تفسير سورة الحجر

معاني القرآن
تفسير سورة سورة الحجر من كتاب معاني القرآن .
لمؤلفه الفراء . المتوفي سنة 207 هـ

قوله عزّ وجلّ :﴿ رُّبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ ٢ ﴾
يقال : كيف دخلت ( رب ) على فعل لم يكن ؛ لأن مودّة الذين كفروا إنما تكون في الآخرة ؟ فيقال : إن القرآن نزل وعدُه ووعيده وما كَان فيه، حَقّا فإنه عِيان، فجرى الكلامُ فيما لم يكن منه كمجراه في الكائن. ألا ترى قوله عز وَجل :﴿ وَلَوْ تَرَى إذِ المُجْرِمُونَ ناكِسُو رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ ﴾ وقوله :﴿ وَلَوْ تَرَى إذْ فَزِعُوا ﴾ كأنه ماض وهو منتظر لصدقه في المَعْنى، وأن القائل يقول إذا نَهى أو أَمَر فعصَاه المأمور :
أما والله لرُبِّ ندامة لك تَذكُر قولي فيها، لعلمه أنه سيندم، ويقول : فقول الله عَز وجل أصْدق من قول المخلوقين.
وقوله :﴿ وَما أَهْلَكْنا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَها كِتَابٌ مَّعْلُوم ٤ ﴾
لو لم يكن فيه الواو كان صَوابا كما قال في موضع آخر :﴿ وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاّ لَها مُنْذِرُونَ ﴾ وهو كما تقول في الكلام : ما رأيت أحداً إلاّ وعليه ثياب وإن شئت : إلاّ عليه ثياب. وكذلك كل اسم نكِرة جاء خبره بعد إلاّ، والكلام في النكرة تامّ فافعل ذلك بصلتها بعد إلاّ. فإن كان الذي وقع على النكرة ناقِصاً فلا يكون إلاّ بطرح الواو. ومن ذلك، ما أظن درهما إلاّ كافيَك ولا يجوز إلا وهو كافيك، لأن الظنّ يحتاج إلى شيئين، فلا تعترضُ بالواو فيصيرَ الظنّ كالمكتفي من الأفعال باسم واحدٍ. وكذلك أخوات ظننت وكان وَأشباهُها وإنّ وأخواتها ( وإنّ ) إذا جاء الفعل بعد ( إلاّ ) لم يكن فيه الواو. فخطأ أن تقول : إن رجلاً وهو قائم، أو أظنّ رجلا وهو قائم، أو ما كان رجل إلاّ وهو قائم.
ويجوز في ليس خاصة أن تقول : لَيس أحد إلاّ وَهو هكذا، لأن الكلام قد يُتوهّم تمامه بليس وبحرفٍ نكرة ألا ترى أنك تقول : ليس أحد، وما من أحدٍ فجاز ذلك فيها ولم يَجُز في أَظنّ، ألا ترى أنك لا تقول ما أظنّ أَحداً. وقال الشاعر :
إِذا ما سُتورُ البيت أُرخِين لم يكن سراج لنا إلاّ وَوَجهُك أنور
فلو قيل : إلاّ وجهك أنور كان صواباً.
وقال آخر :
وما مَسّ كفي من يد طاب ريحها منَ الناس إلاّ ريحُ كفَّيك أطيب
فجاء بالواو وبغير الواو. ومثله قوله :﴿ وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ المُرْسَلِين إلا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعام ﴾ فهذا الموضع لو كان فيه الواو صَلح ذلك. وإذا أدخلت في ( كَان ) جَحْداً صلح ما بعد ( إلاّ ) فيها بالواو وَبغير الواو. وإذا أدخلت الاستفهام وأَنت تنوى به الجحد صلح فيها بعد ( إلاّ ) الواو وطرح الواو. كقولك : وهَل كان أحد إلاّ وَله حرص على الدنيا، وإلاّ له حرص على الدنيا.
فأما أَصْبَحَ وَأَمْسى وَرأيت فإنّ الواو فيهنّ أَسهل، لأنهن /٩١ ا توامّ ( يعنى تامات ) في حال، وكَان وليسَ وأظن بُنينَ على النقص.
ويجوز أن تقول : ليس أَحد إلاّ وله معاش : وإن أَلقيت الواو فصواب، لأنك تقول : ليس أحد فتقف فيكون كلاما. وكذلك لافي التيرئة وغيرها. تقول : لاَ رجلَ ولا مِن رجل يجوز فيما يعود بذكره بعد إلاّ الواوُ وغير الواو في التمام ولا يجوز ذلك في أَظنّ من قبلَ أن الظنّ خِلْقته الإلغاء : ألا ترى أنك تقول : زيد قائم أَظنّ، فدخول ( أَظن ) للشك فكأنه مستغنىً عنه، وليس بنفي ولا يكون عن النفي مستغنياً لأنك إنما تخبر بالخبر على أنه كَائن أو غير كَائن، فلا يقال للجحد : إنه فَضل من الكلام كما يقال للظنّ.
وقوله :﴿ ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ ٥ ﴾
ولم يقل ( تستأخر ) لأن الأُمَّة لفظها لفظٌ مؤنَّثٌ، فأُخرج أَوَّل الكلام على تأنيثها، وَآخِره على مَعْنى الرجال. ومثلها ﴿ كلَّما جَاء أُمةً رَسُولُها كذَّبُوهُ ﴾ وَلو قيل : كذّبته كَان صَوابا وَهو كثير.
وَقوله :﴿ لَّوْ ما تَأْتِينا ٧ ﴾
وَلولا وَلوما لغتان في الخبر وَالاستفهام فأما الخبر فقوله ﴿ لَوْلا أَنتَمْ لكُنا مُؤْمِنِينَ ﴾.
وقال الشاعر :
لوما هوَى عِرْسِ كُمَيت لم أُبَل ***...
وهما ترفعان ما بعدهما.
وَأَما الاستفهام فقوله :﴿ لَّوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائكَةِ ﴾ وَقوله ﴿ لَوْلا أَخَّرْتَني إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ ﴾ والمعنى - والله أعلم - : هلاّ أَخَّرتني.
وقد استعملت العرب ( لولا ) في الخبر وكَثُر بها الكلام حتى اسْتجازوا أن يقولوا : لولاك ولولاي، والمعنى فيهما كالمعنى في قولك : لولا أنا ولولا أنت فقد توضع الكاف على أَنها خفض والرفع فيها الصَّواب. وذلك أنا لم نجد فيها حرفاً ظاهراً خُفِض، فلو كان مما يَخفض لأوشكت أن ترى ذلك في الشعر ؛ فإنه الذي يأتي بالمستجاز : وإنما دعاهم إلى أن يقولوا : لولاك في موضع الرفع لأنهم يجدون المكنّى يستوي لفظه في الخفض والنصب، فيقال : ضربتك ومررت بك ويجدونه يستوي أيضاً في الرفع والنصب والخفض، فيقال ضربَنا ومرَّينا، فيكون الخفض والنصب بالنون ثم يقال قمنا ففعلنا فيكون الرفع بالنون. فلَّما كان ذلك اسْتجازوا أَن يكون الكاف في موضع ( أنت ) رفعاً إذْ كان إعراب المكنّى بالدلالات لا بالحركات.
قال الشاعر :
أيطمع فينا مَن أراقَ دماءنا *** ولولاكَ لم يعرض لأحسابنا حَسَمْ
وقال آخر :
وَكَم مَوطِنٍ لَولايَ طِحتَ كَما هَوى***بِأَجرامِهِ مِن قُلَّةِ النِيقِ مُنهِوي
وقوله :﴿ إِنا نَحْنُ نَزَّلْنا الذِّكْرَ وَإِنا لَهُ لَحافِظُونَ ٩ ﴾
يقال : إن الهاء التي في ( له ) يراد بها القرآن ( حافِظُونَ ) أي راعون : ويقال : إن الهاء لمحمد صَلى الله عليه وسلم : وإنا لمحّمد لحافظون.
وقوله :﴿ كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ ١٢ ﴾
الهاء في ( نَسْلكه ) للتكذيب أي كذلك نسلك التكذيب. يقول :﴿ نجعله في قلوبهم ألاَّ يؤمنوا ﴾.
وقوله :﴿ وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ السَّماء فَظَلُّواْ ١٤ ﴾
يعنى الملائكة فظلَّت تصعد من ذلك الباب وتنزل ﴿ لَقَالُوا إنما سُكِّرت أبصارنا ﴾ ويقال ﴿ سُكِرَت ﴾ ومعناهما متقارِب. فأما سُكِّرت فحُبست، العرب : تقول : قد سَكَرت الريحُ إذا سَكَنَت وركدتْ. ويقال : أُغشيت، فالِغشاء والحيس قريب من السَّوَاء.
وقوله :﴿ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُّبِينٌ ١٨ ﴾ يقول : لا يخطفه، إما قَتَله وإما خبَّله.
وقوله :﴿ وَالأَرْضَ مَدَدْناها ١٩ ﴾ أي دَحَوناها وهو البَسْط ﴿ وَأَلْقَيْنا فِيها رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها ﴾ أي في الجبال ﴿ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ ﴾ يقول : من الذهب والفضَّة والرَّصَاص والنحاس والحديد فذلك الموزون.
وقوله :﴿ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعَايِشَ ٢٠ ﴾
أراد الأرض ﴿ وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ ﴾ فمن في موضع نصب يقول : جعلنا لكم فيها المعايش والعبيد والإماء.
قد جاء أنهم الوحوش والبهائم و ( مَن ) لا يُفرد بها البهائم ولا ما سوى الناس. فإن يَكن ذلك على ما رُوى فَنَرى أنهم أُدخل فيهم المماليك، على أَنا ملَّكناكم العبيد والإبل والغنم وما أشبه ذلك. فجازَ ذلك.
وقد يقال : إن ( مَن ) في موضع خفض يراد : جعلنا لكم فيها معايش ولمن. وما أقلَّ ما ترد العرب مخفوضاً على مخفوض قد كُنِى عنه. وقد قال الشاعر :
تُعلَّق في مثل السواري سُيُوفُنا وما بينها والكَعْبِ غَوْط نفانف
فردّ الكعب على ( بينها ) وقال آخر :
هلاَّ سألت بذى الجماجم عنهم وأبى نُعَيم ذى اللِّواء المُحرْق
فردّ ( أبى نعيم ) على الهاء في ( عنهم ).
وقوله :﴿ وَأَرْسَلْنا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ ٢٢ ﴾
وتقرأ ( الريح ) قرأها حمزة. فمن قال الرِّيحَ لواقِحَ ) فجمع اللواقح والريحُ واحدة لأن الريح في معنى جمع ؛ ألا ترى أَنك تقول : جاءت الريح من كلّ مكان، فقيل : لواقح لذلك. كما قبل : تركته في أرضٍ أغفال وسَبَاسب ( قال الفراء : أغفال : لا علم فيها ) ومهارق وثوب أخلاق. ومنه قول الشاعر :
جاء الشتاء وَقميصي أخلاقْ *** شراذِمٌ يَضحك مِنه التَّواقْ
وأما من قال ( الرياحَ لواقَح ) فهو بَيّن. ولكن يقال : إنما الريح مُلَقِحة تُلْقِح الشجر.
فكيف قيل : لواقح ؟ ففي ذلك معنيان أحدهما أن تجعل الريح هي التي تَلْقَح بمرورها على التراب والماء فيكون فيها اللَّقَاح، فيقال : ريح لاقح. كما يقال : ناقه لاقح. ويشهد على ذلك أنَّه وصف ريح العذاب فقال :﴿ عَلَيْهِمُ الريحَ العَقِيم ﴾ فجعلها عقيما إذْ لم تَلْقَح. والوجه الآخر أن يكون وصفها باللَّقْح وإن كانت تُلقِح كما قيل : ليل نائم والنوم فيه، وسرّ كاتم وكما قيل :
الناطق المبروز والمختوم ***...
فجعله مبروزا على غير فعل، أي إن ذلك من صفاته فجاز مفعول لمُفْعَل، كما جاز فاعِل لمفعول إذ لم يردَّ البناء على الفعل.
وقوله :﴿ وَلَقَدْ عَلِمْنا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنا الْمُسْتَأْخِرِينَ ٢٤ ﴾
وذلك أن النبيَّ صَلَّى الله عليه وسلم قال : إن الله وملائكته يصلّون على الصفوف الأُوَل في الصّلاة، فابتدرها الناس وأراد بعض المسلمين أن يبيع داره النائية ليدنو من المسجد فيدركَ الصفَ الأوّل ؛ فأنزل الله - عزَّ وجلّ - ﴿ وَلَقَدْ عَلِمْنا المُسْتَقْدِمين مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمنا المُسْتَأخِرين ﴾ فإنا نجزيهم على نيّاتهم فقَرَّ الناسُ.
قوله :﴿ مِن صَلْصَالٍ ٢٦ ﴾
ويقال : إن الصلصال طين حُرّ خُلِط برمل فصار يصلصل كالفَخَّار والمسْنون : المتغيّر والله أعلم أخذ من سنَنْت الحَجَر على الحجر، والذي يخرج مما بينهما يقال له : السَّنين.
وقوله :﴿ مِن نارِ السَّمُومِ ٢٧ ﴾
يقال : إنها نار دونها الحِجَاب. قال حدثنا محمد قال حدثنا الفراء قال حدثني حِبّان عن رجل عن الحسن قال : خلق الله عزَّ وجلَّ - الجانّ أبا الجنّ من نار السّموم وهي نار دونها الحجاب ﴿ وهذا الصوت الذي تسمعونه عند الصواعق من انعطاط الحجاب ﴾.
وقوله :﴿ فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ ٢٩ ﴾
سجود تحيَّة وطاعة لا لربوبيّة وهو مثل قوله في يوسف ﴿ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدا ﴾.
وقوله :﴿ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ٤٠ ﴾
ويقرأ ﴿ المُخْلِصِينَ ﴾ فَمن كسر اللام جعل الفعل لهم كقوله تبارك وتعالى ﴿ وأَخْلَصُوا دِينَهُمْ ﴾ ومن فتح فالله أخلصهم كقوله :﴿ إنا أَخْلَصْناهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ ﴾
وقوله :﴿ هَذَا صِرَاطٌ على مُسْتَقِيمٌ ٤١ ﴾
يقول : مرجعهم إلىّ فأجازيهم. وهو كقوله تبارك وتعالى ﴿ إنَّ رَبَّك لَبِالمِرْصَاد ﴾ في الفجر. فيجوز في مثله من الكلام أن تقول لمن أوعدته : طريقك عليّ وأنا على طريقك : ألا ترى أنه قال ﴿ إنَّ رَبَّكَ لبِالمرصَادِ ﴾ فهذا كقولك : أنا على طريقك. ﴿ وصِرَاطٌ علي ﴾ أي هذا طريق علي وطريقُك علي. وقرأ بعضهم ( هَذَا صِرَاطٌ عليّ ) رَفْع يجعله نعتا للصراط ؛ كقولك : صراط مرتفِع مستقيم.
وقوله :﴿ لَها سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ ٤٤ ﴾
يعنى : من الكفّار ﴿ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ ﴾ يقول : نصيب معروف. والسّبعَة الأبوابِ أطبَاقٌ بعضَها فوق بعضٍ. فأسفلها الهاوية، وأعلاها جهنّم.
وقوله :﴿ أَبَشَّرْتُمُونِي على أَن مَّسَّنِيَ الْكِبَرُ ٥٤ ﴾
لر لم يكن فيها ( على ) لكان صواباً أيضاً. ومثله ﴿ حَقِيقٌ على أَنْ لاَ أَقُولَ ﴾. وفي قراءة عبد الله ( حَقِيقٌ بِأَنْ لاَ أَقُولَ ) ومثله في الكلام أتيتك أنك تعطى فلم أجدك تعطى، تريد : أتيتكَ على أَنك تعطى فلا أراك كذلك.
وقوله :﴿ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ ﴾ النون منصوبة ؛ لأنه فعل لهم لم يذكر مفعول. وهو جائز في الكلام. وقد كَسَر أهل المدينة يريدون أن يجعلوا النون مفعولا بها. وكأنهم شدّدوا النون فقالوا ﴿ فبمَ تُبَشِّرُونِّ قَالُوا ﴾ ثم خفّفوها والنِّيَّة على تثقيلها كقول عمرو بن معدى كرب :
رأته كالثُّغَام يُعَلُّ مِسْكاً يسوء الفالياتِ إذا فَلَيْنِي
فأُقسم لو جعلتُ على نَذْراً بطعنةِ فارس لقضَيتُ دَيْنِي
وقد خففت العرب النون من أنّ الناصبة ثم أنفذوا لها نصبها، وهي أشدّ من ذا. قال الشاعر :
فلو أَنْكِ في يوم الرخاء سألتنِى فراقَكِ لم أبخل وأنت صديق
فما رُدَّ تزويج عَليه شهادة وما رُدَّ من بعد الحَرَار عَتِيقُ
وقال آخر :
لقد علم الضَّيفُ والمُرْمِلونَ إذا اغبرَّ أُفْقٌ وهبَّت شَمالا
بأنْك الربيعُ وغيث مَرِيع وقدْما هناك تكون الثِّمالا
وقوله :﴿ وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاء مَقْطُوعٌ ٦٦ ﴾
أنَّ مفتوحة على أن تردّ على الأمر فتكون في موضع نصب بوقوع القضاء عليها. وتكون نَصْباً آخر بسقوط الخافض منها أي قضينا ذلك الأمر بهذا. وهي في قراءة عبد الله ( وَقُلْنا إنّ دابِرَ ) فعلى هذا لو قرئ بالكسر لكان وجها. وأما ﴿ مُّصْبِحِينَ ﴾ إذا أصبحوا، ومُشْرقين إذا أشرقُوا. وذلك إذا شرقت الشمس. والدابر : الأصل. شرقت : طلعت، وأشرقت : أضاءت.
وقوله :﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ ٧٥ ﴾
يقال : للمتفكرين. ويقال للناظرين المتفرسين.
قوله :﴿ الأَيْكَةِ ٧٨ ﴾ قرأها الأعمش وعَاصم والحسن البصريّ :﴿ الأَيْكَةِ ﴾ بالهمز في كل القرآن. وقرأها أهل المدينة كذلك إلا في الشعراء وفي ص فإنهم جَعلوها بغير ألف ولام ولم يجُروها. ونرى - والله أعلم - أنها كتبت في هذين الموضعين على ترك الهمز فَسقطت الألِف لتحرك اللام. فينبغي أن تكون القراءة فيها بالألف واللام لأنها موضع واحد في قول الفريقين، والأَيكة : الغَيْضة.
وقوله :﴿ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُّبِينٍ ٧٩ ﴾
يقول : بطريق لهم يمرون عليها في أسفارهم. فجعل الطريق إماما لأَنه يُؤَمّ ويتَّبع.
وقوله :﴿ يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً آمِنِينَ ٨٢ ﴾
أن تخِرَّ عليهم. ويقال : آمنين للموت.
وقوله :﴿ وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِّنَ الْمَثَانِي ٨٧ ﴾
يعنى فاتحة الكتاب وهي سبع آيات في قول أهل المدينة وأهل العرق. أهلُ المدينة يعدون ﴿ أَنْعَمْتَ عَلَيهِمْ ﴾ آية. حدّثنا محمد قال حدثنا الفراء قال : وحدثني حِبَّان عن الكلبيّ عن أبى صالح عن ابن عباس قال : بسم الله الرّحمن الرّحيم آية من الحمد. وكان حمزة يعُدّها آية وآتَيْناكَ ( القُرآنَ العَظيم ).
وقوله :﴿ إِنِّي أَنا النَّذِيرُ الْمُبِينُ ٨٩ كَما أَنْزَلْنا على الْمُقْتَسِمِينَ ٩٠ ﴾
يقول : أنذرتكم ما أُنزل بالمقتسِمين. والمقتسِمون رجال من أهل مكَّة بعثهم أهل مكَّة على عِقَابَها أَيَّام الحجّ فقالوا : إذا سألكم الناس عن النبيّ صَلى الله عليه وسلم فقولوا : كاهن. وقالوا لبعضهم قولوا : ساحر، ولبعضهم : يفرق بين الإثنين ولبعضهم قولوا : مجنون، فأنزل الله تبارك وتعالى بهم خِزْياً فماتوا أو خمسةٌ منهم شرَّ مِيتة فسمّوا المقتسمين لأنهم اقتسموا طُرُق مكَّة.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٨٩:وقوله :﴿ إِنِّي أَنا النَّذِيرُ الْمُبِينُ ٨٩ كَما أَنْزَلْنا على الْمُقْتَسِمِينَ ٩٠ ﴾
يقول : أنذرتكم ما أُنزل بالمقتسِمين. والمقتسِمون رجال من أهل مكَّة بعثهم أهل مكَّة على عِقَابَها أَيَّام الحجّ فقالوا : إذا سألكم الناس عن النبيّ صَلى الله عليه وسلم فقولوا : كاهن. وقالوا لبعضهم قولوا : ساحر، ولبعضهم : يفرق بين الإثنين ولبعضهم قولوا : مجنون، فأنزل الله تبارك وتعالى بهم خِزْياً فماتوا أو خمسةٌ منهم شرَّ مِيتة فسمّوا المقتسمين لأنهم اقتسموا طُرُق مكَّة.

وقوله :﴿ الَّذِينَ جَعَلُواْ الْقُرْآنَ عِضِينَ ٩١ ﴾
يقول : فَرَّقوه إذ جعلوه سِحراً وكذباً وأساطيرَ الأولين. والعِضُونَ في كلام العرب : السحر بعينه. ويقال : عضَّوه أي فَرَّقوه كما تُعضَّى الشاة والجَزُور. وواحدة العِضِين عِضَة رفعها عِضُون ونصبها وخفضها عِضِين. ومن العرب من يجعلها بالياء على كل حال ويعرب نونها فيقول : عِضِينُك، ومررت بعضِينِك وسنينك وهي كثيرة في أَسَد وتميم. وعامر. أنشدني بعض بني عامر :
ذرانىَ من نَجْدٍ فإن سِنِينَه *** لِعبن بنا شِيبا وشيَّبْننا مُرْدا
متى نَنج حَبْواً من سنينٍ ملحَّةٍ *** نُشمِّر لأُخرى تُنزِلُ الأعصم الفَرْدا
وأنشد في بعض بني أَسَد :
مثل المَقَالِى ضُربت قُلينُها ***...
من القُلَة وهي لُعْبة للصبيان، وبعضهم :
إلى بُرين الصُفْر المَلْوِيات ***...
وواحد البُرِينِ بُرة. ومثل ذلك الثُّبين وعِزِينٌ يجوز فيه ما جاز في العِضِين والسنين.
وإنما جاز ذلك في هذا المنْقوص الذي كان على ثلاثة أحرف فنُقصت لامه، فلما جمعوه بالنون توهّموا انه فُعول إذا جَاءت الواو وهي واوُ جماعٍ، فوقعت في موضع الناقص، فتوهّموا أَنها الواو الأصلية وأَن الحرف على فُعُول ؛ أَلا ترى أَنهم لا يقولون ذلك في الصالحين والمسلمين وما أَشبهه. وكذلك قولهم الثبات واللغات، وربما عرَّبوا التاء منها بالنصب والخفض وهي تاء جماع ينبغي أَن تكون خفضا في النصب والخفض، فيتوهَّمون أَنها هاء، وأَن الألف قبلها من الفعل. وأَنشدني بعضهم :
إذا ما جَلاَها بالأُيَام تحيرت *** ثُبَاتاً عليَها ذُلّها واكتئابها
وقال أبو الجراح في كلامه : ما من قوم إلا وقد سمعنا لغاتَهم - قال قال الفراء : رجع أبو الجراح في كلامه عن قول لغاتَهم - ولا يجوز ذلكَ في الصالحات والأخوات لأنها تامّة لم يُنقص من واحدها شيء، وما كان من حرف نُقِص من أوّله مثل زِنة ولِدة ودِية فإنه لا يقاس على هذا لأن نقصه من أوّله لا من لامه فما كان منه مؤنَّثا أو مذكَّرا فأجرِه على التامّ مثل الصالحين والصالحات تقُول رأيت لداتِك ولِدِيك ولا تقل لِدِينَك ولا لداتَك إلا أن يغلط بها الشاعر فإنه ربما شبّه الشيء بالشيء إذا خرج عن لفظه، كما لم يُجْرِ بعضهم أبو سمان والنون من أصله من السمن لشبهه بلفظ رَيّان وشبهه.
وقوله :﴿ فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ ٩٤ ﴾ ولم يقل : بَما تُؤْمر به - والله أعلم - أراد : فاصدع بالأمر. ولو كان مكان ( ما ) مَن أو ما مما يراد به البَهائم لأدخلت بعدها الباء كما نقول : اذهب إلى من تؤمر به واركب ما تؤمر به، ولكنه في المعنى بمنزلة المصدر ؛ ألا ترى أنك تقول : ما أحسن ما تنطلق لأنك تريد : مما أحسن انطلاقك، وما أحسن ما تأمر إذا أَمَرتَ لأنك تريد ما أحسن أمرك. ومثله قوله ﴿ يَا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إنْ شَاء اللهُ ﴾ كأنه قيل له : افعل الأمر الذي تؤمر. ولو أريد به إنسان أو غيره لجاز وإن لم يظهر الباء لأن العرب قد تقول : إني لآمرك وآمر بك وأكفرك وأكفر بك في معنى واحد. ومثله كثير، منه قولهم :
إذا قالت حَذَامِ فأنصتُوها فإنّ القول ما قالت حذامِ
يريد : فانصتوا لها، وقال الله تبارك وتعالى ( أَلاَ إنّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ ) وهي في موضع ﴿ يكفرون بالله ﴾ و ( كفروا بربهم ) واصدع : أظهر دينك.
Icon