تفسير سورة الحجر

تفسير مقاتل بن سليمان
تفسير سورة سورة الحجر من كتاب تفسير مقاتل بن سليمان .
لمؤلفه مقاتل بن سليمان . المتوفي سنة 150 هـ
سورة الحجر مكية كلها، وهي تسع وتسعون آية باتفاق

﴿ الۤرَ تِلْكَ آيَاتُ ٱلْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ ﴾ [آية: ١]، يعني بين ما فيه.﴿ رُّبَمَا يَوَدُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ من أهل مكة في ألآخرة.
﴿ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ ﴾ [آية: ٢]، يعني مخلصين في الدنيا بالتوحيد. وذلك قوله سبحانه: ﴿ ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ ﴾، يقول: خل يا محمد صلى الله عليه وسلم عن كفار مكة إذا كذبوك يأكلوا.
﴿ وَيَتَمَتَّعُواْ ﴾ في دنياهم.
﴿ وَيُلْهِهِمُ ٱلأَمَلُ ﴾، يعني طول الأمل عن الآخرة.
﴿ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ﴾ [آية: ٣]، هذا وعيد.
خوف كفار مكة بمثل عذاب الأمم الخالية، فقال سبحانه: ﴿ وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ ﴾، يقول: وما عذبنا من قرية.
﴿ إِلاَّ وَلَهَا ﴾ بهلاكها ﴿ كِتَابٌ مَّعْلُومٌ ﴾ [آية: ٤]، يعني موقوت في اللوح المحفوظ إلى أجل، وكذلك كفار مكة عذابهم إلى أجل معلوم، يعني القتل ببدر.﴿ مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ ﴾ عذبت ﴿ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ ﴾ [آية: ٥]، يقول: ما يتقدمون من أجلهم، ولا يتأخرون عنه.﴿ وَقَالُواْ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ ٱلذِّكْرُ ﴾، يعني القرآن.
﴿ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ﴾ [آية: ٦]، يعني النبي صلى الله عليه وسلم، نزلت في عبد الله بن أمية بن المغيرة المخزومي، والنضر بن الحارث، هو ابن علقمة، من بني عبد الدار بن قصي، ونوفل بن خويلد بن أسد بن عبد العزى، كلهم من قريش، والوليد بن المغيرة، قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إنك لمجنون. وقالوا له: ﴿ لَّوْ مَا تَأْتِينَا ﴾، يعني أفلا تجيئنا ﴿ بِٱلْمَلائِكَةِ ﴾، فتخبرنا بأنك نبى مرسل.
﴿ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّادِقِينَ ﴾ [آية: ٧] بأنك نبي مرسل، ولو نزلت الملائكة لنزلت إليهم بالعذاب.﴿ مَا نُنَزِّلُ ٱلْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِٱلحَقِّ وَمَا كَانُواْ إِذاً مُّنظَرِينَ ﴾ [آية: ٨]، يقول: لو نزلت الملائكة بالعذاب، إذاً لم يناظروا حتى يعذبوا، يعني كفار مكة. يقول الله عز وجل: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذِّكْرَ ﴾، يعني القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [آية: ٩]؛ لأن الشياطين لا يصلون إليه؛ لقولهم للنبي صلى الله عليه وسلم: إنك لمجنون يعلمك الري.
﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ ﴾ يا محمد صلى الله عليه وسلم الرسل.
﴿ فِي شِيَعِ ﴾، يعني في فرق ﴿ ٱلأَوَّلِينَ ﴾ [آية: ١٠]، يعني الأمم الخالية.﴿ وَمَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ ﴾، ينذرهم بالعذاب في الدنيا.
﴿ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴾ [آية: ١١]، بأن العذاب ليس بنازل بهم.﴿ كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ ﴾، يعني هكذا نجعله، يعني الكفر بالعذاب.
﴿ فِي قُلُوبِ ٱلْمُجْرِمِينَ ﴾ [آية: ١٢]، يعني كفار مكة.﴿ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ﴾، يعني بالعذاب، ثم قال سبحانه: ﴿ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ ٱلأَوَّلِينَ ﴾ [آية: ١٣]، يعني كفار مكة.﴿ وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم ﴾، يعني على كفار مكة.
﴿ بَاباً مِّنَ ٱلسَّمَاءِ ﴾، فينظرون إلى الملائكة عياناً كيف يصعدون إلى السماء.
﴿ فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ ﴾ [آية: ١٤]، يقول: فمالوا في الباب يصعدون. ولو عاينوا ذلك.
﴿ لَقَالُواْ ﴾ من كفرهم: ﴿ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا ﴾ مخففة، يعني سددت، ولقالوا: ﴿ بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ ﴾ [آية: ١٥].
حدثناعبيد الله، قال: حدثنى أبى، قال: حدثنى الهذيل، قال: حدثنا مقاتل، عن عبد الله الكريم، عن حسان، عن جابر،" عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه سُئل عن: ﴿ وَٱلسَّمَآءِ ذَاتِ ٱلْبُرُوجِ ﴾ [البروج: ١]، فقال: " الكواكب " وسُئل عن: ﴿ ٱلَّذِي جَعَلَ فِي ٱلسَّمَآءِ بُرُوجاً ﴾ [الفرقان: ٦١]، قال: " الكواكب "، مثل البروج مشيدة، قال: " القصور ".
﴿ وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي ٱلسَّمَاءِ بُرُوجاً ﴾، قال: الكواكب.
﴿ وَزَيَّنَّاهَا ﴾، يعني السماء بالكواكب.
﴿ لِلنَّاظِرِينَ ﴾ ﴿ آية: ١٦] إليها، يعني أهل الأرض.{ وَحَفِظْنَاهَا ﴾، يعني السماء بالكواكب.
﴿ مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ ﴾ [آية: ١٧]، يعني ملعون؛ لئلا يستمعوا إلى كلام الملائكة. ثم استثنى من الشياطين، فقال سبحانه: ﴿ إِلاَّ مَنِ ٱسْتَرَقَ ٱلسَّمْعَ ﴾، يعني من اختطف السمع من كلام الملائكة.
﴿ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ ﴾ [آية: ١٨]، يعني الكوكب المضىء، وهوالثاقب، ونظيرها في الصافات،﴿ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ ﴾[الصافات: ١٠].
﴿ وَٱلأَرْضَ مَدَدْنَاهَا ﴾، يعني بسطناها، يعني مسيرة خمسمائة عام طولها وعرضها وغلظها مثله، فبسطها من تحت الكعبة. ثم قال عز وجل: ﴿ وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ ﴾، يعني الجبال الراسيات في الأرض الطوال،﴿ أَن تَمِيدَ بِكُمْ ﴾[النحل: ١٥]، يقول: لئلا تزول بكم الأرض، وتمور بمن عليها.
﴿ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ ﴾ [آية: ١٩]، يقول: وأخرجنا من الأرض كل شىء موزون، يعني من كل ألوان النبات معلوم.﴿ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا ﴾، يعني في الأرض.
﴿ مَعَايِشَ ﴾، مما عليها من النبات، ثم قال سبحانه.
﴿ وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ ﴾ [آية: ٢٠]، يقول: لستم أنتم ترزقونهم، ولكن أنا أرزقهم، يعني الدواب، والطير، معايشهم مما في الأرض من رزق. ثم قال سبحانه: ﴿ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ ﴾، يقول: ما من شىء من الرزق إلا عندنا مفاتيحه، وهو بأيدينا ليس بأيديكم.
﴿ وَمَا نُنَزِّلُهُ ﴾، يعني الرزق، وهو المطر وحده.
﴿ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ ﴾ [آية: ٢١]، يعني موقوت.
﴿ وَأَرْسَلْنَا ٱلرِّيَاحَ لَوَاقِحَ ﴾، وذلك أن الله يرسل الريح، فتأخذ الماء بكيل معلوم من سماء الدنيا، ثم تثير الرياح والسحاب، فتلقي الريح السحاب بالماء الذي فيها من ماء النبت، ثم تسوق تلك الرياح السحاب إلى الأرض التي أمر الرعد أن يمطرها، فذلك قوله سبحانه: ﴿ فَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَاءً ﴾، يعني المطر.
﴿ فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَآ أَنْتُمْ ﴾، يعني يا بني آدم.
﴿ لَهُ بِخَازِنِينَ ﴾ [آية: ٢٢]، يقول: لستم أنتم بخازنيها، فتكون مفاتيحها بأيديكم ولكنها بيدي.﴿ وَإنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ ﴾، يقول الله تعالى: أنا أحيي الموتى، وأميت الأحياء.
﴿ وَنَحْنُ ٱلْوَارِثُونَ ﴾ [آية: ٢٣]، يعني ونميت الخلق ويبقى الرب تعالى ويرثهم.﴿ وَلَقَدْ عَلِمْنَا ٱلْمُسْتَقْدِمِينَ مِنكُمْ ﴾، يعني من بنى آدم من مات منكم.
﴿ وَلَقَدْ عَلِمْنَا ٱلْمُسْتَأْخِرِينَ ﴾ [آية: ٢٤]، يقول: من بقي منكم فلم يمت، ونظيرها في ق والقرآن:﴿ قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ ٱلأَرْضَ ﴾[ق: ٤].
﴿ وَإِنَّ رَبَّكَ ﴾ يا محمد صلى الله عليه وسلم.
﴿ هُوَ يَحْشُرُهُمْ ﴾، يعني من تقدم منهم ومن تأخر، يقول: وهو يجمعهم في الآخرة.
﴿ إِنَّهُ حَكِيمٌ ﴾ حكم البعث، ثم قال: ﴿ عَلِيمٌ ﴾ [آية: ٢٥] ببعثهم.
﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ ﴾، يعني آدم.
﴿ مِن صَلْصَالٍ ﴾، حدثنا عبيد الله، حدثني أبي، حدثني الهذيل، عن مقاتل، والضحاك، عن ابن عباس: الصلصال الطين الجيد، يعني الجر إذا ذهب عنه الماء تشقق، فإذا حرك تقعقع.
﴿ مِّنْ حَمَإٍ ﴾، يعني الأسود.
﴿ مَّسْنُونٍ ﴾ [آية: ٢٦]، يعني المنتن، فكان التراب مبتلاً، فصار أسود منتناً. ثم قال: ﴿ وَٱلْجَآنَّ ﴾، يعني إبليس.
﴿ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ ﴾ آدم.
﴿ مِن نَّارِ ٱلسَّمُومِ ﴾ [آية: ٢٧]، يعني صافي ليس فيه دخان، وهو المارج من نار، يعني الجان، وإنما سمي إبليس الجان؛ لأنه من حي من الملائكة، يقال لهم: الجن، والجن جماعة، والجان واحد.﴿ وَإِذْ قَالَ ﴾، يعني وقد قال: ﴿ رَبُّكَ لِلْمَلآئِكَةِ ﴾ الذين في الأرض، منهم إبليس، قال لهم: قبل أن يخلق آدم، عليه السلام: ﴿ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً ﴾، يعني آدم.
﴿ مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ ﴾، يعني أسود.
﴿ مَّسْنُونٍ ﴾ [آية: ٢٨]، يعني منتن.﴿ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ ﴾، يعني سويت خلقه.
﴿ وَنَفَخْتُ فِيهِ ﴾، يعني آدم.
﴿ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ ﴾ [آية: ٢٩]، يقول: فاسجدوا لآدم.﴿ فَسَجَدَ ٱلْمَلاۤئِكَةُ ﴾ الذين هم في الأرض.
﴿ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ﴾ [آية: ٣٠].
ثم استثنى من الملائكة إبليس، فقال سبحانه: ﴿ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَىٰ أَن يَكُونَ مَعَ ٱلسَّاجِدِينَ ﴾ [آية: ٣١] لآدم عليه السلام.
﴿ قَالَ يٰإِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ ﴾ في السجود.
﴿ مَعَ ٱلسَّاجِدِينَ ﴾ [آية: ٣٢]، يعني الملائكة الذين سجدوا لآدم، عليه السلام.﴿ قَالَ لَمْ أَكُن لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ ﴾، يعني آدم.
﴿ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ ﴾، يعني الطين ﴿ مِّنْ حَمَإٍ ﴾، يعني أسود.
﴿ مَّسْنُونٍ ﴾ [آية: ٣٣]، يعني منتن، فأول ما خلق من آدم، عليه السلام، عجب الذنب، ثم ركب فيه سائر خلقه، وآخر ما خلق من آدم، عليه السلام، ، أظفاره، وتأكل الأرض عظام الميت كلها، غير عجب الذنب، غير عظام الأنبياء، عليهم السلام، فإنها لا تأكلها الأرض، وفى العجب يركب بنو آدم يوم القيامة. ثم ﴿ قَالَ فَٱخْرُجْ مِنْهَا ﴾، يعني من ملكوت السماء ﴿ فَإِنَّكَ رَجِيمٌ ﴾ [آية: ٣٤]، يعني ملعون، وهو إبليس. ﴿ وَإِنَّ عَلَيْكَ ٱللَّعْنَةَ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلدِّينِ ﴾ [آية: ٣٥].
﴿ قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾ ﴿ آية: ٣٦]، يعني يبعث الناس بعد الموت، يقول: أجلنى إلى يوم النفخة الثانية، كقوله سبحانه:{ فَنَظِرَةٌ إلَى مَيْسَرَةٍ ﴾[البقرة: ٢٨]، يعني فأجله إلى ميسرة. ﴿ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ ٱلْمُنظَرِينَ ﴾ [آية: ٣٧] لا تموت.﴿ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْوَقْتِ ٱلْمَعْلُومِ ﴾ [آية: ٣٨]، يعني إلى أجل موقوت، وهي النفخة الأولى، وإنما أراد عدو الله الأجل إلى يوم يبعثون؛ لئلا يذوق الموت؛ لأنه قد علم أنه لا يموت بعد البعث.﴿ قَالَ ﴾ إبليس: ﴿ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي ﴾، يقول: أما إذا أضللتني.
﴿ لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي ٱلأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ [آية: ٣٩]، يعني ولأضلنهم عن الهدى أجمعين. ثم استثنى عدو الله إبليس، قال: ﴿ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ ٱلْمُخْلَصِينَ ﴾ [آية: ٤٠] يعني أهل التوحيد، وقد علم إبليس أن الله استخلص عباداً لدينه، ليس له عليهم سلطان، فذلك قوله سبحانه:﴿ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ﴾[الإسراء: ٦٥]، يعني مالك أن تضلهم عن الهدى،﴿ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ وَكِيلاً ﴾[الإسراء: ٦٥]، يعني حرزاً ومانعاً لعباده.﴿ قَالَ ﴾ الله تعالى: ﴿ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ ﴾، يقول: هذا طريق الحق الهدى إلى.
﴿ مُسْتَقِيمٌ ﴾ [آية: ٤١]، يعني الحق، كقوله:﴿ لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاس ﴾[البقرة: ١٤٣]، يعني للناس، نظيرها في هود، قوله:﴿ إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾[هود: ٥٦]، يعني المستقيم الحق المبين. ثم قال سبحانه: ﴿ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلْغَاوِينَ ﴾ [آية: ٤٢]، يعني من المضلين.﴿ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ [آية: ٤٣]، يعني كفار الجن والإنس، وإبليس وذريته.﴿ لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ ﴾، بعضها أسفل من بعض، كل باب أشد حراً من الذي فوقه بسبعين جزءاً، بين كل بابين سبعين سنة، أولها جهنم، ثم لظى، ثم الحطمة، ثم السعير، ثم الجحيم، ثم الهاوية، ثم سقر.
﴿ لِكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ ﴾ [آية: ٤٤]، يعني عدد معلوم من كفار الجن والإنس، يعني الباب الثانى يضعف على الباب الأول في شدة العذاب سبعين ضعفاً.﴿ إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ ﴾ الشرك.
﴿ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ﴾ [آية: ٤٥]، يعني بساتين وأنهار جارية.﴿ ٱدْخُلُوهَا بِسَلامٍ ﴾، سلم الله عز وجل لهم أمرهم، وتجاوز عنهم، نظيرها في الواقعة، ثم قال: ﴿ آمِنِينَ ﴾ [آية: ٤٦] من الخوف.﴿ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ ﴾، يقول: أخرجنا ما في قلوبهم من الغش الذي كان في الدنيا بعضهم لبعض، فصاروا متحابين.
﴿ إِخْوَاناً عَلَىٰ سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ ﴾ [آية: ٤٧] في الزيارة، يرى بعضهم بعضاً، متقابلين على الأسرة يتحدثون. ثم أخبر عنهم سبحانه، فقال: ﴿ لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ ﴾، يقول: لا تصيبهم فيها مشقة في أجسادهم، كما كان في الدنيا.
﴿ وَمَا هُمْ مِّنْهَا ﴾، من الجنة.
﴿ بِمُخْرَجِينَ ﴾ [آية: ٤٨] أبداً، ولا بميتين أبداً.
قال الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم: ﴿ نَبِّىءْ عِبَادِي ﴾، يقول: أخبر عبادي.
﴿ أَنِّي أَنَا ٱلْغَفُورُ ﴾ لذنوب المؤمنين.
﴿ ٱلرَّحِيمُ ﴾ [آية: ٤٩] لمن تاب منهم.﴿ وَ ﴾ أخبرهم.
﴿ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ ٱلْعَذَابُ ٱلأَلِيمُ ﴾ [آية: ٥٠]، يعني الوجيع لمن عصاني.﴿ وَنَبِّئْهُمْ ﴾، يعني وأخبرهم ﴿ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ ﴾ [آية: ٥١]، ملكان أحدهما جبريل، والآخر ميكائيل.﴿ إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ ﴾ على إبراهيم.
﴿ فَقَالُواْ سَلاماً ﴾، فسلموا عليه وسلم عليهما.
﴿ قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ ﴾ [آية: ٥٢]، يعني خائفين، وذلك أن إبراهيم، عليه السلام، قرب إليهم العجل، فلم يأكلوا منه، فخاف إبراهيم، عليه السلام، وكان في زمان إبراهيم، عليه السلام، إذا أكل الرجل عند الرجل طعاماً، أمن من شره، فلما رأى إبراهيم، عليه السلام، أيديهم لا تصل إلى العجل، خاف شرهم.﴿ قَالُواْ ﴾، قال له جبريل، عليه السلام.
﴿ لاَ تَوْجَلْ ﴾، يقول: لا تخف.
﴿ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ ﴾ [آية: ٥٣]، وهو إسحاق، عليه السلام.﴿ قَالَ ﴾ لهم إبراهيم، عليه السلام.
﴿ أَبَشَّرْتُمُونِي ﴾ بالولد.
﴿ عَلَىٰ أَن مَّسَّنِيَ ٱلْكِبَرُ ﴾، على كبر سني.
﴿ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ ﴾ [آية: ٥٤]، قال ذلك إبراهيم، عليه السلام، تعجباً لكبره وكبر امرأته.﴿ قَالُواْ ﴾، قال جبريل، عليه السلام: ﴿ بَشَّرْنَاكَ ﴾، يعني نبشرك.
﴿ بِٱلْحَقِّ ﴾، يعني بالصدق أن الولد لكائن.
﴿ فَلاَ تَكُن ﴾ يا إبراهيم ﴿ مِّنَ ٱلْقَانِطِينَ ﴾ [آية: ٥٥]، يعني لا تيأس.﴿ قَالَ ﴾ إبراهيم، عليه السلام: ﴿ وَمَن يَقْنَطُ ﴾، يعني ومن ييئس ﴿ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ ٱلضَّآلُّونَ ﴾ [آية: ٥٦]، يعني المشركين.
﴿ قَالَ ﴾ إبراهيم.
﴿ فَمَا خَطْبُكُمْ ﴾، يعني فما أمركم.
﴿ أَيُّهَا ٱلْمُرْسَلُونَ ﴾ [آية: ٥٧].
﴿ قَالُواْ ﴾، أي قال جبريل، عليه السلام: ﴿ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ ﴾ بالعذاب ﴿ إِلَىٰ قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ ﴾ [آية: ٥٨].
﴿ إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ [آية: ٥٩].
ثم استثنى جبريل، عليه السلام، امرأة لوط، فقال: ﴿ إِلاَّ ٱمْرَأَتَهُ قَدَّرْنَآ إِنَّهَا لَمِنَ ٱلْغَابِرِينَ ﴾ [آية: ٦٠]، يعني الباقين في العذاب، فخرجوا من عند إبراهيم، عليه السلام، بالأرض المقدسة، فأتوا لوطاً بأرض سدوم من ساعتهم، فلم يعرفهم لوط، عليه السلام، وظن أنهم رجال. فذلك قوله سبحانه: ﴿ فَلَمَّا جَآءَ آلَ لُوطٍ ٱلْمُرْسَلُونَ ﴾ [آية: ٦١]، فيها تقديم، يقول: جاء المرسلون إلى لوط.﴿ قَالَ ﴾ لهم لوط: ﴿ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ ﴾ [آية: ٦٢] أنكرهم، ولم يعلم أنهم ملائكة؛ لأنهم كانوا في صورة الرجال.﴿ قَالُواْ بَلْ ﴾، قال جبريل، عليه السلام: قد ﴿ جِئْنَاكَ ﴾ يا لوط ﴿ بِمَا كَانُواْ فِيهِ يَمْتَرُونَ ﴾ [آية: ٦٣]، يعني بما كان قومك بالعذاب يمترون، يعني يشكون في العذاب أنه ليس بنازل بهم في الدنيا.﴿ وَآتَيْنَاكَ بِٱلْحَقِّ ﴾، جئناك بالصدق.
﴿ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ﴾ [آية: ٦٤] بما تقول إنا جئناهم بالعذاب. فقالوا للوط: ﴿ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ ﴾، يعني امرأته وابنته ريثا وزعوثا.
﴿ بِقِطْعٍ ﴾، يعني ببعض، وهو السحر.
﴿ مِّنَ ٱللَّيْلِ وَٱتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ ﴾، يعني سر من وراء أهلك تسوقهم.
﴿ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ ﴾ البتة، يقول: ولا ينظر أحد منكم وراءه.
﴿ وَٱمْضُواْ حَيْثُ تُؤْمَرُونَ ﴾ [آية: ٦٥] إلى الشام.﴿ وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ﴾، يقول: وعهدنا إلى لوط.
﴿ ذَلِكَ ٱلأَمْرَ ﴾، يعني أمر العذاب.
﴿ أَنَّ دَابِرَ ﴾، يعني أصل ﴿ هَؤُلآءِ ﴾ القوم ﴿ مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ ﴾ [آية: ٦٦]، يقول إذ أصبحوا نزل بهم العذاب.﴿ وَجَآءَ أَهْلُ ٱلْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ ﴾ [آية: ٦٧] بدخول الرجال منزل لوط. ثم ﴿ قَالَ ﴾ لهم لوط: ﴿ إِنَّ هَؤُلآءِ ضَيْفِي فَلاَ تَفْضَحُونِ ﴾ [آية: ٦٨] فيهم، ولوط، عليه السلام، يرى أنهم رجال.﴿ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلاَ تُخْزُونِ ﴾ [آية: ٦٩] فيهم.﴿ قَالُواْ أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ ٱلْعَالَمِينَ ﴾ [آية: ٧٠]، أن تضيف منهم أحداً؛ لأن لوطاً كان يحذرهم لئلا يؤتون في أدبارهم، فعرض عليهم ابنتيه من الحياء تزويجاً، واسم إحداهما ريثا، والأخرى زعوثا.﴿ قَالَ هَؤُلآءِ بَنَاتِي إِن كُنْتُمْ فَاعِلِينَ ﴾ [آية: ٧١] لا بد فتزوجوهن. يقول الله عز وجل: ﴿ لَعَمْرُكَ ﴾، كلمة من كلام العرب.
﴿ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾ [آية: ٧٢]، يعني لفي ضلالتهم يترددون.﴿ فَأَخَذَتْهُمُ ٱلصَّيْحَةُ ﴾، يعني صيحة جبريل، عليه السلام.
﴿ مُشْرِقِينَ ﴾ [آية: ٧٣] يعني حين طلعت الشمس.﴿ فَجَعَلْنَا ﴾ المدائن الأربع ﴿ عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ ﴾ سدوم، ودامورا، وعامورا وصابورا، وأمطرنا على من كان خارجاً من المدينة.
﴿ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ ﴾ [آية: ٧٤]، ولعل الرجل منهم يكون في قرية أخرى، فيأتيه الحجر فيقتله.
﴿ مِّن سِجِّيلٍ ﴾، يعني الحجارة خلطها الطين.﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ ﴾، يقول: إن هلاك قوم لوط لعبرة.
﴿ لِلْمُتَوَسِّمِينَ ﴾ [آية: ٧٥]، يقول: للناظرين من بعدهم، فيحذرون مثل عقوبتهم.﴿ وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ ﴾ [آية: ٧٦]، يعني قرى لوط التى أهلكت بطريق مستقيم، يعني واضح مقيم يمر عليها أهل مكة وغيرهم، وهي بين مكة والشام.﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً ﴾، يعني إن في هلاك قوم لوط لعبرة.
﴿ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [آية: ٧٧]، يعني للمصدقين بتوحيد الله عز وجل لمن بعدهم، فيحذرون عقوبتهم، يخوف كفار مكة بمثل عذاب الأمم الخالية.
﴿ وَإِن كَانَ أَصْحَابُ ٱلأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ ﴾ [آية: ٧٨]، يعني المشركين، فهم قوم شعيب، عليه السلام، والأيكة الغيضة من الشجر، وكان أكثر الشجر الدوم، وهو المقل.﴿ فَٱنتَقَمْنَا مِنْهُمْ ﴾ بالعذاب.
﴿ وَإِنَّهُمَا ﴾، يعني قوم لوط، وقوم شعيب.
﴿ لَبِإِمَامٍ ﴾، يعني طريق.
﴿ مُّبِينٍ ﴾ [آية: ٧٩]، يعني مستقيم، وكان عذاب قوم شعيب، عليه السلام، أن الله عز وجل حبس عنهم الرياح، فأصابهم حر شديد لم ينفعهم من الحر شىء وهم في منازلهم، فلما أصابهم ذلك الحر، خرجوا من منازلهم إلى الغيضة ليستظلوا بها من الحر، فأصابهم من الحر أشد مما أصابهم في منازلهم، ثم بعث الله عز وجل لهم سحابة فيها عذاب، فنادى بعضهم بعضاً ليخرجوا من الغضة، فيستظلون تحت السحابة لشدة حر الشمس يلتمسون بها الروح، فلما لجئوا إليها أهلكهم الله عز وجل فيها حراً وغماً تحت السحابة. قال: حدثنا عبيد الله، سمعت أبى، قال: سمعت أبا صالح يقول: غلت أدمغتهم في رءوسهم، كما يغلي الماء في المرجل على النار، من شدة الحر تحت السحابة، فذلك قوله سبحانه:﴿ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ ٱلظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴾[الشعراء: ١٨٩].
﴿ وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ ٱلحِجْرِ ٱلْمُرْسَلِينَ ﴾ [آية: ٨٠]، يعني قوم صالح، واسم القرية الحجر، وهو بوادي القرى، يعني بالمرسلين صالحاً وحده، عليه السلام، يقول: كذبوا صالحاً.﴿ وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا ﴾، يعني الناقة آية لهم، فكانت ترويهم من اللبن في يوم شربها من غير أن يكلفوا مؤنة.
﴿ فَكَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ ﴾ [آية: ٨١]، حين لم يتفكروا في أمر الناقة وابنها فيعتبروا. فأخبر عنهم، فقال سبحانه: ﴿ وَكَانُواْ يَنْحِتُونَ مِنَ ٱلْجِبَالِ بُيُوتاً آمِنِينَ ﴾ [آية: ٨٢]، من أن تقع عليهم الجبال إذا نحتوها وجوفوها.﴿ فَأَخَذَتْهُمُ ٱلصَّيْحَةُ ﴾، يعني صيحة جبريل، عليه السلام.
﴿ مُصْبِحِينَ ﴾ [آية: ٨٣] يوم السبت، فخمدوا أجمعون. يقول الله عز وجل: ﴿ فَمَآ أَغْنَىٰ عَنْهُمْ ﴾ من العذاب الذي نزل بهم.
﴿ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ﴾ [آية: ٨٤]، من الكفر والتكذيب، فعقروا الناقة يوم الأربعاء، فأهلكهم الله يوم السبت.
﴿ وَمَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ ﴾، يقول: لم يخلقهما الله عز وجل باطلاً، خلقهما لأمر هو كائن.
﴿ وَإِنَّ ٱلسَّاعَةَ لآتِيَةٌ ﴾، يقول: القيامة كائنة.
﴿ فَٱصْفَحِ ٱلصَّفْحَ ٱلْجَمِيلَ ﴾ [آية: ٨٥]، يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: فأعرض عن كفار مكة الإعراض الحسن، فنسخ السيف الإعراض والصفح.﴿ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ ٱلْخَلاَّقُ ﴾ لخلقه في الآخرة بعد الموت.
﴿ ٱلْعَلِيمُ ﴾ [آية: ٨٦] ببعثهم.﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ ٱلْمَثَانِي ﴾، يعني ولقد أعطيناك فاتحة الكتاب، وهي سبع آيات.
﴿ وَٱلْقُرْآنَ ﴾ كله مثاني، ثم قال: ﴿ ٱلْعَظِيمَ ﴾ [آية: ٨٧]، يعني سائر القرآن كله.﴿ لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ ﴾، يعني أصنافاً منهم من المال.
﴿ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ ﴾، إن تولوا عنك.
﴿ وَٱخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [آية: ٨٨]، يقول: لين جناحك للمؤمنين، فلا تغلظ لهم.﴿ وَقُلْ ﴾ لكفار مكة: ﴿ إِنِّيۤ أَنَا ٱلنَّذِيرُ ٱلْمُبِينُ ﴾ [آية: ٨٩] من العذاب. قال سبحانه: ﴿ كَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَى ٱلْمُقْتَسِمِينَ ﴾ [آية: ٩٠]، فيها تقديم، يقول: أنزلنا المثاني والقرآن العظيم، كما أنزلنا التوراة والإنجيل على النصارى واليهود، فهم المقتسمون، فاقتسموا الكتاب، فآمنت اليهود بالتوراة، وكفروا بالإنجيل والقرآن، وآمن النصارى بالإنجيل، وكفروا بالقرآن والتوراة، هذا الذى اقتسموا، آمنوا ببعض ما أنزل إليهم من الكتاب، وكفروا ببعض. ثم نعت اليهود والنصارى، فقال سبحانه: ﴿ ٱلَّذِينَ جَعَلُواْ ٱلْقُرْآنَ عِضِينَ ﴾ [آية: ٩١]، جعلوا القرآن أعضاء، كأعضاء الجزور، فرقوا الكتاب ولم يجتمعوا على الإيمان بالكتب كلها، فأقسم الله تعالى بنفسه للنبي صلى الله عليه وسلم. قال سبحانه: ﴿ فَوَرَبِّكَ ﴾ يا محمد صلى الله عليه وسلم.
﴿ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ [آية: ٩٢].
﴿ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ [آية: ٩٣] من الكفر والتكذيب.
﴿ فَٱصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ ﴾، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أسر النبوة وكتمها سنتين، فقال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿ فَٱصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ ﴾، يقول: امض لما تؤمر من تبليغ الرسالة، فلما بلغ عن ربه عز وجل استقبله كفار مكة بالأذى والتكذيب في وجهه، فقال تعالى: ﴿ وَأَعْرِضْ عَنِ ٱلْمُشْرِكِينَ ﴾ [آية: ٩٤]، يعني عن أذى المشركين إياك، فأمره الله عز وجل بالإعراض والصبر على الأذى، ثم نسختها آية السيف. ثم قال سبحانه: ﴿ إِنَّا كَفَيْنَاكَ ٱلْمُسْتَهْزِئِينَ ﴾ [آية: ٩٥]، وذلك أن الوليد بن المغيرة المخزومى حين حضر الموسم، قال: يا معشر قريش، إن محمداً قد علا أمره في البلاء، وما أرى الناس براجعين حتى يلقونه، وهو رجل حلو الكلام، إذا كلم الرجل ذهب بعقله، وإني لا آمن أن يصدقه بعضهم، فابعثوا رهطاً من ذوى الحجى والرأي، فليجلسوا على طريق مكة مسيرة ليلة أو ليلتين، فمن سأل عن محمد، فليقل بعضهم: إنه ساحر يفرق بين الاثنين، ويقول بعضهم: إنه كاهن يخبر بما يكون في غد لئلا تروه خير من أن تروه، فبعثوا في كل طريق بأربعة من قريش، وأقام الوليد بن المغيرة بمكة، فمن دخل مكة في غير طريق سالك يريد النبي صلى الله عليه وسلم تلقاهم الوليد، فيقول: هو ساحر كذا، ومن دخل من طريق لقيه الستة عشر، فقالوا: هو شاعر، وكذاب، ومجنون. ففعلوا ذلك، وانصدع الناس عن قولهم، فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يرجو أن يلقاه الناس، فعرض عليهم أمره، فمنعه هؤلاء المستهزءون من قريش، ففرحت قريش حين تفرق الناس عن قولهم، وقالوا: ما عند صاحبكم إلا غروراً، يعنون النبي صل الله عليه وسلم، فقالت قريش: هذا دأبنا ودأبك، فذلك قوله سبحانه:﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَّاذَآ أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ ﴾[النحل: ٢٤].
وكان منهم من يقول: بئس وافد القوم أنا إن انصرفت قبل أن ألقى صاحبي، فيدخل مكة فيلقى المؤمنين، فيقول: ما هذا الأمر؟ فيقولون: خيراً أنزل الله عز وجل كتاباً، وبعث رسولا، فذلك قوله سبحانه:﴿ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْراً ﴾[النحل: ٣٠]، فنزل جبريل، عليه السلام، والنبي صلى الله عليه وسلم عند الكعبة، فمر به الوليد بن المغيرة بن عبد الله، فقال جبريل، عليه السلام، للنبي صلى الله عليه وسلم: كيف تجد هذا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" بئس عبد الله هذا "، فأهوى جبريل بيده إلى فوق كعبه، فقال: قد كفيتك. فمر الوليد في حائط فيه نبل لبني المصطلق، وهى حي من خزاعة يتبختر فيهما، فتعلق السهم بردائه قبل أن يبلغ منزله، فنفض السهم وهو يمشي برجله، فأصاب السهم أكحله فقطعه، فلما بات تلك الليلة انتفضت به جراحته، ومر به العاص بن وائل، فقال جبريل: كيف تجد هذا؟ قال:" بئس عبد الله هذا "، فأهوى جبريل بيده إلى باطن قدمه، فقال: قد كفيتك، وركب العاص حماراً من مكة يريد الطائف، فاضجع الحمار به على شبرقة ذات شوك، فدخلت شوكة في بطن قدمه فانتفخت، فقتله الله عز وجل تلك الليلة. ومر به الحارث بن قيس بن عمرو بن ربيعة بن سهم، فقال جبريل عليه السلام: كيف تجد هذا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" بئس عبد الله هذا "، فأهوى جبريل، عليه السلام، إلى رأسه، فانتفخ رأسه، فمات منها، ومر به الأسود بن عبد العزى بن وهب بن عبد مناف بن زهرة، فقال جبريل، عليه السلام: كيف تجد هذا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" بئس عبد الله هذا "، إلا أنه ابن خالى "، فأهوى جبريل، عليه السلام، بيده إلى بطنه، فقال: قد كفيتك، فعطش، فلم يرو من الشراب حتى مات. ومر الأسود بن عبد المطلب بن المنذر بن عبد العزى بن قصي، فقال جبريل: كيف تجد هذا؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم:" بئس عبد الله هذا "، قال: قد كفيتك أمره، ثم ضرب ضربة بحبل من تراب، رمى في وجهه فعمي، فمات منها، وأما بعكك وأحرم، فهما أخوان ابنا الحجاج بن السياق بن عبد الدار بن قصي، فأما أحدهما فأخذته الدبيلة، وأما الآخر، فذات الجنب، فماتا كلاهما، فأنزل الله عز وجل: ﴿ إنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ﴾، يعني هؤلاء السبعة من قريش. ثم نعتهم، فقال سبحانه: ﴿ ٱلَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ ٱللَّهِ إِلـٰهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْمَلُونَ ﴾ [آية: ٩٦]، هذا وعيد لهم بعد القتل.﴿ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ ﴾ [آية: ٩٧]، حين قالوا: إنك ساحر، ومجنون، وكاهن، وحين قالوا: هذا دأبنا ودأبك.
﴿ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ ﴾، يقول: فصل بأمر ربك.
﴿ وَكُنْ مِّنَ ٱلسَّاجِدِينَ ﴾ [آية: ٩٨]، يعني المصلين.﴿ وَٱعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ ٱلْيَقِينُ ﴾ [آية: ٩٩]، فإن عند الموت يعاين الخير والشر.
Icon