ﰡ
وقلنا: إننا نتعرف حكمتها، ولا نتعرف المراد، وأشرنا إلى أنها سيقت لتذكير العرب بأن القرآن مكون من الحروف التي تعرفونها، ومع ذلك عجزتم عن أن تأتوا بمثله، وهذا العجز دليل أنه من عند اللَّه؛ ولأن العرب كانوا قد اتفقوا على ألا يسمعوه أو يلغوا فيه إذا سمعوه، فكانت السور تبتدئ بتلك الحروف الصوتية فتنبههم فينقضون ما اتفقوا، وقيل: إنها أسماء للسور، أو للكتاب.
فالقرآن متواتر بكتابته وبقراءته وبتلاوته، فكان حفظه في الصدور مانعا من تحريف السطور، تلقى الناس القرآن فآمن قليل، وكفر كثير، وقد رجا المؤمنون ما عند اللَّه وطغى المشركون، وبغوا واعتدوا وفتنوا الناس عن دينهم، وإن اللَّه تعالى يبين أن الذين كفروا بهذا القرآن الكريم سيأتي الزمن الذي يودون فيه لو كانوا مسلمين، فيقول تعالى:
يقول العلماء في (رُبَّ): إنها لَا تتصل إلا بالاسم، فإذا دخلت على الفعل توسطت ما، وربما هي رب المخففة، وقد قرئت بضم الراء وبفتحها، وهما لغتان فيها.
وقالوا: إن (رُبَّ) تكون داخلة على الفعل الماضي، ولكنها هنا دخلت على الفعل المضارع لتأكد وقوعه فكان كفعل الماضي في معناه عند اللَّه تعالى، وإن معنى المُضي متحقق لفظا في (كَانُوا)، وربما تكون للتقليل وقد تستعمل للتكثير، والمعنى أنه ربما يود الذين كفروا في أوقات كثيرة لو كانوا مسلمين، وما
هذا إذا قلنا: إن الوقت الذي يكون فيه هذا الوُد، وذاك التمني هو قوة المسلمين، وإن قلنا: إن الوقت هو يوم يرون العذاب، فإن المعنى أنهم يتمنون أن لو كانوا مسلمين لتكون لهم النجاة، حيث لَا منجاة إلا بأن يكونوا مسلمين. وقد أشار اللَّه تعالى بهذه الآية أن المشركين، وإن استطالوا بفضل قوتهم الآن فإنهم سيتمنون أن لو كان مسلمين في المستقبل فلا يأسى النبي عليهم، والعاقبة للمتقين، ولذا قال تعالى:
كان النبي - ﷺ - يتمنى: لو يؤمنون، كما قال تعالى: (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نفْسَكَ أَلَّا يَكُونوا مُؤْمِنِينَ)، ولكن اللَّه تعالى أشار إلى نبيه أنه ليس عليه ألا يؤمنوا ما دام قد بلغ رسالة ربه، ولذا قال: (ذَرْهُمْ يَأكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ)، أي اتركهم يأكلوا ويتمتعوا... وهذه الأفعال مجزومة في جواب الأمر، وليس تركهم سبب هذه الأفعال، إنما الترك إهمال لهم كما أهملوا النذير والاستجابة، فالترك لانغمارهم في الشر، وابتدأ بذكر الأكل للإشارة إلى أن متعتهم من أفواههم، كمتعة الحيوان، فهم كالأنعام بل أضل سبيلا، ويتمتعوا تلك المتع المادية التي كان الأكل عنوانها ورسمها، ولا يفكرون إلا فيما هو من جنسه، كألوان الثياب والنساء، وما إلى ذلك وهم يغفلون كأنهم لَا يموتون، وكأنهم المخلدون، وأملهم في هذه الحياة يلهيهم عن التفكير فيما يسوقون إليه أنفسهم،
ولقد قال - ﷺ - فيما روى البزار في مسنده: " أربعة من الشقاء: جمود العين، وقساوة القلب، وطول الأمل، والحرص على الدنيا ".
وقوله: (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) (الفاء) لجان أن ما قبلها سبب لما بعدها، و (سوف يعلمون) تهديد بسوء العاقبة لسوء ما يفعلون، وطيبات المآرب واللذات الدنيوية على نفوسهم، و (سوف) لتأكيد وقوع ما يفعلون ونذيره، والجملة السامية تدل على أن حالتهم توجب اليأس من إيمانهم، وقد قال الزمخشري: " فسوف يعلمون سوء صنيعهم، والغرض الإيذان بأنهم من أهل الخذلان، وأنهم لَا يجيء منهم إلا ما هم فيه، وأنه لَا زاجر ولا واعظ إلا معاينة ما يُنذَرون به حين لا ينفعهم الوعظ، ولا سبيل إلى اتعاظهم قبل ذلك، فأمر رسول اللَّه تعالى بأن يخليهم وشأنهم، ولا ينشغل بما لَا طائل تحته، وأن يبالغ في تخليهم بما لَا يزيدهم إلا ندما في العاقبة، وفيه إلزام للحجة، ومبالغة في الإنذار، وإعذار فيه، وفيه تنبيه على أن إيثار التلذذ والتنعم، وما يؤدي إليه طول الأمل وهذه هي حال أكثر الناس من ليس على من أخلاق المؤمنين، وعن بعضهم التمرغ في الدنيا على أخلاق الهالكين، هذه حال المشركين، وقد ضرب لهم الأمثال وبين العبر بأحوال الماضين فقال تعالى:
الكتاب هنا الأجل، أي أن أية قرية أهلكت كان لها أجل معلوم، وهذا فيه تسلية للنبي - ﷺ - وتهديد لهم بأنه إذا كان قد أهمل أهل الشرك حتى طغوا وتجبروا واستكبروا فليس ذلك إهمالا لجرائمهم، وما من قرية، أي مدينة جامعة أهلكها إلا لأجل معلوم، فانتظروا كتابكم الذي كتب لكم أيها المشركون، فإما أن تخذلوا
وإذا كان قد تركهم أمدا، فلأنه سبحانه قد قرر ذلك في علمه المكنون.
ولذا قال تعالى:
وقد عبر سبحانه وتعالى هناب (أَجَلَهَا) للإشارة إلى أن الكتاب والأجل بمعنى واحد، والتعبير في الأولى بالكتاب للإشارة إلى أنه مكتوب مسجل مكنون معلوم عند اللَّه تعالى، وعبر في الثانية بـ (أجل) للإشارة إلى أن له ابتداء وانتهاء، لَا تسبق الأمة أجلها وإن طغت وبغت، ولا تستأخره، أي لَا تطلب تأخيره، ولو طلبت ما أجيبت؛ ولذا عبر في الأولى بـ (تسبق)، وفي الثانية بـ (تستأخر)، فمهما طغت لا تسبق أجلها، ومهما طلبت لَا يؤخر أجلها، وفي التعبير بقوله تعالى: (وَمَا يَسْتَأخِرونَ) إشارة إلى أن العاقبة ليست محمودة لهم، فمن شأنها أنهم يطلبون تأخيرها، ولكن مهما يطلبوا لن تؤخر، بل إنها نازلة في وقتها لَا محالة، وقد كانت الهجرة في ميقاتها، وكانت الحرب الدائرة عليهم حتى كان أمر اللَّه تعالى، وكان قدرا مقدورا، ولقد ذكر اللَّه بعض شر ما قالوا فقال:
هذه صورة من طغيانهم، طغت الأوثان على تفكيرهم، حتى حسبوا من يدعو إلى التوحيد مجنونا، وأكدوا جنونه وقالوا مخاطبين النبي - ﷺ -: (يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكرُ) النداء للبعيد، لكبر الدعوى التي يدعونها، وهي جنون النبي - ﷺ -، و (الذِّكرُ)، أي المذكر لهم ببطلان عبادة الأوثان، وأنها أحجار لا تضر ولا تنفع، وتسميته بالذكر من اللَّه تعالى لَا منهم؛ لأنهم لو علموه ذكرا ما أنكروه، والجملة كيفما كان أمرهم ساقوها متهكمين لاذعين بالقول، كما حكى اللَّه تعالى عن الملأ من آل فرعون: (قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكمْ
وقد أكدوا دعواهم بجنونه فقالوا: (إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) خاطبوا النبي - ﷺ - بذلك الخطاب الذي يبهت كل عاقل مدرك، أكدوه بـ (إنَّ) التي لتوكيد القول، وبالجملة الاسمية، وباللام، وإن هذا يدل على شدة تمسكهم بعبادة الأوثان حتى عدوا كل من يدعو إلى تركها مجنونا، ويدل على شدة طغيانهم وأنهم لَا يذعنون للحق، وإن دلت عليه دلالة واضحة بينة، ويدل ثالثا: على إمعانهم في إيذاء النبي - ﷺ - ومن معه من المؤمنين وبعد أن سارعوا بالإنكار، وادعاء أن النبي - ﷺ - جاءهم بغير المعقول، تعنتوا وزعموا أنهم يطلبون دليلا
(ما) نافية، و (لولا) نافية، إذا دخلت (لو) على (لا) - كانت بمعنى الامتناع للوجود مثل قوله تعالى: (... لَوْلا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِين)، وِتكون بمعنى الحض مثل قوله تعالى: (... لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةَ...) مع امتناع الشيء الذي يحض عليه، وهو ما قبل (لا)، فإنها تدل على الحض، وعلى الامتناع لعدم وجود شيء فقوله تعالى:
(لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ) معناها الحض على أن تأتي به الملائكة، وعلى أن الامتناع عن الإيمان لأنه لم تأت به الملائكة، بيد أنه يلاحظ أن (لا) تدل على النفي في الحال والاستقبال، و (ما) تدل على النفي في الماضي، وقد جمع في هذه الآية الكريمة بين (ما)، وفعل المضارع بعدها، فدلت على أن الامتناع عن الإيمان في الماضي لعدم إتيان الملائكة ْبه، وأنهم مستمرون على عدم الإيمان ما دامت الملائكة لم تنزل به.
وقد رد اللَّه كلامهم الدال على الإمعان في الكفر، والتعلة للإيغال فيه، فقال في آية أخرى: (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (٩).
وتعنتوا بهذا وبغيره، واقرأ ما جاء أول سورة الأنعام، فقد قال اللَّه تعالى ردا عليهم: (وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ
وفى الآية الكريمة التي نتكلم في معناها رد الله تعالى قولهم بقوله تعالت كلماته:
وقوله تعالى: (إِلَّا بِالْحَقِّ)، أي إلا بسبب باعث من الحق في ذاته بأن تكون حكمة في نزولهم، ومصلحة في خطابهم، فالله تعالى ما خلق شيئا عبثا، وما جعل الأمور سدى تنزل الملائكة حيث يبتغي المشركون ويريد الكافرون، وإن لم يكن جدوى من نزولهم، وإن حالهم حال إنكار، لَا تحتاج إلى دليل، فإن نزلوا قالوا هؤلاء رجال لَا ملائكة كما تلونا قوله تعالى: (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ).
وإنهم إن أنزلوا كما طلبوا لكانت القاضية عليهم، ولذا قال تعالى: (وَمَا كَانُوا إِذًا مُّنظَرِينَ)، أي ما كانوا مؤجلين إلى يوم القيامة إذا نزلوا، والله تعالى بحكمته العالية قدر للمشركين من العرب أن يكون من ذريتهم ومن الجاحدين أنفسهم أمة مؤمنة تحمل عبء التبليغ بعد رسول الله - ﷺ -؛ لأن شريعته - وهو خاتم النبيين - يجب أن تكون معجزته باقية ببقاء شريعته الخالدة، ورسالته الدائمة التي لا تنقطع، ولذا كانت معجزة القرآن آي من نوع الذكر الدائم الذي يحمل دلائل إعجازه، ويتحدى الأجيال إلى يوم القيامة، فقال تعالى:
(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (٩)
وقد ذكرنا في مواضع كثيرة أن معجزة القرآن من نوع الكلام؛ لأنه ليس حادثة تنتهي بانتهاء زمانها، بل هو كتاب محفوظ قائم تقرأه الأجيال، ويتحداها جميعا، ولقد روينا من قبل قول النبي - ﷺ -: " ما من نبي إلا أوتي ما مثله آمن عليه البشر، وكان الذي أوتيته وحيا، وإني لأرجو أن اكون أكثرهم تابعا يوم القيامة ".
وقد تعهد اللَّه العلي الكبير بحفظه ليخاطب الأجيال إلى يوم القيامة، فقال:
(وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) أضاف الحفظ إليه سبحانه، فكان ذلك تمكينا وتوكيدًا.
وقد حفظه اللَّه تعالى كما وعد من التغيير والتبديل والتحريف والتصحيف فأوجب حفظه مرتلا، كما قال تعالى: (.. ، وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا)،
وقال تعالى: (... وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا)، وقد علم النبي - ﷺ - صحابته ترتيله، وعلموه من بعدهم، واقتضى ذلك أن يعتمد في حفظ القرآن على الصدور، ولا يكون الاعتماد على السطور وحدها؛ لأنه يمكن فيها التغيير والتبديل، والصدور تمنع ذلك، ولا تزال تطلع على طائفة من اليهود، تريد أن تجعله كغيره من الكتب، فيبين حفظةُ القرآن الكريم إفساد فعلهم الدنيء. وحفظت شريعته من التغيير والتبديل، فهي قائمة وإن حاول بعض المنافقين الذين يدهنون للحكام تحريفها عن مواضعها بتحليل ما حرم اللَّه، واللَّه من ورائهم محيط.
* * *
قال اللَّه تعالى:
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (١٠) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (١١) كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (١٢) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (١٣) وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (١٤) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (١٥)
* * *
إن حقيقة الكفر واحدة، وإن تعددت الأجناس والأنواع واختلفت الألوان، فالإنسان هو الإنسان لَا تختلف حقيقته، وإن اختلفت الصور، فالمؤمن حقيقته واحدة، وإن اختلفت الأزمان، والكفر ملة واحدة، وإن اختلف الأقوام، فما تراه في مشركي مكة يرى في غيرهم ممن مضوا.
ولقد قال مسليًا نبيه:
وعبر سبحانه وتعالى بشيع الأولين؛ للإشارة إلى أنهم لم تكن خالية أذهانهم، بل كانت مملوءة، ولكن بزور من الفكر والقول، يتعصبون له على غير بينة، ويشيع بينهم من غير تفكر، ويتبعوه خلفا عن سلف، ويقولون: (... بَلْ
فإذا كان محمد - ﷺ - قد عانى من هؤلاء المشركين الذين يتشيعون لأوثانهم، فقد عانى الرسل قبلك نفس المعاناة من شيع الأولين، فاصبر يا محمد كما صبروا.
وقد ذكر سبحانه وتعالى حال هؤلاء الرِسلِ مع تلك الشيع المتجمعة على الباطل فقال:
ويقول الزمخشري: " إن قوله تعالى: (وَمَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ) حكاية لحال ماضيه، لأن (ما) لَا تدخل على مضارع إلا وهو في معنى الحال، ولا على ماضٍ إلا وهو قريب من الحال، ولعل مراده أنهم استمروا على هذه الحال في الماضي، فالواقع بك من سخرية واستهزاء هو استمرار لحال وقع بعضها في الماضي، ويقع الباقي معك، (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ...).
وإن ذلك شأن الإجرام في الحاضر والماضي يدخل بالاستهزاء في قلوب المجرمين، ولذا قال تعالى:
والسلك إدخال الشيء في غيره كإدخال الخيط في الإبرة، والرمح في المطعون، والسهم في الهدف، والضمير في (نَسْلُكُهُ) يعود إلى الضلال والتعصب والاستهزاء، وهذا كله مفهوم من سياق الكلام، ويصح أن يعود الضمير
الضمير في (بِهِ) يعود إلى الذكر، وهو الحق الذي يوجب الإيمان، وهذه الجملة مقررة لما قبلها، لأنه إذا كان الباطل قد دخل في قلوبهم دخول الخيط في المخيط، فإنه لَا يمكن أن يجتمع والحق في قلب واحد، فلا يمكن أن يؤمنوا بالذكر الحكيم، (وَقَدْ خَلَتْ)، أي مضت سنة الأولين أي طريقتهم.
وفى ذكر هذه الجملة السامية (وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ) إشسارة إلى أمرين:
إلى استمكان الكفر والضلال في نفوسهم، وقراره فيهما، وأنه لَا رجاء لمن كان على هذه الحال، والثاني إشارة إلى مآل أولئك الماضين من هلاك وعصف بهم، وإذا كان ذلك ما ناسب الماضين، فما يناسب الحاضرين هو سلم مخزية بعد حروب مجلية مع الحق.
وإذا كان ذلك ما كتبه اللَّه تعالى عليهم كما كتب على من سبقوهم، فلا تظن أيها الرسول الأمين أن كفرهم لنقص في المعجزة التي جئتهم بها، إنما ذلك لأنهم صدوا عن الحق، فلو جئت بالمعجزات التي لَا يماري فيها العقلاء لماروا فيها، وادعوا ضلال أبصارهم.
(وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (١٤) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (١٥)
وهكذا تجد الكفر قد استقر في قلوبهم فلا يؤمنون بأية آية ولا يصدقون أي دليل، فذرهم في غيهم يعمهون ولا تلتفت إليهم (ادْعُ إِلَى سَبيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ...).
* * *
بدائع الخلق والتكوين
قال اللَّه تعالى:
(وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (١٦) وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (١٧) إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ (١٨) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (١٩) وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (٢٠) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢١) وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ
* * *
بعد أن ذكر سبحانه حال الجحود الذي استمكن في قلوب المشركين حتى صاروا بحال يكذبون لها حسهم، وأنهم إذ كذبوا القرآن عنادا وجحودا، فإنهم يكذبون كل شيء مهما يكن مرئيا رأي العين، حتى إنهم لَا يقتنعون بما يراه حسهم، فلو عرجوا إلى السماء لأنكروا وقالوا: إن أعيننا سكِّرت، وصرنا حيارى كالسكارى، وإن محمدا خَيَّل إلينا ما لم نره.
بعد هذا أخذ يبين - سبحانه - عجائب التكوين في خلقه، حتى إن هذه المخلوقات تعلن بالبداهة عن منشئ الكون، وأنهم إذ ضلوا عن هذا، فإن شيئا لا يقنعهم من بعد هذا الضلال.
قال تعالى:
(جَعَلْنَا) بمعنى صيرناها بعد أن أنشأناها وأبدعناها على غير مثال سبق، و (البروج) جمع برج، وهو القصر، والمنزل، والبروج هنا منازل النجوم، أي أن كل نجم في منزله الذي أحله اللَّه تعالى فيه، وارتبط بغيره عبر هذا الوجود، بحيث يكون كل نجم في مكانه ومداره لَا يحول عنه ولا يحور، وكأنها مبنية بناء محكما لا فروج فيها (... وَمَا لَهَا مِن فرُوجٍ)، فالارتباط بينها ثابت بما يسمونه الجاذبية التي تشد بعضها ببعض، كما قال تعالى: (وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ)، أي أنها في منظرها وإحكامها زينة في ذاتها، وجعلها اللَّه تعالى بهجة للأعين، كما قال في آية أخرى، (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَاطِينِ...)، وكما قال تعالى في سورة " ق ": (أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ).
ومن هم الشياطين الذين حفظ اللَّه السماوات منهم، ووصفهم سبحانه وتعالى بأنهم مرجومون مطرودون من رحمته ملعونون؛ لم يبين من هم، ولم يرد في السنة من هم، فلنكتفِ بما بين، غير متزيدين على كتاب ربنا.
ثم قال سبحانه:
الاستثناء هنا يصح أن يكون منقطعا عند بعض المفسرين، ويكون المعنى لكن من استرق السمع، وعلم بعض الأمور التي لَا يصح إعلانها من أسرار هذا الكون السامي، ولا يكون ذلك إلا بتقدير اللَّه تعالى.
وعندي أن الاستثناء متصل، لأن (الفاء) في قوله: (فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مبِينٌ) وهي تفيد ترتب ما بعدها على ما قبلها تبعد أن يكون الاستثناء منقطعا، وإذا كان متصلا يكون المعنى حفظه سبحانه من كل شيطان مرجوم أن يتطاول فيعبث، وأقصى ما يصل إليه أن يسترق السمع، أي أن يأخذ معلومات عن طريق الخفية كمن يسترق السمع،) تصديقا لقوله تعالى: (إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ).
وإن هذا الذي يكون كمن يسترق السمع، ويتخذ ذلك طريقا لمعرفة ما لم يعرف، لَا ينجو، بل ينزل اللَّه تعالى عليه ما يحرقه، قبل أن يكشف علم ما نهى عنه " ولذا قال تعالى: (فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مبينٌ) والشهاب) كوكب مضيء، كما قال تعالى: (... فَأتْبَعَهُ شهَابٌ ثَاقِبٌ)، فهو نار مشتعلة أو شعلة مضيئة، ويقول ابن عباس: تصعد الشياطين أفواجا تسترق السمع، فينفرد منها، فيرمى بالشهاب.
وقد فهم بعض الناس من هذه الآية أنها تشير إلى علم النجوم، وعلم حركاتها، وتعرف أسرار الحظ من هذه الحركات، ولكنا نقول: إن الآية الكريمة بمنأى عن هذا، واللَّه سبحانه وتعالى أعلم بالكون ظاهره وباطنه. وقد أشار سبحانه وتعالى إلى بدائع خلقه في السماوات وصيانتها من كل عابث، وحفظها إلى ما شاء اللَّه تعالى أن تبقى، وبعد ذلك أشار إلى نعمائه على أهل الأرض فيما أنعم فقال تعالت كلماته:
(مَدَدْنَاهَا) بسطناها ليسهل الانتقال فيها، والإقامة في أجزائها، وتبدو مبسوطة سهلة مع أن تعاقب الليل والنهار يدلان على أنها تدور حول الشمس، وأنها كرة سابحة في الفضاء بقدر معلوم، كما قال سبحانه وتعالى: (وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا)، (وَالأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ)، فكان خلق الأرض، ومدها، ودحوها نعما مكنت الإنسان من الانتفاع بها، ويقول سبحانه وتعالى: (وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ). رواسي جمع راسٍ أي ثابت، يثبت الأرض بثقله، كما قال تعالى في آية أخرى: (وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا).
وإنه من تلاقي السماء الدنيا بالأرض يكون المطر الذي ينبت به كل شيء، وكما قال تعالى: (... وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِكُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ...)، فمن هذا المطر يكون الغيث الذي يخبت به النبات؛ ولذا قال تعالى: (وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ) وموزون معناها مناسب مقدر بقدره الذي يكفي أهلها، ويجعل إقامتهم فيها طيبة راضية، وقد وزنها خالق كل شيء ولتكون للأحياء عليها غير
ثم بين سبحانه المخلوق، ووزن حاجته فقال تعالت كلماته:
وجعل لكم في الأرض معايش، أي مكنكم من أن تتخذوا معايش لكم من طعام موفور، وثياب سابغة، ومأوى تأوون إليه، مكنكم سبحانه وتعالى، لكم ولأولادكم، وكل من يكونون في عيالكم، والضعفاء الذين تعاونونهم، مكنكم من هذه المعايش ومكن حيواناتكم الأليفة من الرزق، وعبر عن هؤلاء الأتباع بقوله: (وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ)، أي أتباعكم الذين لَا ترزقونهم أنتم، بل اللَّه تعالى هو رازقهم، ليعلموا أنهم لَا يرزقون أولادهم حتى يقتلوهم أو يؤذوهم، بل اللَّه تعالى هو الرزاق ذو القوة المتين، وقد قال البيضاوي في قوله تعالى: (وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ) " يريد به العيال والخدم والمماليك، وسائر ما يظنون أنهم يرزقونهم ظنا كاذبا، فإن اللَّه يرزقهم وإياكم، وفذلكة الحياة الاستدلال بجعل الأرض ممدودة بمقدار وشكل معينين مختلفة الأجزاء في الوضع مُحدثة فيها أنواع النبات والحيوان المختلفة خلقة، وطبيعة، مع جواز ألا تكون كذلك على كمال قدرته، وتناهى حكمته، والتفرد في الألوهية، والامتنان على العباد بما أنعم عليهم من ذلك ليوحدوه.
ولقد ذكر سبحانه وتعالى أن كل شيء عنده بمقدار، وأن كل شيء عنده خزائنه، فقال تعالى:
(وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢١)
فالمراد كمال السلطان، وإحكام الخلق والتكوين، وبسط الرزق، وتقتيره، اللَّه يبسط لمن شاء ويقدر، وقد يعطي العاصي إملاء له ليكون عقابه، وقد يمنع التقى اختبارا لصبره ورجاء ثوابه، وكل له ثواب وجزاء، فالعطاء بيد اللَّه، والتعبير بقوله تعالى: (عِندَنَا خَزَائِنُهُ) مجاز عن علمه سبحانه وتعالى المحيط بكل شيء، وبأنه سبحانه وتعالى الموزع للأرزاق، وأنه المختبر للناس بعطائه ومنعه، فهو يختبر من يعطيه بالعطاء ليكفر النعمة أو يشكرها، ويختبر من يمنعه ليصبر أو يجزع، وكل بقدر معلوم، لَا يكون عفوا من غير تقدير، بل بإحكام وتدبير.
وقد ذكر سبحانه وتعالى بعض أسباب الرزق فقال تعالت كلماته:
أرسلها أطلقها، والرياح بالجمع، ولواقح جمع لاقحة، وفي تفسير لاقحة نظران أحدهما - أنها محملة بالماء أو مثيرة للسحاب المحملة بالماء، كما قال تعالى: (... وَيُنشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ)، وكأنها شبهت بالحامل لإثمارها وإنجابها؛ وذلك لأن المطر يتكون من بخار الماء، ويتكاثف حتى يصير سحابا، والرياح تحرك هذه السحب من مكان إلى مكان حيث تصادف جوا باردًا، فتنزل أمطارا، ويزكي ذلك النظر قوله تعالى: (فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ) فذكر الماء بعد ذلك دليلا على أنها تثير السحاب المملوء بالماء، وذلك ما سوغ وصفها باللواقح. والنظر الثاني - أن تكون الرياح حاملة بذور التلقيح للأشجار فهي تحمل بذور الذكورة أو الأنوثة، وعندي أن النظرين يمكن الجمع بينهما، إذ لَا تعارض، فالرياح لواقح باعتبارها حاملة أسباب اللقاح، كما
وقوله تعالى: (فَأنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً)، (الفاء) هنا لبيان أن ما بعدها سببا لما قبلها، أي أنه بسبب هذه الإثارة التي أثارتها الرياح أنزل سبحانه وتعالى الماء من السماء، ليسقى الزرع والغراس، والأعشاب التي يكون منها طعام الإنسان والحيوان، وكل ما يدب على ظهر الأرض.
والسببية هنا ليست سببية فاعلة أو باعثة إنما هي سببية اقترأن، و (جعل)، أي جعل الله قعالى هذا سببا (فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ)، (الفاء) عاطفة على (أنزلنا)، وجعل الخطاب بالسقي للناس مع أنه لسقي الزرع والعشب والأشجار والإنسان؛ لأن سقي الإنسان أعظم وأقوى؛ ولأن سقي ما عدا الإنسان هو للإنسان في غايته ونهايته، فكان الإسقاء للإنسان في الابتداء والانتهاء، ولكنه يكفر بنعِم اللَّه تعالى: (... إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ)، ثم قال تعالى: (ومَا أَنتُمْ لَهُ بخَازِنِينَ) (الباء) في قوله تعالى: (بِخَازِنِينَ) لاستغراق النفي، أي أنتم ليس لكم أي عمل في خزن هذا الماء في السحاب، وكأنَّه شبه السحاب بمخزن للماء خزن فيها؛ إذ يخرج من الأرض بخارا ثم يتكاثف فيها ثم يوزعه سبحانه وتعالى في الأرض بتصريف الرياح، أي ليس أحد منكم معشر الناس بخازن هذا الماء ومصرف الرياح به وموزعه في كل بلد حسب حاجته، وحسب عطاء اللَّه تعالى له، سبحانه إنه هو الخلاق العليم.
وإن اللَّه سبحانه وتعالى هو المنشئ، والقائم على كل ما خلق، وهو الذي يبدأ الإبقاء والإفناء؛ ولذا قال:
أكد سبحانه أنه هو وحده المحيي والمميت أكده بضميره الأعظم، وأكده بنحن، وهو توكيد لفظي، وأكده باللام، وأكد الإحياء ولم يؤكد الممات؛ لأن الإحياء غير مرئي، وإنما تظهر آثاره في الحياة، ولم يؤكد القرآن الحكيم الممات؛
وإن اللَّه هو الذي أحيا، فهو الذي أنشا الكون كله، وهو الذي أنشأ الإنسان
من سلالة من طين كما قال تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (١٢) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (١٣) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (١٤) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (١٦).
وإن قوله تعالى: (وَنَحْن الْوَارِثونَ) يومئ إلى ما صرح به سبحانه وتعالى، من البعث في الآية التي تلونا، والآيتان تشيران إلى أن من أحيا وأمات قادر على الإعادة، كما قال تعالى: (... كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ)، (... وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْء قَدِيرٌ).
(الْمُسْتَقْدِمِينَ)، السين والتاء للطلب، وكذلك في (الْمسْتَأْخِرِينَ)، ومعنى السين والتاء هنا طلب الإيغال في التقدم والإيغال في التأخر، فالذين تقدموا إلى أبعد التقدم، والذين تأخروا إلى أعمق التأخر في علم الله تعالى، وعلمه الماضي والحاضر على سواء، ولقد أكد علمه بالمتقدم، وعلمه بالمتأخر بأبلغ المؤكدات، فأكد باللام وبقد وكلاهما لتأكيد التحقيق.
والمتقدم يشمل المتقدم في الخلق والإحياء والموت، والمتأخر كذلك، كما يشمل المتقدم في الطاعة والإجابة والمتأخر فيها، واللَّه سبحانه عليم بكل ذلك في ميقاته، وإذا كان عنده علم ذلك، فهو يعرف أين يكونون وفي أي زمان كانوا ويكونون، وعلى أي حال هم أكانوا رميما، أم كانوا في حجارة أو حديد، كما
وإذا كان يعلمهم جميعا، فإن البعث لهم جميعا، وسيحشرهم إليه جميعا؛ ولذا قال تعالى:
إن ربك خالقك ومربيك والقائم على شئون كل حي، العليم بأدواره من يوم وجد حيا إلى أن يُرمس ميتا، فالتعبير بـ (رَبَّكَ) تذكير بالتكوين واستمرار القيام على ما كون ومن كون، والضمير (هو) للدلالة على أنه هو الذي أنشأ وهو الذي يحشر، فهو حجة على الإمكان، وأن ذلك لَا يستحيل، لأنه أوجده أولا، فهو يعيده ثانيا، و (يَحْشُرُهُمْ)، أي يجمعهم، وعبر بـ (يَحْشُرُهُمْ) للدلالة على كثرتهم ولقائهم في وقت واحد؛ لأن جمعهم كذلك في وقت واحد، ويكونون أمام اللَّه تعالى في يوم واحد هو يوم تقوم الساعة وإن ذلك من دواعي حكمته، وعلمه الذي لَا يخفى عليه شيء في الأرض، ولا في السماء؛ ولذا قال تعالى في مقام الآية الكريمة: (إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ)، أي أن ذلك اقتضته حكمته.
كما قال تعالى: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ)
، وهو عليم أين يكونون، وعلى أي حال، ولو كانوا حجارة أو حديدا فسيعيدهم، إنه عليم بكل شيء.
* * *
قصة خلق الإنسان والجن
قال اللَّه تعالى:
(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٦) وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (٢٧) وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ
* * *
ذكرت قصة خلق الإنسان وإبليس قبل ذلك، وليس في ذكرها الآن تكرارا لما ذكر أولا وثانيا، بل إن لكل واحدة عبرة في ناحيتها، وكلها يشترك في أمرين ثابتين، وهو أن اللَّه تعالى كرم الإنسان، فجعله فوق الجن والملائكة، إن استقام على طريقه، والثاني أن اللَّه تعالى كرمه منذ بدء الخليقة وفي كل مرة من ذكر القصة تفصيل لأمور لم يكن في المرة الأخرى، ففي مرة ذكرها في سورة الأعراف، كيف كان الإغواء، وكيف قاسمها أنه لهما من الناصحين، وفي هذه المرة صارح بالإغواء وإصراره عليه، ونتيجة هذا الإغواء، وفي السابقات لم يكن تصريح بهذا، ولنرو القصة الحق، كما نتلوها من القرآن الكريم.
هذا خلق الإنسان أو أصل مادة تكوينه، أما الجن فقد قال تعالى:
والجان الجن الذي منه إبليس اللعين، والسموم الرياح الشديدة الحرارة التي تنفذ في المسام، وذكر أنه كان من قبل خلق آدم بدليل أن إبليس أمر بالسجود لآدم.
وهنا في هذا النص لم يذكر آدم على أنه خليفة في الأرض، وذكرت هنالك المفاضلة بينه وبين الملائكة في العلم ولم تذكر هنا، ولا تعارض بل توافق من غير مقابلة مضادة.
ويقول سبحانه وتعالى في طلب السجود:
قال تعالى:
أي شكلته على الخلق السوى في أحسن تقويم (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ) قال سبحانه بعد قوله:
توكيدان بلفظين للسجود جميعهم، أحدهما بقوله: (كلهم)، وثانيهما بقوله: (أجمعون)، فقد سجدوا سجودا مؤكدا لم يمتنع منهم أحد، وذلك لتكريم آدم، وفي سورة البقرة بيان لسبب التكريم.
وقد استثنى اللَّه تعالى إبليس من الساجدين فقال:
والاستثناء هنا منقطع على أن إبليس لم يكن من الملائكة، وكلهم كان مطالبا بالسجود الذي طولبوا به، وإذا كان منهم أو داخلا في عمومهم فإن الاستثناء يكون متصلا، وقد ظهر بهذا تمرده وشذوذه، أما تمرده وخروجه عن الطاعة فلأنه أبي، وقد أمر بالسجود، وأما شذوذه، والشذوذ ومجابهة الجموع بالباطل أساس الانحراف، فقد أشار الله تعالى إليه بقوله تعالى: (أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ).
خاطبه الخالق جلت قدرته فقال:
والمعنى أن رب الوجود ومنشئه سأله عن المسوغ الذي سوغ له ألا يكون مع الساجدين، أي شيء أثبت لك وسوغ ألا تكون مع الساجدين، مع أن سجودهم كان يستحثك على أن تسجد مثلهم.
فأجاب إبليس قال:
والنفي نفي وجحود، أي لم يكن من شأني أن أسجد لبشر خلقته
كان هذا تمردا، وغرورا، ومعارضة لما أسر اللَّه تعالى؛ ولذلك أمره اللَّه تعالى بأن يخرج مذءوما مدحورا، فقال له:
الضمير في منها يعود إلى الجنة، ورجيم معناها مطرود مرجوم بالحجارة، وسجل اللَّه عليه اللعنة إلى يوم الدين فقال تعالت كلماته:
(الفاء) في فَأَنْظِرْنِي فاء الإفصاح؛ لأنها تفصح عن شرط مقدر، والمعنى إذا كنت قد طردتني من رحمتك، ولعنتني، فأجلني إلى يوم يبعثون لأكون أنا وهم على سواء نجازى بما ترى من جزاء. أجابه اللَّه تعالى إلى طلبه فقال تعالى:
(الفاء) أيضا تفصح عن شرط مقدر، أي إذا طلبت التأجيل، فإنك من المؤجلين إلى يوم الوقت المعلوم، وهو يوم القيامة الذي تجازى فيه كل نفس ما كسبت، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، وسماه سبحانه وتعالى (الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ)؛ لأنه وقت قدره اللَّه تعالى، وهو معلوم عنده، وإن لم يكن يعلمه الناس، ولا يجليها لهم إلا لوقتها.
أخذ إبليس المرجوم الملعون المطرود من رحمته يستعد للقيام بما أوجبه على نفسه حسدا وكبرا لآدم وذريته
أقسم إبليس لأزينن لبني آدم، ولأغوينهم أجمعين، أي أنه يبتدئ بأن يزين لهم الشر ويحسنه، وأول (الشر) استحسانه، ثم يأخذهم إلى الضلال عن طريق ما يستحسنون ويشتهون، والإغواء: الإضلال.
وهكذا تجد إبليس حسد آدم، إذ أمره الله تعالى بالسجود فامتنع حسدا وعنادا وحسدا ذرية آدم؛ لأنَّ اللَّه تعالى تركه حتى غوى وضل فأراد إغواءهم، كما غوى.
وقد أدرك إبليس أنه لَا طاقة له لإغواء المخلصين منهم فقال:
أي الذين أخلصوا لطاعتك، وخلصت نفوسهم من شوائب الهوى، وتزيين الدنيا.
وهنا نجد أن الاستثناء كان من قوله: (وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) فهو استثناء من مؤكد، والاستثناء من عام مؤكد بقوله أجمعين دليلا على أن الكثرة هي التي استجابت لإغوائه، والقلة أخلصت لِلَّهِ تعالى.
وإن إبليس يذكر أن العباد المخلصين لَا يغويهم، فيقول:
الإشارة إلى الاستثناء، وهو أنه لَا يقوى على عباد الله الذين أخلصوا لله تعالى، وصاروا له تعالى وحده. والصراط المستقيم هو الطريق السوي، أي أنه لا يضل إلا من يتبعه أما من لَا يتبعه، ويكون لله، فإنه لَا يغويه ولا يضله، وفي الحق أنه لَا يستطيع أنه يغويه، فإنه لَا يقوى على إغوائه، وإن كانوا كثرة.
وقد أكد اللَّه تعالى أن عباده المخلصين ليس له عليهم سلطان، فقال تعالى:
(إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (٤٢)
* * *
عذاب أتباع إبليس
وبين سبحانه جزاء الغاوين فقال:
* * *
أقسم إبليس اللعين (لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ)، وقرر اللَّه تعالى العلي أنه لَا يتبعه إلا الضالون، بعد ذلك أن جهنم موعدهم أجمعين، كأنهم اتفقوا جميعا على مكان يلتقون فيه تحقيقا لوعد وعدوه بمبادلة التزيين والإغواء؛ ولذا قال تعالى مصورا ذلك اللقاء فقال تعالى: (وَإن جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ)، وفي ذلك من التهكم بهم، وكأنَّهم في أخذهم بأسباب استحقاقهم لجهنم ودخولهم فيها، كانوا قد اتفقوا على موعد يلتقون فيه جميعا، وهو جهنم نار اللَّه الموقدة.
وقد أكد سبحانه دخولهم جهنم بـ (إنَّ) المؤكدة والجملة الاسمية، و (اللام) في قوله تعالى: (لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ)، وبالتأكيد اللفظي في قوله تعالى:
(أَجْمَعِينَ).
ولكثرتهم كثرت أبوابها لتتسع لهم في دخولها؛ ولذا قال تعالى:
فبعض المفسرين فهم أن السبعة عدد حقيقي، وأنهم في جهنم مراتب حسب هذا العدد وعلى مقدار ذنوبهم، ويشير إلى هذا قوله تعالى: (لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مقْسُومٌ)، أي أن كل طبقة من طبقاتها لها باب قد قسم لها جزء من المعذبين يدخلون فيه من غير سلام، بل مدفوعين، ملقون فيها كما تلقى أهمال الأشياء.
وقد ذكر هذا الفريق من المفسرين طبقات النار، وهي جهنم، ثم لظى ثم الحطمة، ثم السعير، ثم سقر، ثم الحميم، ثم الهاوية، ويقول البيضاوي في توضيح هذا الرأي: " ولعل تخصيص هذا العدد لانحصار المهلكات في الركون إلى المحسوسات، ومتابعة القوة الشهوية، والغضبية لأن أهلها سبع فرق لكل باب منهم من الأتباع جزء مقسوم أفرز لها، فأعلاها للموحدين العصاة، والثاني لليهود، والثالث للنصارى، والرابع للصابئين، والخامس للمجوس، والسادس للمشركين، والسابع للمنافقين ".
وإنا لَا نوافق العلامة البيضاوي ومن نقل عنه:
أولا: لأن ذلك لَا يعلم إلا بالتوقف.
وثانيا: لأن عصاة المؤمنين ليسوا داخلين في الذين تواعدوا مع إبليس على أن يكون موعدهم جهنم، ولأن هذه الأسماء أوصاف للنار، وليست أقساما لها.
وعندي أن العدد سبعة يذكر في اللغة العربية للدلالة على الكثرة لَا على
خصوص العدد سبعة.
* * *
قال الله تعالى:
(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٤٥) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (٤٦) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (٤٧) لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (٤٨)
* * *
هذه نعم المتقين، والمتقون هم الذين جعلوا بينهم وبين الشر وقاية، واتقوا غضب اللَّه تعالى، وعملوا على إرضائه وجانبوا الفواحش، ووسوسة إبليس، وقد ذكر اللَّه تعالى لهم نعما أربعة أولها: نعيم مادي، وثانيها: أمن وسلام واطمئنان، وثالثها: راحة لَا نصب فيها، ورابعها: بقاء وخلود.
أما النعمة الأولى وهي المادية فهي المبينة بقوله تعالى:
والنعمة الثانية: الأمن وإقرار السلام، وهذا أشار سبحانه وتعالى إليه بِآيتين كريمتين هما قوله تعالى:
أما الأولى: فإن الملائكة يطلبون إليهم أن يدخلوها بسلام يجمعهم فيها سلام، حال كونهم آمنين من الأشرار وأسقام النفوس ومدافعة الأعداء، فلا
(وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (٤٧)
نزع اللَّه تعالى ما في النفوس من الغل الذي يتكون من الحقد، والحسد وحب الاستعلاء؛ لأنه سبب في شقاء الدنيا، فالناس يشقون إذا ملأ الحقد والحسد قلوبهم، فالحاسد في هم دائم، وتحب ملازم، وكلما تكاثرت النعم على المحسود تفاقمت النقم على الحاسد، ومن كان في قلبه حقد أوجب انتقاما، فهو يضم بين جنبيه نارا تلهب دائما، وتؤجج أضغان القلوب.
وقد صور النفوس المطمئنة فقال: (إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ)، أي جالسين على سرر جمع سرير، متقابلين بوجوه مقبلة فرحة مستبشرة، وهذه نعمة أخرى من أجل النعم الإنسانية وهي نعمة الأخوة والمحبة المتوادة المتراحمة، ويروى أن المجاهد الأعظم بعد رسول اللَّه عليا كرم اللَّه وجهه عندما قرأ هذه الآية قال: " أرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير منهم " رضي اللَّه تعالى عن أولئك الأطهار، ولعن الأشرار الذين بثوا بينهم وتاب على من هو أهل للتوبة منهم.
والنعمة الثالثة: نعمة الراحة، وعدم المغالبة، وقال فيها:
أي تحب، بل فيها الراحة المطلقة للجسد، والسرور النفسي المستمر، ونعمة المحبة والمودة والصفاء، وتلاقي القلوب.
وإنها نعم لَا يخشى فواتها، بل هي خالدة؛ ولذا قال تعالى: (وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ) ذكر الضمير (هُم) لتأكيد القول، وقدم (مِنْهَا) للدلالة على
نعمائها وجلالها، ونفي الوصف (بِمُخْرَجِينَ) للدلالة على أنه لَا يمكن أن يوصفوا بأنهم مخرجون، فهو نفي للإخراج بأبلغ وجه، أي ليسوا من شأنهم أن يخرجوا؛ لأنه مقيم فاض اللَّه تعالى به عليهم بسبب تقواهم وبرهم وهو الكبير المتعال.
* * *
قال اللَّه تعالى:
(نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٤٩) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (٥٠)
* * *
الخطاب للنبي - ﷺ -، وهو تقريب لمن في قلوبهم رجاء الإيمان، وترهيب لن يصرون على الشر إصرارا، والتنبيء الإخبار بالأخبار الخطيرة ذات الشأن، وأي خطر أعظم من أن يكون منعا لليأس من رحمة اللَّه تعالى، وأعظم من منع يستمر في غيه، سادرا عن طريق اللَّه تعالى.
وإن هذا الغفران من مقتضى رحمته لأنه يريد لعباده أن يكونوا أطهارا وأن يموتوا أطهارا، ومن تدنس من أدناس العصيان يطالبه بأن يرحضه عن نفسه، ليغفر له برحمته، ويريد من عباده أن يعلموا الصبر والشكر نهاية أعمالهم في الدنيا.
وإذا استمروا في غيهم ولم يتوبوا إلى ربهم، فليرتقبوا عذابه؛ ولذا قال تعالى:
أي العذاب المؤلم الذي يكون شديدا، قد أكد سبحانه وتعالى شدة عذابه بالضمير (هُوَ)، ونسبة العذاب إليه، وقصر الإيلام على عذابه، أي أن عذابه أليم في ذاته، وكأنه لَا إيلام في غيره بجوار إيلامه.
* * *
من قصة إبراهيم وضيفه ولوط وقومه
قال الله تعالى:
(وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (٥١) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (٥٢) قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (٥٣) قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (٥٤) قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (٥٥) قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (٥٦) قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٥٧) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٥٨) إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٩) إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (٦٠) فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (٦١) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (٦٢) قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (٦٣) وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (٦٤) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ
* * *
في الآيات السابقة طلبوا أن ينزل معه ملائكة ليؤمنوا به، وقد رد اللَّه تعالى قولهم بأنه: (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ)، وفي هذه الآيات التي تلونا نزل ملائكة اللَّه تعالى إلى الأرض فكانوا في مظهرهم بشرا ورجالا ولكن الروحانية تجعل من يخاطبهم - ولو كان نبيا من أولي العزم من الرسل - يوجل منهم؛ لأن جنسهم غير جنسه.
أي نسلم سلاما، وقوله تعالى: (دَخَلُوا عَلَيْهِ) تدل على معنى المفاجأة إذ لم يكن يترقبهم، وإنهم إذ فاجئوه طمانوه، فرددوا السلام، وجاءت بالنصب مفعول مطلق لفعل محذوف، أي نُسَلِّم سلاما، أبدى إبراهيم - ﷺ - بالمفاجأة وجله، ولإحساسه بأنهم ليسوا مثله فقال: (إِنَّا مِنكُمْ وَجِلُونَ)، أي خائفون لأنهم دخلوا مفاجئين، والوجل: اضطراب في النفس يحدث خوفا.
وهو إسحاق - ﷺ -؛ لأنه ذكر في آية أخرى بأن امرأته عجبت لأنها كانت عاقرا وعجوزا، وذلك يعين أنه إسحاق - ﷺ -، ووصف الغلام بأنه (عَلِيم) ليتم معنى البشارة، لأنها لَا تكون كاملة إلا إذا كان عالما وليس خاملا، وأولئك رسل الله تعالى يتكلمون عنه، وهو لَا يعلم الغيب المكنون في لوح محفوظ، كانت المفأجاة الثانية بهذه البشرى وإن كانت مفاجأة سارة لَا توجب وجلًا ولكن توجب عجبا؛ ولذا قال:
قال الرسل:
الحق هو الأمر الثابت، واللَّه لَا يبشر إلا بالحق الثابت، فلا تكن من الداخلين في صفوف القانطين من رحمة الله الذين يحسبون أن الأسباب الجارية بين الناس تُعجِز إرادة اللَّه تعالى الفاعل المختار الذي هو خالق الأسباب والمسببات فلا يتقيد بها.
تنبه أبو الأنبياء لرحمة ربه بعد أن نبهوه، فقال:
نفى خليل الله عن نفسه القنوط بإثبات أن القنوط لَا يكون إلا من الذين يضلون عن اللَّه، ولا يعرفون قدره، وأنه لَا يقيده شيء من خلقه إنه فعَّال لما يريد.
والاستفهام هنا إنكاري بمعنى النفي، والمعنى لَا يقنط من رحمة اللَّه إلا الذين ضلوا عن الحق وغاب عنهم.
وإنه بإحساس النبوة، وإيمانها قام في نفسه أنهم جاءوا لأمر أخطر من هذا، ولذا قال لهم:
(الفاء) لربط ما بعدها بما قبلها، أي
وصفهم سبحانه وتعالى بالإجرام؛ لأنهم لم يكفروا فقط، بل أضافوا إلى الكفر فقد الطبيعة الإنسانية. فشذوا بفاحشة ما سبقهم بها أحد من العالمين وإذا كانوا قد وصفوهم بأنهم مجرمون، فمؤدى ذلك أنهم جاءوا لإنزال العقوبة بهم، كما صرح بذلك في آية أخرى فكان لابد أن يتشوف إبراهيم خليل اللَّه لمعرفة مآل ذوي قرابته؛ ولذا قال تعالى على لسان الملائكة:
أي أن الهلاك واقع بالمجرمين لَا محالة، ما عدا آل لوط فإنهم ناجون منه، واستثناء امرأته؛ لأنها ما كانت مؤمنة بلوط، ونبوته؛ ولذا كان استثناؤها من الناجين، فقال تعالى:
وهنا ملاحظتان:
الملاحظة الأولى: في قوله تعالى: (قَدَّرْنَا)، أي كان قدرنا الذي لَا ينقض أن تكون غير مؤمنة مع أنها مع نبي من أنبياء اللَّه.
الملاحظة الثانية: وصفها أنها من (الْغَابِرِينَ)، أي المجرمين المستحقين للهلاك، وقد أكد أنها منهم بـ (إن) المؤكدة، وبـ (اللام)، وباندماجها فيهم تجمع صفة الموصوفين بالإجرام.
ذهبوا إلى قوم لوط وحكى اللَّه تعالى مجيئهم فقال:
لم يذكر اللَّه تعالى تحيتهم، ولعل ذلك اعتمادا على ذلك هذه التحية مع إبراهيم، وأهله، ومهما يكن فلم يذكر سبحانه أنهم حيوهم، ولذا ذكر أن جواب لوط - ﷺ -، قال:
وقد أجاب الملائكة بما يلقي بالاطمئنان في قوله:
والذي كانوا يمترون فيه هو تهديدهم بالعذاب الشديد إن
أي الأمر الثابت الذي لَا ريب فيه، (وَإِنَّا لَصَادِقونَ) في إخبارنا إياك، وأكدوا صدقهم بـ (إن)، و (اللام)، والجملة الاسمية، وإن هذا تأكيد له بأن يذهب عنه الخوف، وإنهم ما جاءوا لإرهابه، ولكن جاءوا لإنزال ما وعد اللَّه تعالى له بنصرته.
ولذا أمروْ أمر إحاطة ومودة وإنفاذ
الأمر الأول: أمرهم بالخروج في جنح الليل، فالإسراء: السير ليلا، و (قطع) أي بعد قطع الظلام من الليل، أي في شدة إظلامه.
والأمر الثاني: أن يتبعوا أدبارهم بأن يخرجوا من طريق لَا يواجهونهم فيه وإقبالهم، بل يسيرون في طريق يستدبرونهم فلا يلقونهم.
والأمر الثالث: لَا ينظر إلى ما وراءه، فإنه يكون الهول والعذاب النازل بهم حيث تقشعر من هوله الأبدان.
والأمر الرابع: أن يمضوا حيث يؤمرون بوضع النجاة، ويقيمون حيث يكونون بعيدين عما أصاب أولئك الذين طغوا في أنفسهم، وأفسدوا الإنسانية، والفطرة السليمة.
هذا ما أمر به أولئك المرسلون من ملائكة اللَّه الأطهار، لوط ومن معه من الأبرياء، أما ما قضى بالنسبة لهؤلاء الأنجاس الأشرار، فقد أخبروا به فقالوا:
أي بلغناه وأفضينا إليه بما قضى الله تعالى وقدره، وذلك الأمر العظيم الشأن الخطير في ذاته، وهو أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين.
هذا ما كان من أمر رسل اللَّه الأطهار وأمر لوط الطاهر هو ومن معه، وسط أرجاس هؤلاء المفسدين، ولكن ماذا كان أمر أولئك الأنجاس عندما رأوا ملائكة اللَّه ونور اللَّه يحف بهم يسعون في المدينة، لقد رأوهم فسولت لهم نفوسهم ما هم فيه واستبشروا، فحسبوها أمرا شبعا لهم، وقد حكى سبحانه وتعالى ذلك عنهم فقال:
(أَهْلُ الْمَدِينَةِ) هم أولئك شذاذ الإنسانية، الذين نشروا فاحشة ما سبقهم بها من أحد من العالمين، جاءوا لما رأوا رسل اللَّه الأطهار، (يَسْتَبْشِرُونَ): يطلبون البشرى التي توافق أهواءهم، وبدرت بوادر الشر الجهول منهم وأدرك نبي اللَّه لوط ما جال بخواطرهم، وهو بهم عليم:
ضيفى يعني ضيوفي، ولم يخبرهم أنهم الملائكة لأنهم لَا يدركون، فكان نبي اللَّه الأريب الذي يذكر لهم ما تدركه عقولهم، وقوله تعالى: (فَلَا تَفْضَحُونِ) بأن يكون منكم ما يؤذي هؤلاء، فإيذاؤهم إيذاء لي، وخزي وعار، وأنتم جديرون أن تحفظوا جواري، وإن كنتم فاسقين في ذات أنفسكم.
ولكنهم الشواذ، وفي هذا الصنف الصفاقة المستمكنة في نفوسهم، لم تُنْخهم مروءة؛ لأنها ليست عندهم ولم يخلقها اللَّه فيهم
سول لهم الفساد، والهوى الجامح، والشذوذ في الطبع أن يلقوا تبعة فجورهم مع الملائكة على نبي اللَّه لوط (قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ) (الواو) عاطفة على فعل محذوف، والاستفهام للإنكار بمعنى نفي الوقوع، ونفي
ولا نرى تبجحا من العقلاء غير الفاسدين إلا قول بعض الطغاة، وقد ذُكِّر بأنه قتل من قال محمد - ﷺ -: " تقتلك الفئة الباغية "، فقال لمن يحطون على هواه: إنما قتله من أرسله!!.
ضاق نبي اللَّه تعالى لوط بهم ذرعا، فقال:
فتزوجوهم شرعا، ويَكُنَّ لكم بحكم زواج صحيح.
هذا أبلغ ما وصل إليه العنت منهم، وأبلغ ما وصل إليه الرفق في القول بهم، ولكن قضاء اللَّه تعالى قد نفد فيهم جزاء بغيهم وشذوذهم بإرادتهم؛ ولذا قال تعالى في حالهم عند إنزال العذاب بهم:
(اللام) في (لَعَمْرُكَ) لام القسم أو الابتداء، و (عمرك) مبتدأ وخبره محذوف تقديره قسمي، وهي جملة عربية مشهورة في القسم بعمر من يخاطبه، وهو النبي الطاهر يقسم بعمره المبارك، وقوله تعالى:
(إِنَّهمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) جواب القسم، والسكرة هي ضلالة الطغيان فهي تسكر صاحبها فلا يدرك الحق الحق والصواب، و (يَعْمَهُونَ) معناها يتحيرون تائهين لَا يدركون حقا، ولا يطيعون رشيدًا.
ثم قال في وصف العذاب:
كان بالأرض رجفة شديدة هزت قشرة الأرض وتكسرت، فانخفض بعض أجزائها، وعلا الآخر، وبذلك ابتلعت الأرض ديارهم بمن فيها، ووضح سبحانه وتعالى ذلك بقوله:
أي أنزلنا الأحجار نزولا متتابعا كالمطر الدائم المستمر، والسجيل: الطين المتجمد أو طين سجل لهم واقع بهم في كتاب من عند ربهم.
وعبر هنا بالإشراق باعتباره أول النهار، وهو وقت، إذ المناسب في ذلك أن يستقبلوا النهار المشرق بتلك الداهية الدهياء التي تجعل نهارهم أسود من قلوبهم المربدة بأقبح السوء.
ولقد ذكر سبحانه ما يدعو المنكرين إلى الاعتبار بقصص قوم، وأشباههم وإن ما نزل بهم هو سبيل دائم مستمر ينزل بالفساق، فيعتبر المؤمنون، فقال تعالى:
أي لعلامات واضحة مرشدة،
(لِّلْمُتَوَسِّمِينَ) أي للمفكرين، الذين يتفهمون الأمور ويتعرفونها بمنطق العقل المستقيم، فيقيسون حاضرهم على غيرهم، ويعتبرون بما نزل بالسابقين، وأنه نازل بهم إن عملوا عملهم وساروا في طريقهم، واتخذوا طريقتهم.
وذلك لأن هذه سنة مستقيمة غير متخلفة؛ ولذا قال تعالى:
الضمير في (إنها) يعود على الآيات، أي وإن هذه الآيات لثابتة بطريق مستقيم مقيم لَا يتخلف أبدا، فإنها سنة اللَّه تعالى في خلقه وحكمته البالغة في أمره؛ ولذا قال تعالى:
أي إن في هذا الأمر المذكور بما فيه قصة لوط لآية أي لعبرة للمؤمنين، أي للذين أوتوا قلوبا مؤمنة مذعنة للحق، معترفة لَا تماري في الحق، ولا تجادل في اللَّه تعالى، وهو العليم الحكيم.
وهنا ملاحظة أن الآيات ذكرت بلفظ الجمع في قوله تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ) وهنا ذكرت بالمفرد في قوله تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ) فما السر في ذلك؟.
* * *
ثمود ومدين
قال اللَّه تعالى:
(وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (٧٨) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ (٧٩) وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (٨٠) وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (٨١) وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ (٨٢) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (٨٣) فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (٨٤)
* * *
(الْأَيْكَة) وهي جماعة الشجر الملتف المتكاثف، فهي الغيضة الربعة الممتلئة، وجمعها (أيك) وفرق بين المفرد والجمع بالتاء في المفرد.
و (أَصْحَابُ الأَيْكَة) هم قوم شعيب - عليه السلام -، وقد صرح بذلك في سورة الشعراء، فقال تعالى: (كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (١٧٦) إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ (١٧٧) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٧٨) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٧٩).
إلى آخر الآيات الكريمات، وقوله تعالى:
والشأن (كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ)، وهذه هي خبر كان، واللام لام التوكيد، أو المزحلقة كما يعبر النحويون، وكانوا ظالمين؛ لأنهم أشركوا، وإن الشرك لظلم
وقد بين اللَّه سبحانه وتعالى أن الظلم عاقبته وخيمة، فقال:
الانتقام ليس هنا التشفي من الجاني والأخذ بغير حق، بل معناها إنزال العقوبة مماثلة لما ارتكبه، ولأنه كان ظلما متواليا، واعتداء مستمرا، فكان العقاب مماثلا له، وشفاء لغيظ من جنى عليهم.
وإن أولئك ليعرفون أن ذلك أمامهم، فالمثُلات بين أيديهم (لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ)، أي طريق بين واضح ينتهي بما انتهى به الأول، والإمام هو ما يعلن ويؤتم به، وأمامهم المثُلات البينة الموضحة، وإن عليهم إذ يعتبروا بغيرهم، ولكنهم ضلوا عن بينة والعقوبة معلومة بينة.
هذه إشارات إلى قصة مدين مع نبيهم شعيب، والجزاء الذين نالوه.
ومثلها قصة أصحاب الحجر، وهم ثمود قوم صالح، وقال سبحانه وتعالى فيهم:
جاء في تفسير القرطبي: " الحجر، ويطلق على معان منها حجر الكعبة، ومنها الحرام كما في قوله، وأنعام وحرث حجر قال تعالى: (... حِجْرَا مَّحْجُورًا)، والعقل كما في قوله تعالى: (... لِذِي حِجْر)، والحجر ديار ثمود وهي المراد منها وهي مدينة بين مكة وتبوك، وهو الوادي الذي كانت تسكنه ثمود، وقد مر عليه النبي - ﷺ -، وهو ذاهب إلى غزوة تبوك، ونبه جيشه إليه، وإلى ما فيه من عبر، وقد جاء ذلك في كتب السير، وصحاح السنة،
واللَّه تعالى يقول: (وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ) مع أنهم كذبوا رسولا واحدا، وهو صالح - ﷺ -، والجواب عن ذلك أنه ذكر أن صالحا - ﷺ - بعث لهم، وكذبوه، ولكن لَا يمنع ذلك أنه بعث فيهم غيره وكذبوا، على أنهم إذا كانوا كذبوهم جميعا فيما يدعوهم إليه من التوحيد، ومكارم الأخلاق فقد كذبوا الرسل جميعا لأن هذه دعوتهم أجمعين، فمن كذب واحدا في هذا فقد كذبهم جميعا.
وقال تعالى:
أي قدمنا لهم آياتنا الدالة على توحيد الله تعالى وبعثة رسولهم صالح إليهم، وإذا قال قائل: إن المذكور في القرآن معجزة واحدة، وهي الناقة، وقد أجيب عن ذلك بأن الآيات ليست معجزة النبي - عليه السلام - وحده، بل أدلة التوحيد من خلق السماوات والأرض، وما يدل عليه ذلك الخلق المتنوع، الذي يدل على الواحد المختار والفعال لما يريد.
وكانوا عن هذه الآيات البينات معرضين عنها.
وإذا كانت المعجزة هي الناقة، فهي آية تتضمن آيات، كما قال البيضاوي، أو معجزاته كالناقة وسقيها وشربها، ودرها، وما نصب لهم من الأدلة.
كذبوا رسولهم، فكذبوا الرسل أجمعين، ومع ذلك كانوا يبنون بيوتهم متينة قوية، حتى إنهم كانوا ينحتون من الجبال بيوتا يسكونون فيها؛ ولذلك قال تعالى:
أي أنهم يفتحونها في الصخور لتكون مساكنهم آمنة من الهدم أو أن يأتي عليها السارقون أو المغيرون، ويحسبون أنهم بذلك أمنوا أن يأتيهم عارض يأخذهم
أي جاءتهم صيحة جعلتهم في دارهم جاثمين، وهذه الصيحة من اللَّه تعالى أحدثت
وما أغنت البيوت التي نحتوها، ولا الزروع التي كسبوها؛ ولذا قال تعالى:
من بناء نحتوه من الصخور، ولا ثمار جنوها، ولا زروع حصدوها فأضاع كل ذلك فسقهم.
ويلاحظ أولا: أن البيوت التي نحتوها من الصخر لم يذكر أنه سبحانه جعل عاليها سافلها، ولا أنهم أمطروا حجارة كقوم لوط الفاسقين.
ويلاحظ ئانيا: أن قصة شعيب ذكرت هنا بالإشارة، وذكر فيها جزاء عتوهم، وكذلك ثمود أشير فيها إلى العقاب وترك من القصة تفاصيل فلم يذكر ما دعا إليه شعيب من إيفاء الكيل والميزان وعبادة الله تعالى.
ولم يذكر في قصة ثمود وما جرى من مجاوبة بين ثمود وصالح، وهكذا تجد القصة كاملة في القرآن، ولكن متفرقة فيه لموضع العظة في كل جزء منها.
فقصة موسى ذكرت أجزاؤها في مواضعها من العظة والاعتبار، وإنك لو تتبعت أجزاء قصة موسى وفرعون وبني إسرائيل لخرجت بقصص كاملة رائعة مصورة لأحوال النفوس المستضعفة للطغاة، ونفوس الطغاة، ونفوس الذين استمكن فيهم الخنوع، وذلت منهم النفوس، وكيف تبنى الأمم وتربى العزائم.
وقد يسأل سائل لماذا لم تذكر القصة كاملة؟ فنقول في الجواب عن ذلك:
وثانيا: أنها لو ذكرت جملة ما عرفت مواضع العظات بالتفصيل.
وخلاصة القول أنه ليس في القرآن مكرر من القول قط، وما يبدو بادئ الرأي فيه تكرار في ذكر القصص في القرآن يبدو بطلانه إذا فحص القول، وعمق القارئ النظر فيه، واللَّه منزل الكتاب ومنزهه.
* * *
آية الله تعالى في خلقه
قال الله تعالى:
(وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (٨٥) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (٨٦) وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (٨٧) لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (٨٨) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (٨٩) كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (٩٠) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (٩١) فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٩٢) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٩٣)
* * *
بعد أن ذكر جلت حكمته ما أصاب الذين فسقوا عن أمر ربهم، وارتكبوا أشد المفاسد ونزل بهم أشد المهالك ذكر أن الكون ما خلق عبثا إنما خلق لحكمة
وإنه بعد الدنيا سيجيء يوم القيامة، وعبر عنه بالساعة إشارة إلى أنها ساعة فاصلة بين حياة دنيا فيها لهو ولعب، وحياة فيها الحساب والجزاء، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، إنها للجنة أبدا، أو للنار أبدا، وهي الساعة التي لَا يدرك كنهها إلا عند نزولها، وهي الجديرة وحدها بأن تسمى ساعة، وقد أكد سبحانه وتعالى مجيئها باللام وبـ (أن).
(فَاصْفَح الصَّفْحَ الْجَمِيلَ)، (الفاء) لترتيب ما بعدها على ما قبلها، وجه هذا الترتيب أن العصاة ينالون العذاب والبوار وفي الآخرة الساعة تنتظرهم، وإذا كانت هذه حالهم، فلا يغيظك ما يفعلون، ولا تذهب نفسك عليهم حسرات، بل استمر في دعوتك معرضا عن إثمهم وإيذائهم، وفتنهم للمؤمنين، فإنهم ملاقو ذلك في دنياهم بالتغلب عليهم، وفي آخرتهم بالجزاء على ما صنعوا.
وقوله تعالى: (فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ)، والصفح يتضمن الإعراض عن الإساءة وعدم التخلي عن الدعوة والاستمرار فيها، وتضمنت كلمة الجميل بيان أن
وفى هذا إشارة إلى معنى جليل في الداعي، وخصوصا الرسول الأمين رسول رب العالمين، وهو أن الداعي لَا يستفزه غضب ولا يثيره أذى، ولا يمنعه تجهم وسوء معاملة، بل يجب أن يكون البشير النذير دائما في قرب للقلوب، وإدناء للنافر وإيناس للشارد؛ لأنه الطبيب المداوي، وليس الحاكم المسيطر (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ).
لقد كان النبي - ﷺ - ذا شخصية قوية عالية، من شأنها أن تعلو دائما، وهي تُرهب الفجار، ولكن لم يدعُ محمد - ﷺ - في مكة إلا بقوة الدليل، وبالنفس الأليف التي تقرب ولا تبعد.
وكانت تلك الشخصية الجبارة تبدو من حين لحين تعلن عن وجودها، جاء رجل يطلب دينا من أبي جهل فاستعان بملأ من قريش، فأشاروا عليه بأن يستعين بصاحب هذه الدار مشيرين إلى دار النبي تهكما بالرجل وبالنبي معا، ولعل الذين استعانهم من أشكال أبي جهل فالرجل الغريب ذهب إلى النبي، فأشكاه الرسول القوي، وذهب به إلى دار أبي جهل، فصك داره صكة ارتعدت فرائص أبي جهل لها، فقال رسول اللَّه - ﷺ - قوله الحازم الآمر: " أد الرجل دينه "، فدخل وأعطاه الدَّين صاغرا. وما كان النبي - ﷺ - ليستخدم تلك الشخصية التي تفرض الحق على من يخاطبه، إنما تطامن، ورضي بأن يكون الداعي غير الغليظ إدناء للنفوس.
هذا معنى الصفح الجميل، أي الإعراض في قرب ومودة وإلف من جانبه؛ ولذا كان الإسلام، ينمو ويزيد، ولا ينقص ويقل.
ولقد أكد اللَّه سبحانه وتعالى الإخبار بخلقه لهذا الوجود بالحق، فقال عز من قائل:
(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (٨٦)
الأمر الأول: أنه هو الذي يقوم عليه، ويدير له أمر دعوته، بألا يسلم للكفر، ويصطبر ويعامل بالتقريب لَا بالتبعيد.
الأمر الثاني: هو الذي يدبر أمر هذا الوجود، ويرتب حاضره وقابله، وأن الحق في النهاية إليه بأمر ربه.
و (الْخَلَّاقُ) الكثير الخلق بكثرة هذا الوجود من سماوات وأرضين، وملائكة وإنس وجن، و (الْعَلِيمُ) الذي يعلم كل ما خلق ويعلم الماضي والحاضر والقابل، ويدبر الأمر على مقتضى علمه وحكمته، فهو يمهل الأشرار ولا يتركهم، ويجازي الأبرار ويحوطهم برحمته، ويثبت الحق بدعائم من الحق، ويعطي كلا جزاءه في الدنيا أو الآخرة على حسب ما يقتضي علمه وحكمته، وقد بين اللَّه تعالى تأييده لنبيه بالحجة القاطعة، والأدلة الساطعة، فقال:
الخطاب للنبي - ﷺ -، وقد طالبه رب البرية بأن يصفح ويعرض عن إيذاء المشركين بأن يصفح الصفح الجميل الذي يكون بإقبال نفس، وبشاشة وجه، وأنه معه الدليل القاطع، والبرهان الساطع، وهو القرآن الكريم، ولذا قال: (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي) أكد اللَّه أن معه الحجة، باللام وقد، والسبع المثاني ما هي؟ قال ابن عباس: هي القرآن كله، والسبع لَا تذكر لذات العدد بسبع، بل تذكر للكثرة، والقرآن كله وصف بالمثاني، قال تعالى: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ...).
و (الْمَثَانِي) جمع مثنى أي مكرر لاثنين، كقوله تعالى: (... مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ...)، ومعنى مثاني أن فيه من كل معنى اثنين متقابلين، ففيه الإنذار والتبشير، وكرر ذلك، وفيه الأمر والنهي ويتكرر
هذا تفسير السبع على أنها القرآن الكريم، ويكون عطف القرآن عليها في قوله تعالى: (وَالْقرْآنَ الْعَظِيمَ) من قبيل عطف الصفة على الصفة، ويكون معنى القرآن المقروء المتلو الذي يتعبد بتلاوته، فيكون معنى السبع المثاني وصف معانيه، وما اشتمل من أحكام وقصص وزواجر ونواهٍ، وأوامر وتوجيه، ويكون القرآن العظيم المقروء المعجز بألفاظه والعظيم في إعجازه وبتلاوته، وعطف الوصف على الوصف جائز في العربية كما قال الشاعر:
إلى الملك القرم وابن الهمام | وليث الكتيبة في المزدحم |
هذا ما اخترنا في معنى السبع المثاني، ولقد روي في أحاديث صحاح أن السبع المثاني سورة الفاتحة، وعطف عليها بعد ذلك قوله تعالى: (وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ).
وروي عن ابن مسعود وغيره من كبار الصحابة أن السبع المثاني هي طوال السور، وهي سبع، البقرة، وآل عمر ان، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، والأنفال، بأن تشمل براءة، على أنهما سورة واحدة.
وفى الحق إن ست من السبع الطوال مدني، والسورة التي نتكلم في معانيها مكية، فكيف تكلم عن هذه السبع، وست منها لم تنزل بعد وقد رد هذا بأنها كانت نزلت في اللوح المحفوظ.
ولقد هدى اللَّه تعالى نبيه بهداية القرآن، وأنه الحجة ونعمة الرسالة، وأخذ من بعد ذلك يبين أنه الغنى بالحق الأعلى وأنهم مهما يكونوا قد أوتوا من مال وجاه وقوة، فلن يكونوا كمن هداه اللَّه تعالى، فقال تعالت حكمته:
أي لَا تطمع، ولا تلتفت، ولا يغرنك ما متعنا به أزواجا، أي أصنافا متقابلة منهم فيهم الغنى وجاه الدنيا والقوة، والغرور، والطغيان، والكفر.
وعبر سبحانه عن الطموح إلى ما هم فيه والغرور به (... فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلبُهُمْ فِي الْبِلادِ)، عبر عن ذلك بمد العين؛ لأن هذا يسترعي النظر فكأن الأعين تمد إليه، ولا تنحرف عنه.
لا يغرنك هذا ولا يسترعي نظرك، فإن هذا أمر إلى فناء، وما يدعو إليه أمره إلى بقاء، وإذا كان ذلك أمر فيه متعة وقتية، فقد أوتيت الحكمة وفصل الخطاب، أوتيت القرآن ومثله معه، وأي قدر مما أتوا يقارب قيمة ما أوتيت من الحق، وعزة الحق، ونهى اللَّه تعالى عن الحزن على الكافرين كما نهى عن أن يغتر بهم، فقال: (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ)، ولا تذهب نفسك عليهم حسرات، وإذا كان لا يغتر بما أوتي المشركون من أسباب النعيم، فإن من معه من المؤمنين هم الأولى بالرعاية والحفظ لأنهم الذين هم ذخيرة الإيمان؛ ولذا قال تعالى: (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ)، أي تطامن، وارفق بهم ولِنْ لهم بجانبك، (... وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ...).
(وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ) وذلك مجاز بالاستعارة مشهور، فشبه صبحانه وتعالى حنو محمد - ﷺ - على أتباعه، بوضع الطائر أولاده بين جناحيه، للمبالغة في الحيطة والحفظ والصيانة. وإن هذا النص السامي تصغير لما عند المشركين، وتعظيم لمنِ آمن، كقوله تعالى: (وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (٥٢).
وإن هذا النهي لصاحب الرسالة عن أن يمد عينيه إلى ما متع الله به الأقوياء وأعطاهم أزواجا متماثلة من متع الدنيا هو نهي لأمته، وفيه بيان كيف يتدلى الحق إذا مد صاحبه العين إلى ما عليه أهل الدنيا، فإنه هنا تكون المذلة ويكون التدني عن مقام الحق الأعلى، إلى المنزلة الدون أمام أهل المال والجاه والسلطان والباطل، وهو سلطان أهل هذا الإيمان.
ولقد قال القرطبي في تفسيره في التعليق على هذه الآية: " رأى القراء المخلصون من الفضلاء الانكفاف عن الذات والخلوص لرب الأرض والسماوات أولى، لما غلب على الدنيا من الحرام، واضطر العبد في المعاش إلى مخالطة من لا تجوز مخالطته، ومصانعة من تحرم مصانعته، فكانت القراءة أفضل والفرار من الدنيا أصوب للعبد وأعدل قال - ﷺ -: " يأتي على الناس زمان يكون خير مال المسلم غنما يتبع بها شعف الجبال ومواقع المطر، يفر بها من الفتن ". اهـ.
وأحسب أن زماننا أشد الأزمان فتنة في نفسه، إذ تولاه الجهال، وسيطر على الفكر الجهال، وتولى على رياسة العلم من يبيعون دينهم لهؤلاء الجهلاء بثمن بخس مهما تكن قيمة الدرهم والدينار، وصح فيه ما روي بحديث قوي السند حتى ادعى تواتره: " إن الله لَا ينزع العلم انتزاعا من قلوب العلماء، إنما ينزع العلم بتولي جهلاء يضلون ويضل بهم الناس " أو كما قال - ﷺ -.
الخطاب للنبي - ﷺ -، أمره ربه بأن يبين لهم أنه منذر من عذاب أليم، لا يميل مع الأقوياء، ولا يحيف على الضعفاء، (إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ) أكد رسول الله تعالى بأمر ربه إنذاره بـ (إنَّ)، والتوكيد اللفظي بالضمير المنفصل، وبالنصر، فعقد عمله - ﷺ - على الإنذار، وأنه إنذار واضح بين لمن أراد أن يعتبر بصاعقة عاد وثمود، وقوم هود وغيرهم مما ذكرهم الله تعالى في قرآنه العظيم، من رجفة في الأرض جعلت عاليها سافلها، أو ريح صرصر عاتية.
وهذا النص السامي جاء على نمطه قوله - ﷺ -: " أنا النذير العريان ".
ولقد بين سبحانه تلقي المشركين للقرآن العظيم، فقال عز من قائل:
(كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (٩٠) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (٩١) فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٩٢) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٩٣)
والقول الثاني: وهو ما نميل إليه هو قول قتادة: إنهم كفار قريش، قسموا كتاب الله فجعلوا بعضه شعرا، وبعضه سحرا، وبعضه كهانة، وبعضه أساطير الأولين، وهم بذلك قد قسموا كتاب اللَّه تعالى وفرقوه.
(عِضِينَ) جمع عضة والمعنى صار أجزاء مفرقة هي باطلة في ذاتها، وهي تفرقة في أمر لَا يقبل التجزئة قط وهو جمع، و (عضون) جمع سالم على غير القياس، والواحد كما ذكرنا عضة، أي قسما مفرقا من قولهم عضيت الشيء تعضية إذا فرقته، وكل فرقة عضة.
والمعنى أن هؤلاء المقتسمين لم يأخذوا بما فيه، ولم يعتبروا بعبره، بل قسموه على حسب أهوائهم أقساما باطلة لَا أصل لها في حقيقته فتركوا تدبره وتعرفه، وإدراك ما فيه من إنذار وتبشير ومعرفة وحكمة، وما فيه من أخبار السابقين، والكشف عما يكنه الغيب بالنسبة للمستقبل، وعكسوا أهواءهم عليه، فجعلوها أقساما له، وهي باطلة في ذاتها وباطلة بالنسبة للحاضر، وبذلك كان بينهم وبينه حجابا مستورا، نسجوه من أوهامهم فزادوا بذلك ضلالا فوق ضلالهم.
وإنهم بذلك ارتكبوا إثما مبينا، وحجبوا أنفسهم عن النور، وإن الله سبحانه وتعالى سيحاسبهم على ذلك حسابا عسيرا؛ ولذلك قال تعالى:
(الفاء) للدلالة على أن ما بعدها مترتب على ما قبلها، أي أنه ترتب على اقتسامهم للقرآن، وجعله متفرقا في زعمهم الباطل، وإيغالهم في الشرك والفساد إيغالا أضل عقولهم وأقوالهم وأعمالهم أن أقسم الله بربوبيته، ليسألن عما كانوا يعملون، وكان القسم بقوله تعالى: (فوَرَبِّكَ) للإشارة إلى أن ذلك من الحياطة لرسالتك وجزاء اقترافهم عليها وجحودهم لها.
وجواب القسم (لَنَسْألَنهُمْ أَجْمَعِينَ)، وقد أكد سؤالهم بـ (نون التوكيد)، وبـ (لام القسم)، وبكلمة (أَجْمَعِينَ)، أي أنه لَا يعزب أحد عن السؤال، وليس العقاب هو مجرد السؤال، وإنما العقاب ما وراء السؤال من عذاب، وذكر السؤال
* * *
قال الله تعالى:
(فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (٩٤) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (٩٥) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٩٦) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (٩٧) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (٩٨) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (٩٩)
* * *
ابتدأت الدعوة المحمدية بإِعلانها بين أهل النبي - ﷺ - فكان أول من آمن خديجة، ثم علي بن أبي طالب، ثم زيد بن حارثة، ثم بين أصدقائه الذين يعرفون أمانته وفضل خلقه، وعظمة نفسه كأبي بكر، ثم أصدقائه كعثمان، وهكذا نبتت في خفاء كما نبتت البذرة في ركن مستور مغشى بلباب، حتى أمر اللَّه نبيه أن يجهر وسط عشيرته فقال: (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ)، فجمعهم وأنذرهم ومنهم من ردوا سيئا كأبي لهب، ولكن العبادة كانت في خفاء لا يخرج المؤمنون جهارا، والإيذاء مع ذلك يتوالى، حتى دخل بعض الأقوياء بأشخاصهم فوق شرفهم النسبي كحمزة بن عبد المطلب والفاروق عمر بنِ الخطاب، فكان الجهر وتلقي الأذى بالمجاهرة ونزل قوله تعالى:
اصدع، معناها اجهر بما تدعو إليه مأمورا به، ولا تبال أحدًا، وأعرض عنهم، والصدع شق الشيء الصلب وتفريق أجزائه، أو الوصول إلى ما وراءه
والمعنى حينئذ، اجهر بالحق، وشق به ظلام الجاهلية، كما يشق الفجر بنوره ظلمة الليل.
وقوله تعالى: (بِمَا تُؤْمَرُ)، أي أن شق الورم بالشور هو بما تؤمر، فهو النور الذي يشق الظلام.
وقوله تعالى (وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ)، أي لَا تلتفت إليهم، ولا تبال بهم، ولا تدهن معهم بقول في دين اللَّه تعالى، ولا تحسب إن ممالأتهم تدنيهم، إنما يدنيهم الجهر بالحق مع الموعظة الحسنة من غير جفوة، ولا إدهان (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنونَ).
ثم قال تعالى محرضا رسوله النبي الأكرم:
أي حفظناك من شرهم، فلا ينالون منك ولا من دعوتك، وما يكون منهم من أذي بالقول، أو الغمز، أو نحو ذلك من أساليب الاستهزاء أو السخرية والتعابث في تلقي الدعوة، لن ينال من شخصك، ولا من أتباعك إلا بمقدار ما ينال المؤمن صاحب الحق من عبث العابثين، وإن يسخروا منك، فسوف يكون اليوم الذي يسخر الحق منهم.
وفي بعض التفسير الأثري أن اللَّه تعالى كفاه أشد المستهزئين، وذكر أنهم كانوا خمسة رجال من أشراف قريش هم الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل، وعدي بن قيس، والأسود بن عبد يغوث، والأسود بن المطلب يبالغون في إيذاء النبي - ﷺ - والتهكم به وبدعوته، فأهلكهم الله تعالى، أما الوليد فمر بنبال فتعلق به سهم، فلم ينعطف تعظما لأخذه فأصاب عرقا في عقبه فمات قبل هجرة النبي - ﷺ - ولم يحضر بدرا، وأن العاص بن وائل، قد دخلت في أخمص قدمه شوكة فانتفخت رجله حتى صارت كالرحى، ومات منها، وأما عدي بن قيس، فامتخط
ولقد بين سبحانه صفة المستهزئين وباعثهم على الاستهزاء، وعاقبته فقال:
أي أنهم بعقلهم المظلم وفكرهم التافه، يجعلون من ذات أنفسهم مع اللَّه خالق السماوات والأرض، المنزه في ذاته وصفاته وإبداعه الخلق - عن الشريك كما كانوا يؤمنون ويجعلون بذات أنفسهم لَا من منطق أو عقل إلها آخرا وحسبهم ذلك موجبا للاستهزاء بهم والسخرية، فهم المستهزئون ليس لهم أن يسنهزئوا بأحد، وقد هددهم سبحانه بقوله: (فَسَوْف يَعْلَمُونَ)، أي بسبب هذا الشرك سوف يعلمون، وسوف لتأكيد الفعل في المستقبل، أي يعلمون نتيجة استهزائهم وشركهم، والعقاب الذي ينزل بهم.
ولقد واسى اللَّه تعالى رسوله، فقال:
إن محمدًا - ﷺ - بشر من البشر، قد كان يسمع باطلا، ويؤذى بالقول والاستهزاء، ويرمى عليه فرث جزور، فتنحى الفتاة الطاهرة فاطمة التي صارت سيدة نساء المؤمنين، فلا يتبرم بها، ويستمر طليق الوجه ولكن صدره يضيق حرجا، والرجل الكامل وخصوصا أعظم الدعاة الحق يضيق صدره، ولا يتغير قوله أو عمله، ولقد قرر اللَّه تعالى خالق الخلق ذلك فقال: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ) عبر سبحانه عن ألم النفس، وضيقها بضيق الصدر كأن الصدر أصبح لَا يتسع لمثل هذا القول الذي كانوا يقولونه من قولهم ساحر، ومن قولهم مجنون، ومن قولهم في القرآن إنه شعر، وإنه أساطير الأولين، ومن طلبهم خوارق غير القرآن، ومن عبادتهم الأوثان.
وقد ذكر سبحانه الطب لهذا القلق النفسي كما أشار إلى جزاء ما يقولون وما يفعلون، والطب الذي ذكره الله تعالى هو طب النفوس القلقة وهذا الطب هو الاتجاه إلى اللَّه تعالى وتقديسه والركون إليه، والخضوع له؛ ولذا قال:
(الفاء) هنا تفصح عن شرط مقدر، أي إذا كان قد أصابك قلق النفس فعالجه: (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ)، أي فانزع إلى الله، واركن إليه بالتسبيح والحمد، فإن ذلك في ذاته كشف للكرب وبه زوال الهم، إذ فيه الركون إلى جانب القوي الذي لَا يناهده جانب لأي جانب من جوانب الدنيا، وهو في الوقت ذاته شعور بأن ما ينال صاحب الرسالة من أذى إنما هو لله وللقيام بحقه، وذلك ذاته تسبيح أي تسبيح وحمد للَّه أي حمد.
وعبر سبحانه بقوله: (بِحَمْدِ رَبِّكَ) لللإشارة إلى أن ربك الذي حماك ويكلؤك، فإن كان منك قلق، فلن يكون منهم أذى لك في قابل أمرك، إنما هو أخذ بالغلب أو أخذهم أخذ عزيز مقتدر.
(وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ)، أي استمر في خضوعك لرب العالمين، والسجود هنا إما أن نقول: إن معناه الخضوع المطلق لله تعالى، فالخضوع له وذكره هو اطمئنان القلوب، وقد قال تعالى: (... أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِن الْقُلُوبُ)، أو نقول: إنه سجود الصلاة، ويكون المعنى كن مستمرا في صلاتك، ففي الصلاة تفريج الكروب، وذهاب الأحزان، والانصراف عن الهموم، وفي الأثر: كان النبي - ﷺ - إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، ولقد روي أيضا أن النبي - ﷺ - قال: " أقرب ما يكون العبد إلى ربه وهو ساجد فأخلصوا الدعاء ".
في هذا بيان لحقيقة التسبيح بحمد ربه، وهو العبادة بكل أنواعها من تطهير للنفس بالصلاة والصوم والحج وتطهير للمجتمع بالصدقات المنثورة والمفروضة، وقد كانت مطلوبة قبل الهجرة، وهم في مكة كما قال تعالى في سورة الروم المكية: (... وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ).
والتعبير بـ (رَبَّكَ) فيه إشارة إلى أن مقام الربوبية يقتضي العبادة الخالصة له، وقد حدد سبحانه وتعالى نهاية العبادة بقوله: (حَتَّى يَأتِيَكَ الْيَقِينُ).
الكثرة الكبرى من المفسرين يقولون: إن اليقين هنا هو الموت، ويكون المعنى على هذا حتى يأتيك الأمر الذي لَا يرتاب فيه وهو اليقين الثابت بالموت، إذ يكون اليقين ثابتا بالاعتقاد، حتى يكون الموت، فيكون ثابتا بالعيان لَا بالبرهان وهذا الكلام يشير إلى حقيقتين ثابتتين:
الحقيقة الأولى: وجوب العبادة طوال الحياة حتى الممات.
والحقيقة الثانية: فيه إشارة إلى أن العبادة تزيد اليقين فيزداد المؤمنون إيمانا إلى إيمانهم، وللَّه غيب السماوات والأرض وإليه مرجع الأمور.
* * *
تمهيد
سورة النحل مكية، وعدد آياتها ١٢٨ ثمان وعشرون ومائة، وسميت النحل لذكر النحل فيها في قوله تعالى: (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (٦٨).
وهي كالسور المكية تتجه إلى إثبات التوحيد مما خلق من أرض وسماء وأحياء، وتأكيد للبعث والنشور، وإبطال عبادة الأوثان، وما اقترن بعبادة الأوثان من وأد البنات.
وابتدئت بتكيد عذاب اللَّه لمن يشرك وأنه نازل به لَا محالة، وأنه سبحانه ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده، وإن في ذلك إثبات الرسالة الإلهية تجيء على لسان البشر.
وقد أثبت من بعد ذلك قدرته سبحانه في خلق السماوات والأرض وخلق الإنسان من نطفة، فإذا هو خصيم مبين مشيرًا إلى مدرجه في التكوين، حتى يصير ذا لسان يجادل به، وعقل يفكر به.
وذكر نعمة اللَّه تعالى على الإنسان بخلق الأنعام يتخذ منها أسباب الدفء من ملابس ومساكن، ومنافع في ركوبها، الانتقال بها من أرض إلى أرض، ومنها تأكلون، (وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (٦) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (٧) وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (٨).
ووجه سبحانه وتعالى الأنظار إلى البحر وما فيه (وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا) من جواهر، وهو مع ذلك تجري فيه الفلك التي تمخر عبابهها به وجعل لكم (أَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥) وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (١٦).
ذكر هذا لبيان خلق الله العظيم ومع ذلك يشركون في عبادته من لَا ينفع ولا يضر (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (١٧) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨) وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (١٩) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (٢٠) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (٢١)، أي لَا حياة فيها.
وقد قرر الله سبحانه وتعالى الحق فقال: (إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ) ولا ينكر حقيقة الألوهية ويضل في معرفتها إلا الذين يكفرون بالبعث، فقال سبحانه:
(فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (٢٢) لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ).
وقد أنكروا الوحدانية وأنكروا القرآن (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٤) لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (٢٥).
وقد ذكر سبحانه العظات فيمن مضوا، فقد مكروا مكرهِم، ودبروا تدبيرهم، وبنوا على ما دبروا أوهامهم، (فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ فخَرَّ عَلَيْهِمُ
وبعد ذلك يجيء إليهم عذاب يوم القيامة يخزيهم، (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨).
هذا شأن الكفار الذين أنكرت قلوبهم، أما المتقون يوم القيامة، فإنهم يذكرون الحق يوم القيامة، (وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (٣٠) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (٣١) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٢).
ولقد بين اللَّه تعالى بعد ذلك تفكير المشركين في عدم تدبرهم وعدم تفكيرهم، وإهمالهم الإنذار بعد الإنذار حتى ينزل بهم ما لم يتوقعوا، وهم في غفلة، فأصابهم سيئات ما عملوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون، والمشركون يحمِّلون آثامهم على الله (وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (٣٥) وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ).
وقد أشار سبحانه إلى ما نزل بالسابقين من المنكرين، ولكنهم يصرون على إنكار التوحيد وإنكار البعث (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (٣٨)، وإن البعث أمر ليس بعسير على اللَّه، (إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٠).
وقد ذكر بعد ذلك سبحانه ثواب المؤمنين: (وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (٤١)، وقد ذكر سبحانه وتعالى أوصاف الإيمان، وأولها الصبر، (وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)، ولقد
ولقد أشار سبحانه أن المشركين في غفلة إذ يعاندون اللَّه:
(أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (٤٥) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٤٦) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (٤٧).
وينبئهم سبحانه إلى خلقه سبحانه الذي (يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (٤٨) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (٤٩) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (٥٠).
وقد أمرهم سبحانه بالحقيقة الخالدة وهي الوحدانية (وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٥١) وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (٥٢).
وقد بين سبحانه وتعالى نعمه مجملة: (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (٥٣) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٥٤) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٥٥) وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (٥٦).
ولقد ذكر عادة جاهلية، وهي كراهية البنات، ووأدهم أحياءً، فقال:
(وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (٥٧) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (٥٨) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (٥٩).
ولقد حكم اللَّه تعالى على المشرك أنه أسوأ ما يكون عقلا، فقال: (لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٠).
وقد أكد الله تعالى لنبيه أنه سبحانه أرسل (أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٦٣)، وقد ساق ذلك وأكده ليتأسى النبي بالرسل قبله، وأنه يجب أن يسير في بيان الشريعة، (وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٦٤).
ثمِ ذكر سبحانه (وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٦٥)، ثم بين سبحانه عجائب الخلق في الأنعام، (نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (٦٦)
وذكر سبحانه ثمرات النخيل والأعناب قد مكن الناس منها، فاتخذوا منها رزقا حلالا، واتخذوا مسكرا حراما، (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةَ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)، وذكر النحل، وما ألهمه سبحانه، والذي يخرجه من بطونها (فِيهِ شِفَاءٌ للنَّاسِ)، ثم بين خلق الإفسان (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (٧٠).
ثم بين سبحانه اختلاف الناس فقرا وغنى، (وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ).
وذكر سبحانه نعمه بأن جعل لنا من أنفسنا أزواجا وذرية بنين وحفدة، ورزقنا من الطيبات، ومع هذه النعم المتضافرة (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (٧٣).
وقد ضرب الله تعالى المثلِ لضلالهم، (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (٧٥) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٦)
وقد وجه سبحانه الأنظار إلى خلق الإنسان لَا يعلم شيئا ثم جعل له السمع والأبصار والأفئدة رجاء أن يشكروا فكفروا، ثم وجه سبحانه الأنظار إلى خلق الطير صافات، كما وجه إلى خلق السماوات والأرض والأنعام والخيل والبغال وقال: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ).
ووجه الأنظار إلى البيوت التي يسكن إليها، (وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ) وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم وكل هذه نعم ليشكروها فكفروها، وينبه النبي - ﷺ - أن عليه البلاغ فقط، (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (٨٢) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (٨٣)، وقد أنذرهم سبحانه وتعالى: (وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٨٤) ووذكر سبحانه بعد ذلك حال المشركين مع الأوثان يوم القيامة ثم أسلموا أنفسهم للَّه (وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ)، وبين سبحانه وتعالى مقام النبوة المحمدية يوم القيامة، فيقول: (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (٨٩).
ويبين اللَّه تعالى لب الإسلام وغايته، فيتول: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٩٠).
ويدعو اللَّه إلى الوفاء بالعهد، وينهى عن نكث العهد، ويبين أن العهد قوة، ونكث العهد نكث للقوة، وجعلها أنكاثا، وأنه لَا يصح أن يكون الرغبة في الكثرة في الأرض، والقوة سببا للنقص، ولا تتخذوا (أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ
ويبين أن اللَّه تعالى قدر اختلاف الأممَ (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلًكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً).
ونهى عن نقض العهد نهيا قاطعا، فقال: (وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٩٥) مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٩٦).
وقد بين سبحانه آداب المؤمن عند قراءة القرآن، (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (٩٨) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٩٩) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (١٠٠).
وقد بين سبحانه أن القرآن معجزة النبي - ﷺ -، وأنه آيته الكبرى، واللَّه أعلم
بأى الآيات أجدى وأنسب وأحكم، (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (١٠٢) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (١٠٣).
وبين أن الكذب شأن (الَّذِينَ لَا يُؤمِنونَ بِآيَاتِ اللَّهِ)، وبين سبحانه وتعالى حكم من ينطق بكلمة الكفرِ مكرهًا (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (١٠٦) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (١٠٧).
وقد بين سبحانه أنه طبع على (قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (١٠٨) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (١٠٩).
وبين بعد ذلك جزاء المؤمنين المهاجرين، فقال: (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٠).
وذكر سبحانه أنه في ذلك اليوم تُوفَّى كل نفس ما كسبت بعد أن جاءت تجادل عن نفسها، وهم لَا يظلمون، وقد ضرب اللَّه مثلا للقرية الظالمة بعد أن أنعم اللَّه تعالى عليها (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ
ولقد أشار إلى ما أباحه سبحانه وتعالى فقال: (فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١١٤).
وبين من بعد ذلك المحرمات، وهي خبائث تفسد الأجسام، وإن التحليل والتحريم منِ اللَّه وحده؛ ولذا قال سبحانه: (وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (١١٦) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (١١٧).
ثم بين أن هذه المحرمات كانت على الذين هادوا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون، وأشار سبحانه إلى أن باب التوبة مفتوح (لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٩). ذكر اللَّه سبحانه وتعالى العرب بما كان يتحلى به إبراهيم، وهو جدهم الذي يتشرفون بالنسب إليه فقال: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٠) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٢١) وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٢٢)، ثم خاطب النبي - ﷺ - بأن دينه هو ملة إبراهيم (ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٣).
وأشار سبحانه إلى أن تحريم السبت كان على اليهود الذين اختلفوا فيه ولم يكن على غيرهم.
وبين سبحانه طرائق الدعوة إلى الحق، وأشار إِلى العقاب دفاعا عن الخير فقال: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (١٢٦) وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (١٢٧) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (١٢٨).
وهذه الآيات أشبه بأن تكون مدنية، واللَّه سبحانه وتعالى أعلم.
* * *
قال تعالى:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١) يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (٢) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٤) وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (٥) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (٦) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (٧) وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (٨)* * *
كان المشركون يتلقون وعد النبي - ﷺ - لهم بالغلب في الدنيا أو العذاب الأليم في الآخرة بالاستهزاء، والسخرية مبالغة في الإنكار، ويتحدون النبي - ﷺ - أن ينزل بهم ما ينذرهم به، ولقد قال تعالى في ذلك: (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مسَمًّى لَّجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ)، وقال تعالى: (ويَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ)، أي أن أسبابها محيطة بهم، وهي قريبة منهم، وقد نزل قوله تعالى:
(اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ...)، وقوله تعالى: (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ