ﰡ
مكية. وهى تسع وتسعون آية. ومناسبتها لما قبلها: قوله تعالى: هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ «١»، مع قوله جل جلاله: تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ فهى تتميم لعنوان القرآن، وتفسير له.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ١ الى ٥]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (١) رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (٢) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٣) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (٤)ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (٥)
قلت: رُب: حرف جر، تدل على التقليل غالباً. وفيها ثماني لغات: التخفيف، والتثقيل مع ضم الراء وفتحها بالتاء، ودونها. وتدخل عليها (ما) فتكفها عن العمل، ويجوز دخولها حينئذٍ على الفعل، ويكون ماضياً، أو منزلاً منزلته في تحقيق وقوعه، وقد تدخل على الجملة الاسمية كقول الشاعر:
رُبَّمَا الجَامِلُ المُؤَبَّلُ فِيهمْ | وَعَناجِيجُ بَيْنَهُنَّ المِهَارُ |
يقول الحق جلّ جلاله: أيها الرسول المعظم، تِلْكَ الآيات التي تتلوها هي آياتُ الْكِتابِ الذي أنزلناه إليك، وَآيات قُرْآنٍ عربي مُبِينٍ واضح البيان، مبيناً للرشد والصواب، فمن تمسك به وآمن بما فيه كان من المسلمين الناجين، ومن تنكب عنه وكفر به كان من الكافرين الهالكين، وسيندم حين لا ينفع الندم، كما قال تعالى: رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ: متمسكين بما فيه حتى يكونوا من الناجين. وهذا التمني قيل: يكون عند الموت، وقيل: في القيامة، وقيل: إذا خرج العصاة من النار، وهذا أرجح لحديثٍ في ذلك «٣». ومعنى التقليل فيه: أنه تدهشهم أهوال يوم القيامة، فإن حانت منهم إفاقة في بعض الأوقات تمنوا أن لو كانوا مسلمين.
(٢) من الآية ٢٠٨ من سورة الشعراء.
(٣) عن أبى موسى الأشعري عن النبي ﷺ قال: «إذا اجتمع أهل النار فى النار، ومعهم من شاء الله من أهل القبلة، قال الكفار لمن في النار من أهل القبلة: ألستم مسلمين؟ قالوا: بلى، قالوا: فما أغنى عنكم إسلامكم وأنتم معنا فى النار؟ قالوا: كانت لنا ذنوب فأخذنا-
ذَرْهُمْ: دعهم اليوم يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا بدنياهم، وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ: ويشغلهم توثقهم بطول الأعمار، واستقامة الأحوال، عن الاستعداد للمعاد، فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ سوء صنيعهم إذا عاينوا جزاءهم.
والأمر للتهديد، والغرض: حصول الإياس من إيمانهم، والإيذان بأنهم من أهل الخذلان، وأنَّ نصحهم بعد هذا تعب بلا فائدة. وفيه إلزام الحجة لهم. وفيه التحذير عن إيثار التنعم، وما يؤدي إليه طول الأمل من الهلاك عاجلاً وآجلاً، ولذلك قال تعالى بُعد: وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ أي: أجل مقدر كتب في اللوح المحفوظ، ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها أي: أجَل هلاكها، وَما يَسْتَأْخِرُونَ عنه ساعة. وتذكير الضمير في يَسْتَأْخِرُونَ للحمل على المعنى، لأن الأمة واقعة على الناس. والله تعالى أعلم.
الإشارة: انظر هذا التهديد العظيم، والخطر الجسيم لمن تمتع بدنياه، وعكف على حظوظه وهواه: (ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون). ولله در القائل:
تَفَكَّرتُ فِي الدُّنيا وفي شَهَواتِها | ولَذاتِها حَتَّى أَطَلْتُ التَّفَكُّرَا |
وَكيْفَ يَلَذُّ العَيشُ مَنْ هُو سَالِكٌ | سَبِيلَ المَنَايا رائِحا أوْ مُبكِّرا |
فَلاَ خَيْرَ في الدنيا ولا في نَعِيِمهَا | لحُرِّ مقلِّ كانَ أو مكثرا |
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٦ الى ٩]
وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (٦) لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧) مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ (٨) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (٩)
يقول الحق جلّ جلاله: وَقالُوا أي: كفار قريش: يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ في زعمه، أو قالوه تَهكماً، إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ أي: إنك لتقول قول المجانين، حين تدعي أنه ينزل عليك الذكر، أي: القرآن.
لَوْ مَا: هلا تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ ليصدقوك فيما تدعي، أو يعضدوك على الدعوى، أو للعقاب على تكذيبنا، إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ في دعواك، قال تعالى: ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ لعذابهم أو لغيره إِلَّا بِالْحَقِّ من الوحي، والمصالح التي يريدها الله، لا باقتراح مقترح، أو اختيار كافر، أو: إلا تنزيلاً ملتبساً بالحق، أي: بالوجه
ولو نزلت الملائكة لعوجلوا، وما كانوا، إذا نزلت، مُؤخرين عن العذاب ساعة.
ثم رد إنكارهم نزولَ الذكر واستهزاءَهُمْ، فقال: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ أي: القرآن، وأكده بأن وضمير الفصل، وحفظه بعد نزوله، كما قال: وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ من التحريف، والزيادة والنقص، بأن جعلناه معجزاً، مبايناً لكلام البشر، لا يخفى تغيير نظمه على أهل اللسان. قال القشيري: نزل التوراة، وَوَكَلَ حفظها إلى بني إسرائيل، بما استُحفظوا من كتاب الله، فحرَّفوا وبَدَّلوا، وأنزل القرآن، وأخبر أنه حافظه، فلا جرم أنه كتاب عزيز، لا يأتيه الباطلُ مِن بين يديه ولا مِن خلفه. ويقال: إنه أخبر أنه حافظ القرآن، وإنما يحفظه بقرائه، فقلوبُ القُرَّاءِ هي خزائنُ كتابه وهو لا يضيع حفظة كتابه، فإن في ذلك تضييع كتابه. هـ.
وقال ابن عطية على قوله: ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ «١» : ذهبت جماعة من العلماء إلى أنهم بدلوا ألفاظاً من تلقائهم، وأن ذلك ممكن في التوراة لأنهم استحفظوها، وغير ممكن في القرآن لأن الله تعالى ضمن حفظه. هـ.
الإشارة: كل ما جاء في القرآن من الإنكار على الرسل على أيدي الكفرة وتنقيصهم، والاستهزاء بهم، ففيه تسلية لمن بعدهم من الأولياء. وكذلك ما ذكره الحق تعالى من مقالات أهل الجهل في جانبه كقوله: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ «٢»، وقوله: وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ «٣»، إلى غير ذلك من مقالات أهل الجهل، فكأن الحق تعالى يقول: لو سَلِم أحد من الناس، لسلمتُ أنا وأنبيائي، الذين هم خاصة خلقي، فليكن بي وبرسلي أسوة لمن أُوذي من أوليائي. وبالله التوفيق.
ثم تمم تلك التسلية، فقال:
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ١٠ الى ١٥]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (١٠) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١١) كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (١٢) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (١٣) وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (١٤)
لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (١٥)
(٢) من الآية ١٨١ من سورة آل عمران.
(٣) من الآية ٦٤ من سورة المائدة.
كَذلِكَ نَسْلُكُهُ أي: ندخل الاستهزاء فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ. والسلك: إدخال الشيء فى الشيء كالخيط في المخيط، وفيه دليل على أنه تعالى يخلق الباطل في قلوبهم. وإذا سلك في قلوبهم التكذيب لا يُؤْمِنُونَ بِهِ أبداً. أو: نسلكه، أي: القرآن مستهزءاً به، أي: مثل ذلك السلك نسلك الذكر في قلوب المجرمين مُكَذَّباً غير مؤمن به، ثم هددهم على عدم الإيمان به، فقال: وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أي: تقدمت طريقتهم على هذه الحالة من الكفر والاستهزاء، حتى هلكوا بسبب ذلك، أو مضت سنته في الأولين بإهلاك من كذب الرسل منهم، فيكون وعيداً لأهل مكة.
وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أي: على هؤلاء المقترحين المعاندين من كفار قريش، باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ: يصعدون إليها، ويرون عجائبها طول نهارهم، لكذبوا، أو فظلت الملائكة يعرجون فيها وهم يشاهدونهم لقالوا من شدة عنادهم وتشكيكهم في الحق: إِنَّما سُكِّرَتْ: حيرت أَبْصارُنا، فرأينا الأمر على غير حقيقته من أجل السكر الذي أصابنا بالسحر.
ويحتمل أن يكون مشتقاً من السَكر بفتح السين، وهو السد، أي: سُدَّت أبصارنا، ومُنعنا من الرؤية الحقيقية.
بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ سحرنا محمد، كما قالوا عند ظهور غيره من الآيات. قال البيضاوي: وفي كلمتي الحصر والإضراب دلالة على جزمهم بأن ما يرونه لا حقيقة له، بل هو باطل خُيّل ما خيل لهم بنوع من السحر. هـ. وذلك من فرط عنادهم، وشقاوتهم. والعياذ بالله.
الإشارة: هذا كله من قبيل التسلية لأهل الخصوصية، إذا قوبلوا بالإنكار والاستهزاء، فيرجعون إلى الله، والاكتفاء بعلمه، والاشتغال بالله عنه. وقد قال شيخ شيوخنا سيدي على الجمل رضى الله عنه: عداوة العدو حقاً هي اشتغالك بمحبة الحبيب، وأما إذا اشتغلت بعداوة العدو نال مراده منك، وفاتتك محبة الحبيب. وقال الولي الصالح سيدي أبو القاسم الخصاصى رضى الله عنه لبعض تلامذته: لا تشتغل قط بمَن يؤذيك، واشتغل بالله يرده عنك، فإنه هو الذي حرَّكه عليك، ليختبر دعواك في الصدق. وقد غلط في هذا الأمر خلق كثير اشتغلوا بإيذاء مَن آذاهم، فدام الأذى مع الإثم، ولو أنهم رجعوا إلى الله لردهم عنهم، وكفاهم أمرهم. هـ.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ١٦ الى ٢٥]
وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ (١٦) وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (١٧) إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ (١٨) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (١٩) وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ (٢٠)
وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢١) وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماء فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ (٢٢) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ (٢٣) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (٢٤) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (٢٥)
يقول الحق جلّ جلاله: وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً اثني عشر برجاً، وهي: الحَمَل، والثور، والجَوْزاء، والسرطان، والأسد، والسنبلة، والميزان، والعقرب، والقوس، والجدي، والدلو، والحوت، والبرج عبارة عن قطعة في الفلك تقطعها الشمس في شهر فتقطع البروج كلها في سنة، ستة يمانية، وستة شمالية، وهي مختلفة الهيئات والخواص، على ما دلّ عليه الرصد والتجربة. وكل ذلك بقدرة المدبر الحكيم. قال تعالى: وَزَيَّنَّاها بالأشكال والهيئات البهية لِلنَّاظِرِينَ المعتبرين ليستدلوا بها على قدرة مبدعها، وتوحيد صانعها.
وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ: مرجوم، فلا يقدر أن يصعد إليها ليسترق السمع منها، أو يوسوس أهلها، أو يتصرف في أمرها، أو يطلع على أحوالها.
إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ أي: حفظناها من الشياطين، إلا من استرق منها. والاستراق: الاختلاس، رُوي أنهم يركبون بعضهم بعضاً حتى يصلوا إلى السماء، فيسمعون أخبار السماء من الغيب، فيخطف الجن الكلمة قبل الرمي فيلقيها إلى الكهنة، ويخلط معها مائة كذبة، كما فى الصحيح. ورُوي عن ابن عباس: أنهم كانوا لا يحجبون عن السماوات، فلما وُلد عيسى عليه السلام مُنعوا من ثلاث سماوات، فلما ولد محمد ﷺ مُنعوا من كلها بالشهب. وقيل:
الاستثناء منقطع، أي: ولكن من استرق السمع، فَأَتْبَعَهُ لحقه شِهابٌ مُبِينٌ ظاهر للمبصرين. والشهاب:
شُعلة نار يقتبسها الملك من النجم، ثم يضرب به المسترق، وقيل: النجوم هي التي تضرب بنفسها، فإذا أصابت الشيطان قتلته أو خبلته فيصير غولاً.
ثم ذكر معجزة الأرض فقال: وَالْأَرْضَ مَدَدْناها: بسطناها، وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ جبالا ثوابت، وَأَنْبَتْنا فِيها في الأرض، أو فيها وفى الجبال مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ مقدر بمقدار معين تقتضيه
قال البيضاوي: وفذلكة الآية: الاستدلال بجعل الأرض ممدودة بمقدار معين، مختلفة الأجزاء في الوضع، محدثة فيها أنواع النباتات والحيوان المختلفة خلقة وطبيعة، مع جواز ألا تكون كذلك على كمال قدرته، وتناهي حكمته، والتفرد في ألوهيته، والامتنان على العباد بما أنعم في ذلك ليوحدوه ويعبدوه. ثم بالغ في ذلك فقال: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ أي: وما من شيء إلا ونحن قادرون على إيجاده وتكوينه أضعاف ما وجد منه، فضرب الخزائن مثلاً لاقتداره، أو شبه مقدوراته بالأشياء المخزونة التي لا يحوج إخراجها إلى كلفة واجتهاد. هـ. قال ابن جزي: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ قيل: المطر، واللفظ أعم من ذلك، والخزائن:
المواضع الخازنة، وظاهر هذا أن الأشياء موجودة قد خلقت. هـ. وَما نُنَزِّلُهُ أي: نبرزه من عالم الغيب إلى عالم الشهادة، إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ: بمقدار محدود في وقت معلوم اقتضته الحكمة وتعلقت به المشيئة، لا يزيد ولا ينقص على ما سبق به العلم.
وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ: حوامل للماء في أوعية السحاب، يقال: لقحت الناقة والشجرة إذا حملت، فهي لاقحة، وألْقَحَت الريحُ الشجرَ فهي ملقحة. ولواقح: جمع لاقحة، أي: حاملة، أو جمع ملقحة على حذف الميم الزائدة، فهي على هذا ملقحة للسحاب أو الشجر، ونظيره: الطوائح، بمعنى المطيحات في قوله:
ومُخْتَبِط مِمَّا تُطِيحُ الطَّوَائِحُ «١» والرياح أربعة: صَبَا، ودَبُور، وجَنوب، وشمال. والعرب تسمي الجنوب الحامل واللاقحة، وتسمى الشمال الحائل والعقيم. وفى البخاري صلى الله عليه وسلم: «نُصِرتُ بالصِّبَا، وأُهْلِكَتْ عَادٌ بالدُّبُور» «٢». وروي أبو هريرة رضي الله عنه، عنه ﷺ أنه قال: «الرِّيحُ الجنوب من الجنة، وهي اللواقح التي ذكر الله، وفيها منافع للناس» «٣». وفى حديث: «الرِّيحُ من نفس الرحمن» «٤». والإضافة هنا إضافة خلق إلى خالق، كما قال: مِنْ رُوحِي «٥». ومعنى نفس الرحمن، أي:
تذهب وتهلك، والطوائح: جمع المطيحة، بمعنى السنين أو الجوائح. انظر حاشية الشهاب (٥/ ٢٨٩).
(٢) أخرجه البخاري (كتاب الاستسقاء، باب إذا هبت الريح) من حديث ابن عباس- رضي الله عنه-. [.....]
(٣) أخرجه ابن جرير فى تفسيره. وو زاد السيوطي، فى الدر المنثور (٤/ ١٧٩)، عزوه لابن أبى الدنيا فى كتاب السحاب، وأبى الشيخ فى العظمة، والديلمي فى المسند، وابن مردويه، من حديث أبى هريرة.
(٤) أخرجه أبو داود فى (الأدب، باب: ما يقول إذا هاجت الريح)، عن أبى هريرة، مرفوعا، بلفظ: (الريح من روح الله) مطولا.
(٥) من الآية ٢٩ من سورة الحجر.
والمختار في تفسير اللواقح: أنها حاملة للماء، بدليل قوله: فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ أي:
جعلناه لكم سقيا. يقال: سقى وأسقى بمعنى واحد عند الجمهور. وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ: بممسكين له في الجبال، والغدران، والعيون، والآبار، فتخرجونه متى شئتم، بل ذلك من شأن المدبر الحكيم، فإن طبيعة الماء تقتضي الغور، فوقوفه دون حد لا بد له من مسبب مخصص، وجريه بلا انتهاء لا يكون إلا بقدرة السميع العليم، الذي لا تتناهى قدرته. أو: وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ بقادرين متمكنين من إخراجه وقت الاحتياج إليه. نفى عنهم ما أثبته لنفسه بقوله: عِنْدَنا خَزائِنُهُ.
وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ أي: نحيي من نريد إحياءه بإيجاد الحياة فيه، ونميت من نريد إماتته بإزالة الحياة منه. وقد أول الحياة بما يعم الحيوان والنبات. وتكرير الضمير للدلالة على الحصر. وَنَحْنُ الْوارِثُونَ:
الباقون إذا مات الخلائق كلهم.
وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ أي: علمنا من تقدم ولادةً، ومن تأخر، أو من خرج من أصلاب الرجال ومن لم يخرج بعدُ، أو من تقدم إلى الإسلام والجهاد وسبق إلى الطاعة، ومن تأخر، لا يخفى علينا شيء من أحوالكم. وهو بيان لكمال علمه بعد الاحتجاج على كمال قدرته، فإنَّ ما يدل على كمال قدرته دليل على كمال علمه. قيل: رغّب رسول الله ﷺ في الصف الأول، فازدحموا عليه، فنزلت، وقيل: إن امرأة حسناء كانت تصلي خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتقدم بعض القوم لئلا ينظر إليها، وتأخر بعض ليبصرها، فنزلت.
قاله البيضاوي.
وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ لا محالة للجزاء، كأن هذا هو الغرض من ذكر العلم بالمتقدمين والمتأخرين لأنه إذا أحاط بهم علماً لم تصعب عليه إعادتهم وحشرهم. إِنَّهُ حَكِيمٌ باهر الحكمة، عَلِيمٌ واسع العلم والإحاطة بكل معلوم. قال البيضاوي: وفي توسيط الضمير- يعني في قوله: هُوَ يَحْشُرُهُمْ للدلالة على أنه القادر والمتولي لحشرهم لا غيره، وتصدير الجملة بأن لتحقيق الوعيد والتنبيه على أن ما سبق من الدلالة على كمال قدرته وعلمه بتفاصيل الأشياء يدل على صحة الحكم. هـ.
الإشارة: ولقد جعلنا في سماء قلوب العارفين بروجاً، وهي المقامات التي ينزلون فيها بشموس عرفانهم، وهي: التوبة، والخوف، والرجاء، والورع، والزهد، والصبر، والشكر، والرضى، والتسليم، والمحبة، والمراقبة،
سئل سهل رضي الله عنه عن القوت، فقال: هو الحي الذي لا يموت، فقيل: إنما سألناك عن القوام. فقال: القوام هو العلم، فقيل: سألناك عن الغذاء، فقال: الغذاء هو الذكر، فقيل: سألناك عن طعام الجسد، فقال: مالك وللجسد، دع من تولاَّه أولاً يتولاه آخراً، إذا دخلت عليه علة رده إلى صانعه، أما رأيت الصنعة إذا عيبت ردوها إلى صانعها حتى يصلحها. وأنشدوا:
يَا خادِمَ الجِسْمِ كَمْ تَشْقَى بِخِدْمَتِهِ | وتَطلُب الربْحَ مما فيه خُسْرَانُ |
عليك بالنفسِ فاستكمل فَضِِيلَتَهَا | فأنت بالنفس لا بالجسم إنسانُ |
وأرسلنا رياح الهداية لواقح، تلقح الطمأنينة والمعرفة في قلوب المتوجهين، وتلقح اليقين والتوفيق في قلوب الصالحين، وتلقح الإيمان والهداية في قلوب المؤمنين، فأنزلنا من سماء الغيب ماء العلم اللدني، فأسقيناكموه على أيدي وسائط الشيوخ، أو بلا واسطة، وما أنتم له بخازنين، بل يفيض على قلوبكم عند غلبة الحال، أو لهداية مريد، أو عند الاحتياج إليه عند استفتاح القلوب، وإنا لنحن نُحيي قلوباً بالمعرفة واليقين، ونميت قلوباً بالجهل والكفر، ونحن الوارثون لبقاء انوارنا على الأبد. ولقد علمنا المستقدمين منكم إلى حضرة قدسنا بالاستعداد، وإعطاء الكلية
ثم ذكر أول نشأة الثقلين، ليدل بها على الحشر والإعادة، فقال:
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٢٦ الى ٢٧]
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٦) وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ (٢٧)
قلت: قال في الصحاح: الحَمأُ الْمسنُون: المنتنُ المتغير. وسُنَّةُ الوجه: صورته، ثم قال: والمسْنُونُ: المصَوَّرُ، وقد سَنَنتُهُ أَسُنُّه سَنَّا إذا صَوَّرتُه، والمسْنُونُ: المُملَّسُ. وفي القاموس: الحَمأُ المسْنُونُ: المنْتنُ، ورجُل مَسْنُونُ الوجه:
مُمَلسُهُ، حَسنُهُ، سَهْلُهُ. أو في وَجْهِهِ وأنْفِهِ طُولٌ. وسنن الطين: عمله فخاراً. هـ. وفي ابن عطية: هو من سننت السكين والحجر: إذا أحكمت تلميسه. انظر بقية كلامه. وموضع مِنْ حَمَإٍ: نعت لصلصال، أي: كائن من حمأ. و (الجان) : منصوب بمحذوف يُفسره ما بعده.
يقول الحق جلّ جلاله: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ أي: أصله، وهو آدم، مِنْ صَلْصالٍ أي: طين يابس يصلصل. أي: يصوت إذا نقر فيه وهو غير مطبوخ، فإذا طُبخ فهو فخار، مِنْ حَمَإٍ: من طين أسود مَسْنُونٍ: متغير منتن، من سننت الحجر على الحجر إذا حككته به فإنَّ ما يسيل بينهما يكون منتناً، ويسمى سنيناً. أو مسنون: مصور، أو مصبوب ليتصور، كالجواهر المذابة تصب في القوالب، من السن، وهو الصب، كأنه أفرغ الحمأ فصور منها تمثال إنسان أجوف، فيبس حتى إذا نقر صلصل، ثم غير ذلك طوراً بعد طور حتى سواه ونفخ فيه من روحه.
وَالْجَانَّ وهو: إبليس الأول، ومنه تناسلت الجن، خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ أي: من قبل خلق الأنسان، مِنْ نارِ السَّمُومِ: من نار الحر الشديد النافذ في المسام، ولا يمتنع خلق الحياة في الأجرام البسيطة، كما لم يمتنع خلقها في الجواهر المجردة، فضلاً عن الأجساد المؤلفة، التي الغالب فيها الجزء الناري، فإنها أقبل منها لها من التي الغالب فيها الجزء الأرضي. وقوله: مِنْ نارِ: لاعتبار الغالب، كقوله: خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ «١».
ومساق الآية كما هو للدلالة على قدرة الله تعالى، وبيان بدء خلق الثقلين، فهو للتنبيه على المقدمة الثانية التي يتوقف عليها إمكان الحشر، وهو قبول المواد للجمع والإحياء. قاله البيضاوي.
ثم ذكر تشريف آدم الملائكة بالسجود له، فقال:
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٢٨ الى ٤١]
وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٨) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (٢٩) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٣٠) إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣١) قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣٢)
قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٣٣) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٣٤) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٣٥) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٣٦) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٣٧)
إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٣٨) قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٣٩) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٤٠) قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (٤١)
قلت: (وإذْ قال) : ظرف لاذكر، وقوله: (فَقَعُوا) : امرٌ، من وقَع، يقع، قَعْ، فهو مما حُذفت فاؤه. وقوله:
فَسَجَدَ معطوف على محذوف، أي: فخلقه، وأمر الملائكة فسجدوا.
فإذا نفخت فيه فَقَعُوا: فأسقطوا لَهُ ساجِدِينَ. فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ حين أكمل خلقته، وأمرهم بالسجود، وقيل: اكتفى بالأمر الأول، كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ، أكد بتأكيدين للمبالغة في التعميم ومنع التخصيص، إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى: امتنع أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ، قال البيضاوي: إن جُعِل الاستثناء منقطعاً اتصل به قوله: أَبى أي: لكن إبليس أبَى أن يسجد «١»، وإن جُعِل متصلاً كان قوله أَبى: استئنافاً، على أنه جواب سائل قال: هلا سجد؟ فقال: أبى.. الخ. قلت: والأحسن: أن يقدر السؤال بعد قوله: إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى أي: وما شأنه؟ فقال: أبى أن يكون مع الساجدين.
قال تعالى: يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أي شيء عرض لك، أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ لآدم؟ قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ أي: لا يصح مني، بل ينافي حالي أن أسجد لِبَشَرٍ جسماني كثيف، وأنا روحاني لطيف، وقد خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ، وهو أخس العناصر، وخلقتني من نار وهي أشرفها. استنقص آدم من جهة الأصل، وغفل عن الكمالات التي خصه الله بها، منها: أنه خلقه بيديه بلا واسطة، أي: بيد القدرة والحكمة، بخلاف غيره، ومنها: أنه خصه بالعلوم التي لم توجد عند غيره من الملائكة، ومنها: أنه نفخ فيه من روحه المضافة إلى نفسه، ومنها:
أنه جعله خليفة في أرضه | إلى غير ذلك من الخواص التي تشرف بها فاستحق السجود. |
الطرد والإبعاد إِلى يَوْمِ الدِّينِ يوم الجزاء، ثم يتصل باللعن الدائم. وقيل: إنما حد اللعن لأنه أبعد غاية يضربها الناس، أو لأنه يعذب فيه بما ينسى اللعن، فيصير كأنه زال عنه ذلك اللعن.
قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي: أخرني إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ، أراد أن يجد فسحة في الإغواء، ونجاة من الموت، إذ لا موت بعد وقت البعث، فأجابه إلى الأول دون الثاني، قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ:
المعين فيه أجلك عند الله، وانقراض الناس كلهم، وهو النفخة الأولى عند الجمهور.
وهذه المخاطبة، وإن لم تكن بواسطة، لا تدل على منصب إبليس لأن خطاب الله له على سبيل الإهانة والإذلال. قاله البيضاوي. وجزم ابن العربي، في سراج المريدين، بأن كلام الحق تعالى إنما كان بواسطة، قال:
لأن الله لا يكلم الكفار الذين هم من جند إبليس، فكيف يكلم من تولى إضلالهم. هـ. وتردد المازُريُّ في ذلك وقال: لا قاطع في ذلك، وإنما فيه ظواهر، والظواهر لا تفيد اليقين. ثم قال: وأمّا قوله: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ:
فيحتمل أن يكون بواسطة أو بغيرها، تقول العرب: كلمت فلاناً مشافهة، بالكلام، وتارة بالبعث. هـ. قلت: الظاهر أنه كلمه بلا واسطة من وراء حجاب، كلامَ عتابٍ وإهانة، كما يوبخ الكفار يوم القيامة، مع أن الواسطة محذوفة عند المحققين، وإن وُجِدَتْ، صُورَةً.
ثم قال: رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي أي: بسبب إغوائك لي، لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ، وقيل: الباء للقسم، أي:
بقدرتك على إغوائي، لأزينن لهم المعاصي والكفر في الدنيا، التي هي دار الغرور. قال ابن عطية: قوله:
رَبِّ: مع كفره، يُخرج على أنه يقر بالربوبية والخلق، وهذا لا يدفع في صدر كفره. وقال، على قوله: لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ: ليس هذا موضع كفره عند الحذاق لأن إبايته إنما هي معصية فقط، أي: وإنما كفره لاعتراضه لأمر الحق واستكباره. وأما قوله وتعليله فإنما يقتضي أن آدم مفضول، وقد أمره أن يسجد لمن هو أفضل منه، فرأى أن ذلك جور، فقاس وأخطأ، وجهل أن الفضائل إنما هي حيث جعلها الله تعالى المالك للجميع. هـ. مختصراً. وقال المازري: أما كفر إبليس فمقطوع به لقوله: اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ «١» ثم قال: ويؤكده قوله: رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي، وقوله:
لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ | الآية «٢»، وغير ذلك من ظواهر ما يدل على كفره. |
(٢) الآية ٨٥ من سورة (ص).
وقوله: وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ لأحملنهم على الغواية أجمعين، إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ الذين أخلصتهم لطاعتك، وطهرتهم من الشهوات، فلا يعمل فيهم كيدي. ومن قرأ بالكسر فمعناه: الذين أخلصوا دينهم لله، وتحصنوا بالإخلاص في سائر أعمالهم. قالَ تعالى: هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ، الإشارة إلى نجاة المخلصين، أو إلى العبادة والإخلاص، أي: هذا الطريق الذي سلكه أهل الإخلاص في عبوديتهم هو طريق وارد عليَّ، وموصل إلى جواري، لا سبيل لك على أهله لأنه مستقيم لا عوج فيه. وقيل: الإشارة إلى انقسام الناس إلى غاوٍ ومخلص، أي: هذا أمر إليَّ مصيره، والنظر فيه لي، عليَّ أن أراعيه وأبينه، مستقيم لا انحراف فيه. وقرأ الضحاك ومجاهد والنخعي، وغيرهم: «عَلِيٌّ» بكسر اللام والتنوين، من العلو والشرف، والإشارة حينئذٍ إلى الإخلاص، أي: هذا الإخلاص طريق رفيع مستقيم لا تنال أنت بإغوائك أهلَه يا إبليس.
الإشارة: إنما يصعب الخضوع للجنس أو لمن دونه، في حق من يغلب حسه على معناه، وفرقُه على جمعه، وأما من غلب معناه على حسه، حتى رأى الأشياء الحسية أواني حاملة للمعاني، أي: لمعاني أسرار الربوبية، بل رآها أنواراً بارزة من بحر الجبروت، لم يصعب عليه الخضوع لشيء من الأشياء لأنه يراها قائمة بالله، ولا وجود لها مع الله، فلا يخضع حينئذٍ إلا لله، فالملائكة- عليهم السلام- نفذت بصيرتهم، فرأوا آدم عليه السلام قبلة للحضرة القدسية، فغلب عليهم شهود المعاني دون الوقوف مع الأواني، فخضعوا لآدم صورةً، ولله حقيقة. وإبليس وقف مع الحس، وحجب بالفرق عن الجمع، فلم ير إلا حس آدم دون معناه، فامتنع عن السجود. وفي الحِكَم العطائية: «فمن رأى الكون، ولم يشهد الحق فيه، أو عنده، أو قبله، أو بعده، أو معه، فقد أعوزه وجود الأنوار، وحجبت عنه شموس المعارف بسُحب الآثار». ولهذا المعنى صعب الخضوع للأشباح لغلبة الفرق على الناس، إلا مَن سبقت له العناية، فإنه يخضع مع الفرق محبة لله، حتى يفتح الله عليه في مقام الجمع، فيخضع لله وحده. والتوفيق لهذا، والسير على منهاجه- أعني الخضوع لمن يوصل إلى الله- هو الصراط الذي أشار إليه الحق تعالى بقوله: (هذا صراط عَلَيَّ مستقيم). والله تعالى أعلم.
ثم ذكر من لا تسلط للشيطان عليه، فقال:
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٤٢ الى ٤٨]
إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (٤٢) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٣) لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (٤٤) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٤٥) ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ (٤٦)
وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (٤٧) لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ (٤٨)
إن عبادي المخلَصين لا تسلط لك عليهم، لكن من اتبعك من الغاوين فهو من حزبك. ويحتمل الاتصال، ويريد بالعباد جميع الناس، أي: إن عبادي كلهم لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ، إلا من اتبعك من أهل الغواية، فإنك تتسلط عليه بالوسوسة والتزيين والتحريض فقط، فيتبعك لقوله يوم القيامة: وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي «١». وعلى الاتصال يكون المستثنى منه أكثر من المستثنى، وإلا تناقض مع قوله:
لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ. قال أبو المعالي: كون المستثنى أكثر من المستثنى منه ليس معروفاً في كلام العرب. انظر ابن عطية والبيضاوي.
ومِنْهُمُ: حال من جزء مقدم، أي: لكل باب جزء حاصلٌ منهم مقسوم، أو من المستكن في الظرف لا من مقسوم لأن الصفة لا تعمل فيما تقدم موصوفها. وإِخْواناً: حال من الضمير المضاف إليه لأنه جزء ما أضيف إليه، والعامل فيه: الاستقرار، أو معنى الإضافة، وكذا: عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ، ويجوز أن يكونا صفتين لإخوان، أو حالين من ضميره.
يقول الحق جلّ جلاله: إِنَّ عِبادِي المتحققين بالعبودية لي، المخلصين في أعمالهم، لَيْسَ لَكَ يا إبليس عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ أي: غلبة وتسلط بالغواية والإضلال، إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ الذين سبقت لهم الغواية، وتنكبتهم العناية. وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ: لموضع إبعاد الغاوين أو المتبعين لك أَجْمَعِينَ، لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ يدخلون فيها لكثرتهم، أو طبقات ينزلونها بحسب مراتبهم في المتابعة، وفي كل طبقة باب يسلك منه إليها، فأعلاها: جهنم، وهي للمذنبين من الموحدين، ثم لظى لليهود، ثم الحُطمة للنصارى، ثم السعير للصابئين، ثم سقر للمجوس، ثم الجحيم للمشركين، وكبيرهم أبو جهل، ثم الهاوية، وهي الدرك الأسفل، للمنافقين،
قال البيضاوي: ولعل تخصيص العدد بالسبعة، لانحصار مجامع المهلكات في الركون إلى المحسوسات، ومتابعة القوة الشهوية والغضبية. هـ. فالقوة الشهوية محلها ست وهي: السمع والبصر والشم واللسان والبطن والفرج. والقوة الغضبية في البطش باليد والرجل، فالمعاصي المهلكات جلها من هذه السبع، ومَلِكها القلب، إذا صلح صلحت، وإذا فسد فسدت. كما في الحديث. ثم قال البيضاوي: أو لأن أهلها فرق سبع. هـ. يعنى: الفرق التي تقدمت للطبقات، قال تعالى: لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ أي: من الأتباع جُزْءٌ مَقْسُومٌ أفرد له، لا يدخل إلا منه، ولا يسكن إلا في طبقته. وقد تقدم أهل كل طبقة، من عصاة الموحدين إلى المنافقين.
ثم شفع بضدهم، على عادته سبحانه وتعالى في كتابه، فقال: إِنَّ الْمُتَّقِينَ للكفر والفواحش، أو لمتابعة إبليس، فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، لكل واحد جنة وعين، أو لكل واحد جنات وعيون، يقال لهم عند دخولهم:
ادْخُلُوها، وقرأ رويس عن يعقوب: «أدخلُوها» بضم الهمزة وكسر الخاء، على البناء للمفعول، فلا يكسر حينئذٍ التنوين، أي: تقول الملائكة لهم: ادخلوها، أو قد أدخلهم الله إياها. بِسَلامٍ أي: سالمين من المكاره والآلام، أو مسلماً عليكم بالتحية والإكرام، آمِنِينَ من الآفة والزوال.
وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ أي: من حقد وعداوة كانت في الدنيا، وعن على رضي الله عنه: (أرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير منهم)، أو من التحاسد على درجات ومراتبِ القُرْبِ.
قلت: أما التحاسد على مراتب القرب فلا يكون لاستغناء كل أحد بما لديه، وأما التأسف والندم على فوات ذلك بالتفريط في الدنيا فيحصل، ففي الحديث: «ليس يتحسر أهل الجنة على شيء إلاَّ على سَاعَةٍ مَرَّتْ لهم لَمْ يَذْكُرُوا الله فيهَا» «١». ولا يحصل التحسر حتى يرى ما فاته باعتبار وقوفه. قال ابن عطية: ذكر هنا نزع الغل من قلوب أهل الجنة، ولم يذكر له موطناً، وجاء في بعض الحديث أن ذلك على الصراط، وجاء في بعضها: أن ذلك على أبواب الجنة، وفي بعضها: ان الغل يبقى على أبوابها كمعاطن الإبل. ثم قال: وجاء في بعض الأحاديث: أن نزع الغل إنما يكون بعد استقرارهم في الجنة. والذي يقال في هذا: أن الله ينزعه في موطن من قوم وفي موطن من آخرين. هـ.
ويُطَهَّرُهم من الغلِّ والغِشِّ والدَّعوى | الخ ما يأتي إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم، وسترى وتعلم. |
الإشارة: لا ينقطع عن العبد تسلط الشيطان حتى يدخل مقام الشهود والعيان، حين يكون عبداً خالصاً لله، حرا مما سواه، وذلك حين ينخرط في سلك القوم، ويزول عنه لوث الحدوث والعدم، فيفنى مَن لم يكن، ويبقى مَن لم يزل، وذلك بتحقيق مقام الفناء، ثم الرجوع إلى مقام البقاء. قال الشيخ أبو المواهب رضي الله عنه: من رجع إلى البقاء أمن من الشقاء وذلك أن العبد حين يتصل بنور الله، ويصير نوراً من أنواره، يحترق به الباطل ويدمغ، فلا سبيل للأغيار عليه. ولذلك قال بعضهم: نحن قوم لا نعرف الشيطان، فقال له القائل: فكيف، وهو مذكور في كتاب الله تعالى، قال تعالى: إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا «٢» ؟. فقال: نحن قوم اشتغلنا بمحبة الحبيب، فكفانا عداوة العدو. وحين يتحقق العبد بهذا المقام ينخرط في سلك قوله تعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ. وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ.. الآية، وهذا لا ينال إلا بالخضوع لأهل النور، حتى يوصلوه إلى نور النور، فيصير قطعة من نور، غريقاً في بحر النور. ومع هذا لا ينقطع عنه الخوف والرجاء، لقوله تعالى:
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٤٩ الى ٥٠]
نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٤٩) وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ (٥٠)
(٢) من الآية ٦ من سورة فاطر.
وذكر ابن عطية ان سبب نزولها: أن رسول الله ﷺ جاء إلى جماعة من أصحابه، عند باب بني شَيْبَةَ في الحرم، فوجدهم يضحكون، فزجرهم ووعظهم، ثم ولى، فجاءه جبريل عن الله، فقال: يا محمد أتُقَنِّط عبادي؟ وتلى عليه الآية، فرجع بها رسول الله ﷺ إليهم وأعلمهم «١». هـ. ثم قال: ولو لم يكن هذا السبب لكان ما قبلها يقتضيها إذ تقدم ذكر ما في النار وذكر ما في الجنة، فأكّد تعالى تنبيه الناس بهذه الآية. هـ.
قيل: وهذه الآية أبلغ ما في القرآن في إثارة الخوف والرجاء، من الآي التي لا تشبهها في الإجمال لما فيها من التصريح، ثم الرجاء فيها أغلب لأجل التقديم، مع ذكره في آية الرجاء، لصفاته العلية وأسمائه الحسنى، وذلك يؤذن بالتهمم به وترجيحه، وهو مذهب الصوفية في حال الحياة والممات.
الإشارة: الخوف والرجاء يتعاقبان على الإنسان، فتاره يغلب عليه الخوف، وتارة يغلب عليه الرجاء. هذا قبل الوصول، وأما بعد الوصول فالغالب عليهم الاعتدال، قال في التنبيه: أما العارفون الموحدون فإنهم على بساط القرب والمشاهدة، ناظرون إلى ربهم، فانون عن أنفسهم، فإذا وقعوا في ذلة، أو أصابتهم غفلة، شهدوا تصريف الحق تعالى لهم، وجريان قضائه عليهم. كما أنهم إذا صدرت منهم طاعة، أو لاح منهم لائح من يقظة، لم يشهدوا في ذلك أنفسهم، ولم يروا فيها حولهم ولا قوتهم لأن السابق إلى قلوبهم ذكر ربهم، فأنفسهم مطمئنة تحت جريان أقداره، وقلوبهم ساكنة بما لاح لهم من أنواره، ولا فرق عندهم بين الحالين لأنهم غرقى في بحار التوحيد، قد استوى خوفهم ورجاؤهم، فلا ينقص من خوفهم ما يجتنبونه من العصيان، ولا يزيد في رجائهم ما يأتون من الإحسان. هـ. قلت: بل طرق الرجاء عندهم أرجح، كما تقدم لأن الرجاء ناشئ عن غلبة المحبة، وهي غالبة.
والله تعالى أعلم.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٥١ الى ٦٠]
وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ (٥١) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (٥٢) قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (٥٣) قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (٥٤) قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ (٥٥)
قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ (٥٦) قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٥٧) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٥٨) إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٩) إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ (٦٠)
قلت: سَلاماً: مفعول بمحذوف، أي: سلمنا سلاماً، أو نسلم عليكم سلاماً. والضيف يطلق على الواحد والجماعة، والمراد هنا: جماعة من الملائكة. و (تُبشرون) : قرئ بشد النون بإدغام نون الرفع في نون الوقاية، وبالتخفيف بحذف إحدى النونين، وبالفتح، على أنها نون الرفع. و (يقنط) : بالفتح والكسر، يقال: قنط كضرِب وعلم.
يقول الحق جلّ جلاله: وَنَبِّئْهُمْ أي: وأخبر عبادي عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ حين بشروه بالولد، وأعلموه بعذاب قوم لوط، لعلهم يعتبرون فيرجون رحمته ويخافون عذابه. أو: ونبئهم أن من اعتمد منهم على كفره وغوايته، فالعذاب لاحق به في الدنيا، كحال قوم لوط. ثم ذكر قصتهم من أولها فقال: وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ، وذلك حين دَخَلُوا عَلَيْهِ، وهم أربعة: جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل، فَقالُوا سَلاماً أي: نُسلم عليكم سلاماً، قال: سلام، ثم أتاهم بعجل حنيذ، فلما قربه إليهم، قالوا: إنا لا نأكل طعاماً إلا بثمن، فقال إبراهيم: إن له ثمناً، قالوا: وما ثمنه؟ قال: تذكرون اسم الله على أوله، وتحمدونه على آخره، فنظر جبريل إلى ميكائيل فقال: حق لهذا ان يتخذه ربه خليلاً، فلما رأى أنهم لا يأكلون فزع منهم. ومن طريق آخر: أن جبريل مسح بجناحه العجْل، فقام يدرج حتى لحق بأمه فى الدار. هـ. هكذا ذكر القصة المحشي الفاسي عن ابن حجر.
فلما أحس إبراهيم عليه السلام بالخوف منهم قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ: خائفون إما لامتناعهم من أكل طعامه، أو لأنهم دخلوا بغير إذن، أو في غير وقت الدخول. والوجل: اضطراب النفس لتوقع مكروه. قالُوا لا تَوْجَلْ:
فإن البشارة بما لا يتصور وقوعه عادة بشارة بغير شيء. قال ذلك على وجه التعجب من ولادته في كِبَرهِ.
قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ: باليقين الثابت الذي لا محالة في وقوعه، فلا تستبعده، ولا تشك فيه، فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ: من الآيسين، فإن الله تعالى قادر على أن يخلق بشراً من غير أبوين، فكيف من شيخ فانٍ وعجوز عاقرٍ. وكان استعجاب إبراهيم باعتبار العادة دون القدرة ولذلك قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ أي: لا ييأس من رحمة ربه إِلَّا الضَّالُّونَ: المخطئون طريق المعرفة، فلا يعرفون سعة رحمته تعالى، وكمال قدرته. قال القشيري: أي: من الذي يقنط من رحمة الله إلا من كان ضالاً، فكيف أخطأ ظنكم بي، فتوهمتم أني أقنط من رحمة ربي؟. هـ. وفيه دليل على تحريم القنوط قال تعالى: إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ «٢».
قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ أي: ما شانكم الذي أرسلتم لأجله سوى البشارة؟ ولعله علم ان كمال المقصود ليس هو البشارة فقط، لأنهم كانوا عدداً، والبشارة لا تحتاج إلى عدد، ولذلك اكتفى بالواحد في بشارة زكريا ومريم. أو لأنهم بشروه في تضاعيف الحال لأزالة الوجل، ولو كانت تمام المقصود لابتدروه بها. ثم أجابوه: قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ يعني: قوم لوط لأن شأنهم الإجرام بفعل الفاحشة، إِلَّا آلَ لُوطٍ أي: لكن آل لوط لم نُرْسَل إلى عذابهم إذ ليسوا مجرمين. أو أرسلنا إلى قوم أجرموا كلهم، إلا آل لوط، لنهلك المجرمين وننجي آل لوط، ويدل عليه قوله: إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ من العذاب الذي يهلك به قوم لوط.
قال ابن جزي: قوله: إِلَّا آلَ لُوطٍ: يحتمل أن يكون استثناء من قومه، فيكون منقطعاً لوصف القوم بالإجرام، ولم يكن آل لوط مجرمين. ويحتمل أن يكون استثناء من الضمير في مُجْرِمِينَ فيكون متصلاً، كأنه قال: إلى قوم أجرموا كلهم إلا آل لوط فلم يجرموا، وقوله: إِلَّا امْرَأَتَهُ استثناء من آل لوط، فهو استثناء من استثناء. قيل: وفيه دليل على أنَّ الأزواج من الآل لأنه استثنى امرأته من آله. وقال الزمخشري: إنما هو
(٢) من الآية ٨٧ من سورة يوسف.
قلت: وفيه إشارة إلى حذف الوسائط، كما هو توحيد المحققين. والله تعالى أعلم.
الإشارة: لا يلزم من ثبوت الخصوصية عدم وصف البشرية، فالوجل والخوف والفرح والحزن والتعجب والاستعظام للأشياء الغريبة، كل ذلك من وصف البشر، يقع من الخصوص وغيرهم، لكن فرق بين خاطر وساكن فالخصوص تهجم عليهم ولا تثبت، بخلاف العموم.
ويؤخذ من الآية: أن صحبة الخصوص لا تنفع إلا مع الاعتقاد والتعظيم، فإنَّ امرأة نبي الله لوط كانت متصلة به حساً، ومصاحبة له، ولم ينفعها ذلك، حيث لم يكن لها فيه اعتقاد ولا تعظيم. وكذلك صحبة الأولياء: لا تنفع إلا مع الصدق والتعظيم. وقول ابن عطاء الله: «سبحان مَن لم يجعل الدليل على أوليائه إلا من حيث الدليل عليه.
ولم يوصل إليهم إلا مَن أراد أن يوصله إليه» : مقيد بوصول التعظيم والاعتقاد، والاستماع والاتباع. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر قصة هلاك قوم لوط، فقال:
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٦١ الى ٧٧]
فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (٦١) قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (٦٢) قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (٦٣) وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٦٤) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (٦٥)
وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (٦٦) وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (٦٧) قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ (٦٨) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ (٦٩) قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ (٧٠)
قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (٧١) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (٧٢) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (٧٣) فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (٧٤) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (٧٥)
وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (٧٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (٧٧)
ولَعَمْرُكَ: مبتدأ، والخبر محذوف، أي: قسمي، قال ابن عزيز: عَمْرٌ وعُمْرٌ واحد، ولا يقال في القسم إلا مفتوحاً، وإنما فتح في القسم فقط لكثرة الاستعمال.
يقول الحق جلّ جلاله: فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ، وهم أضياف إبراهيم، فلما دخلوا عليه ولم يعرفهم، قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ لا نعرفكم. أو تنكركم نفسي مخافة أن تطرقوني بشيء، قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ أي: ما جئناك بما تنكرنا لأجله، بل جئناك بما يسرك، وهو: قطع الفاحشة من بلدك، وإتيان العذاب لعدوك الذي توعدناهم، فكانوا يمترون فيه ويشكون في إتيانه، وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ باليقين الثابت، وهو إتيان العذاب لا محالة، وَإِنَّا لَصادِقُونَ فيما أخبرناك به.
فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ: فاذهب بهم بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ أي: فاخرج بهم في طائفة من الليل، قيل: آخره، وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ أي: كن خلفهم في ساقتهم، حتى لا يبقى منهم أحد، أو: أمره بالتأخر عنهم ليكونوا قدامه، فلا يشتغل قلبه بهم لو كانوا خلفه لخوفه عليهم، أي: ليسرع بهم، ويطلع على أحوالهم. وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ خلفه، لينظر ما وراءه، فيرى من الهول ما لا يطيقه، أو: ولا ينصرف أحد منكم، ولا يتخلف لغرض فيصيبه ما أصابهم. وقيل: نهوا عن الالتفات ليوطنوا أنفسهم على الهجرة. وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ أي: إلى حيث أمركم الله، وهو الشام أو مصر، وقال بعضهم: «ما من نبي هلك إلا لحق بمكة، وجاور بها حتى مات».
وَقَضَيْنا: أوحينا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ، وهو هلاك قومه، ذكره مبهماً ثمَّ فسره بقوله: أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ وهو كناية عن استئصالهم، والمعنى: أنهم يستأصلون عن آخرهم حتى لا يبقى منهم أحد، حال كونهم وقت العذاب مُصْبِحِينَ: داخلين في الصباح.
وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ، وهي سدوم، يَسْتَبْشِرُونَ بأضياف لوط طمعاً فيهم في فعل الفاحشة، والظاهر:
أن هذا المجيء إليه، وما جرى له معهم من المحاورة، كان قبل الإعلام بهلاكهم، كما تقدم في هود. وانظر ابن عطية. فلما جاءوه يراودونه عن ضيفه قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ بهتك حرمة ضيفي، فإنَّ
قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ عن أن تجير منهم أحداً، أو تحول بيننا وبينهم، وكانوا يتعرضون لكل أحد، وكان لوط عليه السلام يمنعهم ويزجرهم عنه بقدر وسعه. وذكر السدي: إنهم إنما كانوا يفعلون الفاحشة بالغرباء، ولا يفعلونها بعضهم ببعض، فكانوا يعترضون الطرق. هـ. أو: أَوْ لم ننهك عن ضيافة العالمين وإنزالهم؟ قالَ هؤُلاءِ بَناتِي تُزَوِّجُوهُنَّ إياكم، وقد كان يمنعهم قبل ذلك لكفرهم، فأراد أن يقي أضيافه بهن. ولعله لم يكن حراماً في شريعته. أو يريد بالبنات نساء القوم فإن نبي كل أمة بمنزلة أبيهم، إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ قضاء الوطر، أو: ما أقولُ لكم من التزويج، فابوا، ولجوا في عملهم.
قال تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: لَعَمْرُكَ: لحياتك يا محمد، أقسم بحياته- عليه الصلاة والسلام- لشرف منزلته عنده. قال ابن عباس- رضى الله عنهما: «ما خلق الله خلقاً أكرم عليه من محمد صلى الله عليه وسلم، وما أقسم بحياة أحد إلا بحياته، فقال: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ قال القرطبي: وإذا أقسم الله بحياة نبيه فإنما أراد التصريح لنا أنه يجوز لنا أن نحلف بحياته. وقد قال الإمام أحمد فيمن أقسم بالنبي صلى الله عليه وسلم: ينعقد به يمينه، وتجب الكفارة بالحنث، واحتج بكون النبي ﷺ أحد ركني الشهادة. قال ابن خُوَيْزِ مَنْدَاد: هذا إذ استدل من جوّز الحلف به عليه الصلاة والسلام، بأن أيمان المسلمين جرت من عهده ﷺ حتى إن أهل المدينة إلى يومنا هذا إذا جاء صاحبه قال له: احلف لي بما حوى هذا القبر، وبحق ساكن هذا القبر، يعني النبي صلى الله عليه وسلم. هـ «١».
قلت: ومذهب مالك أنه لا ينعقد يمين بغير الله، وصفاته، وأسمائه. وقيل: إن قوله تعالى: لَعَمْرُكَ: هو من قول الملائكة للوط، أو لحياتك يا لوط، إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ: أي: لفي غوايتهم، أو شدة غلمتهم التي أزالت عقولهم وتمييزهم بين الخطأ والصواب، يتحيرون. والغلمة: شهوة الوقاع. والعمه: الحيرة، أي: إنهم لفي عماهم يتحيرون، فكيف يسمعون نصح من نصحهم؟ والضمائر لقوم لوط، وقيل: لقريش، والجملة: اعتراض.
قال تعالى: فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ، يعني: صيحة هائلة مهلكة. قال ابن عطية: هذه الصيحة صيحة الرجعة، وليست كصيحة ثمود. هـ. وقيل: صاح بهم جبريل فأهلكتهم الصيحة، مُشْرِقِينَ: داخلين في وقت شروق الشمس فابتدئ هلاكهم بعد الفجر مصبحين، واستوفى هلاكهم مشرقين. فَجَعَلْنا عالِيَها أي: عالي المدينة، أو قراها، سافِلَها، فصارت منقلبة بهم.
الإشارة: ما بعث الله داعياً يدعو إليه إلا وكان أول ما يدعوهم إليه، بعد الإيمان، الخروج من العوائد والحظوظ النفسانية، وما هلك من هلك من الأمم إلا بالبقاء معها، وعدم الخروج عنها، وما نجى من نجى إلا بالخروج عنها.
وكذلك في طريق الخصوصية: ما بعث الله ولياً مربياً إلا وكان أول ما يأمر: بخرق، العوائد لاكتساب الفوائد، فلا طريق لخصوصية الولاية إلا منها. وفي الحِكَم: «كيف تخرق لك العوائد، وأنت لم تخرق من نفسك العوائد». فمن تربى في الرئاسة والجاه فلا مطمع له في الخصوصية حتى يبدلهما بالخمول والذل، وكذلك من تعود جمع الدنيا واحتكارها، فلا بد من الزهد فيها والخروج عنها، وكذلك سائر العوائد النفسانية، والحظوظ الجسمانية، فمن جاور قوماً منهمكين فيها، ولم يجد من يساعده على خرقها، فليهاجر منها، ويقال له: فأسر بأهلك بقطع من الليل واتبع أدبارهم، ولا يلتفت منكم أحد إلى الرجوع، إلا بعد الرسوخ والتمكين في معرفة الحق تعالى، وليمض حيث يجد من ينهض معه إلى الله في نقل عوائدها وعوائقها.
وقوله تعالى: وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ: هذه عادة أهل الغفلة، إن جاءهم من يجدون فيه موافقة هواهم، هرعوا إليه مستبشرين، وإن جاء من ينصحهم ويأمرهم بالخروج عن أهوائهم أدبروا عنه، ومقتوه، وربما أخرجوه من بلدهم، قال تعالى في أمثالهم: (لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون). وبالله التوفيق.
ثم ذكر قصة شعيب عليه السلام، فقال:
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٧٨ الى ٧٩]
وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ (٧٨) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ (٧٩)
قلت: «إن» : مخففة، واللام فارقة.
يقول الحق جلّ جلاله: وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ، وهم قوم شعيب، كانوا يسكنون غيضة، وهي الأيكة. والأيكة: الشجر الملتف، قيل: كانت من الدوح، وقيل: من السدر، فكانوا يسكنون فيها، ويرتفقون بها
الإشارة: ما أهلكَ اللهُ قَوماً إلا كانوا عبرة لمن بعدهم، فالعاقل يبحث عن سبب هلاكهم، فيعمل جهده في التحرز منه، والغافل منهمك في غفلته، لا يلقى لذلك بالاً، حتى يأتيه ما يوعد. وبالله التوفيق.
ثم ذكر قصة صالح عليه السّلام، فقال:
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٨٠ الى ٨٤]
وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (٨٠) وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٨١) وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ (٨٢) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (٨٣) فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٤)
قلت: (بيوتاً) : مفعول (ينحتون)، بمعنى يتخذون، أو يصنعون. و (آمنين) : حال من فاعل (ينحتون).
يقول الحق جلّ جلاله: وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ هم قوم ثمود، والحِجْر: واديهم الذي يسكنونه، وهو بين المدينة والشام. كذبوا صالحاً عليه السلام، ومن كذَّب واحداً من الرسل فكأنما كذّب الجميع لأنهم جاءوا بأمر متفق عليه، وهو التوحيد، أو يراد به الجنس، كما تقول: فلان يركب الخيل، وإنما يركب فرساً واحداً، أو يراد به صالح ومَن معه من المؤمنين لموافقتهم له فيما يدعو إليه. وَآتَيْناهُمْ آياتِنا يعني: الناقة، وما كان فيها من العجائب، كسقيها وشربها ودرها، أو ما نزل على نبيهم من الكتب، أو ما نصب لهم من الأدلة. فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ: لم ينظروا فيها، ولم يعتنوا بأمرها.
وَكانُوا يَنْحِتُونَ: يصنعون، والنحت: النقر بالمعاول في الحجر والعود وشبهه، فكانوا يتخذون مِنَ الْجِبالِ بالنقر فيها، بُيُوتاً يسكنونها آمِنِينَ من الانهدام، ونقب اللصوص، وتخريب الأعداء لوثوقها.
أو من العذاب لفرط غفلتهم، أو حسبانهم أن الجبال تحميهم منه. فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ: داخلين في وقت الصباح، فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ من بناء البيوت الوثيقة، واستكثار الأموال والعدد.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٨٥ الى ٨٦]
وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (٨٥) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (٨٦)
يقول الحق جلّ جلاله: وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما من الكائنات إِلَّا بِالْحَقِّ أي:
إلا خلقاً ملتبساً بالحق، وهو الدلالة على كمال قدرتنا وباهر حكمتنا، فمن كمال القدرة: إهلاك أهل الفساد، ودفع شرورهم وإبطال فسادهم، ومن باهر حكمته أنه لم يهلكهم إلا بسبب عتوهم وفسادهم. فالحكمة رداء للقدرة، القدرة تبرز، والحكمة تستر، فإظهار الكائنات يدل على كمال القدرة، وترتيبها على أسباب وشروط يدل على باهر الحكمة. ومن مقتضيات الحكمة: ترتيب الجزاء على العمل، بحيث لا يهمل عملاً، فأهل الإكرام يترتب إكرامهم وإنعامهم على عملهم الصالح، واعتقادهم الصحيح، وما قاسوه من المجاهدة والمكابدة. وأهل الانتقام يترتب الانتقام منهم على عملهم الفاسد، واعتقادهم الباطل، وعلى ما قالوا في الدنيا، التي هي مزرعة الآخرة، من الدعة والحظوظ الفانية، ولذلك رتَّب عليه قوله:
وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فيجازي فيها من يستحق الإكرام، ويعاقب من يستحق الانتقام، وينتقم لك فيها ممن يكذبونك، فَاصْفَحِ اليوم الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ولا تعجل بالانتقام، وعاملهم معاملة الصفوح الحليم. وكان هذا قبل الأمر بالقتال. إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الذي خلقك وخلقهم، وبيده أمرك وأمرهم، الْعَلِيمُ بحالك وبحالهم، فهو الحقيق بأن تتكل عليه حتى يحكم بينك وبينهم. أو: هو الخلاق لأشباحكم وأرواحكم، العليم بما هو الأصلح لكم في الوقت، وقد علم أن الصفح اليوم أصلح. والخلاق أبلغ من الخالق باعتبار اللغة، وأفعال الله تعالى كلها عظيمة كثيرة.
الإشارة: ما نصبت لك الكائنات لتراها بعين الفرق، بل لترى فيها مولاها بعين الجمع. وما جعل لك هذه الدار لتتخذها دار القرار، وإنما جعلها قنطرة ومعبراً لدار القرار. إنما جعل لك الدنيا الفانية مزرعة للدار الباقية. وإن الساعة لآتية، فاصبر في هذه الدار اللمحة اليسيرة على شدائد الزمان، وجفوة الإخوان، واصفح الصفح الجميل،
ثم أمر نبيه بالغنى بالله وبكلامه، عن التطلع إلى زهرة الدنيا، والمراد: الأمر بدوامه على ما كان عليه، فقال:
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٨٧ الى ٩٩]
وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (٨٧) لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (٨٨) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (٨٩) كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (٩٠) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (٩١)
فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٩٢) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٣) فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (٩٤) إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (٩٥) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٩٦)
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ (٩٧) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (٩٨) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (٩٩)
قلت: السبع المثاني: هي الفاتحة عند الجمهور، و (من المثاني) : للبيان، وعطفُ القرآن عليها من عطف العام على الخاص. و (أنزلنا) : نعت لمفعول النذير، أي: أنا النذير عذاباً مثل العذاب الذي أنزل على المقتسمين. وقيل:
صفة لمصدر محذوف يدل عليه: (ولقد آتيناك) فإنه بمعنى أنزلنا إليك إنزالاً مثل ما أنزلنا على المقتسمين، وهم، على هذا، أهل الكتاب. و (عِضِين) : جمع عضة. وأصله: عِضْوة، من عَضَوْتَ الشيء: فَرَّقْته، حُذفت لامه، وعوض منها هاء التأنيث، فجمع على عضين، كعزَةٍ وعزين. وقيل: أصله: عضة من عضهته: رميته بالبهتان، قال في الصحاح: عَضَهَهُ عَضْهاَ: رماه بالبهتان. وقد أعْضَهْتَ، أي: جئت بالبهتان. فهما قولان في أصل عِضة.
هل هو واوي أو هائي. والموصول مع صلته نعت للمقتسمين.
يقول الحق جلّ جلاله، لنبيه عليه الصلاة والسلام: وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي، وهي فاتحة الكتاب لأنها سبع آيات، وتثنى- أي: تكرر- في كل صلاة، فالمثاني من التثنية، وقيل: من الثناء لأن فيها الثناء على الله تعالى، وقيل: السبع المثاني هي السبع الطوال، وهي البقرة وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، والأنفال مع براءة. ولذلك تركت البسملة بينهما. وكونها مثاني لتثنية قصصها، أو ألفاظها، وقيل:
هى الحواميم السبع. وَآتيناك الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ، ففيه الغنية والكفاية عن كل شيء.
وروي أنه ﷺ وافى مع أصحابه أذْرِعَات، فرأى سبع قوافل ليهود بني قُرَيْظَة والنَّضير، فيها أنواع البُرِّ، والطيب والجواهر، وسائر الأمتعة، فقال المسلمون: لو كانت هذه الأموال لنا لتقربنا بها، ولأنفقناها في سبيل الله، فقال لهم عليه الصلاة والسلام: «قد أعطيتم سبع آيات هي خير من هذه السبع القوافل». «٢».
وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ: لا تتأسف على كفرهم حيث أنذرتهم فلم ينزجروا ولم يؤمنوا. أو: حيث متعناهم بالدنيا فلم ينتفعوا بها، ولم يصرفوها في مرضاة الله، وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ أي: تواضع وألن جانبك للمؤمنين، وارفق بهم. والجناح، هنا، استعارة. وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ: البين الإنذار، أنذرتكم ببيان وبرهان أن عذاب الله نازل بكم إن لم تؤمنوا، وفي الحديث: «أنا النذير، والموت مغير، والقيامة الموعد». أو كما قال عليه الصلاة والسلام، وفي حديث آخر: «أنا النَّذير العُريَانُ». وكانت العرب، إذا رأى أحْدهم جيشاً يقصدهم، تجرد من ثيابه، ثم أنذر قومه ليصدقوه، أي: وقل: إني أنذرتكم ان ينزل بكم عذابه.
كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ، أي: مثل العذاب الذي أنزل على المقتسمين، وهم أهل الكتاب، الذين آمنوا ببعض الكتب وكفروا ببعض، فاقتسموا قسمين. والعذاب الذي نزل بهم هو الذل والهوان وضرب الجزية، أو تسليط عدوهم عليهم. وقيل: هم كفار قريش اقتسموا أبواب مكة في الموسم، فوقف كل واحد منهم على باب، وكانوا اثني عشر رجلاً، لينفروا الناس عن الإيمان بالرسول عليه الصلاة والسلام، يقول أحدهم: هو ساحر، والآخر: هو شاعر، فأهلكهم الله يوم بدر. وقيل: هم الرهط الذين اقتسموا، أي: تقاسموا ليُبيتوا صالحاً، فأسقط الله عليهم الغار الذي كمنوا فيه، فشدخهم.
أو: آتيناك القرآن، وأنزلناه عليك كما أنزلنا التوراة على المقتسمين، وهم اليهود، الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ أي: أجزاء متفرقة، وقالوا فيه أقوالاً مختلفة، فقالوا عناداً وكفراً: بعضه موافق للتوراة والإنجيل، وبعضه
وأخرجه ابن عدى فى الكامل (٢/ ٧٨٧)، ولفظه:
(من تعلم القرآن وظن أن أحدا | ) فذكره من حديث ابن مسعود مرفوعا.. |
(٢) قال المناوى فى الفتح السماوي: لم أقف عليه. وذكره الواحدي فى الأسباب (٢٨٣) عن الحسين بن الفضل مرسلا.
وفي الحديث: «لعن رسول الله ﷺ العاضهة والمستعضهة» »
أي: الباهتة، والمستبهتة: الطالبة له.
قال تعالى في وعيد المقتسمين: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ من التقسيم والتكذيب، أو عن كل ما عملوه من الكفر والمعاصي، وفي البخاري: «لنسألنهم عن لا إله إلا الله». فإن قيل: كيف يجمع بين هذا وبين قوله: فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ؟ «٢» فالجواب: أن السؤال المثبت هو على وجه الحساب والتوبيخ، والسؤال المنفي هو على وجه الاستفهام المحض لأن الله تعالى يعلم الأعمال، فلا يحتاج إلى سؤال. وقيل: في القيامة مواطن وخوارق، فموطن يقع فيه السؤال، وموطن يذهب بهم إلى النار بغير سؤال.
قال تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ: فاجهر، وصرح به، وأنْفِذْه، من صدع بالحجة:
إذا تكلم بها جهاراً. أو: فَرِّقْ، بما تؤمر به، بين الحق والباطل، وأصله: الشق والإبانة، وما: مصدرية، أو موصولة، والعائد محذوف، أي: بما تؤمر به من الشرائع. وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ فلا تلتفت إلى ما يقولون، ولا يمنعك ذلك من تبليغ الوحي والصدع به وإظهاره.
إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ بك، وبما أنزلنا إليك بأن أهلكنا كل واحد منهم بمصيبة تخصه، من غير سعى من النبي ﷺ في ذلك. وكانوا خمسة من أشراف قريش: الوليد بن المغيرة، والعاصي بن وائل، وعدي بن قيس، والأسود بن المطلب، والأسود بن يغوث، كانوا يبالغون فى إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم، والاستهزاء به، فقال جبريلُ للنبى صلى الله عليه وسلم:
«أمرتُ بأن أكفيكهم» فأومأ إلى ساق الوليد فمرَّ بنبَّالٍ فتعلق بثوبه سهم، فلم ينعطف لأخذه، تعظماً، فأصاب عرقاً في عقبه فمات. وقيل: خدش بأسفل رجله فمات من تلك الخدشة. وأومأ إلى أخمص العاص فدخلت فيها شوكة، فانتفخت حتى صارت كالرحى، فمات. وأشار إلى أنف الحارث فامتخط قيحاً فمات. وأومأ إلى الأسود ابن عبد يغوث، وهو قاعد في أصل شجرة، فجعل ينطح رأسه بالشجرة، ويضرب وجهه بالشوك حتى مات. وقيل:
استسقى بطنه فمات، ولعله جمع بينهما. وأومأ إلى عيني الأسود بن المطلب فعمي. وفي السيرة، بدل عدي بن قيس، الحارث بن الطلاطلة، وأن جبريل أشار إلى رأسه فامتخط قيحا فقتله «٣».
وقوله: العاضهة والمستعضهة: أي:
الساحرة والمستسحرة | انظر النهاية (٣/ ٢٥٥). |
(٣) أخرجه الطبراني فى الأوسط، كما فى المجمع (٧/ ٤٦)، وأبو نعيم فى الدلائل، (باب قوله: فاصدع بما تؤمر ٢/ ٣١٦) والبيهقي فى الدلائل (باب المستهزءون وأسماؤهم) من حديث ابن عباس رضي الله عنه.
ثم سلَّى نبيه عن أذاهم فقال: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ في جانبنا من الشرك والطعن في القرآن، والاستهزاء بك، فلا تعبأ بهم، ولا تلتفت إليهم. فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ أي: فنزه أنت ذاتنا وصفتنا، مكان مقالتهم فينا فإن مثلك منزهنا لا غير، وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ أي: المصلين، أو: فافزع إلى الله فيما نابك وضاق منه صدرك بالتسبيح والتحميد. وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ من المصلين، يكفك، ويكشف الغم عنك، وعنه صلى الله عليه وسلم: «أنه كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة» «١» أو: فنزهه عما يقولون، حامداً له على أن هداك للحق، وكن من الساجدين له شكراً.
وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ أي: الموت، فإنه متيقن لحاقه، وليس اليقين من أسماء الموت، وإنما العلم به يقين، لا يمتري فيه، فسمي يقيناً تجوزاً. أو: لما كان يحصل اليقين بعده بما كان غيباً سمي يقيناً. والمعنى:
فاعبده ما دمت حياً، ولا تُخِلّ بالعبادة لحظة. وفي بعض الأحاديث عنه- عليه الصلاة والسلام- أنه قال: «إِنَّ اللهَ لم يُوح إليَّ أن أجمع المال، وأكون من التاجرين، وإنما أوحى إليَّ أن: سبح بحمد ربك وكن من الساجدين، واعبد ربك حتى يأتيك اليقين» «٢». أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
الإشارة: يقال للعابد، أو الزاهد: ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم، تتمتع بحلاوته، وبالتهجد بتلاوته، ففيه كفايتك وغناك، فلا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أصنافاً من أهل الدنيا، الراغبين فيها، المشتغلين بها عن عبادة خالقها. قيل: لَمَّا نزلت هذه الآية قال صلى الله عليه وسلم: «إياكم والنظر في أبناء الدنيا، فإنه يقسي القلب ويورث حب الدنيا، ولا تكثروا الجلوس مع أهل الثروة، فتميلوا لزينة الدنيا فو الله لو كانت الدنيا تزن عندَ الله جَنَاحَ بعُوضَةٍ مَا سَقَى الكافرَ منها جرعة ماء». وقال صلى الله عليه وسلم: «من تواضع لغني لأجل غناه اقترب من النار مسيرة سنة، وذهب ثلثا دينه». هذا إن تواضع بجسمه فقط، فإن تواضع بجسمه وقلبه ذهب دينه كله.
ويقال للعارف: ولقد آتيناك شهود المعاني، وغيبناك عن حس الأواني، حتى شهدت المتكلم بالسبع المثاني، فسمعت القرآن من مُنزله دون واسطة. وذلك بالفناء، عن الوسائط، في شهود الموسوط، حتى يفنى عن نفسه في حال قراءته.
(٢) أخرجه ابن عدى فى الكامل (٥/ ١٨٩٧) والواحدي: فى الوسيط (٣/ ٥٤) والبغوي فى تفسيره (٤/ ٣٩٧) عن جبير بن نفيل، مرسلا..
فاصدع، أيها العارف الواعظ، بما تُؤمر من الأمر بالزهد، والانقطاع إلى الله، ولرفض كل ما يشغل عن الله، ولا تراقب أحداً في ذات الله، وأعرض عن المشركين، الذين أشركوا في محبة الله سواه، وشهدوا الأكوان موجودة مع الله، وهي ثابتة بإثباته، ممحوة بأحدية ذاته، فلا وجود لها في الحقيقة مع الله. فإن استهزءوا بك، وصغروا أمرك، فسيكفيكهم الله. فاشتغل بالله عنهم، فلا يضيق صدرك بما فيه يخوضون، (فسبح بحمد ربك) أي: نزِّهه عن شهود السِّوى معه، حامداً الله على ما أولاك من نعمة توحيده، (وكن من الساجدين) لله شكراً، وقياماً برسم العبودية، أو: كن من الساجدين بقلبك في حضرة القدس، حتى يأتيك اليقين «١».
وفي الورتجبي، في قوله: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَكَ يضيقُ صدرك)، قال: واسى الحقُّ حبيبَه بما سمع من أعدائه، وقال له: أنت بمرأىً منا، يضيق صدرك من لطافتك، بما يقول الجاهلون بنا في حقنا، مما لا يليق بتنزيهنا، فنزه أنت صفتنا مكان مقالتهم فينا، فإن مثلك منزهنا لا غير، وكن من الساجدين حتى ترانا بوصف ما علمت منا، وتخرج من ضيق الصدر بما تشاهد من جمالنا، فإذا كنت تعايننا سقط عنك ضيق صدرك من جهة مقالتهم. هـ.
وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق.