ﰡ
في السورة حكاية لبعض أقوال الكفار ومناظراتهم مع النبي ﷺ ولفت نظر إلى عظمة الله تعالى في كونه. وتذكير بقصة آدم وإبليس. وتذكير بمصائر بعض الأمم التي يمرّ العرب بديارهم المدمرة. وتثبيت للنبي ﷺ والمؤمنين وتبشيرهم وإنذار ووعيد للكافرين.
وفصول السورة مترابطة وآياتها متوازنة. وهذا وذاك يلهمان أنها نزلت دفعة واحدة أو فصولا متتابعة حتى تمّت، والمصحف الذي اعتمدناه يروي أن الآية [٨٧] مدنية. وانسجامها التام في السياق والموضوع يسوغ الشك في الرواية.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ١ الى ٥]بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (١) رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (٢) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٣) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (٤)ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (٥)
(١) ربما: هنا بمعنى توقع الندم.
(٢) كتاب معلوم: بمعنى أجل معين ومعلوم عند الله.
بدأت السورة بحروف الألف واللام والراء التي بدأت بها السور الثلاث السابقة لها استرعاء لما يأتي بعدها على ما رجحناه في أمثالها. ولعل ذلك من
واحتوت الآيات الأربع التالية:
تقريرا ربانيا يتضمن معنى الإنذار بأنه سيأتي على الكفار يوم يتمنون فيه لو كانوا مسلمين ندما على ما كان منهم وتفاديا من العذاب الذي عرفوا أنه واقع عليهم، وأمرا للنبي ﷺ بأن يدعهم يأكلون ويتمتعون ويتلهون بالآمال فلن يلبثوا أن يعلموا ويروا ذلك اليوم الرهيب. وتقريرا ربانيا بأن الله تعالى إذا لم يعجل لهم العذاب فإن ذلك لما اقتضته حكمته، وإن هلاك الأمم من قبلهم كان منوطا بآجال معينة في علمه، فلا تتقدم أمة عن أجلها ولا تتأخر عنه، وينطوي في هذا إنذار آخر كما هو المتبادر.
وواضح أن الآيات في صدد إنذار الكفار ووعيدهم بما ينتظرهم من المصير الرهيب الذي صار إليه من قبلهم. وتثبيت النبي ﷺ وتطمينه. وهي مقدمة لما يأتي بعدها من حكاية أقوال الكفار ومواقفهم.
وهذه ثاني مرة يجتمع فيها تعبيرا (الكتاب) و (القرآن) في آية واحدة، وقد أشرنا إلى ما يمكن أن يكون في ذلك من حكمة في سياق تفسير الآية الأولى من سورة النمل التي ورد فيها التعبيران معا فلا ضرورة للتكرار.
ولقد أورد المفسرون في سياق الآية الثانية أحاديث عديدة في معان متقاربة منها صيغة رواها الترمذي عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: «إذا أخرج أهل التوحيد من النار وأدخلوا الجنة ودّ الذين كفروا لو كانوا مسلمين» «١». وينطوي في
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٦ الى ٨]
وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (٦) لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧) ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ (٨)
(١) الذكر: كناية عن القرآن.
(٢) لو ما: مرادفة «لولا» بمعنى هلا للتحدي.
في الآيات حكاية لقول من أقوال الكفار وتحدياتهم حيث كانوا حينما يسمعون النبي ﷺ يتلو القرآن ويقرر أنه وحي من الله يتحدونه مستهزئين معجزين بالإتيان بالملائكة ليؤيدوه إن كان صادقا في قوله، وينعتونه بالمجنون بسبب ما يخبر به ويقرره. وقد احتوت الآيات ردّا عليهم في صدد الملائكة بأن الله تعالى إنما ينزل الملائكة حينما يأتي الموعد المعين في علمه بالحق. وحينئذ لا يبقى إمكان لإمهال الكفار وتأجيل هلاكهم وعذابهم.
ومع أن الله تعالى ينزل ملائكته بالحق في مهمات عديدة منها العذاب والتدمير على ما جاء في آيات كثيرة مرّت أمثلة منها في السور التي سبق تفسيرها فإن العبارة هنا تلهم أنها بسبيل العذاب والتدمير تنفيذا لوعيد الله واستهدافا لإنذار الكفار.
ولقد قرئت كلمة (ننزل) بصيغة (تنزل) فيكون الملائكة (فاعلا) والمعنى يظل على حاله في صحة أيّة من القراءتين.
ولم يرو المفسرون رواية ما في صدد نزول الآيات التي تلهم أنها بسبيل حكاية مشهد من مشاهد المناظرة الوجاهية بين النبي ﷺ والكفار. وإذا صح هذا فتكون الآيات السابقة لها بمثابة مقدمة وتمهيد.
وقد تكررت كذلك حكاية نعت الكفار للنبي بالمجنون، وروح الآية هنا تلهم بأنهم أرادوا بالنعت في هذا الموقف التنديد على نحو ما يقال لمن يقول قولا عظيما ويقف موقفا غريبا لا عهد به على ما ذكرناه في مناسبات سابقة.
[سورة الحجر (١٥) : آية ٩]
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (٩)
في الآية توكيد رباني بأن الله تعالى هو الذي ينزل القرآن على النبي ﷺ وبأنه سيحفظه ويؤيده مهما كان موقف الكفار منه.
والآية متصلة بسابقاتها وبسبيل الردّ على الكفار الذين نعتوا النبي ﷺ بالجنون وتحدوه بالإتيان بالملائكة حينما كان يقول إن القرآن منزل عليه من الله تعالى.
تعليق على ما في آية إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ من معجزة ربانية عظمى
ومع صلة الآية بسياق المناظرة بين النبي ﷺ والكفار فإنها صارت عنوان معجزة ربانية عظمى في حفظ الله تعالى قرآنه المجيد من كل تبديد وتغيير وتحريف وزيادة ونقص مجمعا عليه في رسم واحد ونص واحد ومصحف واحد وترتيب واحد في مشارق الأرض ومغاربها، محتفظا بكل إشراقه وسنائه وروحانيته ونفس ألفاظه وحروفه وأسلوب ترتيله وتلاوته التي تلاها رسول الله ﷺ وبترتيبه الذي رتبه آيات في سور وسور في مصحف مما لم يتيسر لأي كتاب سماوي ولا لأي نبي.
لأنه لو كان هناك مصاحف مخالفة له لبقيت ثم ظهرت وتداولت وهذا لم يحدث.
وليس من الممكن أن يكون عمال عثمان قد مشطوا كل بيت في كل مدينة وقرية وبادية في مشارق الأرض ومغاربها التي انتشر فيها المسلمون في عهد أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم ليبعدوا أي مصحف مخالف لمصحف عثمان. فظل هذا المصحف الذي هو نفس المصحف المرتب في زمن النبي ﷺ مرجع كل خلاف وحكما في كل نزاع بين المسلمين على اختلاف فرقهم وأهوائهم، والقول الفصل في كل مذهب وعند كل نحلة من مذاهبهم ونحلهم على كثرتها منذ وفاة النبي ﷺ إلى اليوم وإلى ما شاء الله لهذا الكون أن يدوم. ويكفي لتبين خطورة المعجزة الربانية العظمى أن يذكر المرء ما كان من فتن وخلاف وشقاق وحروب وتنافس في سبيل الحكم والسلطان منذ صدر الإسلام الأول، وما كان من اجتراء أصحاب الأهواء في ذلك العهد وبعده على رسول الله ﷺ والكذب عليه في وضع
وحفظت ببركتها الأمة العربية قوية الحيوية صامدة أمام ما وقع عليها من
وتحميل القرآن الأمة العربية هذا العبء الذي غدت به وحده فقط ذات رسالة عالمية خالدة كما ورد في القرآن صراحة وضمنا ومن ذلك آيات سورة الزخرف [٤٣- ٤٤] وآية سورة الحج [٧٨].
نقول هذا ونحن نعرف أن هناك بعض روايات تروى عن بعض آيات وكلمات وحروف مختلف عليها في القرآن. وأن بعض المستشرقين والمبشرين تقولوا بعض الأقوال في صدد ذلك، غير أن هذا وذاك لا يمس جوهرا، وليس من شأنه أن ينقض المعجزة الربانية العظمى. وهو من الضالة والقلة إلى درجة لا تكاد تكون شيئا بالنسبة للمجموع، كما أنه لا يثبت على النقد والتمحيص، وهناك مستشرقون منصفون زيفوا بقوة الأقوال الصادرة عن الهوى والغرض والحقد والتعصب «١».
وكذلك نعرف أن غلاة الشيعة الباطنيين يزعمون أنه كان في القرآن آيات وفصول كثيرة في إمامة علي وأولاده وحقوقهم ومركزهم عند الله ورسوله ثم في حق كثير من أصحاب رسول الله ﷺ الذين منعوهم من حقوقهم بزعمهم أسقطت حينما جمع أبو بكر وعمر ثم عثمان رضي الله عنهم القرآن وكتبوه في مصاحف جديدة، بل بلغ بهم الزعم إلى حد أن المصحف لم يحتو إلا نصف ما نزل وأن
ومزاعمهم أوهى وأشد تهافتا وزيفا مما يتحمل نقدا وتفنيدا. ولقد انبرى لها كثير من العلماء وفندوها في كتب مشهورة متداولة. ولقد كان لأبناء علي بن أبي طالب سلطان قوي في بلاد إسلامية عديدة ولمدد غير قصيرة. ولو كان عندهم قرآن غير القرآن الذي كتب في عهد أبي بكر ثم في عهد عثمان ونسخ عنه المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها مصاحفهم وحفظوه في صدورهم جيلا بعد جيل من لدن النبي ﷺ لظهر.
وهذه المزاعم منحصرة في الغلاة المارقين أما المعتدلون الذين هم جمهرة الشيعة فإنهم يعترفون كما ورد في كتب كثير منهم أن المصحف المتداول احتوى جميع ما بلغه رسول الله وبقي بعده دون رفع ونسخ ونقص وحسب ترتيبه. ويقفون عند ذلك وإن كانوا يؤولون كثيرا من آياته تأويلا يتوافق مع هواهم الحزبي «١».
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ١٠ الى ١٣]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (١٠) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١١) كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (١٢) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (١٣)(١) شيع الأولين: فرق الأولين المتنوعة، كناية عن الأقوام السابقة.
(٢) نسلكه: ندخله ونلقيه.
في الآيات خطاب للنبي ﷺ بأن الله قد أرسل من قبله رسلا إلى الأمم السابقة فكانوا يستهزئون بهم ويعجزونهم كما يفعل قومه معه. وتقرير رباني بأن هذا هو دأب المجرمين الذين فسدت أخلاقهم وخبثت سرائرهم فلا يؤمنون بما يأتيهم من ذكر من ربهم وقد مضت سنة الله في أمثالهم الأولين.
والآيات كذلك متصلة بالسياق، وقد استهدفت تطمين النبي ﷺ وتقرير طبيعة الكفار الإجرامية، وتعليل عدم إيمانهم بذلك، والتنديد بهم وإنذارهم وسلكهم في سلك الأمم السابقة التي أهلكها الله بسبب إجرامها الذي أداها إلى عدم الإيمان بما أنزل الله من كتب وبينات.
تعليق على مدى الآية كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ والآية التالية لها
والآيتان [١٢- ١٣] شبيهتان بالآيتين [٢٠٠ و ٢٠١] من سورة الشعراء. وقد جاء كل منهما بعد ذكر القرآن. ولذلك أولناهما هنا كما أولناهما هناك وصرفنا الضمير في نَسْلُكُهُ ولا يُؤْمِنُونَ بِهِ إلى القرآن الذي عبر عنه هنا بكلمة (الذكر).
ولقد اختلف المؤولون والمفسرون في عائدية الضمير في الكلمتين كما
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ١٤ الى ١٥]
وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (١٤) لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (١٥)(١) يعرجون: يصعدون.
(٢) سكرت: غطيت وأغلقت.
في الآيات حكاية لما يقدّر أن يقوله الكفار لو فتح عليهم باب من السماء، ونصب بينه وبين الأرض سلّم ليصعدوا عليه إلى السماء حيث كانوا يقولون حينئذ إن أبصارنا قد سكرت وإنا مسحورون، وإن ما نشاهده هو تخييل ووهم.
والآيات متصلة بالسياق كما هو المتبادر وهي بسبيل وصف شدة عناد الكفار ومكابرتهم والتنديد بهم، وبسبيل تثبيت النبي ﷺ وتسليته في الوقت نفسه. وفيها تدعيم ما لما أوّلنا به الآيات السابقة حيث انطوى فيها تقرير طبيعتهم الفاسدة التي تجعلهم لا يقنعون بأي آية من آيات الله. وتوكيد للحكمة التي نبهنا عليها في مناسبات سابقة في عدم استجابة الله تعالى لتحدي الكفار بالإتيان بالمعجزات والخوارق حيث علم الله أنها لن تكون سببا لإيمانهم.
ولقد صرف بعض المؤولين كما جاء في تفسير الطبري وغيره الضمير في فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ إلى الملائكة بقرينة ذكرهم سابقا كما صرفه بعضهم إلى الكفار على ما جاء في الطبري وغيره أيضا. وهذا ما رجحناه في الشرح لأنه الأكثر اتساقا مع مجموع الآيات نصا وروحا، والله أعلم.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ١٦ الى ٢٧]
وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ (١٦) وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (١٧) إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ (١٨) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (١٩) وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ (٢٠)
وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢١) وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ (٢٢) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ (٢٣) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (٢٤) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (٢٥)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٦) وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ (٢٧)
(٢) موزون: أوجه الأقوال أن الكلمة بمعنى مقدر بحساب.
(٣) ومن لستم له برازقين: المقصود بذلك الحيوانات الأخرى.
(٤) لواقح: ملقحة أو مولدة. والمقصود بالجملة تقرير كون الريح يولد المطر ويسببه.
(٥) الوارثون: هنا بمعنى الباقون بعد فناء الناس.
(٦) صلصال: طين يابس إذا نقر عليه رنّ وصوّت.
(٧) حمأ: أسود اللون.
(٨) مسنون: مصبوب أو مصوّر.
(٩) الجان: لغة في الجن.
(١٠) السموم: أوجه الأقوال أنها الريح الحارة التي تنفذ في المسامات أو تسمم الإنسان وتقتله. وأوجه الأقوال في (نار السموم) التي لها لهب وريح شديد الحرارة قاتل.
تشير الآيات إلى مظاهر قدرة الله وعظمته وسننه الكونية ونعمه على البشر والمخلوقات الأخرى وتصرّفه في الكون تصرفا مطلقا، وعلمه الشامل المحيط بالناس سابقيهم ولا حقيهم وخلقه الإنس والجن وكونه مرجع كل شيء وأنه أزلي أبدي. وعباراتها واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر.
والمتبادر أنها جاءت معقبة على جميع الآيات السابقة التي حكت مواقف
تعليق على آية وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ والآيات التسع التالية لها
وما عدّد هنا من مظاهر قدرة الله تعالى قد تكرر في القرآن بأساليب متنوعة مرت أمثلة عديدة منها. وتضمنت جميعها لفت نظر الناس إلى ما يقع تحت أبصارهم ومشاهدتهم وحسهم، وتذكيرهم بشمول قدرة الله وعظمته ومطلق تصرفه وكونه الخالق المدبر الأزلي الأبدي، مما يؤيد ما قلناه غير مرة من أن القصد من ذلك هو العظة واسترعاء الأنظار والأذهان ودعوة الناس إلى الخضوع لله تعالى وحده، ونقول هنا ما قلناه في المناسبات السابقة المماثلة وبخاصة في سياق تفسير سورة القيامة إننا لا نرى طائلا من وراء محاولة استنباط نواميس الكون والخلق فنيا، والتوفيق بين ما هو معروف من هذه النواميس وبين ما في هذه الآيات وأمثالها، ولا من وراء محاولة استخراج قواعد فنية كونية منها. إذ أن كل هذا خارج عن نطاق هدف الآيات.
ولقد علقنا على موضوع استراق الشياطين للسمع من السماء ورجمهم بالشهب بما فيه الكفاية في تفسير سورة الجن، كما علقنا بما فيه الكفاية كذلك على خلق الجن من النار والإنسان من الطين في تفسير سورة ص فلا نرى ضرورة للإعادة. وننبه فقط على أن ذكر خلق الإنسان من صلصال والجن من النار بين يدي ذكر قصة آدم وإبليس الواردة في الآيات التالية لهذه الآيات يجعل الهدف التمثيلي والتلقيني في القصة أكثر بروزا.
ولقد روى الترمذي عن ابن عباس قال: «كانت امرأة حسناء تصلّي خلف النبي ﷺ فكان بعض القوم يتقدم حتى يكون في الصفّ الأول لئلا يراها. وبعضهم
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٢٨ الى ٤٤]
وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٨) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (٢٩) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٣٠) إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣١) قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣٢)
قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٣٣) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٣٤) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٣٥) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٣٦) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٣٧)
إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٣٨) قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٣٩) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٤٠) قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (٤١) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (٤٢)
وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٣) لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (٤٤)
(١) بما أغويتني: أوجه الأقوال في تأويل الجملة أن إبليس اعتبر أمر الله تعالى إياه بالسجود لآدم سببا لغوايته فأقسم ليغوين ذريته انتقاما.
(٢) هذا صراط عليّ مستقيم: أوجه الأقوال في تأويل الجملة إن نهجي وتقديري في هذا الأمر واضح مستقيم لا تبديل فيه.
في الآيات تذكير بقصة آدم وموقف الملائكة وإبليس من أمر الله تعالى بالسجود له وتوكيد رباني بأن الذين يتبعون إبليس وتزييناته وينحرفون عن طريق الحق والهدى هم الأشرار الغواة الذين فسدت أخلاقهم وحق عليهم بسبب ذلك عذاب جهنم، وبأن إبليس لن يكون له سلطان وتأثير على عباد الله الصالحين المخلصين الذين حسنت نواياهم وطابت أخلاقهم فاتبعوا الحق والهدى.
والآيات كما يبدو جاءت استطرادية، حيث انتهت الآيات السابقة لها بذكر خلق الإنسان والجان، فجاءت هذه تستطرد إلى ذكر قصة آدم وإبليس اللذين يمثلان الإنس والجن.
وقد جاءت القصة هنا كما جاءت في السور السابقة في سياق ذكر مواقف الكفار وتعجيزهم ومكابرتهم وقصد بها التذكير والعظة. ولقد أسهبنا في التعليق على القصة من وجهة الأهداف ومن وجهة الموضوع بما فيه الكفاية في تفسير سورة ص والأعراف والإسراء فلا نرى حاجة إلى إضافة شيء جديد هنا إلا التنبيه إلى أن في سبق القصة بذكر خلق الإنسان من صلصال والجان من نار بيانا جديدا، يجعل الصلة والحكمة في القصة واضحتين أكثر.
تعليق على أبواب جهنم السبعة
لقد تعددت الأقوال التي يرويها المفسرون في صدد ذلك، وليس منها شيء صادر عن النبي ﷺ الذي هو وحده المصدر الصادق لتوضيح المشاهد الأخروية الغيبية، ومع واجب المسلم بالإيمان بما جاء في القرآن من ذلك ومنها أبواب جهنم السبعة والوقوف عنده بدون تخمين وإيكال تأويله إلى الله تعالى فقد يتبادر أن من حكمة ذكر ذلك كونه متساوقا مع ما شاءت حكمة الله من وصف مشاهد الآخرة بأوصاف الدنيا المألوفة على ما نبهنا عليه سابقا وكون قصد الآية مع السياق هو
تعليق على مدى جملة بِما أَغْوَيْتَنِي
ذكرنا في شرح الكلمات أوجه ما قيل في تخريج الجملة ونزيد هنا فنقول إنها حكاية لقول إبليس وليس في السياق إقرار لهذا القول. فتبقى من نوع حكاية أقوال الكفار والمشركين مثل: وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ [الزخرف/ ٢٠] و:
وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ [النحل/ ٣٥] وغيرهما. وقد سفّه الله قولهم في تتمة كل آية.
وفي المقام الذي نحن فيه وفي المقام الذي جاءت فيه الجملة في سورة الأعراف [الآيات ١٦ وما بعدها] ردّ من الله على إبليس متمثل في الآيات [٤١- ٤٤] هنا وفي الآية [١٩] في سورة الأعراف. فلا يبقى إشكال ولا محل لتمحل المتمحلين في صدد العبارة القرآنية.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٤٥ الى ٥٠]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٤٥) ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ (٤٦) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (٤٧) لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ (٤٨) نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٤٩)
وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ (٥٠)
(١) غلّ: حقد.
(٢) نصب: تعب ومشقة.
في الآيات بيان لما سوف يلقاه المتقون في الآخرة من تكريم وأمن وخلود الجزء الربع من التفسير الحديث ٤
والمتبادر أن الآيات الأربع الأولى جاءت تتمة لما سبقها لمقابلة ذكر مصائر الكفار جريا على الأسلوب القرآني. أما الآيتان الأخيرتان فقد جاءتا كتعقيب ختامي للكلام انطوى فيه قصد إعلان الناس أن الله كما هو الغفور الرحيم للمخلصين والتائبين فإنه شديد العذاب للجاحدين الأشرار. وقد استهدفتا فيما استهدفتاه تثبيت المتقين المخلصين ودعوة للكفار والمذنبين إلى الإنابة إلى الله.
ولعل في الآية جوابا ضمنيا لما يمكن أن يرد على بال إنسان ما ممّا قد يعتري المرء من أبدية حياة رتيبة ولو كانت نعيما من ملل حيث تطمئن أهل الجنة بأنهم لن يمسهم فيها نصب. وفي سورة فاطر التي مرّ تفسيرها زيادة وهي لا يمسهم فيها لغوب أيضا واللغوب بمعنى الإعياء الذي هو فوق التعب العادي وذلك في الآيتين [٣٤- ٣٥].
ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية [٤٨] حديثا رواه مسلم أيضا عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: «ينادي مناد من أهل الجنة إنّ لكم أن تصحّوا فلا تسقموا أبدا وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدا، وإن لكم أن تشبّوا فلا تهرموا أبدا وإن لكم أن تنعموا فلا تبتئسوا أبدا» «١». وهناك حديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي هريرة أيضا عن النبي ﷺ يصح إيراده في مناسبة الآيتين [٤٦ و ٤٧] جاء فيه: «إنّ أهل الجنة لا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم واحدة يسبّحون لله بكرة وعشيا» «٢». حيث يتساوق الحديثان النبويان في التلقين والبشرى مع الآيات القرآنية.
ولقد روى ابن كثير حديثين عن مصعب بن ثابت أخرج أولهما ابن أبي حاتم
(٢) المصدر نفسه ص ٣٧٥.
«طلع رسول الله ﷺ على أناس من أصحابه فقال: ألا أراكم تضحكون ثم أدبر حتى إذا كان عند الحجر رجع القهقرى قال إني لما خرجت جاء جبريل عليه السلام فقال يا محمد إن الله يقول لم تقنط عبادي، نبىء عبادي أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم».
والأحاديث ليست وثيقة وهي من المراسيل كما وصفها ابن كثير. ومقتضاها أن تكون الآيتان نزلتا لحدتهما مع أنهما منسجمتان مع ما قبلهما ومع ما بعدهما.
ومن المحتمل أن يكون النبي ﷺ تلاهما في موقف مماثل للموقف المروي فالتبس الأمر على الرواة إذا صح الحديث، والله أعلم.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٥١ الى ٥٦]
وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ (٥١) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (٥٢) قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (٥٣) قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (٥٤) قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ (٥٥)
قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ (٥٦)
(١) وجلون: خائفون.
هذه الآيات حلقة من سلسلة قصصية، ومعانيها واضحة. وفيها إشارة إلى قصة تبشير إبراهيم عليه السلام بغلام بعد أن شاخ ويئس من الإنجاب وقد جاء ذلك في سورة هود أيضا وعلقنا عليه بما يغني عن التكرار.
وفي الآيات شيء جديد وهو حكاية المحاورة بين إبراهيم عليه السلام وضيفه في صدد البشرى بالغلام، في حين أن سورة هود حكت المحاورة في صدد
وفي هذه المحاورة مواضع عبر يتبادر لنا أن من أهداف الآيات دعوة سامعي القرآن إلى الاعتبار بها بدليل بدء الآيات بأمر النبي ﷺ بإنباء السامعين بالقصة.
وهذه العبر هي التأميل في رحمة الله والنهي عن القنوط منها، وتقرير كون الأمل متلازما مع الإيمان، والقنوط متلازما مع الكفر والضلال.
وبهذا تبدو حكمة تكرار القصص وتنوع أساليبها كما هو ظاهر.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٥٧ الى ٧٧]
قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٥٧) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٥٨) إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٩) إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ (٦٠) فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (٦١)
قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (٦٢) قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (٦٣) وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٦٤) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (٦٥) وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (٦٦)
وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (٦٧) قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ (٦٨) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ (٦٩) قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ (٧٠) قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (٧١)
لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (٧٢) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (٧٣) فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (٧٤) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (٧٥) وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (٧٦)
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (٧٧)
(١) منكرون: مجهولون.
(٣) مصبحين: عند الصباح.
(٤) يستبشرون: مظهرون فرحهم لأنهم ظنوا أنهم سيظفرون بالضيوف لقضاء وطرهم منهم على عادتهم القبيحة.
(٥) مشرقين: عند الإشراق.
(٦) المتوسمين: المتفكرين المتفرسين أو المتأملين في حقائق الأمور وعبر الدهر.
(٧) وإنها لبسبيل مقيم: كناية عن بلاد لوط التي دمرها عذاب الله، فهي قائمة على طريق معروف للسامعين «١».
وهذه حلقة ثانية من سلسلة القصص، وقد احتوت قصة لوط وقومه ومهّد لها بالمحاورة في صدد قوم لوط بين إبراهيم ورسل الله. ومعاني الآيات واضحة ومعظم ما جاء هنا قد جاء في سورة هود أيضا مع بعض الخلاف الأسلوبي الذي اقتضته حكمة التنزيل وقد علّقنا على القصة في سياق تفسير سورة هود بما يغني عن التكرار.
والجديد فيها الإشارة إلى أن قوم لوط كانوا يمارون في عذاب الله الذي توعدهم به، وأن بلادهم هي على طريق معروف ففي النقطة الأولى إنذار للكفار العرب الذين كانوا يمارون مثلهم فيما كانوا يوعدون من عذاب الله ويستهزئون به.
وفي الثانية تذكير لهؤلاء ببلاد قوم لوط التي هي في طريق قوافلهم والتي يشاهدون آثار تدمير الله فيها. ففي كل ذلك موعظة لمن يفكر ويتفرس في الأمور، وآية للمؤمنين. ولقد جاء هذا التذكير في آيات سورة الصافات [١٣٣- ١٣٨] بأسلوب أكثر صراحة.
ورواة الأحاديث من أهل العهد المدني فتكون قد صدرت عن النبي ﷺ في هذا العهد. وفيها استيحاء نبوي من الآية فيه تنويه بما يكون للإيمان من أثر في صاحبه حتى ليجعله ذا نفوذ وصدق ونظر وقول وحكم.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٧٨ الى ٧٩]
وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ (٧٨) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ (٧٩)
(١) إمام مبين: أيضا بمعنى طريق واضح «٢» حيث كانت منازل أصحاب الأيكة في طريق قوافل العرب في جهات العقبة.
الآيتان من السلسلة القصصية وفيهما إشارة خاطفة إلى أصحاب الأيكة وانتقام الله منهم كما اقتضته حكمة التنزيل.
وأصحاب الأيكة هم أهل مدين قوم شعيب على الأرجح على ما شرحناه في سياق سورة الشعراء التي ذكروا فيها مع اسم شعيب. ومدين واقعة في جهات العقبة على طريق قوافل العرب أيضا. وقد استهدفت الآيتان تذكير العرب بنقمة الله التي حلّت بأهلها والتي يرون آثارها حينما يمرون ببلادهم نتيجة لظلمهم وإنذارا لهم.
(٢) انظر تفسير الآيات في ابن كثير والطبرسي والبغوي.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٨٠ الى ٨٤]
وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (٨٠) وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٨١) وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ (٨٢) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (٨٣) فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٤)والآيات آخر حلقات السلسلة ومعانيها واضحة، وقد احتوت خبر تكذيب أصحاب الحجر لرسلهم وإعراضهم عن آيات الله وحلول عذاب الله فيهم نتيجة لذلك، دون أن يغني عنهم ما كسبوا وما نحتوا من البيوت في الجبال. وقد استهدفت- على ما هو المتبادر- تذكير كفار العرب وإنذارهم كما استهدفته الحلقات السابقة.
وأصحاب الحجر هم على الأرجح قبائل ثمود قوم صالح الذين ذكرت قصتهم مع نبيهم في سورة هود والشعراء والنمل والأعراف وغيرها. لأن نحت البيوت في الجبال قد كان ممّا وصف به ثمود قوم صالح في سور هود والشعراء والأعراف. وبلادهم تعرف اليوم بمدائن صالح. وهي الأخرى واقعة في طريق القوافل العربية من الحجاز إلى بلاد الشام حيث تكون القصة بالأسلوب الذي جاءت به قد استهدفت تذكير كفار العرب بالدمار الرباني الذي حلّ بهذه البلاد والذي يشاهدونه في ذهابهم وإيابهم نتيجة لتكذيبهم لرسل الله وإعراضهم عن آياته.
هذا، ويلحظ أن حلقة القصص استهدفت في هذه السورة التذكير بالأمم التي كانت تقطن المناطق الواقعة في طريق القوافل الحجازية، والآيات تلهم أن العرب كانوا يعرفون ويعترفون بأن ما حلّ في هذه البلاد من التدمير الذي كانوا يشاهدون آثاره كان عذابا ربانيا ومن هنا جاء الإنذار محكما والحجة قوية. وآيات سورة الصافات [١٣٢- ١٣٨] ذكرت ذلك صراحة: وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٣) إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٣٤) إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (١٣٥) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (١٣٦) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (١٣٧) وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٣٨) وفي سورة العنكبوت مثل هذه الصراحة
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٨٥ الى ٨٦]
وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (٨٥) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (٨٦)
(١) فاصفح الصفح الجميل: المتبادر أن الجملة في معنى «واهجرهم هجرا جميلا» التي شرحناها في سورة المزمل.
في الآيتين توكيد رباني بأن الله تعالى لم يخلق السموات والأرض وما بينهما عبثا، وإنما خلقهما بالحق ولحكمة جليلة لا بد من تحقيقها، وبأن الساعة التي يبعث الناس فيها آتية من دون ريب، وأمر للنبي ﷺ بالإغضاء عن مواقف الكفار المثيرة المعجزة وعدم الاغتمام والحزن منها، والمرور بها مرّ الكرام، فربّه هو الذي خلق الناس جميعا وهو العليم بأمورهم خفيها وعلنها.
والمتبادر أن الآيتين جاءتا معقبتين على موقف الكفار الذي حكته الآيات السابقة لسلسلة القصص بسبيل تطمين النبي ﷺ وتثبيته وإنذار الكفار وتوكيد تحقيق ما يوعدون به. والمتبادر كذلك أن الآيات عنت بالساعة الآتية أنها من ذلك الحق الذي لم يكن عبثا من الله. وقد تكرر هذا في آيات عديدة مرّ بعضها في السور التي سبق تفسيرها وعلقنا عليه بما يغني عن التكرار. ولقد ذكر المفسرون أن جملة فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ نسخت بآيات القتال وقد علقنا على مثل هذا في مناسبات سابقة بما يغني عن التكرار أيضا والجملة في مقامها قد توخت كما قلنا تثبيت النبي ﷺ في الدرجة الأولى.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٨٧ الى ٨٩]
وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (٨٧) لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (٨٨) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (٨٩)
الآيات استمرار في التعقيب وفي تطمين النبي ﷺ وتسليته. فقد كرمه الله وحباه بما آتاه من المثاني السبع والقرآن العظيم. فعليه أن يستمر في دعوته إلى الله تعالى وإعلان أنه نذير للناس من قبل الله، وأن يخفض جناحه للذين آمنوا وصدقوا ويغدق عليهم عطفه وبره، وألّا يبالي ولا يحزن مما يبدو من الكفار من عناد وإعراض ولا بما يتمتع به بعضهم من المال والجاه. فما آتاه الله خير وأبقى وما أوتوه عرض زائل لا يعني رضاء الله وإنما أوتوه باقتضاء حكمته ونواميس كونه.
تعليق على جملة وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ
وقد تعددت الروايات والأقوال في «المثاني السبع» فروي أنها الفاتحة استنادا إلى حديث رواه أبو هريرة عن النبي ﷺ جاء فيه: «أم القرآن هي السبع المثاني» «١». وأن تسميتها بالسبع المثاني لأنها تثنى في الصلاة فتقرأ في كل ركعة أو لأن فيها ثناء على الله تعالى وهي سبع آيات. وروى بعضهم أنها السور السبع الطوال وأنكر بعضهم هذا القول لأن سورة الحجر نزلت قبل نزول السور السبع الطوال التي هي مدينة «٢».
(٢) انظر كتب تفسير الطبري وابن كثير والطبرسي والخازن والزمخشري. [.....]
ولا سيما أن السبع الطوال لم تصبح كذلك إلّا بعد ترتيب القرآن آيات في سور وسورا في مصحف. وهذا إنما تم في أواخر عهد النبي صلى الله عليه وسلم. ولذلك فإن إنكار صرف الجملة إليها في محله، ويتبع هذا إنكار رواية مدينة الآية.
تعليق على الآية لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ
روى ابن كثير في صدد الآية حديثا جاء فيه: «إن النبي ﷺ ضافه ضيف ولم يكن عنده شيء فأرسل إلى رجل من اليهود يستلف منه دقيقا فقال لا إلّا برهن فرجع فأخبر النبي بجوابه فقال أما والله إني لأمين من في السماء وأمين من في الأرض ولو أسلفني لأديت له فلما خرج الرجل نزلت الآية». والحديث ليس من الصحاح والحادث المذكور فيه مدني والآية مكية لا خلاف فيها وهي منسجمة نظما وسياقا مع ما قبلها ومع ما بعدها. فضلا عن أن الحديث لا يتناسب مع مدى الآية. ولقد ورد في سورة طه آية مماثلة لهذه الآية وروي في سياقها نفس الحديث. وفندنا صلته بالآية كما فعلنا هنا. ولقد قال بعض المفسرين إن في الآية نهيا للنبي ﷺ عن تمني ما عند الكفار ونحن نجل النبي ﷺ عن أن يدور في خاطره ذلك. وكل ما يحتمل أن يكون تعجب منه أو من بعض أصحابه من حسن حال الكفار وكثرة مالهم على كفرهم فاقتضت حكمة التنزيل تسليتهم وتطمينهم على النحو الذي شرحناه والذي نرجو أن يكون فيه الصواب.
والتعجب من حسن حال الكفار حالة نفسانية كانت متجددة الباعث في العهد المكي بنوع خاص فضلا عن كونها كذلك في كل ظرف، وهذا ما يفسر حكمة تكرر النهي والتنبيه على ما هو المتبادر.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٩٠ الى ٩٣]
كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (٩٠) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (٩١) فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٩٢) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٣)(١) كما أنزلنا: قيل إن نظمها مرتبط بجملة وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي بحيث يكون تقدير الكلام «كما آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم وأنزلنا على المقتسمين» وقيل إن نظمها مرتبط بجملة إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ بحيث يكون تقدير الكلام «إني نذير لكم بعذاب الله كما أنزل عذابه على من تحالف وتقاسم ضد أنبيائه من قبلكم».
(٢) المقتسمين: تعددت الأقوال في تأويلها فقيل إنها تعني اليهود والنصارى الذين اقتسموا كتب الله حيث اختص كل منهم بشيء منها. وقيل إنها تعني نفرا من زعماء مكة اقتسموا أبواب مكة ومداخلها ليلاقوا الوافدين عليها ويحذروهم من النبي صلى الله عليه وسلم. وفيها إنها تعني الذين تقاسموا بالأيمان من المشركين والكتابيين على مخالفة النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل إنها تعني الذين تقاسموا بالأيمان على مخالفة الأنبياء من قبله فأنزل الله عذابه عليهم وأهلكهم. وقيل إنها تعني رهط صالح الذين تقاسموا على اغتياله فأهلكهم الله كما ورد في سورة النمل «١».
(٣) عضين: جمع عضة. قيل إنها بمعنى أجزاء متفرقة حيث يكون المقتسمون جعلوا القرآن أجزاء صدقوا بعضها وكذبوا بعضها، أو نعتوا بعضها بنعت وبعضها بنعت آخر وهناك حديث رواه البخاري عن ابن عباس أنه قال: «هم أهل الكتاب جزّؤوه أجزاء فآمنوا ببعضه وكفروا ببعضه». وقيل إنها بمعنى السحر:
أي أن المقتسمين قالوا إن القرآن سحر «٢».
مهما بدا على الآيات من إشكال نظمي تحير فيه المفسرون وتعددت أقوالهم في صدد المقصود من المقتسمين وارتباط جملة كَما أَنْزَلْنا على ما شرحناه في
(٢) المصدر نفسه.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٩٤ الى ٩٩]
فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (٩٤) إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (٩٥) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٩٦) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ (٩٧) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (٩٨)
وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (٩٩)
(١) اصدع: أطع ونفذ أو امض لما تؤمر به.
(٢) اليقين: معظم الأقوال على أن الكلمة هنا عنت الموت، وهناك حديث رواه البخاري عن سالم بن عبد الله أحد أصحاب رسول الله أن الكلمة عنت الموت. «١»
في الآيات أمر للنبي ﷺ بالاستمرار في الدعوة والجهر بها والقيام بالمهمة التي أمر بها دون مبالاة بالمشركين. وتطمين رباني بأنه قد كفاه شر المستهزئين به الذين يشركون مع الله غيره والذين سوف يرون سوء عاقبة كفرهم ومواقفهم فلن يصل إليه أذاهم. وتسلية ربانية ثانية له، فالله يعلم أنه ليضيق صدره بما يقولون عنه وعن القرآن ويحزن منه فليهدأ روعه وليطمئن قلبه وليسبح الله ويذكره ويسجد له ويعبده ما دام حيا، ففي ذلك سكينة للقلب وطمأنينة للروح وتهدئة للنفس.
ولقد روى الطبري وغيره في سياق الآية الأولى روايات تفيد أن النبي ﷺ ظل مستخفيا حتى نزلت، فخرج هو وأصحابه وهذه الروايات لم ترد في كتب الصحاح. ولقد استدللنا من نصوص السور المبكرة في النزول على أن النبي ﷺ جهر بالدعوة منذ نزول الوحي عليه وظل على ذلك دون انقطاع. وكل ما يمكن أن يصح هو أنه كان يلتزم جانب الحذر في الاجتماع والصلاة بأصحابه حماية لهم على ما شرحناه في سياق سورتي العلق والمزمل وقد يكون الاستخفاء الذي ترويه الروايات هو هذا.
ولقد روى الطبري وغيره في سياق الآية الثانية أن خمسة من ذوي الأسنان والشرف في قريش كانوا أكثر المستهزئين بالنبي ﷺ مع اختلاف في أسمائهم فلما تمادوا دعا النبي ﷺ فأنزل الله الآية. وصار النبي بعدها يومىء على واحد منهم بعد الآخر فلا تلبث أن تصيبه نازلة فتقتله. وفي رواية إن جبريل نزل فأخذ النبي يشير إليهم واحد بعد آخر فيقول له كفيته ثم يصاب بنازلة فتقتله. وفي رواية إن الآية نزلت لتطمين النبي ﷺ وتبشيره ثم كانوا من هلكى بدر فتحققت البشرى.
والروايات لم ترد في الصحاح وقد تكون الأسماء التي ذكرت فيها ممن كانوا أشد أذى ومناوأة للنبي ﷺ من غيرهم. ولكن روح الآيتين ومقامهما يلهمان أنهما جزء من السياق السابق، وإنهما بسبيل تثبيت النبي ﷺ وبث القوة والجرأة في نفسه مع بشرى من الله عز وجل بأنه كافيه وحاميه وعاصمه من المستهزئين بصورة عامة.
وهي قوية رائعة في تلقينها وتطمينها وفي الخطة الحكيمة التي أمر النبي ﷺ فيها بترسمها إزاء موقف الكفار وعنادهم. وجاءت خاتمة قوية للسورة التي احتوت فصولا في مواقف الكفار وأقوالهم وإنذارهم وطابع الختام بارز عليهما كما هو المتبادر. ولقد تحققت بشرى الله عز وجل لرسوله بأنه قد كفاه المستهزئين وعصمه
ونقف عند جملة فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ لنقول إنها كما قلنا بسبيل تثبيت النبي ﷺ في الظرف الذي نزلت فيه وينبغي أخذها على هذا الاعتبار لا على اعتبار أمر الله لنبيه بإهمال المشركين وتجاوزهم. فدعوة المشركين إلى الله من مهمة النبي الأصلية. والقرآن واصل أوامره للنبي ﷺ بمواصلة الجهد في سبيل هذه المهمة. والنبي ظل يواصلها فعلا والأمر فَاصْدَعْ ينطوي على وجوب هذه المواصلة بحيث يكون معنى وَأَعْرِضْ في مقامها (لا تأبه بمناوأتهم) وقد تكرر مثل هذا في المواقف المماثلة ومرت أمثلة منه في السور التي سبق تفسيرها.
وبعضهم يرى أن الجملة ترك المشركين وشأنهم وأنها نسخت بآيات القتال في العهد المدني، وقد يصدق النسخ بالنسبة لمن وقف وظل يقف من الإسلام والمسلمين موقف الأذى والعدوان، وهذا ما نبهنا عليه في المناسبات السابقة أيضا.
في السورة فصول ومشاهد متنوعة عما كان يقع بين النبي ﷺ والكفار من مناظرات. وقد حكي فيها تعجيزهم وما كان يلهم بالنبي ﷺ من همّ وغمّ من جرّائها. وفيها تنديدات وإنذارات قاصمة للكفار وبخاصة لزعمائهم على مواقف المكابرة والعناد التي يقفونها والأدوار الخبيثة التي يقومون بها. واستشهاد بالذين أوتوا الكتاب على صحة رسالة النبي ﷺ وصلة القرآن بالله وشهادتهم بذلك. وفيها تقريرات عديدة عن عظمة الله تعالى وقدرته وشمول حكمه وبديع نواميس كونه.
وفيها فصول وصور عن عقائد العرب ونذورهم وتقاليدهم في الأنعام والحرث وقتل الأولاد والذبائح، وحجاج في صددها بين النبي ﷺ وبين الكفار وفيها مجموعة رائعة من الوصايا في التوحيد ومكارم الأخلاق وحملة على الذين يتبعون الأهواء.
والسورة من أمهات السور الجامعة الرائعة، وقد روى ابن كثير بخاصة وغيره من المفسرين مثل البغوي والطبرسي والخازن والزمخشري أحاديث عن أصحاب رسول الله ﷺ في صدد خطورة هذه السورة ونزولها منها عن ابن عباس قال:
«نزلت سورة الأنعام بمكة ليلا جملة واحدة حولها سبعون ألف ملك يجأرون حولها بالتسبيح» وعن أسماء بنت يزيد قالت: «نزلت سورة الأنعام على النبي ﷺ جملة واحدة وأنا آخذة بزمام ناقته، إن كادت من ثقلها لتكسر عظام الناقة». وليس شيء من هذه الأحاديث واردا في كتب الصحاح بل ولم يرو الطبري الذي كان أقدم وأكثر المفسرين استيعابا للمأثور منها شيئا. ومع ذلك فيتبادر لنا أنها تدل على ما كان من ذكريات خطورة شأن السورة حين نزولها. وفصول السورة منسجمة