه سبحانه وتعالى وحده بحيث لَا يكون معهم شفيع يشفع، ولا وَلي يناصر، ولا فدية تعطى، بل يؤاخذ كل على ما فعل، إن قليلا، وإن كثيرا، وإن خيرا، وإن شرا، وأكد سبحانه وتعالى رجوعهم إليه، بالجملة الاسمية، وبتصديرها بـ (إن) الدال على التحقيق، والله سبحانه وتعالى أعلم.
(فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (١١٦)
الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، فإنه يترتب على ما ذكر من خلق الإنسان والكون كله أن يكون في علو لَا يتسامى إليه أحد في الوجود، وقد وصفه سبحانه بصفات خمس هي لَا تكون إلا له سبحانه؛ إذ هو كامل الوجود، وتلك صفات كامل الوجود، وليست إلا له:
الأولى - أنه سبحانه له وحده الملك والسلطان، ولا سلطان فوق رب العالمين.
والصفة الثانية - أنه الحق الثابت الدائم، الذي لَا ثبات لغيره، وملكه قائم على الحق والعدل؛ لأنه قام على كونه خالق الوجود كله، وهو ربه، فهو الملك وهو الحق، وهو قائم على دعائم الحق، ويحكمه سبحانه وتعالى بالعدل.
والصفة الثالثة - أنه هو اللَّه وحده فلا إله غيره؛ سبحانه وتعالى؛ لأنه إذا كان الخالق وحده، وله الملك وحده، فهو الإله وحده، وقد أشرنا من قبل إلى أن العرب كانوا يعترفون بأن اللَّه وحده خالق كل شيء، وأنه واحد في ذاته وصفاته، ولكن عند العبادة يعبدون الأوثان، فاللَّه سبحانه يبين أن الخلق ووحدة الذات توجبان وحدة الألوهية.
الصفة الرابعة - أنه رب العرش، أي صاحب السلطان وحده في الدنيا والآخرة فلا سلطان لشخص أو حجر، إنما السلطان له وحده في الدنيا والآخرة.
الصفة الخامسة - أنه الكريم الذي فاض بنعمه الظاهرة والباطنة على الوجود كله، ويغفر ويرحم، والذي يقبل التوبة عن عباده، كما قال عز من قائل: (اِنِّي لَغَفَّارٌ لمِن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالحَا ثُمَّ اهْتَدَى).
وإن المشركين لَا برهان عندهم على أن ما يعبدونه استحق العبادة؛ ولذا قال تعالى: (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (١١٧)
(وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ)، أي يعبد مع اللَّه إلها آخر بزعمه من بشر أو حجر " لا برهان له به " أي بعَدِّه إلها، أو باستحقاقه لصفة الألوهية، فالضمير في (بِهِ) يعود على (إِلَهًا آخَرَ)، ونفي البرهان يقتضي أولا أنه لَا برهان على وجوده بحيث يكون نافعا ضارا، وينفي ثانيا: استحقاقه للعبادة، لأن من يعبده أعلى تكوينا منه في كثير من الأحيان، فالإنسان يعبد حجرا، وهو يسمع ويبصر، والحجر لَا يسمع ولا يبصر ولا حياة فيه، بل هو جماد، وإذا كان لَا برهان يسوغ عبادته، فإنما الوهم لَا العقل هو الذي سهل هذه العبادة، وقال تعالى في جواب الشرط: (فَإِنَّمَا حِسَابُه عِندَ رَبِّهِ) (الفاء) واقعة في جواب الشرط، (إنما) للحصر، أي لَا يحاسبه إلا ربه، وفي ذلك إنذار شديد بالعقاب الأليم فحسابه عند ربه الذي خلقه، وقام عليه، وهو القاهر فوق عباده، ثم قال تعالى: (إِنَّه لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ) وهذه الجملة في بيان نتيجة الحساب وهو أشد العقاب، والضمير في (إِنَّهُ) ضمير الشأن، أي أن الحال والشأن لا يفلح الكافرون لكفرهم، ولن يغني عنهم شيء.
(وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١١٨)
الخطاب للنبي - ﷺ - يطالبه بأن يدعو ربه ضارعا إليه بالغفران والرحمة فهو (خَيْرُ الرَّاحِمِينَ) أي الرحمن الذي لَا يصل إلى رحمته أحد وقد طلب أن يغفر من غير ذكر المغفور له، وطلب أن يرحم من غير ذكر من يُرحم، وذلك لشمول من يطلب الغفران لهم، والرحمة لهم، فهو الغفور الرحيم الذي سبقت رحمته عذابه، وفى ذلك الطلب من النبي - ﷺ - تصفية لنفسه من شوائب الحقد، والحسد، ليدني من يدعوهم، ولا يجافيهم، فإن الجفوة تبعد، والرحمة تقرب، إن اللَّه غفور رحيم.
* * *
5129
(سُورَةُ النُّورِ)
تمهيد:
هذه سورة مدنية وعدد آياتها (٦٤) أربع وستون آية، وسميت النور لقوله تعالى فيها: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ...)، وإنها لو سميت سورة الأسرة لكانت جديرة بهذا الاسم.
وقد ابتدأ بما هو آفة الأسرة، وحمايتها منه، وهو الزنى، فكان أولها - عقوبة الزناة التي تحمى الأسرة والمجتمع من أشراره (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢) الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (٣).
وأراد الله تعالى أن يكون المجتمع الإسلامي مجتمعا نزيها لَا يترامى بالسوء والفاحشة صيانة للفضيلة، ونصاب الشهادة بالزنى أربعة، فمن رمى محصنة أو محصنا بالزنى يجلد ثمانين جلدة. ، فقال: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (٤) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥)
قرر سبحانه عقوبة مادية بالجلد ثمانين جلدة، وعقوبة أدبية تبعية، وهي ألا تقبل لهم شهادة أبدا.
5130
ولكن قد يرمي الرجل زوجه، وليس معه شهود أربعة، فأوجب اللعان، بأن يتحالفا على البراءة، وقد قال تعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٦) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (٧) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (٨) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٩)، وإن ذلك فضل من الله ورحمة لأنه حمى المجتمع والأسرة من تلك الآفة الخلقية المخربة، ولأنه منع قول الزور وأن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا.
وقد أشارت السورة إلى حديث الإفك على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وعن أبيها، فقال عز من قائل: (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (١١)، وعلمنا الأدب عندما نستمع خبر سوء فلا يجوز لنا أن نذيعه بل نظن خيرا بالمؤمنين وخصوصا ما يتعلق ببيت الرسول: (لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (١٢) لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (١٣).
وإن هذا كان جرما عظيما؛ لأن رمي المحصنات أمر عظيم، ورمى زوج النبي - ﷺ - جرم هو أعظم الحرام، ويقول سبحانه: (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (١٥) وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (١٦) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧)، وإن إشاعة قول السوء عن أم المؤمنين تؤدي إلى إشاعة الفاحشة في المؤمنين (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (١٩) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (٢٠)
ويبين لنا سبحانه أن الخوض في مثل هذا من تتبع خطوات الشيطان.
5131
وينهانا سبحانه عن ذلك، فيقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ...).
والأسر لابد فيها من التراحم، ولو كان بعض آحادها قد شذ، كما شذ بعض ذوي قرابة أبي بكر الذي كان يمده بفضل ماله، فخاض في حديث الإفك على عائشة، فمنعه أبو بكر من فضله، فقال الله تعالى ناهيا أبا بكر، ومن يكون في مثل حاله: (وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢)، وقد بين سبحانه بعد ذلك إثم الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات، (... لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (٢٣) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (٢٥).
وإن الله لَا يختار لنبيه إلا الطيب من النساء؛ لأن الطيبات للطيبين والخبيثات للخبيثين، والنبي وزوجه مبرءون مما يقولون لهم مغفرة ورزق كريم، وقد بين سبحانه وتعالى حرمة البيوت، وتحريم التهجم على الأسرة بغير إذن (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٢٧) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٢٨)، ويفصل سبحانه بدقة لأحوال الاستئذان، فيقول:
(لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (٢٩).
بعد ذلك أقر الله تعالى بعض الطرف للرجال والنساء، (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (٣٠)
5132
وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٣١)، ويحث على إنكاح الأيامى غير المتزوجات، والصالحين من العباد ولو كانوا فقراء، وإن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله، ونهى عن البغاء ووسائله، ونهى عن إكراه الإماء على البغاء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا، (... وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رحِيمٌ).
وتنتقل الآيات إلى تطهير المجتمع على نور من أحكام الله تعالى، وقد ابتدأ بذكر نوره سبحانه، فقال جل شأنه: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣٥).
وإن صلاح المجتمع يبتدئ من بيوت العبادة: بالصلاة، فهي طهارة القلوب، والمجتمع الصالح ما قام إلا على طهارة النفوس، فذكر سبحانه وتعالى المساجد ومكانتها عند الله فقال تعالى: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (٣٦) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (٣٧) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (٣٨).
وقد بين سبحانه وتعالى بعد ذلك أن أعمال الكفار في ضياع ما داموا لم يؤمنوا بالله واليوم الآخر، وقد شبهها سبحانه وتعالى بعدة تشبيهات، فشبهها
5133
بالسراب الذي يكون بِقِيعَةٍ حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا، وشبهه بالظلمات (أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (٤٠).
ويوجه الأنظار إلى خلقه سبحانه وتعالى وخضوع الوجود له (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (٤١) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (٤٢).
يوجه سبحانه الأنظار إلى السحاب، وكيف يتكون (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (٤٣) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (٤٤).
ثم يوجه سبحانه الأنظار إلى خلق الدواب (وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤٥).
بعد هذا بين كيف أنزل أكبر النعم، وهي نعمة الرسالة، (لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤٦) ويذكر بعد ذلك أحوال الذين تلقوا هذه الآيات، (وَوَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٧)، وهؤلاء لَا يتجاوز النطق بالشهادة حناجرهم، (وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (٤٨) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (٤٩) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٥٠).
وهؤلاء كالأعراب الذين كانوا في عصر النبي - ﷺ -، وكالذين يذكرون في الأسماء الإسلامية، ويؤمنون بالقوانين الأوربية، ولا يؤمنون بشريعة القرآن (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا
5134
سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥١) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (٥٢).
ومن ضعفاء الإيمان من يقسمون بالله إنهم لمعهم، فيقول لهم الله تعالى: (... لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (٥٣) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (٥٤)، وبين من بعد ذلك (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (٥٥)، ويأمر سبحانه تعالى بعد ذلك بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة وطاعة الرسول رجاء رحمة الله، ويبين بعد ذلك أنه لا يعجزه المشركون في الأرض، ولكن يمهلهم، ومأواهم بعد الإمهال جهنم وبئس المصير.
بعد هذه الآيات المتعلقة بالإيمان، وأخلاق ضعفاء الإيمان ومن في قلوبهم مرض والمشركين، يعود إلى الأسرة وآداب الاستئذان، وقد تكلم في الاستئذان بالنسبة للداخلين في بيوت غير بيوتهم، ثم من بعد ذلك تكلم في استئذان الساكنين من الأسرة في دار واحدة في الاستئذان على الأسرة نفسها في الدخول إلى الحجرات المخصصة للرجل وزوجه فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٨).
الأطفال البالغون الحلم علَّمهم الاستئذان ككل آحاد الأسرة، لَا في أوقات العورات فقط، ولا تترك الآيات أحكام القواعد من النساء اللاتي لَا يرجون نكاحا أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة، وأن يستعففن خير لهن والله سميع عليم.
5135
وتكلم سبحانه في نفقات الأقارب فيقول: (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٦١).
وقد ذكر سبحانه وتعالى ما يجب أن يكون عليه المؤمنون، فقال: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٢)، ويعلِّم سبحانه المؤمنين في أدبهم مع الرسول فيقول عز من قائل:
(لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٦٣).
وختم الله سبحانه وتعالى السورة ببيان سلطانه في هذا الوجود كله (أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٦٤).
* * *
5136
معاني السورة
حد الزنى
قال الله تعالى:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

(سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢) الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (٣)
* * *
ابتدأ سبحانه وتعالى السورة باختصاصها بأنها سورة
5137
Icon