ﰡ
مكية. وهى مائة واثنتا عشرة آية. ومناسبتها لما قبلها: قوله تعالى: فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ «١» لأن علم ذلك إنما يظهر، حقيقة، يوم الحساب الذي صدّر به السورة، فقال تعالى:
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ١ الى ٢]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (١) مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٢)قلت: (وَهُمْ) : مبتدأ، و (فِي غَفْلَةٍ) : خبر، و (مُعْرِضُونَ) : خبر بعد خبر، والجملة: حال من الناس. و (مِنْ ذِكْرٍ) :
فاعل بيأتي. و (مِنْ) : صلة، و (مِنْ رَبِّهِمْ) : صفة لذكر، أي: حاصل من ربهم، أو متعلق بيأتيهم، أو صفة لذكر، وجملة (اسْتَمَعُوهُ) : حال من مفعول «يَأْتِيهِمْ»، بإضمار (قد) أو بدونه، والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال. و (هُمْ يَلْعَبُونَ) : حال أيضًا من فاعل «اسْتَمَعُوهُ»، و (لاهِيَةً) : حال من واو «يَلْعَبُونَ»، و (قُلُوبُهُمْ) : فاعل بلاهية.
يقول الحق جلّ جلاله: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ أي: قَرُبَ قيام الساعة التي هي محل حسابهم. قال ابن عباس: «المراد بالناس: المشركون» وهو الذي يُفصح عنه ما بعده، ولم يقل تعالى: «اقترب حساب الناس»، بل قدّم لام الجر على الفاعل للمسارعة إلى إدخال الروعة، فإن نسبة الاقتراب إليهم من أول الأمر مما يسوؤهم ويورثهم رهبة وانزعاجًا، كما أن تقديم اللام في قوله تعالى: خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً «٢» لتعجيل المسرة لأن كون الخلق لأجل المخاطبين مما يسرهم ويزيدهم رغبة وشوقًا إليه تعالى.
وفي إسناد الاقتراب إلى الحساب المنبئ عن التوجه نحوهم، مع صحة إسناد الاقتراب إليهم بأن يتوجهوا نحوه، من تفخيم شأنه، وتهويل أمره، مالا يخفى، لِمَا فيه من تصويره بشيء مقبل عليهم، لا يزال يطلبهم حتى يصيبهم لا محالة. ومعنى اقترابه: دنوه منهم شيئًا فشيئًا حتى يلحقهم لأن كل آت قريب، أي: دنا حساب أعمالهم السيئة الموجبة للعقاب.
وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ تامة منه، ساهون بالمرة عنه، غير ذاكرين له، لا أنهم غير مبالين به، مع اعترافهم بإتيانه، بل هم منكرون له، كافرون به، مُعْرِضُونَ عن الآيات والنُذر المنبهة لهم عن سِنة الغفلة. ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ
(٢) من الآية ٢٩ من سورة البقرة.
فما ينزل عليهم شيء من القرآن يذكرهم ويعظهم إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ لا يتعظون به، ولا يتدبرون في معانيه،
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٣ الى ٦]
لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٣) قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٤) بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (٥) مَآ آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (٦)
لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ ساهية، معرضة عن التفكر والتدبر في معانيه. وتقدير الآية: ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث، في حال من الأحوال، إلا حال استماعهم إياه كانوا لاعبين مستهزءين به، لاهين عنه، حال كون قلوبهم لاهيةً عنه لتناهي غفلتهم وفرط إعراضهم عن النظر والتفكر في عواقب الأمور. والله تعالى أعلم.
الإشارة: حمل الآية على العموم هو الظاهر عند الصوفية. وقد ورد عن رجل من الصحابة أنه كان يبني، فلقي بعض الصحابة فقال: ماذا نزل اليوم من القرآن؟ فقال له: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ، فنفض التراب، وقال:
والله لا بنيتُ. هـ. أي: اقترب للناس حسابهم على النقير والقطمير، وهم في غفلة عن التأهب والاستعداد، معرضون عن اتخاذ الزاد، ما يأتيهم من ذكر من ربهم، يعظهم ويُوقظهم، إلا استمعوه بآذانهم، وهم يلعبون ساهون عنه بقلوبهم لحشوها بالوساوس الشيطانية والعلائق النفسانية. لاهية قلوبهم عن التفكر والاعتبار والتدبر والاستبصار.
قال القشيري: ويقال: الغفلة على قسمين غافلٍ عن حسابه لاستغراقه في دنياه، وغافلٍ عن حسابه لاستهلاكه في مولاه، فالغفلة الأولى سِمَةُ الهجر، والثانية صِفَةُ الوصل، فالأولون لا يستفيقون من غفلتهم إلا في عسكر الموتى، وهؤلاء لا يرجعون عن غيبتهم أبَدَ الأبد لفنائهم في وجود الحق. هـ. قلت: القسمة ثلاثية: قوم غفلوا عن حسابهم لاشتغالهم بحظوظهم وهواهم، وهم: الغافلون الجاهلون، وقوم ذكروا حسابهم، وجعلوه نصب أعينهم، وتأهبوا له، وهم: الصالحون والعباد والزهاد، وقوم غفلوا عنه، وغابوا عنه لاستغراقهم في شهود مولاهم، وهم: العارفون المقربون. جعلنا الله منهم بمنِّه وكرمه.
ثم ذكر المنهمكين في الغفلة، فقال:
وَأَسَرُّوا النَّجْوَى...
وقال قطرب: على لغة بعض العرب، يقولون: أكلوني البراغيث، وهي بلغة بلحارث وغيرهم. وقال الفراء: بدل من الناس، أي: اقترب للناس وهم الذين ظلموا. و (هَلْ هذا..) الخ: بدل من النجوى، أو مفعول بقول مضمر، كأنه قيل: ماذا قالوا في نجواهم؟ فقيل: قالوا: هل هذا.. الخ و (أَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) : حال من واو «تأتون» مقررة للإنكار، مؤكدة للاستبعاد. و (مِنْ قَرْيَةٍ) : فاعل آمنت، و «مِنْ» : صلة للعموم. و (أَهْلَكْناها) : صفة لقرية.
يقول الحق جلّ جلاله: وَأَسَرُّوا النَّجْوَى: أخفوا تناجيهم بحيث لم يشعر أحد بما قالوا، وهم الَّذِينَ ظَلَمُوا بالكفر والطغيان، قائلين في تلك النجوى الشنيعة: هَلْ هذا أي: ما هذا الرجل الذي يزعم أنه رسول إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أي: من جنسكم، وما أتى به سحر، أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ أي: تعلمون ذلك فتأتونه، وتحضرونه على وجه الإذعان والقبول، وأنتم تعاينون أنه سحر؟. قالوا ذلك، بناء على ما ارتكز في اعتقادهم الزائغ، أن الرسول لا يكون إلا مَلَكًا، وأنَّ كل ما يظهر على يد البشر من الخوارق هو من قبيل السحر، وغاب عنهم أن إرسال البشر إلى البشر هو الذي تقتضيه الحكمة التشريعية. قاتلهم الله أنَّى يؤفكون. وإذا أسروا ذلك ولم يعلنوه لأنه كان على طريق توثيق العهد خفية، وتمهيدًا لمقدمات المكر والكيد في هدم أمر النبوة، وإطفاء نور الدين. وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ.
ثم فضح الله سرهم ونجواهم بقوله: قالَ «١» رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ أي: قل يا محمد: ربي يعلم القول، سرًا كان أو جهرًا، سواء كان في السماء أو الأرض، فلا يخفى عليه ما تناجيتم به، فيفضحكم به ويجازيكم عليه. وقرأ أكثر أهل الكوفة: (قالَ) على الخبر، وهو حكاية من جهته تعالى لِمَا قاله- صلى الله عليه وسلم- بعد ما أوحى إليه أحوالهم وأقوالهم بيانًا لظهور أمرهم وانكشاف سرهم، وإيثار القول المشتمل على السر والجهر للإيذان بأن علمه تعالى بالسر والجهر على وتيرة واحدة، لا تفاوت بينهما بالجلاء والخفاء، كما في علوم الخلق.
وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ أي: المبالغ في العلم بالمسموعات والمعلومات، التي من جملة ما أسروه من النجوى، فيجازيهم بأقوالهم وأفعالهم. بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ، هو إضراب من جهته تعالى، وانتقال من حكاية قولهم السابق إلى حكاية قول آخر مضطرب في مضارب البطلان، أي: لم يقتصروا على أن يقولوا في حقه- عليه الصلاة والسلام-: هل هذا إلا بشر، وفي حق ما ظهر على يديه من القرآن الكريم: إنه السحر، بل قالوا: هو تخاليط
وهكذا شأن المبطل المحجوج، متحير، لا يزال يتردد بين باطل وأبطل، ويتذبذب بين فاسد وأفسد.
فالإضراب الأول، كما ترى، من جهته تعالى، والثاني والثالث من قِبلهم. وقد قيل: الكل من قِبلهم، حيث أضربوا عن قولهم: هو سحر، إلى أنه تخاليط أحلام، ثم إلى أنه كلام مفترى، ثم إلى أنه قول شاعر، وهو بعيد لأنه لو كان كذلك لقال: قالوا: بل أضغاث أحلام... الخ.
ثم قالوا: فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ وهو جواب عن شرط محذوف، يُفصح عنه السياق، كأنه قيل: وإن لم يكن كما قلنا، بل كان رسولاً من الله تعالى، فليأتنا بمعجزة ظاهرة كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ أي: مثل الآية التي أُرسل بها الأولون كاليد، والعصا، والناقة وشبه ذلك. فالكاف: صفة لمصدر محذوف، أي: إتيانًا مثل إتيان الأولين.
قال تعالى: ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أي: أهلكنا أهلها، أَفَهُمْ أي: هؤلاء المقترحون عليك الآيات، يُؤْمِنُونَ أي: قد اقترحت الأمم السالفة الآيات على رُسلها، فأعطوا ما اقترحوا، فلم يؤمنوا، فأهلكناهم، فكيف يؤمن هؤلاء، وهم أعتى منهم؟ فالهمزة: لإنكار الوقوع، والفاء: للعطف على مقدر، فأفادت إنكار وقوع إيمانهم. والمعنى: لم تُؤمن أمة من الأمم المهلكة عند إعطاء ما اقترحوه من الآيات، أهم لم يؤمنوا، فهؤلاء يُؤمنون، لو أُجيبوا إلى ما سألوا وأُعطوا ما اقترحوه، مع كونهم أعتى منهم وأطغى؟ فهم في اقتراح الآيات كالباحث على حتفه فطلبه، وفي ترك إجابتهم إبقاء عليهم، كيف لا، ولو أعطوا ما اقترحوا، مع عدم إيمانهم قطعًا، لوجب استئصالهم، بجريان سُنَّةِ الله تعالى في الأمم السالفة أن المقترحين، إذا أُعطوا ما اقترحوا، فلم يؤمنوا، نزل بهم عذاب الاستئصال لا محالة، وقد سبقت كلمة الحق منه تعالى أن هؤلاء لا يُعذبون بعذاب الاستئصال، فلذلك لم يُظهر لهم ما اقترحوا من الآيات. والله تعالى أعلم.
الإشارة: العلماء بالله، الداعون إلى الله، هم ورثة الأنبياء والرسل، فما قيل في الأصل قد قيل في الفرع، فكل عصر يُوجد من يُنكر على خواص ذلك العصر، ويرميهم بالسحر والجنون. والافتراء على الله سنة ماضية. غير أن أولياء هذه الأمة على قدم نبيهم، رحمة للعالمين، فمن آذاهم لا يُعاجَل بالعقوبة في الغالب، وقد تكون باطنية، كقسوة القلوب، والخذلان، والشكوك، والأوهام. وهذا الوصف فى العارفين الكلمة، وأما الزهاد والعباد والصالحون:
فمن آذاهم عُوجل بالعقوبة في الغالب لنقص كمالهم، وعدم اتساع دائرة معرفتهم. وبالله التوفيق.
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٧ الى ١٠]
وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٧) وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ (٨) ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (٩) لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٠)
يقول الحق جلّ جلاله في جواب قول الكفرة: هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ «١» بعد تقديم الجواب عن قولهم: فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ لأنهم قالوه بطريق التعجيز، فلابد من المسارعة إلى رده، كما تقدم مرارًا في الكتاب العزيز، كقوله إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ.. «٢» الآية، مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ الآية «٣». إلى غير ذلك، فقال جلّ جلاله: وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ في الأمم السالفة إِلَّا رِجالًا بشرًا من جنس القوم الذين أُرسلوا إليهم لأن مقتضى الحكمة أن يُرسل البشر إلى البشر، والملَك إلى الملَك، حسبما نطق به قوله تعالى: قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا «٤» فإن عامّة البشر لا تطيق المفاوضة مع الملك لتوقفها على التناسب بين المفاوض والمستفيض فبعث لكل جنس ما يناسبه للحكمة التي يدور عليها فلك التكوين والتشريع، والذي تقتضيه الحكمة الإلهية أن يبعث الملك إلى خواص البشر المختصين بالنفوس الزكية، المؤيّدين بالقوة القدسية، المتعلقين بالعالم الروحاني والجسماني، ليتلَقوا من جانب العالم الروحاني، ويلقوا إلى العالم الجسماني، فبعث رجالاً من البشر يوحي إليهم على أيدي الملائكة أو بلا واسطة.
والمعنى: وما أرسلنا إلى الأمم، قبل إرسالك إلى أمتك، إلا رجالاً مخصوصين من أفراد الجنس، متأهلين للاصطفاء والإرسال، نُوحِي إِلَيْهِمْ، بواسطة الملك، ما يُوحي من الشرائع والأحكام، وغيرهما من القصص والأخبار، كما يُوحي إليك من غير فرق بينهما، فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ أي: فاسألوا، أيها الجهلة، أهلَ العلم كأهل الكتب الواقفين على أحوال الرسل السالفة- عليهم الصلاة والسلام- لتزول شبهتكم إن كنتم لا علم لكم بذلك. أُمروا بذلك لأن إخبار الجم الغفير يُوجب العلم الضروري، لا سيما وهم كانوا يشايعون المشركين عداوته صلى الله عليه وسلم، ويشاورونهم في أمورهم، فإذا أخبروهم أن الرسل إنما كانوا بشرًا، ولم يكونوا ملائكة، حصل لهم العلم بالحق، وقامت الحجة عليهم.
(٢) من الآية ٣٣ من سورة هود.
(٣) الآية ٨ من سورة الحجر.
(٤) الآية ٩٥ من سورة الإسراء.
ثم بيَّن كون الرسل- عليهم الصلاة والسلام- أسوة لأفراد الجنس في أحكام البشرية، فقال: وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً أي: أجسادًا، فالإفراد لإرادة الجنس، أو ذوي جسد، لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ أي: وما جعلناهم أجسادًا صمدانيين، أغنياء عن الطعام والشراب، بل مُحتاجين إلى ذلك لتحقيق العبودية التي اقتضت شرفهم. وَما كانُوا خالِدِينَ لأن كل مَن يفتقر إلى الغذاء لا بد يتحلل بدنه بسرعة، حسبما جرت العادة الإلهية، والمراد بالخلود: المكث المديد، كما هو شأن الملائكة أو الأبدية. وهم معتقدون أنهم كانوا يموتون. والمعنى: بل جعلناهم أجسادًا مفتقرة صائرة إلى الموت عند انقضاء آجالهم، لا ملائكة ولا أجسادًا صمدانية.
ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ بالنصر وإهلاك أعدائهم، وهو عطف على ما يُفْهَمُ من وحيه تعالى إليهم، كأنه قيل:
أوحينا إليهم ما أوحينا، ثم صدقناهم في الوعد، الذي وعدناهم في تضاعيف الوحي، بإهلاك أعدائهم، فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ من المؤمنين وغيرهم، ممن تستدعي الحكمة إبقاءه، كمن سَيُؤمن هو أو بعض فروعه، وهو السر في حماية العرب من عذاب الاستئصال. أو يخص هذا العموم بغير نبي الرحمة ﷺ فإن أمته لا تستأصل، وإن بقي فيها من يكفر بالله لعل الله يُخرج من أصلابهم مَن يُوحد الله تعالى. وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ أي: المجاوزين الحد في الكفر والمعاصي.
ولمّا ذكر برهان حَقِّيَّةِ الرسول- عليه الصلاة والسلام- ذكر حقية القرآن المنزل عليه، الذي ذكر في صدر السورة إعراض الناس عما يأتيهم من آياته، فقال: لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ، صدّره بالقسم إظهارًا لمزيد الاعتناء بمضمونه، وإيذانًا بكون المخاطبين في أقصى مراتب التنكير، أي: والله لقد أنزلنا إليكم، يا معشر قريش، كِتاباً عظيم الشأن نيّر البرهان. فالتنكير للتفخيم، أي: كتابًا جليل القدر فِيهِ ذِكْرُكُمْ أي: شرفكم وحسن صيتكم، كقوله تعالى: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ «١»، أو فيه تذكيركم وموعظتكم، أو ما تحتاجون إليه في أمر دينكم ودنياكم، أو ما تطلبون به حسن الذكر والثناء من مكارم الأخلاق، أَفَلا تَعْقِلُونَ فتتدبروا في معانيه حتى تُدركوا حقيته. فالهمزة للإنكار التوبيخي. وفيه حث لهم على التدبر في أمر الكتاب، والتأمل في تضاعيفه من فنون المواعظ والزواجر، التي من جملتها القوارع السابقة واللاحقة، والمعطوف: محذوف، أي: أَعَمِيَتْ بصائركم فلا تعقلون؟ والله تعالى أعلم.
ولا فرق بين خصوصية النبوة والولاية في الاتصاف بأوصاف البشرية، التي لا تُؤدي إلى نقص في مراتبهم العلية. وتتميز خصوصية النبوة من الولاية بوحي الأحكام، وتتميز خصوصية الولاية من العمومية بالتطهير من الرذائل والتحلي بالفضائل، وبالغيبة عن رؤية الأكوان، بإشراق شمس العرفان، وذلك بالفناء عن الأثر بشهود المؤثِر، ثم بالبقاء بشهود الأثر حكمةً، مع الغيبة عنه، قدرةً، ولا يعرف هذا إلا أهل الذكر الحقيقي، فلا يعرف مقام الأولياء إلا من دخل معهم، ولا يُسأل عنهم إلا أمثالُهم (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ). فلا يشترط في الولي استغناؤه عن الطعام والشراب إذ لم يكن للأنبياء، فكيف بالأولياء؟ ولا استغناؤه عن النساء، قال تعالى:
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً «١»، نعم صاحب الخصوصية مالك لنفسه من غلبة الشهوة عليه، ينزل إلى أرض الحظوظ بالإذن والتمكين، والرسوخ في اليقين. جعلنا الله منهم بمنِّه وكرمه. وتقدم الكلام على قوله تعالى: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ في سورة النحل «٢». وبالله التوفيق.
ثم بيَّن ما أجمل في قوله: (وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ)، فقال:
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ١١ الى ١٥]
وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ (١١) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ (١٢) لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ (١٣) قالُوا يَا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (١٤) فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ (١٥)
قلت: كم: خبرية مفيدة للتكثير، ومحلها نصب، مفعول بقصمنا، و (مِنْ قَرْيَةٍ) : تمييز، و (كانَتْ..) الخ: صفة لقرية.
يقول الحق جلّ جلاله: وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ أي: كثيرا أهلكنا من أهل قرية كانَتْ ظالِمَةً بآيات الله تعالى، كافرين بها. وفي لفظ القصم- الذي هو عبارة عن الكسر بإبانة أجزاء المكسور وإزالتها بالكلية- من الدلالة على قوة الغضب والسخط ما لا يخفى. وَأَنْشَأْنا أي: أحدثنا بَعْدَها أي: بعد إهلاكها قَوْماً آخَرِينَ ليسوا منهم نسبًا ولا دينًا، ففيه تنبيه على استئصالهم وقطع دابرهم بالكلية. فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا أي: أدركوا عذابنا الشديد إدراك المشاهدَ المحسوس إِذا هُمْ مِنْها أي: من القرية يَرْكُضُونَ:
يهربون مدبرين راكضين دوابهم. فقيل لهم، بلسان الحال أو المقال من الملَك، أو ممن حضرهم من المؤمنين،
(٢) الآية ٤٣ من سورة النحل.
قيل: نزلت في أهل حاضُورا، قرية باليمن، وكان أهلها العرب، فبعث الله إليهم نبيًا فكذبوه وقتلوه، فسلط الله تعالى عليهم بُخْتنصَّرْ، فقتلهم وسباهم، فلما انهزموا وهربوا قالت لهم الملائكة: لا تركضوا، وارجعوا إلى مساكنكم وأموالكم استهزاءً بهم، وأتبعهم بُختنصر، فأخذتهم السيوف، ونادى منادٍ من السماء: يا لَثَارات الأنبياء، فلما رأوا ذلك أقروا بالذنوب حين لم ينفعهم، فقالوا: يا وَيْلَنا يا هَلاَكنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ مستوجبين العذاب. وهذا اعتراف منهم وندَم حين لم ينفعهم ذلك.
فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ أي: فما زالوا يُرددون تلك الكلمة، ويدعون بها، ويقولون: يا ويلنا، حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً أي: مثل الحصيد، وهو المحصود من الزرع والنبات، فهو فعيل بمعنى مفعول، فلذلك لم يجمع، كجريح وقتيل. وجعلناهم خامِدِينَ ميتين، من خمدت النار إذا طفئت. وهو، مع «حَصِيداً»، في حيز المفعول الثاني لجعل، كقولك: جعلته حلوًا حامضًا، والمعنى: جعلناهم جامعين لمماثلة الحصيد والخمود، أو حال من الضمير المنصوب في «جَعَلْناهُمْ»، ولفظ الآية يقتضي العموم. والله تعالى أعلم.
الإشارة: وكم من قريةٍ من قرى القلوب قصمنا أهلها، أي: ما فيها من الشكوك والأوهام، كانت ظالمة بتلك الخواطر، فأخرجناهم منها، وأنشأنا بعدها أنوارًا وأسرارًا وعلومًا آخرين. فلما أحسوا بأسنا بورود الواردات الإلهية عليها، التي تأتي من حضرة القهار، إذا هم منها يركضون لأن الواردات الإلهية تأتي من حضرة القهّار، لأجل ذلك لا تصادم شيئًا من الظلمات إلا دمغته، فيقال لتلك الظلمات، التي هي الشكوك والأوهام: لا تركضوا، ولكن ارجعوا أنوارًا، وانقلبوا وارداتٍ وأسرارًا، وتنعموا في محلكم بشهود الحق، لعلكم تُسألون، أي: تُسْتَفْتَوْنَ في الأمور، لأن القلب إذا صفا من الأكدار استفتى في العلوم، وفي الأمور التي تعرض، قالوا بلسان الحال- أي تلك الظلمات-:
يَا وَيْلَنَآ إِنَّا كُنَّا ظالمين بحجب صاحبنا عن الله، فَمَا زَالَت تِّلْكَ دَعْوَاهُمْ حتى صاروا خامدين، هامدين، ساكنين تحت مجاري الأقدار، مطمئنين بالله الواحد القهار، وهذه إشارة دقيقة، لا يفهمها إلا دقيق الفهم غزير العلم. وبالله التوفيق.
ثم بيّن أن إهلاك تلك القرى الظالمة كان لحكمة بليغة ومصلحة بديعة، ولم يكن عبثا لأنه تعالى مُنزه عن اللعب فى خلقه، فقال:
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ١٦ الى ١٨]
وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (١٦) لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ (١٧) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (١٨)قلت: (لاعِبِينَ) : حال من فاعل خلق، و «إِنْ كُنَّا» : شرط حُذف جوابه، أي: إن كنا فاعلين اتخذناه من لّدُنا، وقيل: نافية.
يقول الحق جلّ جلاله: وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما من المخلوقات التي لا تُحصى أجناسها، ولا تُعد أفرادها، ولا تُحصر أنواعها وآحادها، على هذا النمط البديع والأسلوب الغريب، لاعِبِينَ خالية عن الحِكم والمصالح، بل لحِكَم بديعة ومصالح عديدة، دينية تَقْضي بسعادة الأبد أو بشقاوته، ودنيوية لا تُعد ولا تُحصى، وهذا كقوله: وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا «١»، فالمراد من الآية: إشارة إجمالية إلى أن تكوين العالم، وإبداع بني آدم، مؤسس على قواعد الحِكَم البالغة، المستتبعة للغايات الجليلة، وتنبيه على أن ما حكي من العذاب الهائل، والعقاب النازل بأهل القُرى، من مقتضيات تلك الحِكم، ومتفرع عليها حسبما اقتضته أعمالهم. وإنما فعل ذلك عدلاً منه، ومجازاة على أعمالهم، وأن المخاطبين المتقدمين- وهو قريش- على آثارهم لأن لهم ذنوبًا مثل ذنوبهم. وإنما عبَّر عن نفي الحكمة باللعب، حيث قال: لاعِبِينَ لبيان كمال تنزهه تعالى عن الخلق الخاليِ عن الحكمة، بتصويره بصورة ما لا يرتاب أحد في استحالة صدوره منه سبحانه، وهو اللهو واللعب، بل إنما خلقناهما، وما بينهما لتكون مبدأ الوجود الإنساني وسببًا لمعاشه، ودليلاً يقوده إلى تحصيل معرفتنا، التي هي الغاية القصوى والسعادة العظمى.
ثم قرر انتفاء اللعب واللهو عنه، فقال: لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً أي: ما يلهى به ويلعَب، لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا أي: من أنفسنا لعلمنا بحقائق الأشياء، واستغنائنا عن جلب المصالح ودرء المفاسد. والمعنى: لو أردنا أن نخلق شيئًا، لا لتحصيل مصلحة لكم، ولا لدرء مفسدة عنكم، لفعلنا ذلك في أنفسنا بأن نخلق عوالم ومظاهر عارية عن الحكمة والمصلحة لأنا أحق منكم بالاستغناء عما يجلب المصلحة ويدرأ المفسدة، لكن من عادتنا ربط الأسباب بمسبباتها، وأنا لم نخلق شيئًا عبثًا، بل خلقنا كل نوع من النبات والحيوانات والجمادات لمصلحة ومنفعة، عَلِمها، من عَلِمها وجَهِلَها من جَهِلَها، فحصل من هذا نفي التحسين والتقبيح عقلاً، بهذه الشرطية، وإثباته سمعا.
وسأل طاوسُ ومجاهدُ الحسنَ عن هذه الآية؟ فقال: اللهو: المرأة. وقال ابن عباس: «الولد». ومعنى (لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا) : بحيث لا يطلعون عليه، وما اتخذنا نساء وولدًا من أهل الأرض. نزلت في الذين قالوا: اتخذ الله ولدًا.
وتكون الآية، حينئذ تتميمًا لِما قبلها، أي: ليس اللعب واللهو من شأننا، إذ لو أردنا أن نتخذ لهوًا لاتخذناه من لدنا.
قال شيخ شيوخنا، سيدي عبد الرحمن الفاسي: حمل الآية على الزوجة غير مفيد، إلا أن يراد بذلك مجرد الرحمة والشفقة، مما يمكن عقلاً، فيصح دخول النفي الشرعي عليه. انظر ابن عرفة، فقد جوّز، عقلاً، اتخاذه على معنى الرحمة. وكذا ابن عطية في آية الزمر «١». ومنع ذلك القشيري. قلت: وكأنه لِما يشير إليه قوله تعالى: هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ «٢» فإن القهر لا يناسب التبني بوجه، وقد يقال: إنه مانع سمعي شرعي، لا عقلي، فلا يخالف ما قاله ابن عرفة ولا ابن عطية. وفيه نظر لأنه يُؤدي إلى تعطيل اسمه القهار ونحوه، وهو محال، والله أعلم هـ.
قلت: قد حمل النسفي الآية على الولد، فقال: لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً أي: ولدًا، أو امرأة، ردٌّ على مَن قال عيسى ابنه، ومريم صاحبته، لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا من الولدان أو الحور، إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ أي: إن كنا ممن يفعل ذلك، ولسنا ممن يفعله لاستحالته في حقنا. هـ. قلت: والذي تكلف الحمل الأول رأى أن حمله على الولد يقتضي جواز الاتخاذ عقلاً وإنما منعه عدم الإرادة. وأجاب ابن عرفة: بأن يحمل الاتخاذ على معنى الرحمة، لا على حقيقة البنوة. قلت: من خاض بحار التوحيد الخاص وحاز مقام الجمع، لا يتوقف في مثل هذا إذ تجليات الحق لا تنحصر، لكن لم يوجد منها، ولم تتعلق إرادته إلا بما هو كمال في حقه تعالى في باب القدرة، وأما باب الحكمة، فهي رداء لمحل النقائص، فافهم، وأصحب أهلَ الجمع حتى يفهموك ما ذكرتُ لك، والسلام.
ثم قال تعالى: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ أي: نرمي بالحق، الذي هو الجد، على الباطل، الذي من جملته اللهو، وهو إضراب عن اتخاذ الولد، بل عن إرادته، كأنه قيل: لكنا لا نريده، بل شأننا أن نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ: فيمحقه بالكلية، كما فعلنا بأهل القُرى المحكية وأمثالهم. وقد استعير، لإيراد الحق على الباطل، القذف، الذي هو الرمي الشديد، وللباطل الدمغ، الذي هو تشتيت الدماغ وتزهيق الروح، فكأنَّ الباطل حيوان له دماغ، فإذا تشتت دماغه مات واضمحل، فَإِذا هُوَ زاهِقٌ أي: فإذا الباطل ذاهب بالكلية، متلاش عن أصله. وفي (إذا) الفجائية والجملة الاسمية من الدلالة على كمال السُرعة في الذهاب والبطلان ما لا يخفى.
(٢) من الآية ٤ من سورة الزمر.
الإشارة: ما نصبت لك الكائنات لتراها كائنات، بل لتراها أنوارًا وتجليات، الأكوان ثابتة بإثباته، ممحوة بأحدية ذاته، فالغير والسِّوى عند أهل الحق باطل، والباطل لا يثبت مع الحق. قال تعالى (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ). قال القشيري: نُدْخِلُ نهارَ التحقيق على ليالي الأوهام، أي: فتمحى، وتبقى شمس الأحدية ساطعة. هـ. وبالله التوفيق.
ثم قرر وحدانيته تعالى في ملكه وملكوته، فقال:
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ١٩ الى ٢٥]
وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (١٩) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ (٢٠) أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (٢١) لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٢٢) لاَ يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ (٢٣)
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٤) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ (٢٥)
يقول الحق جلّ جلاله: وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي: له جميع المخلوقات، خلقًا ومِلكًا، وتدبيرًا وتصرفًا، وإحياء وإِماتة، وتعذيبًا وإثابة، من غير أن يكون لأحد في ذلك دخل، لا استقلالاً ولا استتباعًا، ولا فرق بين أهل العالم العلوي والسفلي، وَمَنْ عِنْدَهُ وهم الملائكة- عليهم السلام- عبَّر عنهم بذلك إثر ما عبَّر عنهم بمن فى السموات تنزيلاً لهم- لكرامتهم عليه، وزلفاهم عنده- منزلة المقربين عند الملك، وهو مبتدأ وخبره:
لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ أي: لا يتعاظمون عنها، ولا يَعُدون أنفسهم كبراء، وَلا يَسْتَحْسِرُونَ أي: لا يكِلُّون ولا يَعْيون، يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ أي: ينزهونه في جميع الأوقات، ويُعظمونه ويمجدونه دائمًا. وهو استئناف بياني، كأنه قيل: ماذا يصنعون في عبادتهم، أو كيف يعبدون؟ فقال: يُسبحون... الخ.
لا يَفْتُرُونَ أي: لا يتخلل تسبيحَهم فترة أصلاً، ولا شغل آخر.
هُمْ يُنْشِرُونَ: التنبيه على كمال مباينة حالهم للإنشار، الموجبة لمزيد الإنكار، كما في قوله تعالى: أَفِي اللَّهِ شَكٌّ «١». وفي قوله تعالى: أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ «٢»، فإنَّ تقديم الجار والمجرور للتنبيه على كمال مباينة أمره تعالى لأن يشك فيه ويستهزأ به.
ثم أبطل الاشتراك في الألوهية، فقال: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ أي: لو كان في السماوات والأرض آلهة غير الله، كما هو اعتقادهم الباطل، لَفَسَدَتا أي: لفسد نظامهما بما فيهما، لوجود التمانع، كعادة الملوك، أو لبطلتا بما فيهما، ولم يوجد شيء منهما للزوم العجز لهما، بيان ذلك: أن الألوهية مستلزمة للقدرة على الاسْتِبْدَادِ بالتصرف فيهما على الإطلاق، تغييرًا وبديلاً، وإيجادًا وإعدامًا، وإحياء وإماتة، فبقاؤهما على ما هما عليه من غير فساد، إما بتأثير كل منها، وهو محال لاستحالة وقوع الأثر الواحد بين مؤثرين، وإما بتأثير واحد منها، فالباقي بمعزل عن الإلهية، والمسألة مقررة في علم الكلام.
و (إِلَّا) : صفة لآلهة، كما يُوصف بغير، ولمَّا كانت حرفًا، ظهر إعرابها في اسم الجلالة، ولا يصح رفعه على البدل لعدم وجود النفي. ثم قال تعالى: فَسُبْحانَ اللَّهِ أي: فسبحوا سُبحان الله اللائق به، ونزهوه عما لا يليق به من الأمور، التي من جملتها: أن يكون له شريك في الألوهية. وإيراد الجلالة في موضع الإضمار، حيث لم يقل فسبحانه للإشعار بعلية الحكم، فإن الألوهية مناط لجميع صفات كماله، التي من جملتها: تنزهه تعالى عما لا يليق به، ولتربية المهابة وإدخال الروعة. ثم وصفه بقوله: رَبِّ الْعَرْشِ، وخصه بالذكر، مع كونه رب كل شيء لعظم شأنه لأنَّ الأكوان في جوفه كلا شيء، أي: تنزيهاً له عما يصفونه عن أن يكون من دونه آلهة.
ثم بيَّن قوة عظمته وعز سلطانه القاهر، فقال: لاَ يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ أي: لا يمكن لأحد من مخلوقاته أن يناقشه أو يسأله عما يفعل هيبةً وإجلالاً، وَهُمْ يُسْئَلُونَ أي: وعباده يُسألون عما يفعلون، نقيرًا وقطميرًا لأنهم مملوكون له تعالى، مستعبدون، ففيه وعيد للكفرة، فالآية تتميم لقوله: (لاعِبِينَ)، بل خلقنا الأشياء كلها
(٢) من الآية ٦٥ من سورة التوبة.
ثم قال تعالى: أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً، هو إضراب وانتقال من إظهار بطلان كون ما اتخذوه آلهة بإظهار خلوها من خصائص الألوهية، التي من جملتها إنشار الموتى، وإقامة البرهان القاطع على استحالة تعدد الإله، إلى إظهار بُطلان اتخاذهم تلك الآلهة، مع عرائها عن تلك الخصائص، وتبكيتهم بإلجائهم إلى إقامة البرهان على دعواهم الباطلة. والهمزة: لإنكار ما اتخذوه واستقباحه، أي: بل اتخذوا من دونه- أي: متجاوزين إياه تعالى، مع ظهور شؤونه الجليلة الموجبة لتفرده بالألوهية- آلهة، مع ظهور خلوهم عن خصوص الإلهية بالكلية.
قُلْ لهم، بطريق التبكيت: هاتُوا بُرْهانَكُمْ على ما تَدَّعونَه، من جهة العقل والنقل فإنه لا صحة لقول لا دليل عليه في الأمور الدينية، لا سيما في هذا الأمر الخطير، فإن بُهتوا فقل لهم: هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي أي: بهذا نطقت الكتب السماوية قاطبة، وشهدت به سُنَّة الرسل المتقدمة كافة. فهذا الوحي الوارد في شأن التوحيد المتضمن للبرهان القاطع ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ من أمتي، أي: عظتهم، وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي من الأمم السالفة، أي: بهذا أمَرنا ربُنا ووعظنا، وبه أمر مَنْ قبلنا، يعني: انفراده سبحانه بالألوهية واختصاصه بها.
وقيل: المعنى: هذا كتاب أُنزل على أمتي، وهذا كتاب أُنزل على أمم الأنبياء- عليهم السلام- قبلي، فانظروا:
هل في واحد منها غير الأمر بالتوحيد والنهي عن الإشراك، ففيه تبكيت لهم. بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ أي: لا يفهمونه، ولا يميزون بينه وبين الباطل، فهو إضراب وانتقال من تبكيتهم بمطالبة البرهان، إلى بيان أنه لا ينجع فيهم المحاججة لجهلهم وعنادهم، ولذلك قال: فَهُمْ مُعْرِضُونَ أي: فهم لأجل جهلهم وعتوهم مستمرون على الإعراض عن التوحيد واتباع الرسول، لا يَرْعَوُونَ عما هم عليه من الغي والضلال، وإن كررت عليهم البينات والحجج. أو معرضون عما ألقى عليهم من البراهين العقلية والنقلية لانهماكهم.
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي «١» إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ، هذا مُقَرِّر لِما قبله مِن كون التوحيد مما نطقت به الكتب الإلهية، وأجمعت عليه الرسل- عليهم السلام- قاطبة. وصيغة المضارع في (يوحى) لحكاية الحال الماضية استحضاراً لصورة الوحي العجيبة. والله تعالى أعلم.
الإشارة: قوله تعالى: (وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ)، العندية، هنا، عندية اصطفاء وتقريب، وهذه صفة العارفين المقربين، لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ، بل خاضعون لجلاله وقهريته على الدوام، ولا يستحسرون:
وقوله تعالى: أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً... الخ، تَصْدُق على من مال بقلبه إلى محبة الأكوان، أو ركن إلى الحظوظ والشهوات، وقوله تعالى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا، اعلم أن ثلاثة اشياء إذا تعدد مدبرها فسد نظامها أولها: الألوهية، فلو تعددت لفسد نظام العالم، وثانيها: السلطنة، إذا تعددت في قُطْر واحد فسدت الرعية، وثالثها:
الشيخوخة، إذا تعددت على مريد واحد فسدت تربيته، كالطبيب إذا تعدد على مريض واحد فسد علاجه. والله تعالى أعلم.
وقوله تعالى: لاَ يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ قال الكواشي: يعني: لا يُسأل عن فعله وحُكمه لأنه الرب، وهم يُسألون لأنهم عبيده. وبعض الناس يقول: هذه آية الدبوس «١». قلت: وقد تقلب السين زايًا، ومعناها: أن كل ما تحكم به القدرة: يجب حنو الرأس له، من غير تردد ولا سؤال. ثم قال: ولو نظر النظر الصحيح لرآها أنصف آية في كتاب الله تعالى وذلك لأنه جمع فيها بين صفة الربوبية وصفة العبودية. هـ.
وقوله: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلهَ إِلَّا أَنَا يعني: أن التوحيد مما أجمعت عليه الرسل والكتب السماوية. والفناء فيه على ثلاثة أقسام: فناء في توحيد الأفعال، وهو ألاَّ يرى الفعل إلا من الله، ويغيب عن الوسائط والأسباب، وفناء في توحيد الصفات، وهو أن يرى ألا قادر ولا سميع ولا بصير ولا متكلم إلا الله، وفناء في توحيد الذات، وهو أن يرى ألا موجود إلا الله، ذوقًا ووجدًا وعقدًا. كما قال صاحب العينية:
هو الموجد الأشياء، وهو وجودها | وعين ذوات الكل، وهو الجَوَامِعُ «٢» |
فيفنى، ثم يفنى، ثم يفنى، | فكان فناؤه عين البقاءِ |
(٢) المراد: أن الحق تعالى قيوم الأشياء ومفيضها من العدم، والمتجلى عليها بمراده منها، إذ أنها فى ذاتها فانية من قبل ومن بعد لأنه لا قيومية لها من ذاتها. هذا هو المعنى الذي ينبغى أن يفهم من خلال هذا البيت وأشباهه. [.....]
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٢٦ الى ٢٩]
وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (٢٦) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (٢٧) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (٢٨) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٢٩)
يقول الحق جلّ جلاله: وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً، حكى الله تعالى جناية أخرى لبعض المشركين، جيء بها لبيان بطلانها. والقائل بهذه المقالة حيٌ من خزاعة، وقيل: قريش وجهينة وبنو سلمة وبنو مليح، يقولون: الملائكة بنات الله، وأمهاتهم سروات الجن، تعالى الله عن قولهم علوًا كبيرًا. والتعرض لعنوان الرحمانية المنبئة عن كون جميع ما سواه مربوباً له تعالى، نعمة أو منعمًا عليه لإبراز كمال شناعة مقالتهم الباطلة، سُبْحانَهُ أي: تنزه تنزيهًا يليق بكمال ذاته، وتقدَّس عن الصاحبة والولد، بَلْ هم عِبادٌ لله تعالى، و «بَلْ» إبطال لما قالوا، أي: ليست الملائكة كما قالوا، بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ مقربون عنده، لا يَسْبِقُونَهُ أي: لا يتقدمونه بِالْقَوْلِ، ولا يتكلمون إلا بما يأمرهم به. وهذه صفة أخرى لهم، منبهة على كمال طاعتهم وانقيادهم لأمره تعالى، أي: لا يقولون شيئًا حتى يقوله تعالى أو يأمرهم به. وأصله: لا يسبق قولُهم قولَه، ثم أسند السبق إليهم لمزيد تنزههم عن ذلك، وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ أي: لا يعملون إلا ما أمرهم به، وهو بيان لتبعيتهم له تعالى في الأفعال، إثر بيان تبعيتهم له في الأقوال، فإن نفي سبقيتهم له تعالى بالقول: عبارة عن تبعيتهم له تعالى فيه، كأنه قيل: هم بأمره يقولون وبأمره يعملون، لا بغير أمره أصلاً.
يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ أي: ما عملوا وما هم عاملون، وقيل: ما كان قبل خلقهم وما يكون بعد خلقهم. وهو تقرير لتحقق عبوديتهم لأنهم إذا كانوا مقهورين تحت علمه تعالى وإحاطته انتفت عنهم أوصاف الربوبية المكتَسبَة من مجانسة البنوة، وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى أن يشفع له، مهابة منه تعالى. قال ابن عباس: «هم أهل لا إله إلا الله»، وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ عزّ وجلّ مُشْفِقُونَ: خائفون مرتعدون. قال بعضهم: أصل الخشية: الخوف مع التعظيم، ولذلك خص بها العلماء، وأصل الإشفاق: الخوف مع الاعتناء، فعند تعديته بمن: يكون معنى الخوف فيه أظهر، وعند تعديته بعلى: ينعكس الأمر فيكون معنى الإشفاق فيه أظهر.
وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ أي: من الملائكة إذ الكلام فيهم، إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ أي: متجاوزًا إياه تعالى، فَذلِكَ الذي فرض أنه قال ذلك فرض المحال، نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كسائر المجرمين، ولا ينفي هذا عنهم
قال الكواشي: هذا القول وارد على سبيل التهديد والوعيد الشديد على ارتكاب الشرك، كقوله: وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَّا كانُوا يَعْمَلُونَ «١». هـ. فالقصد: تفظيع أمر الشرك، وأنه لو صدر ممن صدر لأحبط عمله، وكان جزاء صاحبه جهنم، ومثل ذلك الجزاء نجزي الظالمين، وهم الكافرون، والحاصل: أنه على سبيل الفرض، مع علمه تعالى أنه لا يكون من الملائكة، فهو من إخباره عما لا يكون كيف يكون لعلمه بما لا يكون، مما جاز أن يكون، كيف يكون. هـ. من الحاشية الفاسية ببعض اختصار.
فالكاف من «كَذلِكَ» : في محل مصدر تشبيهي، مؤكد لمضمون ما قبله. والقصر، المستفاد من التقديم للمصدر، معتبر بالنسبة إلى النقصان دون الزيادة، أي: لا جزاء أنقص منه. والله تعالى أعلم.
الإشارة: أنوار الملكوت متدفقة من بحر أسرار الجبروت، من غير تفريع، ولا تولد، ولا علاج، ولا امتزاج، بل:
كن فيكون، لكن حكمته تعالى اقتضت ترتيب الأشياء وتفريع بعضها من بعض، ليبقى السر مصونًا والكنز مدفونًا.
فأسرار الذات العلية منزّهة عن اتخاذ الصاحبة والولد، بل القدرة تُبرز الأشياء بلا علاج ولا أسباب، والحكمة تسترها بوجود العلاج والأسباب. فكل ما ظهر في عالم التكوين قد عَمَّتْهُ قهرية العبودية، وانتفت عنه نسبة البُنوة لأسرار الربوبية، فأهل الملأ الأعلى عباد مكرمون، مقدّسون من دنس الحس، مستغرقون في هَيَمَان القرب والأنس، وأهل الملأ الأسفل مختلفون، فمَن غلب عقلُه على شهوته، ومعناه على حسه، وروحانيته على بشريته، فهو كالملائكة أو أفضل. ومَن غلبت شهوتُه على عقله، وحسه على معناه، وبشريته على روحانيته، كان كالبهائم أو أضلّ. ومن التحق بالملأ الأعلى، من الأولياء المقربين، انسحب عليه ما مدحهم به تعالى من قوله: (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ)، ومن قوله: (لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ)، بأن يدبروا معه شيئًا قبل ظهور تدبيره، وهم بطاعته يعملون، ولا يشفعون إلا لمن ارتضى، وهم من خشية هيبته مشفقون، (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ) بأن يدّعي شيئًا من أوصاف الربوبية، كالكبرياء، والعظمة على عباده، فذلك نجزيه جهنم، وهي نار القطيعة، كذلك نجزي الظالمين. وفي الحِكَم: «منعك أن تدعي ما ليس لك مما للمخلوقين، أفيبيح لك أن تدعي وصفه وهو رب العالمين» ؟.
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٣٠ الى ٣٣]
أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (٣٠) وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣١) وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ (٣٢) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٣٣)
قلت: «فِجاجاً» : حال من «سُبل»، وأصله: وصف له، فلما تقدم أُعرب حالاً. وقيل «سُبُلًا» : بدل من «فِجاجاً».
وفي إتيانه: إيذان أن تلك الفجاج نافذة لأن الفج قد يكون نافذًا وقد لا. قاله المحشي.
يقول الحق جلّ جلاله: أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا رؤية اعتبار أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أي: جماعة السموات وجماعة الأرض كانَتا، ولذلك لم يقل كُنَّ، رَتْقاً أي: ملتصقة بعضها ببعض. والرتق: الضم والالتصاق. وهو مصدر بمعنى المفعول، أي: كانتا مرتوقتين، أي: ملتصقتين، فَفَتَقْناهُما فشققناهما، فالفتق ضد الرتق. قال ابن عباس رضي الله عنه: «كانتا شيئًا واحدًا متصلتين، ففصل الله بينهما، فرفع السماء إلى حيث هي، وأقرّ الأرض». وفي رواية عنه: أرسل ريحًا فتوسطتهما ففتقتهما. وقال السدي: (كانت السموات مؤتلفة طبقة واحدة، ففتقها، فجعلها سبع سموات، وكذلك الأرض، كانت طبقة واحدة، ففتقها، فجعلها سبع أرضين).
فإِن قيل: متى رأوهما رتقًا حتى جاء تقريرهم بذلك؟ قلنا: مصب الكلام والتقرير هو فتق السماوات ورفعها، وهو مشاهد بالأبصار، وهم متمكنون من النظر والاعتبار، فيعلمون أن لها مدبرًا حكيمًا، فَتَقَهَا ورفعها، وهو الحق جلّ جلاله، وذكر الرتق زيادة إخبار، فكأنه قال: ألم يروا إلى فتق السماوات ورفعها؟ وقال الكواشي: لَمّا كان القرآن معجزًا، كان وروده برتقهما كالمشاهد المرئي، أو: لمّا كان تلاصق السماوات والأرضين، وما بينهما، وتباينهما، جائزًا عقلاً، وجب تخصيص التلاصق من التباين، وليس ذلك إلا لله تعالى. هـ.
وقيل: كانت السماوات صلبة لا تمطر، والأرض رتقًا لا تنبت، ففتق السماء بالأمطار، والأرض بالنبات. ورُوي هذا عن ابن عباس أيضاً، وعليه أكثر المفسرين، وعِلْمُ الكفرةِ الرتقِ والفتق، بهذا المعنى، مما لا خفاء فيه. والرؤية على الأول رؤية علم، وعلى الثاني رؤية عين.
وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أي: خلقنا من الماء كل حيوان، كقوله تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ «١»، وذلك لأنه من أعظم مواده، أو لفرط احتياجه إليه، وحبه له، وعدم صبره عنه، وانتفاعه به، ويدخل
المَنِيُّ. فأَلْ فيه، حينئذ، للعهد الذهني فقط. قال القشيري: كُلُّ مخلوقٍ حيٍّ فَمِنَ الماء خَلْقُه، فإنَّ أصلَ الحيوان الذي يحصل بالتناسل النطفةُ، وهي من جملة الماء. هـ. وتقدم أن الملائكة لا تناسل فيها. أَفَلا يُؤْمِنُونَ بالله وحده، وهو إنكار لعدم إيمانهم، مع ظهور ما يُوجبه حتمًا من الآيات الآفاقية والأنفُسية، الدالة على تفرده تعالى بالألوهية.
وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أي: جبالا ثوابت، من رسا الشيءُ إذا ثبت ورسخ، أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ أي:
كراهية أن تتحرك وتضطرب بهم، أو لئلا تميد بهم- بحذف اللام، و «لا» لعدم الإلباس. وَجَعَلْنا فِيها أي:
في الأرض، وتكرير الجعل لاختلاف المجعولين، ولتوفية مقام الامتنان حقه، أو في الرواسي لأنها المحتاجة إلى الطرق، فِجاجاً: جمع فج، وهو الطريق الواسع، نفذ أم لا، أي: جعلنا في الأرض مسالك واسعة، وسُبُلًا نافذة. فالسبل هي الفجاج مع قيد النفوذ. فإن قيل: أيّ فرق بين هذا وبين قوله: لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلًا فِجاجاً «٢» ؟ فالجواب: أنه هُنا بيَّن أنه خلقها على هذه الصفة، وهناك بيَّن أنه جعل فيها طُرقًا واسعة، وليس فيه بيان أنه خلقها كذلك، فما هنا تفسير لما هناك. انظر النسفي.
وقوله تعالى: لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ أي: إلى البلاد المقصودة بتلك السبل، أو إلى مصالحهم ومهماتهم. وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً من السقوط، كقوله: وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ «٣»، أو من الفساد والانحلال إلى الوقت المعلوم، أو من استراق السمع بالشهب، كما قال: وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ «٤». وَهُمْ أي: الكفار عَنْ آياتِها أي: عن الأدلة التي فيها، كالشمس والقمر والنجوم، وغير ذلك مما فيها من العجائب الدالة على وحدانيته تعالى وقدرته وحكمته، التي بعضها محسوس، وبعضها معلوم بالبحث في علمي الطبيعة والهيئة، مُعْرِضُونَ لا يتدبرون فيها، فيقفون على ما هم عليه من الكفر والضلال، فيؤمنون.
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ لتسكنوا فيه، وَالنَّهارَ لتتصرفوا فيه، وَالشَّمْسَ لتكون سراجَ النهار، وَالْقَمَرَ ليكون سراج الليل، وهذا بيان لبعض تلك الآيات التي هم عنها معرضون. وقوله: كُلٌّ أي:
كلهم، والمراد: جنس الطوالع، فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ أي: يسيرون سير العائم في الماء. عن ابن عباس رضي الله عنه:
الفلك السماء، وقيل: موج مكفوف تحت السماء، يجري فيه الشمس والقمر والنجوم. وجمهور أهل الهيئة أن الفلك:
(٢) من الآية ٢٠ من سورة نوح.
(٣) من الآية ٦٥ من سورة الحج.
(٤) الآية ٧ من سورة الصافات.
قال في المستخرج من كتاب الغزنوني: «كُلٌّ» أي: كل واحد من الشمس والقمر وسائر السيارة، وإن لم تذكرن لأنه جمعَ قوله: (يُسَبِّحُونَ) والمعنى: يجرون كالسابح، أو يدورون، والسيارة تجري في الفلك على عكس جري الفلك، ولها تسعة أفلاك، فالقمر في الفلك الأدنى، ثم عطارد، ثم الزهرة، ثم الشمس، ثم المريخ، ثم المشتري، ثم زُحل، والثامن: فلك البروج، والتاسع: الفلك الأعظم. هـ. وقال في سورة يس: خص الشمس والقمر هنا، وفي سورة الأنبياء لأن سيرهما أبدًا على عكس دور الفلك، وسَيْر الخمسة قد يكون موافقًا لسيره عند رجوعها. هـ. والله تعالى أعلم.
الإشارة: أوَ لَم ير الذين كفروا بوجود التربية أن سموات الأرواح وأرض النفوس كانتا رتقًا صلبة، ميتة بالجهل، ففتقناهما بالعلوم وأسرار التوحيد؟ والمعنى: أن بعض الأرواح والنفوس تكون ميتة صلبة، فإذا صَحِبَتْ أهل التربية، انفتقت بالعلوم والأسرار، فهذا شاهد بوجود أهل التربية، ومن قال بانقطاعها فقوله مردود بالمشاهدة.
وجعلنا من ماء الغيب- وهي الخمرة الأزلية- كلَّ شيء حي، أفلا يؤمنون بوجود هذا الماء عند أربابه؟ وجعلنا في أرض النفوس جبالاً من العقول لئلا تميل إلى الهوى فتموت، وجعلنا فيها طُرقًا يسلك منها إلى الحضرة، وهي كيفية الرياضة وأنواع المجاهدة، وهي طرق كثيرة، والمقصد واحد، وهو الوصول إلى الفناء والبقاء، التي هي معرفة الحق بالعيان، وهو قوله تعالى: (لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) إلى الوصول إلى حضرتنا.
وجعلنا السماء، أي: سماء القلوب الصافية، سقفًا محفوظًا من الخواطر والوساوس والشكوك والأوهام والشياطين، قال بعضهم: (إذا كان الحق تعالى قد حفظ السماء بالشهب من الشياطين، فقلوب أوليائه أولى بالحفظ). وهم عن آياتها، أي: عن دلائل حفظها وصيانتها معرضون لانهماكهم في الغفلة. وهو الذي خلق ليل القبض ونهار البسط وشمس العرفان وقمر توحيد الدليل والبرهان، كلٌّ في موضعه، لا يتعدى أحد على صاحبه، ولكل واحد سير معلوم وأدب محتوم. وبالله التوفيق.
ولمّا قامت الحجة على الكفرة بما ذكرَ من الآيات والدلائل القاطعة، وانقطعوا، قالوا: ننتظر به ريب المنون، فنستريح منه، فأنزل الله تعالى:
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٣٤ الى ٣٥]
وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ (٣٤) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ (٣٥)
نزلت حين قالوا: نتربص به رب المنون، فنفى عنه الشماتة بموته، فإن الشماتة بالموت مما لا ينبغي أن يصدر من عاقل، أي: قضى الله ألا يخلد في الدنيا بشرًا، فإن مِّتَّ- يا محمد- أيبقى هؤلاء الكفرة؟ كلا كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ أي: ذائقة مرارة مفارقتها جسدها، فتستوي أنت وهم فيها، فلا تتصور الشماتة بأمر عام.
وَنَبْلُوكُمْ، الخطاب: إما للناس كافة بطريق التلوين، أو للكفرة بطريق الالتفات، وسمي ابتلاء، وإن كان عالمًا بما سيكون من أعمال العاملين قبل وجودهم لأنه في صورة الاختبار، أي: نختبركم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ، أي: بالفقر والغنى، أو بالضر والنفع، أو بالعطاء والمنع، أو بالذل والعز، أو بالبلاء والعافية، فِتْنَةً اختبارًا، هل تصبرون وتشكرون، أو تجزعون وتكفرون. و «فِتْنَةً» : مصدر مؤكد «ل نَبْلُوكُمْ»، من غير لفظه. وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ لا إلى غيرنا، فنجازيكم على حسب ما يُؤخذ منكم من الصبر والشكر، أو الجزع والكفران. وفيه إيماء إلى أن المقصود من هذه الدنيا: الابتلاء والتعرض للثواب والعقاب. والله تعالى أعلم.
الإشارة: لا بد لهذا الوجود بما فيه أن تنهد دعائمه، وتُسلَب كرائمه، ولا بد من الانتقال من دار الفناء إلى دار البقاء، ومن دار التعب إلى دار الهناء، ومن دار العمل إلى دار الجزاء. فالعاقل من أعرض بكليته عن هذه الدار، وصرف وجهته إلى دار القرار، فاشتغل بالتزود للرحيل، وبالتأهب للمسير، فلا مطمع للخلود في هذه الدار، وقد رحل منها الأنبياء والصالحون والأبرار، وتأمل قول الشاعر:
صبرًا في مجال الموت صبرًا | فما نيل الخلود بمستطاع |
وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ أي: بهما. فالرجوع إلى الله في السراء والضراء من أركان الطريق، والرجوع إلى الله في الضراء بالصبر والرضا، وفي السراء بالحمد والشكر، ورؤية ذلك من الله بلا واسطة. وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: «من ابتلي فَصَبَرَ، وأُعطِي فَشَكَرَ، وظُلِم فغفر أو ظلَم فاسْتَغْفَرْ»، ثم سكت- عليه الصلاة والسلام- فقالوا:
ماله يا رسول الله؟ قال: «أولئك لَهُمُ الأمن وَهُمْ مهتدون» «١». وقال صلى الله عليه وسلم: «عجبا لأمر المؤمن، إن أمرهُ كُلَّهُ خيرٌ، ولَيْسَ ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر، فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرا له» «٢».
(٢) أخرجه مسلم فى (الزهد، باب: المؤمن أمره كله خير)، عن صهيب رضي الله عنه.
وفكرة ساعة أفضل من عبادة سبعين سنة، بل من أَلْفِ سنة، كما قال الشاعر:
كُلُّ وَقتٍ مِنْ حَبيبيِ | قَدْرُهُ كَأَلْفِ حَجَّهْ |
ومن جملة الشر الذي ابتلى الله به عباده: إذاية الخلق، كما قال لنبيه- عليه الصلاة والسلام-:
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٣٦ الى ٤١]
وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ (٣٦) خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (٣٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٨) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٣٩) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٤٠)
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٤١)
قلت: (أَهذَا الَّذِي) : مقول لحال محذوفة، أي: قائلين: أهذا الذي، وحذف الحال، إذا كان قولاً، مطردٌ. (وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ) : حال، و (بَلْ تَأْتِيهِمْ) : عطف على (لا يَكُفُّونَ) أي: لا يكفونها، بل تأتيهم.
يقول الحق جلّ جلاله: وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي: المشركون إِنْ يَتَّخِذُونَكَ ما يتخذونك إِلَّا هُزُواً مهزوءًا بك على معنى قصر معاملتهم معه- عليه الصلاة والسلام- على اتخاذهم إياه هزوًا، كأنه قيل: ما يفعلون بك إلا اتخاذك هزوًا. نزلت في أبي جهل- لعنه الله-، مرّ به النبي صلى الله عليه وسلم، فضحك وقال: هذا نبيُّ بني عبد مناف «١». قال القشيري: (لو شاهدوه على ما هو عليه من أوصاف التخصيص، وما رقَّاه الله من المنزلة،
أنهم بذكر الرحمن، المنعم عليهم بأنواع النعم، التي هي من مقتضيات رحمانيته، كافرون، لا يذكرونه بما يليق به من التوحيد وأوصاف الكمال، أو: بما أنزل من القرآن لأنه ذكر الرحمن، هُمْ كافِرُونَ جاحدون، فهم أحقاء بالعيب والإنكار. وكرر لفظ «هُمْ» للتأكيد، أو لأن الصلة حالت بينه وبين الخبر، فأعيد المبتدأ.
ثم قال تعالى: خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ، العَجَل والعَجَلة مصدران، وهو تقديم الشيء على وقته. والمراد بالإنسان: الجنس، جُعل لفرط استعجاله، وقلة صبره، كأنه خُلق من العَجَلة، والعرب تقول لمن يكثر منه الشيء:
خُلق منه، تقول لمن يكثر منه الكرم: خُلق من الكرم. ومن عجلته: مبادرته إلى الكفر واستعجاله بالوعيد. رُوي أنها نزلت في النضر بن الحارث، حين استعجل العذاب بقوله: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هّذاَ هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا.. الآية «١»، كأنه قال: ليس ببدع منه أن يستعجل، فإنه مجبول على ذلك، وطبعُه، وسجيته.
وعن ابن عباس رضي الله عنه: أن المراد بالإنسان آدم عليه السلام، فإنه حين بلغ الروح صدره أراد أن يقوم. ورُوي: أنه لما دخل الروح في عينيه نظر إلى ثمار الجنة، ولمَّا وصل جوفه اشتهى الطعام، فكانت العجلة من سجيته، وسرت في أولاده. وإنما منعَ الإنسان من الاستعجال وهو مطبوع عليه، ليتكمل بعد النقص، كما أمره بقطع الشهوة وقد رَكّبها فيه لأنه أعطاه القدرة التي يستطيع بها قمع الشهوة وترك العَجَلة. قال القشيري: العَجَلةُ مذمومةٌ، والمُسَارَعَةُ محمودةٌ. والفرق بينهما: أن المسارعة: البِدارُ إلى الشيء في أول وقته، والعَجَلة: استقباله قبل وقته، والعَجَلةُ سمة وسوسة الشيطان، والمسارعةُ قضية التوفيق. هـ.
وقال الورتجبي: خلقهم من العَجَلة، وزجرَهم عن التعجيل إظهارًا لقهاريته على كل مخلوق، وعجزهم عن الخروج عن ملكه وسلطانه. وحقيقة العَجَلة متولدة من الجهل بالمقادير السابقة. هـ. قلت: مازالت الطمأنينة والرَّزانَةُ من شأن العارفين، وبها عُرفوا، والعَجَل والقلق من شأن الجاهلين، وبها وصفوا.
قال تعالى، صارفًا للخطاب عن الرسول إلى المستعجلين: سَأُرِيكُمْ آياتِي: نَقَماتي، كعذاب النار وغيره، فَلا تَسْتَعْجِلُونِ بالإتيان بها، وهو نهي عما جُبلت عليه نفوسهم ليقهروها عن مرادها من الاستعجال.
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ: إتيان العذاب، أو القيامة، إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في وعدكم بأنه يأتينا، قالوه استعجالاً بطريق الاستهزاء والإنكار، لا طلبًا لتعيين وقته، والخطاب للنبى صلّى الله عليه وسلم والمؤمنين الذين يتلون الآيات الكريمة المنبئة عن مجيء الساعة. قال تعالى: لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا، هذا استئناف مسوق لبيان شدة هول ما يستعجلونه، وفظاعة ما فيه من العذاب، وأنهم يستعجلونه لجهلهم بشأنه. وقوله تعالى: حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ: مفعول «يعلم»، وهو عبارة عن الوقت الموعود، الذي كانوا يستعجلونه. وقوله: لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا أي: حين يرون ويعلمون حقيقة الحال، وهو معاينة العذاب. وجواب «لو» : محذوف، أي: لو يعلمون الوقت الذي يستعجلونه بقولهم: متى هذا الوعد؟ وهو الوقت الذي تحيط بهم النار من ورائهم وقدامهم، فلا يقدرون على دفعها ومنعها من أنفسهم، ولا يجدون ناصرًا ينصرهم، لَمَا كانوا بهذه الصفة من الكفر والاستهزاء والاستعجال، ولكن جهلهم به هو الذي هوّنه عندهم.
بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً أي: بل تأتيهم النار أو الساعة فجأة، فَتَبْهَتُهُمْ: فتُحيِّرهم أو تغلبهم، فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها فلا يقدرون على دفعها عنهم، أي: النار أو الساعة، وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ: يُمهلون ليستريحوا طرفة عين.
ثم سلّى رسوله عن استهزائهم، فقال: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ: نزل أو أحاط أو حلّ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ أي: من أولئك الرّسل- عليهم السلام- جزاء ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ، وهو العذاب الدائم. نسأل الله العافية.
الإشارة: كل من خرق عوائد نفسه، وخرج عن عوائد الناس، أو أمر بالخروج عن العوائد، رفضه الناس واتخذوه هُزوًا، سنة الله التي قد خلت من قبل، لم يأت أحد بذلك إلا عُودي، فإن ظهر عليه أثر الخصوصية من علم لدني، أو هداية خلق على يده، استعجلوه بإظهار الكرامة، كما هو شأن الإنسان، خُلق من عَجَل، فيقول:
سأوريكم آياتي، فإن الأمر إذا كان مؤسسًا على الحق لا بد أن تظهر أنواره وأسراره، فلو يعلم الذين كفروا بطريق الخصوص، حين ترهقهم الحسرة، وتُحيط بهم الندامة، إذا رأوا أهل الصفاء يسرحَون في أعلى عليين حيث شاءوا، وجوههم كالشموس الضاحية، لبادروا إلى الانقياد لهم، وتقبيل التراب تحت أقدامهم، ولكنهم اليوم في غفلة ساهون.
فإذا نزل بأسه فلا حافظ منه إلا الرحمن، كما قال تعالى:
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٤٢ الى ٤٤]
قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (٤٢) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (٤٣) بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ (٤٤)
يقول الحق جلّ جلاله: قُلْ لهم يا محمد: مَنْ يَكْلَؤُكُمْ: يحفظكم بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ بأس الرَّحْمنِ الذي تستحقونه، إذا نزل بكم ليلاً أو نهارًا. قال الواسطي: من يحفظكم بالليل والنهار من الرحمن أن يظهر عليكم ما سبق فيكم؟ وقال ابن عطاء: مَن يكلؤكم من أمر الرحمن سوى الرحمن، وهل يقدر أحد على الكلاءة سواه؟. وتقديم الليل لأن الدواهي فيه أكثر وقوعًا وأشد وقعًا. وفي التعرض لعنوان الرحمانية إيذان بأن كلاءتهم ليس إلا برحمته العامة. بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ أي: بل هم معرضون عن ذكره، ولا يُخطِرونه ببالهم، فضلاً أن يخافوا بأسه، حتى إذا رزقوا الكلاءة عرفوا مَن الكالئ، وصلحوا للسؤال عنه.
والمعنى: أنه أمر رسوله- عليه الصلاة والسلام- بسؤالهم عن الكالئ، ثم أضرب عنه، وبيَّن أنهم لا يصلحون لذلك، لإعراضهم عن ذكر من يكلؤهم. هكذا للزمخشري ومن تبعه. وقال ابن جزي: والمعنى: أنه تهديد وإقامة حجة عليهم لأنهم لو أجابوا عن هذا السؤال لاعترفوا بأنه ليس لهم مانع ولا حافظ غيره تعالى- يعني لِمَا جربوه في أحوال محنتهم- ثم قال: وجاء قوله: (بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ)، بمعنى أنهم، إذا سُئلوا ذلك السؤال، لم يجيبوا عنه، لأنهم تقوم عليهم الحجة إن أجابوا، ولكنهم يعرضون عن ذكر الله. هـ. أي: يعرضون عن أن يقولوا: كالئنا الله عتوًا وعنادًا. وهو معنى قوله: (بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ)، كأنه قال: لو سُئلوا، لم يجدوا جوابًا، إلا أن يقولوا:
هو الله، لكنهم يعرضون عن ذكره مكابرة. قلت: وما قاله ابن جزي أحسن مما قاله الزمخشري ومَن تبعه، وأقرب.
ثم قال تعالى: أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا، هذا انتقال من بيان جهلهم بحفظه تعالى، أو إعراضهم عن ذكره، إلى توبيخهم باعتمادهم على آلهتهم. والمعنى: ألهم آلهة تمنعهم من العذاب تجاوز منعنا وحفظنا، فهم يعولون عليها واثقون بحفظها؟ وفي توجيه الإنكار والنفي إلى وجود الآلهة بما ذكر من المنع، لا إلى نفس الصفة،
ثم قال تعالى: لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ أي: يُجَارون. والصاحب: المُجِير الوافي، يعني: أن الأصنام لا تُجير نفسها، ولا نُجيرهم نحن، أو لا يصحبُهم نصر من جهتنا، فهم لا يستطيعون أن ينصروا أنفسهم، ولا يُصحبون بالنصر والتأييد من جهتنا، فكيف يتوهم أن ينصروا غيرهم؟.
بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ، إضراب عما توهموه من منع آلهتهم وحفظها لهم، أي: ما هم فيه من الحفظ والكلاءة إنما هو منا، لا من مانع يمنعهم من إهلاكنا، وما كلأناهم وآباءهم الماضين إلا تمتيعًا لهم بالحياة الدنيا وإمهالاً، كما متعنا غيرهم من الكفار وأمهلناهم حتى طال عَلَيْهِمُ الأمد فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ، وظنوا أنهم دائمون على ذلك، وهو أمل كاذب. أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أي:
ألا ينظرون فيرون أنَّا نأتي أرض الكفرة فننقصها من أطرافها بإدخالها في أيدي المسلمين، فكيف يتوهمون أنهم ناجون من بأسنا. وهو تمثيل وتصوير لما يخربه الله من ديارهم على أيدي المسلمين، ويضيفها إلى دار الإسلام.
وفي التعبير بنأتي: إشارة إلى أن الله تعالى يجريه على أيدي المسلمين، وأن عساكرهم كانت تأتيهم لغزوهم غالبة عليهم، ناقصة من أطراف أرضهم. أَفَهُمُ الْغالِبُونَ على رسول الله ﷺ والمؤمنين، أي: أفكفار مكة يغلبون بعد أن نقصنا من أطراف أرضهم؟ أي: ليس كذلك، بل يغلبهم الرسول- عليه الصلاة والسلام- وأصحابه الكرام، وقد تحقق ذلك وأنجز الله وعده، والله غالب على أمره.
الإشارة: قل من يكلؤ قلوبكم وأسراركم من الرحمن، أن يذهب بما أودع فيها من المعارف وأنوار الإحسان؟
فلا أحد يحفظها إلا من رحمها بما أودع فيها، ولهذا كان العارفون لا يزول اضطرارهم، ولا يكون مع غير الله قرارهم، لا يعتمدون على عمل ولا حال، ولا على علم ولا مقال، وفي الحكم: «إلهي، حكمك النافذ، ومشيئتك القاهرة، لم يتركا لذي حال حالاً، ولا لذي مقال مقالاً». وقال أيضًا: «إلهي كم من طاعة بنيتُها وحالة شيدتُها، هدم اعتمادي عليها عدلك، بل أقالني منها فضلك». وكثير من الناس غافلون عن هذا المعنى، بل هم عن ذكر ربهم مُعرِضون.
قال الورتجبي: قوله تعالى: (قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ... ) الآية، أخبر عن كمال إحاطته بكل مخلوق، وتنزيهه عن العَجَلة بمؤاخذتهم، كأنه يقول: أنا بذاتي تعاليت، أدفع بلطفي القديم عنكم قهري القديم، ولولا فضلي السابق وعنايتي القديمة بالرحمة عليكم، من يدفعه بالعلة الحدثانية؟ وهذا من كمال لطفي عليكم، وأنتم بعد معرضون عني يا أهل الجفا، وذلك قوله: (بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ). هـ بلفظه مع تصحيف في النسخة.
أنه لا ينبغي للمريد أن ينظر إلى ما مضى من عمره في طريق القوم، فقد كان بعض الشيوخ يقول: لا يكن أحدكم عبد الدهور وعبد العدد. قال الشيخ أبو العباس المرسى رضى الله عنه: معنى كلامه: أنه لا ينبغي للفقير أن يعد كم له في طريق القوم، ليقول: أنا لي كذا وكذا من السنين في طريق القوم. هـ بالمعنى. ولعل علة النهي لئلا يرى للأيام تأثيرًا في الفتح، فقد قالوا: هي لمن صدق لا لمن سبق.
وقوله تعالى: (أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها) قال القشيري: فيه إشارة إلى سقوط قوى العبد بمرور السنين، وتطاول العمر، فإن آخر الأمر «٢» كما قيل:
آخِرُ الأمر ما تَرَى:... القبرُ واللَّحدُ والثرى
وكما قيل:
طَوَى العَصْرانِ «٣» ما نَشَرَاهُ مني... فأبلى جِدَّتِي نَشْرٌ وطيُّ
أراني كلَّ يومٍ في انتقاصٍ... ولا يبقى مع النقصان شيُّ «٤»
وكأنه فسر الأرض بأرض النفوس من باب الإشارة. والله تعالى أعلم.
ولما بيَّن الحق تعالى غاية هول ما يستعجله المستعجلون، ونهاية سوء حالهم، عند إتيانه، ونعى عليهم جهلهم بذلك، وإعراضهم عند ذكر ربهم، الذي يكلؤهم من طوارق الليل والنهار، أمَرَ نبيه- عليه الصلاة والسلام- بأن يخبرهم أن ما ينذرهم به، مما يستعجلونه، إنما هو بالوحي، لا من عنده، فقال:
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٤٥ الى ٤٧]
قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ (٤٥) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٤٦) وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ (٤٧)
(٢) فى الأصول: إلى آخر الأمد.
(٣) فى الأصول: «العمران ما نشاه»، والمثبت: من لطائف الإشارات... والعصران: الغداة والعشى، أو الليل والنهار. انظر: اللسان (عصر ٤/ ٢٩٦٨).
(٤) نسب البيتان إلى محمد بن يعقوب بن إسماعيل، انظر: الوافي بالوفيات (٥/ ٢٢٢)، كما نسبا إلى أبى بكر بن أبى الدنيا، كما فى تاريخ بغداد (١٤/ ٣١١). [.....]
يقول الحق جلّ جلاله: قُلْ لهم يا محمد: إِنَّما أُنْذِرُكُمْ وأخوفكم من العذاب الذي تستعجلونه، أو بالساعة الموعودة، بِالْوَحْيِ القرآني الصادق، الناطق بإتيانه، وفظاعة شأنه، أي: إنما شأني أن أُنذركم بالإخبار به، لا بإتيانه فإنه مخالف للحكمة الإلهية إذ الإيمان برهاني لا عياني، فإذا أَنذرتَهم فلا يسمع إنذارك إلا مَن سبقت له العناية، دون مَن سبق له الشقاء، ولذلك قال تعالى: وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ أي:
الإنذار، أو لا تُسمع أنت الصمَّ الدعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ يُخوَّفون، واللام فى الصُّمُّ للعهد، وهو إشارة إلى هؤلاء المنذرين، والأصل: ولا يسمعون إنذارك إذا يُنذرون، فوضع الظاهر موضع المضمر إشارة إلى تصاممهم وسد أسماعهم إذا أنذروا، وتسجيلاً عليهم بذلك. وفي التعبير بالدعاء، دون الكلام في الإنذار، إشارة إلى تناهي صممهم في حال الإنذار، فإن الدعاء من شأنه أن يكون بأصوات عالية مكررة مقارنة لهيئة دالة عليه، فإذا لم يسمعوا، مع هذه الحالة، يكون صممهم في غايةٍ لا غاية وراءها.
وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ أي: دفعة يسيرة مِنْ عَذابِ رَبِّكَ أي: كائنة منه، لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ، وهذا بيان لسرعة تأثيرهم من مجيء نفس العذاب، إثر بيان عدم تأثرهم من مجرد الإخبار به، لانهماكهم في الغفلة، أي: والله لئن أصابهم أدنى شيء من هذا العذاب الذي يُنذرون به، لذلوا، ودَعوا بالويل على أنفسهم، وأقروا بأنهم ظلموا أنفسهم حين تصامموا وأعرضوا. وقد بُولغ في الكلام، حيث عبَّر بالمس والنفح لأن النفح يدل على القلة، فأصل النفح: هبوب رائحة الشيء، يُقال: نفحه بعطية، إذا أعطاه شيئًا يسيرًا، مع أن بناءها للمرة مؤكد لقلتها.
ثم بيَّن ما يقع عند إتيان ما أنذروه، فقال: وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ أي: نقيم الموازين العادلة التي تُوزن بها الأعمال، وهو جمع ميزان، وهو ما يوزن به الشيء ليُعرف كمِّيته. وعن الحسن: «هو ميزان له كفتان ولسان»، وإنما جمع الموازين لتعظيم شأنها، والوزن لصحائف الأعمال في قول، وقيل: وضع الميزان كناية عن تحقيق العدل، والجزاء على حسب الأعمال. وإفراد القسط لأنه مصدر وصف به للمبالغة، كأنها في نفسها قسط، أو على حذف مضاف، أي: ذوات القسط. وقوله: لِيَوْمِ الْقِيامَةِ أي: لأهل يوم القيامة، أي: لأجلهم، أو في يوم القيامة، فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً من الظلم، ولا تنقص حقًا من حقوقها، بل يُؤتى كل ذي حق حقه، إن خيراً فخير، وإن شرا فشر.
أحضرناها وجازينا عليها، وأنث ضمير المثقال لإضافته إلى حبة، وَكَفى بِنا حاسِبِينَ، إذ لا مزيد على علمنا وعدلنا، أو عالمين حافظين، لأن من حسب شيئًا علمه وحفظه، قاله ابن عباس- رضى الله عنهما.
الإشارة: كان ﷺ يُنذر الناس ويذكّرهم بالوحي التنزيلي، وبقي خلفاؤه يذكرون بالوحي الإلهامي، موافقُا للتنزيلي، ولا يسمع وعظهم ويحضر مجالسهم إلا مَن سبقت له سابقة العناية، وأما من انتكبت عنه العناية تنكب مجالسهم، وتصامم عن وعظهم وتذكيرهم، ولا يسمع الصم الدعاء إذا ما ينذرون، ولا يندمون إلا حين تنزل بهم الأهوال، ولا ينفع الندم وقد جف القلم، وذلك حين تُوضع موازين الأعمال، فتثقل أعمال المخلصين، وتخف أعمال المخلّصين، ولا تُوضع الموازين إلا لأهل النفوس الموجودة، وأما من غاب عن نفسه في شهود محبوبه، لفنائه في شهوده، وانطوائه في وجوده، فلا ينصب له ميزان إذ لا يشهد لنفسه حسًا ولا فعلاً ولا تركًا، وإنما الفعل كله للواحد القهار. ويكون من السبعين ألفًا الذين يدخلون الجنة بغير حساب، جعلنا الله من خواصهم بمنِّه وكرمه. آمين.
ثم شرع في تفصيل ما أجمل في قوله: وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ، إلى قوله: وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ «١»، فقال:
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٤٨ الى ٥٠]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ (٤٨) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (٤٩) وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٥٠)
يقول الحق جلّ جلاله: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ، هذه الأوصاف كلها للتوراة، فهي فرقان بين الحق والباطل، وضياء يستضاء به، ويتوصل به إلى سبيل النجاة، وذِكْرًا، أي: شرفًا، أو وعظًا وتذكيرًا. وتوكيده بالقسم لإظهار كمال الاعتناء به، أي: والله لقد آتيناهما وحيًا ساطعًا وكتابًا جامعًا بين كونه فارقاً بين الحق والباطل، وضياء يُستضاء به في ظلمات الجهل والغواية، وذكرًا ينتفع به الناس، أو شرفًا لمن عمل به، وتخصيص المتقين بالذكر لأنهم المستضيئُون بأنواره، المغتنمون لمغانم آثاره، أو ذكر ما يحتاجون إليه من الشرائع والأحكام، ودخلت الواو في الصفات، كقوله تعالى: وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا «٢»، وتقول: مررت بزيد الكريم والعالم والصالح.
(٢) من الآية ٣٩ من سورة آل عمران.
وَهذا أي: القرآن الكريم، أشير إليه بهذا إيذانًا بغاية وضوح أمره، ذِكْرٌ يتذكر به من تذكر، وصفه ببعض أوصاف التوراة لموافقته له في الإنزال، ولما مرّ في صدر السورة من قوله: ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ... «١» الخ، مُبارَكٌ كثير الخير، غزير النفع، يتبرك به على الدوام. قال القشيري: وصْفُه بالبركة هو إخبارٌ عن ثباته، من قولهم: بَرَكَ البعيرُ، وبَرَكَ الطائرُ على الماءِ، أي: داومَ. وهذا الكتاب دائم، لا يأتيه الباطلُ مِن بين يديه ولا مِن خلفه، وهو دال على كلامه القديم، فلا انتهاء له، كما لا ابتداء له ولا انتهاء لكلامه. هـ.
أَنْزَلْناهُ على محمد صلى الله عليه وسلم، وهو صفة ثانية للكتاب أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ استفهام توبيخي، أي: جاحدون أنه مُنزَّل من عند الله، والمعنى: أبَعْدَ أن علمتم أن شأنه كشأن التوراة، في الإنزال والإيحاء، أنتم منكرون لكونه منزلاً من عندنا فإن ذلك، بعد ملاحظة التوراة، مما لا مساغ له أصلاً. وبالله التوفيق.
الإشارة: كل ما وصف به التوراة وصف به كتابنا العزيز، قال تعالى تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ «٢» وقال: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً «٣»، وقال هنا: وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ، فزاده البركة لعموم خيره ودوام نفعه، وخصوصًا للمتقين الذين يخشون ربهم بالغيب: قال القشيري: والخشية بالغيب: إطراقُ السريرة في أول الحضور، باستشعار الوَجَلِ من جريان سوء الأدب، والحذَرُ من أنْ يبدوَ من الغيبِ بَغَتَات التقدير، مما يوجِبُ حجبة العبد. هـ.
ثم ذكر بقية المشاهير من الرسل، وبدأ بإبراهيم لموافقة شريعتنا له، ولكونه أصل الجلّ منهم، فقال:
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٥١ الى ٥٦]
وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ (٥١) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ (٥٢) قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ (٥٣) قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٥٤) قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ (٥٥)
قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٥٦)
(٢) من الآية الأولى من سورة الفرقان.
(٣) من الآية ١٧٤ من سورة النساء.
يقول الحق جلّ جلاله: وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ أي: الرشد اللائق به وبأمثاله من كُبراء الرسل، وهو الاهتداء الكامل، المستند إلى الهداية الخاصة الحاصلة بالوحي، مع الاقتدار على إصلاح الأمة وإرشادها بسياسة النبوة والوحي الإلهي، مِنْ قَبْلُ أي: من قبل إيتاء موسى وهارون التوراة، وتقديم ذكرهما، لما بين التوراة والقرآن من الشبه التام. وقيل: من قبل إنزال القرآن، أو من قبل استنبائه، أو من قبل بلوغه، وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ أي: بأنه أهل لما آتيناه، أو عالمين برُشده، وما خصصناه به من الهداية الخاصة. إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ أي:
آتيناه ذلك حين قال لأبيه، أو اذكر وقت قوله لهم: ما هذِهِ التَّماثِيلُ أي: الأصنام المصورة على صورة السباع والطيور والإنسان، وفيه تجاهل بهم تحقيرًا لها، مع علمه بتعظيمهم لها توبيخًا لهم على إجلالها مع كونها خشبًا وأحجارًا لا تضر ولا تنفع، الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ أي: لأجل عبادتها مقيمون، فلما عجزوا عن الدليل قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ فقلدناهم، فأبطله عليه السلام، على طريقة التوكيد بالقسم، فقال: لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ الذين سنُّوا لكم هذه السُّنَّة الباطلة، فِي ضَلالٍ مُبِينٍ: ظاهر بيِّن، بحيث لا يخفى على أحد من العقلاء، أي: والله لقد كنتم مستقرين في ضلال عظيم ظاهر لعدم استناده إلى دليل، فالتقليد إنما يجوز فيما يحتمل الحَقِّية في الجملة، لا فيما اتضح بطلانه، سيما في أمر التوحيد.
قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أي: بالجد، أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ، فتقول ما تقول على الملاعبة والمزاح.
والمعنى: أجادٌ أنتَ، أم لاعب فيما تقول؟ قالوا ذلك استعظامًا منهم لإنكاره، واستبعادًا لكون ما هم عليه ضلال، وتعجيبًا من تضليله إياهم.
ثم أضرب عنهم مخبرًا بأنه جاد فيما قال، غير لاعب، بإقامة البرهان على بطلان ما ادعوه فقال: بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ، لا التماثيل التي صورتم. وقيل: هو إضراب عما بنوا عليه مقالتهم من اعتقاد كونها أربابًا لهم، كما يُفصح عنه قولهم: نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ «١»، كأنه قال:
ليس الأمر كذلك، بل ربكم رب السموات والأرض الذي خلقهن وأنشأهن، فالضمير للسماوات والأرض، وصفَه تعالى بإيجادهن، إثر وصفه تعالى بربوبيته لهن تحقيقاً للحق، وتنبيهاً على أن ما لا يكون كذلك بمعزل من
ثم قال عليه السلام: وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ الذي ذكرتُ: من كون ربكم رَبَّ السماوات والأرض، دون ما عداه، كائناً ما كان، مِنَ الشَّاهِدِينَ أي: العالمين به على سبيل الحقيقة، المبرهنين عليه، فإن الشاهد على الشيء: مَنْ تحققه وبرهن عليه، كأنه قال: وأنا أعلم ذلك، وأتحققه، وأُبرهن عليه، والله تعالى أعلم.
الإشارة: زخارف الدنيا وبهجتها، من تشييد بناء، وتزويق سقف وحيطان، وإنشاء غروس وبساتين، وجمع أموال، وتربية جاه، كلها تماثيل لا حقيقة لها، فانية لا دوام لها. فمن عكف عليها، وأولع بخدمتها وجمعها وتحصيلها، كان عابدًا لها، فينبغي لذي الرشد والعقل الوافر، الذي تحرر منها، أن يُنكر عليهم، ويقول لهم: ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون، فإن قالوا: وجدنا أباءنا يفعلون هذا، وعلماءنا مثلنا، فليقل لهم: لقد كنتم وآباؤكم وعلماؤكم في ضلال مبين، عما كان عليه الأنبياء والأولياء والسلف الصالح. فإن قالوا: أجادٌّ أنت أم لا؟ فليقل: بل ربكم الذي ينبغي أن يُفرد بالمحبة والخدمة، هو ربُّ السماوات والأرض، لا ما أنتم عليه من محبة الدنيا وبهجتها، وأنا على ذلكم من الشاهدين.
ثم ذكر كسره للأصنام، وما ترتب عليه، فقال:
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٥٧ الى ٦٧]
وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (٥٧) فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (٥٨) قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٥٩) قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ (٦٠) قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (٦١)
قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ (٦٢) قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ (٦٣) فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (٦٤) ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ (٦٥) قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ (٦٦)
أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٧)
قلت: (مَنْ فَعَلَ) : استفهام، وقيل: موصولة، و (إِنَّهُ) : خبرها، أي: الذي فعل هذا معدود من الظلمة، و (يَذْكُرُهُمْ) : إما مفعول ثان لسمع لتعلقه بالذات، على قول، أو صفة لفتى. و (يُقالُ) : صفة أخرى لفتى.
و «إبراهيم» : نائب فاعل يُقال.
فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً أي: قطعًا، جمع جذيذ. وفيه لغتان: الكسر، كخفيف وخِفاف، والضم كحطيم وحُطام.
رُوي أنها كانت سبعين صنمًا مصطفة. وثَمَّ صنم عظيم مستقبل الباب، وكان من ذهب، وفي عينيه جوهرتان تضيئان بالليل، فكسر الكل بفأس كان بيده، ولم يُبق إلا الكبير، علّق الفأس في عنقه، وذلك قوله تعالى:
إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ أي: للأصنام لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ أي: إلى إبراهيم عليه السلام يَرْجِعُونَ فيحاجهم بما سيأتي فيغلبهم، أو إلى دينه إذا قامت الحجة عليهم. وقيل: إلى الكبير يسألونه عن الكاسر لأن من شأن الكبير أن يُرجع إليه في الملمات. وقيل: إلى الله تعالى وتوحيده، عند تحققهم بعجز آلهتهم عن دفع ما يصيبهم وعن الإضرار بمن كسرهم.
فلما رجعوا من عيدهم، ورأوا ما صُنِع بآلهتهم، قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا، على طريق الإنكار والتوبيخ، إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ أي: لشديد الظلم لجرأته على الآلهة، التي هي عندهم في غاية التوقير والتعظيم. أو لَمِنَ الظالمين حيث عَرَّض نفسه للهلكة، قالُوا أي: بعضٌ منهم، وهو من سمع مقالته: سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ أي: يعيبهم، فلعله فعل ذلك بها، يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ أي: يقال له هذا الاسم. قالُوا أي: السائلون: فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ أي: بمرأى منهم، بحيث يكون نصبَ أعينهم، لا يكاد يخفى على أحد، لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ عليه بما سُمع منه، أو بما فعله، كأنهم كرهوا عقابه بلا بينة، أو يَحضرون عقوبتنا له.
فلما أحضروه قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ؟ واختصر إحضاره للتنبيه على أن إتيانهم به، ومسارعتهم إلى ذلك، أمر محقق غني عن البيان قالَ إبراهيم عليه السلام: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا، غار أن
كبيرهم هذا يُخبركم فسلوه... الخ، والأكثر: أنه لا وقف، والفاعل: كبيرهم. و «هذا» : بدل، أو وصف، ونسبَ الفعل إلى كبيرهم، وقصده تقريره لنفسه وإسناده لها، على أسلوب تعريضي تبكيتًا لهم، وإلزامًا للحجة عليهم، لأنهم إذا نظروا النظر الصحيح عَلِموا عجز كبيرهم، وأنه لا يصلح للألوهية، وهذا كما لو كتبت كتابًا بخط أنيق، وأنت شهير بحسن الخط، ومعك صاحب أُميّ، فقال لك قائل: أأنت كتبت هذا؟ فتقول: بل كتبه هذا، وهو يعلم أنه أُميّ لا يُحسن الكتابة، فهو تقرير لإثبات الكتابة لك على أبلغ وجه.
قال الكواشي: ومن الجائز أن يكون أَذِنَ الله تعالى له في ذلك كما أَذِنَ ليوسف حين نادى على إخوته: إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ «١»، ولم يكونوا سارقين لِمَا في ذلك من المصلحة لأنهم إذا نظروا النظر الصحيح، وسألوا، عَلِمُوا أن كبيرهم لم يفعل شيئًا، وأنه عاجز عن النطق، فضلاً عن الفعل، فلا يجوز أن يُعبد، ولا يستحق العبادة إلا القادر الفعال. هـ.
وقيل: اسند الفعل إلى كبيرهم لأنه الحامل له على كسرها، حيث رآه يُعظَّم أكثر منها، ويُعبد من دون الله، فاشتد غضبه حتى كسرها، وهو بعيد إذ لو كان كذلك لكسره أولاً، فتحصل أنه عليه السلام إنما قصد التعريض بعبادتهم، لا الإخبار المحض، حتى يكون كذبًا. فإن قلت: قد ورد في الحديث إن إبراهيم كذب ثلاث كذبات «٢» ؟
فالجواب: أن معنى ذلك: أنه قال قولاً ظاهره الكذب، وإن كان القصد به معنى آخر. قاله ابن جزي.
ثم قال لهم: فَسْئَلُوهُمْ عن حالهم، إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ فتجيبكم بمن كسرهم، وأنتم تعلمون عجزهم عنه، فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ أي: رجعوا إلى عقولهم، وتفكروا بقلوبهم، وتذكروا أنَّ ما لا يقدر على دفع المضرة عن نفسه ولا على الإخبار بمن كسره، فكيف يستحق أن يكون معبودًا؟ فَقالُوا أي: قال بعضهم لبعض: إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ على الحقيقة، حيث عبدتم من لا ينطق ولا يضر ولا ينفع لأنَّ من لا يدفع عن رأسه الفأس، فكيف يدفع عن عابده البأس! فأنتم الظالمون بعبادتها لا من ظلمتموه بقولكم: (إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ). أو: أنتم الظالمون لا من كسرها، ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ، وردّوا إلى أسفل سافلين، أُجري الحقُّ على لسانهم في القول الأول، ثم أدركتهم الشقاوة، أي: انقلبوا إلى المجادلة، بعد ما استقاموا بالمراجعة، شَبَّه عودهم
(٢) الحديث أخرجه البخاري فى (أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى: وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا.) ومسلم فى «الفضائل، باب من فضائل إبراهيم» من حديث أبى هريرة رضى الله عنه.
قالَ مبكتًا لهم وتوبيخًا: أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي: متجاوزين عبادته تعالى إلى ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً من النفع، وَلا يَضُرُّكُمْ إن لم تعبدوه، فإنَّ العلم بالحالة المنافية للألوهية مما يُوجب اجتناب عبادته، أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، أُفّ: اسم صوت تدل على التضجر، تَضجر عليه السلام من إصرارهم على الباطل، بعد انقطاع عذرهم ووضوح الحق، فأفَّف بهم وبأصنامهم، أي: لكم ولأصناكم هذا التأفف، أَفَلا تَعْقِلُونَ أن من هذا وصفه لا يستحق أن يكون إلهًا. والله تعالى أعلم.
الإشارة: من أراد أن يكون إبراهيميًا حنيفيًا فليكسر أصنام نفسه، وهي ما كانت تهواه وتميل إليه من الحظوظ النفسانية والشهوات الجسمانية، حتى تنقلب حقوقًا ربانية، فحينئذ يريه الحق ملكوت السموات والأرض، ويكون من الموقنين. وأمُّ الشهوات: حب الدنيا، ورأسها: حب الرئاسة والجاه، وأكبر الأصنام: وجودك الحسي، فلا حجاب أعظم منه، ولذلك قيل:
وُجودُكَ ذَنْبٌ لا يقاس به ذنب فإن غبتَ عنه، وكسرته، غابت عنك جميعُ العوالم الحسية، وشهدت أسرار المعاني القدسية، فشهدت أسرار الذات وأنوار الصفات، وإلى هذا المعنى أشار ابن العريف رضى الله عنه بقوله:
بَدَا لَكَ سِرٌّ طَالَ عَنْكَ اكْتتَامُهُ | وَلاَحَ صَبَاحُ كُنْتَ أنْتَ ظَلاَمُهُ |
فَأنْتَ حِجَابُ القَلْبِ عَنْ سِرِّ غَيبهِ | وَلَوْلاَكَ لَمْ يُطْبَعْ عَلَيْهِ خِتَامُهُ |
فَإنْ غِبْتَ عَنْهُ حَلَّ فِيهِ، وَطَنَّبَتْ | عَلَى مَوْكبِ الكَشْفِ المصُونِ خِيَامُهُ |
وَجَاء حَدِيثٌ لا يُمَلُّ سَمَاعُهُ | شَهِيٌّ إليْنَا نَثْرُهُ وَنِظَامُهُ |
إذَا سَمِعَتْهُ النَّفْسُ طَابَ نَعِيمُهَا | وَزَالَ عَنِ القَلْبِ المُعَنَّى غَرامُهُ |
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٦٨ الى ٧٠]
قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (٦٨) قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ (٦٩) وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ (٧٠)
يقول الحق جلّ جلاله: قالُوا حَرِّقُوهُ أي: قال بعضهم لبعض، لَمَّا عجزوا عن المحاججة، وضاقت عليهم الحيل، وعييت بهم العلل، وهذا دَيْدنُ المبطل المحجوج، إذا قُرعَت شبهه بالحجة القاطعة وافتضح، لم يبق له حينئذ إلا المناصبة والمعاداة، فناصبوا إبراهيم عليه السلام، وقالوا حرِّقوه بالنار لأنه أشد العقوبات، وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ بالانتقام لها إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ للنصر، أي: إن كنتم ناصرين آلهتكم نصرًا مؤزرًا، فاختاروا له أهول المعاقبات، وهو الإحراق، وإلاَّ فقد فرطتم في نصرتها، والذي أشار بالإحراق نمرود، أو رجل من أكراد فارس، اسمه «هيزن»، وقيل: «هدير»، خسفت به الأرض، فهو يتجلجل إلى يوم القيامة «١».
رُوِيَ أنهم، لما أجمعوا على حرقه عليه السلام، بنوا له حظيرة بكُوثَى- قرية من قرى الأنباط بالعراق- فجمعوا صلاب الحطب من أصناف الخشب، مدة أربعين يومًا، وقيل: شهرًا، حتى إن المرأة تنذر: لَئِنْ أصابت حاجتها لتَحِطَبنَّ في نار إبراهيم. ثم أوقدوا نارًا عظيمة، لا يكاد يحومُ حولها أحد، حتى إن كانت الطير لتمرُ بها، وهي في أقصى الجو فتحترق من شدة وهجها، ولم يقدر أحد أن يقربها، فلم يعلموا كيف يُلقونه عليه السلام فيها، فأتى إبليس وعلمهم علمَ المنجنيق، فعملوه. وقيل: صنعه لهم رجل من الأكراد، فخسف الله تعالى به في الأرض مثل الآخر، ثم عمدوا إلى إبراهيم عليه السلام، فوضعوه فيه مغلولاً مقيدًا مجردًا، فصاحت السماءُ والأرضُ ومن فيها من الملائكة: يا ربنا، إبراهيم، ليس في الأرض أحد يعبدك غيرُه، يُحرق فيك، فَأذَنْ لنا في نصرته، فقال لهم: إن استغاث بواحد منكم فأغيثوه، فرموا به فيها من مكان شاسع، فقال له جبريل عليه السلام، وهو في الهواء: ألك حاجة؟ فقال: أما إليك فلا.
قال: فسل ربك. فقال: حسبي من سؤالي علمه بحالي «٢»، فرفع همته عن الخلق، واكتفى بالواحد الحق، فجعل الله الخطيرةَ روضة. وهذا معنى قوله: قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ أي: كوني ذات برد وسلام، أي: ابردي بردًا غير ضار.
(٢) انظر تفسير الطبري (١٧/ ٤٤) والبغوي (٥/ ٣٢٧) وابن كثير (٣/ ١٨٤). والوارد فى ابن كثير: «أمَّا إليك: فلا، وأما إلى الله، فبلى».
قال إبراهيم عليه السلام: ما كنتُ أيامًا قط أنعم مني من الأيام التي كنتُ فيها. قال ابن بسار: وبعث الله تعالى ملك الظل فقعد إلى جنبه يُؤنسه، قالوا: وبعث الله بقميص من حرير الجنة. قلت: وقد تقدم ذكره في سورة يوسف «٥».
وأتاه جبريل فقال: إن ربك يقول: أما علمت أن النار لا تضر أحبائي. فنظر نمرود من صرحه، فأشرف عليه، فرآه جالسًا في روضة مونقة، ومعه جليسٌ على أحسن ما يكون من الهيئة، والنار محيطة به، فنادى: يا إبراهيم هل تستطيع أن تخرج منها؟ قال: نعم، قال: فاخرج، فقام يمشي فخرج منها، فاستقبله نمرود وعظَّمه. وقال: من الرجل الذي رأيتُه معك؟ قال ذلك ملك الظل، أرسله ربي ليؤنسني، فقال: إني مُقرب إلى إلهك قربَانًا لِمَا رأيته من قدرته وعزته فيما صنع بك. فقال عليه السلام: لا يقبل الله منك ما دُمتَ على دينك هذا، حتى تفارقه إلى ديني، قال:
لا استطيع ترك ملكي، ولكن سأذبح له أربعة آلاف بقرة، فذبحها، وكف عن إبراهيم «٦» عليه السلام.
قال شعيب الجبائي: أُلقِي إبراهيم في النار وهو ابن ست عشرة سنة، وذبح إسحاق «٧» وهو ابن سبع سنين، وولدته سارة وهي بنت تسعين سنة، ولمّا علمت ما أراد من ذبحه بقيت يومين وماتت في الثالث «٨».. هـ. وهذا كما ترى من أكبر المعجزات، فإنَّ انقلاب النار هواء طيبًا، وإن لم يكن بدعًا من قدرة الله، لكنه من أكبر الخوارق، واختلف في كيفية برودتها فقيل: إن الله تعالى أزال ما فيها من الحر والإحراق، وقيل: دفع الله عن جسم إبراهيم حرها وإحراقها مع تَرْكِ ذلك فيها، واللهُ على كل شيءٍ قدير.
(٢) جاء فيما أخرجه البخاري فى (أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى: وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا، ومسلم فى (السلام، باب استحباب قتل الوزغ) عن أم شريك.
(٣) أخرجه مسلم فى الموضع السابق ذكره، عن السيدة عائشة وابن عامر بن سعد عن أبيه. [.....]
(٤) أخرجه الطبري (١٧/ ٤٤) عن كعب.
(٥) راجع تفسير الآية ٩٦ من سورة يوسف.
(٦) ذكره البغوي فى تفسيره (٥/ ٣٢٩) وصاحب زاد المسير (٥/ ٣٦٧).
(٧) راجع: التعليق على تفسير الآية ١٢٤ من سورة البقرة.
(٨) أخرجه الطبري (١٧/ ٤٥).
الإشارة: أجرى الله تعالى عادته في المتوجه الصادق، إذا أراد الوصول إلى حضرته، أن يبْتَليه قبل أن يُمكنه، ويمتحنه قبل أن يُصافيه لأنَّ محبته تعالى مقرونة بالبلاء، والداخل على الله منكور، والراجع إلى الناس مبرور. فإذا رُمِيَ الولي في منجنيق الابتلاء، وألقي في نار الجلال، وتعرضت له الأكوان: ألك حاجة؟ فيقول- إن كان مؤيَدًا-: أمَّا إليك فلا، وأما إلى الله فبلى، فإذا قيل له: سله، فيقول: علمه بحالي يغني عن سؤالي. فلا جرم أن الله تعالى يقول لنار الجلال: كوني بردًا وسلامًا على وليي، فينقلب حرها بردًا وسلامًا، فلا يرى أيامًا أحلى من تلك الأيام التي ابتُلي فيها. وهذا أمر مجرب مَذُوق، وأما إن التفت إلى التعلق بغير الله تعالى، فإنَّ البلاء يُشدد عليه، أو يخرج من دائرة الولاية، والعياذ بالله. فالولي هو الذي يقلب الأعيان بهمته، وبالنور الذي في قلبه، حسية كانت أو معنوية، فيقلب الخوف أمنًا، والحزن سرورًا، والقبض بسطًا، والفاقة غنًى، وهكذا.. فحينئذ تنفعل له الأشياء وتطيعه، وتخرق له العوائد، حتى لو ألقي في النار الحسية لبردت. قال الورتجبي: كان الخليل منُورًا بنور الله، وكان فعل النار من فعل الله، فغلب نور الصفة على نور الفعل، ولو بقيت النار حتى وصل إليها الخليل لصارت مضمحلة، فعلم الحق ذلك، فقال لها: (كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ) حتى تبقى لظهور معجزته وبيان كرامته. هـ.
ومصداق ما ذكره: قول النار يوم للقيامة للمؤمن: جُز فقد أطفأ نورك لهبي «١»، كما ورد. والله أعلم.
ثم ذكر هجرة إبراهيم إلى الشام، فقال:
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٧١ الى ٧٢]
وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ (٧١) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنا صالِحِينَ (٧٢)
قلت: «إلى الأرض» : يتعلق بحال محذوفة، ينساق إليها الكلام، أي: ذاهبًا بهما إلى الأرض.
يقول الحق جلّ جلاله: وَنَجَّيْناهُ أي: إبراهيم وَلُوطاً ابن أخيه هاران، ذاهبًا بهما من العراق إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ، وهي أرض الشام. وبركاته العامة: أنَّ أكثر الأنبياء بُعثوا فيها، فانتشرت في العالمين شرائعهم، التي هي مبادئ الخيرات الدينية والدنيوية، وهي أرض المحشر، فيها يجمع الناس،
قال ابن إسحاق: خرج إبراهيم من كُوثى من أرض العراق، وخرج معه لوط وسارة، فنزل حَرّان، ثم خرج منها إلى مصر، ثم خرج منها إلى الشام، فنزل السَّبُعَ من أرض فلسطين بزوجه سارة، بنت عمه هاران الأكبر، ونزل لوط عليه السلام بالمؤتفكة، وبينهما مسيرة يوم وليلة، وكلاهما من الشام.
وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً أي: وهبنا له إسحاق ولدًا من صلبه، وزاد يعقوب، ولد ولده، نافلة لأنه سأل ولدًا بقوله: رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ «١» فأُعطيه، وأُعطى يعقوب نافلة، زائدًا على ما سأل لأنه أعطى من غير سؤال، فكأنه تبرعًا. قال ابن جزي: واختار بعضهم- على هذا- الوقف على «إسحاق» لبيان المعنى، وهذا ضعيف لأنه معطوفٌ على كل قول. هـ. وقيل: (نافِلَةً) يرجع لهما معًا، أي: أعطيناه ولدًا وولد ولد، عطيةً، فيكون حالاً منهما معًا، قيل: هو مصدر، كالعاقبة من غير لفظ الفعل، الذي هو (وَهَبْنا) وقيل: اسم، وَكُلًّا أي:
كل واحد من هؤلاء الأربعة، جَعَلْنا صالِحِينَ بأن وفقناهم لصلاح الظاهر والباطن، حتى استحقوا الخصوصية. والله تعالى أعلم.
الإشارة: الهجرة سُنَّة من سُنن الأنبياء والأولياء، فكل من لم يجد في بلده من يعينُه على دينه، يجب عليه الانتقال إلى بلدٍ يجد فيها ذلك. وكذلك المريد إذا لم يجد قلبه في محل لكثرة عوائده وشواغله، بحيث يشوش عليه قلبه، فلينتقل إلى بلد تقل فيها العلائق والشواغل، إن وجد فيها من يحرك معهم فنَّه، كان بادية أو حاضرة.
والغالب أن الحاضرة تكثر فيها العوائد والحظوظ والشهوات، فلا يدخلها المريد حتى يتقوى ويملك نفسه، يأخذ النصيب من كل شيء، ولا ينقص من نصيبه شيء، وقد تقدّم هذا مراراً. وبالله التوفيق.
ثم مدحهم بالإمامة والاهتداء، فقال:
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ٧٣]
وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ (٧٣)
يقول الحق جلّ جلاله: وَجَعَلْناهُمْ أي: إبراهيم وإسحاق ويعقوب، أَئِمَّةً يُقتدى بهم في أمور الدين إجابة لدعوته بقوله: وَمِنْ ذُرِّيَّتِي «٢» أي: فاجعل أئمة، يَهْدُونَ الخلق إلى الحق، بِأَمْرِنا
(٢) كما جاء فى الآية ١٢٤ من سورة البقرة.
وأنتم يا معشر العرب والعجم من ذريتهم، فاتبعوهم في ذلك. وبالله التوفيق.
الإشارة: إنما يعظم جاه العبد عند الله بثلاثة أمور: انحياشه بقلبه إلى الله، ومسارعته إلى ما فيه رضا الله، وإرشاد العباد إلى الله، بدعائهم إلى الله بالحال والمقال، فبقدر ما يقع من هداية الخلق على يديه يعلو مقامه عند الله، إن حصلت المعرفة بالله، وبهذا تعرف شرف مرتبة مشيخة الصوفية، الدالين على الله، الداعين إلى حضرة الله، إن تكلموا وقع كلامهم في قلوب الخلق، فيرجعون إلى الله من ساعتهم، مجالسهم كلها وعظ وتذكير، حالهم يُنهض إلى الله، ومقالهم يدل على الله، ففي ساعة واحدة يتوب على يديهم من الخلق ما لا يتوب على يد العالم في سنين وذلك لإنهاض الحال والمقال، فلا جَرَمَ أنهم أعز الخلق إلى الله، وأعظمهم قدرًا عند الله.
قال السهروردي في العوارف: ورد في الخبر عن رسول الله ﷺ أنه قال: «والذي نفسُ محمدٍ بيده لئن شئتُم لأُقسِمَنَّ لكم، إنَّ أحبَّ عباد الله إلى الله الذين يُحَبَّبُون اللهُ إلى عباده، ويحببون عباد الله إلى اللهِ، ويمشُون في الأرض بالنصيحة». وهذا الذي ذكر رسول الله ﷺ هو رتبة المشيخة والدعوة فإن الشيخ يُحبب الله إلى عباده حقيقة، ويحبب عباد الله إلى الله.
فأما كونه يُحبب عباد الله إلى الله لأن الشيخ يسلك بالمريد طريق الاقتداء برسول الله ﷺ في أفعاله وأخلاقه.
ومن صح اقتداؤه واتباعه أحبه الله، قال تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ «١»، ووجه كونه يُحبب الله إلى عباده لأنه يسلك بالمريد طريق التزكية، وإذا تزكت النفس انجلت مرآة القلب، ودخل فيها نور العظمة الإلهية، ولاح فيها جمال التوحيد، وذلك ميراث التزكية، قال الله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها «٢»، وفلاحها: الظفر بمعرفة الله، فإذا عرفه، قطعًا، أحبه وفنى فيه. فرتبة المشيخة من أعلى الرتب لأنها خلافة النبوة في الدعوة إلى الله.
(٢) من الآية ٩ من سورة الشمس.
انتهى كلامه رضى الله عنه.
ومن كلام ذي النون المصري- لمّا تكلم على الأبدال- قال: فهممهم إليه ثائرة، وأعينهم إليه بالغيب ناظرة، قد أقامهم على باب النظر من رؤيته، وأجلسهم على كراسي أطباء أهل معرفته، ثم قال لهم: إن أتاكم عليل من فقدي فداووه، أو مريض من فراقي فعالجوه، أو خائف مني فانصروه، أو آمن مني فحذروه، أو راغب في مواصلتي فمنوه، أو راحل نحوي فزودوه، أو جبان في متاجرتي فشجعوه، أو آيس من فضلي فرجوه، أو راج لإحساني فبشروه، أو حسن الظن بي فباسطوه، أو مُعظَّم لقدري فعظموه، أو مسيء بعد إحساني فعاتبوه، أو مسترشد فأرشدوه. هـ. وهذه صفة مشايخ التربية على ما شهدناهم، وما شهدنا إلا بما علمنا. وبالله التوفيق.
ثم ذكر نبيه لوطا ونوحا- عليهما السّلام- فقال:
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٧٤ الى ٧٧]
وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ (٧٤) وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٧٥) وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦) وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (٧٧)
قلت: «ولوطًا» : إما مفعول بمحذوف يُفسره قوله: «آتيناه» أي: وآتينا لوطًا، أو: باذكر. و «نوحًا» : مفعول باذكر.
يقول الحق جلّ جلاله: وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً أي: حكمة، أو نبوة أو فصْلاً بين الخصوم بالحق، وَعِلْماً بِنَا وبما ينبغي علمه للأنبياء- عليهم السلام- من علم السياسة، وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ اللواطة، وقذف المارة بالحصى، وغيرها، وصفت بصفة أهلها، وأسندت إليها على حذف
(٢) عزاه فى كنز العمال (١/ ١٨٧٢) لأبى نعيم فى الحلية، عن الحسن، مرسلا.
وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا أي: في أهل رحمتنا، أو جنتنا، إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ الذين صلحت ظواهرهم وبواطنهم، فنجيناه جزاء على صلاحه، كما أهلكنا قريته عقابا على فسادهم.
وَاذكر نُوحاً، وقدّم هؤلاء عليه لتعلقهم بإبراهيم، أي: خبره، إِذْ نادى أي: دعا الله تعالى على قومه بالهلاك، أي: اذكر نبأه الواقع وقت دعائه، مِنْ قَبْلُ هؤلاء المذكورين، فَاسْتَجَبْنا لَهُ دعاءه الذي من جملته قوله: أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ «١»، فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ المؤمنين به، من ولده وقومه، مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ، وهو الطوفان وتكذيب أهل الطغيان. وأصل الكرب: الغم الشديد، وَنَصَرْناهُ نصرًا مستتبعًا للانتقام، مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أي: منعناه من إذايتهم، إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ، تعليل لما قبله، فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ، صغيرهم وكبيرهم، ذكرهم وأنثاهم لأن الإصرار على تكذيب الحق، والانهماك في الشر والفساد، مما يُوجب الإهلاك العام. والله تعالى أعلم.
الإشارة: نبي الله لوط عليه السلام لمَّا هاجر من أرض الظلمة إلى الأرض المقدسة، أعطاه الله العلم والحكمة. فكل من هاجر من وطن الغفلة إلى محل الذكر واليقظة، وهجر ما نهى الله عنه عوَّضه الله علمًا بلا تعلم، وأجرى على لسانه ينابيع الحكمة. قال أبو سليمان الداراني رضى الله عنه: إذا اعتقدت النفس على ترك الآثام، جالت في الملكوت، وعادت إلى ذلك العبد بطرائف الحكمة، من غير أن يؤدي إليها عالمٌ علمًا. ومصداقه الحديث: «من عمل بما يعلم، ورثه الله عَلْمَ ما لم يعلم».
ولمَّا أجهد نفسه في تغيير المنكر نجّاه الله من أذاهم وما لحق بهم، وكذلك نبيه نوح عليه السلام لما دعا قومه إلى الله، وأجهد نفسه في نصحهم، نجاه الله من شرهم، وجعل النسل من ذريته، فكان آدم الأصغر. وهذه عادة الله تعالى في خواصه، يُكثر فروعهم، ويجعل البركة في تركتهم. وبالله التوفيق.
ثم ذكر داود وسليمان- عليهما السلام- فقال:
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٧٨ الى ٨٢]
وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ (٧٨) فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ (٧٩) وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ (٨٠) وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ (٨١) وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ (٨٢)
يقول الحق جلّ جلاله: وَاذكر خبر داوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ أي: وقت حكمهما فِي الْحَرْثِ أي: في الزرع، أو في الكرم المتدلي عناقيده، والحرث يطلق عليهما، إِذْ نَفَشَتْ: دخلت فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ فأفسدته ليلاً، فالنفش: الرعي بالليل، والهمَلُ بالنهار، وهما الرعي بلا راع. وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ أي: لهما وللمتحاكمين إليهما، أو على أنَّ أقل الجمع اثنان، شاهِدِينَ، كان ذلك بعلمنا ومرأى منا، لم يغب عنا شيء منه، فَفَهَّمْناها أي: الحكومة، أو الفتوى، سُلَيْمانَ، وفيه دليل على أنَّ الصواب كان مع سليمان.
وقصتهما على ما قال ابن عباس وغيره: أن رجلين دخلا على داود عليه السلام، أحدهما: صاحب حرث، والآخر صاحب غنم، فقال صاحب الزرع: إنَّ هذا نفشت غنمه ليلاً، فوقعت في حرثي، فلم تُبق منه شيئًا، فقال له داود:
اذهب فإن الغنم لك، ولعله استوت قيمتاهما- أي: قيمة الغنم كانت على قدر النقصان في الحرث- فخرج الرجلان على سليمان، وهو بالباب، وكان ابن إحدى عشرة سنة، فأخبراه بما حكم به أبوه، فدخل عليه، فقال: يا نبيَّ اللهِ لو حكمت بغير هذا لكان أرفق بالفريقين، قال: وما هو؟ قال: يأخذ صاحبُ الغنم الأرضَ ليُصلحها، حتى يعود زرعها كما كان، ويأخذ صاحب الزرع الغنمَ ينتفع بألبانها وصوفها ونسلها، فإذا كمل الزرع، رُدت الغنم إلى صاحبها، والأرض بزرعها إلى ربها، فقال داود: وُفقت يا بُني، وقضى بينهما بذلك.
والذي يظهر: أن حكمهما- عليه السلام- كان باجتهاد، ففيه دليل على أن الأنبياء يجتهدون فيما لم ينزل فيه وحي، فإنَّ قول سليمان عليه السلام: «هَذَا أرفق»، وقوله: «أرى أن تدفع..» الخ، صريح في أنه ليس بطريق الوحي، وإلا لبت القول بذلك، ولعله وجه حكم داود عليه السلام قياس ذلك على جناية العبد، فإنَّ العبد فيما جنى. وإذا قلنا: كان بوحي، يكون حكم سليمان ناسخًا لحكم داود عليه السلام.
لا يضمن ما أفسدت بالليل ولا بالنهار لقوله عليه الصلاة والسلام: - «العَجْماءُ جُرْحُها جُبَار» «٢»، ما لم يكن معها سائق أو قائد، فيضمن عنده.
قال تعالى: وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً أي: كل واحد منهما آتيناه حكمًا، أي: نبوة، وعلمًا: معرفة بمواجب الحكم، لا سليمان وحده. وفيه دليل على أنَّ خطأ المجتهد لا يقدح في علمه ولا يرفع عنه صفة الاجتهاد.
ثم بيَّن ما اختص به كل واحد منهما من المعجزات، فقال: وَسَخَّرْنا أي: ذللنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ، حال كونها يُسَبِّحْنَ أي: مسبحات ينزهْنَ الله تعالى بلسان المقال، كما سبّح الحصا في كف نبينا عليه الصلاة والسلام. وَسخرنا له الطَّيْرَ كانت تسبح معه. وقدَّم الجبال على الطير لأن تسخيرها وتسبيحها أغرب وأدخل في الإعجاز لأنها جماد. قال الكواشي: كان داود إذا سبّح سبّح معه الجبالُ والطير، وكان يفهم تسبيح الحجر والشجر، وكان إذا فتَر من التسبيح، يُسمعه الله تعالى تسبيح الجبال والطير لينشط في التسبيح ويشتاق إليه. ورُوي أنه كان إذا سار سارت الجبال معه مسبحة، قال قتادة: «يُسبحن»، أي: يصلين معه إذا صلى، وهذا غير ممتنع في قدرة الله تعالى. وفي الأثر: «كان داود يمرُّ، وصِفَاح الروحاءُ تجاوبه، والطير تساعده».
وَكُنَّا فاعِلِينَ بالأنبياء أمثال هذا وأكثر، فليس ذلك ببدع منا ولا صعب على قدرتنا.
وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ أي: صنعة الدروع. واللبوس لغة في اللباس، والمراد: الدرع، لَكُمْ أي: نافع لكم، لِتُحْصِنَكُمْ «٣» أي: اللبوس، أو داود. وقرئ بالتأنيث، أي: الصنعة، أو اللبوس بتأويل الدرع. وقرئ بنون العظمة، أي: الله تعالى، وهو بدل اشتمال من «لكم». وقوله: مِنْ بَأْسِكُمْ أي: من حرب عدوكم، أو من وقع السلاح فيكم، فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ الله على ذلك؟ وهو استفهام بمعنى الأمر للمبالغة والتقريع.
ثم ذكر ما اختص به سليمان عليه السلام فقال: وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ أي: وسخرنا له الريح. وإيراد اللام هنا، دون الأولى للدلالة على ما بين التسخيرين من التفاوت، فإن تسخير ما سخر لسليمان عليه السلام كان بطريق الانقياد الكلي والامتثال لأمره ونهيه، بخلاف تسخير الجبال، لم يكن بهذه المثابة، بل بطريق التبعية والاقتداء. حال كون الريح
(٢) أخرجه البخاري فى (الزكاة: باب فى الركاز الخمس)، ومسلم فى (الحدود، باب جرح العجماء) من حديث أبى هريرة رضى الله عنه.
(٣) قرأ أبو جعفر وابن عامر وحفص «لتحصنكم» بالتاء، وقرأ أبو بكر عن عاصم بالنون، وقرأ الآخرون (ليحصنكم) بالياء. انظر الإتحاف (٢/ ٢٦٦).
تَجْرِي بِأَمْرِهِ بمشيئة سليمان، إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها بكثرة الأنهار والأشجار والثمار، وهي الشام. وكان منزله بها، وتحمله إلى نواحيها. قال وهب: كان سليمان إذا خرج من منزله عكفت عليه الطير، وقام له الجن والإنس حتى يجلس على سريره، وكان غزّاءً لا يقصر عن الغزو، فإذا أراد غزوًا أمر فضرب له بخشب، ثم يُنصب له على الخشب، ثم حَمَلَ عليه الناس والدواب وآلة الحرب، فإذا حمل معه ما يريد أمر العاصف فدخلت تحت الخشب فاحتملته، فإذا استقلت، أمر الرخاء فمرت به شهرًا في روحته وشهرًا في غدوته، إلى حيث أراد. هـ.
وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ أي: أحاط علمنا بكل شيء، فنُجري الأشياء على ما سبق به علمنا، واقتضته حكمتنا.
وَمِنَ الشَّياطِينِ، قيل: لمَّا ذكر تسخير الريح- وهي شفافة لا تعقل- ذكر ما هو شفاف يعقل، وهم الشياطين، مع سرعة الحركة في الكل، أي: وسخرنا له من الشياطين مَنْ يَغُوصُونَ في البحار، ويستخرجون لَهُ من نفائسه، كالدر والياقوت، وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذلِكَ أي: غير ما ذكر من بناء المدن والقصور والمحاريب والتماثيل والقدور الراسيات، وقيل: الحمام، والنورة، والطاحون، والقوارير، والصابون، مما استخرجوه له، وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ أن يزيغوا عن أمره، أو يُبدلوا، أو يوجد منهم فساد فيما هم مسخرون فيه، على ما هو مقتضى جبلتهم. وقال الزجاج: كان يحفظهم من أن يُفسدوا ما عملوا، وكان دأبهم أن يُفسدوا بالليل ما عملوه بالنهار. وقيل: وكَّل بهم جمعًا من الملائكة، وجمعًا من مؤمني الجن. رُوي أن المُسَخَّر له عليه السلام: كفارهم، لا مؤمنهم لقوله تعالى: (وَمِنَ الشَّياطِينِ). والله تعالى أعلم.
الإشارة: قوله تعالى: (فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ)، قال الورتجبي: بيَّن، سبحانه، أن الفضل متعلق بفضله، لا يتعلق بالصغر والكبر والشيخوخة والاكتساب والتعلم، إنما الفهم تعريف الله أحكام ربوبيته بنور هدايته، وإبراز لطائف علومه الغيبية، فحيث يظهر ذلك فهناك مواضع الفهوم من العلوم، فهو سبحانه منَّ على سليمان بعلمه، ولم يمنّ عليه بشيء خارج عن نفسه من الملك، والحدثان أفضل من العلم فإنَّ العلم صفة من صفاته تعالى، فلمَّا جعله متصفًا بصفاته منَّ عليه بجلال كبريائه. هـ. وقال في قوله: وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً: حُكمًا معرفة بالربوبية، وعلمًا بالعبودية. هـ.
ثم ذكر أيوب عليه السّلام، فقال:
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٨٣ الى ٨٤]
وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٨٣) فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ (٨٤)
يقول الحق جلّ جلاله: وَاذكر خبر أَيُّوبَ عليه السلام إِذْ نادى رَبَّهُ: دعاه: أَنِّي أي: بأني مَسَّنِيَ الضُّرُّ وهو بالضم: ما يصيب النفس من مرض وهزال، وبالفتح: الضرر في كل شيء، وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، تلطف في السؤال حيث ذكر نفسَه بما يوجب الرحمة، وذكر ربه بغاية الرحمة، ولم يصرح بالمطلوب من كمال أدبه، فكأنه قال: أنت أهل أن تَرحم، وأيوب أهل أن يُرحَم، فارحمه، واكشف عنه ضره الذي مسه. عن أنس: أنه أخبر عن ضعفه حين لم يقدر على النهوض إلى الصلاة، ولم يشتك، وكيف يشكو، والله تعالى يقول: إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ «١».
وقيل: إنما اشتكى إليه تلذذًا بالنجوى، لا تضررًا بالشكوى، والشكاية إليه غاية في القُرب، كما أن الشكاية منه غاية في البُعد، وسيأتي في الإشارة تكميله، إن شاء الله. رُوي أن أيوب عليه السلام، كان من الروم، وهو أيوب بن أمُوص ابن تارَح بن رعويل بن عيص بن إسحاق. وكانت أمه من ولد لوط عليه السلام اصطفاه الله للنبوة والرسالة، وبسط عليه الدنيا فكان له ثلاثة آلاف بعير، وسبعة آلاف شاة، وخمسمائة فدان، يتبعها خمسمائة عبد، لكل عبد امرأة وولد، وكان له سبعة بنين، وسبع بنات. قاله النسفي.
زاد الثعلبي: وكانت له المشيئةُ من أرض الشام كلها، وكان له فيها من صنوف المال ما لم يكن لأحد من الخيل والبقر والغنم والحُمُر وغيره، وكان برًا تقيًا رحيمًا بالمساكين، يكفل الأرامل والأيتام، ويكرم الضيف، ويبلغ
دونك الإبل ورعاتها، فجاءها حتى وثبت في مراعيها، فأثار من تحت الأرض إعصارًا من نار فأحرقها وأحرق رعاءها. فلما فرغ منها تمثل إبليس براعيها، وجلس على قَعُودٍ منها، فأتاه، وقال: يا أيوب، إن ربك الذي عبدته قد أحرق إبلك ورُعَاءَها، فقال أيوب: هو ماله، أعارنيه، يفعل فيه ما يشاء، فرجع إبليس خاسئًا، حين حمد أيوبُ ربه، فقال عفريت آخر: عندي من القوة ما إذا صِحتُ لم يسمع صوتي ذو رُوح إلا خرجت روحه، قال له إبليس: ائت الغنم ورعاءَها، فأتى، فصاح، فصارت أمواتًا ورعاتها، ثم خرج إبليس متمثلاً بقهرَمَان «١» الرعاة، فقال له كمقالته في الإبل، فأجابه أيوب بمثل ما أجابه فيها، فرجع خاسئًا، فقال عفريت آخر: عندي من القوة ما إذا تحولتُ ريحًا عاصفًا نسفتُ كل شيء أتيت عليه، قال إبليس: فأتِ الفدادين والحرث، فجاءها، فَهبَّتْ ريح عاصفة فنسفت كل شيء، حتى كأنه لم يكن ثَمَّ شيء، فخرج إبليس متمثلاً بقهْرَمَان الحرث، فقال له مثل قوله الأول، وردَّ عليه مثل رده، حتى أتى على جميع ماله، وأيوب يحمد الله تعالى.
فقال إبليس: إلهي إن أيوب يقول: إنك ما متعْتَهُ إلا بنفسه وولده، فهل تسلطني على ولده، فإنها الفتنة؟ قال الله تعالى: قَدْ سلطتك على ولده، فجاء إبليس فقلب عليهم القصر منكسين، وانطلق إلى أيوب متمثلاً بالمُعلم الذي يُعلمهم الحكمة، وهو جريح، فقال: يا أيوب لو رأيت بنيك كيف عُذبوا؟ ونُكِّسوا على رؤوسهم، وسال دماغهم من أنوفهم، فلم يزل من قوله حتى رقَّ أيوبُ وبكى، وقبض قبضة من التراب فوضعها على رأسه، فصعد إبليس مسرورًا، ثم ذهب أيوب، فلما أبصر ذلك استغفر، وصعد قرناؤه من الملائكة، بتوبته فبادروا إلى الله تعالى، وهو أعلم، فوقف إبليس خاسئًا، فقال: إلهي إنما هوّن أيوب خطر المال والولد، فهل أنت مسلطي على جسده؟ فإني لك زعيم إن سَلَّطَّني على جسده ليكفرنّ بك، قال الله تعالى: قَدْ سلطتك على جسده، ولكن ليس لك سلطان على لسانه وقلبه وعقله، فجاءه إبليس فوجده ساجدًا، فجاء من قِبل الأرض، فنفخ في منخره نفخة اشتعل منها جسده، فَوهِلَ، وخرج من قرنه إلى قدمه تآليل مثل آليَاتِ الغنم، ووقعت به حكة لا يملكها، فحك بأظفاره، ثم بالمسُوح الخشنة، ثم بالحجارة، حتى نغل لحمه، وتغير، ونش، وتدود، فأخرجه أهل القرية، وجعلوه على كناسة، وجعلوا له عريشًا، ورفضه الخلق كلهم، إلا «رحمةً» امرأته بنت إفرائيم بن يوسف عليه السلام، فقامت عليه بما يصلحه.
رُوِيَ أن امرأته قالت له يومًا: لو دعوتَ الله عزّ وجلّ؟ فقال لها: كم كانت مدة الرخاء؟ قالت: ثمانين سنة. فقال:
إني أستحيي من الله أن أدعوه وما بلغت مدة بلائي مدة رخائي. هـ. ورُوي أن الدود أكل جميع جسده حتى بقي عظامًا نخرة، وهو مع ذلك لا يفتر عن ذكر الله وحمده وشكره، فصرخ إبليس صرخة، وقال: أعياني هذا العبد الذي سألتُ ربي أن يسلطنى عليه، فقالت له العفاريت: أرأيت آدم حين أخرجته من الجنة، ما أتيته إلا من قبل امرأته، فتمثل لها بصورة رجل طيب، وفي رواية الحسن: في هيئة ليست كهيئة بني آدم، في أحسن صورة، فقال لها: أين بعلك يا أمة الله؟ فقالت: هو ذاك، يحك قروحه، ويتردد الدود في جسده، فقال لها: أنا إله الأرض الذي صنعتُ بصاحبك ما صنعت لأنه عبد إله السماء وتركني، فلو سجد لي سجدة واحدة لرددت لكما ما كان لكما.
وقال وهب: قال لها: لو أكل طعامًا ولم يسمّ عليه لعُوفيَ من البلاء، فأخبرت أيوب، فقال: أتاك عدوُ الله ليفتنك عن دينك، ثم أقسم، إن عافاه الله، ليضربنها مائة ضربة. ثم حلف لا يأكل لها طعامًا، فبقي مهملاً لا يأتي إليه أحد، وقال عند ذلك: (مَسَّنِيَ الضُّرُّ) من طمع إبليس في سجودي له، (وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)، فقيل له: (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ) فركض، فنبعت عين ماء، فاغتسل منها، فلم يبق من دائه شيء، وسقطت الدود من جسده، وعاد شبابه وجماله. ثم ضرب برجله فنبعت عين أخرى، فشرب منها، فلم يبقَ في جوفه داء إلا خرج، وكانت امرأته «رحمة» حين حلف، تركته مدة، ثم ندمت وعادت، فوجدته في أحسن هيئة، فلم تعرفه، فقالت له: أين الرجل المبتلى الذي كان هنا؟ قال: أنا هو، شفاني الله، ثم عرفته بضحكه، فتعانقا، ثم أمره اللهُ تعالى أن يأخذ جماعة من القضبان فيضربها ضربة واحدة ليبرّ في يمينه. هـ. «٢».
(٢) جل ما ذكره الشيخ المفسر من روايات فى قصة أيوب أخرجه الطبري فى تفسيره (١٧/ ٦٥) وما بعدها، وذكره البغوي وغيره فى تفاسيرهم. وهذا مما يجب تنزيه الأنبياء عنه. وقد ردّ العلماء المحققون هذه الأخبار، وقال الدكتور أبو شهبة فى كتابه (الإسرائيليات والموضوعات) : والذي يجب أن نعتقده أن أيوب عليه السلام ابتلى، ولكن بلاءه لم يصل إلى حد هذه الأكاذيب. فأيوب عليه السّلام أكرم على الله من أن يلقى على مزبلة، وأن يصاب بمرض ينفر الناس من دعوته ويقززهم منه.. إلخ كلامه. انظر:
كتاب الإسرائيليات والموضوعات. فهو كتاب نفيس.
ثم قال تعالى في حق أيوب عليه السلام: فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ إنعامًا عليه، فلمّا قام من مرضه جعل يلتفت فلا يرى شيئًا مما كان له من الأهل، والمال، ثم أحيا الله أولاده بأعيانهم، ورزقه مثلهم، ورد عليه ماله، بأن أخلف له مثله، وذلك قوله تعالى: وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ وقيل: كان ذلك بأن ولد له ضعف ما كان له. وقال عكرمة: آتيناه أهله في الآخرة، ومثلهم معهم في الدنيا، والأول هو ظاهر الآية، ردهم الله تعالى بأعيانهم إظهارًا لكمال قدرته تعالى.
ثم قال رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا: مفعول من أجله، أي: آتينا ما ذكر لرحمتنا أيوب، وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ أي:
وتذكرة لغيره من العابدين ليصبروا كما صبر، ويُثابوا كما أُثيب، أو لرحمتنا العابدين، الذين من جملتهم أيوب، وذكرنا إياهم بالإحسان، وعدم نسياننا لهم. والله تعالى أعلم.
الإشارة: ما ينزل بالمؤمن من الأوجاع والأسقام والشدائد والنوائب، في النفس، أو في الأهل، كله رحمة، عظيمة، ومنّة جسمية، ويقاس عليه: مفارقة الأحباب والأوطان ومشاق الأسفار والمتاعب البدنية، ويُسمى عند الصوفية:
التعرفات الجلالية لأن الله تعالى يتعرف إليهم بها ليعرفوه عيانًا، ولذلك تجدهم يفرحون بها، وينبسطون عند ورودها لما يتنسمون فيها، ويجدون بعدها، من مزيد الاقتراب وكشف الحجاب، وطي مسافة البُعد بينهم وبين رب الأرباب، فهم يؤثرونها على الأعمال الظاهرة لِمَا يتحققون بها من وجود الأعمال الباطنية كالصبر والزهد والرضا والتسليم، وما ينشأ عنها، عند ترقيق البشرية، من تشحيذ الفكرة والنظرة، وغير ذلك من أعمال القلوب.
وفي الحِكَم: «إذا فتح لك وجهة من التعرف، فلا تُبالي معها إن قلَّ عملك فإنه ما فتحها لك إلاَّ وهو يريد أن يتعرف إليك منها، ألم تعلم أن التعرف هو مورده عليك، والأعمال أنت مهديها إليه، وأين ما تهديه إليه مما هو مورده عليك؟». قال الشيخ ابن عباد رضى الله عنه: معرفة الله تعالى هي غاية المطالب، ونهاية الأماني والمآرب، فإذا واجه اللهُ عبده ببعض أسبابها، وفتح له باب التعرّف له منها، فذلك من النعم الجزيلة عليه، فينبغي ألا يكترث بما يفوته بسبب ذلك من أعمال البر، وما يترتب عليها من جزيل الأجر، وليعلم أنه سلك به مسلك الخاصة المقرّبين،
ومثاله: ما يُصاب به الإنسان من البلايا والشدائد التي تُنَغِّصُ عليه لذات الدنيا، وتمنعه من كثير من أعمال البر، فإنَّ مرادَ العبد أن يستمر بقاؤه في الدنيا، طيَّبَ العيش ناعمَ البال، ويكون حاله في طلب سعادة الاخرة حال المترفين فلا تسخو نفسه إلا بالأعمال الظاهرة، التي لا كثير مُؤْنَةٍ عليه فيها ولا مشقة، ولا تقطع عنه لذة، ولا يفوته شهوة، ومراد الله منه أن يُطهره من أخلاقه اللئيمة، ويحول بينه وبين صفاته الذميمة، ويُخرجه من أَسْرِ وجوده إلى متسع شهوده، ولا سبيل إلى الوصول إلى هذا المقام على غاية الكمال والتمام، إلا بما يُضادُ مراده، ويشوّش عليه معتادَه، وتكون حاله حينئذ المعاملة بالباطن، ولا مناسبة بينها وبين الأعمال الظاهرة، فإذا فَهِمَ هذا عَلِمَ أن اختيار الله له، ومرادَه منه، خيرٌ من اختياره لنفسه ومراده لها.
وقد رُوِيَ أنَّ الله تعالى أوحى إلى بعض أنبيائه: «إني إذا أنزلت بعبدي بلائي، فدعاني، فماطلتُه بالإجابة، فشكاني، قلت: عبدي كيف أرحمك من شيء به أرحمك» ؟ وفي حديث أبي هريرة رضى الله عنه إن رسول الله ﷺ قال:
«قال الله تعالى: إذا ابتليت عبدي المؤمن فلم يشكني إلى عُوّاده، أنشطته من عقالي، وبدَّلته لحمًا خيرًا من لحمه، ودمًا خيرًا من دمه، ويستأنف العمل» «١».
ثم نقل عن أبي العباس ابن العريف رضى الله عنه قال: كان رجل بالمغرب يُدعى أبا الخيَّار، وقد عمّ جسده الجذامُ، ورائحة المسك تُوجد منه على مسافة بعيدة، لقيه بعضُ الناس، فقال له: يا سيدي كأن الله تعالى لم يجد للبلاء مَحلاً من أعدائه حتى أنزله بكم، وأنتم خاصة أوليائه!! فقال لي: اسكت، لا تقل ذلك لأنا لمّا أشرفنا على خزائن العطاء، لم نجد عند الله أشرف ولا أقرب من البلاء، فسألناه إِيّاه «٢»، وكيف بك لو رأيت سيّد الزهّاد، وقطبَ العباد، وإمام الأولياء والأوتاد، في غار بأرض طرطوس وجبالها، ولحمُه يتناثر، وجلده يسيل قيحًا وصديدًا، وقد أحاط به الذباب والنمل، فإذا كان الليل لم يقنع بذكر الله وشكره على ما أعطاه من الرحمة، حتى يشدّ نفسه بالحديد، ويستقبل القبلة عامَّةَ ليله حتى يطلع الفجر. هـ.
(٢) أمرنا رسول الله ﷺ بالتداوى. وقال: «اسألوا الله العافية».
قال بعضهم: قيل: إنه أراد النهوضِ إلى الصلاة فلم يستطع، فقال: (مَسَّنِيَ الضُّرُّ)، وقيل: إنه أكل الدود جميع جسده، حتى بقي عظامًا، فلما قصد الدودُ قلبَه ولسانَه غار على قلبه لأنه موضع المعرفة والتوحيد، والنبوة والولاية، وأسرار الله تعالى، وخاف انقطاع الذكر، فقال: (مَسَّنِيَ الضُّرُّ)، وقيل: خاف تبدد همه وتفرق قلبه، وليس في العقوبة شيء أشد من تبدد الهم، فتارة يقول: لعلي ببلائي مُعاقب، وتارة يقول: بضري مُستدرج، فلما خاف تشتيت خاطِره عليه، قال: (مَسَّنِيَ الضُّرُّ). هـ.
قلت: هذا المقام لا يليق بالأنبياء، وإنما يجوز على غيرهم إذ الأولياء يترقون عن هذا المقام فكيف بالأنبياء! وقال بعضهم: قال: مسني الضر من شماتة الأعداء، واقتصر عليه ابنُ جُزي، وفيه شيء إذ كثير من الأولياء سقط الناس من عينهم، فلا يُبالون بخيرهم ولا شرهم، ولا مدحهم ولا ذمهم، فكيف بالأنبياء- عليهم السلام-؟! وقال القشيري: كان ذلك منه إظهارًا للعجز، لا اعتراضًا، فلا يُنافي الصبر، مع ما فيه من التنفيس عن الضعفاء من الأمة، ليكون أسوة. ويقال: إن جبريل أمره بذلك، وقال له: إن الله يغضبُ إن لم يُسأل، وسيان عنده البلاء والعافية، فسَله العافية. ويقال: إن أيوب كان مُكَاشَفًا بالحقيقة، مأخوذًا عنه، وكان لا يُحِسُّ بالبلاء، فَسَتَر عليه، فردَّه إليه، فقال: مَسني الضُّرُّ، وقيل: أَدْخَل على أيوب تلك الحالة، فاستخرج منه تلك المقالة ليظهر عليه سمة العبودية «١». هـ.
وقال الورتجبي: سُئل الجنيد عن قوله: (مَسَّنِيَ الضُّرُّ)، فقال عرّفه فاقة السؤال، ليمنّ عليه بكرم النوال، وفي الحديث المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه جاء إليه رجل فسأله عن قول أيوب «مسنى الضر»، فبكى- عليه الصلاة والسّلام- وقال: والذي بعثني بالحق نبيًا ما شكى فقرًا نزل من ربه، ولكن كان في بلائه سبع سنين وسبعة أشهر وسبعة أيام وسبع ساعات، فلما كان في بعض الساعات وثب ليُصلي، فلم يستطع النهوض، فقال: (مَسَّنِيَ الضُّرُّ) إلخ. ثم قال عليه الصلاة والسّلام-: أكل الدود عامة جسد حتى بقي عظامًا نخرة «٢»، فكادت الشمس تطلع من قُبله وتخرج من دُبره، وما بقي إلا قلبه ولسانه، وكان قلبه لا يخلو من ذكر الله، ولسانه لا يخلو من ثنائه على ربه، فلما أحب الله له الفرج، بعث إليه الدودتين إحداهما إلى لسانه والأخرى إلى قلبه، فقال: يا رب ما بقي إلا هاتان الجارحتان، أذكرك بهما، فأقبلت هاتان الدودتان إليهما ليشغلاني عنك ويطلعان على سري، مسني الضر وأنت أرحم الراحمين. هـ.
وفي قوله تعالى: (رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ) : تسلية لمن أصيب بشيء من هذه التعرفات الجلالية، وقد تقدم في أول الإشارة الكلام على هذا. والله تعالى أعلم.
(٢) لم أقف عليه.
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٨٥ الى ٨٦]
وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (٨٥) وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٦)
يقول الحق جلّ جلاله: وَاذكر إِسْماعِيلَ بن إبراهيم، وكان أكبر من إسحاق، وَإِدْرِيسَ واسمه: أخنوخ بن شيث بن آدم. قاله النسفي وَذَا الْكِفْلِ وهو إلياس، أو زكريا، أو يوشع بن نون، قلت: كونه زكريا بعيد لأنه سيذكره بخصُوصه بعدُ. وسُمي ذا الكفل لأنه ذو حظ من الله، والكفل: الحظ. أو تكفل بضعف عمل أنبياء زمانه، أو بصيام النهار وقيام الليل. وقال أبو موسى الأشعري: إنَّ ذا الكفل لم يكن نبيًا، ولكنه كان عبدًا صالحًا، تكفل بعمل رجل صالح عند موته، وكان يُصلي لله تعالى، في كل يوم، مائة صلاة، فأحسن الله عليه الثناء. هـ. وقال عمر بن عبد الله بن الحارث: إن نبيًا من الأنبياء قال: من تكفل لي أن يصوم النهار ويقوم الليل ولا يغضب؟ فقال شاب: أنا، فمات ذلك النبي، فجلس ذلك الشاب يقضي بين الناس، فجاءه الشيطان في صورة إنسان ليُغضبه وهو صائم، فضرب الباب ضربًا شديدًا، فقال: مَن هذا؟ فقال: رجل له حاجة، فأرسل له رجلاً، فلم يرض، ثم أرسل معه آخر، فلم يرض، فخرج إليه فأخذ بيده فانطلق معه إلى السوق، ثم خلاه وذهبَ، فسُمي ذا الكفل. هـ.
كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ أي: كل واحد من هؤلاء موصوف بالصبر التام على مشاق التكليف وشدائد النوب، وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا في النبوة، أو في الآخرة، إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ أي: الكاملين في الصلاح الذي لا تحوم حوله شائبة الفساد، وهم الأنبياء، فإن صلاحهم معصوم من كدر الفساد. والله تعالى أعلم.
الإشارة: قد مدح الله هؤلاء السادات بخصلتين، من تحقق بهما: التحق بهم، وانخرط في سلكهم: الصبر على مشاق الطاعة، وعلى ترك المعصية، وفي حال البلية. والصلاح، وهو: إصلاح الظاهر بالشريعة، وإصلاح الباطن بنور الحقيقة. فمن تحقق بهاتين الخصلتين كان من المقربين مع النبيين والصدِّيقين. وبالله التوفيق.
ثم ذكر يونس عليه السّلام، فقال:
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٨٧ الى ٨٨]
وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (٨٧) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (٨٨)
ألتمس دابة، قال: الأمر أعجل من ذلك، فانطلق إلى السفينة فركبها، فاحتبست السفينة فساهموا فسهم، فجاءه الحوت يبصبص بذنبه، فنودي الحوت: إنا لم نجعل يونس لك رزقًا، إنما جعلناه لك حِرزًا، فالتقمه، ومرّ به على الأبُلة، ثم على دجلة، ثم مَرَّ به حتى ألقاه بنينَوَى. هـ.
وقال وَهْبُ بن منبه رضى الله عنه: إنَّ يونس كان عبدًا صالحًا ضَيِّق الخلق، «٢» فلما حمل أثقال النبوة تفسخ منها تفسُّخَ الرّبَع «١» تحت الحمل الثقيل، فقذفها وخرج هاربًا عنها، ولذلك أخرجه الله من أولي العزم، قال لنبيه صلى الله عليه وسلم:
فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ «٣» وقال: وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ «٤» أي: لا تلق أمري كما ألقاه. هـ. وأما قول الحسن: مغاضبًا لربه، فلا يليق بمقام الأنبياء- عليهم السلام- إلا أن يُحمل على أن خروجه بلا إذن كأنه مغاضب. والله تعالى أعلم.
ثم قال تعالى: فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ أي: لن نضيق عليه، أو لن نقدر عليه بالعقوبة، فهو من القدر، ويؤيده قراءة من شدَّد، وعن ابن عباس رضى الله عنه قال: دخلت يومًا على معاوية، فقال: لقد ضربتني أمواج القرآن البارحة، فغرقت فيها، فلا أرى لنفسي خلاصًا إلا بك، قال: وما هي؟ فقرأ الآية... فقال: أو يظن نبي الله ألا يقدر عليه؟ قال: هذا من القدر لا من القدرة. هـ.
وقيل: إنه على حذف الاستفهام. أي: أيظن أن لن نقدر عليه، وقيل: هو تمثيل لحاله بحال من ظن أن لَّن يَقْدِر عليه، أي: تعامل معاملة من ظن أن لن نقدر عليه حيث استعجل الفرار. قلت: لإعلاء مقامه كثرت مطالبته بالأدب، فحين خرج من غير إذن خاص عُدَّ خروجه كأنه ظن ألا تنفذ فيه القدرة، وتمسك عليه السلام بالإذن العام، وهو الهجرة من دار الكفر، وهو لا يكفي في حق أمثاله، فعوقب بالسجن فى بطن الحوت.
(٢) هذا لا يصح أن يوصف به سيدنا يونس، الذي قال فيه سيدنا محمد: «لا ينبغي لأحدٍ أن يقول أنا خير من يونس بن متى».
(٣) من الآية ٣٥ من سورة الأحقاف.
(٤) من الآية ٤٨ من سورة القلم. وانظر تفسير الطبري (١٧/ ٧٧)، والبغوي (٥/ ٣٥٠). [.....]
أو في ظلمة بطن الحوت والبحر والليل: أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أي: بأنه لآَّ إِلَهَ إِلآَّ أَنتَ، أو تفسيرية، أي: قال لا إله إلا أنت، سُبْحانَكَ أي: أنزهك تنزيهًا لائقًا بك من أن يعجزك شيء، أو: تنزيهًا لك عما ظننتُ فيك، إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ لنفسي بخروجي عن قومي قبل أن تأذن لي، أو من الظالمين لأنفسهم بتعريضها للهلكة، وعن الحسن: ما نجاه، والله، إلا إقراره على نفسه بالظلم.
فَاسْتَجَبْنا لَهُ أي: أجبنا دعاءه الذي دعا في ضمن الاعتراف بالذنب على ألطف وجه وأحسنه. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ مَكْرُوبٍ يَدْعُو بِهَذا الدُّعَاءِ إلاّ اسْتُجِيبَ لَهُ» «٢». وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ: الذلة والوحشة والوحدة، وذلك بأن قذفه الحوت إلى الساحل بعد أربع ساعات، وقيل: بعد ثلاثة أيام، وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ أي: مثل ذلك الإنجاء الكامل نُنجي المؤمنين من غمومهم، إذا دعوا الله، مخلصين فى دعائهم. وعنه ﷺ أنه قال:
«اسم الله الذي إذا دُعي به أجاب، وإذا سُئل به أعطى: دعوة يونس بن متى، قيل: يا رسول الله، أليونس خاصة؟
قال: بل هي عامة لكل مؤمن، ألم تسمع قول الله تعالى: وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ». وهنا قراءات في نُنْجِي، مذكورة في كتب القراءات، تركتها لطول الكلام فيها.
الإشارة: من تحققت له سابقة العناية لا تُبعده الجناية، ولا تُخرجه عن دائرة الولاية، بل يؤدب في الدنيا بالابتلاء في بدنه أو ماله، على قدر الجناية وعلو المقام، ثم يُرد إلى مقامه. وهاهنا حكايات للصوفية- رضى الله عنهم- من هذا النوع، مِنْهَا: حكاية خير النساج رضى الله عنه، قيل له: أكان النسج صنعتك؟ قال: لا، ولكن كنتُ عاهدت الله واعتقدت ألا آكل الرطب، فغلبتني نفسي واشتريت رطلاً منه، فجلستُ لآكله، فإذا رجل وقف عليّ، وخنقني، وقال: يا عبد السوء، أتهرب من مولاك- وكان له عبد اسمه: «خير» أَبَقَ مِنْه، أَلقى الله شبهه عليَّ- فحملني إلى حانوته، وقال: اعمل عملك، أمرني بعمل الكرباس- وهو القطن- فدليت رجلي لأنسجه، فكأني كنت أعمله سنين، فبقيت معه أشهرًا، فقمتُ ليلة إلى صلاة الغداة، وقلت: إلهي لا أعود، فأصبحت، فإذا الشبه قد زال عني، وعُدتُ إلى صورتي التي كُنتُ عليها، فأُطلقت، فثبت عليّ هذا الاسم، فكان سببُه اتباع شهوتي.
ومنها قضية أبي الخير العسقلاني رضى الله عنه قال: اشتهيتُ السمك سنين، ثم ظهر له من وجه حلال، فلما مد يده ليأكل، أخذت شوكة من عظامه إصبعَه، فذهبت في ذلك، فقال: إلهي هذا لمن مد يده لشهوة من حلال، فكيف
(٢) أخرجه الترمذي فى (الداعوة باب ٨٢)، وأبو يعلى (٢/ ٦٥)، والحاكم فى المستدرك (١/ ٥٠٥)، وصححه ووافقه الذهبي، من حديث سعد بن أبي وقاص. وأخرجه أحمد فى قصة (١/ ١٧٠).
وأمثال هذا كثير بأهل الخصوصية، يُؤدبون على أقل شيء من سوء الأدب لشدة قربهم، ثم يُردون إلى مقامهم. ومن هذا النوع قصة سيدنا يونس عليه السلام حيث خرج من غير إذن خاص، فأدَّبه، ثم رده إلى النبوة والرسالة، وقد كنتُ سمعت من بعض الأشياخ أن أيوب عليه السلام إنما أصيب في ماله، لأنه كان بجوار ماله كافر، فكان يداريه لأجل ماله، فأصيب فيه وفي بدنه تأديبًا وتكميلاً له. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر زكريا عليه السّلام فقال:
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٨٩ الى ٩٠]
وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ (٨٩) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ (٩٠)
يقول الحق جلّ جلاله: وَاذكر خبر زَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ في طلب الولد، وقال: رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وحيدًا بلا ولد يرثني، ثم ردّ أمره إليه مستسلمًا، فقال: وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ، فحسبي أنت، وإِنْ لم ترزقني وارثًا فلا أبالي فإنك خير وارث، فَاسْتَجَبْنا لَهُ دعاءه، وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى ولدًا وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ أي: أصلحناها للولادة بعد عُقمها، أو أصلحناها للمعاشرة بتحسين خلْقها. وكانت قبل سيئة الخلق، إِنَّهُمْ أي: ما تقدّم من الأنبياء، كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ أي: إنما استحقوا الإجابة إلى مطالبهم، وأسعفناهم فيما أمَّلوا لمبادرتهم أبواب الخير، ومسارعتهم إلى تحصيلها، مع ثباتهم واستقرارهم في أصل الخير كله، وهو السر في إتيان: «في»، دون «إلى»، المشعرة بخلاف المقصود من كونهم خارجين عن أصل الخيرات، متوجهين إليها، كما في قوله تعالى: وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ «١».
وَكانوا يَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً طمعًا وخوفًا، وهما مصدران في موضع الحال، أو المفعول له، أي:
راغبين في الثواب أو الإجابة، وراهبين من العقاب أو الخيبة، أو للرغبة والرهبة، وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ:
الإشارة: الغالب في وراثة الخصوصية الحقيقية أن تكون لغير ورثة النسب، وأما الخصوصية المجازية، التي هي مقام الصلاح أو العلم، فقد تكون لورثة النسب، وتكون لغيرهم. والخصوصية الحقيقية هي مقام الفناء والبقاء، والتأهل للتربية النبوية، ولا بأس بطلب وارث هذه الخصوصية، لئلا ينقطع النفع بها. وقد قيل، في قول الشيخ ابن مشيش رضى الله عنه: اسمع نداءى بما سمعت به نداء عبدك زكريا، إنه أشار إلى طلب الوارث الروحاني. والله تعالى أعلم.
وقوله تعالى: إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ، فيه إشارة إلى بيان سبب حصول الخصوصية لأن بابها هو المسارعة إلى عمل الخيرات وأنواع الطاعات، وأوكدها ثلاثة: دوام ذكر الله، وحسن الظن بالله، وبعباد الله. وفي الحديث: «خصلتان ليس فوقهما شيء من الخير: حُسْن الظنِّ بالله، وحُسْن الظن بعباد الله». وقوله: وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً، هذه حالة الطالبين المسترشدين المتعطشين إلى الله، يدعونه رغبًا في الوصول، ورهبًا من الانقطاع والرجوع، وقد تكون للواصلين رغبًا في زيادة الترقي، ورهبًا من الوقوف أو الإبعاد. وقال بعضهم: الرغب والرهب حاصلتان لكل مؤمن، إذ لو لم تكن رغبة لكان قنوطًا، وهو كفر، ولو لم تكن رهبة لكان أمنًا، والأمن كفر.
والله تعالى أعلم.
ثم ذكر مريم وابنها- عليهما السلام- فقال:
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ٩١]
وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ (٩١)
يقول الحق جلّ جلاله: وَاذكر الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها على الإطلاق من الحلال والحرام، والتعبير عنها بالموصول لتفخيم شأنها، وتنزيهها عما زعموه في حقها. فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا أي: أجرينا روح عيسى فيه وهو في بطنها، أو نفخنا في درع جيبها من ناحية روحنا، وهو جبريل عليه السلام، فأحدثنا بذلك النفخ عيسى عليه السلام، وإضافة الروح إليه تعالى لتشريف عيسى عليه السلام، وَجَعَلْناها وَابْنَها أي:
قضيتهما، أو حالهما، آيَةً لِلْعالَمِينَ، فإن من تأمل حالهما تحقق بكمال قدرته تعالى. وإنما لم يقل آيتين، كما قال: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ «١» لأن مجموعهما آية واحدة، وهي ولادتها إياه من غير فحل. وقيل:
التقدير: وجعلناها آية وابنها كذلك، فآيةٌ مفعول المعطوف عليه، فحذف أحدهما لدلالة الآخر عليه. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر اتفاقهم فى التوحيد، فقال:
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٩٢ الى ٩٤]
إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (٩٢) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ (٩٣) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ (٩٤)
قلت: «أمة» : حال من «أمتكم» أي: متحدة أو متفقة، والعامل فيه ومعنى الإشارة، والإشارة إلى طريق الأنبياء المذكورين قبلُ.
يقول الحق جلّ جلاله: إِنَّ هذِهِ الطريق والسيرة التي سلكها الأنبياء المذكورون، واتفقوا عليها، وهو التوحيد، هي أُمَّتُكُمْ أي: ملتكم التي يجب أن تكونوا عليها، ولا تخرجوا عنها، حال كونها أُمَّةً واحِدَةً، غير مختلفة فيما بين الأنبياء- عليهم السلام- وإن اختلفت شرائعهم. وفي الحديث: «الأنْبِيَاءُ أبناء عَلاَّتٍ، أُمهَاتُهمْ شتَّى، وأبوهم واحد» والعلات: الضرائر، أي: شرائعهم مختلفة، وأبوهم واحد، وهو التوحيد. قال القشيري: وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ أي: ربيتكم اختيارًا، فاعبدوني شكرًا وافتخارًا. هـ. والخطاب للناس كافة.
وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ، أصل الكلام: وتقطعتم في أمر دينكم وتفرقتم. إلاَّ أن الكلام صرف إلى الغيبة، على طريقة الالتفات ليَنْعي عليهم ما أفسدوه في الدين. والمعنى: فجعلوا أمر دينهم فيما بَيْنَهُمْ قِطَعًا، وصاروا أحزابًا متفرقة، كأنه يُنْهِي إلى أهل التوحيد قبائح أفعالهم، ويقول: ألا ترون إلى عظيم ما ارتكب هؤلاء في دين الله، الذي أجمعت عليه كافة الأديان؟ ثم توعدهم بقوله: كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ أي: كل واحد، من الفرق المتقطعة، راجع إلينا بالبعث، فنجازيهم حينئذ بحسب أعمالهم.
ثم فصَّل الجزاء فقال: فَمَنْ يَعْمَلْ شيئًا مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ بالله ورسله وبما يجب الإيمان به.
قال القشيري: (وهو مؤمن، أي: في المآل بأن يختم له به)، وكأنه يشير إلى الخاتمة لأن من لم يختم له بالإيمان لا ثواب لأعماله، والعياذ بالله، فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ أي: لا حرمان لثواب عمله، بل سعيُه مشكور مقبول، فالكفران مَثلٌ في حرمان الثواب، كما أن الشكر مثلٌ في إعطائه، وعبّر عن ذلك بالكفران، الذي هو ستر النعمة
الإشارة: الصوفية- رضى الله عنهم-، في حال سيرهم إلى الحضرة وسلوكهم في طريق التربية، مختلفون بحسب الأزمنة والأمكنة والأشخاص. وفي حال نهايتهم- وهو الوصول إلى حضرة الشهود والعيان، وإشراق شمس العرفان، الذي هو مقام الإحسان، ويُعبِّرون عنه بالفناء والبقاء، وهو التوحيد الخاص- متفقون، وفي ذلك يقول القائل:
عباراتنا شَتَّى، وحُسْنُكَ واحِدٌ | وكُلٍّ إلى ذاك الجَمَالِ يُشير |
ثم تمم قوله: كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ، فقال:
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٩٥ الى ٩٧]
وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ (٩٥) حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (٩٦) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ (٩٧)
قلت: «حرام» : مبتدأ، وفيه لغتان: حرام وحِرْم، كحلال وحِلّ. و «أنهم..» الخ: خبر، أو فاعل سد مسده، على مذهب الكوفيين والأخفش. والجملة: تقرير لقوله: (كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ)، و «لا» نافية، أي: ممتنع على قرية أهلكناها عدمُ رجوعهم إلينا بالبعث، بل كل إلينا راجعون. وقيل: «لا» زائدة، والتقدير: ممتنع رجوع قرية أردنا إهلاكها عن غيهم، «فإنهم» : على هذا: فاعل بحرام. قاله القصار. و «حتى» : ابتدائية، غاية لما يدل عليه ما قبلها، أي: يستمرون على ما هم عليه من الهلاك، حتى إذا قامت القيامة يرجعون إلينا، ويقولون: يا ويلنا. وقال أبو البقاء: «حتى» :
متعلقة في المعنى بحرام، أي: يستقر الامتناع، أي: هذا الوقت. و «فإذا هي» : جواب «إذا». وفي الأزهري: وقد يجمع بين الفاء وإذا الفجائية تأكيدًا، خلافًا لمن منع ذلك. قال تعالى: (فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ)، فإنه لو قيل: إذا هي، أو فهي شاخصة لصح. هـ. وقيل: «يا ويلنا» : على حذف القول، أي: إذا فتحت قالوا: يا ويلهم. و «اقترب» : عطف على «فُتحت».
وقال الزجاج: المعنى: وحرام على قرية، أردنا إهلاكها، أن يُتَقَبَّلَ منهم عمل لأنهم لا يرجعون، أي: لا يتوبون، ويجوز حمل المفتوحة على هذا بحذف اللام، ويستمرون على ما هم عليه من الهلاك، أو: فليستمر امتناعهم من الرجوع.
حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ ونُفخ في الصور، وقامت القيامة، فيرجعون، ولا ينفعهم الرجوع.
ويأجوج ومأجوج قبيلتان، يقال: الناس عشرة أجزاء، تسعة منها يأجوج ومأجوج. والمراد بفتحها: فتح سدها، على حذف مضاف أي: حتى إذا فُتح سد يأجوج ومأجوج، وَهُمْ أي: يأجوج ومأجوج، وقيل: الناس بعد البعث، مِنْ كُلِّ حَدَبٍ أي: نشز ومرتفع من الأرض، يَنْسِلُونَ: يسرعون، وأصل النسل: مقاربة الخطو مع الإسراع. ويدل على عَود الضمير ليأجوج ومأجوج: قوله- عليه الصلاة والسّلام-: «ويفتح ردم يأجوج ومأجوج، فيخرجون على الناس، كما قال الله تعالى: مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ... » الحديث «٢»، ويؤيد إعادتَه على الناس قراءة مجاهد: «من كل جدث» بالجيم، وهو القبر.
ثم قال تعالى: وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ أي: ما بعد النفخة الثانية من البعث والحساب، فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أي: فإذا القصة أو الشأن، وهو أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا شاخصة، أي: مرتفعة الأجفان، لا تكاد تطرق من شدة الهول، حال كونهم يقولون: يا وَيْلَنا يا هلكتنا، هذا أوانك، فاحضري، قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ تامة مِنْ هذا الذي دهَمنا من البعث، والرجوع إليه تعالى، للجزاء، ولم نعلم، حيث نُبِّهْنَا عليه بالآيات والنُذر، أنه حق، بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ بتلك الآيات والنذر، مُكذبين بها، أو ظالمين أنفسنا بتعريضها للعذاب
(٢) أخرجه، مطولا، مسلم، فى (الفتن، وأشراط الساعة، باب ذكر الدجال)، من حديث النواس بن سمعان.
تذييل: رَوى حذيفة أن النبي ﷺ قال: «أول الآية: الدَّجال، ونزول عيسى، ونار تخرج من قرن عدن، تسوق الناس إلى المحشر- أي الشام- تقيل معهم إذا قالوا، والدُّخان، والدَّابة، ثم يأجوج ومأجوج» «١». قلت: وبعد موت يأجوج ومأجوج، تبقى مدة عيسى عليه السلام، في أَمَنَةٍ ورَغَدِ عَيْشٍ. قيل: سبع سنين، وقيل: أربعون. ثم يُقبض عيسى، ويُدفن فى روضته صلى الله عليه وسلم، ثم تهب ريح تقبض المؤمنين، فلا يبقى من يقول الله الله، قيل: مائة سنة، وقيل:
أقل، ثم تخرب الكعبة، ثم يُنفخ في الصور للصعق، واقترب الوعد الحق. والله تعالى أعلم.
الإشارة: الحضرة محرمة على قلبٍ خراب، أهلكه الله بالوساوس والخواطر، وفتحت عليه من الشواغل والشواغب والخواطر يأجوج ومأجوج، فأفسدته وخربته وجعلته مزبلة للشياطين. فحرام عليه رجوعه إلى الحضرة حتى يتطهر من هذه الوساوس والخواطر، ومن الشواغل والعلائق. قال بعض الصوفية: (حضرة القدوس محرمة على أهل النفوس). فإذا اقترب وعد الحق، وهو أجل موته، قال: يَا وَيْلَنَآ إِنَّا كُنَّا عن هذا غافلين، لم نتأهب للقاء رب العالمين، حتى لقيتُه بقلب سقيم. والعياذ بالله.
ثم ذكر مآل الكفرة إذا وقع الوعد الحق، فقال:
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٩٨ الى ١٠٠]
إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (٩٨) لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ (٩٩) لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ (١٠٠)
يقول الحق جلّ جلاله: إِنَّكُمْ، يا كفار قريش ومن دان دينكم، وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ من الأصنام والشياطين لأنهم، لطاعتهم لهم واتباعهم خطواتهم، في حكم عبادتهم، ويدخل فيه الشمس والقمر والنجوم، وكل ما عُبد من دون الله ممن لا يعقل، للحديث الوارد في دخولهم النار، تبكيتًا لمن عبدهم لأنهم لا
لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً كما زعمتم ما وَرَدُوها ما دخلوا النار، وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ أي: وكل من العابد والمعبود في النار خالدون. لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ أي: للكفار في النار أنينٌ وبكاء وعويل، وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ شيئًا لأن في سماع بعضهم بعضًا نوع أُنس. قال ابن مسعود رضى الله عنه: يُجعلون في توابيت من نار، ثم جعلت التوابيت في توابيت أُخَر لها مسامير من نار، فلا يسمعون شيئًا.
رُوِيَ أن النبي ﷺ دَخَلَ المَسْجِدَ الحَرام، وصَنَادِيدُ قُريشٍ في الحَطِيمِ، وَحَوْلَ الكَعْبَةِ ثلاثمائة وَسِتونَ صَنَمًا، فَجَلَسَ إِلَيْهِمْ، فَعَرَضَ لَهُ النَّضْرُ بْنُ الحَارِثِ، فكلَّمهُ النبي ﷺ حَتَّى أفْحَمَهُ، ثُمَّ تلا عليه وعليهم: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ... الآيات الثلاث. ثم أقْبَلَ عَبْدُ اللهِ بْنُ الزِبَعْرَى فرآهم يتساهمون، فقال: فيم خوضكم؟ فأخفى الوَلِيدُ ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أخبره بعضهم بما قاله، عليه الصلاة والسّلام، فقال ابن الزبعرى للنبي صلى الله عليه وسلم: أأنت قلت: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ؟ قال: نعم، قال: قد خصمتك، ورب الكعبة، أَلَيْست اليَهُودُ تعبد عُزَيرًا، والنصارى تعبد المَسِيحَ، وبَنُو مُلَيْحٍ يعبدون الملائكة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
«بَلْ هُمْ يَعْبُدُونَ الشياطِينَ الّتي أَمَرَتْهُم بِهذا، فأنزل الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى..» «١».
قلت: كل من عَبَدَ شيئًا من دون الله فإنما عَبَدَ في الحقيقة الشيطان لأنه أمر به وزينه له، ويدل على ذلك أنهم يتبرؤون يوم القيامة، حين تتحقق الحقائق، من عبادتهم، كما قال تعالى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ، قالُوا سُبْحانَكَ مَا كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ «٢» مع قوله تعالى: وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ «٣». والله تعالى أعلم.
(٢) الآيتان: ١٧- ١٨ من سورة الفرقان.
(٣) من الآية ٣٨ من سورة العنكبوت.
ثم استثنى بذكر حال أهل السعادة، فقال:
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ١٠١ الى ١٠٣]
إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (١٠١) لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ (١٠٢) لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (١٠٣)
يقول الحق جلّ جلاله: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أي: الخصلة الحسنى، أو المشيئة الحسنى، وهي السعادة، أو التوفيق للطاعة، أو البُشرى بالثواب، أُولئِكَ عَنْها: عن جهنم مُبْعَدُونَ لأنهم في الجنة، وشتان ما بينهما. قال القشيري: لم يقل متباعدون ليَعْلَم العابدون أن المدارَ على التقدير وسبق الحكم من الله، لا على تَبَاعد العبد وتَقَرُّبه. هـ. وكأنه يشير لقوله: «هؤلاء إلى الجنَّةِ ولا أُبالي» «١»، أي: بأعمالهم.
لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها أي: صوتها الذي يحس، وحركة تلهبها، وهذه مبالغة في الإبعاد، أي: لا يقربوها حتى لا يسمعوا صوتها أو صوت من فيها. قال الكواشي: لا يسمعون صوت النار وحركة تلهبها إذا نزلوا منازلهم من الجنة. هـ. وقال ابن عطية: وذلك بعد دخولهم الجنة لأن الحديث يقتضي أن في الموقف تزفر جهنم زفرة لا يبقى نبي ولا ملك إلا خر على ركبتيه. هـ. قال شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمن الفاسي: محمل الحديث، إن صح في حق الأنبياء والأكابر، على شهود الجلال والإجلال لله تعالى، ولذلك يقولون: «نفسي نفسي»، لا من خوف النار. هـ.
قلت: أما كون الناس يُصعقون يوم القيامة، فيكون المصطفى أول من يفيق، فثابت في الصحيح، أما سبب الصعقة فقد ورد في غير البخاري: «أنه يُؤتى بجهنم، ولها سبعونَ ألفَ زمامٍ، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها، ثم تزفر زفرة، فلا يبقى نبي ولا ملك إلا خر» «٢»... الحديث، ويؤيده
(٢) أخرجه، بدون العبارة الأخيرة، مسلم فى (الجنة وصفه نعيمها، باب فى شدة حر نار جهنم..) من حديث ابن مسعود رضى الله عنه.
ويدل على أن هذه الحالة إنما هي بعد دخولهم الجنة، قوله تعالى: وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ من النعيم خالِدُونَ: دائمون، والشهوة: طلب النفس للذة. وهو بيان لفوزهم بالمطالب، إثر بيان خلاصهم من المهالك والمعاطب، أي: دائمون في غاية التنعم، لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ، وهو القيام من القبور عند صيحة البعث، بدليل قوله: وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ. قال ابن عباس: «تتلقاهم الملائكة بالرحمة، عند خروجهم من القبور»، قائلين: هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ بالكرامة والثواب، والنعيم المقيم فيه، أي: بعد دخولكم الجنة.
وقال الحسن: الفزع الأكبر: الانصراف إلى النار. وعن الضحاك: حين يُطبق على أهل النار. وقيل: حين نفخة الصعق، وقيل: حين يُذبح الموت. قلت: من سبقت له الحسنى ينجو من جميعها. وقيل: تتلقاهم الملائكة على أبواب الجنة، مُهنئين لهم قائلين: (هذا يومكم الذي كنتم تُوعدون) في الدنيا، ويُبشرون بما فيه من فنون المثوبات على الإيمان والطاعات. وهذا، كما ترى، صريح في أن المراد بالذين سبقت لهم الحسنى: كافةُ المؤمنين الموصوفين بالإيمان والأعمال الصالحة، لا من ذكر من المسيح، وعُزير، والملائكة، كما قيل. قاله أبو السعود، قلت: وقد يجاب بأنها نزلت في شأنهم وتعم غيرهم لأن سبب النزول لا يخصص. والله تعالى أعلم.
الإشارة: قال الجنيد رضى الله عنه: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أي: سبقت لهم منا العناية في البداية، فظهرت لهم الولاية في النهاية. هـ. (أُولئِكَ عَنْها) أي: عن نار القطيعة، وهي أغيار الدنيا، مُبعدون، لا يسمعون حسيسها، ولا ما يقع فيها من الهرج والفتن، لغيبتهم عنها بالكلية في الشغل بالله تعالى، فهم فيما اشتهت أنفسهم من لذة الشهود، والقُرب من الملك الودود، خالدون دائمون، لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ في الدنيا والآخرة، وتتلقاهم الملائكة بالبُشرى بالوصول، هذا يومكم الذي كنتم توعدون، وهو يوم ملاقاة الحبيب والعكوف في حضرة القريب، عند مليك مقتدر. منحنا الله من ذلك الحظ الأوفر بمنّه وكرمه.
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ١٠٤]
يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ (١٠٤)
قلت: «يوم» : ظرف لاذكر، أو لقوله: «لا يحزنهم الفزع»، أو لتتلقاهم. والسجل: الصحيفة، والكتاب: مصدر، و «كما بدأنا» : منصوب بمضمر، يُفسره ما بعده، و «ما» : موصولة.
يقول الحق جلّ جلاله: واذكر يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ وذلك يوم الحشر والناس في الموقف، فتجمع وتُكوّر وتُطوى كَطَيِّ السِّجِلِّ الصحيفة لكتاب أي: لأجل الكتابة فيها لأن الكاتب يطوي الصحيفة على اثنين ليكتب فيها. فاللام للتعليل، أو بمعنى «على»، أي: كطي الصحيفة على الكتابة التي فيها، لتُصان، وقرأ أبو جعفر: «تُطوى» بالبناء للمفعول. وذلك بمحو رسومها وتكوير نجومها وشمسها وقمرها. وأصل الطي: الدرج، الذي هو ضد النشر. وقرأ الأخوان وحفص: (لِلْكُتُبِ) بالجمع، أي: للمكتوبات، أي: كطي الصحيفة لأجل المعاني الكثيرة التي تكتب فيها، أو كطيها عليها لتُصان. فالكتاب أصله مصدر، كالبناء، ثم يوقع على المكتوب. وقيل:
السجل: ملك يطوي كتب ابن آدم، إذا رفعت إليه، فالكتاب، على هذا، اسم للصحيفة المكتوب فيها، والطي مضاف إلى الفاعل، وعلى الأول: إلى المفعول.
كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ أي: نعيد ما خلقنا حين نبعثهم، كما بدأناهم أول مرة، فالتنوين في «خَلقٍ» مثله في قولك: أول رجلٍ جاءني، تريد أول الرجال. والتقدير: كما بدأنا أول الخلائق، نعيدهم حفاةً عراة غرلا.
قال صلى الله عليه وسلم: «إنَّكُمْ تَحْشَرُونَ يَوْمَ القيَامَة حُفَاةً عُرَاةً غُرْلاً. وأول مَنْ يُكْسَى إبْرَاهِيمُ خليلُ الله» »
، أي: لأنه جرد في ذات الله، فقالت عائشة- رضى الله عنها-: واسوءتاه! فلا يحتشم الناس بعضهم من بعض؟ فقال: «لكل امرئ منهم يومئذ شأن يُغنيه» «٢». ثم قرأ- عليه الصلاة والسلام-: كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ.
(٢) هذا ليس من الحديث السابق. بل هو حديث آخر، أخرجه مسلم فى الموضع السابق، عن السيدة عائشة، بلفظ: «يُحشر الناس يوم القيامةِ حفاة عراة غرلا، قلت: يا رسول الله النساء والرجال جميعا، ينظر بعضهم إلى بعض؟ قال: «يا عائشة الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض».
ثم أكد الإعادة بقوله: وَعْداً عَلَيْنا أي: نُعيده وعداً، فهو مصدر مؤكد لغير فعله بل لِمَا في «نعيده» من معنى العِدة، أي: وعدنا ذلك وعدًا واجبًا علينا إنجازه لأنا لا نُخلف الميعاد، إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ لما ذكرنا لا محالة، فاستعدوا له، وقدِّموا صالح الأعمال للخلاص من هذه الأهوال. وبالله التوفيق.
الإشارة: إذا أشرقت على القلب شموسُ العرفان، انطوت عن مشهده وجودُ الأكوان، وأفضى إلى فضاء العيان، فلا سماء تُظِله ولا أرضَ تحمله، وفي ذلك يقول الششتري رضى الله عنه:
لقد تجلى ما كان مخبى | والكون كُلٌّ طويت طى |
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ١٠٥ الى ١٠٦]
وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ (١٠٥) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ (١٠٦)
يقول الحق جلّ جلاله: وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ كتاب داود عليه السلام، مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ: التوراة، أو اللوح المحفوظ، أَنَّ الْأَرْضَ أي: جنس الأرض، يعني: مشارقها ومغاربها، يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ وهم أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ففي الآية ثناء عليهم وبشارة لهم، وإخبار بظهور غيب تحقق ظهوره في الوجود مِن فَتْح الله على هذه الأمة مشارقَ الأرض ومغاربها، كقوله: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ «١». وقال القشيري: على قوله: عِبادِيَ الصَّالِحُونَ: هم أمة محمد- عليه الصلاة والسلام- وهم بجملتهم قوم صالحون لنعمته، وهم المطيعون، وآخرون صالحون لرحمته وهم العاصون. هـ.
قال في الحاشية الفاسية: والظاهر أن حديث: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله»، مفسر للآية، وموافق لوعدها. قيل: وهذه الطائفة مُفْتَرَقَةً من أنواع المؤمنين، ممن فيه عائدة على الدين ونفع له من شجعان مقاتلين، وفقهاء ومحدِّثين، وزهاد وصالحين، وناهين وآمرين
أرض الجنة.
ثم قال تعالى: إِنَّ فِي هذا أي: ما ذكر في السورة الكريمة من الأخبار والمواعظ البالغة، والوعد والوعيد، والبراهين القاطعة الدالة على التوحيد وصحة النبوة، لَبَلاغاً أي: كفاية، أو سبب بلوغ إلى البغية، من رضوان الله تعالى، ومحبته، وجزيل ثوابه، فمن تبع القرآن وعمل به، وصل إلى ما يرجو من الثواب العظيم، فالقرآن زادُ الجنة كبلاغ المسافر، فهو بلاغ وزاد لِقَوْمٍ عابِدِينَ أي: لقومٍ همتُهُم العبادة دون العادة. وبالله التوفيق.
الإشارة: قد أورث الله أرضه وبلاده لأهل التوجه إلى الله، والإقبال عليه. فوراثة كل أحد على قدر توجهه وإقباله على مولاه. والمراد بالوراثة: التصرف بالهمة ونفوذ الكلمة في صلاحَ الدين وهداية المخلوقين، وهم على قسمين:
قسم يتصرف في ظواهر الخلق بإصلاح ظواهرهم، وهم العلماء الأتقياء، فهم يُبلغون الشرائع والأحكام، لإصلاح نظام الإسلام، وقد تقدم تفصيلهم في سورة التوبة عند قوله تعالى: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ... «١» الخ، وقسم يتصرفون في بواطنهم وهم أهل التصرف العارفون بالله، على اختلاف مراتبهم من غوث وأقطاب وأوتاد، وأبدال، ونجباء، ونقباء، وصالحين، وشيوخ مربين، فهم يُعالجون بواطن الناس بالتربية بالهمة والحال والمقال، حتى يتطهر مَنْ يصحبهم من الرذائل، ويتحلى بأنواع الفضائل، فيتأهل لحضرة القدس ومحل الأنس. وهؤلاء حازوا الوراثة النبوية كلها، كما قال ابن البنا في مباحثه:
تَبِعَهُ العَالِم في الأقوال | والعابد الزاهد في الأفعال |
وبهما الصوفي في السباق | لكنه قد زاد بالأخلاق. |
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ١٠٧ الى ١١٢]
وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (١٠٧) قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٨) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ (١٠٩) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ (١١٠) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (١١١)
قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (١١٢)
يقول الحق جلّ جلاله: وَما أَرْسَلْناكَ يا محمد إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ أي: ما أرسلناك بما ذكر من الشرائع والأحكام، وغير ذلك مما هو مناط سعادة الدارين، لعلة من العلل، إلا لرحمتنا الواسعة للعالمين قاطبة. أو ما أرسلناك في حال من الأحوال، إلا حال كونك رحمة لهم، فإن ما بُعثتَ به سببٌ لسعادة الدارين، ومنشأ لانتظام مصالحهم في النشأتين، ومن لم يضرب له في هذه المغانم بسهم فإنما أُوتي من قِبل نفسه، حيث فرط في اتّباعه، وقيل: إنه رحمة حتى في حق الكفار في الدنيا بتأخير عذاب الاستئصال، والأمن من المسخ والخسف والغرق، حسبما نطق به قوله تعالى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ «١».
قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ أي: ما يوحي إلى إلا أنه لا إله لكم إلا إله واحد لأنه المقصود الأصلي من البعثة، وأما ما عداه فإنما هو من الأحكام المتفرعة عليه، لا يصح بدونه. و «إنما» الأولى: لقصر الحكم على الشيء، كقولك: إنما يقوم زيد، والثانية: لقصر الشيء على الحكم، كقولك: إنما زيد قائم، أي: إنما يُوحى إليّ وحدي أنما إلهكم واحد. فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ أي: مخلصون العبادة لله وحده، أو منقادون لما أمركم به من الإسلام؟ والاستفهام بمعنى الأمر، أي: أسلموا. فَإِنْ تَوَلَّوْا عن الإسلام، ولم يلتفتوا إلى ما يوجبه من استماع الوحي، فَقُلْ آذَنْتُكُمْ أي: أعلمتكم ما أُمرت به، أو بمحاربتي لكم ومخالفتي لدينكم، لتكونوا عَلى سَواءٍ، أو كائنين على سواء في الإعلام به، لم أطوه عن أحد منكم، أو مستوين أنا وأنتم في العلم بما أعلمتكم به من الشرائع، لم أظهر بعضكم على شيء كتمته عن غيره. وفيه دليل بطلان مذهب الباطنية. قيل: وهذه من فصاحة القرآن وبلاغته.
وَإِنْ أَدْرِي أي: ما أدري أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ من البعث والحساب متى يكون لأن الله تعالى لم يُطلعني عليه، ولكن أنبأني أنه آت لا محالة، وكل آت قريب. ولذلك قال: وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ «٢»، أو: لا أدري متى يحل بكم العذاب، أو ما توعدون من إظهار المسلمين وظهور الدين، إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ أي: إنه عالم بكل شيء، يعلم ما تجهرون به من الطعن في الإسلام وتكذيب الآيات، وما تكتمونه في صدوركم من الأحقاد للمسلمين، فيجازيكم عليه نقيرًا وقطميرا. وَإِنْ أَدْرِي
(٢) من الآية ٩٧ من سورة الأنبياء.
قالَ «١» رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ أي: اقض بيننا وبين كفار مكة بالعدل، المقتضي لتعجيل العذاب. فهو كقول شعيب عليه السلام: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ «٢»، أو بما يحق عليهم من العذاب، واشدد عليهم، كقوله صلى الله عليه وسلم:
«اللهم اشدد وطأتك على مُضَرَ» «٣»، وقد استجيب دعاؤه- عليه الصلاة والسلام-، حيث عُذبوا ببدر أيّ تعذيب. وقرأ الكسائي وحفص: قالَ حكاية لدعائه صلى الله عليه وسلم. ثم استعان بالله على إبطال ما كانوا يؤملون من النصرة لهم، وتكذيبهم في ذلك، فقال: وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ كثير الرحمة على عباده، الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ من كون الغلبة لكم. كانوا يصفون الحال على خلاف ما جرت عليه، وكانوا يطمعون أن تكون الشوكة والغلبة لهم، فكذب الله ظنونهم، وخيّب آمالهم، وغيّر أحوالهم، ونصر رسوله ﷺ عليهم، وخذلهم لكفرهم. وبالله التوفيق.
الإشارة: قال الشيخ أبو العباس المرسي رضى الله عنه: الأنبياء- عليهم السلام- خُلقوا من الرحمة، ونبينا ﷺ هو عين الرحمة، قال تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ. هـ. وقال أيضًا: الأنبياء- عليهم السلام- لأممهم صدقة، ونبينا ﷺ لنا هدية. قال صلى الله عليه وسلم: «وأنا النعمة المهداة»، فالصدقة للفقراء، والهدية للكبراء. ثم إن غاية الرحمة:
الوصول إلى التوحيد الخاص لأنه سبب الزلفى من الله والاختصاص، ولذلك أمره به، بعد أن جعله رحمة، فقال:
قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ... الخ. فمَن أعرض عنه فقد أوذن بالبُعد والطرد. ولعل تأخير العقوبة عنه، في الدنيا، استدراج ومتاع إلى حين.
ثم إن الصارف عن الدخول إلى التوحيد الخاص- وهو توحيد العيان-: القواطع الأربع: النفس، والشيطان، والدنيا، والهوى. زاد بعضهم: الناس- أي: عوام الناس، فإذا حكم الله بين العبد وبين هذه القواطع، وصل إلى صريح المعرفة. قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ أي: احكم بيني وبين عدوي بحكمك الحق، حتى تدفعه عني وتدمغَهُ، وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ به عَلى ما تَصِفُونَ من التعويق والتشغيب. والله المستعان، وعليه أتوكل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
(٢) من الآية ٨٩ من سورة الأعراف.
(٣) جزء من حديث أخرجه البخاري فى (الدعوات، باب الدعاء على المشركين بالهزيمة)، ومسلم فى (المساجد، باب استحباب القنوت فى جميع الصلاة) عن أبى هريرة رضى الله عنه.