مكية وهي تسع وتسعون آية وستمائة وأربع وخمسون كلمة، وعدد حروفها ألفان وسبعمائة وستون حرفاً
﴿ بسم الله ﴾ الملك الواحد القهار ﴿ الرحمن ﴾ الذي أسبغ نعمه على سائر بريته، فعجزت عن وصفه الأفكار ﴿ الرحيم ﴾ الذي خص أهل ولايته بنجاتهم من النار.
ﰡ
وقوله تعالى :
﴿ الر ﴾ ذكر فيه الفتح والإمالة أوّل يونس. وقيل : معناه : أنا الله أرى، وقدّمنا الكلام على أوائل السور في أوّل سورة البقرة، وقوله تعالى :﴿ تلك ﴾ إشارة إلى آيات هذه السورة، أي : هذه الآيات ﴿ آيات الكتاب ﴾، أي : القرآن، والإضافة بمعنى من، وقوله تعالى :﴿ وقرآن مبين ﴾، أي : مظهر للحق من الباطل عطف بزيادة صفة. وقيل : المراد بالكتاب هو السورة، وكذا القرآن، وقيل : المراد بالكتاب التوراة والإنجيل، وبالقرآن هذا الكتاب.
ثم بيّن سبحانه وتعالى حال الكفار يوم القيامة بقوله تعالى :﴿ ربما يودّ ﴾، أي : يتمنى ﴿ الذين كفروا ﴾ إذا عاينوا حالهم وحال المسلمين في ذلك اليوم ﴿ لو كانوا مسلمين ﴾ وقيل : حين يعاينوا حال المسلمين عند نزول النصر وحلول الموت، ورب للتكثير، فإنه يكثر منهم تمنى ذلك. وقيل : للتقليل، فإنّ الأهوال تدهشهم، فلا يفيقون حتى يتمنوا ذلك إلا في أحيان قليلة. فإن قيل : لم دخلت رب على المضارع وقد أبوا دخولها إلا على الماضي ؟ أجيب : بأنّ المترقب في أخبار الله تعالى بمنزلة الماضي المقطوع به في تحقيقه، فكأنه قيل : ربما ودّ. وقرأ عاصم ونافع بتخفيف باء ربما، والباقون بالتشديد. قال أبو حاتم : أهل الحجاز يخففون ربما، وقيس وبكر يثقلونها.
ولما تمادوا في طغيانهم قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم :﴿ ذرهم ﴾، أي : دعهم عن النهي عما هم عليه والصدّ عنه بالتذكرة والنصيحة، وخلهم ﴿ يأكلوا ويتمتعوا ﴾ بدنياهم وتنفيذ شهواتهم، والتمتع التلذذ، وهو طلب اللذة حالاً بعد حال كالتقرب في أنه طلب القرب حالاً بعد حال. ﴿ ويلههم الأمل ﴾، أي : ويشغلهم توقعهم لطول الأعمار، واستقامة الأحوال عن أخذ حظهم من السعادة، وعن الاستعداد للمعاد. وقرأ أبو عمرو في الوصل بكسر الهاء والميم، وحمزة والكسائي برفع الهاء والميم، والباقون بكسر الهاء ورفع الميم. وأمّا الوقف فالجميع بكسر الهاء، والكلام على الهاء الثانية، وأمّا الهاء الأولى فمكسورة للجميع وقفاً ووصلاً. ولما كان هذا أمراً لا يشتغل به إلا أحمق تسبب عنه التهديد بقوله تعالى :﴿ فسوف يعلمون ﴾، أي : ما يحل بهم بعدما فسحنا لهم في زمن التمتع من سوء صنيعهم، وهذا قبل الأمر بالقتال.
تنبيه : في الآية دليل على أنّ إيثار التلذذ والتنعم في الدنيا يؤدّي إلى طول الأمل وليس ذلك من أخلاق المؤمنين. وعن بعضهم : التمتع في الدنيا من أخلاق الهالكين والأخبار في ذم الأمل كثيرة منها قوله صلى الله عليه وسلم «يهرم ابن آدم ويشب معه اثنتان الحرص على المال والحرص على العمر ». وعن علي رضي الله تعالى عنه : إنما أخشى عليكم اثنتين طول الأمل واتباع الهوى، فإنّ طول الأمل ينسي الآخرة واتباع الهوى يصدّ عن الحق.
ولما هددهم تعالى بآية التمتع وإلهاء الأمل أتبعه بما يؤكد الزجر. بقوله تعالى :﴿ وما أهلكنا من قرية ﴾، أي : من القرى، والمراد أهلها ومن مزيدة ﴿ إلا ولها كتاب معلوم ﴾، أي : أجل مضروب محدود مكتوب في اللوح المحفوظ لهلاكها.
تنبيه : المستثنى جملة واقعة صفة لقرية والأصل أن لا تدخلها الواو، كقوله تعالى :﴿ إلا لها منذرون ﴾ [ الشعراء، ٢٠٨ ] وإنما توسطت لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف كما يقال في الحال : جاءني زيد عليه ثوب وجاءني وعليه ثوب. فائدة : رسم كتاب هنا بإثبات الألف.
ثم بيّن تعالى الآية السابقة بقوله تعالى :﴿ ما تسبق ﴾ وأكد الاستغراق بقوله تعالى :﴿ من أمة ﴾ وقيل : من مزيدة كقولك : ما جاءني من أحد، أي : أحد وبيّن أنّ المراد بالكتاب الأجل بقوله تعالى :﴿ أجلها ﴾، أي : الذي قدّرناه لها. ﴿ وما يستأخرون ﴾، أي : عنه.
تنبيه : أنث الأمة أولاً ثم ذكرها آخراً حملاً على اللفظ الأوّل وعلى المعنى في الثاني. قال البقاعي : وإنما ذكره لئلا يصرفوه إلى خطابه صلى الله عليه وسلم تعنتاً وفي الآية دليل على أنّ كل من مات أو قتل فإنما مات بأجله وإن من قال بجواز أن يموت قبل أجله مخطئ.
ولما بالغ تعالى في تهديد الكفار ذكر شبههم في إنكار نبوّته صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى :﴿ وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر ﴾، أي : القرآن في زعمه ﴿ إنك لمجنون ﴾ إنما نسبوه إلى الجنون إما لأنهم كانوا يستبعدون كونه رسولاً حقاً من عند الله لأنّ الرجل إذا سمع كلاماً مستبعداً من غيره فربما قال به جنون، وإما لأنه عليه الصلاة والسلام كان يظهر عليه عند نزول الوحي حالة شبيهة بالغشي فظنوا أنها جنون ويدل عليه قوله تعالى :﴿ أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة ﴾ [ الأعراف، ١٨٤ ].
ثم أتبعوه ما زعموا أنه دليل على قولهم فقالوا :﴿ لو ما ﴾، أي : هلا ﴿ تأتينا بالملائكة ﴾، أي : يشهدون لك بأنك رسول من عند الله حقاً. ﴿ إن كنت من الصادقين ﴾ في إدعائك للرسالة وأنّ هذا القرآن من عند الله.
ولما كان في قولهم أمران أجاب الله تعالى عن قولهم الثاني لأنه أقرب بقوله تعالى :﴿ وما ننزل الملائكة إلا بالحق ﴾، أي : إلا تنزلاً ملتبساً بالحكمة والمصلحة ولا حكمة في أن نأتيكم بهم عياناً تشاهدونهم ويشهدون لكم بصدق النبيّ صلى الله عليه وسلم لأنكم حينئذ مصدقون عن اضطرار ومثله قوله تعالى :﴿ وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق ﴾ [ الحجر، ٨٥ ] وقيل الحق الوحي أو العذاب. وقرأ شعبة بضم التاء مع فتح الزاي ورفع الملائكة وحفص وحمزة والكسائي بنونين الأولى مضمومة والثانية مفتوحة وكسر الزاي ونصب الملائكة والباقون بالتاء مفتوحة مع فتح الزاي ورفع الملائكة وشدّد التاء البزي في الوصل، وأما الزاي فهي مشدّدة للجميع من يفتح ومن يكسر ﴿ وما كانوا ﴾، أي : الكفار ﴿ إذاً ﴾، أي : إذ تأتيهم الملائكة ﴿ منظرين ﴾، أي : لزوال الإمهال عنهم فيعذبوا في الحال إن لم يؤمنوا ويصدّقوا وكان حينئذ يفوت ما قضينا به من تأخيرهم وإخراج من أردنا إيمانه من أصلابهم.
ثم أجاب تعالى عن الأوّل بقوله تعالى مؤكداً لتكذيبهم :﴿ إنا نحن ﴾ بما لنا من العظمة والقدرة ﴿ نزلّنا ﴾، أي : بالتدريج على لسان جبريل عليه السلام ﴿ الذكر ﴾، أي : القرآن ﴿ وإنا له لحافظون ﴾، أي : من التبديل والتحريف والزيادة والنقصان، ونظيره قوله تعالى :﴿ ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً ﴾ [ النساء، ٨٢ ]
فالقرآن العظيم محفوظ من هذه الأشياء كلها لا يقدر أحد من جميع الخلق من الجن والإنس أن يزيد فيه أو ينقص منه كلمة واحدة أو حرفاً واحداً وهذا مختص بالقرآن العظيم بخلاف سائر الكتب المنزلة فإنه قد دخل على بعضها التحريف والتبديل والزيادة والنقصان، فإن قيل : فلم اشتغلت الصحابة بجمع القرآن في المصحف وقد وعد الله تعالى بحفظه وما حفظه الله تعالى فلا خوف عليه ؟ أجيب : بأن جمعهم القرآن في المصحف كان من أسباب حفظ الله تعالى إياه فإنه تعالى لما أراد حفظه قيضهم لذلك، قال أصحابنا : وفي هذه الآية دلالة قوية على كون البسملة آية من أول كل سورة لأن الله تعالى قد وعد حفظ القرآن والحفظ لا معنى له إلا أن يبقى مصوناً من الزيادة والنقصان فلو لم تكن البسملة آية من القرآن لما كان مصوناً عن التغيير ولما كان محفوظاً عن الزيادة ولو جاز أن يظنّ بالصحابة أنهم زادوا جاز أيضاً أن يظن بهم النقصان وذلك يوجب خروج القرآن عن كونه حجة، وقيل : الضمير في له راجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم والمعنى : وإنا لمحمد لحافظون ممن أراد به سوءاً فهو كقوله تعالى :﴿ والله يعصمك من الناس ﴾ [ المائدة، ٦٧ ].
ولما أساء الكفار عليه صلى الله عليه وسلم في الأول وخاطبوه بالسفاهة وقالوا :﴿ إنك لمجنون ﴾ [ الحجر، ٦ ]. وكان عادة هؤلاء الجهال مع جميع الأنبياء قال سبحانه وتعالى تسلية له على وجه رادّ عليهم :﴿ ولقد أرسلنا من قبلك ﴾، أي : رسلاً فحذف ذكر الرسل لدلالة الإرسال عليه وقوله تعالى :﴿ في شيع ﴾ أي : فرق ﴿ الأوّلين ﴾ من باب إضافة الصفة إلى الموصوف كقوله تعالى :﴿ حق اليقين ﴾ [ الواقعة، ٩٥ ] سموا شيعاً لمتابعة بعضهم بعضاً في الأحوال التي يجتمعون عليها في الزمن الواحد، والشيع جمع شيعة وهي الفرقة المجتمعة المتفقة كلمتهم على مذهب وطريقة. وقال الفراء : الشيعة هم الأتباع وشيعة الرجل أتباعه، وقيل : الشيعة من يتقوى بهم الإنسان.
﴿ وما يأتيهم ﴾ عبر بالمضارع على حكاية الحال الماضية، فإن ما لا تدخل على مضارع إلا وهو في معنى الحال ولا على ماض إلا وهو قريب من الحال، والأصل وما كان يأتيهم ﴿ من رسول ﴾، أي : على، أي : وجه كان ﴿ إلا كانوا به ﴾ جبلة وطبعاً ﴿ يستهزؤون ﴾ كاستهزاء قومك بك فصبروا فاصبر كما صبروا.
﴿ كذلك ﴾، أي : مثل إدخالنا التكذيب في قلوب هؤلاء المستهزئين بالرسل ﴿ نسلكه ﴾، أي : ندخله ﴿ في قلوب المجرمين ﴾، أي : كفار مكة المستهزئين.
﴿ لا يؤمنون به ﴾، أي : بالنبيّ صلى الله عليه وسلم وقيل : بالقرآن. وفي الآية دليل على أنّ الله تعالى يخلق الباطل في قلوب الكفار والسلك إدخال الشيء في الشيء كالخيط في المخيط والرمح في المطعون، ومنه قوله تعالى :﴿ ما سلككم في سقر ﴾ [ المدثر، ٤٢ ] وقيل : الضمير في نسلكه يعود للذكر كما أنّ الضمير في به يعود إليه وجملة لا يؤمنون به حال من ذلك الضمير والمعنى على هذا مثل ذلك السلك نسلك الذكر في قلوب المجرمين مكذباً به غير مؤمن به قال البيضاوي : وهذا الاستدلال ضعيف إذ لا يلزم من تعاقب الضمائر توافقها في المرجوع إليه اه. وما أعدت الضمير عليه في ذلك هو ما قاله ابن الخازن، وجرى عليه الجلال السيوطي وقوله تعالى :﴿ وقد خلت سنة الأولين ﴾، أي : سنة الله فيهم من تعذيبهم بتكذيبهم أنبياءهم وعيد شديد لكفار مكة بأنه ينزل بهم مثل ما نزل بالأمم الماضية المكذبة، وقال الزجاج : قد مضت سنة الله في أن يسلك الكفر والضلال في قلوبهم. قال الرازي : وهذا أليق بظاهر اللفظ. وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي بإدغام تاء التأنيث في السين والباقون بالإظهار.
وقوله تعالى :﴿ ولو فتحنا عليهم باباً من السماء ﴾ الآية هو المراد في سورة الأنعام في قوله تعالى :﴿ ولو نزلنا عليك كتاباً في قرطاس ﴾ [ الأنعام، ٧ ] الآية، أي : الذين يقولون لو ما تأتينا بالملائكة فلو أنزلنا الملائكة ﴿ فظلوا فيه ﴾، أي : فظلت الملائكة ﴿ يعرجون ﴾، أي : يصعدون في الباب وهم يرونها عياناً.
﴿ لقالوا ﴾، أي : من عتوّهم في الكفر ﴿ إنما سكرت أبصارنا ﴾، أي : سدت عن الأبصار بالسحر من السكر ويدل عليه قراءة ابن كثير بالتخفيف أو حيرت من السكر يدل عليه قراءة الباقين بالتشديد. ﴿ بل نحن قوم مسحورون ﴾، أي : قد سحرنا محمد بذلك، أي : كما قالوه عند ظهور غيره من الآيات كانشقاق القمر وما جاء به النبيّ صلى الله عليه وسلم من القرآن المعجز الذي لا يستطيع الجنّ والإنس أن يأتوا بمثله. وقيل : الضمير في يعرجون للمشركين، أي : فظل المشركون يصعدون في ذلك الباب فينظرون في ملكوت السماوات وما فيها من العجائب لما آمنوا لعنادهم وكفرهم وقالوا : إنما سحرنا. وقرأ الكسائي بإدغام لام بل في النون والباقون بالإظهار.
ولما أجاب الله تعالى عن شبهة منكري النبوّة والقول بالنبوّة مفرع على القول بالتوحيد ودلائل التوحيد منها سماوية ومنها أرضية بدأ منها بذكر الدلائل السماوية فقال مفتتحاً بحرف التوقع :﴿ ولقد جعلنا ﴾ بما لنا من العظمة والقدرة الباهرة. ﴿ في السماء بروجاً ﴾ قال الليث : البروج واحدها برج من بروج الفلك، والبروج هي النجوم الكبار مأخوذة من الظهور يقال : تبرجت المرأة إذا ظهرت وأراد بها المنازل التي تنزلها الشمس والقمر والكواكب السيارة وهي اثنا عشر برجاً الحمل والثور والجوزاء والسرطان والأسد والسنبلة والميزان والعقرب والقوس والجدي والدلو والحوت وهي منازل الكواكب السبعة السيارة المريخ وله الحمل والعقرب، والزهرة ولها الثور والميزان، وعطارد وله الجوزاء والسنبلة، والقمر وله السرطان، والشمس ولها الأسد، والمشتري وله القوس والحوت، وزحل وله الجدي والدلو. وهذه البروج مقسومة على ثلاثمائة وستين درجة لكل برج منها ثلاثون درجة تقطعها الشمس في كل سنة مرّة وبها تتم دورة الفلك ويقطعها القمر في ثمانية وعشرين يوماً. قال ابن عباس في هذه الآية : يريد بروج الشمس والقمر يعني منازلهما وقال عطية : هي قصور في السماء عليها الحرس. وقال مجاهد : هي النجوم العظام. قال أبو إسحاق : يريد نجوم هذه البروج. وقرأ نافع وابن كثير وابن ذكوان وعاصم بإظهار دال قد عند الجيم والباقون بالإدغام. ﴿ وزيناها ﴾، أي : السماء بالشمس والقمر والنجوم والأشكال والهيئات البهية ﴿ للناظرين ﴾، أي : المعتبرين المستدلين بها على توحيد خالقها ومبدعها وهو الله الذي أوجد كل شيء وخلقه وصوّره.
﴿ وحفظناها من كل شيطان رجيم ﴾، أي : مرجوم وقيل : ملعون. قال ابن عباس : كانت الشياطين لا يحجبون عن السماوات وكانوا يدخلونها ويسمعون أخبار الله الغيوب من الملائكة فيلقونها على الكهنة فلما ولد عيسى عليه السلام منعوا من ثلاث سموات ولما ولد محمد صلى الله عليه وسلم منعوا من السماوات كلها فما منهم من أحد يريد استراق السمع إلا رمي بشهاب، فلما منعوا تلك المقاعد ذكروا ذلك لإبليس فقال : لقد حدث في الأرض حدث فبعثهم ينظرون فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلو القرآن فقالوا : والله هذا حدث.
وقوله تعالى :﴿ إلا من استرق السمع ﴾ بدل من كل شيطان رجيم. وقيل استثناء منقطع، أي : لكن من استرق السمع واستراق السمع اختلاسه. قال ابن عباس : يريد الخطفة اليسيرة وذلك أنّ الشياطين يركب بعضهم بعضاً إلى السماء الدنيا يسترقون السمع من الملائكة فيرمون بالكواكب كما قال تعالى :﴿ فأتبعه شهاب مبين ﴾ وهو شعلة من نار ساطعة وقد يطلق على الكواكب لما فيها من البريق يشبه شهاب النار فلا يخطئ أحداً فمنهم من يقتله ومنهم من يحرق وجهه أو جنبه أو يده حيث يشاء الله. ومنهم من يخبله فيصير غولاً فيضل الناس في البوادي. روى أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا قضي الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله كأنه سلسلة على صفوان فإذا فزع عن قلوبهم قالوا : ماذا قال ربكم ؟ قالوا : الحق وهو العليّ الكبير، فيسمعها مسترقو السمع » ومسترقو السمع هكذا بعضهم فوق بعض. ووصف سفيان بكفه فحرفها وبدّد بين أصابعه فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته ثم يلقيها الآخر إلى من تحته حتى يلقيها إلى لسان الساحر أو الكاهن، وربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها وربما ألقاها قبل أن يدركه فيكذب معها مئة كذبة، فيقال : أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا فيصدّق بتلك الكلمة التي سمعها من السماء. فإن قيل : إذا جاز أن يسمع الشيطان أخبار الغيوب من الملائكة خرج الإخبار عن المغيبات عن كونه معجزاً دليلاً على الصدق لأنّ كل غيب يخبر عنه النبيّ صلى الله عليه وسلم قام فيه الاحتمال وحينئذٍ يخرج عن كونه معجزاً دليلاً على الصدق. أجيب : بأنا أثبتنا كون محمد صلى الله عليه وسلم رسولاً بسائر المعجزات ثم بعد العلم بنبوّته نقطع بأنّ الله تعالى أعجز الشياطين عن تلقف الغيب بهذا الطريق وعند ذلك يصير الإخبار عن الغيب معجزاً.
ولما شرح الله تعالى الدلائل السماوية في تقرير التوحيد أتبعها بذكر الدلائل الأرضية وهي أنواع ؛
النوع الأوّل : قوله تعالى :﴿ والأرض مددناها ﴾ قال ابن عباس : بسطناها على وجه الماء. قال البغوي : يقال إنها مسيرة خمسمائة سنة في مثلها دحيت من تحت الكعبة. فإن قيل : فهل يدل ذلك على أنها بسيطة أو كرة عظيمة على ما يقوله أرباب الهيئة ؟ أجيب : بأن ليس في الآية دلالة على شيء من ذلك، لأنّ الأرض على تقدير كونها كرة فهي في غاية العظمة والكرة العظيمة ترى كالسطح المستوي، وتقدّم الكلام على ذلك في سورة البقرة، وسيأتي زيادة على ذلك إن شاء الله تعالى في سورة والنازعات.
النوع الثاني : قوله تعالى :﴿ وألقينا فيها رواسي ﴾، أي : جبالاً ثوابت واحدها راسي والجمع راسية وجمع الجمع رواسي. وهو كقوله تعالى :﴿ وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم ﴾ [ النحل، ١٥ ] قال ابن عباس : لما بسط الله تعالى الأرض على الماء مالت بأهلها كالسفينة فأرساها الله تعالى بالجبال الثقال لكي لا تميد بأهلها، وقيل : إنّ الله تعالى خلقها لتكون دلالة للناس على طرق الأرض ونواحيها لأنها كالأعلام فلا تميل الناس عن الجادة المستقيمة ولا يقعون في الضلال.
النوع الثالث : قوله تعالى :﴿ وأنبتنا فيها ﴾ واختلف في عود ضمير فيها فقيل : يعود إلى الأرض لأنّ أنواع النبات المنتفع به يكون في الأرض وقيل : إلى الجبال لأنها أقرب مذكور ولقوله تعالى :﴿ من كل شيء موزون ﴾ وإنما يوزن ما يتولد من الجبال والأولى عوده لهما، واختلفوا في المراد بالموزون فقال ابن عباس : ، أي : معلوم. وقال مجاهد، أي : مقدار معين تقتضيه حكمته. وقال الحسن : أعني به الشيء الموزون كالذهب والفضة والرصاص والحديد ونحو ذلك مما يستخرج من المعادن والأولى أنه جميع ما ينبت في الأرض والجبال، لأنّ ذلك نوعان أحدهما يستخرج من المعادن وجميع ذلك موزون. والثاني النبات فبعضه موزون وبعضه بالكيل وهو يرجع إلى الوزن لأنّ الصاع والمدّ مقدران بالوزن.
﴿ وجعلنا لكم فيها ﴾، أي : إنعاماً منا وتفضلاً عليكم ﴿ معايش ﴾ وهي بياء صريحة من غير مدّ جمع معيشة وهو ما يعيش به الإنسان مدّة حياته في الدنيا من المطاعم والملابس والمعادن وغيرها. ﴿ و ﴾ جعلنا لكم ﴿ من لستم له برازقين ﴾ من العبيد والأنعام والدواب والطير فإنكم تنتفعون بها ولستم لها برازقين لأنّ رزق جميع الخلق على الله تعالى وبعض الجهال يظنون في أكثر الأمر أنهم هم الذين يرزقون العيال والخدم والعبيد، وذلك خطأ فإنّ الله هو الرزاق يرزق المخدوم والخادم والمملوك والمالك لأنه تعالى خلق الأطعمة والأشربة وأعطى القوة الغاذية والهاضمة وإلا لم يحصل لأحد رزق. فإن قيل : صيغة من مختصة بمن يعقل ؟ أجيب : بأنه تعالى أثبت لجميع الدواب رزقاً على الله تعالى حيث قال :﴿ وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها ﴾ [ هود : ٦ ] فغلب من يعقل على غيره. حكي أنّ الماء قد قلّ في بعض الأودية والجبال واشتدّ الحرّ قال بعضهم : فرأيت بعض تلك الوحوش رفعت رؤوسها إلى السماء عند اشتداد عطشها قال : فرأيت الغيوم قد أقبلت وأمطرت وامتلأت الأودية.
تنبيه : قيل لا يجوز أن يكون و﴿ من لستم له برازقين ﴾ مجروراً عطفاً على الضمير لا يقال : أخذت منك وزيد إلا بإعادة الخافض كما في قوله تعالى :﴿ وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح ﴾ [ الأحزاب، ٧ ]
والراجح الجواز كما قرئ قوله تعالى :﴿ تساءلون به والأرحام ﴾ [ النساء، ١ ] بالخفض في القراءات السبع وهذا أعظم دليل.
ولما بين سبحانه وتعالى أنه أنبت لهم كل شيء موزون وجعل لهم معايش أشعر بذكر ما هو السبب لذلك فقال تعالى :﴿ وإن ﴾، أي : وما ﴿ من شيء ﴾، أي : مما ذكر وغيره من الأشياء الممكنة وهي لا نهاية لها. ﴿ إلا عندنا خزائنه ﴾، أي : قادرون على إيجاده وتكوينه أضعاف ما وجد منه فضرب الخزائن مثلاً لاقتداره على كل مقدور. وروى جعفر بن محمد عن أبيه عند جدّه قال : في العرش تمثال جميع ما خلق الله في البحر والبرّ والخزائن جمع خزانة وهي اسم للمكان الذي يخزن فيه للحفظ. وقيل : أراد مفاتيح الخزائن، وقيل : المطر لأنه سبب الأرزاق لبني آدم والوحش والطير والدواب ومعنى عندنا، أي : في حكمه تعالى وتصرّفه وأمره وتدبيره ﴿ وما ننزله ﴾ من يفاع القدرة ﴿ إلا بقدر معلوم ﴾، أي : على حسب المصالح وقيل : إنّ لكل أرض حدّاً ومقداراً من المطر يقال : لا ينزل من السماء قطرة مطر إلا ومعها ملك يسوقها إلى حيث يشاء الله.
ولما أتم ما أراد من آيتي السماء والأرض وختمه بشمول قدرته لكل شيء أتبعه ما ينشأ عنهما مما هو بينهما مودعاً في خزائن قدرته بقوله تعالى :﴿ وأرسلنا الرياح ﴾ جمع ريح وهو جسم لطيف منبث في الجوّ سريع الممر ﴿ لواقح ﴾، أي : حوامل لأنها تحمل الماء إلى السحاب فهي لاقحة، يقال : ناقة لاقحة إذا حملت الولد. وقال ابن مسعود : يرسل الله تعالى الريح فتحمل الماء فتمجه في السحاب ثم تمرّ به فتدرّ كما تدر اللقحة ثم تمطر. وقال عبيد بن عمير : يبعث الله تعالى الريح المثيرة فتثير السحاب ثم يبعث الله المؤلفة فتؤلف السحاب بعضه إلى بعض فتجعله ركاماً ثم يبعث الله اللواقح تلقح الشجر. وعن ابن عباس قال : ما هبت ريح قط إلا جثا النبيّ صلى الله عليه وسلم على ركبتيه وقال :«اللهمّ اجعلها رحمة ولا تجعلها ريحاً ». وعن عائشة رضي الله عنها «أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا عصفت الريح قال : اللهمّ إني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرّها وشرّ ما فيها وشرّ ما أرسلت به ». وقرأ حمزة بالإفراد والباقون بالجمع. ﴿ فأنزلنا ﴾، أي : بعظمتنا بسبب تلك السحاب التي حملتها الريح ﴿ من السماء ﴾، أي : الحقيقية أو جهتها أو السحاب لأنّ الأسباب المترقبة يسند الشيء تارة إلى القريب منها وتارة إلى البعيد ﴿ ماء ﴾ وهو جسم مائع سيال به حياة كل حيوان من شأنه الاغتذاء ﴿ فأسقيناكموه ﴾، أي : جعلناه لكم سقياً، يقال : سقيته ماء يشربه و أسقيته، أي : مكنته منه ليسقي به ماشيته ومن يريد، ونفى سبحانه وتعالى عن غيره ما أثبته أولاً لنفسه بقوله :﴿ وما أنتم له ﴾، أي : لذلك الماء ﴿ بخازنين ﴾، أي : ليست خزائنه بأيديكم والخزن وضع الشيء في مكان مهيأ للحفظ فثبت أنّ القادر عليه واحد مختار.
ومن دلائل التوحيد الإحياء والإماتة كما قال تعالى :﴿ وإنا لنحن نحيي ﴾، أي : لنا هذه الصفة على وجه العظمة فنحيي بها من نشاء من الحيوان بروح البدن ومن الروح بالمعارف ومن النبات بالنمو وإن كان أحدهما حقيقة والآخر مجازاً لأنّ الجمع جائز ﴿ ونميت ﴾، أي : لنا هذه الصفة فنبرز بها من عظمتنا ما نشاء. ﴿ ونحن الوارثون ﴾، أي : الإرث التام إذا مات الخلائق الباقون بعد كل شيء كما كنا ولا شيء فليس لأحد تصرّف بإماتة ولا إحياء، فثبت بذلك الوحدانية والفعل بالاختيار.
فلما ثبت بهذا كمال قدرته وكانت آثار القدرة لا تكون محكمة إلا بالعلم قال تعالى :
﴿ ولقد علمنا المستقدمين منكم ﴾ وهو من قضينا بموته أولاً من لدن آدم فيكون في موته كأنه يسارع إلى التقدّم إليه وإن كان هو وكل من أهله مجتهداً بالعلاج في تأخيره ﴿ ولقد علمنا المستأخرين ﴾، أي : الذين نمدّ في أعمارهم فنؤخر موتهم حتى يكونوا كأنهم يسابقون إلى ذلك وإن عالجوا الموت بشرب سم أو نحوه أو عالجه لهم غيرهم بضربهم بسيف أو غيره فعرف من ذلك قطعاً أن الفاعل واحد مختار. وقال ابن عباس : أراد بالمستقدمين الأموات وبالمستأخرين الأحياء وقال عكرمة : المستقدمين من خلق الله تعالى والمستأخرين من لم يخلق. وقال الحسن : المستقدمين في الطاعة والخير والمستأخرين المستبطؤون عنه. وقيل : المستقدمين من القرون الأولى والمستأخرين أمّة محمد صلى الله عليه وسلم وقيل : المستقدمين في الصفوف والمستأخرين فيها وذلك أنّ النساء كنّ يخرجن إلى الجماعة فيقفن خلف الرجال فربما كان في الرجال من في قلبه ريبة فيتأخر إلى آخر صف الرجال ومن النساء من في قلبها ريبة فتتقدم إلى أوّل صف النساء لتقرب من الرجال فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم «خير صفوف الرجال أوّلها وشرّها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها وشرّها أولها ».
تنبيه : في سبب نزول هذه الآية قولان أحدهما : أنّ امرأة حسناء كانت تصلي خلف النبيّ صلى الله عليه وسلم فكان بعضهم يستقدم حتى يكون في أوّل صف حتى لا يراها ويتأخر بعضهم حتى يكون آخر صف، فإذا ركع نظر من تحت إبطه فنزلت. والثاني : أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم حرّض على الصف الأوّل فازدحموا عليه، وقال قوم بيوتهم قاصية عن المسجد لنبيعنّ دورنا ولنشترين دوراً قريبة من المسجد حتى ندرك الصف المقدم فنزلت.
﴿ وإنّ ربك هو يحشرهم ﴾، أي : المستقدمين والمستأخرين للجزاء وتوسط الضمير للدلالة على أنه القادر والمتولي لحشرهم لا غيره وتصدير الجملة بأنّ لتحقيق الوعد والتنبيه على أنّ ما سبق من الدلالة على كمال قدرته وعلمه بتفاصيل الأشياء يدل على صحة الحكم كما صرّح به بقوله تعالى :﴿ إنه حكيم ﴾، أي : باهر الحكمة متقن في أفعاله ﴿ عليم ﴾ وسع علمه كل شيء.
ولما استدل سبحانه وتعالى بتخليق الحيوانات على صحة التوحيد في الآية المتقدّمة أردفه بالاستدلال بتخليق الإنسان على هذا المطلوب بقوله تعالى :﴿ ولقد خلقنا الإنسان ﴾ قال الرازي والمفسرون : أجمعوا على أنّ المراد منه آدم عليه السلام. ونقل في كتب الشيعة عن محمد بن علي الباقر أنه قال : قد انقضى قبل آدم الذي هو أبونا ألف ألف آدم أو أكثر سمي إنساناً لظهوره وإدراك البصر إياه، وقيل : من النسيان لأنه عهد إليه فنسى. ﴿ من صلصال ﴾، أي : من الطين الشديد اليابس الذي لم تصبه نار، إذا نقرته سمعت له صلصلة، أي : صوتاً. وقال ابن عباس : هو الطين إذا نضب عنه الماء تشقق فإذا حرّك تقعقع. وقال مجاهد : هو الطين المنتن واختاره الكسائي وقال الفراء : هو طين خلط برمل فصار له صوت عند نقره. وقال الرازي : قال المفسرون : خلق الله تعالى آدم من طين فصوّره وتركه في الشمس أربعين سنة فصار صلصالاً لا يدري أحد ما يراد به ولم يروا شيئاً من الصور يشبهه إلى أن نفخ فيه الروح. ﴿ من حمأ ﴾، أي : طين أسود منتن ﴿ مسنون ﴾، أي : مصوّر بصورة الآدمي. وقال ابن عباس : هو التراب المبتل المنتن. وقال مجاهد : هو المنتن المتغير. قال البغوي : وفي بعض الآثار إنّ الله تعالى خمر طينة آدم وتركه حتى صار متغير أسود ثم خلق منه آدم عليه السلام. قال ابن الخازن : والجمع بين هذه الأقوال على ما ذكره بعضهم أنّ الله تعالى لما أراد خلق آدم عليه السلام قبض قبضة من تراب الأرض وإليه الإشارة بقوله تعالى :﴿ إنّ مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ﴾ [ آل عمران، ٥٩ ] ثم إنّ ذلك التراب بله بالماء وحمأ حتى اسودّ وأنتن ريحه وتغير وإليه الإشارة بقوله تعالى :﴿ من حمأ مسنون ﴾ ثم إنّ ذلك الطين الأسود المتغير صوّره الله صورة إنسان أجوف فلما جف ويبس كانت تدخل فيه الريح فيسمع له صلصلة وإليه الإشارة بقوله تعالى :﴿ من صلصال كالفخار ﴾ [ الرحمن، ١٤ ] وهو الطين اليابس يفخر في الشمس ثم نفخ فيه الروح فكان بشراً سوياً.
ولما ذكر سبحانه وتعالى خلق الإنسان ذكر ما خلقه قبل من الجان فقال تعالى :﴿ والجانّ ﴾ قال ابن عباس : هو أبو الجن كما أنّ آدم عليه السلام أبو البشر وإبليس أبو الشياطين وفي الجنّ مسلمون وكافرون ويأكلون ويشربون ويحيون ويموتون كبني آدم، وأما الشياطين فليس فيهم مسلمون ولا يموتون إلا إذا مات إبليس. وقال وهب : إنّ من الجنّ من يولد له ويأكلون ويشربون بمنزلة الآدميين ومن الجنّ من هو بمنزلة الريح لا يتولدون ولا يأكلون ولا يشربون وهم الشياطين. قال ابن الخازن : والأصح أنّ الشياطين نوع من الجنّ لاشتراكهم في الاستتار سموا جناً لتواريهم واستتارهم عن الأعين، من قولهم جنّ الليل إذا ستر والشيطان هو العاتي المتمرّد الكافر، والجنّ منهم المؤمن ومنهم الكافر وانتصاب الجان بفعل يفسره. ﴿ خلقناه من قبل ﴾، أي : قبل خلق الإنسان ﴿ من نار السموم ﴾، أي : من ريح حارة تدخل مسام الإنسان فتقتله من قوّة حرارتها. قال الرازي : فالريح الحارة فيها نار وبها فيح كما ورد في الخبر أنها من فيح جهنم انتهى. ويقال : السموم بالنهار والحرور بالليل. وقال الكلبي : عن أبي صالح السموم نار لا دخان لها والصواعق تكون منها وهي نار تكون بين السماء وبين الحجاب فإذا أحدث الله تعالى أمراً خرقت الحجاب فهوت إلى ما أمرت به فالهدّة التي تسمعون خرق ذلك الحجاب. وعن ابن عباس هذه السموم جزء من سبعين جزءاً من السموم التي خلق منها الجان، وتلا هذه الآية. وعن الضحاك عن ابن عباس كان إبليس من حي من الملائكة يقال لهم الجنّ خلقوا من نار السموم، وخلقت الجنّ الذين ذكروا في القرآن ﴿ من مارج من نار ﴾ [ الرحمن، ١٥ ]، وأمّا الملائكة فخلقوا من النور.
ولما ذكر الله تعالى حدوث الإنسان الأوّل واستدل بذكره على وجود الإله القادر المختار ذكر بعده واقعته بقوله تعالى :﴿ وإذ ﴾، أي : واذكر يا أشرف الخلق قول ربك عز وجل إذ ﴿ قال ربك ﴾، أي : المحسن إليك بتشريف أبيك آدم عليه السلام لتشريفك ﴿ للملائكة إني خالق بشراً ﴾، أي : حيواناً كثيفاً يباشر ويلاقي والملائكة والجن لا يباشرون للطف أجسامهم عن أبشار البشر والبشرة ظاهر الجلد من كل حيوان وقوله تعالى :﴿ من صلصال من حمأ مسنون ﴾ تقدّم تفسيره.
﴿ فإذا سويته ﴾، أي : عدّلته وأتممته وهيأته لنفخ الروح فيه بالفعل ﴿ ونفخت فيه من روحي ﴾، أي : خلقت الحياة فيه وليس ثم نفخ ولا منفوخ وإنما هو تمثيل وأضاف الروح إليه تشريفاً كما يقال : بيت الله وهو ما يصير به الروح عالماً وأشرف منه ما يصير به العالم عاملاً خاشعاً وسيأتي الكلام على الروح إن شاء الله تعالى في سورة سبحان عند قوله تعالى :﴿ ويسألونك عن الروح ﴾ [ الإسراء، ٨٥ ]. ﴿ فقعوا ﴾، أي : أسقطوا ﴿ له ﴾ تعظيماً حال كونكم ﴿ ساجدين ﴾ وتقدّم في سورة البقرة الكلام على من المخاطب بالسجود وهل هو كل الملائكة أو ملائكة السماوات أو ملائكة الأرض وهل هو سجود انحناء أو غيره.
﴿ فسجد الملائكة ﴾ وقوله تعالى :﴿ كلهم أجمعون ﴾ قال سيبويه : تأكيد بعد تأكيد. وسئل المبرد عن ذلك فقال : لو قال ﴿ فسجد الملائكة ﴾ احتمل أن يكون سجد بعضهم فلما قال :﴿ كلهم ﴾ زال هذا الاحتمال فظهر أنهم بأسرهم سجدوا ثم عند هذا بقي احتمال وهو أنهم سجدوا دفعة واحدة أو سجد كل واحد في وقت آخر، فلما قال :﴿ أجمعون ﴾ ظهر أنّ الكل سجدوا دفعة واحدة. قال الزجاج : وقول سيبويه أجود لأنّ أجمعين معرفة فلا يكون حالاً.
وقوله تعالى :﴿ إلا إبليس ﴾ أجمعوا على أنّ إبليس كان مأموراً بالسجود لآدم واختلفوا في أنه هل كان من الملائكة أم لا وقد سبقت هذه المسألة على الاستقصاء في سورة البقرة وقوله تعالى :﴿ أبى أن يكون مع الساجدين ﴾ أي : لآدم استئناف تقديره إنّ قائلاً قال : هل سجد فقيل أبى ذلك واستكبر عنه.
﴿ قال ﴾ الله تعالى له :﴿ يا إبليس ما لك ألا تكون ﴾ أي : أن تكون ولا مزيدة، أي : ما منعك أن تكون ﴿ مع الساجدين ﴾ لآدم.
﴿ قال لم أكن لأسجد لبشر ﴾ جسماني كثيف واللام لتأكيد النفي، أي : لا يصح مني وينافي حالي أن أسجد وأنا ملك روحاني لبشر. ﴿ خلقته من صلصال من حمأ مسنون ﴾ وهو أخس العناصر ﴿ وخلقتني من نار ﴾ وهي أشرفها استنقص آدم باعتبار النوع والأصل وقد سبق الجواب عنه في سورة الأعراف.
تنبيه : قال بعض المتكلمين : إنه تعالى أوصل هذا الخطاب إلى إبليس على لسان بعض رسله وضعف لأنّ إبليس قال في الله لجواب :﴿ لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال ﴾ فقوله : خلقته خطاب الحضور لا خطاب الغيبة وظاهره يقتضي أن الله تعالى تكلم مع إبليس بغير واسطة وأنّ إبليس تكلم مع الله بغير واسطة فكيف يعقل هذا مع أن مكالمة الله تعالى من غير واسطة من أعظم المناصب وأشرف المراتب فكيف يعقل حصوله لرأس الكفرة ورئيسهم ؟ وأجيب : بأنّ مكالمة الله تعالى إنما تكون منصباً عالياً إذا كانت على سبيل الإكرام والإعظام فأمّا إذا كانت على سبيل الإهانة والإذلال فلا.
﴿ قال ﴾ الله تعالى له ﴿ فاخرج منها ﴾ أي : من الجنة وقيل : من السماوات وقيل : من زمرة الملائكة وقد تقدّم الكلام على ذلك أيضاً في سورة الأعراف. ﴿ فإنك رجيم ﴾ أي : مطرود من الخير والكرامة فإن من يطرد يرجم بالحجر أو شيطان رجيم بالشهب وهو وعيد يتضمن الجواب عن شبهته.
﴿ وإن عليك اللعنة ﴾ أي : هذا الطرد والإبعاد ﴿ إلى يوم الدين ﴾ قال ابن عباس : يريد يوم الجزاء حيث يجازى العباد بأعمالهم مثل قوله تعالى :﴿ مالك يوم الدين ﴾ [ الفاتحة، ٣ ]. فإن قيل : كلمة إلى تفيد حصر انتهاء الغاية فهذا يفيد أنّ اللعنة لا تحصل إلا إلى يوم الدين وعند القيامة يزول اللعن ؟ أجيب : بجوابين الأوّل : أنّ المراد التأبيد وذكر القيامة أبعد غاية ذكرها الناس في كلامهم كقوله تعالى :﴿ ما دامت السماوات والأرض ﴾ [ هود، ١٠٧ ] في التأبيد. والثاني : أنه مذموم مدعو عليه باللعن في السماوات والأرض إلى يوم القيامة من غير أن يعذب فإذا جاء اليوم عذب عذاباً يقترن اللعن معه فيصير اللعن حينئذٍ كالزائل بسبب أنّ شدّة العذاب تذهل عنه.
ولما جعله رجيماً ملعوناً إلى يوم القيامة فكأنَّ قائلاً يقول فماذا قال ؟ فقيل :﴿ قال رب ﴾ فاعترف بالعبودية والإحسان إليه ﴿ فأنظرني ﴾ أي : أخرني والإنظار تأخير المحتاج للنظر في أمره والفاء متعلقة بمحذوف دلّ عليه ﴿ فاخرج منها فإنك رجيم ﴾. ﴿ إلى يوم يبعثون ﴾ أي : الناس أراد أن يجد فسحة في الإغواء ونجاة من الموت إذ لا موت بعد وقت البعث.
﴿ قال ﴾ الله تعالى مجيباً للأوّل دون الثاني بقوله تعالى :﴿ فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم ﴾ وهو المسمى فيه أجلك عند الله وهو النفخة الأولى وما يتبعها من موت كل مخلوق لم يكن في دار الخلد. فإن قيل : كيف أجابه الله تعالى إلى ذلك الإمهال ؟ أجيب : بأنه إنما أجابه إلى ذلك زيادة في بلائه وشقائه وعذابه لا لإكرامه ورفع مرتبته.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٧:﴿ قال ﴾ الله تعالى مجيباً للأوّل دون الثاني بقوله تعالى :﴿ فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم ﴾ وهو المسمى فيه أجلك عند الله وهو النفخة الأولى وما يتبعها من موت كل مخلوق لم يكن في دار الخلد. فإن قيل : كيف أجابه الله تعالى إلى ذلك الإمهال ؟ أجيب : بأنه إنما أجابه إلى ذلك زيادة في بلائه وشقائه وعذابه لا لإكرامه ورفع مرتبته.
ولما أجيب لذلك كأنه قيل فماذا قال فقيل :﴿ قال رب ﴾ أي : أيها الموجد والمدبر لي وقوله :﴿ بما أغويتني ﴾ أي : خيبتني من رحمتك الباء فيه للقسم وما مصدرية وجواب القسم ﴿ لأزينن ﴾ أي : أقسم بإغوائك إياي لأزينن ﴿ لهم في الأرض ﴾ حب الدنيا ومعاصيك كقوله :﴿ فبعزتك لأغوينهم أجمعين ﴾ [ ص، ٨٢ ] إلا أنه في ذلك الموضع أقسم بعزة الله وهي من صفات الذات وهنا أقسم بإغواء الله، وهي من صفات الأفعال، والفقهاء قالوا : القسم بصفات الذات صحيح، واختلفوا في القسم بصفات الأفعال والراجح فيها الصحة. ﴿ ولأغوينهم ﴾ أي : بالإضلال عن الطريق الحميدة بإلقاء الوسوسة في قلوبهم ولأحملنهم. ﴿ أجمعين ﴾ على الغواية.
وقوله :﴿ إلا عبادك منهم المخلصين ﴾ قرأه ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر بكسر اللام، أي : الذين أخلصوا دينك عن الشوائب وقرأه الباقون بفتحها، أي : الذين أخلصهم الله تعالى بالهداية وإنما استثنى إبليس المخلصين لأنه علم أنّ كيده لا يعمل فيهم ولا يقبلون منه. وقال الرازي : والذي حمله على هذا الاستثناء أنه لا يصير كاذباً في دعواه فلما احترز إبليس عن الكذب علمنا أنّ الكذب في غاية الخساسة.
تنبيه : قال رويم : الإخلاص في العمل هو أن لا يريد صاحبه عنه عوضاً من الدارين ولا عوضاً من الملكين. وقال الجنيد : الإخلاص سر بين العبد وبين الله تعالى لا يعلمه ملك فيكتبه ولا شيطان فيفسده ولا هوى فيميله. وذكر القشيري وغيره عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال :«سألت جبريل عليه السلام عن الإخلاص ما هو ؟ قال : سألت رب العزة عن الإخلاص ما هو ؟ قال : سرّ استودعته قلب من أحب من عبادي ».
ولما ذكر إبليس أنه يغوي بني آدم إلا من عصمه الله بتوفيقه وتضمن هذا الكلام تفويض الأمور إلى الله تعالى وإلى إرادته.
﴿ قال ﴾ تعالى ﴿ هذا ﴾ أي : الذي ذكرته من حال المستثنى والمستثنى منه ﴿ صراط ﴾ أي : طريق ﴿ عليّ مستقيم ﴾ أي : لا انحراف عنه لأني قضيت به وحكمت به عليك وعليهم ولو لم تقل أنت.
ولما قال إبليس لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين أوهم هذا أنّ له سلطاناً على عباد الله غير المخلصين فبين تعالى كذبه أنه ليس له سلطان على أحد من عبيد الله سواء أكانوا مخلصين أو لم يكونوا مخلصين ومن اتبع منهم إبليس باختياره صار تبعاً له ولكن حصول تلك المتابعات أيضاً ليس لأجل إبليس وأوهم أن له على بعض عباد الله سلطاناً فبين تعالى كذبه وذكر تعالى أنه ليس له على أحد منهم سلطان ولا قدرة أصلاً بقوله تعالى :﴿ إن عبادي ﴾ أي : المؤمنين كلهم ﴿ ليس لك ﴾ أي : بوجه من الوجوه ﴿ عليهم سلطان ﴾ أي : لتردّهم كلهم عما يرضيني ونظير هذه الآية قوله تعالى حكاية عن إبليس :﴿ وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي ﴾ [ إبراهيم، ٢٢ ] وقال تعالى في آية أخرى :﴿ إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون ٩٩ إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون ﴾ [ النحل : ٩٩، ١٠٠ ]. ﴿ إلا من اتبعك ﴾ أي : بتعمدٍ منه ورغبة من اتباعك ﴿ من الغاوين ﴾ أي : ومات من غير توبة فإني جعلت لك عليهم سلطاناً بالتزيين والإغواء وسئل سفيان بن عيينة عن هذه الآية ؟ فقال : معناه ليس لك عليهم سلطان تلقيهم في ذنب يضيق عنه عفوي. وقيل : إنّ الإضافة للتشريف فلا تشمل إلا الخلص فحينئذ يكون الاستثناء منقطعاً وفائدة سوقه بصورة الاستثناء على تقدير الانقطاع الترغيب في رتبة التشريف بالإضافة إليه والرجوع عن اتباع العدو إلى الإقبال عليه لأن ذوي الأنفس الأبية والهمم العلية ينافسون في ذلك المقام ويرونه كما هو الحق أعلى مرام.
﴿ وإن جهنم لموعدهم ﴾ أي : الغاوين وهم إبليس ومن تبعه ﴿ أجمعين ﴾.
ثم بين تعالى أنهم متفاوتون فيها بقوله تعالى :﴿ لها ﴾ أي : لجهنم ﴿ سبعة أبواب ﴾ أي : سبع طبقات قال عليّ رضي الله تعالى عنه : أتدرون كيف أبواب النار ؟ هكذا ووضع إحدى يديه على الأخرى، أي : سبعة أبواب بعضها فوق بعض. وإنّ الله تعالى وضع الجنات على العرض ووضع النيران بعضها على بعض. قال ابن جريج : النار سبعة دركات أوّلها جهنم ثم لظى ثم الحطمة ثم السعير ثم سقر ثم الجحيم ثم الهاوية.
تنبيه : تخصيص العدد لأنّ أهلها سبع فرق وقيل : جعلت سبعة على وفق الأعضاء السبعة من العين والأذن واللسان والبطن والفرج واليد والرجل، لأنها مصادر السيئات فكانت مواردها الأبواب السبعة، ولما كانت هي بعينها مصادر الحسنات بشرط النية والنية من أعمال القلب زادت الأعضاء واحداً فجعلت أبواب الجنان ثمانية قال تعالى :﴿ لكل باب ﴾ أي : منها ﴿ منهم ﴾ أي : من الغاوين خاصة لا يشاركهم فيها مخلص ﴿ جزء ﴾ أي : نصيب. وقرأ شعبة بضم الزاي والباقون بالسكون ﴿ مقسوم ﴾ أي : معلوم فلكل دركة قوم يسكنونها. قال الضحاك : في الدرجة الأولى أهل التوحيد الذي أدخلوا النار يعذبون بقدر ذنوبهم ثم يخرجون، وفي الثانية النصارى وفي الثالثة اليهود وفي الرابعة الصابئون، وفي الخامسة المجوس، وفي السادسة أهل الشرك، وفي السابعة المنافقون، فذلك قوله تعالى :﴿ إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ﴾ [ النساء، ١٤٥ ]. وروي عن عمر رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لجهنم سبعة أبواب باب منها لمن سل السيف على أمّتي أو قال على أمّة محمد ".
ولما شرح تعالى أحوال أهل العقاب أتبعه بصفة أهل الثواب بقوله تعالى مؤكداً لإنكار المكذبين بالبعث :
﴿ إن المتقين ﴾ أي : الذين اتقوا الشرك بالله تعالى كما قال جمهور الصحابة والتابعين وهو الصحيح لأنّ المتقي والآتي بالتقوى مرّة واحدة كما أنّ الضارب هو الآتي بالضرب مرّة واحدة والقاتل هو الآتي بالقتل مرّة واحدة فكما أنه ليس من شرط صدق الوصف بكونه ضارباً أو قاتلاً كونه آتياً بجميع أنواع الضرب والقتل ليس من شرط صدق الوصف بكونه متقياً كونه آتياً بجميع أنواع التقوى لأنّ الآتي بفرد واحد من أفراد التقوى يكون آتياً بالتقوى، لأنّ كل فرد من أفراد الماهية يجب كونه مشتملاً على تلك الماهية ﴿ في جنات ﴾ أي : بساتين. قال الرازي : أمّا الجنات فأربعة لقوله تعالى :﴿ ولمن خاف مقام ربه جنتان ﴾ [ الرحمن، ٤٦ ]
ثم قال :﴿ ومن دونهما جنتان ﴾ [ الرحمن، ٦٢ ] فيكون المجموع أربعة. وقوله :﴿ ولمن خاف مقام ربه جنتان ﴾ [ الرحمن، ٤٦ ] يؤكد ما قلناه لأن من آمن بالله لا ينفك قلبه من الخوف من الله تعالى. وقوله تعالى :﴿ ولمن خاف ﴾ يكفي في صدقه حصول هذا الخوف مرّة واحدة. وقوله تعالى :﴿ وعيون ﴾ قال الرازي : يحتمل أن يكون المراد منها ما ذكره الله تعالى في قوله :﴿ مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى ﴾ [ محمد، ١٥ ]. ويحتمل أن يكون المراد من هذه العيون منابع مغايرة لتلك الأنهار. فإن قيل : هل كان واحد من المتقين مختص بعيون أو تجري تلك العيون بعضها إلى بعض ؟ أجيب : بأن كل واحد من الوجهين محتمل فيجوز أن يختص كل واحد بعين ينتفع هو بها، ومن يختص به من الحور والولدان ويكون ذلك على قدر حاجاتهم وعلى حسب شهواتهم ويحتمل أن يجري من بعضهم إلى بعض لأنهم يطهرون عن الحقد والحسد. وقرأ نافع وأبو عمرو وهشام وحفص برفع العين والباقون بالكسر وقرأ بكسر التنوين في الوصل أبو عمرو وابن ذكوان وعاصم وحمزة والباقون بالضم.
ولما كان المنزل لا يحسن إلا بالسلامة والأنس قال تعالى :﴿ ادخلوها ﴾ أي : يقال لهم ذلك ﴿ بسلام ﴾ أي : سالمين من كل آفة مرحباً بكم ﴿ آمنين ﴾ من ذلك دائماً.
ولما كان الأنس لا يكمل إلا بالجنس مع كمال المودة وصفاء القلوب عن الكدر. قال تعالى :﴿ ونزعنا ﴾ أي : بما لنا من العظمة والقدرة ﴿ ما في صدورهم من غلّ ﴾ أي : حقد كامن في القلب ويطلق على الشحناء والعداوة والحسد والبغضاء فكل هذه الخصال المذمومة داخلة في الغل لأنها كامنة في القلب. يروى أن المؤمنين يحبسون على باب الجنة فيقتص بعضهم من بعض ثم يؤمر بهم إلى الجنة وقد نقيت قلوبهم من الغل والغش والحقد والحسد حالة كونهم ﴿ إخواناً ﴾ أي : متصافين حالة كونهم ﴿ على سرر ﴾ جمع سرير وهو مجلس رفيع موطأ للسرور وهو مأخوذ منه لأنه مجلس سرور. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : يريد على سرر من ذهب مكالة بالزبرجد والدرّ والياقوت والسرير مثل ما بين صنعاء إلى الجابية ﴿ متقابلين ﴾ لا يرى بعضهم قفا بعض فإن التقابل التواجه وهو نقيض التدابر ولا شك أنّ المواجهة أشرف الأحوال. وعند مجاهد رضي الله تعالى عنه تدور بهم الأسرة حيثما داروا فيكونون في جميع أحوالهم متقابلين.
تنبيه : ليس المراد الإخوة في النسب بل المراد الإخوة في المودّة والمخالطة كما قال تعالى :﴿ الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدوّ إلا المتقين ﴾ [ الزخرف، ٦٧ ]. وعن الجنيد أنه قال : ما أحلى الاجتماع مع الأصحاب وما أمرّ الاجتماع مع الأضداد.
وقوله تعالى :﴿ لا يمسهم فيها نصب ﴾ أي : إعياء وتعب وجهد ومشقة استئناف أو حال بعد حال أو حال من الضمير في متقابلين وقوله تعالى :﴿ وما هم منها بمخرجين ﴾ المراد به كونه خلوداً بلا زوال وبقاء بلا فناء وكمالاً بلا نقصان وفوزاً بلا حرمان.
ولما ذكر تعالى أحوال المتقين وأحوال غيرهم أتبع ذلك بقوله تعالى :﴿ نبئ ﴾ أي : خبر يا أفضل الخلق ﴿ عبادي ﴾ إخباراً جليلاً ﴿ أني أنا ﴾ أي : وحدي ﴿ الغفور ﴾ أي : للمؤمنين ﴿ الرحيم ﴾ بهم وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء من عبادي وأني والباقون بالسكون. وأمّا الهمزة في نبئ فلم يبدلها إلا حمزة في الوقف فقط، وكذا الهمزة من نبئهم ونقل عن حمزة كسر الهاء في الوقف.
﴿ وأنّ عذابي ﴾ أي : وحدي للعصاة ﴿ هو العذاب الأليم ﴾ أي : المؤلم.
تنبيه : في هذه الآية لطائف : الأولى أنه سبحانه وتعالى أضاف العباد إلى نفسه وهذا تشريف عظيم ألا ترى أنه قال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً ﴾ [ الإسراء، ١ ]. الثانية : أنه تعالى لما ذكر الرحمة والمغفرة بالغ في التأكيدات بألفاظ ثلاث أوّلها : قوله تعالى :﴿ أني ﴾. ثانيها : قوله :﴿ أنا ﴾. ثالثها : إدخال حرف الألف واللام على قوله تعالى :﴿ الغفور الرحيم ﴾. ولما ذكر العذاب لم يقل أني أنا المعذب، وما وصف نفسه بذلك، بل قال :﴿ وأن عذابي هو العذاب الأليم ﴾. الثالثة : أنه أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يبلغ إليهم هذا المعنى فكأنه أشهد رسوله على نفسه في التزام المغفرة والرحمة. والرابعة : أنه لما قال :﴿ نبئ عبادي ﴾ كان معناه نبئ كل من كان معترفاً بعبوديتي وهذا كما يدخل فيه المؤمن المطيع كذلك يدخل فيه المؤمن العاصي وكل ذلك يدل على تغليب جانب الرحمة من الله تعالى. وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :«إنّ الله خلق الرحمة يوم خلقها مئة رحمة فأمسك منها عنده تسعة وتسعين، وأرسل في خلقه رحمة فلو يعلم الكافر بكل الذي عند الله من الرحمة لم ييأس من الجنة. ولو يعلم المؤمن بكل الذي عند الله من العذاب لم يأمن من النار ». وعن عبادة رضي الله تعالى عنه قال بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :«لو يعلم العبد قدر عفو الله ما تورع من حرام، ولو يعلم قدر عذابه لجمع نفسه إلى قتلها ». وعنه صلى الله عليه وسلم أنه مرّ بنفر من أصحابه وهم يضحكون فقال :" أتضحكون وقد ذكر الجنة والنار بين أيديكم فنزل ﴿ نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم ﴾ ".
ولما بالغ تعالى في تقرير النبوّة ثم أردفه بذكر دلائل التوحيد، ثم ذكر تعالى عقبه أحوال القيامة ووصف الأشقياء والسعداء أتبع ذلك بقصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ليكون سماعها مرغباً في العبادة الموجبة للفوز بدرجات الأولياء ومحذراً عن المعصية الموجبة لاستحقاق دركات الأشقياء وافتتح من ذلك بقصة إبراهيم عليه السلام. فقال تعالى :﴿ ونبئهم ﴾ أي : خبّر يا سيد المرسلين عبادي ﴿ عن ضيف إبراهيم ﴾ وهم ملائكة اثنا عشر أو عشرة أو ثلاثة منهم جبريل عليه السلام. فإن قيل : الضيف هو المنضم إلى غيره لطلب القرى ؟ أجيب : بأنّ هؤلاء سموا بهذا الاسم لأنهم على صورة الضيف فهو من دلالة التضمن وقيل أيضاً : إنّ من يدخل دار إنسان ويلتجئ إليه يسمى ضيفاً وإن لم يأكل.
﴿ إذ دخلوا عليه ﴾ أي : إبراهيم وكان يكنى أبا الضيفان كان لقصره أربعة أبواب لكي لا يفوته أحد ﴿ فقالوا سلاما ﴾ أي : نسلم عليك سلاماً أو سلمت سلاماً ﴿ قال ﴾ إبراهيم عليه السلام بلسان الحال أو المقال ﴿ إنا ﴾ أي : أنا ومن عندي ﴿ منكم وجلون ﴾ أي : خائفون وكان خوفهم لامتناعهم من الأكل أو لأنهم دخلوا بغير إذن وبغير وقت والوجل اضطراب النفس لتوقع ما تكره.
﴿ قالوا لا توجل ﴾ أي : لا تخف ﴿ إنا ﴾ رسل ربك ﴿ نبشرك بغلام ﴾ أي : ولد ذكر في غاية القوّة ليس كأولاد الشيوخ ضعيفاً. وقرأ حمزة بفتح النون وسكون الباء وضم الشين مخففة والباقون بضم النون وفتح الباء وكسر الشين مشدّدة ﴿ عليم ﴾ أي : ذي علم كثير هو إسحاق عليه السلام كما ذكر في هود وتقدّم ذكر القصة هناك بأسرها.
﴿ قال ﴾ إبراهيم عليه السلام ﴿ أبشرتموني ﴾ أي : بالولد وقوله :﴿ على أن مسني الكبر ﴾ حال، أي : مع مسه إياي. فإن قيل : كيف قال ﴿ فبم ﴾ أي : فبأيّ شيء ﴿ تبشرون ﴾ أي : بينوا لي ذلك بياناً شافياً مع أنهم قد بينوا ما بشروا به وما فائدة هذا الاستفهام ؟ أجيب : بأنه أراد أن يعرف أنّ الله تعالى هل يعطيه الولد مع بقائه على صفة الشيخوخة أو يقلبه شاباً ثم يعطيه الولد، والسبب في هذا الاستفهام أنّ العادة جارية بأنه لا يحصل في حالة الشيخوخة التامّة، وإنما يحصل في حال الشباب أو أنه استفهام تعجب ويدل لذلك قولهم :﴿ قالوا بشرناك بالحق ﴾.
﴿ قالوا بشرناك بالحق ﴾ قال ابن عباس : يريدون بما قضاه الله تعالى والمعنى أنّ الله تعالى قضى أن يخرج من صلب إبراهيم إسحاق ويخرج من صلب إسحاق ذرية مثل ما أخرج من صلب آدم وقولهم :﴿ فلا تكن ﴾ أي : بسبب تبشيرنا ﴿ من القانطين ﴾ أي : الآيسين، نهي لإبراهيم عليه السلام عن القنوط ونهي الإنسان عن الشيء لا يدل على كونه فاعلاً للمنهي عنه، كما في قوله تعالى :﴿ ولا تطع الكافرين والمنافقين ﴾ [ الأحزاب، ١ ].
ثم حكى الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام أنه ﴿ قال ومن يقنط ﴾ أي : ييأس من هذا اليأس. ﴿ من رحمة ربه ﴾ أي : الذي لم يزل إحسانه عليه ﴿ إلا الضالون ﴾ أي : المخطئون طريق الاعتقاد الصحيح في ربهم من تمام القدرة وأنه لا تضره معصية ولا تنفعه طاعة وقرأ أبو عمرو والكسائي بكسر النون والباقون بفتحها.
ولما تحقق عليه السلام البشرى ورأى إتيانهم مختفين على غير الصفة التي يأتي عليها الملك للوحي وكان هو وغيره من العارفين بالله عالمين بأنه ما ينزل الملك إلا بالحق كان ذلك سبباً لأن يسألهم عن أمرهم ليزول وجله كله ولذلك ﴿ قال ﴾ عليه السلام ﴿ فما ﴾ بفاء السبب ﴿ خطبكم ﴾ أي : شأنكم. قال أبو حيان : والخطب لا يكاد يقال إلا في الأمر الشديد اه. وقال الرماني : إنه الأمر الجليل. ﴿ أيها المرسلون ﴾ فإنكم ما جئتم إلا لأمر عظيم يكون فصلاً بين هالك وناج.
﴿ قالوا إنا أرسلنا ﴾ أي : أرسلنا العزيز الحكيم الذي أنت أعرف الناس في هذا الزمان به ﴿ إلى ﴾ إهلاك ﴿ قوم ﴾ أي : ذوي منعة ﴿ مجرمين ﴾ أي : كافرين وهم قوم لوط.
وقوله تعالى :﴿ إلا آل لوط ﴾ فيه وجهان أحدهما : أنه استثناء متصل على أنه مستثنى من الضمير المستكن في مجرمين بمعنى أجرموا كلهم إلا آل لوط فإنهم لم يجرموا، ويكون معنى قوله تعالى :﴿ إنا لمنجوهم أجمعين ﴾ أي : لإيمانهم استئناف إخبار بنجاتهم لكونهم لم يجرموا أو يكون الإرسال حينئذ شاملاً للمجرمين ولآل لوط لا هلاك أولئك وإنجاء هؤلاء. والثاني : أنه استثناء منقطع لأنّ آل لوط لم يندرجوا في المجرمين البتة فيكون قوله تعالى :﴿ إنا لمنجوهم أجمعين ﴾ جرى مجرى خبر لكن في اتصاله بآل لوط لأن المعنى لكن آل لوط منجوهم وقرأ حمزة والكسائي بسكون النون وتخفيف الجيم والباقون بفتح النون وتشديد الجيم.
وقوله تعالى :﴿ إلا امرأته ﴾ استثناء من آل لوط أو من ضميرهم على الأوّل وعلى الثاني لا يكون إلا من ضميرهم لاختلاف الحكمين اللهم إلا أن يجعل ﴿ إنا لمنجوهم ﴾ اعتراضاً وقوله تعالى :﴿ قدّرنا ﴾ قرأ شعبة بتخفيف الدال والباقون بالتشديد ﴿ إنها لمن الغابرين ﴾ أي : من الباقين في العذاب لكفرها.
تنبيه : معنى التقدير في اللغة جعل الشيء على مقدار غيره يقال : قدر هذا الشيء لهذا، أي : اجعله على مقداره وقدّر الله تعالى الأقوات، أي : جعلها على مقدار الكفاية ويفسر التقدير بالقضاء فيقال : قضى الله تعالى عليه وقدره عليه، أي : جعله على مقدار ما يكفي في الخير والشر وقيل : معنى قدّرنا كتبنا. وقال الزجاج : دبرنا. فإن قيل : لم أسند الملائكة فعل التقدير إلى أنفسهم مع أنه لله عز وجلّ ؟ أجيب : بأنهم إنما ذكروا هذه العبارة لما لهم من القرب والاختصاص بالله تعالى كما تقول خاصة الملك دبرنا كذا وأمرنا بكذا والمدبر والآمر هو الملك لا هم وإنما يريدون بهذا الكلام إظهار ما لهم من الاختصاص بذلك الملك فكذا هنا.
ولما بشر الملائكة عليهم السلام إبراهيم عليه السلام بالولد وأخبروه بأنهم مرسلون بعذاب قوم مجرمين ذهبوا بعد إبراهيم عليه السلام إلى لوط وآله وهذه هي القصة الثانية المذكورة في هذه السورة قال تعالى :﴿ فلما جاء آل لوط المرسلون ﴾ هاهنا همزتان مفتوحتان من كلمتين فقرأ قالون والبزي وأبو عمرو بإسقاط واحدة منهما مع المدّ والقصر. وقرأ ورش وقنبل بتسهيل الثانية وإبدالها حرف مدّ والباقون بتحقيق الهمزتين وكذا ﴿ وجاء أهل المدينة ﴾ [ الحجر، ٦٧ ].
﴿ قال ﴾ لهم ﴿ إنكم قوم منكرون ﴾ لأنهم دخلوا عليه هجماً فاستنكرهم وخاف من دخولهم لأجل شر يوصلونه إليه، ولأجل أنهم كانوا شباباً مرداً حسان الوجوه فخاف أن يهجم قومه عليهم بسبب طلبهم فقال هذه الكلمة. وقيل : إنّ النكرة ضدّ المعرفة فقوله عليه السلام ﴿ إنكم قوم منكرون ﴾ أي : لا أعرفكم ولا أعرف أنكم من أي الأقوام أنتم، ولأيّ غرض دخلتم عليّ فعند ذلك.
﴿ قالوا ﴾ أي : الملائكة ﴿ بل جئناك بما ﴾ أي : بالعذاب الذي ﴿ كانوا ﴾ أي : قومك ﴿ فيه يمترون ﴾ أي : يشكون في نزوله بهم والجاهل يوصف بالشك وإن كان مكذباً من جهة ما يعرض له منه من حيث أنه لا يرجع إلى نفسه فيما هو عليه.
ثم أكدوا ما ذكروه بقولهم :﴿ وأتيناك بالحق ﴾ أي : باليقين الذي لا يشك فيه ثم أكدوا هذا التأكيد بقولهم :
﴿ وإنا لصادقون ﴾ أي : فيما أخبرناك به.
﴿ فأسر بأهلك ﴾ أي : فاذهب بهم في الليل
﴿ بقطع من الليل ﴾ أي : في طائفة من الليل وقيل : هي آخره، قال الشاعر :
افتحي الباب وانظري في النجوم | كم علينا من قطع ليل بهيم |
كأنه طال عليه الليل فخاطب ضجيعته بذلك أو كان يحب طول الليل للوصال. وقرأ نافع وابن كثير بوصل همزة فأسر بعد الفاء من السرى، والباقون بالقطع وهما بمعنى.
﴿ واتبع أدبارهم ﴾ أي : وكن على آثار أهلك وسر خلفهم وتطلع على أحوالهم
﴿ ولا يلتفت منكم أحد ﴾ أي : لئلا يرى أليم ما نزل بهم من البلاء، وقيل : جعل ترك الالتفات علامة لمن ينجو من آل لوط
﴿ وامضوا حيث تؤمرون ﴾ أي : إلى المكان الذي أمركم الله بالمضيّ إليه، قال ابن عباس : هو الشأم. وقال الفضيل : حيث يقول لكم جبريل وذلك أن جبريل أمرهم أن يمضوا إلى قرية معينة ما عمل أهلها عمل قوم لوط، وقيل : إلى الأردن، وقيل : إلى مصر.
تنبيه : حيث هاهنا على بابها من كونها ظرف مكان مبهم ولإبهامها تعدى إليها الفعل من غير واسطة.
﴿ وقضينا ﴾ أي : وأوحينا ﴿ إليه ﴾ ولما ضمن قضينا معنى الإيحاء تعدى بإلى ومثله ﴿ وقضينا إلى بني إسرائيل ﴾ [ الإسراء، ٤ ] وقوله تعالى :﴿ ذلك الأمر ﴾ مبهم تفسيره ﴿ أن دابر هؤلاء مقطوع ﴾ أي : مستأصلون عن آخرهم حتى لا يبقى منهم أحد وقوله تعالى :﴿ مصبحين ﴾ حال من هؤلاء أو من الضمير في مقطوع وجمعه للحمل على المعنى فإن دابر هؤلاء في معنى مدبري هؤلاء، أي : يتم استئصالهم في الصباح.
﴿ وجاء أهل المدينة ﴾ أي : مدينة من مدائن قوم لوط وهي سذوم بسين مهملة وذال معجمة وأخطأ من قال بمهملة ﴿ يستبشرون ﴾ أي : بأضياف لوط طمعاً فيهم وليس في الآية دليل على المكان الذي جاؤوه إلا أن القضية تدل على أنهم جاؤوا دار لوط. وقيل : إن الملائكة لما كانوا في غاية الحسن اشتهر خبرهم حتى وصل إلى قوم لوط. وقيل : امرأة لوط أخبرتهم بذلك. قال الرازي : وبالجملة فالقوم قالوا نزل بلوط ثلاثة من المرد ما رأينا قط أصبح وجهاً ولا أحسن شكلاً منهم فذهبوا إلى دار لوط طلباً منهم لأولئك المرد والاستبشار إظهار السرور ولما وصلوا إليه.
﴿ قال ﴾ لهم لوط :﴿ إن هؤلاء ضيفي ﴾ أي : وحق على الرجل إكرام الضيف ﴿ فلا تفضحون ﴾ فيهم يقال : فضحه إذا أظهر من أمره ما يلزم به العار وإذا قصد الضيف بسوء كان ذلك إهانة لصاحب المحل ثم أكد ذلك بقوله :﴿ واتقوا ﴾.
﴿ واتقوا ﴾ أي : خافوا ﴿ الله ﴾ في أمرهم ﴿ ولا تخزون ﴾ أي : ولا تخجلوني فيهم بقصدكم إياهم بفعل الفاحشة من الخزاية وهي الحياء أو لا تذلوني بسببهم من الخزي وهو الهوان.
﴿ قالوا ﴾ أي : قومه في جواب قوله لهم ﴿ أو لم ننهك عن العالمين ﴾ أي : عن أن تضيف أحداً من العالمين، وقيل : أو لم ننهك أن تدخل الغرباء المدينة فإنا نطلب منهم الفاحشة، وقيل : أو لم ننهك أن تمنع بيننا وبينهم فإنهم كانوا يتعرضون لكل أحد وكان لوط عليه السلام يمنعهم عنهم بقدر وسعه.
ثم ﴿ قال ﴾ لهم :﴿ هؤلاء بناتي ﴾ أي : نساء القوم لأن كل أمة أولاد نبيها رجالهم بنوه ونساؤهم بناته فكأنه قال لهم : هؤلاء بناتي فانكحوهنّ وخلوا بني فلا تتعرّضوا لهم ﴿ إن كنتم فاعلين ﴾ أي : ما أقول لكم أو قضاء الشهوة والكلام في ذلك قد مرّ بالاستقصاء في سورة هود وقرأ نافع بفتح ياء بناتي والباقون بسكونها.
قال الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم على لسان ملائكته :﴿ لعمرك ﴾ أي : وحياتك وما أقسم بحياة أحد غيره وذلك يدل على أنه أكرم الخلق على الله تعالى ﴿ إنهم لفي سكرتهم ﴾ أي : شدّة غفلتهم التي أزالت عقولهم ﴿ يعمهون ﴾ أي : يتحيرون الخطاب للوط عليه السلام قالت له الملائكة ذلك، أي : فكيف يعقلون قولك ويلتفتون إلى نصيحتك.
تنبيه : لعمرك مبتدأ محذوف الخبر وجوباً وإنهم وما حيزه جواب القسم تقديره : لعمرك قسمي أو يميني إنهم والعمر والعمر بالفتح والضم واحد وهو البقاء إلا أنهم خصوا القسم بالمفتوح لإيثار الأخف فيه وذلك لأنّ الحلف كثير الدور على ألسنتهم بلعمري ولعمرك.
﴿ فأخذتهم الصيحة ﴾ أي : صيحة هائلة مهلكة وهل هي صيحة جبريل عليه السلام. قال الرازي : ليس في الآية دليل على ذلك فإن ثبت بدليل قوي قيل به وإلا ليس في الآية دليل إلا أنهم جاءتهم صيحة عظيمة مهلكة وقوله تعالى :﴿ مشرقين ﴾ أي : داخلين في وقت الشروق وهو بزوغ الشمس حال من مفعول أخذتهم.
ثم بين سبحانه وتعالى ما تسبب عن الصيحة معقباً لها بقوله تعالى :﴿ فجعلنا ﴾ أي : بما لنا من العظمة والقدرة ﴿ عاليها ﴾ أي : مدائنهم ﴿ سافلها ﴾ بأن رفعها جبريل عليه السلام إلى السماء وأسقطها مقلوبة إلى الأرض ﴿ وأمطرنا عليهم ﴾ أي : أهل المدائن التي قلبت المدائن لأجلهم ﴿ حجارة من سجيل ﴾ أي : طين طبخ بالنار.
تنبيه : دلت الآية الكريمة على أنّ الله تعالى عذبهم بثلاثة أنواع من العذاب أحدها الصيحة الهائلة المنكرة وثانيها : أنه جعل عاليها سافلها، وثالثها : أنه أمطر عليهم حجارة من سجيل، وتقدّمت الإشارة إلى ذلك في سورة هود.
﴿ إنّ في ذلك ﴾ أي : المذكور من هذه الأنواع ﴿ لآيات ﴾ أي : دلالات على وحدانية الله تعالى ﴿ للمتوسمين ﴾ أي : للناظرين المعتبرين جمع متوسم وهو الناظر في السمة حتى يعرف حقيقة الشيء وسمته.
﴿ وإنها ﴾ أي : هذه المدائن ﴿ لبسبيل ﴾ أي : طريق قريش إلى الشأم ﴿ مقيم ﴾ أي : لم يندرس بل يشاهدون ذلك ويرون أثره أفلا يعتبرون.
ثم قال سبحانه وتعالى مشيراً إلى زيادة الحث على الاعتبار بالتأكيد ﴿ إنّ في ذلك ﴾ أي : هذا الأمر العظيم ﴿ لآية ﴾ أي : علامة عظيمة في الدلالة على وحدانيته تعالى ﴿ للمؤمنين ﴾ أي : كل من آمن بالله وصدّق الأنبياء والرسل عرف أنّ ذلك إنما كان لأجل أنّ الله تعالى انتقم لأنبيائه من أولئك الجهال، أمّا الذين لا يؤمنون بالله فإنهم يحملونه على حوادث العالم ووقائعه.
ثم ذكر تعالى القصة الثالثة وهي قصة شعيب عليه السلام بقوله تعالى :﴿ وإن ﴾ مخففة من الثقيلة، أي : وإنه ﴿ كان ﴾ أي : جبلة وطبعاً ﴿ أصحاب الأيكة ﴾ وهم قوم شعيب عليه السلام وقد ذكر الله تعالى قصتهم في سورة الشعراء والأيكة الشجر المتكاثف وقيل الشجر الملتف وقال ابن عباس : هي شجر المقل. وقال الكلبي : الأيكة الغيضة، أي : غيضة شجر بقرب مدين. ﴿ لظالمين ﴾ أي : عريقين في الظلم بتكذيبهم شعيباً عليه السلام.
﴿ فانتقمنا منهم ﴾ أي : بسبب ذلك قال المفسرون : اشتدّ الحرّ فيهم أياماً ثم اضطرم عليهم المكان ناراً فهلكوا عن آخرهم وقوله تعالى :﴿ وإنهما ﴾ فيه قولان : الأوّل : أن المراد قرى قوم لوط والأيكة. والقول الثاني : أنّ الضمير للأيكة ومدين، لأنّ شعيباً كان مبعوثاً إليهما فلما ذكر الأيكة دل بذكرها على مدين فجاء ضميرهما ﴿ لبإمامٍ ﴾ أي : طريق ﴿ مبين ﴾ أي : واضح والإمام اسم لما يؤتم به. قال الفراء : إنما جعل الطريق إماماً لأنه يؤم ويتبع وقال ابن قتيبة : لأنّ المسافر يأتم به حتى يصل إلى الموضع الذي يريده.
ثم ذكر تعالى القصة الرابعة وهي قصة صالح عليه السلام بقوله تعالى :﴿ ولقد كذب أصحاب الحجر ﴾ وهم ثمود قوم صالح عليه السلام وديارهم بين المدينة الشريفة والشام ﴿ المرسلين ﴾ أي : كلهم بتكذيب رسولهم كما كذب هؤلاء المرسلين بتكذيبك لأنّ الرسل يشهد بعضهم لبعض بالصدق فمن كذب واحداً منهم فقد كذب الجميع وهم في إثبات الرسالة بالمعجزة على حد سواء ثم أتبع ذلك قوله تعالى :﴿ وآتيناهم ﴾.
﴿ وآتيناهم ﴾ أي : بما لنا من العظمة والقدرة على يد رسولهم صالح عليه السلام ﴿ آياتنا ﴾ أي : آيات الكتاب المنزل على نبيهم أو معجزات كالناقة وكان فيها آيات كثيرة كخروجها من الصخرة وعظيم خلقها وقرب ولادتها وغزارة لبنها وإنما أضاف الآيات إليهم وإن كانت لنبيهم صالح عليه السلام لأنه مرسل من ربهم إليهم بهذه الآيات ﴿ فكانوا عنها ﴾ أي : الآيات ﴿ معرضين ﴾ أي : تاركيها غير ملتفتين إليها لا يتفكرون فيها.
ثم أخبر تعالى عنهم أنهم كانوا مثل هؤلاء في الأمن من العذاب والغفلة عما يراد بهم مع أنهم كانوا أشدّ منهم فقال تعالى :﴿ وكانوا ينحتون ﴾ والنحت قلع جزء بعد جزء من الجسم على سبيل المسح ﴿ من الجبال ﴾ أي : التي تقدّم أنا جعلناها رواسي. ﴿ بيوتاً آمنين ﴾ عليها من الانهدام ونقب اللصوص وتخريب الأعداء لوثاقتها لا كبيوتكم التي لا بقاء لها على أدنى درجة. وقرأ ورش وأبو عمرو وحفص برفع الباء والباقون بكسرها.
﴿ فأخذتهم الصيحة ﴾ أي : صيحة العذاب ﴿ مصبحين ﴾ أي : وقت الصبح.
﴿ فما أغنى ﴾ أي : ما دفع ﴿ عنهم ﴾ الضرّ والبلاء ﴿ ما كانوا يكسبون ﴾ أي : يعملون من بناء البيوت الوثيقة واستكثار الأموال والعدد. وعن جابر رضي الله تعالى عنه مررنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحجر فقال لنا :" لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا إلا أن تكونوا باكين حذراً أن يصيبكم مثل ما أصاب هؤلاء ثم زجر رسول الله صلى الله عليه وسلم راحلته فأسرع حتى خلفه ".
ولما ذكر تعالى هذه القصص تسلية لنبيه صلى الله عليه وسلم فإنه إذا سمع أنّ الأمم السالفة كانوا يعاملون أنبياء الله بمثل هذه المعاملات سهل تحمل تلك السفاهة قال تعالى :﴿ وما خلقنا السماوات والأرض ﴾ أي : على ما لها من العلوّ والسعة والأرض على ما لها من المنافع والغرائب ﴿ وما بينهما ﴾ من هؤلاء المشركين المكذبين وعذابهم ومن المياه والرياح والسحاب المسبب عنه النبات وغير ذلك ﴿ إلا بالحق ﴾ أي : إلا خلقاً ملتبساً بالحق فيتفكر فيه من وفقه الله تعالى ليعلم النشأة الآخرة بهذه النشأة الأولى ﴿ وإن الساعة ﴾ أي : القيامة ﴿ لآتية ﴾ لا محالة فيجازي الله تعالى كل أحد بعمله ثم إنه تعالى لما صبره على أذى قومه رغبّه بعد ذلك في الصفح عن سيئاتهم بقوله تعالى :﴿ فاصفح الصفح الجميل ﴾ أي : أعرض عنهم إعراضاً لا جزع فيه ولا تعجل بالانتقام منهم وهذا منسوخ بآية السيف. قال الرازي : وهو بعيد لأنّ المقصود من ذلك أن يظهر الخلق الحسن والصفو والصفح فكيف يصير منسوخاً اه. والأوّل جرى عليه البغوي وجماعة من المفسرين ثم علل تعالى هذا الأمر بقوله :﴿ إنّ ربك ﴾.
﴿ إنّ ربك ﴾ أي : المحسن إليك الآمر لك بهذا ﴿ هو ﴾ أي : وحده ﴿ الخلاّق ﴾ أي : المتكرر منه هذا الفعل ﴿ العليم ﴾ أي : البالغ العلم بكل المعلومات فليست أقوالهم وأفعالهم إلا منه سبحانه وتعالى لأنه خالقها وقد علمت أنه لا يضيع مثقال ذرة فاعتمد عليه في أخذ حقك فإنه نعم المولى ونعم النصير.
ولما صبره الله تعالى على أذى قومه وأمره أن يصفح الصفح الجميل، أتبع ذلك بذكر النعم العظيمة التي خص الله تعالى أفضل خلقه بها بقوله تعالى :﴿ ولقد آتيناك ﴾ يا أفضل الخلق بما لنا من العظمة والقدرة، كما آتينا صالحاً ما تقدّم ﴿ سبعاً ﴾ يكون كل سبع منها كفيلاً بإغلاق باب أبواب من النيران السبعة وهي أم القرآن الجامعة لجميع معاني القرآن التي أمرنا بإعادتها في كل ركعة زيادة في حفظها وتبرّكاً بلفظها وتذكراً لمعانيها وتخصيصاً لها عن بقية الذكر الذي تكفلنا بحفظه، والسبب في وقوع هذا الاسم على الفاتحة لأنها سبع آيات وهذا ما عليه أكثر المفسرين. روي أنه صلى الله عليه وسلم قرأ الفاتحة وقال :«هي السبع المثاني ». رواه أبو هريرة، وقيل : المراد سبع سور وهي الطوال. واختلف في السابعة فقيل : الأنفال وبراءة لأنهما في حكم سورة ولذلك لم يفصل بينهما بآية البسملة، وقيل : الحواميم السبع، وقيل : سبع صحائف وهي الأسباع وقوله تعالى :﴿ من المثاني ﴾ صفة للسبع وهو جمع واحده مثناة والمثناة كل شيء يثنى، أي : يجعل اثنين من قولك : ثنيت الشيء ثنيا، أي : عطفته وضممت إليه آخر ومنه يقال لركبتي الدابة ومرفقيها مثاني، لأنها تثنى بالفخذ والعضد ومثاني الوادي معاطفه. أما تسمية الفاتحة بالمثاني فلوجوه : الأوّل : أنها تثنى في كل صلاة بمعنى أنها تقرأ في كل ركعة. الثاني : أنها تثنى بما بعدها فيما يقرأ معها. الثالث : أنها قسمت قسمين اثنين لما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال :«يقول الله تعالى قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين » والحديث مشهور، وقد ذكرته في وجه تسميتها صلاة عند ذكرها. الرابع : أنها قسمان اثنان ثناء ودعاء وأيضاً النصف الأوّل منها حق الربوبية وهو الثناء، والنصف الثاني حق العبودية وهو الدعاء. الخامس : أنّ كلماتها مثناة مثل ﴿ الرحمن الرحيم ﴾، ﴿ إياك نعبد وإياك نستعين، اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم ﴾. وأما السور والأسباع فلما وقع فيها من تكرير القصص والمواعظ والوعد والوعيد وغير ذلك، ولما فيها من الثناء كأنها تثنى على الله تعالى بأفعاله العظمى وصفاته الحسنى.
تنبيه : من في ﴿ من المثاني ﴾ إما للبيان أو للتبعيض، إذا أردت بالسبع الفاتحة أو الطوال وللبيان إن أردت الأسباع. قال الزمخشريّ : ويجوز أن تكون كتب الله كلها مثاني لأنها تثنى عليه لما فيها من المواعظ المكرّرة ويكون القرآن بعضها، وقوله تعالى :﴿ والقرآن العظيم ﴾ أي : الجامع لجميع معاني الكتب السماوية المتكفل بخيري الدارين مع زيادات لا تحصى فيه أوجه أحدها : أنه من عطف بعض الصفات على بعض، أي : الجامع بين هذين النعتين. الثاني : أنه من عطف العامّ على الخاص إذ المراد بالسبع إما الفاتحة وإما الطوال، فكأنه ذكر مرّتين بجهة الخصوص ثم باندراجه في العموم. الثالث : أنّ الواو مقحمة.
ولما عرف سبحانه وتعالى رسوله عظيم نعمه عليه فيما يتعلق بالدين وهو أنه آتاه سبعاً من المثاني والقرآن العظيم نهاه عن الرغبة في الدنيا بقوله تعالى :﴿ لا تمدّنّ عينيك ﴾ أي : لا تشغل سرّك وخاطرك بالالتفات ﴿ إلى ما متعنا به أزواجاً منهم ﴾ أي : أصنافاً من الكفار والزوج في اللغة الصنف وقد أوتيت القرآن العظيم الذي فيه غنى عن كل شيء. قال أبو بكر رضي الله تعالى عنه : من أوتي القرآن فرأى أنّ أحداً أوتي في الدنيا أفضل مما أوتي فقد صغّر عظيماً وعظّم صغيراً. وتأوّل سفيان بن عيينة هذه الآية بقول النبيّ صلى الله عليه وسلم «ليس منا من لم يتغنّ بالقرآن »، أي : لم يستغن. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما :﴿ لا تمدّنّ عينيك ﴾ أي : لا تتمنّ ما فضلنا به أحداً من متاع الدنيا، وقيل : أتت من بعض البلاد سبع قوافل ليهود قريظة والنضير فيها أنواع البز والطيب والجوهر وسائر الأمتعة فقال المسلمون : لو كانت هذه الأموال لنا لتقوينا بها وأنفقناها في طاعة الله تعالى فقال الله تعالى : لقد أعطيتكم سبع آيات هنّ خير من هذه القوافل السبع. وقرّر الواحدي هذا المعنى فقال : إنما يكون مادًّا عينيه إلى الشيء إذا أدام النظر نحوه وإدامة النظر إلى الشيء تدل على استحسانه وتمنيه. وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم لا ينظر إلى ما يستحسن من متاع الدنيا. روي أنه نظر إلى نعم بني المصطلق وقد عوست في أبوالها وأبعارها وهو أن تجف أبوالها وأبعارها على أفخاذها إذا تركت من العمل أيام الربيع فتكثر شحومها ولحومها وهي أحسن ما تكون. وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم ». وقوله تعالى :﴿ ولا تحزن عليهم ﴾ نهي له عن الالتفات إليهم إن لم يؤمنوا فيخلصوا أنفسهم من النار.
ولما نهاه سبحانه وتعالى عن الالتفات إلى أولئك الأغنياء من الكفار أمره بالتواضع لفقراء المسلمين بقوله تعالى :﴿ واخفض جناحك ﴾ أي : ألن جانبك ﴿ للمؤمنين ﴾ أي : العريقين في هذا الوصف واصبر نفسك معهم وارفق بهم.
ولما أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بالزهد في الدنيا والتواضع للمؤمنين أمره بتبليغ ما أرسل به إليهم بقوله تعالى :﴿ وقل إني أنا النذير ﴾ من عذاب الله أن ينزل عليكم إن لم تؤمنوا. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء والباقون بالسكون ﴿ المبين ﴾ أي : البين الإنذار.
وقوله تعالى :﴿ كما أنزلنا ﴾ أي : العذاب ﴿ على المقتسمين ﴾ قال ابن عباس : هم اليهود والنصارى سموا بذلك لأنهم آمنوا ببعض القرآن وكفروا ببعضه فما وافق كتبهم آمنوا به وما خالف كتبهم كفروا به. وقال عكرمة : إنهم اقتسموا سور القرآن فقال واحد : هذه السورة لي. وقال آخر : هذه السورة لي، وإنما فعلوا ذلك استهزاء به. وقال مجاهد : أنهم اقتسموا كتبهم فآمن بعضهم ببعضها وكفر بعضهم ببعضها. وقال قتادة : أراد بالمقتسمين كفار قريش قال : سموا بذلك لأنّ أقوالهم تقسمت في القرآن فقال بعضهم : إنه سحر وزعم بعضهم أنه كهانة وزعم بعضهم أنه أساطير الأوّلين. وقال ابن السائب : سموا بالمقتسمين لأنهم اقتسموا طرق مكة، وذلك أنّ الوليد بن المغيرة بعث رهطاً من أهل مكة قيل : ستة عشر، وقيل : أربعين. وقال : انطلقوا فتفرّقوا على طرق مكة حيث يمر بكم أهل الموسم فإذا سألوكم عن محمد فليقل بعضكم : إنه مجنون وليقل بعضكم : إنه كاهن وليقل بعضكم : إنه ساحر وليقل بعضكم : إنه شاعر فذهبوا وقعدوا على طرق مكة يقولون ذلك لمن يمرّ بهم من حجاج العرب وقعد الوليد بن المغيرة على باب المسجد الحرام نصبوه حكماً فإذا جاؤوا سألوا عما قال أولئك فيقول : صدقوا فأهلكهم الله تعالى يوم بدر.
وقوله تعالى :﴿ الذين جعلوا القرآن عضين ﴾ نعت للمقتسمين وقال ابن عباس : هم اليهود والنصارى جزؤوا القرآن أجزاء فآمنوا بما وافق التوراة والإنجيل وكفروا بالباقي. وقال مجاهد : قسموا كتاب الله ففرقوه وبدّدوه، وقيل : كانوا يستهزؤون به فيقول بعضهم : سورة البقرة لي، ويقول بعضهم : سورة آل عمران لي. وقيل : اقتسموا القرآن فقال بعضهم : سحر. وقال بعضهم : شعر. وقال بعضهم : كذب. وقال بعضهم : أساطير الأوّلين. وقيل : هم أهل الكتاب آمنوا ببعض كتبهم وكفروا ببعض على أنّ القرآن ما يقرؤونه من كتبهم فيكون ذلك تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن صنيع قومه بالقرآن وتكذيبهم وقولهم سحر وشعر وأساطير الأوّلين بأنّ غيرهم من الكفرة فعلوا بغيره من الكتب نحو فعلهم.
تنبيه : عضين جمع عضة وهي الفرقة والعضين الفرق وتقدّم معنى جعلهم القرآن كذلك وقيل : العضة السحر بلغة قريش يقولون هو عاضه وهي عاضهة. وفي الحديث :«لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم العاضهة والمستعضهة »، أي : الساحرة والمستسحرة وقيل : هو من العضه وهو الكذب والبهتان، يقال : عضهه عضها وعضيهة، أي : رماه بالبهتان وقيل : جمع عضو مأخوذ من قولهم : عضيت الشيء أعضيه إذا فرقته وجعلته أجزاء وذلك أنهم جعلوا القرآن أعضاء مفرقة فقال بعضهم : سحر. وقال بعضهم : أساطير الأوّلين. ثم أقسم سبحانه وتعالى بنفسه على أنه يسأل هؤلاء المقتسمين الذين جعلوا القرآن عضين بقوله تعالى :﴿ فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون ﴾ فيكون الضمير عائداً على المقتسمين لأنه الأقرب ويحتمل أن يعود على جميع المكلفين لأنّ ذكرهم تقدّم في قوله تعالى :﴿ وقل إني أنا النذير المبين ﴾ أي : لجميع الخلق قال جماعة من المفسرين : يسألون عن لا إله إلا الله. وقال أبو العالية : يسألون عما كانوا يعبدون وما أجابوا به المرسلين.
فإن قيل : كيف الجمع بين قوله تعالى :﴿ فوربك لنسألنهم أجمعين ﴾ وبين قوله تعالى :﴿ فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان ﴾ [ الرحمن، ٣٩ ] ؟ أجيب : بأنّ النفي ينصرف إلى بعض الأوقات والاثبات إلى وقت آخر لأنّ يوم القيامة يوم طويل وفيه مواقف يسألون في بعضها ولا يسألون في بعض آخر. ونظيره قوله تعالى :﴿ هذا يوم لا ينطقون ﴾ [ المرسلات، ٣٥ ]. وقال في آية أخرى :﴿ ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون ﴾ [ الزمر، ٣١ ].
ثم قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم ﴿ فاصدع ﴾ أي : اجهر بعلو وشدّة فارقاً بين الحق والباطل. وقرأ حمزة والكسائي بإشمام الصاد الساكنة قبل الدال والباقون بالصاد الخالصة. ﴿ بما ﴾ أي : بسبب ما ﴿ تؤمر ﴾ به. أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم في هذه الآية بإظهار الدعوة. روي عن عبد الله بن عبيدة قال : كان مستخفياً حتى نزلت هذه الآية فخرج هو وأصحابه. ﴿ وأعرض ﴾ أي : إعراض من لا يبالي ﴿ عن المشركين ﴾ بالصفح الجميل عن الأذى والاجتهاد في الدعاء ولا تلتفت إلى لومهم إياك على إظهار الدعوة. قال بعض المفسرين كالبغوي : وهذا منسوخ بآية القتال، قال الرازي : وهو ضعيف لأنّ معنى هذا الإعراض ترك المبالاة بهم فلا يكون منسوخاً.
ولما كان هذا الصدع في غاية الشدّة عليه صلى الله عليه وسلم لكثرة ما يلقى عليه من الأذى خفف عنه سبحانه وتعالى بقوله معللاً له :﴿ إنا ﴾ أي : بما لنا من العظمة والقدرة ﴿ كفيناك المستهزئين ﴾ أي : شرّ الذين هم عريقون في الاستهزاء وهم خمسة نفر من رؤوساء قريش الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، وعدي بن قيس، والأسود بن عبد المطلب، والأسود بن عبد يغوث.
ووصف سبحانه وتعالى هؤلاء بقوله تعالى :﴿ الذين يجعلون مع الله إلهاً آخر ﴾ وقيل : ليس بصفة بل مبتدأ ولتضمنه معنى الشرط دخلت الفاء في خبره وهو ﴿ فسوف يعلمون ﴾ أي : عاقبة أمرهم في الدارين.
ولما ذكر سبحانه وتعالى أنّ قومه يسفهون عليه ولاسيما أولئك المقتسمون قال له تعالى :﴿ ولقد نعلم ﴾ أي : نحقق وقوع علمنا ﴿ أنك ﴾ أي : على ما لم من الحلم وسعة البطان ﴿ يضيق صدرك ﴾ أي : يوجد ضيقه ويتجدد ﴿ بما يقولون ﴾ أي : من الاستهزاء والتكذيب بك وبالقرآن لأنّ الجبلة البشرية والمزاج الإنساني يقتضي ذلك فعند هذا قال تعالى :﴿ فسبح ﴾.
﴿ فسبح ﴾ ملتبساً ﴿ بحمد ربك ﴾ أي : نزهه عن صفات النقص. وقال الضحاك : قل سبحان الله وبحمده. وقال ابن عباس : فصلّ بأمر ربك. ﴿ وكن من الساجدين ﴾ أي : من المصلين. روي أنه صلى الله عليه وسلم «كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة ». وقدّمت معناه في سورة البقرة.
تنبيه : اختلف الناس كيف صار الإقبال على الطاعات سبباً لزوال ضيق القلب والحزن فقال العارفون المحققون : إذا اشتغل الإنسان بهذه الأنواع من العبادات يتنوّر باطنه ويشرق عليه وينفسح وينشرح صدره فعند ذلك يعرف قدر الدنيا وحقارتها فلا يلتفت إليها. وقال بعض الحكماء : إذا نزل بالإنسان بعض المكاره ففزع إلى الطاعات فكأنه يقول : يا رب يجب عليّ عبادتك سواء أعطيتني الخيرات أو ألقيتني في المكروهات فأنا عبدك بين يديك فافعل بي ما تشاء.
﴿ واعبد ربك حتى يأتيك اليقين ﴾ قال ابن عباس : يريد الموت، وسمى الموت يقيناً لأنه أمر متيقن وهذا مثل قوله تعالى في سورة مريم :﴿ وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً ﴾ [ مريم، ٣١ ]. وروى البغوي بسنده عن ابن جبير قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«ما أوحى الله إليّ أن أجمع المال وأكون من التاجرين ولكن أوحى إليّ أن ﴿ سبح بحمد ربك وكن من الساجدين واعبد ربك حتى يأتيك اليقين ﴾ ». فإن قيل : أي : فائدة لهذا التوقيت مع أنّ كل أحد يعلم أنه إذا مات سقطت عنه العبادات ؟ أجيب : بأنّ المراد منه واعبد ربك في جميع زمان حياتك فلا تخل لحظة من لحظات الدنيا بهذه العبادات. وعن عمر رضي الله عنه قال : نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مصعب بن عمير مقبلاً وعليه إهاب كبش قد تنطق به فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" انظروا إلى هذا الذي نور الله قلبه لقد رأيته بين أبويه يغذوانه بأطيب الطعام والشراب ولقد رأيت عليه حلة شراها أو قال شريت له بمائتي درهم فدعاه حب الله وحب رسوله إلى ما ترون ".