ﰡ
وفي القيامة عذاب شديد، وأهوال شديدة يلقاها الكفار، وأنهم مع أصنامهم حطب جهنم، وفيها تتبدل الأرض غير الأرض وتطوى السموات كطي الكتب، ويحظى الصالحون بالنعيم الأبدي، ويرث الأرض من هو أصلح لعمارتها.
وختمت السورة ببيان كون النبي صلّى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، وأنه أوحي إليه بأن الإله واحد لا شريك له، وأنه يجب الانقياد لحكمه، وأنه ينذر الناس بعذاب قريب وأن مجيء الساعة واقع محتم، وأن الإمهال به وتأخير العقوبة امتحان واختبار، وأن الله يحكم بين النبي صلّى الله عليه وآله وسلم وبين أعدائه المشركين، وأنه المستعان على افتراءاتهم واتهاماتهم.
غفلة الناس عن الحساب يوم القيامة ودليل ذلك
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ١ الى ٦]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (١) ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٢) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٣) قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٤)بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (٥) ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (٦)
مُحْدَثٍ صفة ذِكْرٍ وأجاز الفرّاء رفعه على النعت حملا على موضع مِنْ ذِكْرٍ ومِنْ: زائدة، مثل قوله تعالى: ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ [الأعراف ٧/ ٥٩ وغيرها] وأجاز الكسائي نصبه على الحال.
وَهُمْ يَلْعَبُونَ جملة اسمية في موضع حال من واو اسْتَمَعُوهُ.
لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ لاهِيَةً: حال من ضمير يَلْعَبُونَ وقُلُوبُهُمْ: فاعله، مثل وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ [الأنعام ٦/ ١٤١] لأن اسم الفاعل إذا وقع حالا ارتفع الاسم به كالفعل.
وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الَّذِينَ إما مرفوع أو منصوب أو مجرور، والرفع إما على أنه بدل من واو أَسَرُّوا وإما أنه خبر مبتدأ محذوف، أي هم الذين ظلموا، وإما أنه مبتدأ خبره محذوف أي يقولون: ما هذا إلا بشر، وإما فاعل أسروا على لغة «أكلوني البراغيث» والنصب بتقدير: أعني، والجر على أنه نعت ل «الناس».
هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ، أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ، وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ الكلام كله في محل نصب بدلا من النجوى، أي وأسروا هذا الحديث، ويجوز أن يتعلق بقالوا بمعنى اعتقدوا.
البلاغة:
وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ التنكير للتعظيم والتهويل.
السَّمِيعُ الْعَلِيمُ صيغة مبالغة.
بَلْ قالُوا: أَضْغاثُ أَحْلامٍ، بَلِ افْتَراهُ، بَلْ هُوَ شاعِرٌ فيه إضراب ترقي، يدل على أن قولهم الثاني أفسد من الأول، والثالث أفسد من الثاني، وذلك كله دليل الاضطراب والتردد والتحرير في وصف القرآن، وتزييف الحقائق.
المفردات اللغوية:
اقْتَرَبَ قرب أي اقترب زمان الحساب، والمراد اقتراب الساعة، وأصله: اقترب حساب الناس، وإذا اقتربت الساعة فقد اقترب ما يكون فيها من الحساب والثواب والعقاب وغير ذلك.
لِلنَّاسِ أي جميع المكلفين من الناس. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: إن المراد بالناس:
المشركون، وهذا من إطلاق اسم الجنس على بعضه، بدليل الوصف التالي: وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ
وصفهم بالغفلة مع الإعراض، والغفلة في الأصل: عدم تذكر الشيء، والمراد هنا: الترك إهمالا وإعراضا. والإعراض: الإضراب والتولي عن الشيء، والمراد هنا الإعراض عن التأهب للحساب بالإيمان.
مِنْ ذِكْرٍ أي قرآن ينبّه من الغفلة والجهالة مُحْدَثٍ أي جديد إنزاله، منزّل شيئا فشيئا، أتى به لتكرير التنبيه لأسماعهم كي يتعظوا يَلْعَبُونَ يستهزئون ويسخرون لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ غافلة ساهية متشاغلة عن التأمل وتفهم معناه وَأَسَرُّوا النَّجْوَى أي أسروا التناجي والكلام، والمراد: أنهم أخفوا التناجي وبالغوا في الإخفاء هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أي أسروا هذا الحديث، أو قالوا بمعنى اعتقدوا، والمراد: هل هذا أي محمد إلا بشر مثل الناس، وكل من ادعى الرسالة من البشر وجاء بالمعجزة هو ساحر، ومعجزته سحر، ولذلك قالوا: أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ أي أتتبعون السحر، وأنتم تشاهدون وتعاينون أنه سحر؟! قالَ: رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ أي قال لهم محمد: الله يعلم القول كائنا في السماء والأرض، جهرا كان أو سرا، فضلا عما أسرّوا به وَهُوَ السَّمِيعُ لما أسروه الْعَلِيمُ بما قالوا، فلا يخفى عليه ما تسرون، ولا ما تضمرون.
بَلْ للانتقال من غرض إلى آخر، ولا تذكر في القرآن إلا على هذا النحو قالُوا: أَضْغاثُ أَحْلامٍ أي إنهم قالوا: إن ما أتى به من القرآن تخاليط أحلام رآها في النوم، فهم أضربوا عن قولهم: هو سحر إلى أنه أخلاط أحلام بَلِ افْتَراهُ أي اختلقه من عنده، فهم أضربوا ثانية إلى أنه كلام افتراء بَلْ هُوَ شاعِرٌ أي ثم أضربوا إلى أنه قول شاعر، فما أتى به هو شعر، والانتقال في المواضع الثلاثة للدلالة على التردد والتحير في وصف القرآن فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ.. أي كناقة صالح، وعصا موسى ويده، ومعجزات عيسى كإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى.
ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أي ما آمن أهل قرية أهلكناها بتكذيب ما أتاها من الآيات التي جاءتهم لما اقترحوها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ لو جئتهم بها، وهم أعتى منهم؟ لا. وفيه تنبيه على أن عدم الإتيان بالمقترح للإبقاء عليهم إذ لو أتى به، ولم يؤمنوا، استوجبوا عذاب الاستئصال، كمن قبلهم.
سبب النزول: نزول الآية (٦) :
أخرج ابن جرير عن قتادة قال: قال أهل مكة للنبي صلّى الله عليه وسلم: إن كان ما تقول حقا، ويسرّك أن تؤمن، فحوّل لنا الصفا ذهبا، فأتاه جبريل عليه
التفسير والبيان:
ينبه الله تعالى على اقتراب الساعة ودنوها فيقول: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ.. أي قرب زمان حساب الناس على أعمالهم في الدنيا، وهو اقتراب الساعة، ولكن الناس في حياتهم ساهون غافلون، لاهون معرضون عن التأهب للحساب، والتفكر بالآخرة، بالمبادرة إلى الإيمان.
والمراد بالناس في رأي ابن عباس المشركون منكرو البعث، بدليل قوله تعالى: إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ إلى قوله: أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ وذلك للإشارة إلى أن البعث لا ريب فيه.
والظاهر أن لفظ الآية يتناول عموم الناس، وإن كان المشار إليه في ذلك الوقت كفار قريش، بدليل ما بعد ذلك من الآيات، فتكون الآية لوقف الأطماع، والحث على الإقبال على الإيمان، فمن علم اقتراب الساعة، بادر إلى التوبة، ولم يركن إلى الدنيا، فكل آت قريب، والموت لا محالة آت، وموت كل إنسان قيام ساعته، والقيامة أيضا قريبة بالنسبة إلى ما مضى من الزمان. قال الرازي: يجب أن يكون المراد بالناس من له مدخل في الحساب وهم المكلفون، دون من لا مدخل له.
روي أن رجلا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يبني جدارا، فمرّ به آخر في يوم نزول هذه السورة، فقال الذي كان يبني الجدار: ماذا نزل اليوم من القرآن؟ فقال الآخر: نزل: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ، وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ
فنفض يده من البنيان، وقال: والله، لا بنيت أبدا وقد اقترب الحساب.
وفي الآية دليل على قرب القيامة، لذا
قال صلّى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد والشيخان والترمذي عن أنس: «بعثت أنا والساعة كهاتين».
ثم استدل الله تعالى على غفلة الناس، فقال:
ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ. لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ أي ما يأتي أولئك الكفار من قريش وأشباههم من قرآن جديد إنزاله، ينزل سورة سورة، وآية آية، على وفق المناسبات والوقائع، إلا استمعوه وهم لاهون ساخرون مستهزءون، متشاغلة قلوبهم عن التأمل وتفهم معناه.
وهذا ذم صريح للكفار، وزجر لأمثالهم عن تعطيل الانتفاع بما يحقق لهم السعادة في الدنيا والآخرة.
وقوله مُحْدَثٍ لا يوهم كون القرآن مخلوقا، فإن الحروف المنطوق بها، والصوت المسموع حادث بلا شك، وأما أصل القرآن الذي هو كلام الله تعالى النفسي فهو قديم بقدم الله تعالى وصفاته القدسية.
ثم وصف الله تعالى موقف الكفار عند نزول القرآن فقال:
وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا أي وأخفوا التناجي والكلام فيما بينهم، بل وبالغوا في الإخفاء حتى لا يطلع أحد على تناجيهم، قائلين:
هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ؟ أي هل محمد صلّى الله عليه وسلم إلا بشر كغيره من الناس، أمثالكم في تكوينه وعقله وتفكيره، فكيف يختص بالرسالة دونكم؟ وهذا ناشئ من اعتقادهم أن الرسول النبي لا يكون إلا ملكا، وأن كل من ادّعى الرسالة من
أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ؟ أي أفتتبعونه، فتكونون كمن يأتي السحر، وهو يعلم أنه سحر، أو أتصدقون بالسحر، وأنتم تشاهدون وتعاينون أنه سحر؟! فهم يستبعدون كون رسول الله صلّى الله عليه وسلم نبيا لأنه بشر مثلهم، والرسول لا يكون إلا ملكا، وأما ما أتى به من القرآن فهو سحر.
وإنما أسروا الحديث بينهم في ذلك للتشاور في المخلص، والتوصل إلى أنجع الطرق لهدم دينه.
فأجابهم تعالى عما افتروه واختلقوه من الكذب بقوله:
قالَ: رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ، وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ أي قال لهم الرسول بأمر من الله مفتضحا أسرارهم: لا تخفوا ما تقولون، فإن الله ربي وربكم يعلم ذلك، لا يخفى عليه خافية من أمر السماء والأرض وما يحدث فيهما من أقوال وأفعال، وهو الذي أنزل القرآن المشتمل على خبر الأولين والآخرين، وهو السميع لأقوالكم، العليم بأحوالكم.
وفي هذا تهديد لهم ووعيد.
وإنما قال: يَعْلَمُ الْقَوْلَ ولم يقل: يعلم السر لقوله المتقدم:
وَأَسَرُّوا النَّجْوَى لأن القول عام يشمل السر والجهر، وعلمه بالأمرين على سواء، لا تفاوت فيه، خلافا لمعلومات الناس، فكان التعبير شاملا للعلم بالسر وزيادة، وكان آكد في بيان الاطلاع على نجواهم من أن يقول: يعلم السرّ.
ثم أخبر الله تعالى عن تخبط الكفار، وتعنتهم وإلحادهم، وحيرتهم وضلالهم،
بَلْ قالُوا: أَضْغاثُ أَحْلامٍ، بَلِ افْتَراهُ، بَلْ هُوَ شاعِرٌ أي إنهم وصفوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم أولا بأنه ساحر وأن ما يقوله سحر، ثم أضربوا عن قولهم: هو سحر إلى أنه تخاليط أحلام رآها في المنام، ثم إلى أنه كلام مفترى مختلق من عنده، ثم إلى أنه قول شاعر.
وهذا الاضطراب والتردد والتحير دليل على أن قولهم باطل، يشوه الحق، ويزيف الحقائق، فهم إما جاهلون بحقيقة ما جاء به محمد صلّى الله عليه وسلم، أو عارفون الحقيقة، ولكنهم مكابرون يائسون يأس المهزوم المغلوب، فقالوا: إنه سحر وكذب.
ولما فرغوا من تعداد هذه الاحتمالات، وترداد هذه المزاعم قالوا:
فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ أي إن كان محمد صادقا في أنه رسول من عند الله، وأن القرآن الموحى به إليه كلام الله، فليأتنا بآية جلية غير القرآن، لا يتطرق إليها شيء من هذه الاحتمالات، كالآيات المنقولة عن الأنبياء السابقين، مثل ناقة صالح، وآيات موسى كالعصا واليد، وعيسى كإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى، ونحو ذلك من المعجزات الحسية التي تثبت النبوة والرسالة.
وقوله: كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ يدل على أن تلك الآيات مسلّم بها عندهم، وتحقّق المقصود.
ثم أجابهم تعالى عن هذا السؤال الأخير مفندا كذبهم، ومشيرا إلى عدم إفادة الآيات المنزلة، بسبب إمعانهم في الكفر، فقال:
ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها، أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ؟ أي ما أتينا أهل
والمعنى: أنهم أشد عتوا من الذين اقترحوا على أنبيائهم الآيات، ووعدوا أنهم يؤمنون عند مجيئها، فلما جاءتهم نكثوا العهد، وخالفوا، فأهلكهم الله، فلو أعطيناهم ما يقترحون لكانوا أشد نكثا، كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ. وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ، حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ [يونس ١٠/ ٩٦- ٩٧].
والخلاصة: أن عدم تلبية اقتراحاتهم هو في صالحهم، إذ لو أجابهم تعالى لما طلبوا، ثم بقوا على كفرهم وعنادهم، لنزل بهم عذاب الاستئصال، إلا أن حكمة الله اقتضت تأخير العذاب عنهم إلى الآخرة.
وأما سؤالهم فهو سؤال تعنت، والله يعلم أنهم لا يؤمنون.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- إن قيام الساعة أمر محتم لا ريب فيه، وهو قريب الحصول، وأما مرور القرون السالفة من عهد البعثة إلى يومنا هذا وإلى ما شاءالله من أزمان، فلا يدل على طول المدة لأن هذه القرون قصيرة جدا في عمر الدهر والتاريخ، فما بقي من الدنيا أقل مما مضى.
٢- الناس مع الأسف وبالرغم من قرب القيامة في غفلة وإعراض، أما الغفلة: فهي السهو عن الحساب وعن التفكر في العاقبة المحتومة، مع أن عقولهم تقتضي أنه لا بد من جزاء المحسن والمسيء.
٣- لقد عطل كفار قريش مفاتيح الهداية والانتفاع بنور القرآن، وهزؤوا وسخروا من آيات الله التي تأخذ بيدهم إلى السعادة الدنيوية والأخروية.
٤- احتج المعتزلة على حدوث القرآن بقوله تعالى: ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ.. فقالوا: القرآن ذكر، والذكر محدث، فالقرآن محدث.
وأجابهم أهل السنة بأن المقصود بالإحداث: هو ما يسمع من حروف القرآن وأصواته، فهذا حادث لا شك. أما القرآن الذي هو كلام الله تعالى فهو قديم بقدم الله سبحانه وصفاته الحسنى.
٥- طعن كفار قريش في نبوة النبي محمد صلّى الله عليه وسلم بأمرين:
أحدهما- أنه بشر مثلهم.
والثاني- أن الذي أتى به سحر.
وكلا الطعنين مردود لأن النبوة تثبت بالمعجزات والدلائل، لا بالصور، فكونه بشرا لا يمنع نبوته، ولو بعث إليهم الملك لما علم كونه نبيا لمجرد صورته، بل الأولى أن يكون المبعوث إلى البشر بشرا لأن الإنسان يأنس بأمثاله، وهو أقرب إلى قبول الشيء من أشباهه.
ثم إن ما أتى به الرسول صلّى الله عليه وسلم من القرآن وغيره لا تمويه فيه ولا تلبيس، وليس فيه شيء من ظواهر السحر، فقد تحداهم صلّى الله عليه وسلم بالقرآن، وهم أرباب الفصاحة والبلاغة، فلو قدروا على المعارضة لأتوا بما يشبه القرآن، فلما لم يأتوا بمثله، دل ذلك على كونه معجزة في نفسه.
٦- الحق أن قلوب الكفار ساهية معرضة عن ذكر الله، متشاغلة عن التأمل
٨- صور القرآن الكريم اضطراب كفار قريش وترددهم وحيرتهم في وصف النبي محمد صلّى الله عليه وسلم وفي وصف القرآن بأشد أنواع الاستهجان، فقالوا: إنه ساحر وما أتى به سحر، ثم قالوا: إن ما أتى به أخلاط كالأحلام المختلطة، رآها في المنام، ثم قالوا: إنه افتراء، ثم قالوا: إنه شاعر، فهم متحيرون لا يستقرون على شيء، قالوا مرة: سحر ومرة أضغاث أحلام، ومرة افتراء، ومرة شاعر.
ثم عدلوا عن ذلك إلى المطالبة بالآيات على صدق نبوته كالآيات التي ظهرت على يد موسى كالعصا واليد، ومثل ناقة صالح، ومثل إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص بوساطة عيسى، وإنما كان سؤالهم تعنتا، فقد أعطاهم الله ما فيه الكفاية.
٩- اقتضت حكمة الله ورحمته تأخير العذاب عن الكفار المنكرين للبعث ولبعثة محمد صلّى الله عليه وسلم، إذ لو أجابهم تعالى إلى مطلبهم، لعجل لهم عذاب الاستئصال، كما فعل بأهل القرى المتقدمين مثل قوم صالح وقوم فرعون، فإنهم ما آمنوا بالآيات، فاستؤصلوا، فلو رأى هؤلاء ما اقترحوا لما آمنوا لما سبق من القضاء في علم الله بأنهم لا يؤمنون أيضا وإنما تأخر عقابهم لعلمه تعالى بأن في أصلابهم من يؤمن.
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٧ الى ١٠]
وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٧) وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ (٨) ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (٩) لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٠)
الإعراب:
فِيهِ ذِكْرُكُمْ ذِكْرُكُمْ: مرفوع بالظرف، ويجوز كونه مبتدأ، وفِيهِ خبره، والجملة في موضع نصب لأنها وصف كتاب.
جَسَداً على حذف مضاف أي ذوي جسد، فتوحيد الجسد على حذف مضاف، أو لإرادة الجنس أو لأنه مصدر في الأصل.
لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ صفة لجسدا.
البلاغة:
أَفَلا تَعْقِلُونَ؟ إنكار توبيخي.
المفردات اللغوية:
أَهْلَ الذِّكْرِ هم هنا أهل الكتاب العلماء بالتوراة والإنجيل جَسَداً الجسد هو الجسم، إلا أنه لا يطلق على غير الإنسان خالِدِينَ باقين دائمين في الحياة الدنيا صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ أي نصرناهم على أعدائهم وأنجيناهم، والمراد: صدقناهم في الوعد فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ يعني المؤمنين المصدقين لهم، ومن في إبقائه حكمة كمن سيؤمن هو أو أحد من ذريته، ولذلك حمى الله العرب من عذاب الاستئصال وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ في الكفر والمعاصي، المكذبين.
المناسبة:
هذه الآيات جواب لقول كفار قريش: هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وهو أن سنة الله تعالى في الرسل قبل محمد صلّى الله عليه وسلم إرسال رجال من البشر أنبياء، فلا يكون الرسول إلا بشرا، خلافا لما ينكرون، فلا يصح اعتراضهم في كون محمد بشرا.
التفسير والبيان:
يرد الله تعالى على من أنكر بعثة الرسل من البشر بقوله: وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ... أي إن جميع الرسل الذين تقدموا كانوا رجالا من البشر، ولم يكن فيهم أحد من الملائكة، كما قال تعالى في آية أخرى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى [يوسف ١٢/ ١٠٩] وقوله سبحانه: قُلْ: ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف ٤٦/ ٩] وقوله حكاية عمن تقدم من الأمم الذين قالوا: أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا؟ [التغابن ٦٤/ ٦].
فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ أي إن كنتم في شك من كون جميع الرسل بشرا، فاسألوا أهل العلم من الأمم كاليهود والنصارى وسائر الطوائف: هل كان الرسل الذين أتوهم بشرا أو ملائكة؟ فالله يأمرهم أن يسألوا علماء الكتب السابقة عن حال الرسل المتقدمة، لتزول عنهم الشبهة، وليعلموا أن رسل الله الموحى إليهم كانوا بشرا، ولم يكونوا ملائكة كما اعتقدوا.
وإنما أحالهم على أولئك لأن المشركين كانوا يشاورونهم في أمر النبي صلّى الله عليه وسلم، ويثقون بقولهم، ويلتقون معهم في معاداته قال الله تعالى: وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ
[آل عمران ٣/ ١٨٦].
وإنما كانوا بشرا ليتمكن الناس من تلقي الوحي عنهم، والأخذ بيسر بما نزل عليهم. وهذا نص صريح في بشرية الرسل وفي كونهم رجالا لا نساء.
وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ، وَما كانُوا خالِدِينَ أي وما جعلنا الأنبياء ذوي جسد غير طاعمين كالملائكة، بل كانوا أجسادا يأكلون الطعام، وما كانوا مخلّدين باقين في الدنيا، ونظير الآية: وَقالُوا: مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ [الفرقان ٢٥/ ٧] وقوله: وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ [الفرقان ٢٥/ ٢٠].
وهذا نفي لما اعتقدوا أن من صفات الرسل الترفع عن الحاجة إلى الطعام، فهم كانوا بشرا يأكلون الطعام، ويتصفون بكل الصفات الإنسانية، ويطرأ عليهم الحزن والسرور، والمرض، والنوم واليقظة، والحياة والموت، فلا خلود لهم في الدنيا، كما قال تعالى: وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ [الأنبياء ٢١/ ٣٤].
ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ... أي إننا نصون حياة الرسل وكراماتهم، ونصدقهم في الوعد الذي نعدهم به من النصر على أعدائهم، وإهلاك الظالمين، وننجيهم ومن نشاء من أتباعهم المؤمنين بهم، ونهلك المكذبين لهم، المسرفين على أنفسهم بالكفر والمعاصي، المكذبين بما جاءت به الرسل.
وبعد إثبات بشرية الرسل للرد على المشركين الذين اعتقدوا بأن الرسالة من خواص الملائكة، نبّه تعالى على شرف القرآن وفضله ونفعه للناس، وحرض على معرفة قدره، فقال:
لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أي لقد أعطيناكم هذا القرآن العظيم
أَفَلا تَعْقِلُونَ أي أفلا تتدبرون أمركم، وتقدرون هذه النعمة، وتتلقونها بالقبول، وتتفكرون بما اشتمل عليه هذا القرآن من العظات والعبر، فتأخذوا بما فيه، وتتجنبوا ما حذره وما نهى عنه.
وفي هذا حث شديد على تدبر أحكام القرآن وتعقل ما جاء فيه من أمور الدنيا والدين والحياة.
فقه الحياة أو الأحكام:
اشتملت الآيات على ما يأتي:
١- الأنبياء والرسل من جنس البشر، وليسوا من الملائكة، ليسهل الأخذ عنهم، ومناقشتهم وتفهم الموحى به إليهم، فقد ثبت بالتواتر والاستقراء والتتبع أن الرسل كانوا من البشر.
٢- إن سؤال أهل العلم واجب، وعلى العامة تقليد العلماء، وقد أجمع علماء الأمة الإسلامية على أن الأعمى لا بدّ له من تقليد غيره ممن يثق به في الاتجاه إلى القبلة إذا أشكلت عليه، وكذلك كل من لا علم له ولا بصر بمعنى ما يدين به، لا بد له من تقليد أحد العلماء. ولا يجوز للعامة الفتيا في الدين، للجهل بالمعاني التي يرتكز عليها التحليل والتحريم.
٣- لم يجعل الله تعالى الرسل بصفات منافية لطباع البشر، لا يحتاجون إلى طعام وشراب، بل هم كغيرهم من البشر يأكلون الطعام، ويشربون الماء، ويمشون في الأسواق، ويتعاطون شؤون الحياة والمكاسب المتعددة.
٥- إن القرآن الكريم سبب لرفعة شأن العرب لأنه نزل بلغتهم، وفيه أحكام الشرع، وبيان مصير الناس في الآخرة، وما يلقونه من ثواب وعقاب.
وهو أيضا عظة وعبرة، يرغب ويبشر، ويحذر وينفر، ويأمر وينهى، ويرشد إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، ويوضح ما فيه سعادة الدارين، ويرشد البشرية كافة إلى اتباع النظام الأصلح.
٦- يحث القرآن الكريم دائما على تدبر ما جاء فيه من أحكام، وتفهم ما تضمنه من نظام سديد في الدين والدنيا والآخرة.
الإنذار بعذاب الاستئصال والتذكير بعجائب الخلق
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ١١ الى ٢٠]
وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ (١١) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ (١٢) لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ (١٣) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (١٤) فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ (١٥)
وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (١٦) لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ (١٧) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (١٨) وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (١٩) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ (٢٠)
فَما زالَتْ تِلْكَ تِلْكَ مرفوع أو منصوب اسما أو خبرا، وكذلك دَعْواهُمْ.
وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ.. مَنْ: مبتدأ، وَلَهُ: خبره. وذهب الأخفش إلى أنه في موضع رفع بالظرف.
وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ.. مبتدأ وخبر، وليس معطوفا على مَنْ فِي السَّماواتِ.
فإن جعل معطوفا كان قوله: لا يَسْتَكْبِرُونَ في موضع الحال، أي غير مستكبرين، وكذلك لا يَسْتَحْسِرُونَ أي غير مستحسرين.
البلاغة:
حَصِيداً خامِدِينَ تشبيه بليغ، أي جعلناهم كالزرع المحصود، وكالنار الخامدة.
بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ في قوله: نَقْذِفُ استعارة تمثيلية، شبّه الحق بشيء صلب جامد، والباطل بشيء رخو، وأستعير لفظ القذف لغلبة الحق على الباطل بطريق التمثيل، كما يرمي الإنسان شيئا فيتلفه.
المفردات اللغوية:
وَكَمْ خبرية تفيد كثرة وقوع ما بعدها، فهي صيغة تكثير قَصَمْنا أهلكنا وأصل القصم: كسر بتفريق الأجزاء وإبانة تلاؤمها، وهو يدل على غضب عظيم. أما الفصم فلا يدل على تفريق الأجزاء، فهو كسر من غير إبانة مِنْ قَرْيَةٍ أي أهل قرية كانَتْ ظالِمَةً كافرة، وهي صفة لأهلها، ووصف بها القرية لأنها أقيمت مقام أهلها وَأَنْشَأْنا بَعْدَها بعد إهلاك أهلها قَوْماً آخَرِينَ مكانهم.
فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا أي أدركوا شدة عذابنا إدراك المشاهد المحسوس، والضمير عائد لأهل القرية المحذوف، أي شعر أهل القرية بالإهلاك. والإحساس: الإدراك بالحاسة، وهو هنا الإدراك بحاسة البصر، والبأس: الشدة يَرْكُضُونَ يهربون مسرعين، والركض: الفرار والهرب بسرعة،
أُتْرِفْتُمْ أي نعمتم، والإتراف: التنعم والتلذذ، أو إبطار النعمة. وَمَساكِنِكُمْ التي كانت لكم لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ أي لتسألوا غدا عن أعمالكم أو تعذبون، فإن السؤال من مقدمات العذاب يا وَيْلَنا يا هلاكنا، ويا: للتنبيه ظالِمِينَ بالكفر فَما زالَتْ تِلْكَ الكلمات دَعْواهُمْ أي دعوتهم التي يردّدونها، أي ما زالوا يكررون تلك الكلمة حَصِيداً محصودين، كما يحصد الزرع بالمناجل، بأن قتلوا بالسيف خامِدِينَ ميتين، كخمود النار إذا طفئت.
لاعِبِينَ عابثين، بل دالين على قدرتنا ومرشدين عبادنا لَهْواً ما يلهى به من زوجة أو ولد. والفرق بين اللعب واللهو: أن الأول لا يقصد به هدف صحيح، والثاني يقصد به الترويح عن النفس مِنْ لَدُنَّا من عندنا من الحور العين والملائكة إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ ذلك، لكنا لم نفعله فلم نرده.
نَقْذِفُ نرمي رميا بعيدا بِالْحَقِّ الإيمان عَلَى الْباطِلِ الكفر فَيَدْمَغُهُ يذهبه ويقهره ويهلكه، وأصل الدمغ: كسر الشيء الرخو، وإصابة الدماغ بالضرب، وهو مقتل فَإِذا هُوَ زاهِقٌ ذاهب وهالك وزائل وَلَكُمُ يا كفار مكة الْوَيْلُ العذاب الشديد مِمَّا تَصِفُونَ الله به من الزوجة أو الولد.
وَلَهُ لله تعالى مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ملكا لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ لا يتعظمون وَلا يَسْتَحْسِرُونَ لا يكلون ولا يعيون ولا يتعبون يُسَبِّحُونَ ينزهونه ويعظمونه دائما لا يَفْتُرُونَ لا يضعفون.
المناسبة:
هذه الآيات مبالغة في زجر الكفار عن عصيانهم وكفرهم، فبعد أن أبان الله تعالى أنه أهلك المسرفين في تكذيبهم وكفرهم بالله، ونصر الأنبياء المرسلين عليهم، وأسقط اعتراضاتهم التي أظهرت إعجاز القرآن، وأوضحت أن إيراد تلك الاعتراضات كان لحب الدنيا وحب الرياسة فيها، بالغ تعالى في زجرهم عن ذلك، فقال:
وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً، وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ أي كثيرا ما أهلكنا من أهل القرى الذين كانوا ظالمين أنفسهم بالكفر بالله وتكذيب
فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها، وَهِيَ ظالِمَةٌ، فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها [الحج ٢٢/ ٤٥].
والمراد بالقرية: مدائن كانت باليمن، وقال أهل التفسير والأخبار: إنه أراد أهل حضور، وكان بعث إليهم نبي اسمه شعيب بن ذي مهدم، وقبر شعيب هذا باليمن بجبل يقال له: ضنن كثير الثلج، وليس بشعيب صاحب مدين لأن قصة «حضور» قبل زمن عيسى عليه السلام، وبعد مئات من السنين من زمن سليمان عليه السلام، لكنهم قتلوا نبيهم، وكانت «حضور» بأرض الحجاز من ناحية الشام «١».
فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ أي فلما تيقنوا أن العذاب واقع بهم لا محالة، كما وعدهم نبيهم، إذا هم يفرون هاربين منهزمين من قريتهم، لما أدركتهم مقدمة العذاب.
لا تَرْكُضُوا، وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ... أي يقال لهم تهكما واستهزاء:
لا تركضوا هاربين من نزول العذاب، وارجعوا إلى ما كنتم فيه من النعمة التي أبطرتكم والسرور، والمعيشة الرغيدة، والمساكن الطيبة، لعلكم تسألون عما كنتم فيه، فتجيبوا السائل عن علم ومشاهدة، أو يسألكم الناس: لماذا نزل هذا العذاب؟! وقوله: لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ تهكم بهم وتوبيخ، فأجابوا:
قالُوا: يا وَيْلَنا، إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ أي إنهم اعترفوا بذنوبهم حين
فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ أي فما زالوا يرددون تلك المقالة، وهي الاعتراف بالظلم، حتى حصدناهم حصدا، وخمدت حركاتهم، وسكنت أصواتهم خمودا كالنار التي أصبحت خامدة لا حياة فيها.
فقوله: تِلْكَ إشارة إلى قولهم: يا وَيْلَنا.. إلخ لأنها دعوى، كأنه قيل: فما زالت تلك الدعوى دعواهم. والدعوى هنا بمعنى الدعوة أي المطلب، قال تعالى: وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [يونس ١٠/ ١٠] وسميت دعوى لأنهم كانوا دعوا بالويل فقالوا: يا وَيْلَنا والمولول كأنه يدعو الويل، فيقول: تعال يا ويل، فهذا وقتك. والحصيد: الزرع المحصود، أي جعلناهم مثل الحصيد، تشبيها لهم به في استئصالهم، كما تقول: جعلناهم رمادا، أي مثل الرماد، فهم يشبهون الحصيد والخمود.
وعقابهم هذا حق وعدل جزاء إنكار هم النبوة، وجعلهم معجزات النبي عبثا ولعبا، لذا أبان تعالى أنه ما خلق السماء والأرض وما بينهما إلا بالعدل فقال:
وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ أي وما أوجدنا السموات والأرضين إلا بالحق، أي بالعدل والقسط، لا للهو واللعب، فإنا خلقناها لفائدة دينية هي أن تكون دليلا على معرفة الخالق لها، ولمنافع أخرى دنيوية وغيرها، وليجزي الذين أساؤوا بما عملوا، ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى، وأنه لم يخلق ذلك عبثا ولعبا.
ونظير الآية قوله تعالى: وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا، ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا، فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ [ص ٣٨/ ٢٧] ثم أكد تعالى نفي اللعب فقال:
وهو كقوله تعالى: لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً، لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ، سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ [الزمر ٣٩/ ٤]. وهذا رد على من اتخذ المسيح أو عزيرا ابنا لله تعالى.
بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ، فَإِذا هُوَ زاهِقٌ أي بل إننا نبين الحق، فيدحض الباطل ويزيله، فإذا هو زائل مبدّد، ذاهب مضمحل.
وبَلْ هنا إضراب عن اتخاذ اللهو واللعب، وتنزيه منه لذاته، فليس من صفاتنا وحكمتنا اللعب، وإنما تغليب الجد على اللهو، ودحض الباطل بالحق، كأنه قال: سبحاننا أن نتخذ اللهو واللعب، بل من عادتنا تغليب الجد على اللهو، ودحض الباطل بالحق.
وقد استعار القذف والدمغ لضياع الباطل وفنائه، لتصويره بالصورة الحسية المؤثرة التي ترسخ في الأذهان، وتدل على قوة الحق، وضعف الباطل، حتى لكأنه غير موجود.
وإذا كان هذا من شأننا فكيف لا نبين الحق وننذر الناس، وإلا كنا لاهين لاعبين. فقوله: إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ معناه: ما كنا فاعلين، مثل إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ [فاطر ٣٥/ ٢٣] أي ما أنت إلا نذير. وأَنْ بمعنى الجحد، وقيل:
إنها بمعنى الشرط، أي إن كنا فاعلين ذلك ولكن لسنا بفاعلين ذلك لاستحالة أن يكون لنا ولد.
وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ أي ولكم أيها القائلون: لله ولد، أو أيها
وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي وكيف يكون لله شريك خاص، وهو مالك جميع من في السموات والأرض، وكيف تتنكرون لطاعته، وله تعالى جميع المخلوقات ملكا وخلقا وعبيدا؟! الكل ومنهم الملائكة طائعون خاضعون له، دأبهم الطاعة ليلا ونهارا، لذا قال:
وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ أي وجميع من عنده من الملائكة لا يترفعون عن عبادته، ولا يعيون ولا يتعبون ولا يملون.
والعندية هنا ليست مكانية، وإنما هي عندية مكانة وتشريف. وتخصيص الملائكة بالذكر هنا لإبانة رفعة شأنهم.
يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ، لا يَفْتُرُونَ أي يعبدون الله وينزهونه في الليل والنهار، فهم دائبون في العمل ليلا ونهارا، مطيعون قصدا وعملا، قادرون عليه، لا ينقطعون عن الطاعة ولا يفترون ساعة عنها، كما قال تعالى:
لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ [التحريم ٦٦/ ٦].
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- الإنذار الشديد الأكيد لأهل الكفر والعصيان الذين أنكروا النبوات بحال أهل القرى الظالمة الكافرة، حيث دمرها الله تعالى تدميرا شديدا بمن فيها، لظلمهم، والظلم: وضع الشيء في غير موضعه، وهم وضعوا الكفر موضع الإيمان.
٢- عند دنوّ العذاب تقع الحيرة والاضطراب، وتحدث محاولات الفرار من
ولما قالت لهم الملائكة: لا تَرْكُضُوا ونادت: يا لثارات الأنباء! ولم يروا شخصا يكلمهم، عرفوا أن الله عز وجل هو الذي سلط عليهم عدوهم، بقتلهم النبي الذي بعث فيهم، فقالوا: يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ وهذا اعتراف منهم بأنهم ظلموا، حين لا ينفع الاعتراف.
وما زالوا يقولون: يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ حتى أصبحوا أثرا بعد عين، وجثثا هامدة لا حراك فيها، وتم استئصالهم، وحصدوا بالسيوف كما يحصد الزرع بالمنجل، وصاروا خامدين ميتين.
٣- لما بيّن الله تعالى إهلاك أهل القرية لأجل تكذيبهم، أتبعه بما يدل على أنه فعل ذلك عدلا منه، ومجازاة على ما فعلوا، وهو خلق السموات والأرض بالعدل والقسط: ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ [الدخان ٤٤/ ٣٩] فهو تعالى خلقها لفوائد دينية ودنيوية، أما الدينية: فليتفكر المتفكرون فيها، كما قال تعالى:
وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [آل عمران ٣/ ١٩١] وأما الدنيوية: فلما يتعلق بها من المنافع التي لا تعدّ ولا تحصى.
وبما أن خلق السموات والأرض حق لا لعب فيه، فإن المعجزات التي ظهرت على يد النبي صلّى الله عليه وسلم هي حق أيضا لا لعب فيها، تقرر صحة نبوته، وترد على منكريها.
٤- إن خلق السموات والأرض للتنبيه على أن لها خالقا قادرا يجب امتثال أمره، وأنه يجازي المسيء والمحسن، وليس خلقها ليظلم بعض الناس بعضا،
٥- تعالى الله وتقدس وتنزه عن اتخاذ الزوجة والولد، فذلك من اللهو، ولو أراد الله أن يتخذ لهوا من زوجة أو ولد لاتخذه من عنده لا من عند الناس.
وهذا رد واضح على من قال: المسيح أو عزير ابن الله، والأصنام أو الملائكة بنات الله تعالى.
٦- يبين الله تعالى الحق ومنهجه لدحر الباطل وزخارفه، والحق هنا:
القرآن، والباطل: الشيطان وكذب الكفار ووصفهم الله عز وجل بغير صفاته من الولد وغيره. وللكفار الويل، أي العذاب في الآخرة بسبب وصفهم الرب بما لا يجوز وصفه وهو اتخاذه سبحانه الولد.
٧- إذا كان كل من في السموات والأرض لله خلقا وملكا، فكيف يجوز أن يشرك به ما هو عبده وخلقه؟! وأما الملائكة الذين ذكر المشركون أنهم بنات الله فلا يأنفون عن عبادة الله والتذلل له، ولا يعيون ولا يتعبون ولا يملون، وهم دائما في الليل والنهار يصلون ويذكرون الله وينزهونه دائما، لا يضعفون ولا يسأمون، يلهمون التسبيح والتقديس كما يلهمون النّفس. سئل كعب عن تسبيح الملائكة: أما لهم شغل عن التسبيح، أما يشغلهم عنه شيء؟ فقال: يا بان أخي، هل يشغلك شيء عن النّفس؟ إن التسبيح لهم بمنزلة النفس. وقد استدل بهذا من قال: إن الملائكة أفضل من بني آدم «١».
وهذا دليل على استغناء الله تعالى عن طاعة الكفار لأنه هو المالك لجميع
توبيخ المشركين وإثبات الوحدانية
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٢١ الى ٢٩]
أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (٢١) لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٢٢) لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ (٢٣) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٤) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ (٢٥)
وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (٢٦) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (٢٧) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (٢٨) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٢٩)
الإعراب:
مِنَ الْأَرْضِ صفة لآلهة، أو متعلقة بالفعل، على معنى الابتداء، وفائدتها التحقير لا التخصيص.
ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي ذكر غير منون: مضاف إلى مِنْ الذي هو مضاف إليه. ويقرأ بتنوين على تقدير محذوف، أي ذكر ذكر من معي.
لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ منصوب بيعلمون. وقرأ الحسن الْحَقَّ بالرفع بتقدير مبتدأ محذوف، أي هو الحق.
بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ عِبادٌ: خبر مبتدأ محذوف، تقديره: بل هم عباد مكرمون.
وأجاز الفراء: بل عبادا مكرمين على تقدير: بل خلقهم عبادا مكرمين.
البلاغة:
لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ طباق السلب.
قُلْ: هاتُوا بُرْهانَكُمْ تبكيت للخصم.
أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ فيهما جناس اشتقاق.
المفردات اللغوية:
أَمِ اتَّخَذُوا أي بل اتخذوا، للانتقال، والهمزة لإنكار اتخاذهم آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ أي آلهة كائنة من الأرض، كحجر وذهب وفضة هُمْ يُنْشِرُونَ أي الآلهة يحيون الموتى من قبورهم، من أنشره: أي أحياه؟ لا، فلا يكون إلها إلا من يحيي الموتى، فالنشر: إحياء الموتى من قبورهم، والحشر: سوقهم إلى أرض المحشر.
لَوْ كانَ فِيهِما أي في السموات والأرض إِلَّا اللَّهُ غيره لَفَسَدَتا لبطلتا وخربتا وخرجتا عن نظامهما المشاهد لما يكون بينهما من الاختلاف والتمانع، على وفق العادة، فإنه عند تعدد الحاكم والاتفاق في المراد، يحدث التنافر في القدرات، إذ بأي قدرة لهما سيوجد؟! وعند الاختلاف يحدث التمانع في الشيء وعدم وجوده، مثلا لو اختلفا في تحريك زيد وتسكينه، فلا يمكن حدوث المرادين لاستحالة الجمع بين الضدين، ولا يمكن حدوث أحد المرادين لمعارضة الآخر، وإذا حدث كان أحد الإلهين قادرا والآخر عاجزا، والعجز نقص، وهو على الله محال.
لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ لعظمته وقوة سلطانه وتفرده بالألوهية والسلطنة الذاتية وَهُمْ يُسْئَلُونَ عن أفعالهم لأنهم مملوكون مستعبدون، والضمير للآلهة المزعومة أو للعباد.
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً أي بل اتخذوا من دون الله تعالى أي سواه آلهة، وفيه استفهام توبيخ، وكرره استعظاما لكفرهم، وتبكيتا، وإظهارا لجهلهم، والمعنى: أوجدوا آلهة ينشرون الموتى، فاتخذوهم آلهة، لما وجدوا فيهم من خواص الألوهية، أو وجدوا في الكتب الإلهية الأمر بإشراكهم، فاتخذوهم تنفيذا للأمر، ثم أبان فساد الأول عقلا، والثاني نقلا، فقال:
قُلْ: هاتُوا بُرْهانَكُمْ أي أحضروا برهانكم على ذلك من العقل أو النقل، فإنه لا يصح القول بما لا دليل عليه.
هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ أي هذا هو القرآن المنزل على من معي أي على أمتي أي عظة لهم وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي أي والكتب السماوية المنزلة على الأمم قبلي وهي عظة لهم، وهي التوراة والإنجيل وغيرهما من كتب الله، ليس في واحد منها أن مع الله إلها، مما قالوا. وإنما فيها الأمر بالتوحيد، والنهي عن الإشراك. وإضافة الذكر إليهم لأنه عظتهم.
لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ أي توحيد الله، ولا يميزون بين الحق والباطل فَهُمْ مُعْرِضُونَ عن التوحيد واتباع الرسول من أجل ذلك، وعن النظر الموصل إليه.
فَاعْبُدُونِ أي وحدوني وَلَداً من الملائكة سُبْحانَهُ تنزيه له عن ذلك. بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ أي بل هم عِبادٌ مخلوقون، عنده مُكْرَمُونَ: مقربون لديه، والعبودية تنافي الولادة، فليسوا بأولاد.
لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ أي لا يتكلمون حتى يأمرهم، ولا يأتون بقولهم إلا بعد قوله وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ لا يعملون قط ما لم يأمرهم به، ويعملون بعد أمره يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ أي يعلم ما عملوا وما هم عاملون، لا يخفى عليه خافية مما قدموا وأخروا، وهو كالعلة لما قبله، والتمهيد لما بعده، وبذلك يضبطون أنفسهم، ويراقبون أحوالهم. وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى أن يشفع له، مهابة منه وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ أي من عظمته ومهابته تعالى مُشْفِقُونَ خائفون مرتعدون.
وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ من الملائكة أو من الخلائق إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ أي غير الله وهو إبليس، دعا إلى عبادة نفسه، وأمر بطاعتها فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ هذا تهديد للمشركين بتهديد مدعي الربوبية كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ المشركين أي من أظلم بالإشراك وادعاء الربوبية.
ما تقدم من أول السورة إلى هنا كان في النبوات، وما يتعلق بها سؤالا وجوابا، وأما هذه الآيات فإنها في بيان التوحيد، ونفي الشريك.
التفسير والبيان:
أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ أي بل اتخذ المشركون آلهة من الأرض من دون الله يحيون الموتى من قبورهم، أي لا يقدرون على شيء من ذلك، فكيف جعلوها لله ندا وعبدوها معه؟! قال الزمخشري: وأَمِ هنا- أي مع الاستفهام- هي المنقطعة الكائنة بمعنى «بل» الإضرابية، والهمزة قد آذنت بالإضراب عما قبلها، والإنكار لما بعدها، وهو اتخاذهم آلهة ينشرون الموتى.
والمراد بالآية التذكير بخواص الألوهية التي منها إحياء الموتى من قبورهم، فإن المشركين وإن لم يصرحوا بذلك، فإنهم بادعائهم الألوهية لها يثبتون تلك الصفة لها. ووصف الآلهة بكونها من الأرض إشارة إلى أنها من الأصنام المعبودة في الأرض. وهذا تهكم بهم وتوبيخ وتجهيل لهم.
ثم أثبت الله تعالى التوحيد ونفي وجود إله غير الله، فقال:
لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا أي لو كان في السموات والأرض آلهة غير الله لخربتا وفسد نظامها لأنهما إذا اختلفا وقع الاضطراب والخلل والفساد، وإن اتفقا في التصرف في الكون، فلا داعي للتعدد لأنه يؤدي إلى وجود الخلق والأمر والمقدور من خالقين قادرين على مخلوق واحد، وهذا محال لأنه يجعل وقوع المقدور والمراد للاثنين، لا لواحد منهما، وهذا لا يصح لأن لكل منهما إرادة مستقلة بالتأثير، فلا يعقل وقوع مخلوق لخالقين.
وبناء عليه يكون جميع ما في هذا العالم العلوي والسفلي من المخلوقات دليل وحدانية الله تعالى، لذا قال:
ونظير الآية: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ، وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ، إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ، وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ، سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ [المؤمنون ٢٣/ ٩١].
وتأكيدا لهذا التنزيه قال تعالى:
لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ، وَهُمْ يُسْئَلُونَ أي لا يسأل تعالى عن أفعاله، فهو الحاكم الذي لا معقّب لحكمه، ولا يعترض عليه أحد، لعظمته وجلاله وكبريائه، وعلمه وحكمته، وعدله ولطفه، وإنما يسأل خلقه عن أفعالهم، ما عملوا وما سيعملون، وهذا كقوله تعالى: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ [الحجر ١٥/ ٩٢- ٩٣] وقوله سبحانه: وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ [المؤمنون ٢٣/ ٨٨].
ثم كرر تعالى الإنكار على المشركين استفظاعا لشأنهم، واستعظاما لكفرهم فقال: أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ: هاتُوا بُرْهانَكُمْ أي أيصح بعد هذه الأدلة أن يتخذوا آلهة دون الله، ويصفوا الله بأن له شريكا؟ فإن وصفتم الله تعالى بأن له شريكا، فهاتوا برهانكم على ذلك، إما من العقل وإما من الوحي، فإنكم لا تجدون كتابا من كتب الأولين كالتوراة والإنجيل إلا وفيه تقرير توحيد الله وتنزيهه عن الشركاء، كما أن العقل كما تقدم يرفض وجود إلهين، وأشار فيما يأتي إلى الدليل النقلي فقال:
هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي أي هذا الوحي الوارد في معنى توحيد الله ونفي الشركاء عنه، ورد علي، كما ورد على جميع الأنبياء، فهو ذكر
بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ أي بل أكثر هؤلاء المشركين لا يعرفون الحق، ويعرضون عنه، ولا يميزون بين الحق والباطل، فلا تنفع فيهم الأدلة والبراهين.
فَهُمْ مُعْرِضُونَ أي فهم لجهلهم معرضون عن قبول الحق وعن النظر المؤدي إليه. وهذا دليل على أن الجهل أو عدم العلم هو أصل الشر والفساد كله، وأنه يترتب على عدم العلم الإعراض عن استماع الحق وطلبه.
وتأكيدا لمضمون الكتب والرسالات السماوية بالتوحيد ونبذ الشرك قال:
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ.. أي لم نرسل رسولا سابقا من عهد آدم عليه السلام إلى قومه إلا أوحينا إليه ألا معبود إلا الله، فاعبدوه مخلصين له العبادة، وخصوه بالألوهية، فرسالات جميع الأنبياء قائمة على التوحيد، وكل نبي بعثه الله يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له.
ونظير الآية قوله تعالى: وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا، أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ [الزخرف ٤٣/ ٤٥] وقوله سبحانه: وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ، وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل ١٦/ ٣٦].
والخلاصة: أنه لا دليل للمشركين على ما زعموا، فلا برهان لهم، وحجتهم داحضة لأن الفطرة تشهد بتوحيد الله، وكذلك العقل السليم، ورسالات جميع الأنبياء متحدة في دفع الشرك وإقرار التوحيد.
وبعد التنزيه عن الشريك، نفى تعالى اتخاذ الولد فقال:
سُبْحانَهُ أي تنزيها له عن الولد، فإن الولد يشبه أباه في شيء، ويخالفه في أشياء، فلو كان لله ولد لأشبهه من بعض الوجوه، وخالفه من وجوه أخرى، فيقع التركيب في ذات الله تعالى، والله سبحانه منزه عن مشابهة الحوادث، ولا مجانسة بين الخالق والمخلوق.
ولما نزه سبحانه نفسه عن الولد، أخبر عن الملائكة بقوله:
بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ أي ليس الملائكة بنات الله، بل هم عباد مخلوقون له، مقربون لديه، والعبودية تنافي الولادة، إلا أنهم مفضلون على سائر العباد.
ومن خصائصهم أنهم:
١- لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ، وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ أي لا يتكلمون إلا بما يأمرهم به ربهم، ولا يخالفونه فيما أمرهم به، بل يبادرون إلى فعله، وهو تعالى عالم محيط علمه بهم، فلا يخفى عليه منهم خافية، كما قال:
٢- يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ أي يعلم ما تقدم منهم من عمل، وما هم عاملون في المستقبل، أي كما أن قولهم تابع لقول الله، فعملهم أيضا مبني على أمره، لا يعملون عملا ما لم يؤمروا به، وجميع ما يأتون ويذرون في علم الله واطلاعه، وهو مجازيهم عليه، فلا يزالون يراقبونه في جميع أحوالهم، ويضبطون أنفسهم عن أي مخالفة لأمره.
٣- وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى أي لا يجسرون أن يشفعوا إلا لمن ارتضاه الله، وأهّله للشفاعة، فلا تعلقوا الآمال على شفاعتهم بغير رضا الله تعالى.
وبعد أن وصف كرامتهم عليه وقرب منزلتهم عنده، ووصفهم بتلك الأفعال السنية، فاجأ من أشرك منهم بالوعيد الشديد، وأنذرهم بعذاب جهنم، فقال:
وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ: إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ، فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ أي ومن يدّعي منهم على سبيل الافتراض أنه إله من دون الله، أي مع الله، كإبليس حيث ادعى الألوهية، ودعا إلى عبادة نفسه، فجزاؤه جهنم على ما ادّعى. وأما الملائكة فلم يقل أحد منهم: إني إله غير الله.
كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ أي مثل ذلك الجزاء نجزي كل من ظلم نفسه، وقال ذلك، وهم المشركون. قال ابن كثير: وهذا شرط، والشرط لا يلزم وقوعه، كقوله: قُلْ: إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ، فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ [الزخرف ٤٣/ ٨١]. وقوله: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ، وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ [الزمر ٣٩/ ٦٥].
فقه الحياة أو الأحكام:
يفهم من الآيات ما يأتي:
١- الإنكار الشديد على من اتخذ آلهة أخرى مع الله، وتوبيخ المشركين على اتخاذهم آلهة ليس لها خواص الألوهية، ومنها الإحياء بعد الإماتة وهو النشر.
٢- إن تعدد الآلهة سبب مؤد لفساد نظام العالم والكون من السموات والأرض، وتخريبها وهلاك من فيهما بوقوع التنازع والاختلاف الواقع بين الشركاء عادة، لذا نزّه الله تعالى نفسه، وأمر العباد أن ينزهوه عن أن يكون له شريك أو ولد.
ومن الأدلة النقلية هذه الآية: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا وهو كقوله: وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ [المؤمنون ٢٣/ ٩١] وقد صرح الله تعالى بكلمة: لا إِلهَ إِلَّا هُوَ في سبعة وثلاثين موضعا من القرآن، وصرح بالوحدانية في موضعين فقط، وهما قوله تعالى: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ [البقرة ٢/ ١٦٣] وقوله: قُلْ: هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص ١١٢/ ١] «١».
٣- لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، أي لا يسأله الخلق عن قضائه في خلقه، وهو يسأل الخلق عن عملهم لأنهم عبيد. وهذا يدل على أن من يسأل غدا عن أعماله، كالمسيح والملائكة لا يصلح للألوهية، وعلى كون المكلفين مسئولون عن أفعالهم.
روي عن علي رضي الله عنه أن رجلا قال له: يا أمير المؤمنين: أيحب ربنا أن يعصى؟ قال: أفيعصى ربّنا قهرا؟ قال- أي الرجل-: أرأيت إن منعني الهدى، ومنحني الردى أأحسن إليّ أم أساء؟ قال: إن منعك حقك فقد أساء، وإن منعك فضله، فهو فضله يؤتيه من يشاء، ثم تلا: لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ، وَهُمْ يُسْئَلُونَ.
٤- أعاد الله تعالى في الآيات التعجب من اتخاذ الآلهة من دون الله، مبالغة في التوبيخ، على وصفهم المتقدم في الإنشاء والإحياء، فتكون أَمِ بمعنى هل، أي هل اتخذ هؤلاء المشركون آلهة من دون الله؟ فليأتوا بالبرهان على ذلك.
وقيل: إن التعجب الأول: أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ احتجاج من حيث المعقول لأنه قال: هُمْ يُنْشِرُونَ أي يحيون الموتى.
والثاني أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً احتجاج بالمنقول، أي هاتوا برهانكم من الكتب السماوية، ففي أي كتاب نزل هذا؟ في القرآن، أم في الكتب المنزلة على سائر الأنبياء؟! ٥- إن الجهل هو المصدر الأصيل في فساد عقائد المشركين: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ.
٦- جميع الرسل والأنبياء أوحى الله إليهم أنه لا إله إلا الله، فأدلة العقل شاهدة أنه لا شريك له، والنقل عن جميع الأنبياء موجود، والدليل إما معقول وإما منقول. قال قتادة: لم يرسل نبي إلا بالتوحيد، والشرائع مختلفة في التوراة والإنجيل والقرآن، وكل ذلك على الإخلاص والتوحيد. أي إن دعوة الرسل جميعا جاءت لبيان التوحيد.
٧- ردّ الله تعالى على بعض العرب الذين كانوا يقولون: الملائكة بنات الله بتنزيه نفسه عن اتخاذ الولد، قيل: نزلت آية وَقالُوا: اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً
في خزاعة، حيث قالوا: الملائكة بنات الله، وكانوا يعبدونهم طمعا في شفاعتهم لهم.
وبعد التنزيه ذكر الله خمس صفات للملائكة تدل على العبودية ونفي الولادة وهي:
أ- المبالغة في طاعة الله، فهم لا يقولون قولا ولا يفعلون فعلا إلا بأمر الله، وهذه صفات العبيد، لا صفات الأولاد.
ب- إن الله تعالى يعلم أسرارهم، وهم لا يعلمون أسراره، فهو المستحق للعبادة، لا هم.
ج- إنهم لا يشفعون إلا بإذن الله ورضاه، ومن كان إلها لا يحتاج لإذن أحد.
د- إنهم أشد الخلق خوفا من الله، وذلك من صفات العبيد.
هـ- الملائكة وإن أكرموا بالعصمة، فهم كسائر المكلفين مسئولون موجه لهم الوعد والوعيد، فلا يتصور كونهم آلهة. وهذه الآية تدل على كون الملائكة مكلفين، وعلى أنهم معصومون، وعلى أنهم متوعدون.
٨- كما يجزي الله تعالى بالنار كل من ادعى الشركة مع الله، ودعا إلى عبادة نفسه كإبليس، فكذلك يجزي الظالمين الواضعين الألوهية والعبادة في غير موضعهما.
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٣٠ الى ٣٣]
أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (٣٠) وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣١) وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ (٣٢) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٣٣)
الإعراب:
رَتْقاً قال ذلك، ولم يقل: رتقين لأنه مصدر، وتقديره: كانتا ذواتي رتق.
سُبُلًا بدل.
يَسْبَحُونَ أتى بالواو والنون، وهي إنما تكون لمن يعقل لأنه أخبر عنها بفعل من يعقل، فأجراها مجرى من يعقل، كقوله تعالى: أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً، وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ وكُلٌّ: مبتدأ، وجملة: يَسْبَحُونَ: خبره، والجملة منهما حال من الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ.
البلاغة:
أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا استفهام معناه التعجب والإنكار.
كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما بين الرتق والفتق طباق.
يَهْتَدُونَ، يَسْبَحُونَ بينهما سجع لطيف.
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ التفات من المتكلم إلى الغائب بعد قوله: وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ للفت النظر إلى النعم الجليلة والاعتناء بها.
المفردات اللغوية:
أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أولم يعلموا. رَتْقاً الرتق: السد والضم والالتحام، والمراد:
ذات رتق، أي ملتزقتين. والمعنى: كانتا شيئا واحدا، أو حقيقة متحدة. فَفَتَقْناهُما أي فصلناهما بالتنويع والتمييز، فجعلنا السماء سبعا والأرض سبعا. والفتق: الفصل بين الشيئين الملتصقين. وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ أي وخلقنا من الماء كل حيوان سواء النازل من السماء والنابع من الأرض. كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أي صيرنا كل شيء حي بسبب من الماء، لا يحيا دونه، سواء النبات وغيره، فالماء سبب لحياته. أَفَلا يُؤْمِنُونَ بتوحيدي، مع ظهور الآيات.
وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أي جبالا ثوابت. أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ أي لئلا تتحرك بهم، أو كراهة أن تميل بهم وتضطرب. وَجَعَلْنا فِيها أي في الرواسي. فِجاجاً سُبُلًا أي مسالك وطرقا نافذة واسعة. لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ أي ليهتدوا بها إلى مصالحهم ومقاصدهم في الأسفار والزراعة.
سَقْفاً مَحْفُوظاً أي سقفا للأرض، مثل سقف البيت، محفوظا من الوقوع بقدرته، أو من الفساد والانحلال إلى الوقت المعلوم بمشيئته. وَهُمْ عَنْ آياتِها أي عن أحوالها الدالة على وجود الله ووحدته وكمال قدرته وروعة حكمته، بما اشتملت عليه من الشمس والقمر والنجوم.
مُعْرِضُونَ لا يتفكرون فيها، فيعلمون أن خالقها لا شريك له.
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ بيان لبعض تلك الآيات. كُلٌّ فِي فَلَكٍ أي كل واحد منهما له مدار مستدير، والتنوين: بدل من المضاف إليه، أي كل من الشمس والقمر وتابعهما وهو النجوم. والمراد بالفلك: الجنس، وهو مدار الشمس والقمر والنجوم.
يَسْبَحُونَ يسيرون على سطح الفلك بسرعة، كالسابح في الماء، وللتشبيه به، وإنما جمع الفعل باعتبار جنس الطوالع المتكاثرة كل يوم وليلة، وهو سبب جمعهما بالشموس والأقمار، وإلا فالشمس واحدة والقمر واحد. وعوملوا معاملة العقلاء للوصف بفعلهم وهو السباحة.
المناسبة:
بعد أن وبخ الله تعالى المشركين الذين عبدوا مع الله آلهة أخرى، والذين قالوا: اتخذ الله ولدا من الملائكة، وبخهم على عدم تدبر الآيات الكونية الدالة
التفسير والبيان:
أورد الله تعالى في هذه الآيات ستة أدلة تدل على وجود الإله الواحد القادر ذي القدرة التامة والسلطان العظيم في خلق الأشياء وقهر جميع المخلوقات، وهي ما يلي:
١- فتق السموات عن الأرض:
أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما أي أو لم يعلم الجاحدون لألوهية الله، العابدون معه غيره أن الله هو المستقل بالخلق، المستبد بالتدبير، فكيف يليق أن يعبد معه غيره، أو يشرك به ما سواه، ألم يعلموا أن السموات والأرض كانتا متصلتين ببعضهما، تلاصقت أجزاؤهما، وتراكم بعضها فوق بعض، ثم فصلناهما، وجعلنا بين السماء الدنيا والأرض طبقة من الهواء؟! وهذه هي نظرية السديم عند علماء الفلك الذين يثبتون أن الشمس والكواكب والأرض كانت قطعة واحدة، وأن الشمس كانت كرة نارية، وفي أثناء سيرها السريع انفصلت عنها أرضنا والكواكب السيارة الأخرى، وهي تسعة مرتبة بحسب قربها من الشمس: عطارد، والزّهرة، والأرض، والمرّيخ، والمشتري، وزحل، وأورانوس، ونبتون، وبلوتوه. ولكل منها مدار بحسب تأثير الجاذبية، وهي تجري في الفلك، وهي تسعة أفلاك دون السموات المطبقة التي يعيش فيها الملائكة. والفلك: استدارة في السماء تدور بالنجوم مع ثبوت السماء، أو هو مجراها وسرعة سيرها.
وهذا السبق العلمي الذي أعلنه القرآن دليل واضح قاطع على أن القرآن
٢- جعل الماء أساس الحياة:
وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أي وخلقنا من الماء كل حيوان، أي فيه حياة، كقوله تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ [النور ٢٤/ ٤٥] فكل حيوان من النطفة التي هي ماء، ولا ينبت النبات إلا بالماء.
وهذا موافق لما يراه بعض العلماء: أن كل حيوان خلق أولا في البحر، ثم انتقل بعض الحيوان إلى البر، وتطبع بطباع البر مع مرور الزمن.
أَفَلا يُؤْمِنُونَ أي ألا يتدبرون هذه الأدلة، وهم يشاهدون عيانا حدوث المخلوقات شيئا فشيئا، فيؤمنون بالخالق، ويتركون منهج الشرك؟!
وفي كل شيء له آية... تدل على أنه واحد
٣- جعل الجبال رواسي الأرض:
وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ أي وخلقنا في الأرض جبالا لإرساء الأرض بها وتثبيتها، لئلا تضطرب بالناس وتتحرك، فلا يحصل لهم قرار عليها، والرواسي: الجبال، والراسي: هو الداخل في الأرض.
والأرض تدور حول نفسها وحول الشمس، وقد أثبت العلماء أن الأرض كانت نارا ملتهبة، ثم بردت قشرتها، وصارت صوّانية صلبة، وذلك منذ حوالي ثلاث مائة مليون سنة بل حوالي خمسة مليارات سنة كما يرى المعاصرون. ويؤكد ذلك وجود حمم النيران التي تخرجها البراكين. ونسبة الجبال إلى الأرض هي بنسبة مليمتر ونصف من المتر.
وهذا دليل ثالث على أن القرآن وحي من عند الله، لا من عند بشر.
وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ أي وخلقنا في الأرض بين الجبال طرقا واسعة نافذة، يسلكها الناس بسهولة من مكان إلى آخر، أو من قطر أو إقليم إلى آخر، ليهتدوا بها إلى مقاصدهم ومصالحهم المعيشية في البلاد، وقيل: ليهتدوا إلى وحدانية الله تعالى بالاستدلال. والفج: الطريق الواسع، والسبيل: الطريق السالك. وقدمت الفجاج وهي صفة على السبل، ولم تؤخر، كما في قوله تعالى: لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلًا فِجاجاً [نوح ٧١/ ٢٠] لتجعل حالا، والفرق من جهة المعنى أن قوله: سُبُلًا فِجاجاً إعلام بأنه جعل فيها طرقا واسعة، وأما قوله: فِجاجاً سُبُلًا فهو إعلام بأنه حين خلقها خلقها على تلك الصفة، فهذه الآية بيان لما أبهم في الآية الأولى.
وقوله: لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ معناه: لكي يهتدوا إذ الشك لا يجوز على الله تعالى.
والضمير في قوله: فِيها عائد إلى الجبال، أي وجعلنا في الجبال التي هي رواسي فجاجا سبلا، أي طرقا واسعة، وقيل: إنه عائد إلى الأرض، أي وجعلنا في الأرض فجاجا وهي المسالك والطرق.
- جعل السماء سقفا للأرض:
وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً أي وجعلنا السماء كالسقف على الأرض وكالقبة عليها، وذلك السقف محفوظ من الوقوع والاضطراب، ومن الشياطين التي تسترق السمع، كما قال تعالى: وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ [الحج ٢٢/ ٦٥] وقال: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ [الروم ٣٠/ ٢٥] وقال: إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا [فاطر ٣٥/ ٤١]. وحفظها من الشياطين إما بالملائكة وإما بالنجوم.
٦- خلق الليل والنهار والشمس والقمر:
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ أي والله خلق الليل والنهار، نعمة منه، ودليلا على عظمة سلطانه، بواسطة دوران الأرض حول نفسها، لتتحقق الفائدة المرجوة من كليهما بالظلام والسكون، والضياء والأنس، والتفاوت في الطول والقصر أو التساوي بينهما في مدار السنة، وخلق أيضا الشمس والقمر، للإضاءة وإمداد الأحياء بحرارة الشمس، وإفادة بعض المزروعات والثمار بضوء القمر، وكل من الشمس والقمر والنجوم والأرض يدور في فلكه، دوران المغزل في الفلكة، فلا يدور المغزل إلا بالفلكة، ولا الفلكة إلا بالمغزل، كذلك الشمس والقمر والنجوم لا تدور إلا بالفلك، ولا يدور إلا بهن، كما قال تعالى: فالِقُ الْإِصْباحِ، وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً، وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً، ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [الأنعام ٦/ ٩٦].
وقوله: يَسْبَحُونَ بالجمع يشمل النجوم، فهي وإن لم تكن مذكورة نصا فهي مذكورة ضمنا.
ودوران الشمس والقمر والأرض في الفضاء اللانهائي يثبته أيضا العلم الحديث، مما يدل على أن هذا القرآن معجز للأبد، دال على كونه وحيا صادرا منه، وأنه النعمة الكبرى لبني الإنسان.
الآيات كما لاحظنا تتضمن أدلة كافية على وجود الإله الصانع الواحد الأحد، المنزه عن الشريك والولد، وهي أدلة تثير الإعجاب، وتوحي باتصاف الموجد الخالق بالقدرة التامة، والسلطان العظيم.
وقد عرفنا أنها أدلة ستة هي:
أولا- فتق السموات عن الأرض، وجعل طبيعة خاصة لكل منهما، فالأرض بهوائها ومائها تتناسب مع وجود الحياة الإنسانية والحيوانية والنباتية، ومع ما يتطلبه الاستقرار والثبات عليها، والسموات تتلاءم مع وجود المجرّات والكواكب والنجوم والشمس والقمر، لنشر الحرارة، وإلقاء الضوء، والسموات سبع، وكذا الأرض سبع.
وثانيا- جعل الماء سببا للحياة، فالله تعالى خلق كل شيء من الماء، وحفظ حياة كل شيء بالماء، وأوجد الإنسان من ماء الصلب.
روى أبو حاتم البستي في المسند الصحيح له عن أبي هريرة قال: قلت: يا رسول الله، إذا رأيتك طابت نفسي، وقرّت عيني، أنبئني عن كل شيء قال: «كل شيء خلق من الماء».
وما أروع لفت النظر بعد هذه الآية حين قال تعالى: أَفَلا يُؤْمِنُونَ أي أفلا يصدقون بما يشاهدون، وأن ذلك لم يكن بنفسه، بل لمكوّن كوّنه، ومدبر أوجده، ولا يجوز أن يكون ذلك المكوّن محدثا، بل لا بدّ من أن يكون أزليا قديما لأن صفة الألوهية تقتضي عقلا عدم المشابهة للحوادث.
وثالثا- خلق الله الجبال رواسي أي جبالا ثوابت، لتكون مثبتة للأرض، حتى لا تتحرك بمن عليها، وليتم القرار والاطمئنان عليها، أو كراهية أن تميد، والميد: التحرك والدوران.
وخامسا- جعل السماء سقفا للأرض، محفوظا من الوقوع والسقوط على الأرض، فلا تمكن الحياة في الأرض بدون هذا السقف، كما لا يمكن العيش في بيت أو دار بدون سقف، ولأن حفظ طبقة الهواء بهذا السقف أمر ضروري محتم لحياة الإنسان، كما أن الحفاظ على هذا السقف من التداعي والسقوط على الأرض أمر أساسي لصون الحياة الإنسانية، ومنع الضرر عن الناس، فإذا سقط على الناس بعض الكتل النارية أو الأجرام السماوية، كان الدمار والهلاك الجزئي، فكيف إذا سقطت السماء كلها؟! ومما يدعو إلى الأسف والعجب أن الكفار معرضون عن آيات السماء من الشمس والقمر والنجوم وغيرها. وقد أضاف الله تعالى الآيات في قوله: وَهُمْ عَنْ آياتِها... إلى السماء لأنها مجعولة فيها، وفي مواضع أخرى أضاف تعالى الآيات إلى نفسه لأنه الفاعل لها.
وهذا دليل على أن المشركين غفلوا عن النظر في السموات وآياتها، من ليلها ونهارها، وشمسها وقمرها، وأفلاكها ورياحها وسحابها، وما فيها من قدرة الله تعالى إذ لو نظروا واعتبروا، لعلموا أن لها صانعا قادرا واحدا، فيستحيل أن يكون له شريك.
موت جميع الخلائق ومجيء القيامة أو عذاب النار بغتة
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٣٤ الى ٤١]
وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ (٣٤) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ (٣٥) وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ (٣٦) خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (٣٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٨)
لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٣٩) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٤٠) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٤١)
الإعراب:
أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ حقّ همزة الاستفهام إذا دخلت على حرف الشرط كما هنا: أن
فِتْنَةً مفعول لأجله.
أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ فيه محذوف تقديره: قائلين: أهذا الذي يذكر آلهتكم، وهو في موضع الحال، وحذف القول كثير في كلامهم.
وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ الجملة في موضع الحال، أي يتخذونك هزوا، وهم على حال هي أصل الهزء والسخرية، وهي الكفر بالله تعالى.
البلاغة:
وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ التنكير للتعميم.
وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً يوجد طباق بين الشر والخير.
خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ مبالغة في وصف الإنسان، جعل لفرط استعجاله، كأنه مخلوق من العجل نفسه، كقول العرب لمن لازم اللعب: هو من لعب.
الْخالِدُونَ كافِرُونَ تَسْتَعْجِلُونِ يُنْصَرُونَ يُنْظَرُونَ يَسْتَهْزِؤُنَ بينها سجع لطيف.
المفردات اللغوية:
الْخُلْدَ الخلود والبقاء في الدنيا. فَهُمُ الْخالِدُونَ في الدنيا؟ لا، وهذه الجملة محل الاستفهام الإنكاري. ذائِقَةُ الْمَوْتِ في الدنيا، والذوق هنا: الإدراك، والمراد من الموت:
مقدماته من الآلام الشديدة، والمدرك: هي النفس المفارقة للبدن. وجملة كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ برهان على ما أنكره من الخلود للنفوس في الدنيا. وَنَبْلُوكُمْ نختبركم أي نعاملكم معاملة المختبر. بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ بالبلايا والنعم، أو المحبوب والمكروه، كفقر وغنى، وسقم وصحة، وذلّ وعزّ. فِتْنَةً أي ابتلاء، وهو مصدر من غير لفظ الفعل المتقدم، أي لننظر: أتصبرون وتشكرون أم لا؟ وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ فنجازيكم حسبما يوجد منكم من الصبر والشكر. وفيه إيماء بأن المقصود من هذه الحياة الابتلاء.
إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أي ما يتخذونك إلا مهزوءا به، مسخورا منه. أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ؟ أي يقولون: أهذا الذي يعيب آلهتكم؟ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ أي إذا ذكر الإله
خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ أي أنه لكثرة عجله في أحواله، كأنه خلق منه، ومن عجلته:
مبادرته إلى الكفر. سَأُرِيكُمْ آياتِي أي مواعيدي بالعذاب، في الدنيا كوقعة بدر، وفي الآخرة عذاب النار. فَلا تَسْتَعْجِلُونِ فيه أو بالإتيان به.
مَتى هذَا الْوَعْدُ؟ أي بالقيامة. صادِقِينَ فيه، يعنون النبي صلّى الله عليه وسلم وأصحابه.
لا يَكُفُّونَ يدفعون. وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ يمنعون منها في القيامة. وجواب لَوْ: ما قالوا ذلك. بَلْ تَأْتِيهِمْ القيامة أو النار. بَغْتَةً فجأة. فَتَبْهَتُهُمْ أي تحيرهم، أو تغلبهم.
وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ يمهلون لتوبة أو معذرة.
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ تسلية لرسول الله صلّى الله عليه وسلم. فَحاقَ نزل أو أحاط.
بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أي العذاب، وهو وعد للنبي صلّى الله عليه وسلم بأن ما يفعلونه به يحيق بهم، كما حاق بالمستهزئين بالأنبياء ما فعلوا أي جزاءه.
سبب النزول:
نزول الآية (٣٤) :
وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ.. نزلت هذه الآية، لما قال الكفار: إن محمدا سيموت، قائلين: نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ [الطور ٥٢/ ٣٠].
وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال: نعي إلى النبي صلّى الله عليه وسلم نفسه، فقال: يا رب، فمن لأمتي؟ فنزلت: وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ الآية.
نزول الآية (٣٦) :
وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا.. أخرج ابن أبي حاتم عن السّدّي قال: مرّ النبي صلّى الله عليه وسلم على أبي جهل وأبي سفيان، وهما يتحدثان، فلما رآه أبو جهل ضحك، وقال لأبي سفيان: هذا نبي بني عبد مناف، فغضب أبو سفيان،
نزول الآية (٣٧) :
خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ نزلت هذه الآية في استعجالهم العذاب، روي أن الآية نزلت في النضر بن الحارث، وهو القائل: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ، فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ، أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الأنفال ٨/ ٣٢].
المناسبة:
بعد أن أقام الله تعالى أدلة ستة على وجود الخالق المتصف بالوحدانية، أبان أن مصير الدنيا إلى فناء وزوال، وأنها خلقت للابتلاء والامتحان، ولتكون جسرا إلى الآخرة دار الخلود، وأن مصير الخلائق جميعا إلى الله تعالى للحساب والجزاء، ثم ذكر أن مجيء القيامة أو العذاب بالنار آت بغتة لا محالة، فلا يغترن أحد بطول البقاء في الدنيا، ولا يسخرن برسول من عند الله، فإنه سيلقى جزاء سخريته واستهزائه، وهذا زجر واضح شديد التأثير.
التفسير والبيان:
ينفي الحق تعالى الخلود في الدنيا لأحد من المخلوقات، فيقول:
وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أي قضى الله تعالى ألا يخلد في الدنيا بشرا، فلا أنت يا محمد ولا أحد ممن سبقك أو عصاك أو يأتي بعدك إلا عرضة للموت، وقد قدّر لك أن تموت كسائر الرسل المتقدمين قبلك.
وهذا رد على المشركين الذين كانوا يتمنون موت رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وكانوا يقدرون أنه سيموت، فيشمتون بموته، فنفى الله تعالى عنه الشماتة بهذا.
ونظير الآية قوله تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ، وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ [الرحمن ٥٥/ ٢٦- ٢٧].
أخرج البيهقي وغيره عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل أبو بكر على النبي صلّى الله عليه وسلم، وقد مات، فقبّله وقال: وا نبياه، وا خليلاه، وا صفيّاه، ثم تلا:
وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ الآية.
واستدل بهذه الآية الكريمة من ذهب من العلماء إلى أن الخضر عليه السلام مات، وليس بحي إلى الآن لأنه بشر، سواء كان وليا أو نبيا أو رسولا.
وتأكيدا لبيان موت جميع البشر، قال تعالى:
كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ أي كل مخلوق إلى الفناء، وكل نفس ذائقة مرارة الموت قبل مفارقتها الجسد،
جاء في الحديث: «إن للموت لسكرات» «١»
فلا يفرح أحد بموت أحد، ولا يشمت أو يتشفى لوفاته، فالكل متجرع كأس المنون. والذوق هنا: مجاز عن الإدراك. والمراد بالموت هنا: مقدماته من الآلام العظيمة.
وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً أي نبتليكم ونختبركم بالبلايا والنعم، أو بالمحبوب والمكروه، بالشدة والرخاء، والصحة والسقم، والغنى والفقر، والحلال والحرام، والطاعة والمعصية، والهدى والضلال، اختبارا وامتحانا، لنعلم أتصبرون وتشكرون أم لا؟ وقوله فِتْنَةً مصدر مؤكد لنبلوكم من غير لفظه
روى ابن ماجه في معناه: «اللهم أعني على سكرات الموت».
وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ أي ومرجعكم ومصيركم في النهاية إلينا، أي إلى حكمنا ومحاسبتنا ومجازاتنا، فنجازيكم بأعمالكم. وفي هذا وعد بالثواب، ووعيد بالعقاب.
والابتلاء لا يكون إلا بعد التكليف، والتكليف لا يكون إلا بعد البلوغ والعقل، فالآية دالة على حصول التكليف، والتكليف لا يقتصر بالمكلف على ما أمر به ونهي عنه، بل ابتلاه بأمرين:
أحدهما- ما سماه خيرا: وهو نعم الدنيا من الصحة واللذة والسرور.
والثاني- ما سماه شرا: وهو المضارّ الدنيوية من الفقر والآلام وسائر الشدائد النازلة بالمكلفين.
وإنما سمي ذلك ابتلاء، والله عالم بما سيكون من أعمال العالمين قبل وجودهم لأنه في صورة الاختبار.
وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا، إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أي وإذا رآك كفار قريش كأبي جهل وأشباهه، ما كان همهم إلا السخرية منك، وما يتخذونك إلا مهزوءا به، فيستهزءون بك وينتقصونك، وكان جديرا بهم التفكير في سلوكك وأخلاقك، وفيما ينزل عليك من وحي فيه عظة وذكرى للعقلاء، وهم الذين حمى الله نبيهم منهم بقوله: إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ [الحجر ١٥/ ٩٥].
وهم القائلون: أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ أي يقولون تعجبا واستنكارا:
أهذا الذي يعيب آلهتكم ويسفّه أحلامكم؟! وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ أي والحال أنهم كافرون بالله الذي خلقهم
والخلاصة: أنهم يعيبون على النبي ذكر آلهتهم التي لا تضر ولا تنفع بالسوء، مع أنهم كافرون بالرحمن الذي هو المنعم الخالق المحيي المميت، ولا فعل أقبح من ذلك، فالهزء والذم يعود عليهم من حيث لا يشعرون، وهم أحق بالاستهزاء والسخرية لأنهم وضعوا الشيء في غير موضعه.
وبالرغم من هذا فهم أناس حمقى طائشون متهورون يستعجلون بمجيء العذاب الذي تهددهم به يا محمد، فقال تعالى:
خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ أي خلق عجولا، أو فطر الإنسان على العجلة، والمراد نوع الإنسان، وقيل: إنه شخص معين، حتى لكأن التعجل جزء من تكوينه وفطرته، وسجيته وطبعه كما قال تعالى: وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا في الأمور [الإسراء ١٧/ ١١]، فاستعجل هؤلاء المشركون عذاب الله وآياته الملجئة إلى الإيمان والإقرار بالعبودية، وبرسالة محمد صلّى الله عليه وسلم، فالمراد بالآيات: أدلة التوحيد وصدق الرسول، أو الهلاك المعجل في الدنيا والعذاب في الآخرة، ولذلك قال: فَلا تَسْتَعْجِلُونِ أي أنها ستأتي لا محالة في وقتها، ثم حكى الله تعالى قولهم:
وَيَقُولُونَ: مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي إنهم يستعجلون أيضا
أراد تعالى نهيهم عن الاستعجال وزجرهم، فقدّم أولا ذمّ الإنسان على إفراط العجلة، وأنه مطبوع عليها، ثم نهاهم وزجرهم عن استبطاء الموعود به بقصد إنكار وقوعه وعدم تصوره أصلا، ثم بيّن مدى حماقتهم بهذا الطلب فقال:
لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ.. أي لو تيقنوا أن العذاب واقع بهم لا محالة، لما استعجلوا، ولو علموا أحوال عذاب النار التي تحيط بهم من الأمام والخلف وجميع الجهات، وحين يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم، فلا يستطيعون ردّ النار عن وجوههم، ولا دفعها عن ظهورهم، ولا يجدون ناصرا لهم ينصرهم ويمنعهم من العذاب وينقذهم منه كما قال تعالى: وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ
[الرعد ١٣/ ٣٤]، وجواب لَوْ محذوف، أي لو علموا وقت الوعيد، لما أصروا في البقاء على كفرهم، ولما استعجلوا هذا العذاب الشديد.
والعلم في قوله تعالى: لَوْ يَعْلَمُ بمعنى المعرفة، فلا يقتضي مفعولا ثانيا، مثل لا تَعْلَمُونَهُمُ، اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ [الأنفال ٨/ ٦٠].
وإنما خص الوجوه والظهور لأن شدة تأثرها بالعذاب أكثر.
ونظير الآية: لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ، وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ [الزمر ٣٩/ ١٦]، وقوله أيضا: لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ، وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ [الأعراف ٧/ ٤١]، وقوله كذلك: سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ، وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ [إبراهيم ١٤/ ٥٠] فالعذاب محيط بهم من جميع جهاتهم.
بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ، فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها، وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ أي بل إن الساعة تأتيهم فجأة، فتحيرهم وتغلبهم، فلا يجدون حيلة لردها، ولا هم يمهلون ويؤجلون لتوبة أو معذرة، لفوات الوقت. وهذا تذكير بإمهاله إياهم، وإعطائهم فرصة واسعة للتذكر والإيمان، والعدول عن الكفر والضلال، فلا يمهلون بعد طول الإمهال.
والسبب في عدم العلم بمجيء الساعة هو جعل العبد أشد حذرا، وأقرب إلى تدارك الأخطاء، فلا يتكل ولا يتوانى لحين حدوث العذاب.
ورجوع الضمير المؤنث في قوله: بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً هو إلى النار، أو إلى الوعد لأنه في معنى النار، أو إلى الحين لأنه في معنى الساعة (القيامة).
ثم سلا رسوله صلّى الله عليه وسلم عن استهزائهم به وتكذيبهم له، فقال:
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ.. أي إن لك في الأنبياء عليهم السلام أسوة، فقد استهزئ برسل كثيرين من قبلك، فنزل بالساخرين المستهزئين العذاب جزاء ما فعلوا، وسينزل أيضا بمن استهزأ بك العذاب والبلاء جزاء استهزائهم، كما حدث بأسلافهم من الأمم المكذبة لرسلها، ذلك العذاب الذي كانوا يستبعدون وقوعه، كما قال تعالى:
وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ، فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا، وَأُوذُوا، حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا، وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ، وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ [الإنعام ٦/ ٣٤].
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- لا خلود لأحد من المخلوقات في دار الدنيا، وكل من عليها فان، وكل
والابتلاء لا يكون إلا بعد التكليف، فتدل الآية على حصول التكليف، ولا يقتصر الابتلاء على المأمور به والمنهي عنه، وإنما يشمل ما سماه خيرا وهو نعم الدنيا من الصحة واللذة والسرور، وما سماه شرا وهو المضار الدنيوية من الفقر والآلام وسائر الشدائد النازلة بالمكلفين، والعبد يتردد بين هاتين الحالتين، لكي يشكر على المنح والنعم، ويصبر في المحن.
٣- العموم في قوله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ من قبيل العموم المخصوص، فإنه تعالى نفس لقوله تعالى حكاية عن عيسى عليه السلام:
تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي، وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ [المائدة ٥/ ١١٦] مع أن الموت لا يجوز عليه، وكذا الجمادات لها نفوس، وهي لا تموت. والعام المخصوص حجة، فيبقى معمولا به فيما عدا هذه الأشياء.
٤- الكفار المستهزئون بالنبي صلّى الله عليه وسلم الذي يعيب اتخاذ الأصنام آلهة أحق وأجدر بالاستهزاء والسخرية لكفرهم بالإله الحق الخالق المنعم المتفضل على الناس بأصناف النعم الكثيرة.
٥- ركّب الإنسان على العجلة، فخلق عجولا، وصار طبع الإنسان العجلة، ولكن في العجلة أحيانا حماقة وطيش وجهل وغفلة، كما في حال استعجال المشركين نزول العذاب الموعود.
٦- إن مجيء الساعة أو وقت العذاب بالنار محقق، ولكنه يأتي فجأة، فلا يبقى مجال لتوبة واعتذار.
حراسة الله وحفظه للإنسان وعدل الحساب
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٤٢ الى ٤٧]
قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (٤٢) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (٤٣) بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ (٤٤) قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ (٤٥) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٤٦)
وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ (٤٧)
الإعراب:
وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِثْقالَ: خبر كانَ الناقصة، واسمها مضمر فيها، وتقديره: وإن كان الظلم مثقال حبة. وقرئ بالرفع على أن تجعل كانَ التامّة، فيكون مرفوعا على أنه فاعل.
البلاغة:
وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ استعارة، استعار الصمّ للكفار، لأنهم كالبهائم لا يسمعون النداء إلى الإيمان سماع تدبر وتفهم.
المفردات اللغوية:
يَكْلَؤُكُمْ يحرسكم ويحفظكم، والفعل الماضي: كلأ: حفظ، والمصدر: الكلاءة: الحراسة والحفظ. مِنَ الرَّحْمنِ أي من بأسه وعقابه الذي تستحقونه إن أراده بكم. وفي لفظ الرَّحْمنِ تنبيه على ألا كالئ غير رحمته العامة. ذِكْرِ رَبِّهِمْ أي القرآن. مُعْرِضُونَ لا يتفكرون فيه. مِنْ دُونِنا من غيرنا ومن عذابنا. يُصْحَبُونَ يجأرون من عذابنا، يقال: صحبك الله أي حفظك.
أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ من الله، لا من قبل نفسي. وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ إنما سماهم الصم لتركهم العمل بما سمعوه من الإنذار كالصم. نَفْحَةٌ نصيب قليل أو أدنى شيء، وأصل النفح: هبوب رائحة الشيء. يا وَيْلَنا يا هلاكنا، ويا: للتنبيه. إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ بالإشراك وتكذيب محمد صلّى الله عليه وسلم.
وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ أي ذوات العدل، توزن بها صحائف الأعمال. لِيَوْمِ الْقِيامَةِ أي فيه أو لجزاء يوم القيامة. فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً من نقص حسنة أو زيادة سيئة.
وَإِنْ كانَ مِثْقالَ أي وإن كان العمل أو الظلم مقدار حبة، وحبة الخردل مثل في الصغر.
أَتَيْنا بِها أحضرناها وأتينا بموزونها. حاسِبِينَ محصين كل شيء إذ لا مزيد على علمنا وعدلنا.
المناسبة:
بعد أن أبان الله تعالى أن الكفار لا يستطيعون أن يكفوا النار عن وجوههم ولا عن ظهورهم، أتبعه ببيان أنهم في الدنيا أيضا، فلولا أن الله تعالى يحرسهم ويحفظهم لما بقوا سالمين.
ثم أردفه ببيان أنهم معرضون لا يتفكرون بالأدلة التي ترشدهم إلى الإيمان وترك عبادة الأصنام، كما أنهم لا يرون آثار قدرة الله في إتيان الأرض من جوانبها، بأخذ الواحد بعد الواحد، وفتح البلاد والقرى حول مكة، وفي ذلك عبرة، فيؤمنوا برسول الله صلّى الله عليه وسلم.
التفسير والبيان:
قُلْ: مَنْ يَكْلَؤُكُمْ.. أي قل أيها الرسول لأولئك الذين يسخرون منك ويستهزئون: من يحفظكم ويحرسكم ليلا في نومكم ونهارا في عملكم من بأس الله وعذابه إن أتاكم أو أراد إنزاله بكم؟! وفي تعبير الرَّحْمنِ إشارة إلى أن تأخير العذاب عن الكفار والعصاة هو من رحمة الله ونعمته وفضله، كي يعود الإنسان إلى ربه من نفسه.
بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ أي بل إن هؤلاء المشركين، بالرغم من وجود الأدلة الكثيرة العقلية والمذكورة في القرآن الدالة على فضل الله ونعمته بالحفظ والكلاءة، معرضون عن تلك الأدلة، ولا يتفكرون فيها، ولا يعترفون بنعمة الله عليهم وإحسانه إليهم.
وفي ذكر الرب دلالة على أنهم خاضعون لسلطانه، وأنهم يعيشون في رعايته وتربيته وإمداده بالنعم الوفيرة.
ثم بعد بيان اتصافهم بالإعراض، وبخهم الله تعالى على عبادتهم آلهة لا تضر ولا تنفع فقال:
أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا؟ أي هل لهؤلاء المستهزئين المعرضين عن بيان الله آلهة قادرة تمنعهم وتكلؤهم غيرنا؟
لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ، وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ أي إن تلك الآلهة
بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أي إن الذي غرهم وحملهم على ما هم فيه من الضلال أنّهم متّعوا في الحياة الدنيا، ونعموا بها، وطال عليهم العمر فيما هم فيه، فاعتقدوا أنهم على شيء، والحقيقة أنهم مع طول الزمان في غفلة، حتى اغتروا بنعمتنا، ونسوا شكرها.
والخلاصة: أنه ما حملهم على الإعراض عن آيات الله إلا الاغترار بطول المهلة.
ثم قال تعالى واعظا لهم:
أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أي أفلا يعتبرون بنصر الله لأوليائه على أعدائه، وإهلاكه الأمم المكذبة، والقرى الظالمة، وإنجائه لعباده المؤمنين، وفتح البلاد حول مكة، وتناقص رقعة بلاد أهل الشرك؟! وبعبارة أخرى: أفلا يرون أنا ننقص أرض الكفر ودار الحرب، ونحذف جوانبها وأطرافها بتسليط المسلمين عليها، وتغلبهم على أهلها، وضمّها إلى دار الإسلام.
والفائدة في قوله: نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها تصوير ما كان يجريه على أيدي المسلمين، وأن عساكرهم وسراياهم كانت تفتح أرض المشركين المعتدين، وتأتيها غالبة عليها، ناقصة من أطرافها. ومعنى نقص أطرافها:
دخول المسلمين فيها، واتساع نفوذ الإسلام شيئا فشيئا، وانحسار أرض الكفار،
ويرى بعض علماء العصر أن في الآية دلالة واضحة على نقص أطراف الكرة الأرضية في الشمال والجنوب، وأنها غير كاملة التكوير والاستدارة، وذات تفلطح، وهو ما يعبر عنه بالخط الإهليلجي في القطب الشمالي والجنوبي، مما يدل على قدرة الله تعالى، وقوة سلطانه، وتحكمه في الأرض أثناء دورانها.
وبعد أن كرر تعالى إيراد الأدلة في القرآن على وجود الله وقدرته وتوحيده، وبالغ في التنبيه عليها، أتبعه بقوله:
قُلْ: إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ أي قل أيها النبي: إني إنما أنذركم بالقرآن الذي هو كلام ربكم، وإنما أنا مبلّغ عن الله ما أنذرتكم به من العذاب والنكال، فلا تظنوا أن ذلك من قبلي، بل الله آتيكم به، وأمرني بإنذاركم، وعملي هو مجرد التبليغ لا الإلزام بالقبول، فإن لم تجيبوا دعوتي، فعليكم الوبال والنكال، لا عليّ.
وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ أي لا يجدي هذا الوحي من أعمى الله بصيرته، وختم على سمعه وقلبه، وما مثلهم حين لم ينتفعوا بما سمعوا من الإنذار، على كثرته وتتابعه، إلا مثل الصم الذين لا يسمعون شيئا أصلا إذ ليس الغرض من الإنذار مجرد السماع، بل العمل بما يسمع، والتمسك به، بالإقدام على فعل الواجب، والتحرز عن المحرّم، ومعرفة الحق، فإذا لم يتحقق هذا الغرض فلا فائدة في السماع. ثم بيّن تعالى أن حالهم سيتغير، فيصبحون سريعي التأثر بما ينذرون، ويعترفون بما لا ينتفعون، فقال:
وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ: يا وَيْلَنا، إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ أى ولئن مس أو أصاب هؤلاء المكذبين أدنى شيء من عذاب الله يوم القيامة،
ثم بيّن الله تعالى أن جميع ما ينزل بهم في الآخرة لا يكون إلا عدلا، فقال:
وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ، فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً أي ونضع الموازين العدل التي توزن بها صحائف الأعمال في يوم القيامة، أو لأهل يوم القيامة، فلا يلحق نفسا أي ظلم، فهم إن ظلموا أنفسهم في الدنيا، فلن يظلموا في الآخرة، وقوله: فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً تأكيد عدالة الميزان، وأنه لا ينقص ثواب أي نفس ما تستحقه.
والأكثر على أنه إنما هو ميزان واحد، وإنما جمع باعتبار تعدد الأعمال الموزونة فيه. ووصفت الموازين بأنها عادلة، لأن الميزان قد يكون مستقيما وقد يكون بخلافه.
والمراد بوضع الموازين: إرصاد الحساب السوي والجزاء على حسب الأعمال بالعدل والإنصاف، من غير أن يظلم أحد مثقال ذرة، أي أن المقصود من الوزن العدل بين الخلائق، وقد مثل ذلك بوضع الموازين لتوزن بها الموزونات. وفي قول آخر هو الأرجح: المراد أنه تعالى يضع الموازين الحقيقة، ويزن بها الأعمال. قال الحسن البصري: هو ميزان له كفتان ولسان. فمن رجحت حسناته على سيئاته، كان من الناجين، ومن غلبت سيئاته على حسناته، كان من الهالكين. والقسط: العدل أي ليس في الموازين بخس ولا ظلم كما يكون في وزن الدنيا.
وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أي وإن كان العمل أو الظلم مقدار
وَكَفى بِنا حاسِبِينَ أي وكفى بنا محصين لأعمال العباد، فلا أحد أعلم بأعمالهم منا، ولا أحد أضبط ولا أعدل في تقويم الأعمال منا. وفي هذا تحذير شديد، ووعيد أكيد للكفار والعصاة على تفريطهم أو تقصيرهم فيما يجب عليهم نحو الله تعالى لأن العالم الذي لا يشتبه عليه شيء، القادر الذي لا يعجزه شيء، جدير بأن يكون الناس في أشد الخوف منه.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- إن من فضل الله ورحمته الكلاءة: الحراسة والحفظ للناس من عذاب الله تعالى بالليل حال النوم، وفي النهار حال التصرف في الأمور، ولكن الناس لاهون غافلون عن موعظة القرآن ومواعظ ربهم ومعرفته حق عليهم.
٢- إن الآلهة الذين زعم الكفار أنهم ينصرونهم لا يستطيعون نصر أنفسهم، فكيف ينصرون عابديهم؟! وكيف يمنعون ويجأرون من عذاب الله تعالى؟! ٣- إن تقلب أهل مكة وأمثالهم في نعيم الدنيا، وظنهم أن النعمة لا تزول عنهم هو سبب اغترارهم وإعراضهم عن تدبر حجج الله عز وجل، وكان عليهم التأمل في متابعة انتصارات النبي صلّى الله عليه وسلم وغلبته عليهم، وتمكين الله له من فتح البلاد بلدا بعد بلد، مما حول مكة.
٤- إن مهمة النبي صلّى الله عليه وسلم إنذار الكفار وتحذير هم بالقرآن الموحى إليه من عند الله، لا من قبله، ولكنهم إذا لم ينتفعوا بما سمعوا من الإنذار، صاروا كالصم الذين لا يسمعون أصلا، وسيتغير خالهم إذا مسّهم أدنى شيء من عذاب الله،
٥- لا عدل أدق وأضبط وأحكم فوق عدل الله، فموازينه لأهل يوم القيامة أو في يوم القيامة غاية العدل، فلا ينقص من إحسان محسن، ولا يزاد في إساءة مسيء، وإن كان العمل أو الشيء الذي قدمه المحسن مثقال حبة الخردل، ومثقال الشيء: ميزانه من مثله، وكفى بالله مجازيا على ما قدم الناس من خير أو شر، وكفى به محصيا عادا لأعمال عباده، وألا أحد أسرع حسابا منه، والحساب:
العد، والغرض من ذلك التحذير.
والغرض من قوله: حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ المبالغة في أن الشيء مهما صغر أو كبر غير ضائع عند الله تعالى.
٦- الذي وردت به الأخبار وعليه أكثر العلماء هو أن لكل مكلف ميزانا توزن به أعماله، فتوضع الحسنات في كفة، والسيئات في كفة. قال حذيفة رضي الله عنه: «صاحب الميزان يوم القيامة: جبريل عليه السلام».
وقيل عن مجاهد وقتادة والضحاك: ذكر الميزان مثل، وليس ثمّ ميزان، وإنما هو العدل.
القصة الأولى- قصة موسى عليه السلام مقارنة بين خصائص التوراة وخصائص القرآن
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٤٨ الى ٥٠]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ (٤٨) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (٤٩) وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٥٠)
وَضِياءً فيه محذوف تقديره: ذا ضياء، فحذف المضاف، وأدخل واو العطف على ضِياءً وإن كان في المعنى وصفا دون اللفظ، كما يدخل على الوصف إذا كان لفظا، كقوله تعالى: إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [الأنفال ٨/ ٤٩] وكقولهم: مررت بزيد وصاحبك أي مررت بزيد صاحبك، فدل هذا وغيره على أن الواو تدخل على الوصف إذا كان لفظا أو كان وصفا في المعنى. وقرئ ضياء بغير واو على أنه حال من الفرقان.
الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ صفة لِلْمُتَّقِينَ أو مدح لهم.
بِالْغَيْبِ حال من الفاعل أو المفعول.
المفردات اللغوية:
الْفُرْقانَ التوراة الفارقة بين الحق والباطل والحلال والحرام، وهي أيضا ضياء تنير طرق الهدى، والذكر، أي الموعظة التي يوعظ بها، لما فيها من عبرة. يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ أي يخافون عذابه. بِالْغَيْبِ في حال الخفاء عن الناس. وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ أي من أهوالها.
مُشْفِقُونَ خائفون.
وَهذا ذِكْرٌ أي وهذا القرآن أيضا ذكر أي تذكير وعظة. مُبارَكٌ أي كثير الخير غزير النفع. أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ أي أفتنكرونه، وهو في غاية الجلاء والوضوح؟ والاستفهام فيه للتوبيخ.
المناسبة:
بعد أن أمر الله تعالى رسوله صلّى الله عليه وسلم أن يقول لقومه: إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ أتبعه ببيان أن هذه سنة الله تعالى في أنبيائه، فقد أنزل الوحي عليهم ليكون ما تضمنه من الشريعة والأحكام سببا لهداية البشر.
وبعد أن أبان تعالى أدلة التوحيد والنبوة والمعاد شرع في التذكير بقصص الأنبياء عليهم السلام تسلية لرسوله صلّى الله عليه وسلم فيما يناله من قومه، وتقوية لقلبه على أداء الرسالة والصبر عليها، وهذه هي القصة الأولى- قصة موسى وهارون عليهما السلام.
كثيرا ما يقرن الله تعالى بين الحديث عن موسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام وبين كتابيهما، ليبين امتداد صلة النبوة وصلة الوحي، وليشير إلى وجود الشبه الكثير بين التوراة في أصلها الصحيح وبين القرآن الكريم في كمال الشريعة الشاملة للدين والدنيا، والعقيدة والعبادة، فقال تعالى:
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ أي وو الله لقد أعطينا موسى وهارون كتابا شاملا لأحكام الشريعة، وهو التوراة الذي هو كتاب فرق الله فيه بين الحق والباطل، وبين الحلال والحرام، وهو أيضا منار يستضاء به في ظلمات الحيرة والجهالة للتوصل إلى طريق الهداية والنجاة، وهو كذلك عظة وتذكير يتعظ به المتقون ربهم وهم ذوو الأوصاف التالية:
١- خشية الله في السر:
الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ أي الذين يخافون عذاب ربهم، فيأتمرون بأمره، وينتهون بنهيه، في حال الخفاء والسر والخلوات حيث لا يطلع عليهم أحد من الناس، قال الرازي: وهذا هو أقرب المعاني.
وقد تكرر في القرآن الكريم التركيز على هذا المعنى، كما في قوله تعالى:
مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ، وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ [ق ٥٠/ ٣٣] وقوله: إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ [الملك ٦٧/ ١٢].
٢- الخوف من يوم القيامة:
وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ أي وهم من القيامة وأهوالها وسائر ما يحدث فيها من الحساب والسؤال خائفون وجلون. وفي تصدير الضمير وبناء الحكم عليه مبالغة وتعريض.
وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أي وهذا القرآن العظيم المنزل عليك تذكير وعظة، ومبارك فيه بكثرة منافعه وغزارة خيره.
أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ؟ أي فمثل هذا الكتاب مع كثرة منافعه كيف يمكنكم إنكاره؟ وكيف تنكرونه وهو في غاية الجلاء والوضوح؟ وهو أيضا معجز لاشتماله على النظم العجيب والبلاغة البعيدة، والأدلة العقلية، وبيان الشرائع، فكيف تنكرون إنزاله من عند الله، وأنتم خير من يقدّر روعة الكلام وفصاحة اللسان وإحكام البيان؟!
فقه الحياة أو الأحكام:
اقتصر البيان في قصة موسى وهارون عليهما السلام على كتاب التوراة ليقرن الكلام عنه مع الكلام عن القرآن الكريم.
وقد تبين من الآيات أن التوراة فرقان بين الحق والباطل والحلال والحرام والغي والرشاد، وضياء يستضاء بها لسلوك طريق الهداية والنجاة، مثل قوله عنها في آية أخرى إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ [المائدة ٥/ ٤٤] وعظة وتذكير للمتقين.
وهي أيضا أوصاف القرآن في آيات أخرى، فقال تعالى: وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ، وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ [آل عمران ٣/ ٤]. تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ، لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً [الفرقان ٢٥/ ١]. وقال سبحانه: قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ [المائدة: ٥/ ١٥] وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ [الأعراف ٧/ ١٥٧]. وقال جل جلاله: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل ١٦/ ٤٤] وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ
[الزخرف ٤٣/ ٤٤] وقال تعالى هنا: وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ...
فإن رأى العرب تمسك اليهود بفرقان موسى، فهم أجدر بالتمسك بكتابهم فرقان محمد صلّى الله عليه وسلم.
أما أوصاف المتقين فهي واحدة قديما وحديثا، ذكر تعالى منها هنا وصفين: خشية الله تعالى في السر أي وفي العلن، والخوف من يوم القيامة وأهوالها، وما يجري فيها من الحساب والسؤال قبل التوبة.
وختمت الآيات ببيان الهدف الجوهري منها: وهو التعجب من إنكار العرب للقرآن، وهو كلام الله تعالى، بدليل أنه معجز لا يقدرون على الإتيان بمثله، ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد.
القصة الثانية- قصة إبراهيم عليه السلام
- ١- إنكار عبادة الأصنام والدعوة إلى توحيد الله تعالى
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٥١ الى ٥٨]
وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ (٥١) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ (٥٢) قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ (٥٣) قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٥٤) قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ (٥٥)
قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٥٦) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (٥٧) فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (٥٨)
إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِذْ: ظرف في موضع نصب يتعلق بآتينا وتقديره:
آتينا إبراهيم رشده في وقت قال لأبيه.
عَلى ذلِكُمْ متعلق بمحذوف مقدر، يدل عليه مِنَ الشَّاهِدِينَ ويفسره. ولا يجوز تعلقه به لأنه لا يجوز تقديم الصلة ومعمولها على الموصول.
المفردات اللغوية:
رُشْدَهُ الرشد: الاهتداء لوجوه الخير والصلاح في الدين والدنيا، قال الله تعالى: فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ [النساء ٤/ ٦] وقرئ أيضا رُشْدَهُ.
ومعنى إضافة الرشد لإبراهيم: أنه رشد مثله، وأنه رشد له شأن. مِنْ قَبْلُ أي من قبل موسى وهارون عليهما السلام. وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ أي علمنا منه أنه أهل لما آتيناه، أو جامع لمحاسن الأوصاف ومكارم الخصال. وفيه إشارة إلى أن فعله تعالى باختيار وحكمة، وأنه عالم بالجزئيات.
التَّماثِيلُ الأصنام، جمع تمثال: وهو الصنم، والتمثال: اسم للشيء المصنوع المضاهي خلق الله تعالى، كإنسان أو حيوان أو شجر، سمى الأصنام بالتماثيل تحقيرا لشأنها وتصغيرا لها، مع علم إبراهيم بتعظيمهم وإجلالهم لها. وفرق بعضهم بين الصنم والوثن بأن الصنم: المصنوع من المعدن القابل للتمدد بالنار، والوثن: المصنوع من الخشب أو غيره.
عاكِفُونَ مقيمون على عبادتها. وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ فاقتدينا بهم. كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ بعبادتها. فِي ضَلالٍ مُبِينٍ بيّن.
أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أي بالشيء الثابت في الواقع. اللَّاعِبِينَ الهازلين. بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي ربكم المستحق للعبادة هو مالك السموات والأرض. فَطَرَهُنَّ خلقهن
لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ لأجتهدن في كسرها. والكيد في الأصل: الاحتيال في الإضرار، والمراد هنا: المبالغة في إلحاق الأذى بها. فَجَعَلَهُمْ بعد ذهابهم إلى مجتمعهم في يوم عيد لهم.
جُذاذاً قطعا أو فتاتا، من الجذ، أي القطع. إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ للأصنام، كسر غيره، واستبقاه، وجعل الفأس على عنقه. لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ أي إلى الكبير. يَرْجِعُونَ فيروا ما فعل بغيره.
المناسبة:
هذه هي القصة الثانية من قصص الأنبياء في هذه السورة تسلية للرسول صلّى الله عليه وسلم، ليتأسى بهم في الصبر والجهاد في سبيل الله والدعوة إلى الدين الحق ومعاداة المشركين.
التفسير والبيان:
وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ.. أي والله لقد آتينا إبراهيم رشده، أي هديناه إلى ما فيه الخير والصلاح، من قبل موسى وهارون أو من قبل النبوة، ووفقناه إلى توحيد الله، ومعاداة عبادة الأصنام لأنها لا تنفع ولا تضر، ولا تسمع ولا تبصر، وما هي إلا حجر أو معدن أو خشب صنعها أبوه أمامه بالقدوم، وكنا عالمين بأنه أهل للنبوة، وجامع لمحاسن الأخلاق. والرشد: إما النبوة وإما الأهلية للخير والصلاح في الدين والدنيا.
قال القرطبي: وعلى الأول أكثر أهل التفسير.
إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ: ما هذِهِ التَّماثِيلُ.. ؟ إِذْ: إما أن يتعلق بآياتنا أو برشده، أو بمحذوف، أي اذكر من أوقات رشده هذا الوقت. أي آتيناه الرشد حين أنكر على قومه عبادة الأصنام من دون الله عز وجل، فقال:
ما هذه التماثيل أي الأصنام التي أنتم مقيمون على عبادتها وتعظيمها؟
قالُوا: وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ أي لا حجة لنا سوى تقليد الآباء واتباع الأسلاف، وكفى بذلك ضعفا وسذاجة، فوبخهم إبراهيم عليه السلام على ما يفعلون:
قالَ: لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي قال إبراهيم لأبيه وقومه: لا فرق بينكم وبين آبائكم، فأنتم وهم في ضلال بيّن واضح، على غير منهج الحق والطريق المستقيم. وهذا تنبيه إلى أن سوء الرأي لا يغيره تقادم الزمن، ومضي الأيام.
فتعجبوا من قوله وسألوه:
قالُوا: أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ أي ما هذا الكلام الصادر عنك، أتقوله لاعبا هازلا مازحا أم محقا جادّا فيه، فإنا لم نسمع به قبلك؟
فأجابهم إبراهيم بعد إنكاره عبادة الأصنام بما يبين الحق، ويرشد إلى الإله المستحق للعبادة:
قالَ: بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ أي قال إبراهيم:
إني أتكلم بالجد والحق، لا بالهزل واللعب، فإن الرب المستحق للعبادة هو مالك السموات والأرض الذي خلقها وكونها وأنشأها من العدم، على غير مثال سابق، وهو الخالق لجميع الأشياء، وهو الرب الذي لا إله غيره.
وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ أي وأنا أشهد أنه لا إله غيره، ولا رب سواه. والخلاصة: أنه أظهر لهم أنه مجدّ في إظهار الحق الذي هو التوحيد بالقول أولا وهو ما قاله، ثم بالفعل ثانيا. لذا أقسم إبراهيم الخليل قسما أسمعه بعض قومه:
وقوله: بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ أي منطلقين ذاهبين. وسمع هذا القول رجل منهم، فحفظه، ثم أخبر عنه، وشاع ذلك في جماعة، وعليه قال تعالى:
قالُوا: سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ [الأنبياء ٢١/ ٦٠].
ولم يخرج إبراهيم معهم معتذرا بأنه سقيم، وصمم على تنفيذ خطته عمليا، لعلهم يتركون عبادة الأصنام، حينما يتأملون أنها لا تستطيع دفع الأذى عن نفسها، والبرهان العملي أوقع في النفس، وأدعى إلى التأمل، وأشد صدمة للذهن.
فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ أي فلما ذهبوا دخل على الأصنام، وأمامهم الأكل، فجعلهم قطعا فتاتا وحطاما، كسرها كلها إلا الصنم الكبير عندهم لم يكسره كما قال تعالى: فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ [الصافات ٣٧/ ٩٣] لعل هؤلاء الوثنيين يرجعون إلى الكبير الذي يلجأ إليه عادة، وقد علق إبراهيم الفأس على عنقه، أو في يده، فيتبين لهم أنه عاجز لا يستطيع فعل شيء، وأنهم بعبادة الأصنام مغرورون جاهلون.
فقه الحياة أو الأحكام:
يستفاد من الآيات ما يأتي:
١- لا تأتي النبوة لأحد إلا بعد إعداد وصقل وتوافر مقومات ومؤهلات تؤهل لها، فهذا إبراهيم الخليل عليه السلام وفّقه الله لهدايته وللنظر والاستدلال على توحيد الله بآيات الكون من قبل النبوة على الرأي الراجح، أو من قبل
٢- كان لإبراهيم موقف جريء رائع من الأصنام وعبدتها، فقال لأبيه آزر وقومه أي النمروذ ومن اتبعه: ما هذه التماثيل التي أنتم مقيمون على عبادتها؟.
فأجابوه بأنهم يعبدونها تقليدا للأسلاف، فيرد عليهم بأنهم وآباءهم في خسران مبين بعبادتها إذ هي جمادات لا تنفع ولا تضر ولا تعلم.
وكأنهم لم يصدقوا قوله، فسألوه: هل جئتنا بحق فيما تقول أم أنت لاعب مازح؟
فكان إبراهيم صارما مجدا في إظهار الحق الذي هو التوحيد قولا وفعلا، أما القول فقال: بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ أي خلقهن وأبدعهن. وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ أي إنني شاهد على أنه رب السموات والأرض، والشاهد يبين الحكم، وأنا أبين بالدليل ما أقول.
وأما الفعل: فإنه كسر الأصنام وكان عددها سبعين، فعل واثق بالله تعالى، موطّن نفسه على تحمل المكروه في سبيل رفع لواء الدين الحق، وإعلاء راية التوحيد لله. وترك كبير الأصنام وعظيم الآلهة في الخلق، فإنه لم يكسره.
قال السدي ومجاهد: ترك الصنم الأكبر، وعلّق الفأس الذي كسر به الأصنام في عنقه ليحتج به عليهم.
وهذا هو معنى قوله: لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ أي إلى الصنم الأكبر يرجعون في تكسيرها، كما يرجع إلى العالم أو الزعيم في حل المشكلات، فيقولون له: ما لهؤلاء مكسورة، ومالك صحيحا، والفأس على عاتقك؟. وحينئذ يتبين لهم أنه عاجز لا ينفع ولا يضر، ويظهر لهم أنهم في عبادته على جهل عظيم.
وذكر القرطبي والرازي وجها آخر في تفسير ذلك: وهو لعلهم إلى إبراهيم
- ٢- النقاش الحاد بين إبراهيم وقومه بعد كارثة تكسير الأصنام
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٥٩ الى ٦٥]
قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٥٩) قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ (٦٠) قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (٦١) قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ (٦٢) قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ (٦٣)
فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (٦٤) ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ (٦٥)
الإعراب:
مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ مَنْ: مبتدأ، ولَمِنَ الظَّالِمِينَ: خبره.
يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ: إِبْراهِيمُ الفعلان هنا صفتان لفتى، أو أن يَذْكُرُهُمْ: ثاني مفعولي سمع. ويُقالُ: فعل مبني للمجهول، وإِبْراهِيمُ: قيل: هو خبر مبتدأ محذوف (أي هو إبراهيم) أو منادى مفرد (أي يا إبراهيم) قال الزمخشري: والصحيح أنه فاعل (أي نائب فاعل) يقال لأن المراد الاسم، لا المسمى.
عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ في محل الحال بمعنى معاينا مشاهدا، أي بمرأى منهم ومنظر، أو هو على حذف مضاف، تقديره: على رؤية أعين الناس، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه.
والاستعلاء في عَلى في الرأي الأول وارد على طريق المثل، أي يثبت إتيانه في الأعين، ويتمكن فيها ثبات الراكب على المركوب وتمكنه منه.
البلاغة:
ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ استعارة، شبه رجوعهم عن الحق إلى الباطل بانقلاب الشخص حتى يصبح أسفله أعلاه بطريق الاستعارة.
المفردات اللغوية:
قالُوا أي بعد رجوعهم من مجتمعهم في يوم العيد، ورؤيتهم ما فعل. قالُوا الثانية:
أي بعضهم لبعض. يَذْكُرُهُمْ أي يعيبهم ويسبهم. عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ أي معاينا ظاهرا بمرأى منهم، بحيث تتمكن صورته في أعينهم تمكن الراكب على المركوب. لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ عليه بفعله أو قوله، أو يحضرون عقوبتنا له.
قالُوا بعد إتيانه أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا حين أحضروه. قالَ: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا أسند الفعل إليه تجوّزا وتعريضا لهم بأن الصنم المعلوم عجزه عن الفعل لا يكون إلها، وإنما هو متسبب لما حصل، والقصد تبكيتهم وإلزامهم الحجة وحملهم على ترك الوثنية، أو للاستهزاء بهم، ولهذا قال: فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ أي اسألوا هذه الأصنام عن الفاعل الذي كسرها إن كانوا يقدرون على النطق.
وما روي في الصحيحين وعند أحمد عن أبي هريرة أنه صلّى الله عليه وسلم قال: «لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات»
تسمية للمعاريض كذبا، لما شابهت صورتها صورته. وجملة فَسْئَلُوهُمْ... فيه تقديم جواب الشرط.
فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ أي راجعوا عقولهم، وفكروا وتدبروا فَقالُوا لأنفسهم إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ بعبادتكم من لا ينطق. ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ انقلبوا إلى المجادلة بعد ما استقاموا، وعادوا إلى جهلهم، وردوا إلى كفرهم، وقالوا لإبراهيم: والله لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ أي فكيف تأمرنا بسؤالهم. وقوله: ثُمَّ نُكِسُوا.. شبّه عودهم إلى الباطل بصيرورة أسفل الشيء مستعليا على أعلاه.
التفسير والبيان:
هذا هو الفصل الثاني من قصة إبراهيم، الذي يصور مرحلة الغليان والغيظ والحقد عند عبدة الأصنام بعد تكسيرها وتحطيمها، وهي كارثة بالنسبة إليهم تتطلب معرفة الفاعل للثأر منه، وحكاية ذلك:
إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ أي إن هذا الفاعل في صنيعه هذا لمن الذين ظلموا أنفسهم وعرّض نفسه للإهانة والعقاب، إما لجرأته على الآلهة، وإما لإفراطه في كسرها وتماديه في الاستهانة بها.
قالُوا: سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ: إِبْراهِيمُ قال بعضهم الذي سمع قوله المتقدم: وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ: سمعنا شابا يعيبهم ويتوعدهم يسمى إبراهيم، فهو الذي فعل بهم هذا. قال ابن عباس: ما بعث الله نبيا إلا شابا، ولا أوتي العلم عالم إلا وهو شاب، وتلا هذه الآية: قالُوا: سَمِعْنا فَتًى...
وظاهر الآية يدل على أن القائلين جماعة لا واحد، فقد كان يناقشهم ويقول: ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ فغلب على أذهانهم أنه الفاعل.
قالُوا: فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ أي قال نمروذ وأشراف قومه: إذن فأتوا به على مرأى ومسمع من الناس في الملأ الأكبر، بحضرة الناس كلهم، حتى يروه ويشهدوا عليه، فلا يأخذوه بغير بينة، أو حتى يبصروا ما يصنع به فيكون عبرة. وكان هذا هو مقصود إبراهيم عليه السلام أن يبين في هذا المحفل العظيم كثرة جهلهم، وقلة عقلهم في عبادة هذه الأصنام التي لا تمنع عن نفسها ضرا ولا تنصر أحدا.
قالُوا: أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ؟ أي فلما أتوا به- وهذا كلام محذوف مفهوم- قالوا له: أأنت الذي كسرت هذه الأصنام؟ فأجابهم:
وقد نسب الفعل إلى هذا الصنم الأكبر، لما رأى شدة تعظيمهم له، باعتباره المتسبب أو الباعث على الفعل، أي الاستهانة والتحطيم، والفعل كما يسند إلى مباشره يسند إلى المتسبب فيه. أو أنه أقرّ بفعله بأسلوب تعريضي لإلزامهم الحجة وتبكيتهم، كما يقول الصانع الحاذق الشهير أو الخطاط المشهور لمن يسأله عن هذه الصنعة الرائعة أو الخط الجميل: بل أنت صنعت ذلك أو بل أنت كتبت ذلك، والقصد بهذا الجواب تقرير السائل على سؤاله مع الاستهزاء به، لا نفيه عن صاحبه وإثباته للسائل.
فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ أي فاسألوا هذه الأصنام عمن كسرها إن كانوا آلهة ينطقون.
وفي ذلك الجواب لفت أنظارهم وتنبيه أذهانهم إلى عقم عبادة الأصنام، فيبادروا من تلقاء أنفسهم للاعتراف بعدم جدواها وأنها أحجار صماء لا تنطق، وجمادات لا تتكلم، فكيف تستحق العبادة؟! وقد أثر الجواب في أفكار هم بدليل قوله الآتي: فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ أي فرجع قوم إبراهيم حينئذ على أنفسهم بالملامة، ونسبوا إلى أنفسهم التقصير في عدم الاحتراز وعدم حراسة آلهتهم، ما داموا لا ينطقون، وقالوا:
فَقالُوا: إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ أي قال بعضهم لبعض: إنكم أنتم الظالمون في ترككم لها مهملة لا حافظ عندها. أو أنتم الظالمون أنفسكم بعبادة ما لا ينطق.
ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ، لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ أي ثم أطرقوا في الأرض للتأمل والتفكير، أو عادوا إلى المجادلة بالباطل لإبراهيم وانقلبوا عن حال الاستقامة، واحتجوا على إبراهيم حينما أدركتهم الحيرة بقولهم: إنك تعلم ونحن
فقه الحياة أو الأحكام:
لقد طاشت سهام قوم إبراهيم حينما رأوا أصنامهم مكسّرة، بعد أن رجعوا من عيدهم، فقالوا على جهة البحث والإنكار: مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ. وهذا أمر متوقع، قدّره إبراهيم عليه السلام.
كما أنه قدر أنهم سيعرفون أنه هو المتهم بالتكسير، لحملته السابقة بالقول والنكير، وتسفيه الأحلام والعقول، وانتقاده اللاذع لعبادة الأصنام التي لا تضر ولا تنفع، ودعوته إلى عبادة الله الواحد الأحد الذي يمنح ويمنع، ويضر وينفع.
ولما بلغ الخبر نمروذ وأشراف قومه، أرادوا إثبات التهمة عليه بالبينة، فقالوا: ائتوا به على مرأى ومسمع من الناس، ليشهدوا عليه بما يقول، ليكون ذلك حجة عليه.
وفي هذا دليل على أنه ما كان يؤخذ أحد بدعوى أحد، وهكذا الأمر في شرعنا، وكل الشرائع.
ولكنهم ما أدركوا أن تلك المواجهة مع إبراهيم عليه السلام أمام الناس في غير صالحهم، فقد كان إبراهيم قوي الحجة، وأراد تنبيه الأفكار إلى عبث عبادتهم، وقلة عقلهم، وكثرة جهلهم، فسألوه عمن فعل تلك الفعلة، فأجابهم بأن الفاعل هو كبيرهم، تعريضا بأن عبادتهم له وتعظيمهم إياه سبب للغيظ والغضب، مما حمله على تكسيرها، وتنبيها لهم بأن من لا يتكلم ولا يعلم لا يستحق أن يعبد، وكان قوله من المعاريض، وفي المعاريض مندوحة عن الكذب،
قال صلّى الله عليه وسلم فيما
وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «إن إبراهيم عليه السلام لم يكذب غير ثلاث: ثنتين في ذات الله قوله: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا وقوله: إِنِّي سَقِيمٌ. وواحدة في شأن سارة إذ قال:
لسارة أختي، وذلك ليدفع بقوله مكروها».
ثم قال إبراهيم: سلوهم إن نطقوا، فإنهم يصدقون، وإن لم يكونوا ينطقون فليس هو الفاعل. ويتضمن هذا الكلام اعترافا بأنه هو الفاعل.
فقد احتج عليهم بأمرين: الأول: قوله: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا وشأن الكبير حماية الأتباع والصغار، أو لأنه غضب أن تعبد معه هذه الصغار، فكسرها.
والثاني: فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ ليقولوا: إنهم لا ينطقون ولا ينفعون ولا يضرون، فيقول لهم: فلم تعبدونهم؟ فتقوم عليهم الحجة منهم.
ولما ألزمهم بحجته أقروا بأنهم هم الظالمون بعبادة من لا ينطق بكلمة، ولا يملك لنفسه شيئا، فكيف ينفع عابديه، ويدفع عنهم البأس من لا يرد عن رأسه الفأس، ثم عادوا لجهلهم وعنادهم، فقالوا: لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ.
- ٣- الانتصار الساحق لإبراهيم- نجاته من النار
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٦٦ الى ٧٠]
قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ (٦٦) أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٧) قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (٦٨) قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ (٦٩) وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ (٧٠)
يَنْفَعُكُمْ يَضُرُّكُمْ بينهما طباق.
كُونِي بَرْداً مجاز مرسل، من إطلاق المصدر، وإرادة اسم الفاعل، أي باردة أو ذات برد.
المفردات اللغوية:
مِنْ دُونِ اللَّهِ أي بدله. ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً من رزق وغيره. ولا يضركم شيئا إذا لم تعبدوه. أُفٍّ هو صوت المتضجر، ومعناه: نتنا وقبحا، ويستعمل للدلالة على أن القائل متضجر، والمراد هنا أن إبراهيم تضجر على إصرارهم على الباطل البيّن. مِنْ دُونِ اللَّهِ أي غيره. أَفَلا تَعْقِلُونَ قبح صنعكم، وأن هذه الأصنام لا تستحق العبادة، ولا تصلح لها، وإنما يستحقها الله تعالى.
قالُوا: حَرِّقُوهُ أخذوا في المضارّة لما عجزوا عن المحاجة، أي حرقوا إبراهيم، فإن النار أهول ما يعاقب به. وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ بتحريقه والانتقام لها. إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ أي إن كنتم ناصريها نصرا مؤزرا. والقائل منهم: رجل من أكراد فارس، اسمه (هينون) خسف به الأرض، وقيل: نمروذ. فجمعوا له الحطب الكثير، وأضرموا فيه النار، وأوثقوا إبراهيم، ورموه في منجنيق في النار.
قُلْنا: يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ أي كوني ذات برد وسلام، أي ابردي بردا غير ضار، فلم تحرق منه غير وثاقه، وذهبت حرارتها، وبقيت إضاءتها، وسلم من الموت ببردها.
كَيْداً أي تحريقا ومكرا في إضراره، والكيد: المكر الخديعة. الْأَخْسَرِينَ في مرادهم، أي أخسر من كل خاسر، لما عاد سعيهم برهانا قاطعا على أنهم على الباطل، وإبراهيم على الحق، وموجبا لمزيد درجته، واستحقاقهم أشد العذاب.
التفسير والبيان:
هذا هو الفصل الثالث والخاتمة المدهشة من قصة إبراهيم مع قومه عبدة الأصنام، فإنه لما أقروا على أنفسهم بأن لا جدوى من عبادة آلهتهم، وألزمهم إبراهيم الحجة، اندفع كالسيل الهادر يعلن ضرورة إنها هذه العبادة الخرافية، التي تقوم على الأوهام، والتي يترفع عنها العقلاء، فقال:
أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي تبّا لكم وقبحا لآلهتكم، وهذا التأفف والتضجر لكم ولها لعبادتكم إياها غير الله تعالى.
أَفَلا تَعْقِلُونَ أي أفلا تتدبرون ما أنتم فيه من الضلال والكفر الذي لا يدين به إلا كل جاهل ظالم فاجر.
ولما تفوق إبراهيم بحجته عليهم، وظهر الحق واندحر الباطل، لم يجدوا مناصا إلا اللجوء للأذى والمضارّة:
قالُوا: حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ أي قال بعضهم لبعض، والمشهور أن القائل: نمروذ بن كنعان بن سنجاريب بن نمرود بن كوش بن حام بن نوح، وقيل: إنه رجل من الكرد من أعراب فارس: احرقوا إبراهيم بالنار، وانصروا آلهتكم إن كنتم ناصريها نصرا مؤزرا، فجمعوا حطبا كثيرا جدا، ورموا إبراهيم من كفة منجنيق.
قُلْنا: يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ أي قال الله تعالى المتكفل بحفظ أنبيائه وعصمتهم من أذى الناس: يا نار كوني بردا، وسلاما على إبراهيم، أي ابردي بردا غير ضار، فكانت وسطا لا حامية ولا باردة. قال ابن عباس رضي الله عنهما: لو لم يقل ذلك لأهلكته ببردها. وقال أبو العالية: ولو لم يقل بَرْداً وَسَلاماً لكان بردها أشد عليه من حرّها. وبرودتها حدثت بنزع الله عنها طبعها من الحر والإحراق، مع بقائها على الإضاءة والإشراق والاشتعال كما كانت، والله على كل شيء قدير.
وروى الحافظ أبو يعلى عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لما ألقي إبراهيم عليه السلام في النار قال: اللهم إنك في السماء واحد، وأنا في الأرض واحد أعبدك».
وعن أبيّ بن كعب رضي الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أن إبراهيم حين قيدوه وألقوه في النار قال: لا إله إلا أنت سبحانك ربّ العالمين، لك الحمد، ولك الملك لا شريك لك» قال: ثم رموا به في المنجنيق من مضرب شاسع، فاستقبله جبريل، فقال: يا إبراهيم؟ ألك حاجة؟ قال: «أما إليك فلا» فقال جبريل: فاسأل ربك، فقال: «حسبي من سؤالي علمه بحالي» فقال الله تعالى: يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ «١».
وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً، فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ أي وأراد قوم إبراهيم به مكرا وتدبيرا يؤذيه ويقتله، فجعلناهم المغلوبين الأسفلين، ونجاه الله من النار.
فقه الحياة أو الأحكام:
هذه الآيات عبرة لمن اعتبر، إنها تمثل موقف المجاهد الصابر في سبيل دعوته إلى التوحيد والحق والفضيلة، وموقف المعادي الجاهل المناصر للباطل والشرك والوثنية.
لقد دبّر قوم إبراهيم له طريقا للخلاص منه، وأرادوا إحراقه وتعذيبه بأشد أهوال العذاب، ومعاقبته بالنار لأنها أشد العقوبات، وجمعوا الحطب وأوقدوا
روى ابن أبي حاتم عن عائشة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «إن إبراهيم حين ألقي في النار، لم يكن في الأرض دابة إلا تطفئ النار غير الوزغ «١»، فإنه كان ينفخ على إبراهيم».
وقال عطية العوفي: لما ألقي إبراهيم في النار، جاء ملكهم لينظر إليه، فطارت شرارة، فوقعت على إبهامه، فأحرقته مثل الصوفة.
آمنت بالله وحده لا شريك له، فهو صاحب القدرة المطلقة، إذا أراد شيئا قال له: كُنْ فَيَكُونُ.
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٧١ الى ٧٣]
وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ (٧١) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنا صالِحِينَ (٧٢) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ (٧٣)
البلاغة:
فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ عطف الصلاة والزكاة على فعل الخيرات من باب عطف الخاص على العام للتفضيل فإنهما من فعل الخيرات، وخصهما بالذكر لفضلهما ورفعة مرتبتهما.
العالمين الصالحين العابدين سجع لطيف.
المفردات اللغوية:
وَلُوطاً ابن أخي إبراهيم إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ أي من العراق إلى أرض فلسطين في الشام، التي بارك الله فيها بكثرة الأنهار والأشجار، أو لأن أكثر الأنبياء بعثوا فيها، فانتشرت في العالمين شرائعهم التي هي مبادئ الكمالات والخيرات الدينية والدنيوية. روي أن إبراهيم نزل بفلسطين، ولوط بالمؤتفكة، وبينهما مسافة يوم وليلة وَوَهَبْنا لَهُ أي لإبراهيم، وكان قد سأل ولدا، كما جاء في سورة الصافات نافِلَةً عطية ومنحة، وهي حال من إسحاق ويعقوب، أو المراد: زيادة على ما سأل وهو إسحاق، فتختص كلمة نافِلَةً بيعقوب، ولا بأس به للقرينة، كما قال البيضاوي.
وَكُلًّا أي الأربعة: هو وولداه ولوط جَعَلْنا صالِحِينَ أنبياء، ووفقناهم للصلاح،
وأصل الكلام: أن تفعل الخيرات. وحذفت تاء إِقامَ تخفيفا، وهي الإقامة لقيام المضاف إليه مقامها عابِدِينَ موحدين مخلصين في العبادة، ولذلك قدم الصلة وهي لنا ليفيد الإخلاص في العبادة.
المناسبة:
بعد إنجاء إبراهيم من النار، ذكر الله تعالى نعما أخرى عليه وعلى لوط ابن أخيه، وقد قرن مع إبراهيم لما كان بينهما من القرابة والاشتراك في النبوة. ومن تلك النعم: إخراجهما من العراق إلى بلاد الشام الأرض المباركة، ومنها: جعلهما أئمة يقتدى بهم، وإنزال الوحي عليهما لفعل الخيرات، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، ومن النعم على إبراهيم هبته من الذرية إسحاق ويعقوب.
التفسير والبيان:
وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ أي ومن نعم الله تعالى على إبراهيم: أنه ولوط عليهما السلام نجاهما إلى الأرض المباركة، بالهجرة من العراق إلى بلاد الشام الأرض المقدسة، والتي بارك الله فيها بكثرة ما بعث فيها من الأنبياء، وانتشرت شرائعهم بين العالمين، كما بارك فيها بخصوبة أراضيها وكثرة أشجارها وأنهارها، فاجتمع فيها خير الدنيا والآخرة. ويقال: هي أرض المحشر والمنشر، وبها ينزل عيسى ابن مريم عليه السلام، وبها يهلك المسيح الدجال.
وكانت هجرة إبراهيم من كوثى من بلدة «فدان آرام» بالعراق، ومعه لوط وسارّة، فرارا من الشرك والوثنية، والتماسا لمقر التوحيد وعبادة الله، فنزل حرّان، ثم رحل إلى مصر، ثم رجع إلى الشام، فنزل بفلسطين، وأقام لوط في قرى المؤتفكة التي تبعد عن فلسطين مسيرة يوم وليلة.
١- وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً أي ومنحنا إبراهيم من الذرية المباركة إسحاق ويعقوب، أو أعطيناه إسحاق إجابة لدعائه، إذ قال: رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ [الصافات ٣٧/ ١٠٠] وزدناه يعقوب نافلة زائدة على ما سأل، كالصلاة النافلة التي هي زيادة على الفرض. وعلى التفسير الأول:
تكون النافلة (أي العطية والمنحة) إسحاق ويعقوب، وعلى التفسير الثاني:
النافلة يعقوب خاصة.
٢- وَكُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ أي وكلا من الأربعة: لوط وإبراهيم وولديه، أو: وكلا من إبراهيم وإسحاق ويعقوب، جعلنا الجميع أهل خير وصلاح، يطيعون ربهم، ويتجنبون محارمه، أو جعلناهم أنبياء مرسلين، والأول أقرب لشموله الكل.
ووصفهم بالصلاح يدل على أن الأنبياء معصومون.
٣- وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا أي وصيرناهم قادة وأئمة يقتدى بهم، يدعون إلى دين الله بإذنه، وإلى الخيرات بأمره. وفيه دلالة على أن من صلح للقدوة في دين الله موفق مهدي للدين الحق وطريق الاستقامة، وليس له أن يخل بمقتضى الهداية ويتثاقل عنها.
٤- وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ أي وأنزلنا عليهم أن يفعلوا الخيرات وهي الأعمال الصالحات من فعل الطاعات وترك المحرّمات. وهذا يدل على أنه سبحانه خصهم بشرف النبوة، وذلك من أعظم النعم على الأب إبراهيم عليه السلام.
٥، ٦- وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ أي وأوحينا إليهم أن يقيموا الصلاة
وبعد تعداد هذه النعم ووصفهم بالصلاح أولا، ثم بالإمامة، ثم بالنبوة والوحي، أبان اشتغالهم بالعبودية والعبادة لله تعالى، فقال: وَكانُوا لَنا عابِدِينَ أي وكانوا لجناب الله خاشعين خاضعين، طائعين فاعلين ما يأمرون به الناس. وفي هذا دلالة على أنهم كانوا أوفياء لإحسان الله ونعمه عليهم، فلما أكرمهم الله بالإنعام وتفضل عليهم بالإحسان، كانوا أوفياء له بالعبودية وهو الطاعة والعبادة.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى بيان ما تفضل الله به من النعم الوفيرة على إبراهيم عليه السلام بعد نجاته من النار، وهي ما يلي:
١- النجاة من أرض الكفر والوثنية إلى أرض الإيمان والتوحيد، وذلك بهجرة إبراهيم الخليل مع ابن أخيه لوط من بلاد العراق إلى أرض الشام المباركة ببعثة أكثر الأنبياء فيها، وبكثرة الخيرات الزراعية، فهي معادن الأنبياء، وكثيرة الخصب والنمو، ووافرة الثمار والأنهار العذبة.
٢- هبة الذرية الطيبة له، فقد وهبه الله إسحاق إجابة لدعائه، وزاده يعقوب من غير دعاء، فكان ذلك نافلة، أي زيادة على ما سأل.
٣- جعل الله كلا من إبراهيم وإسحاق ويعقوب صالحا عاملا بطاعة الله،
٤- جعلهم رؤساء يقتدى بهم في الخيرات وأعمال الطاعات، يعملون بأمر الله وبما أنزله عليهم من الوحي والأمر والنهي، ويهدون الناس إلى دين الله الحق بأمر الله لهم، ويدعونهم إلى التوحيد.
٥- الإيحاء لهم بأن يفعلوا الطاعات.
٦- أمرهم بإقامة الصلاة المفروضة التي هي أشرف العبادات البدنية.
٧- الوحي لهم أيضا بإيتاء الزكاة الواجبة التي هي أشرف العبادات المالية.
وكانوا مشتغلين بالعبودية، مطيعين لأوامر الله تعالى، كأنه سبحانه وتعالى لما وفي بعهد الربوبية في الإحسان والإنعام، فهم أيضا وفّوا بعهد العبودية، وهو الاشتغال بالطاعة والعبادة.
القصة الثالثة- قصة لوط عليه السلام
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٧٤ الى ٧٥]
وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ (٧٤) وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٧٥)
الإعراب:
وَلُوطاً منصوب بفعل مقدر، تقديره: وآتينا لوطا آتيناه، وقيل: تقديره: واذكر لوطا.
وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا مجاز مرسل علاقته المحلية، أي أدخلناه في الجنة لأنها مكان تنزل الرحمات.
المفردات اللغوية:
وَلُوطاً هو ابن أخي إبراهيم الخليل عليهما السلام، كما عرفنا حُكْماً حكمة، أو نبوة، أو فصلا بين الخصوم وَعِلْماً بما ينبغي علمه للأنبياء وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ هي قرية سدوم التي بعث إليها لوط عليه السلام الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ أي يعمل أهلها، وصفها بصفة أهلها الْخَبائِثَ أي الأعمال الخبيثة من اللواط وغيره كالرمي بالبندق واللعب بالطيور قَوْمَ سَوْءٍ مصدر ساء نقيض سرّ، وقوله: إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ كالتعليل لما سبق وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا بأن أنجيناه من قومه، وجعلناه في أهل رحمتنا أو في جنتنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ الذين سبقت لهم منا الحسنى.
المناسبة:
بعد بيان ما أنعم الله تعالى به على إبراهيم عليه السلام، ذكر نعمه على لوط عليه السلام، لما بينهما من القرابة والاشتراك في النبوة. ولوط: هو لوط بن هاران بن آزر، كان قد آمن بإبراهيم عليه السلام واتبعه وهاجر معه، كما قال تعالى: فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ، وَقالَ: إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي [العنكبوت ٢٩/ ٢٦].
التفسير والبيان:
وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً أي آتى الله لوطا النبوة والحكمة (وهي ما يجب فعله) والحكم: وهو حسن الفصل في الخصومات بين الناس، وكذلك آتاه علما بما ينبغي للأنبياء وهو كل ما يتعلق بالعقيدة والعبادة وطاعة الله تعالى، وبعثه إلى «سدوم» وتوابعها وهي سبع قرى، فخالفوه وكذبوه، فأهلكهم الله، ودمر عليهم، كما أخبر في مواضع من القرآن العزيز. وهاتان نعمتان على لوط، والنعمة الثالثة هي:
إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ أي إنهم كانوا جماعة سوء وقبح، خارجين عن طاعة الله، مرتكبين معاصيه، والفسوق: الخروج.
والنعمة الرابعة هي: وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا أي وجعلناه من أهل رحمتنا أو في جنتنا، كما
جاء في الحديث الصحيح: «قال الله عز وجل للجنة: أنت رحمتي، أرحم بك من أشاء من عبادي»
وقيل: الرحمة: هي النبوة، أو الثواب. والسبب هو كما قال:
إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ أي من الذين يعملون الصالحات، ويؤدون الطاعات، بفعل الأوامر، واجتناب النواهي.
فقه الحياة أو الأحكام:
أنعم الله تعالى على لوط عليه السلام بأربع نعم وهي:
١- إيتاؤه الحكم: أي النبوة، والحكمة: وهي ما يجب فعله.
٢- تعليمه العلم النافع: وهو المعرفة بأمر الدين، وما يقع به الحكم بين الخصوم.
٣- إنجاؤه من العذاب الذي حل بالقرى التي أرسل إليها، لارتكاب أهلها خبائث الأعمال، وأهمها اللواط، ولأنهم قوم سوء فاسقين، أي خارجين عن طاعة الله تعالى.
٤- إدخاله في جنان الخلد التي هي متنزل الرحمات الإلهية لأنه من القوم الصالحين الذين آمنوا بالله، وأطاعوا ربهم، وائتمروا بأمره، وانتهوا عن نهيه.
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٧٦ الى ٧٧]
وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦) وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (٧٧)
المفردات اللغوية:
وَنُوحاً أي واذكر نوحا إِذْ نادى إذ دعا على قومه بالهلاك، بقوله: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً [نوح ٧١/ ٢٦] وهو بدل مما قبله. مِنْ قَبْلُ من قبل المذكورين: إبراهيم ولوط فَاسْتَجَبْنا لَهُ دعاءه فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ في السفينة مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ أي من الطوفان والغرق، وأذى قومه، والكرب: الغم الشديد وَنَصَرْناهُ جعلناه منتصرا كَذَّبُوا بِآياتِنا الدالة على رسالته فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ لاجتماع الأمرين: تكذيب الحق، والانهماك في الشر، ولم يجتمعا في قوم إلا وأهلكهم الله.
المناسبة:
بعد بيان قصة إبراهيم أبي الأنبياء ولوط قريبه، ذكر الله تعالى قصة نوح أب البشر الثاني لأن جميع الباقين بعد الطوفان من ذريته عليه السلام. وكل من إبراهيم ونوح من الرسل أولي العزم.
التفسير والبيان:
وَنُوحاً.. أي واذكر أيها النبي وقت أن نادى نوح ربه بأن دعا على قومه لما كذبوه: فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ [القمر ٥٤/ ١٠] وَقالَ نُوحٌ: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً [نوح ٧١/ ٢٦] وذلك من قبلك وقبل إبراهيم ولوط، فاستجبنا له دعاءه ونجيناه والذين آمنوا به من أهله، كما قال
وذلك بعد أن لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم إلى الله عز وجل، فلم يؤمن به منهم إلا القليل.
وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أي وجعلناه منتصرا على القوم الذين كذبوا بأدلتنا الدالة على رسالته. وفي لغة هذيل: اللهم انصرهم منه، أي اجعلهم منتصرين منه.
إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ أي إن سبب إهلاكهم أنهم قوم سوء لأجل تكذيبهم لنبيهم، فكان جزاؤهم أن أهلكهم الله جميعا صغارا وكبارا، ولم يبق منهم أحد، كما دعا عليهم نبيهم، بعد أن أصروا على كفرهم، وتصدوا لإيذائه، وتواصوا قرنا بعد قرن، وجيلا بعد جيل على مخالفته وعصيان أمره.
فقه الحياة أو الأحكام:
إن في عذاب الاستئصال للأمة أو القوم جميعا عبرة وعظة بالغة، فهؤلاء قوم نوح الذين عكفوا على عبادة الأوثان، وأصروا على الكفر، وتمردوا على دعوة نوح ورسالته، قد أهلكهم الله عامة بالطوفان الذي عمّ السهول والجبال.
والسبب هو تكذيبهم لنبيهم وإيذاؤهم له، بالرغم من الصبر عليهم قرابة عشرة قرون (٩٥٠) عاما، وهي مدة طويلة جدا.
وكان النصر حليف نوح عليه السلام، فنجاه الله والمؤمنين الذين آمنوا به، وعددهم قليل.
وقد أجمع المحققون- كما ذكر الرازي- على أن دعاء نوح على قومه كان بأمر الله تعالى، وإلا كان ذلك مبالغة في الإضرار، وسببا لنقصان حال الأنبياء.
القصة الخامسة- قصة داود وسليمان عليهما السلام
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٧٨ الى ٨٢]
وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ (٧٨) فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ (٧٩) وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ (٨٠) وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ (٨١) وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ (٨٢)
الإعراب:
وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ أي واذكر داود وسليمان.
وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ الضمير في لِحُكْمِهِمْ راجع إلى داود وسليمان، على طريقة إقامة الجمع مقام التثنية. أو أن المراد بالضمير الحاكمان والمتحاكمان وهم جماعة.
وَالطَّيْرَ منصوب معطوف على الْجِبالَ، أو لأنه مفعول معه.
لِتُحْصِنَكُمْ أي الصنعة، وقرئ بالياء أي ليحصنكم الله وقرئ بالنون، أي:
لنحصنكم نحن.
المفردات اللغوية:
وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ أي واذكر قصتهما إِذْ يَحْكُمانِ بدل مما قبله الْحَرْثِ الزرع، وقيل: كرم تدلت عناقيده نَفَشَتْ رعت ليلا بلا راع، بأن انفلتت من حظيرتها، والنفش:
الرعي ليلا. وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ أي حاضرين، وفيه استعمال ضمير الجمع لاثنين أو كنا شاهدين عالمين حكم الحاكمين والمتحاكمين إليهما. وكان حكم داود: أن يتملك صاحب الزرع الأغنام، وحكم سليمان: تبادل المتحاكمين الشيء المملوك لمدة سنة، فينتفع صاحب الزرع بدرّ الغنم ونسلها وصوفها إلى أن يعود الحرث كما كان بإصلاح صاحب الغنم، ثم يردها إلى صاحبها.
فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ الضمير يعود للفتوى الصادرة. وكان حكم داود وسليمان باجتهاد، ثم رجع داود إلى حكم سليمان وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً أي آتينا كلا منهما حكما أي نبوة، وعلما بأمور الدين.
يُسَبِّحْنَ يقدسن الله معه، إما بلسان الحال، أو بصوت يتمثل له، أو بخلق الله فيها صوتا بلغة معينة. وَالطَّيْرَ أي وكذلك سخرنا الطير له للتسبيح معه، بأمره به في وقت الراحة وَكُنَّا فاعِلِينَ أي تسخير التسبيح معه، فكنا فاعلين لأمثاله، فليس ببدع منا، وإن كان عجبا عندكم أي مجاوبة الجبال والطير لسيدها داود صَنْعَةَ لَبُوسٍ المراد هنا الدروع لأنها تلبس، وهو أول من صنعها، وكان قبلها صفائح. واللبوس في الأصل: السلاح بأنواعه لَكُمْ متعلق بقوله وَعَلَّمْناهُ أو متعلق بصفة للبوس. لِتُحْصِنَكُمْ لتحميكم وتمنعكم وتصونكم الصنعة مِنْ بَأْسِكُمْ بدل اشتمال بإعادة الجار، وبأسكم: حربكم مع أعدائكم، البأس: الحرب فَهَلْ أَنْتُمْ يا أهل مكة شاكِرُونَ نعمتي، بتصديق الرسول، فإن شكركم لي يكون بذلك. وقوله فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ؟ أمر في صورة الاستفهام للمبالغة والتقريع.
وَلِسُلَيْمانَ أي وسخرنا له الرِّيحَ عاصِفَةً الريح العاصف: هي الشديدة الهبوب.
وكانت رخاء أي لينة خفيفة في نفسها طيبة، كما جاء في آية أخرى، فقد جمعت بين الوصفين، فهي لينة طيبة، وتسرع في جريها كالعاصف إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها هي الشام
وَمِنَ الشَّياطِينِ أي وسخرنا له مِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ أي يدخلون في البحر، فيخرجون منه الجواهر لسليمان، والغوص: النزول إلى أعماق البحار لاستخراج اللؤلؤ.
وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذلِكَ أي سوى الغوص أو غيره، كبناء المدن والقصور واختراع الصائع الغريبة، كقوله تعالى: يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ [سبأ ٣٤/ ١٣]. وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ أن يزيغوا عن أمره، أو يفسدوا ما عملوا لأنهم كانوا إذا فرغوا من عمل أفسدوه إن لم يشتغلوا بغيره.
المناسبة:
هذه القصة كسابقاتها أيضا فيها تعداد النعم العظمى على داود وسليمان عليهما السلام، فذكر فيها أولا النعمة المشتركة بينهما وهي تزيينهما بالعلم والفهم كما قال تعالى: وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً مما يدل على شرف العلم، لتقديم ذكره على سائر النعم الأخرى. ثم ذكر ما اختص به كل منهما من النعم، أما داود فخص بنعمة تسخير الجبال والطير للتسبيح معه، وبصناعة الدروع. وأما سليمان فاختص بنعمة تسخير الريح، وتسخير الشياطين للغوص في أعماق البحار لاستخراج اللؤلؤ والمرجان، ولأعمال أخرى كبناء المدن والقصور وصناعة الأشياء الغريبة من قدور ومحاريب وتماثيل.
التفسير والبيان:
ذكر الله تعالى قصة الحكم بين المزارع والراعي، ثم ذكر النعم الجليلة المختصة بكل من داود وسليمان.
أما قصة الحكم كما قال أكثر المفسرين وكما ذكر الرازي: فهي أن راعي غنم رعت غنمه زرع فلاح ليلا، فاحتكما إلى داود عليه السلام، فحكم بالغنم لصاحب الحرث (الزرع) فقال سليمان- وهو ابن إحدى عشرة سنة-: غير هذا أرفق بهما، وأمر بتسليم الغنم إلى أهل الحرث، فينتفعون بألبانها وأولادها وأشعارها، وتسليم
والحكم في شرعنا في رأي الإمام الشافعي: وجوب ضمان المتلف بالليل، إذ المعتاد ضبط الدواب ليلا، وكذلك قضى النبي صلّى الله عليه وسلم لما دخلت ناقة البراء حائطا (بستانا) وأفسدته،
فقال: «على أهل الأموال حفظها بالنهار، وعلى أهل الماشية حفظها بالليل» «١».
وفي رأي الإمام أبي حنيفة: لا ضمان إلا أن يكون معها حافظ حارس
لقوله صلّى الله عليه وسلم: «جرح العجماء جبار» «٢»
أي أن ما تتلفه البهيمة هدر لا ضمان فيه.
أما النص القرآني في هذا الحكم فهو:
وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ.. أي واذكر أيها الرسول قصة داود وسليمان حينما حكما في زرع رعته ليلا غنم لآخرين، وكان الله عليما شاهدا بما حكم به داود وسليمان، لا تخفى عليه خافية.
ولكنه تعالى أفهم سليمان القضية والحكومة والفتوى الصحيحة الراجحة فكان رأيه هو الأصوب، مع أنه سبحانه آتى كلا من داود وسليمان النبوة وحسن الفصل في الخصومات والعلم والفهم والإدراك السليم للأمور، مما يدل على إقرار الحكمين في الجملة، وعلى أن خطأ المجتهد لا يقدح فيه، وإن كان الصواب واحدا، وهو ما قضى به سليمان، ودل قوله: فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ على إظهار ما تفضل الله عليه به في صغره.
(٢)
نص الحديث «العجماء جرحها جبار» رواه الجماعة (أحمد وأصحاب الكتب الستة) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
أما نعم الله على داود عليه السلام فهي:
١- وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ، وَكُنَّا فاعِلِينَ أي وسخر أي ذلل الله الجبال والطيور مسبحات مقدّسات الله مع داود لطيب صوته بتلاوة كتابه الزبور، وكان إذا ترنم به تقف الطير في الهواء فتجاوبه، وترد عليه الجبال تسبيحا، فيكون ذلك أكثر تأثيرا في مشاعره وعواطفه، فيستديم في التسبيح،
وقد وصف النبي صلّى الله عليه وسلم صوت أبي موسى الأشعري حين استمع لقراءته القرآن فقال فيما رواه أحمد والنسائي وابن ماجة عن أبي هريرة، والنسائي عن عائشة: «لقد أوتي مزمارا من مزامير آل داود».
وقدمت الجبال على الطير لأن تسخيرها وتسبيحها أعجب وأدل على القدرة الإلهية، وأروع في الإعجاز لأنها جماد، والطير حيوان إلا أنه غير ناطق.
ونطق الجبال والطير بأن يخلق الله فيها الكلام، كما خلقه في الشجرة حين كلم موسى عليه السلام، فإذا ذكر داود ربه ذكرت الجبال والطير ربها معه، لذا قال تعالى:
وَكُنَّا فاعِلِينَ أي قادرين على أن نفعل هذا، وإن كان عجبا عندكم.
ونظير الآية: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ، وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء ١٧/ ٤٤].
وفيه دلالة على أن أول من عمل الدرع داود عليه السلام، ثم تعلم الناس منه، وتوارثوا الصنعة عنه، فعمّت النعمة كل المحاربين إلى آخر الدهر.
وأما نعم الله على سليمان عليه السلام فهي كما قال قتادة: ورّث الله تعالى سليمان من داود ملكه ونبوته، وزاده أمرين: سخر له الريح والشياطين، فقال.
١- وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً.. أي وسخرنا لسليمان الريح العاصفة الشديد السرعة والهبوب، وجعلناها طائعة منقادة له، مع كونها في نفسها رخاء أيضا أي لطيفة لينة، فهي تجري بأمره، وتخضع لحكمه، وتنقله إلى أجزاء الأرض المقدسة المباركة، وهي أرض الشام، فيخرج مع صحبه في الغداة حيث شاؤوا، ثم يرجعون في يومهم إلى منزله، أي أن تلك الريح كانت جامعة بين الأمرين: رخاء في نفسها، وعاصفة في عملها، مع طاعتها لسليمان عليه السلام وهبوبها على حسب ما يريد.
وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ أي وكان الله عالما بكل شيء وعالما بتدبيره، فما آتاه الملك والنبوة، وما سخر له الريح بأمره إلا لعلمه بما فيه الحكمة والمصلحة
روي أنه كان له بساط من خشب، يوضع عليه كل ما يحتاجه من أمور المملكة، كالخيل والجمال والخيام والجند، ثم يأمر الريح أن تحمله، فتدخل تحته، ثم تحمله وترفعه، وتسير به وتظله الطير، لتقيه الحر إلى حيث يشاء من الأرض، فينزل، وتوضع آلاته، كما قال تعالى: فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ [ص ٣٨/ ٣٦] وقال: غُدُوُّها شَهْرٌ، وَرَواحُها شَهْرٌ [سبأ ٣٤/ ١٢] «١».
٢- وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ أي وسخرنا له فئة من الشياطين تغوص في أعماق البحار لاستخراج اللؤلؤ والمرجان والجواهر ونحوها، والغوص:
النزول تحت الماء.
وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذلِكَ أي ويؤدون له عملا غير ذلك كبناء المدن والقصور والمحاريب والتماثيل والقدور الراسيات ونحوها، كما قال تعالى:
وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ، وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ [ص ٣٨/ ٣٨] وقال: يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ [سبأ ٣٤/ ١٣] وأما الصناعات فهي مثل الطواحين والقوارير والصابون.
وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ أي حافظين لأعمالهم، نحرسه من أن يناله أحدهم بسوء، وقد جعلنا له سلطة مطلقة عليهم، إن شاء أطلق، وإن شاء حبس منهم من يشاء، ولهذا قال في الآية السابقة: وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ.
أرشدت الآيات إلى ما يأتي من الأحكام:
١- الحق والصواب واحد لا يتعدد، فإن حكم سليمان كان هو الأصوب، ولكن لا مانع من الخطأ في الاجتهاد، فمن اجتهد فأصاب فله أجران، ومن اجتهد فأخطأ فله أجر واحد، ولكن لا يجوز الحكم قبل الاجتهاد بالإجماع، وعلى المجتهد أن يجدد النظر عند وقوع الحادثة، ولا يعتمد على اجتهاده المتقدم، لإمكان أن يظهر له ثانيا خلاف ما ظهر له أولا.
فقد ثبت في صحيح البخاري عن عمرو بن العاص أنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر»
وفي السنن الصحاح: «القضاة ثلاثة: قاض في الجنة، وقاضيان في النار: رجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة، ورجل حكم بين الناس على جهل فهو في النار، ورجل علم الحق وقضى بخلافه، فهو في النار».
وقال الحسن البصري: لولا هذه الآية لرأيت القضاة قد هلكوا، ولكنه تعالى أثنى على سليمان بصوابه، وعذر داود باجتهاده.
وقريب من هذه القصة المذكورة في القرآن:
ما رواه الإمام أحمد في مسنده والشيخان والنسائي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «بينما امرأتان معهما ابنان لهما، إذ جاء الذئب، فأخذ أحد الابنين، فتحاكمتا إلى داود، فقضى به للكبرى، فخرجتا، فدعاهما سليمان، فقال: هاتوا السكين أشقّه بينكما، فقالت الصغرى: يرحمك الله، هو ابنها، لا تشقه، فقضى به للصغرى».
وأما حكم مسألة رعي الزرع ليلا في شرعنا، فقال الجصاص: ولا خلاف بين أهل العلم أن حكم داود وسليمان بما حكما به من ذلك منسوخ وذلك لأن داود
وأما آراء فقهائنا فهي كما يلي «٢» :
قال مالك وأبو حنيفة والشافعي: لا ضمان على أرباب المواشي فيما أصابت بالنهار. وقال الليث: يضمن أرباب المواشي بالليل والنهار.
وأما ما تتلفه المواشي بالليل فللعلماء فيه رأيان مشهوران:
رأي الجمهور (المالكية والشافعية والحنابلة) : وهو ضمان ما تتلفه البهائم ليلا، عملا بما قضى به النبي صلّى الله عليه وسلم في ناقة البراء، وهو أن حفظ البهائم بالليل على أرباب المواشي، وهذا حديث خاص، وأما
حديث «العجماء جرحها جبار»
أي أن فعل البهائم هدر، فهو عام، ولا خلاف أن العام يقضي عليه الخاص، أي أنه يقدم الخاص على العام، ولأنه لا إشكال في أن من أتلف شيئا فعليه الضمان، ويكون الضمان بالقيمة، وإن زادت على قيمة المواشي.
ورأي أبي حنيفة: ألا ضمان لما تتلفه المواشي، ليلا أو نهارا، للحديث المتقدم: «العجماء جرحها جبار».
٢- قال ابن العربي: من أراد أن يتخذ ما ينتفع به مما لا يضر بغيره مكّن منه، مثل النحل والحمام والإوز والدجاج، وذلك كالماشية. وأما انتفاعه بما
(٢) أحكام القرآن لابن العربي: ٣/ ١٢٥٦ وما بعدها، تفسير الرازي: ٢٢/ ١٩٩، تفسير القرطبي:
١١/ ٣١٥.
قال صلّى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد وابن ماجة عن ابن عباس: «لا ضرر ولا ضرار» «١».
٣- إنما يكون الأجر للحاكم المخطئ إذا كان عالما بالاجتهاد والسنن والقياس، وقضاء من مضى من السلف لأن اجتهاده عبادة، ولا يؤجر على الخطأ، بل يوضع عنه الإثم فقط. فأما من لم يكن محلا للاجتهاد، فهو متكلف لا يعذر بالخطإ في الحكم، بل يخاف عليه أعظم الوزر، بدليل الحديث المتقدم:
«القضاة ثلاثة» قال ابن المنذر: إنما يؤجر على اجتهاده في طلب الصواب، لا على الخطأ، بدليل قوله تعالى: فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ.
٤- أكثر الفقهاء قالوا: إن الحق واحد من أقوال المجتهدين، وليس الحق أو الصواب في جميع أقوالهم، بدليل قوله تعالى: فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ فخص سليمان بالفهم، ولو كان الكل مصيبا لم يكن لتخصيص سليمان عليه السلام بهذا التفهيم فائدة.
٥- هل للأنبياء الاجتهاد؟ اختلف العلماء في جواز الاجتهاد على الأنبياء، فمنعه قوم، وجوزه المحققون الأكثرون لأنه ليس فيه استحالة عقلية لأنه دليل شرعي، فلا مانع أن يستدل به الأنبياء، والله تعالى قال: فَاعْتَبِرُوا [الحشر ٥٩/ ٢] وهو أمر للكل بالاعتبار، وذلك يشمل الرسول صلّى الله عليه وسلم، ولأنه إذا غلب على ظنه أن الحكم في الأصل المقيس عليه معلل بمعنى، ثم وجد ذلك المعنى في صورة أخرى، فلا بد وأن يغلب على ظنه أن الفرع كالأصل في الحكم، ثم إنه لو جاز الاجتهاد للعلماء وهو أرفع درجات العلم، لثبت لأحد من أمة النبي صلّى الله عليه وسلم من الفضيلة ما لا يثبت له.
٦- في هذه الآية دليل على جواز رجوع القاضي عما حكم به، إذا تبين له أن
٧- كان ترتيل داود عليه السلام لكتابه الزبور وتسبيحه تتردد أصداؤه في الجبال والطيور، وكانت هذه تتجاوب معه بالتسبيح، وتذكر الله معه بلغة خاصة بها، قال مقاتل: إذا ذكر داود عليه السلام ربه، ذكرت الجبال والطير ربها معه. وقيل: كان داود إذا وجد فترة أي راحة أمر الجبال، فسبّحت حتى يشتاق، ولهذا قال: وَسَخَّرْنا أي جعلناها بحيث تطيعه إذا أمرها بالتسبيح. وقيل: إن سيرها معه تسبيحها، والتسبيح مأخوذ من السباحة بدليل قوله تعالى: يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ [سبأ ٣٤/ ١٠]. قال الرازي:
والقول الأول (أي قول مقاتل) أقرب لأنه لا ضرورة في صرف اللفظ عن ظاهره. وتسبيح الجبال والطير فيه دلالة على قدرة الله تعالى، وعلى تنزهه عما لا يجوز.
٨- كان داود أول من اتخذ الدروع وصنعها، وتعلمها الناس منه، وإنما كانت صفائح، فهو أول من سردها وحلقها، فأصبحت النعمة عليه نعمة على جميع المحاربين على الدوام أبد الدهر، لحماية الناس وحراستهم من السلاح في أثناء القتال، فلزمهم شكر الله تعالى على النعمة.
وذلك يقتضي الشكر، لذا قال تعالى: فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ أي على تيسير نعمة الدروع لكم، وأن تطيعوا رسول الله فيما أمر به. والمراد: اشكروا الله على ما يسر عليكم من هذه الصنعة.
٩- هذه الآية دليل على جواز اتخاذ الصنائع والأسباب، فالسبب سنة الله في خلقه، وهي شهادة للعمال وأهل الحرف والصنائع بأن العمل شرف، واتخاذ الحرفة كرامة، وقد أخبر الله تعالى عن داود أنه كان يصنع الدروع، وكان أيضا
والإسلام دين يحب العمل ويوجبه، ويكره البطالة والكسل، ويحارب العاطلين والخاملين إذا كانوا قادرين على العمل،
جاء في الحديث الصحيح الذي يرويه الشيخان والنسائي عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «لأن يأخذ أحدكم حبلة، ثم يغدو إلى الجبل، فيحتطب، فيبيع، فيأكل، ويتصدق، خير له من أن يسأل الناس».
وبالصنعة يكف الإنسان نفسه عن الناس، ويدفع بها الضرر والبأس عن نفسه.
جاء في حديث آخر رواه الحكيم الترمذي والطبراني والبيهقي عن أبي هريرة، وهو ضعيف: «إن الله يحب العبد المؤمن المحترف الضعيف المتعفف، ويبغض السائل الملحف».
١٠- كان من إكرام الله تعالى لسليمان تسخير الريح التي تجري بأمره إلى حيث شاء، ثم تردّه إلى بلاد الشام المباركة. يروى أنها كانت تجري به وبأصحابه إلى حيث أراد، ثم تردّه إلى الشام.
ومن إنعام الله عليه تسخير الشياطين له يعملون بصفة غواصين لاستخراج الجواهر من البحر، كما يعملون له أعمالا أخرى غير الغوص، من بناء المدن والقصور، ونحت المحاريب والتماثيل، وصناعة القدور الراسيات والجفان الواسعة والطواحين والقوارير والصابون، وغير ذلك مما يسخّرهم فيه، ويحفظ الله له أعمالهم من أن يفسدوها، أو أن يهيجوا أحدا من بني آدم في زمان سليمان، أو أن يهربوا أو يمتنعوا من أمره، فقد كانوا رهن إشارته، وطوع إرادته، لا يجرأ أحد منهم على الاقتراب منه.
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٨٣ الى ٨٤]
وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٨٣) فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ (٨٤)
الإعراب:
رَحْمَةً مفعول لأجله مِنْ عِنْدِنا صفة.
البلاغة:
أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ألطف في السؤال، حيث ذكر نفسه بما يوجب الرحمة، وذكر ربه بغاية الرحمة، ولم يصرح بالمطلوب.
أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فيهما جناس الاشتقاق.
المفردات اللغوية:
وَأَيُّوبَ أي واذكر أيوب إِذْ نادى رَبَّهُ لما ابتلي به من المرض، وهو بدل مما قبله أَنِّي أي بأني الضُّرُّ بالضم: الضرر والشدة في النفس من مرض وهزال. وأما الضّرر بالفتح: فهو الأذى في كل شيء، فالضّر خاص بما في النفس من مرض وهزال، والضرر: شائع في كل ضرر. وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ وصف ربه بغاية الرحمة، بعد ما ذكر نفسه بما يوجب الرحمة، واكتفى بذلك عن عرض المطلوب، لطفا في السؤال.
فَاسْتَجَبْنا لَهُ أجبنا له نداءه فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ أي أزلنا ورفعنا ضره بالشفاء من مرضه وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ أي وأعطيناه مثل أهله عددا، وزيادة مثل آخر، بأن ولد له ضعف ما كان عنده من زوجته وزيد في شبابها رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا، وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ أي رحمة على أيوب، وتذكرة لغيره من العابدين، ليصبروا كما صبر، فيثابوا كما أثيب.
بعد أن ذكر الله تعالى قصص خمسة من الأنبياء: إبراهيم، ولوط، ونوح، وداود، وسليمان، وما تعرضوا له من الابتلاء في سبيل الدعوة إلى الله، ذكر هنا قصة أيوب وابتلاءه له بأنواع المحن في نفسه وأهله، والكل قد صبروا على المحن والبلايا، وشكروا الله على ما أنعم عليهم من رفع البلاء، والنصر على أقوامهم.
أضواء على قصة أيوب عليه السلام:
ورد اسم أيوب عليه السلام في القرآن الكريم اربع مرات في سور النساء والأنعام والأنبياء وص. وهو أيوب بن أنوص، وأمه من ولد لوط عليه السلام، وكان عليه السلام روميا من ولد يعقوب بن إسحاق عليهما السلام. كان موطنه أرض عوص من جبل سعير أو بلاد أدوم، قيل: إنه كان قبل موسى، أو قبل إبراهيم بأكثر من مائة سنة، قال ابن إسحاق: الصحيح أنه كان من بني إسرائيل، ولم يصح في نسبه شيء، إلا أن اسم أبيه: أموص.
آتاه الله النبوة، وبسط عليه الدنيا، وكثّر أهله وماله، فكان له سبعة بنين، وسبع بنات، وذلك تعويضا عما ابتلاه الله من محنة في نفسه إذ مرض مدة طويلة هي ثماني عشرة سنة أو ثلاث عشرة سنة أو سبع سنوات ونيف، على حسب الروايات، ولكنه مرض غير منفر للناس لأن الأنبياء متصفون بالسلامة عن الأمراض المنفرة طبعا. وابتلاه الله أيضا في أهله بذهاب ولده، انهدم عليهم البيت، فهلكوا. وابتلاه كذلك في ماله بذهابه وفنائه، وكان رحيما بالمساكين، ويكفل اليتامى والأرامل، ويكرم الضعيف.
وقد أكرمه الله تعالى بكفارة يمينه، كما ذكر في سورة ص، بأن يأخذ بيده ضغثا، فيضرب به زوجته، حتى لا يكون حانثا. وزوجته: هي رحمة بنت أفرايم بن يوسف، أو ماخر بنت ميشا (منسا) بن يوسف، أو ليا بنت يعقوب، على اختلاف الروايات، ذهبت لحاجة، فأبطأت، أو بلغت أيوب
إلى متى هذا البلاء؟ فحلف إن برئ ليضربنها مائة ضربة، فحلل الله له يمينه وأمره بأن يأخذ ضغثا (وهو حزمة صغيرة من حشيش أو ريحان أو قضبان) ويضربها به، وذلك رحمة به وبها، لحسن خدمتها إياه، ورضاه عنها.
وهي رخصة مقررة في عقوبات الحدود في شريعتنا وفي غيرها أيضا في حالات الضرورة كالمرض والحمل.
التفسير والبيان:
أيوب عليه السلام مثل أعلى ومشهور في الصبر على المحنة والبلاء، حتى صار يضرب به المثل، فيقال: كصبر أيوب، وها هي قصته:
وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ.. أي واذكر أيها الرسول للعبرة والعظة والتأسي خبر أيوب الذي أصابه البلاء في ماله وولده وجسده، حين دعا ربه، وقد مسّه الضر فقال: رب إني مسني الضر والعناء، وأنت أرحم الرحماء. وصف نفسه بما يقتضي الرحمة، ووصف ربه بغاية الرحمة، ولم يصرح بمطلوبه بطريق التلطف في السؤال، وإيمانه بأن ربه عليم به. والنداء: الدعاء.
وكان مرضه طويل الأمد، إلا أنه غير منفر للناس ولا مشوه للجسد لأن الأنبياء معصومون، سالمون عن الأمراض المنفرة طبعا. وقد لازمته زوجته، وظلت تحنو عليه وتقوم بأمره.
وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد والبخاري والترمذي وابن ماجه عن سعد: «أشد الناس بلاء: الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلبا، اشتد بلاؤه».
قال الضحاك ومقاتل: بقي في البلاء سبع سنين وسبعة أشهر، وسبعة أيام، وسبع ساعات. قال ابن العربي: وهذا ممكن، ولكنه لم يصح في مدة إقامته خبر ولا في هذه القصة.
وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ أي وعوضناه عما فقد في الدنيا، فأعطيناه مثل أهله وزيادة مثل آخر، فقد ولد له من زوجته من الأولاد ضعف ما كان عنده.
رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا، وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ أي أعطيناه التعويض عن المال والأهل والولد، وعافينا جسده، رحمة منا به، وتذكيرا للعابدين بالاقتداء به، والصبر كما صبر، ليثابوا كما أثيب، وحتى لا ييأس مؤمن من عفو الله ورحمته وفضله، ولا يطمع مؤمن في أنه لا يصاب بسوء أو مكروه، فالدنيا دار ابتلاء وامتحان.
وقال الزمخشري: أي لرحمتنا العابدين، وأنا نذكرهم بالإحسان، لا ننساهم، أو رحمة منا لأيوب وتذكرة لغيره من العابدين ليصبروا كما صبر، حتى يثابوا كما أثيب في الدنيا والآخرة.
فقه الحياة أو الأحكام:
ذكر القرطبي سبعة عشر قولا في بيان الضر الذي مس أيوب، والحق الاقتصار على ظاهر النص القرآني، وهو أنه أصيب بضرر في نفسه وبدنه وأهله وماله، فصبر، ثم عافاه الله تعالى، وأعطاه خيرا مما فقد، وأثنى عليه بالصبر:
إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً، نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص ٣٨/ ٤٤]. والثابت المؤكد أن مرضه لم يكن منفرا. والهدف أن قصته عبرة، وتعريف أن الدنيا مزرعة الآخرة، وأن الواجب على الإنسان أن يصبر على ما يناله من البلاء فيها، ويجتهد في القيام بحق الله تعالى، وألا يضجر من شيء، وألا يتسخط ولا يتبرم، وإنما يصبر على حالتي الضراء والسراء. وقد أجمل الله تعالى هذه العبرة بقوله: رَحْمَةً
أي فعلنا ذلك به رحمة من عندنا، وتذكيرا للعبّاد لأنهم إذا ذكروا بلاء أيوب، وصبره عليه ومحنته له، وهو أفضل أهل زمانه، صبروا صبر أيوب، فيكون هذا تنبيها لهم على إدامة العبادة، واحتمال الضرر. وأما مدة إقامته في البلاء ففيها روايات،
قال القرطبي: الأصح منها- والله أعلم- ثماني عشرة سنة رواه ابن شهاب الزهري عن النبي صلّى الله عليه وسلم، كما ذكر ابن المبارك.
القصة السابعة- قصة إسماعيل وإدريس وذي الكفل عليهم السلام
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٨٥ الى ٨٦]
وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (٨٥) وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٦)
البلاغة:
الصَّابِرِينَ الصَّالِحِينَ بينهما جناس ناقص.
المفردات اللغوية:
وَإِسْماعِيلَ أي واذكر وَذَا الْكِفْلِ يعني إلياس وقيل: يوشع بن نون، وقيل:
زكريا، سمي بذلك لأنه كان ذا حظ من الله، أو تكفل منه، أو له ضعف عمل أنبياء زمانه وثوابهم. والكفل في اللغة بمعنى النصيب، والكفالة، والضعف. قيل: لم يكن نبيا، والأكثرون أنه نبي وهو ابن أيوب عليه السلام، وهذا ما صرح به الرازي والزمخشري، خلافا للقرطبي.
قيل: خمسة من الأنبياء ذوو اسمين: إسرائيل ويعقوب، إلياس وذو الكفل، عيسى والمسيح، يونس وذو النون، محمد وأحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى صبر أيوب عليه السلام ودعاءه ربه، أتبعه بذكر هؤلاء الأنبياء، فإنهم كانوا أيضا من الصابرين على الشدائد والمحن والعبادة. أما إسماعيل عليه السلام: فلأنه صبر على الانقياد للذبح، وصبر على الإقامة ببلد لا زرع فيه ولا ضرع ولا بناء، وصبر في بناء البيت، فأكرمه الله بجعل خاتم النبيين من صلبه.
وأما إدريس فكما قال ابن عمر رضي الله عنهما: «بعث إلى قومه داعيا لهم إلى الله تعالى، فأبوا، فأهلكهم الله تعالى، ورفع إدريس إلى السماء الرابعة» وهو أول من خاط الثياب ولبس المخيط، وكانوا قبله يلبسون الجلود، وأول من اتخذ السلاح عدّة للحرب.
وأما ذو الكفل: فإنه صبر على صلاة الليل حتى يصبح، وعلى صيام النهار فلا يفطر، ويقضي بين الناس فلا يغضب، ووفى بذلك وبما ضمن على نفسه.
قيل: إنه كان عبدا صالحا، كان يصلي لله كل يوم مائة صلاة، والأكثرون كما ذكرت أنه من الأنبياء عليهم السلام، بدليل اقترانه مع الأنبياء.
التفسير والبيان:
وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ، كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ أي واذكر أيها النبي نبأ إسماعيل بن إبراهيم الخليل، وإدريس بعد شيث وآدم، وذي الكفل أي الحظ الكثير، الذي هو إلياس ومن بني إسرائيل، وقد عاش في بلاد الشام، كل
وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا، إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ أي وجعلناهم من أهل رحمتنا بالنبوة، ودخول الجنة، والظفر برضانا وثوابنا لأنهم من فئة الكاملي الصلاح لأنهم أنبياء معصومون، وصلاحهم لا يعكره فساد.
فقه الحياة أو الأحكام:
هؤلاء الأنبياء الثلاثة: إسماعيل، وإدريس، وذو الكفل من الذين صبروا على أمر الله تعالى، والقيام بطاعته، واجتناب معاصيه، فكافأهم الله تعالى بنيل رضاه، ودخول جنته لأنهم قوم صالحون، كاملوا الصلاح والتقوى، بعيدون عن الفساد بمظاهره المختلفة.
والمراد هو التأسي والاقتداء بهم، فإنه لم يقصّ الله في قرآنه على الناس نبأ أحد من الأنبياء إلا وكان في ذلك الخير والفائدة، والعبرة والعظة، وضرب الأمثال العملية الواقعية للالتزام بأمر الله، والاستقامة في الدين والحياة.
القصة الثامنة- قصة يونس عليه السلام
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٨٧ الى ٨٨]
وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (٨٧) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (٨٨)
وَذَا النُّونِ منصوب بفعل مقدر، تقديره: واذكر ذا النون مُغاضِباً منصوب على الحال من ضمير ذَهَبَ وهو العامل في الحال. وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ وقرئ: نجي المؤمنين قال أكثر النحويين: إن هذه القراءة محمولة على إخفاء النون من نُنْجِي فتوهمه الراوي إدغاما. وأجازه آخرون على أنه فعل مبني للمجهول، على تقدير المصدر، لدلالة الفعل عليه، وإقامته مقام الفاعل، أي: نجّي النجاء المؤمنين، كقراءة أبي جعفر يزيد بن القعقاع المدني: ليجزي قوما أي ليجزي الجزاء قوما.
المفردات اللغوية:
وَذَا النُّونِ أي واذكر صاحب الحوت وهو يونس بن متى إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً لقومه، وإِذْ: بدل مما قبله، أي ذهب غضبان من قومه، مما قاسى منهم، لطول دعوتهم، وإصرارهم على الكفر، ذهب قبل أن يؤمر أو يؤذن له في الذهاب. فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ أي فظن أن لن نضيق عليه، كما في قوله تعالى: وَيَقْدِرُ [الرعد ١٣/ ٢٦ وغيرها] أي ويضيق، وقوله:
وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ [الطلاق ٦٥/ ٧] أي ضيق أو ظن أن لن نقضي عليه بالعقوبة، من التقدير أي القضاء والحكم. أو أن يكون ذلك من باب التمثيل بمعنى: فكانت حاله ممثلة بحال من ظن أن لن نقدر عليه في مراغمته قومه، من غير انتظار لأمر الله. هذه تأويلات. ويجوز أن يكون ذلك مجرد وسوسة الشيطان، ثم يردعه ويرده بالبرهان، فسمي ظنا للمبالغة، كما قال تعالى مخاطبا المؤمنين: وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا [الأحزاب ٣٣/ ١٠]. والخلاصة: أن الظن هنا ليس حاصلا من يونس عليه السلام لأن من ظن عجز الله تعالى فهو كافر.
فَنادى فِي الظُّلُماتِ أي في الظلمة الشديدة المتكاثفة، أو ظلمات بطن الحوت والبحر والليل أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أي بأنه لا إله إلا أنت سُبْحانَكَ تنزيها لك من أن يعجزك شيء إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ لنفسي بالمبادرة إلى المهاجرة من غير إذن.
جاء في الحديث الذي أخرجه البيهقي عن سعد عن النبي صلّى الله عليه وسلم: «ما من مكروب يدعو بهذا الدعاء إلا استجيب له».
فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ أي أجبنا له دعاءه بتلك الكلمات، بأن قذفه الحوت إلى الساحل بعد أربع ساعات مكث فيها في بطنه، وقيل: ثلاثة أيام. مِنَ الْغَمِّ: أي من غمه بسبب كونه في بطن الحوت، وبسبب خطيئته وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ أي وكما أنجينا يونس عليه السلام من كرب الحبس إذا دعانا، كذلك ننجي المؤمنين من كربهم إذا استغاثوا بنا.
هذه قصة يونس عليه السلام، تبين مدى فضل الله وإنعامه عليه، كما أنعم على الأنبياء المتقدمين الذين ذكر قصصهم، وأجاب دعاءهم بعد الكرب والشدة، ومقاساة الأهوال، والصبر على العناء.
التفسير والبيان:
وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً أي واذكر أيها الرسول قصة يونس بن متى عليه السلام حين بعثه الله إلى أهل قرية نينوى (من أرض الموصل) وكان اسم ملكها «حزقيا» فدعاهم إلى الله تعالى وإلى توحيده وطاعته، فأبوا عليه، وتمادوا على كفرهم، فخرج من بينهم مغاضبا لهم، وأوعدهم بالعذاب بعد ثلاث.
فلما تحققوا منه ذلك، وعلموا أن النبي لا يكذب، خرجوا إلى الصحراء بأطفالهم وأنعامهم ومواشيهم، وفرقوا بين الأمهات وأولادها، ثم تضرعوا إلى الله عز وجل، ورغت الإبل وفصلانها، وخارت البقر وأولادها، وثغت الغنم وسخالها، فرفع الله عنهم العذاب، كما قال تعالى: فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ، فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ، لَمَّا آمَنُوا، كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ [يونس ١٠/ ٩٨].
وأما يونس عليه السلام: فإنه ذهب، فركب مع قوم في سفينة، فاضطربت بهم وخافوا أن يغرقوا، فاقترعوا على رجل يلقونه من بينهم في البحر، للتخفيف، فوقعت القرعة على يونس، فأبوا أن يلقوه، ثم أعادوها، فوقعت القرعة عليه أيضا فأبوا، ثم أعادوها فوقعت عليه أيضا، كما قال تعالى:
فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ
[الصافات ٣٧/ ١٤١] أي وقعت عليه القرعة.
فقام يونس عليه السلام، وتجرد من ثيابه، ثم ألقى نفسه في البحر،
وقوله: ذَا النُّونِ أي الحوت، صحت الإضافة إليه بهذه النسبة.
وقوله: مُغاضِباً أي غضبان من قومه، لتكذيبهم إياه، وكراهيته خلف ما أوعدهم به من العذاب بعد ثلاث، لكنه لم يأتهم، لتوبتهم التي لم يعلم بها، لا كراهية لحكم الله، أو مغاضبا ربه، وإلا كان مرتكبا كبيرة لا تليق بالشخص العادي فضلا عن النبي، فهو مغاضب من أجل ربه، بدليل وصف نفسه أنه من الظالمين، وهذا رأي أكثر المفسرين.
أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ أي نضيق عليه في بطن الحوت، ونقضي عليه بالعقوبة، من القدر والتقدير أي القضاء والحكم، كما في قوله تعالى: فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ [القمر ٥٤/ ١٢] أي قدّر، وكان خروجه يشبه حالة الآبق.
فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ أي فدعا ربه في أعماق الظلمات المتكاثفة أو من تحت الظلمات الثلاث: ظلمة بطن الحوت، وظلمة البحر، وظلمة الليل: تنزيها لك يا رب، أنت الإله وحدك لا شريك لك، تفعل ما تشاء، وتحكم ما تريد، لا يعجزك شيء في الأرض ولا في السماء.
إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ نفسي بالخروج دون أمر أو إذن منك، وهذا خلاف الأولى للأنبياء، بدليل قوله تعالى: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ، وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ [القلم ٦٨/ ٤٨].
فَاسْتَجَبْنا لَهُ أي فأجبنا له دعاءه الذي أظهر به الندم والتوبة.
وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ، وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ أي وأخرجناه من بطن
روى البيهقي وغيره عن سعد بن أبي وقاص أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «دعوة ذي النون في بطن الحوت: لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ، سُبْحانَكَ، إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ، لم يدع بها مسلم ربه في شيء قط، إلا استجاب له»
فهو قد بدأ بالتوحيد، ثم بالتنزيه والتسبيح والثناء، ثم بالاستغفار والإقرار على نفسه بالظلم أي الذنب.
وروى ابن أبي حاتم عن أنس يرفع الحديث إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم: أن يونس النبي عليه السلام حين بدا له أن يدعو بهذه الكلمات، وهو في بطن الحوت قال:
اللهم، لا إله إلا أنت، سبحانك، إني كنت من الظالمين فأقبلت هذه الدعوة تحت العرش، فقالت الملائكة: يا رب، صوت ضعيف معروف من بلاد غريبة، فقال: أما تعرفون ذاك؟ قالوا: لا، يا رب، ومن هو؟ قال: عبدي يونس، قالوا: عبدك يونس الذي لم يزل يرفع له عمل متقبّل، ودعوة مجابة، قالوا: يا رب، أولا ترحم ما كان يصنع في الرخاء، فتنجيه من البلاء؟ قال:
بلى، فأمر الحوت، فطرحه في العراء.
فقه الحياة أو الأحكام:
أحوال الأنبياء عجائب وغرائب ومعجزات خاصة يظهرها الله على أيديهم، لا تقاس عليها إطلاقا أحوال البشر العاديين. وقصة يونس من هذه العجائب الفريدة.
فقد ذهب يونس عليه السلام مغاضبا من أجل الله، والمؤمن يغضب لله عز وجل إذا عصي، وكانت هذه المغاضبة صغيرة في رأي القرطبي، ولم يغضب على الله، ولكن غضب لله، إذ رفع العذاب عنهم.
لكن كان الأولى له أن يصابر وينتظر الإذن من الله تعالى في الهجرة عن قومه، لهذا قال تعالى: وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ [القلم ٦٨/ ٤٨] كأن الله تعالى أراد لمحمد صلّى الله عليه وسلم أفضل المنازل وأعلاها.
وقال القشيري: والأظهر أن هذه المغاضبة كانت بعد إرسال الله تعالى إياه (أي يونس) وبعد رفع العذاب عن القوم بعد ما أظلهم فإنه كره رفع العذاب عنهم.
وظن يونس عليه السلام عند ذهابه أن لا يضيق الله عليه بالحبس، أو ألا يقضي عليه بالعقوبة، من القدر الذي هو القضاء والحكم، وورد القدر بمعنى التضييق كما في الآيتين المتقدمتين: اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ [الرعد ١٣/ ٢٦] أي يضيق، وقوله: وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ [الطلاق ٦٥/ ٧].
وورد بمعنى التقدير وهو الحكم، وليس القدرة والاستطاعة، كما في قوله تعالى:
فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ [القمر ٥٤/ ١٢].
ثم أدرك يونس وهو في ظلمات الليل والبحر وبطن الحوت أنه ظلم نفسه في الخروج من غير أن يؤذن له، أو في ترك الصبر على قومه، وليس في ذلك من الله عقوبة لأن الأنبياء لا يجوز أن يعاقبوا، وإنما كان ذلك تمحيصا وتعليما، وقد يؤدب من لا يستحق العقاب كالصبيان، فتضرع إلى الله وجأر إليه بالدعاء المتقدم: لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ، سُبْحانَكَ.. فأكرمه الله تعالى، وحماه من أن يهضم الحوت جسده، وإنما جعله له سجنا فقط، ثم أمر الحوت بإلقائه، فطرحه على ساحل البحر.
ومن فضل الله ورحمته أن هذا الإنجاء لمن استغاث بالله واستعان به ليس خاصا بيونس عليه السلام، وإنما هو شامل لكل المؤمنين إذا استغاثوا بالله، وطلبوا رحمته، فإن الله تعالى يخلصهم من همهم بما سبق من عملهم. وذلك قوله تعالى: فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الصافات ٣٧/ ١٤٤].
وهذا من حفظ الله لعبده يونس رعى له حق تعبده، وحفظ له ما أسلف من الطاعة.
والله يجيب دعاء الداعين في أي مكان، لذا
قال صلّى الله عليه وسلم: «لا تفضلوني على يونس بن متى فإني لم أكن، وأنا في سدرة المنتهى بأقرب إلى الله منه، وهو في قعر البحر في بطن الحوت» «١».
وهذا دليل على أن الباري سبحانه وتعالى ليس في جهة معينة.
القصة التاسعة والعاشرة- قصة زكريا ويحيى عليهما السلام مع قصة مريم
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٨٩ الى ٩١]
وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ (٨٩) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ (٩٠) وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ (٩١)
وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها وَالَّتِي: منصوب بفعل مقدر، أي: واذكر التي أحصنت.
آيَةً منصوب مفعول ثان بجعل. وقال: آيَةً، ولم يقل: آيتين لوجهين:
أحدهما- لأن التقدير: وجعلناها آية، وجعلنا ابنها آية، إلا أنه اكتفى بذكر الثاني عن ذكر الأول. والثاني- أن يكون آيَةً في تقدير التقديم، أي وجعلناها آية للعالمين وابنها، والوجه الأول أوجه.
البلاغة:
رَغَباً وَرَهَباً بينهما طباق.
فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا نسب الروح إليه تعالى تشريفا وتكريما، مثل ناقَةُ اللَّهِ [الأعراف ٧/ ٧٣ ومواضع أخرى].
المفردات اللغوية:
وَزَكَرِيَّا أي واذكر زكريا. إِذْ نادى بدل منه، أي دعا ربه بقوله: رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً أي لا تتركني وحيدا بلا ولد يرثني. وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ الباقي بعد فناء خلقك، فإن لم ترزقني من يرثني، فلا أبالي. فَاسْتَجَبْنا لَهُ أي نداءه. وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ أي أصلحناها للولادة، فأتت بالولد بعد عقمها. إِنَّهُمْ أي المذكورين من الأنبياء عليهم السلام. يُسارِعُونَ يبادرون. فِي الْخَيْراتِ أي الطاعات. رَغَباً في رحمتنا.
وَرَهَباً من عذابنا. خاشِعِينَ متواضعين في عبادتهم.
وَالَّتِي أَحْصَنَتْ أي واذكر مريم التي حفظت فرجها من أن ينال بالحلال أو الحرام.
فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا أي أحيينا عيسى وأوجدناه في جوفها، ويجوز أن يراد: وفعلنا النفخ في مريم من جهة روحنا وهو جبريل عليه السلام، حيث نفخ في جيب درعها (قميصها) فوصل النفخ إلى جوفها. وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ هم الإنس والجن والملائكة حيث ولدته من غير رجل. ولم يقل: آيتين، كما في قوله تعالى: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ [الإسراء ١٧/ ١٢] لأن حالهما بمجموعهما آية واحدة وهي ولادتها إياه من غير فحل.
بعد بيان النعم الخاصة بكل نبي، أبان الله تعالى ما أنعم به على زكريا عليه السلام بمنحه الولد، في حال الكبر هو وزوجته، وبعد أن مسّه الضر بتفرده، فدعا ربه أن يرزقه الولد، وأحب أن يكون معه من يؤنسه ويقويه على أمر دينه ودنياه، ويقوم مقامه بعد موته.
وكان دعاؤه دعاء مخلص عارف بأن الله تعالى قادر على ذلك، وإن بلغ هو وزوجته سن اليأس من الولد، بحسب العادة. قال ابن عباس رضي الله عنهما:
كان سنّه مائة، وسن زوجته تسعا وتسعين.
ثم ذكر تعالى قصة مريم وولادتها عيسى، لما بين ولادته وولادة يحيى من الغرابة وتشابه المعجزة. وتقدمت القصتان في سورتي آل عمران ومريم.
التفسير والبيان:
وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ... أي واذكر أيها الرسول خبر زكريا حين طلب أن يهبه الله ولدا، يكون من بعده نبيا، فدعا ربه خفية عن قومه قائلا:
ربّ لا تتركني وحيدا، لا ولد لي ولا وارث يقوم بعدي في دعوة الناس إليك، وأنت الباقي بعد فناء خلقك، فإن لم ترزقني من يرثني فلا أبالي، فإنك خير وارث. وقوله: وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ دعاء وثناء.
فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى، وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ أي فأجبنا نداءه ومطلبه، ووهبناه ولدا اسمه يحيى، وأصلحنا له امرأته بإزالة موانع الولادة، فولدت بعد العقم وفي حال الكبر.
إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ أي إن المذكورين من الأنبياء عليهم السلام، ومنهم زكريا وزوجه كانوا يبادرون إلى طاعتنا والتقرب إلينا، أو إلى
وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ أي ويدعوننا رغبة في رحمتنا وفضلنا، وخوفا من عذابنا وعقابنا، وكانوا لنا متواضعين متذللين.
والمعنى أنهم ضموا إلى فعل الطاعات والمسارعة فيها أمرين:
أحدهما- الفزع إلى الله تعالى، رغبة في ثوابه، ورهبة من عقابه.
والثاني- الخشوع: وهو المخافة الثابتة في القلب، أو الخوف اللازم للقلب، لا يفارقه أبدا.
روى ابن أبي حاتم عن عبد الله بن حكيم قال: خطبنا أبو بكر رضي الله عنه، ثم قال: «أما بعد، فإني أوصيكم بتقوى الله، وتثنوا عليه بما هو له أهل، وتخلطوا الرغبة بالرهبة، وتجمعوا الإلحاف بالمسألة فإن الله عز وجل أثنى على زكريا وأهل بيته، فقال: إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ، وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً، وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ».
ثم يذكر الله تعالى قصة مريم وابنها عيسى عليهما السلام مقرونة بقصة زكريا وابنه يحيى عليهما السلام، كما هو المعتاد في كلامه تعالى، فيذكر أولا قصة زكريا، ثم يتبعها بقصة مريم لأن تلك مربوطة بهذه، فإنها إيجاد ولد من شيخ كبير طاعن في السن، ومن امرأة عجوز عاقر، لم تكن تلد في حال شبابها. أما قصة مريم فهي أعجب، فإنها إيجاد ولد من أنثى بلا ذكر.
حدث هذا الاقتران بين القصتين في سورتي آل عمران ومريم، وهاهنا في سورة الأنبياء.
فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا أي نفخنا الروح في عيسى في بطنها، أي أحييناه في جوفها. ويلاحظ أن الضمير هنا عائد إلى مريم، وليس المقصود كما هو الظاهر إحياء مريم، وإنما إحياء عيسى في جوفها. وأما في سورة التحريم فالضمير عائد إلى فرجها، أي فنفخنا في فرجها، وقرئ: فيها أي في مريم أو الحمل. وقوله: مِنْ رُوحِنا في السورتين أي من روح خلقناه بلا توسط أصل. وأضيف إلى الله تعالى تشريفا.
وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ أي وجعلنا أمر مريم وعيسى وهو الحمل من غير أب آية ومعجزة خارجة عن العادة، دالة على أن الله على كل شيء قدير، وأنه يخلق ما يشاء، وإنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له: كُنْ فَيَكُونُ.
ونظير الآية قوله سبحانه: وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ [مريم ١٩/ ٢١] ولم يقل:
آيتين لأن معنى الكلام: وجعلنا شأنهما وأمرهما وقصتهما آية للعالمين، أو أن الآية واحدة وهي الولادة من غير رجل، وقوله: لِلْعالَمِينَ أي الجن والإنس والملائكة.
وهناك آيات أخرى لكل من مريم وعيسى، مثل إتيان الملائكة لها برزقها:
يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا؟ قالَتْ: هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [آل عمران ٣/ ٣٧]. وأما آيات عيسى فمثل إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله كما جاء في [آل عمران: الآية ٤٩].
إن في كلّ من قصتي زكريا وابنه يحيى ومريم وابنها عيسى آية خارقة للعادة، ومعجزة غير معتادة دالة على قدرة الله تعالى الفائقة، والشاملة لكل شيء.
أما قصة زكريا فقد أكرمه الله تعالى بولادة يحيى بعد دعاء ومناجاة، وتضرع وإخلاص، وأدب وتفويض لله تعالى، وذلك في سن الكبر هو وامرأته، التي كانت عاقرا لا تلد في وقت الشباب. ووجه الآية الفريدة أن الكبير عادة لا ينجب، وأن العاقر العقيم لا يلد، فأزال الله موانع الولادة، وهيأ القدرة على الإنجاب والإخصاب عند الأب زكريا عليه السلام.
وسبب هذه الإجابة لدعاء زكريا أنه كان كغيره من الأنبياء يبادر إلى فعل الطاعات، وعمل القربات، وأنه كان يدعو في حال الرخاء وحال الشدة، وحال الرجاء والرهبة، وأملا في رحمة الله وفضله، وخوفا من عذابه وعقابه لأن الرغبة والرهبة متلازمتان.
وأما قصة مريم الطاهرة البتول فقد أحصنت فرجها إحصانا كليا من الحلال والحرام جميعا، ولم يقربها رجل، وتمّ نفخ الروح في جوفها، وإيجاد عيسى بواسطة جبريل الروح القدس من غير أصل ذكر.
فقوله: فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا معناه أمرنا جبريل حتى نفخ في درعها أي قميصها، فأحدثنا بذلك النفخ (المسيح) في بطنها، ووصل النفخ إلى جوفها، وسرت الروح إلى فرجها، وكان ذلك آية أي علامة وأعجوبة للخلق، وعلما لنبوة عيسى، ودلالة على نفوذ قدرتنا فيما نشاء.
وآيات مريم كثيرة كما تقدم:
وثانيها- أن رزقها كان يأتيها به الملائكة من الجنة.
وثالثها ورابعها- قال الحسن البصري: إنها لم تلتقم ثديا يوما قط، وتكلمت هي أيضا في صباها، كما تكلم عيسى عليه السلام «١».
وأما آيات عيسى عليه السلام فقد تقدم بيانها في سورة آل عمران.
وكل تلك الآيات بإذن الله وأمره، وليس للبشر فيها قدرة مع قدرة الله تعالى وتدبيره وحكمته.
وحدة الرسالات السماوية والسنّة الإلهية
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٩٢ الى ٩٧]
إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (٩٢) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ (٩٣) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ (٩٤) وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ (٩٥) حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (٩٦)
وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ (٩٧)
أُمَّةً واحِدَةً حال لازمة.
لا يَرْجِعُونَ: إما زائدة، أي وحرام أنهم يرجعون، أي إلى الدنيا، وأن واسمها وخبرها خبر المبتدأ: حَرامٌ. وإما غير زائدة، ويكون حَرامٌ مبتدأ، وخبره مقدر، أي: وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون كائن أو محكوم عليه، فحذف الخبر، وحذف الخبر أكثر من زيادة «لا» وهو الأوجه عند أبي علي الفارسي والزجاج.
حَتَّى إِذا فُتِحَتْ.. جواب إِذا إما مقدر، تقديره: قالوا: يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا، وإما أن يكون الجواب قوله: وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ والواو زائدة، وهذا مذهب الكوفيين، وإما أن يكون الجواب قوله: فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا.
البلاغة:
وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ التفات من الخطاب إلى الغيبة كأنه ينقل عنهم ما أفسدوه إلى آخرين للتقبيح، واستعارة تمثيلية، مثل اختلافهم في الدين وتفرقهم أحزابا بالجماعة التي تتوزع الشيء أنصباء.
فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ استعارة، أستعير الكفران لمنع الثواب، كما أستعير الشكر لإعطائه.
يا وَيْلَنا فيه إيجاز بالحذف، أي: ويقولون: يا ويلنا.
فَاعْبُدُونِ، راجِعُونَ، كاتِبُونَ سجع لطيف.
المفردات اللغوية:
إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ الأمة لغة: القوم المجتمعون على أمر، ثم شاع استعمالها في الدين أو الملة، أي إن ملة التوحيد أو الإسلام ملتكم ودينكم أيها المخاطبون، التي يجب عليكم أن تكونوا عليها.
أُمَّةً واحِدَةً أي ملة واحدة غير مختلفة فيما بين الأنبياء. وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ أي أنا الله لا إله غيري، فوحدوني واعبدوني لا غير.
وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ أي جعل بعض المخاطبين أمر دينهم فيما بينهم قطعا، بمعنى أنهم تفرقوا في الدين، وتخالفوا فيه، وجعلوا أمره قطعا موزّعة بقبيح فعلهم، وهم طوائف اليهود والنصارى. كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ أي كل من الفرق المتجزئة راجعون إلينا فنجازيهم بأعمالهم.
فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ أي لا جحود ولا إنكار لعمله، ولا تضييع لثوابه. وَإِنَّا لَهُ
أي وإنا لسعيه مثبتون في صحيفة عمله، لا نضيع شيئا منه بوجه ما، ونأمر الحفظة بكتبه، فنجازيه عليه.
وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أي ممتنع على أهلها، غير متصور منهم. أَهْلَكْناها أي حكمنا بإهلاكها أو قدرنا هلاكها، أو وجدناها هالكة. أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ لا: زائدة، أي ممنوع عليهم رجوعهم إلى التوبة أو إلى الدنيا.
حَتَّى غاية لامتناع رجوعهم، أي يستمر عدم الرجوع إلى قيام الساعة وظهور أماراتها وهو فتح سد يأجوج ومأجوج. إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ أي إذا فتح سدهما، وذلك قرب يوم القيامة، وهما اسمان أعجميان لقبيلتين. وَهُمْ يعني يأجوج ومأجوج، أو الناس كلهم.
مِنْ كُلِّ حَدَبٍ مرتفع من الأرض. يَنْسِلُونَ يسرعون أو يخرجون مسرعين، مأخوذ من نسلان الذئب، أي إسراعه.
وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ أي قرب يوم القيامة. فَإِذا هِيَ أي القصة، وإذا:
للمفاجاة، كقوله: إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ [الروم ٣٠/ ٣٦] وهي جواب الشرط السابق وهو حَتَّى إِذا.... شاخِصَةٌ مرتفعة أجفانها لا تكاد تنظر، من شدة الهول. يا وَيْلَنا أي يقولون: يا هلاكنا، ويا: للتنبيه. قَدْ كُنَّا في الدنيا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا اليوم، لم نعلم أنه حق بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ أنفسنا بتكذيبنا الرسل، وإخلال النظر.
التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى عن أن دين الإنسانية دين واحد، فيقول:
إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً... أي إن ملة التوحيد أو ملة الإسلام هي ملة واحدة وشريعة واحدة، متفق عليها بين جميع الأنبياء والشرائع، وهي التي يجب أن تكونوا عليها، فكونوا عليها أمة واحدة غير مختلفة فيما بين الأنبياء، وأنا الله الذي لا إله غيري فاعبدوني وحدي، ولا تشركوا معي شيئا آخر، من ملك أو بشر أو حجر أو شجر أو صنم.
وقال في آية أخرى: وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً، وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ [المؤمنون ٢٣/ ٥٢].
وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري ومسلم وأبو داود وأحمد:
يعني أن المقصود هو عبادة الله وحده لا شريك له، بشرائع متنوعة لرسله، كما قال تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً [المائدة ٥/ ٤٨] فليس الاختلاف في أصول العقيدة والأخلاق والفضيلة والعبادة، وإنما الاختلاف في الفروع والجزئيات والأشكال بحسب الاختلاف في الأزمنة والعصور.
وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ أي إن الأمم اختلفت على رسلها، بين مصدق لهم ومكذب، وفرقوا أمر دينهم بينهم فرقا شتى، وهذا بطريق الالتفات إلى الغيبة للتقبيح، والأصل: وتقطعتم، كأنه ينقل عنهم ما أفسدوه إلى آخرين، ويقبّح عندهم فعلهم، ويقول لهم: ألا ترون إلى عظيم ما ارتكب هؤلاء.
والمعنى: جعلوا أمر دينهم فيما بينهم قطعا، كما تتوزع الجماعة الشيء ويقسمونه، فيصير لهذا نصيب، ولهذا نصيب، تمثيلا لاختلافهم فيه، وصيرورتهم فرقا وأحزابا شتى. وهذا التفرق في أمر الدين الواحد معيب شنيع، ولهذا قال تعالى متوعدا على فعلهم:
كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ أي كل فرقة منهم سيرجعون إلينا يوم القيامة، فنجازي كل واحد بحسب عمله، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. وطريق الجزاء ومنهاجه هو:
فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ، وَهُوَ مُؤْمِنٌ، فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ، وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ من: للتبعيض لا للجنس إذ لا قدرة للمكلف أن يأتي بجميع الطاعات كلها، فرضها ونفلها، والمعنى: ومن يعمل عملا صالحا موافقا لمنهاج الله تعالى، وهو بقلبه ولسانه مصدق بربه ورسله، أو من يعمل شيئا من الطاعات وهو موحد مسلم، فلا تضييع لسعيه، ولا بطلان لثواب عمله، ولا جحود لعمله،
والآية دليل على أن أساس القبول والنجاة الجمع بين أن يكون الشخص مؤمنا، وبين أن يعمل الصالحات، والإيمان: يشمل العلم والتصديق بالله ورسوله، والعمل الصالح هو فعل الواجبات وترك المحظورات. والكفران:
مثل في حرمان الثواب، والشكر مثل في إعطائه، والمراد من الآية فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ المراد نفي للجنس، وفيه ترغيب العباد في التمسك بطاعة الله تعالى.
وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ أي وممتنع على أهل قرية حكمنا بإهلاكها رجوعهم إلى التوبة أو الحياة الدنيا قبل يوم القيامة. وتكون لا زائدة للتأكيد، وهو كقوله تعالى: فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ [يس ٣٦/ ٥٠]. وقوله: حَرامٌ مستعار لمنع الوجود بحال، مثل قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ [الأعراف ٧/ ٥٠] أي منعهما.
حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ، وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ أي يستمر عدم رجوع القوم المهلكين إلى قيام الساعة وظهور أماراتها وهو فتح سد يأجوج ومأجوج، وهما قبيلتان أو الناس جميعا، وإتيان الناس مسرعين من كل مرتفع من الأرض. ويكون المقصود من الآية الردّ على المشركين الذين ينكرون البعث والجزاء.
يا وَيْلَنا، قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا، بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ أي يقولون:
يا هلاكنا، والويل: الهلاك، قد كنا في الدنيا غافلين لاهين، لم نعلم أن هذا هو الحق، وأن البعث والرجوع إلى الله للحساب والجزاء ثابت قائم، بل إننا في الواقع ظالمون لأنفسنا بتعريضها للعذاب، وهذا اعتراف صريح بظلمهم لأنفسهم، حيث لا ينفعهم ذلك.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على وحدة الرسالات السماوية في أصولها، وعلى تفرق الناس في أمر الدين، وعلى وحدة السنن الإلهية في إثابة المؤمن الصالح العمل، وتعذيب الكافر المسيء، وعلى إثبات البعث والجزاء وما يشتمل عليه من شدائد وأهوال.
أما وحدة الرسالات السماوية: فالأنبياء كلهم متفقون على التوحيد، لذا وجب اتفاق البشر قاطبة على أن الإله واحد لا شريك له، وعلى وجوب إفراده بالعبادة. أما المشركون فقد خالفوا كل الأنبياء.
وأما الاختلاف في الدين بين مصدق ومكذب: فهو ظاهرة شائعة، لذا نعى الله تعالى التفرق في أمر الدين، سواء المسلمين أو اليهود والنصارى وغيرهم من المشركين، وذمهم لمخالفتهم الحق، وندد بغير المسلمين اتخاذهم آلهة من دون الله، فيكون المراد بقوله: وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ جميع الخلق، بأن جعلوا أمرهم في أديانهم قطعا، وتقسموه بينهم، فمن موحّد، ومن يهودي، ومن نصراني، ومن عابد ملك أو صنم. والكل من هؤلاء الفرق المختلفة راجع إلى حكم الله فيجازيهم.
يا رسول الله، من تلك الفرقة الناجية؟ قال: الجماعة، الجماعة، الجماعة»
فتبين بهذا الخبر أن المراد بقوله تعالى: إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ الجماعة المتمسكة بما بينه الله تعالى في هذه السورة من التوحيد والنبوات، وأن في قول الرسول صلّى الله عليه وسلم في الناجية: إنها الجماعة، إشارة إلى أمة الإيمان. ولكن المراد
بقوله: «ستفترق أمتي»
أي في حال ما، وليس فيه دلالة على افتراقها في سائر الأحوال، لا يجوز أن يزيد أو ينقص «١».
والقاعدة الثابتة أن من يعمل شيئا من الطاعات، فرضا أو نفلا، وهو موحد مسلم، مصدق بمحمد صلّى الله عليه وسلم، فلا جحود ولا كفران لعمله، ولا يضيع جزاؤه، والكفر ضدّ الإيمان، وهو أيضا جحود النعمة، وهو ضد الشكر، والله حافظ لعمله، كما قال تعالى: فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى [آل عمران ٣/ ١٩٦] أي كل ذلك محفوظ ليجازى به. وفي هذا ترغيب الناس بطاعة الله تعالى.
ومن القواعد والسنن الثابتة الجارية على منهاج واحد أنه ممتنع على أهل قرية أهلكهم الله أن يرجعوا بعد الهلاك إلى الدنيا، وهذا على أن لا زائدة. والراجح عند أبي علي الفارسي والزجاج أن لا غير زائدة، إذ لا فائدة في أن المراد: وحرام على قرية أهلكناها أن يرجعوا إلى الدنيا، وإنما في الكلام إضمار، أي وحرام على قرية حكمنا باستئصالها أو بالختم على قلوبها أن يتقبل منهم لأنهم لا يرجعون، أي لا يتوبون. وهذا هو الأولى عندي.
والحديث رواه أصحاب السنن الأربعة عن أبي هريرة، ولفظه:
«افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وتفرقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وتفرقت أمتي على ثلاث وسبعين فرقة».
ثم أثبت الله تعالى البعث والجزاء بقوله: وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ وما يتعرض له الكفار من أهوال وشدائد تشخص منها أبصارهم، أي ترتفع من هول القيامة لا تكاد تطرف، ويقولون: يا ويلنا ويا هلاكنا إنا كنا ظالمين بمعصيتنا، ووضعنا العبادة في غير موضعها.
أحوال الكافرين والمؤمنين في الآخرة وحال السماء فيها
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٩٨ الى ١٠٦]
إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (٩٨) لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ (٩٩) لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ (١٠٠) إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (١٠١) لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ (١٠٢)
لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (١٠٣) يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ (١٠٤) وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ (١٠٥) إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ (١٠٦)
كَطَيِّ السِّجِلِّ الكاف في موضع نصب لأنها صفة مصدر محذوف، أي نطوي السماء طيّا كطي السجل، فحذف الموصوف وأقام صفته مقامه، والمصدر مضاف إلى المفعول إذا كان بمعنى المكتوب فيه وهو الصحيفة، أي كما يطوى السجل. وللكتاب: أي للكتابة، كقوله تعالى:
وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ [آل عمران ٣/ ٤٨].
وَعْداً عَلَيْنا منصوب بوعدنا المقدر قبله، وهو مؤكد لمضمون ما قبله.
البلاغة:
نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ فيه تشبيه مرسل مفصل، أي نطوي السماء طيا مثل طيّ الصحيفة على ما كتب فيها.
المفردات اللغوية:
إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي إنكم أيها الكفار والمشركون وما تعبدونه من الأوثان من غير الله حَصَبُ جَهَنَّمَ ما يرمى به إليها من حطب ووقود. وارِدُونَ داخلون فيها.
لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً لو كان هؤلاء الأوثان آلهة كما زعمتم. ما وَرَدُوها دخلوها لأن المؤاخذ المعذّب لا يكون إلها. وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ كل من العابدين والمعبودين خالدون دائمون في جهنم.
لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ أي للعابدين في جهنم أنين وتنفس شديد يخرج من أقصى الجوف.
لا يَسْمَعُونَ شيئا لشدة غليانها. الْحُسْنى المنزلة الحسنى أو الكلمة الحسنى التي تبشر بثوابهم الحسن على أعمالهم. حَسِيسَها صوتها الذي يحس من حركتها. وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ من النعيم. خالِدُونَ دائمون في غاية التنعم، وتقديم الظرف للاختصاص والاهتمام به. لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ النفخة الثانية أو الأخيرة لقوله تعالى: وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ، فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ [النمل ٢٧/ ٨٧] وقيل: هو الانصراف إلى النار وهو أن يؤمر بالعبد إلى النار، وقيل: حين يطبق على النار، أو حين يذبح الموت على صورة كبش أملح. وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ تستقبلهم الملائكة مهنئين عند خروجهم من القبور. هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ أي ويقولون لهم: هذا اليوم الذي كنتم توعدون به في الدنيا.
يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ أي اذكر يوم الطي: وهو ضد النشر. السِّجِلِّ الصحيفة المكتوب فيها. لِلْكُتُبِ للكتابة فيها. كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ أي من عدم. نُعِيدُهُ بعد إعدامه. وَعْداً منصوب ب نُعِيدُهُ، أو بفعل مقدر تأكيدا ل نُعِيدُهُ أي وعدناه وعدا. عَلَيْنا أي علينا إنجازه. إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ ما وعدنا ذلك لا محالة.
إِنَّ فِي هذا القرآن أو ما ذكرناه من الأخبار والمواعظ والمواعيد. لَبَلاغاً كفاية في دخول الجنة. لِقَوْمٍ عابِدِينَ أي همهم العبادة دون العادة.
سبب النزول: نزول الآية (١٠١) :
إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى: أخرج الحاكم عن ابن عباس قال:
لما نزلت: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ، أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ قال ابن الزّبعرى: عبد الشمس والقمر والملائكة وعزير، فكل هؤلاء في النار مع آلهتنا، فنزلت: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ ونزلت: وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ، وَقالُوا: أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا، بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ [الزخرف ٤٣/ ٥٧- ٥٨].
المناسبة:
بعد بيان أحوال أهل النار وأهل الجنة، واقتراب الساعة، ذكر الله تعالى حال العابدين والمعبودين من دون الله، وأنهم سيكونون وقود جهنم، باستثناء أهل السعادة أو البشرى بالثواب.
التفسير والبيان:
إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ.. إنكم أيها المشركون بالله من عبدة الأصنام والأوثان وما تعبدون من غير الله، وقود جهنم، أنتم جميعا داخلون فيها، كما قال تعالى: فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ [البقرة ٢/ ٢٤].
ويشمل ما يعبدون من دون الله الأصنام وإبليس وأعوانه لأنهم بطاعتهم
لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ [الكافرون ١٠٩/ ٢] فهو محمول على الشيء، ونظيره هاهنا أن يقال: إنكم والشيء الذي تعبدون من دون الله، لكن لفظ الشيء لا يفيد العموم، فلا يرد سؤال ابن الزبعرى.
ويتضح سبب النزول المتقدم ودخول الشياطين في المعبودين بما يأتي:
روى محمد بن إسحاق في سيرته: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم دخل المسجد، وصناديد قريش في الحطيم «٢»، وحول الكعبة ثلاث مائة وستون صنما، فجلس إليهم، فعرض له النضر بن الحارث، فكلمه رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى أفحمه، ثم تلا عليهم: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ الآية، فأقبل عبد الله بن الزّبعرى، فرآهم يتهامسون، فقال فيم خوضكم؟ فأخبره الوليد بن المغيرة بقول رسول الله، فقال عبد الله: أما والله، لو وجدته لخصمته، فدعوه، فقال ابن الزّبعرى: أأنت قلت ذلك؟ قال: نعم، قال: قد خصمتك وربّ الكعبة، أليس اليهود عبدوا عزيرا، والنصارى عبدوا المسيح، وبنو مليح عبدوا الملائكة؟ فقال صلّى الله عليه وسلم: بل هم عبدوا الشياطين التي أمرتهم بذلك، فأنزل الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى الآية، يعني عزيرا والمسيح والملائكة عليهم السلام.
(٢) الحطيم: جدار حجر الكعبة أي حجر إسماعيل من ناحية الشمال.
ثم ذكر تعالى دليل كون المعبودين غير آلهة فقال:
لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها أي لو كان هؤلاء الأصنام وأشباههم آلهة صحيحة تنفع وتضر كما يظن العابدون ما دخلوا النار، إذ لو كانت تنفع وتضر لأبعدت الضر عن نفسها، فهي جديرة بالهجرة والإهانة.
وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ أي وكل من هؤلاء الآلهة المعبودين دائمون في عذاب النار، لا مخرج لهم منها.
لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ أي ولهم في النار من شدة العذاب وشدة الكرب والغم أنين وتنفس شديد يخرج من أقصى الجوف، كما قال تعالى:
لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ [هود ١٠/ ١٠٦] وهم لا يسمعون فيها ما يسرهم أو ينفعهم، بل يسمعون صوت من يتولى تعذيبهم من الزبانية.
وبعد بيان أحوال أهل النار، ذكر الله تعالى أحوال السعداء من المؤمنين فقال: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ أي إن الذين سبقت لهم من الله السعادة، وأسلفوا الأعمال الصالحة في الدنيا، فهم مبعدون عن دخول النار، وهم في الجملة: أهل السعادة أو البشرى بالثواب، أو التوفيق للطاعة، كما قال تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ [يونس ١٠/ ٢٦].
يروى أن عليا رضي الله عنه قرأ هذه الآية، ثم قال: أنا منهم، وأبو بكر،
وأوضاع نعيمهم هي:
١- لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها أي لا يسمعون صوت النار، وحريقها في الأجساد، ولا يصيبهم شررها.
٢- وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ أي وهم ماكثون أبدا فيما يشتهونه من نعيم الجنة ولذائذها. والشهوة: طلب النفس اللذة.
٣- لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ لا يخيفهم هول النفخة الثانية أو الأخيرة بعد قيامهم من قبورهم للحساب، كما قال تعالى: وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ، فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ [النمل ٢٧/ ٨٧]. وقيل بغير ذلك كما تقدم في بيان المفردات. والأصح: أنه أهوال يوم القيامة والبعث.
٤- وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ: هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ أي وتستقبلهم الملائكة تقول لهم وتبشرهم يوم معادهم إذا خرجوا من قبورهم: هذا يومكم الذي وعدتم به في الدنيا، يوم المسرة والكرامة والمثوبة والحسنى.
وذلك التلقي والاستقبال هو كما قال تعالى:
يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ أي لا يحزنهم الفزع الأكبر يوم نطوي السماء، أو تتلقاهم الملائكة يوم نطوي السماء يوم القيامة كما يطوى السجل، أي الصحيفة للكتابة فيه، وهذا موقف آخر فيه روع وخوف وحيرة، كما قال تعالى: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ، وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ، وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ، سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر ٣٩/ ٦٧].
كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ، وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ أي أن هذا الطي
إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ أي قادرين على أن نفعل ذلك.
ونظير الآية: وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الأنعام ٦/ ٩٤]، وقوله: عُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ
[الكهف ١٨/ ٤٨].
ثم أخبر الله تعالى عما قضاه لعباده الصالحين من السعادة في الدنيا والآخرة، ووراثة الأرض في الدنيا والآخرة، فقال:
وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ.. أي ولقد قضينا قضاء محتما في كتاب الزبور بعد التوراة أو القرآن أن وراثة الأرض في الدنيا والآخرة لا تكون إلا للعباد الصالحين وهم المؤمنون العاملون بطاعة الله تعالى.
والذّكر: التوراة، وقال ابن عباس: القرآن، وقيل: إنه أم الكتاب يعني اللوح المحفوظ، فهو اسم لجنس ما أنزل على الأنبياء من الكتب.
والأرض: إما أرض الجنة، كما قال تعالى: وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ، فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ [الزمر ٣٩/ ٧٤]. وإما أرض الدنيا، وأهلها الصالحون لعمارتها، كما قال تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ [النور ٢٤/ ٥٥]، وقال سبحانه: قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ: اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا، إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ، يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ، وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف ٧/ ١٢٨]. وإما الأرض المقدسة يرثها الصالحون، كما قال تعالى: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها [الأعراف ٧/ ١٣٧].
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- إن المشركين بالله والآلهة التي عبدوها من دون الله من الأصنام والأوثان والشياطين وقود جهنم، هم جميعا داخلون فيها، إظهارا لعدم فائدة عبادتها، وزيادة لعابديها في الغم والحسرة، وإيجاد الكراهية الشديدة لها، وإمعانا في السخرية منهم ومن عبادتهم، وإقامة الحجة القاطعة على قدرة الله الشاملة لكل شيء.
وقد استدل الأصوليون بقوله تعالى: وَما تَعْبُدُونَ على القول بالعموم وأن له صيغا مخصوصة بدليل الاستثناء منها.
٢- الدليل على إبطال صفة الألوهية لتلك الآلهة المزعومة أنه لو كانت الأصنام وأمثالها آلهة لما ورد عابدوها النار، ولما خلدوا هم والمعبودون فيها.
٣- أحوال المعذبين النفسية في النار غريبة وشديدة، فلهؤلاء الذين وردوا النار من الكفار والشياطين زفير: وهو صوت المغموم الذي يخرج من القلب، ولا يسمعون ما يسرهم، بل ما يسوؤهم من أصوات الزبانية الذين يتولون تعذيبهم.
٤- إن أهل السعادة والتوفيق للطاعة والبشرى بالثواب مبعدون عن دخول النار.
وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ، وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ
[فصلت ٤١/ ٣١].
ولا يحزنهم الفزع الأكبر الذي يصيب غيرهم وهو أهوال يوم القيامة والبعث، وتستقبلهم الملائكة على أبواب الجنة يهنئونهم ويقولون لهم: هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ فما أجمل هذا الاستقبال والترحاب الحار الصادق، وما أحسنه اطمئنانا وإسعادا للنفس!! ٥- الثابت في هذه الآية: يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ وغيرها على أن السموات والأرض تتبدل يوم القيامة، كما قال تعالى: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ [إبراهيم ١٤/ ٤٨].
٦- والثابت أيضا أن الله تعالى سيحشر الناس من قبورهم ويعيدهم خلقا جديدا أحياء، كما خلقهم في المرة الأولى يوم بدئوا بالخلق في البطون.
روى النسائي عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «يحشر الناس يوم القيامة عراة غرلا- غير مختونين- أوّل الخلق يكسى يوم القيامة إبراهيم عليه السلام، ثم قرأ:
كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ».
وأخرجه مسلم أيضا عن ابن عباس قال: قام فينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم بموعظة فقال: «يا أيها الناس، إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلا كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ، وَعْداً عَلَيْنا، إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ ألا وإن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم عليه السلام».
٧- المقرر في جميع الكتب السماوية المنزلة أن أرض الجنة في الآخرة، وكذا الأرض في الدنيا- كما يفهم من إطلاق الآية- يرثها عباد الله الصالحون.
والصالحون للآخرة هم المؤمنون العاملون بطاعة الله، والصالحون للدنيا: من يصلح لعمارتها والقيام بحقها.
نبي الرحمة المهداة
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ١٠٧ الى ١١٢]
وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (١٠٧) قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٨) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ (١٠٩) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ (١١٠) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (١١١)
قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (١١٢)
الإعراب:
عَلى سَواءٍ إما منصوب على أنه صفة مصدر محذوف، وتقديره: آذنتكم إيذانا على سواء، وإما في موضع نصب على الحال من الفاعل والمفعول في آذَنْتُكُمْ وهما التاء والكاف والميم، مثل قول الشاعر:
«فلئن لقيتك خاليين لتعلمن» فنصب خاليين على الحال من ضمير الفاعل والمفعول في «لقيتك».
البلاغة:
فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ استفهام يراد به الأمر، أي أسلموا كما في الآية المتقدمة: فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ أي فاشكروا [الأنبياء ٢١/ ٨٠].
وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ أي وما أرسلناك يا محمد إلا للرحمة بالعالمين: الإنس والجن لأن ما بعثت به سبب لإسعادهم، وموجب لصلاح معاشهم ومعادهم.
قُلْ: إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ أي ما يوحى إلى في أمر الإله إلا وحدانيته، فهو الإله الواحد لأن المقصود الأصلي من بعثته مقصور على التوحيد، فكلمة إِنَّما الأولى لقصر الحكم على الشيء، والثانية على العكس. فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ منقادون خاضعون لما يوحى إلي من وحدانية الإله. والاستفهام بمعنى الأمر، أي أسلموا وأخلصوا العبادة لله تعالى على مقتضى الوحي.
فَإِنْ تَوَلَّوْا أعرضوا عن ذلك. آذَنْتُكُمْ أعلمتكم ما أمرت به، وكثر استعماله في الإنذار، كما قال تعالى: فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [البقرة ٢/ ٢٧٩].
عَلى سَواءٍ أي مستوين في علمه، أي أنا وأنتم في العلم بما أعلمتكم به أو في الحرب والمعاداة. وَإِنْ أَدْرِي أي ما أدري. ما تُوعَدُونَ من العذاب أو من غلبة المسلمين عليكم أو من القيامة والحشر، فذلك كائن لا محالة، وإنما يعلمه الله. إِنَّهُ يَعْلَمُ إنه تعالى. الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ أي ومن الفعل، منكم ومن غيركم من الطعن في الإسلام. وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ أي وما أدري لعل تأخير عذابكم استدراج لكم، وزيادة في الامتحان والاختبار. لَكُمْ ليرى كيف صنعكم. وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ وتمتع إلى أجل مقدر تقتضيه مشيئته.
رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ أي اقض بيني وبين مكذبيّ كأهل مكة بالعدل، أي بتعجيل العذاب لهم أو النصر عليهم، فعذبوا ببدر وأحد وحنين والأحزاب أو الخندق، ونصره الله عليهم. تَصِفُونَ أي أن الله هو كثير الرحمة على خلقه، المطلوب منه المعونة على ما تصفون من الحال بأن الشوكة تكون لهم، وبكذبكم على الله باتخاذه ولدا، وعلي بأني ساحر، وعلى القرآن بأنه شعر.
المناسبة:
بعد بيان قصص الأنبياء المتقدمين عليهم، وبعد الاعلام بأن القرآن بلاغ ومنفعة وكفاية للعابدين، أخبر الله تعالى عن سبب بعثة النبي صلّى الله عليه وسلم وهو أنه رحمة للعالمين في الدين والدنيا، أما في الدين فبتخليصهم من الجاهلية والضلالة، وأما في الدنيا فبالتخليص من كثير من الذل والقتال والحروب، والنصر والعلو ببركة دينه. وأما مجيئه بالسيف أيضا فهو لتأديب من استكبر وعاند، ولم يتفكر ولم يتدبر، كما أن الله رحمن رحيم، وهو أيضا منتقم من العصاة.
وَما أَرْسَلْناكَ.. أي وما أرسلناك يا محمد بشريعة القرآن وهديه وأحكامه إلا لرحمة جميع العالم من الإنس والجن في الدنيا والآخرة، فمن قبل هذه الرحمة، وشكر هذه النعمة، سعد في الدنيا والآخرة، ومن ردّها وجحدها، خسر الدنيا والآخرة. وقيل: كونه رحمة للكفار: أنهم أمنوا به من الخسف والمسخ وعذاب الاستئصال.
قال تعالى مبينا خسارة الجاحدين: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً، وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ، جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ [إبراهيم ١٤/ ٢٨- ٢٩].
وقال سبحانه في صفة القرآن: قُلْ: هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ، وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ، وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى، أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ [فصلت ٤١/ ٤٤]. وقال صلّى الله عليه وسلم- فيما رواه مسلم عن أبي هريرة: «إني لم أبعث لعانا، وإنما بعثت رحمة» ورواه الحاكم بلفظ: «إنما أنا رحمة مهداة».
ثم أمر الله رسوله أن يقول للمشركين بما يكون إعذارا وإنذارا في مجاهدتهم:
قُلْ: إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ أي قل يا محمد لمشركي مكة ولكل إنسان: ما يوحى إلي شيء في شأن الإله إلا أنه إله واحد لا شريك له، فاعبدوه وحده، وأسلموا له وانقادوا، وأطيعوني واتبعوني على ذلك.
فَإِنْ تَوَلَّوْا، فَقُلْ: آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ أي فإن أعرضوا وتركوا ما دعوتهم إليه، فقل: أعلمتكم أني حرب لكم، كما أنكم حرب لي، وأنا بريء منكم، كما أنتم برآء مني، كقوله تعالى: وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ: لِي عَمَلِي، وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ، أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ [يونس ١٠/ ٤١]، وقوله سبحانه:
وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً، فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ [الأنفال ٨/ ٥٨] أي ليكن
وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ أي إن ما توعدون من العذاب وغلبة المسلمين عليكم واقع كائن لا محالة، ولكن لا علم لي بقربه ولا ببعده.
إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ، وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ أي إن الله يعلم الغيب جميعه، ويعلم ما يظهره العباد وما يسرون، يعلم ما تجهرون به من الطعن في الإسلام، وما تضمرونه من الحقد والكيد على المسلمين، وسيجزيكم على قليل ذلك وكثيره.
وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ أي وما أدري لعل تأخير العذاب عنكم ابتلاء واختبار لكم، وتمتع بلذات الدنيا إلى أجل مسمى، لينظر كيف تعملون.
قالَ: رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ أي قال النبي: ربنا افصل بيننا وبين قومنا المكذبين بالحق والعدل، فقولك الحق، وأنت الحق، ووعدك الحق، وحكمك بالحق، ولا تحب إلا الحق. قال قتادة: كانت الأنبياء عليهم السلام يقولون:
رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ [الأعراف ٧/ ٨٩] وأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يقول ذلك.
وروى مالك عن زيد بن أسلم: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا شهد غزاة قال: رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ.
وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ أي والله ربنا هو المطلوب منه العون على ما تصفون من الشرك والكفر، والكذب والباطل، وهو القول: بأن لله ولدا، وأني ساحر شاعر، وأن القرآن شعر، وعلى ما تطمعون أن تكون الشوكة والغلبة لكم.
فقه الحياة أو الأحكام:
في اختتام سورة الأنبياء بهذه الآيات دلالات ظاهرة وحجة بينة على الحق الأبلج وهي:
١- إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم خاتم النبيين الذي توج الله برسالته رسالات الأنبياء المتقدمين رحمة لجميع الناس، فمن آمن به، وصدّق بدعوته، سعد، ومن لم يؤمن به سلم في الدنيا مما لحق الأمم من الخسف والمسخ والغرق وعذاب الاستئصال، وخسر الآخرة خسرانا مبينا.
٢- جميع رسالات الأنبياء ورسالة خاتمهم أيضا لا يوحى فيها شيء في شأن الإله إلا التوحيد والوحدانية، فلا يجوز الإشراك به، فهل أنتم أيها البشر قاطبة منقادون لتوحيد الله تعالى، أي فأسلموا تسلموا.
٣- إن أعرض المشركون والكفار عن رسالة الإسلام فقد تمّ إنذارهم وإعذارهم، وتمّ إعلامهم ألّا لقاء بين الإيمان والكفر، وألّا صلح بين المسلمين والكفار، وأن الحرب والعداوة مستمرة بين الفريقين، ولكن لا يشترط أن تكون حربا مستعرة وقتالا دائرا، وإنما ذلك إعلان قاطع عما يكنّ في أصائل قلوب المؤمنين من إنكار قلبي لمختلف ألوان الكفر، دون مهادنة ولا رضا، ولا إقرار لأي شيء من أوضاع الكفر الفاسدة.
٤- إن أجل العذاب ويوم القيامة لا يدريه أحد، لا نبي مرسل، ولا ملك مقرّب.
٥- الله تعالى عالم الغيب والشهادة، والسر والجهر، والباطن والظاهر
وربما كان الإمهال بالعذاب اختبارا ليرى ما يصنعون، والله أعلم بما يفعلون، وربما كان عدلا وفضلا تأخير العذاب ليتمتع الكفار بلذائذ وشهوات الدنيا، ثم يحرموا منها في الآخرة.
٦- عقيدة المؤمن الصادق الإيمان لها محوران في أزمات الاحتكاك مع الكفار، المحور الأول- هو تفويض الأمر إلى الله وتوقع الفرج من عنده، وهذا ما أمر به الله تعالى نبيه صلّى الله عليه وسلم بقوله: قالَ: رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ أي احكم بيني وبين هؤلاء المكذبين وانصرني عليهم. والمحور الثاني- هو الاستعانة بالله القوي الغالب، وهذا ما ختمت به السورة: وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ أي ما تصفونه من الكفر والتكذيب، والطمع في الغلبة على أهل الإيمان.
٧- يقوم شرع الله ودينه على عقيدة التوحيد الخالص من شوائب الشرك، وعلى العدل والقسط، فالله سبحانه يقضي بالحق، وينصر أهل الحق والإيمان بالله، ويخذل الظلمة والكفار، ويدحر الظلم وأهله، ويعين المظلوم، وينصر الضعيف، وينتصف للفقير من الغني، ويسوي بين الخصمين، ولو كان أحدهما مسلما والآخر كافرا، ويدعو إلى الرحمة والإحسان، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، وهذه هي أصول الحضارة الصحيحة، ونواة (الديمقراطية) السديدة، فلا تعصب فيه، ولا ظلم، ولا جهل، ولا فوضى، وإنما العلم والمعرفة والوعي منهاج الحياة الإسلامية، وطريق الدعوة القرآنية، ومصباح العالم كله.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة الحجمدنية، وهي ثمان وسبعون آية.
تسميتها:
سميت سورة الحج لإعلان فريضة الحج فيها على الناس، على لسان إبراهيم الخليل عليه السلام: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ بعد بناء البيت العتيق، فأذن، فبلغ صوته أنحاء الأرض، وأسمع النطف في الأصلاب والأجنة في الأرحام، وأجابوا النداء: «لبيك اللهم لبيك».
صلتها بما قبلها:
هناك تناسب وارتباط بين بداية هذه السورة، وخاتمة السورة السابقة، فقد ختم الله سورة الأنبياء ببيان اقتراب الساعة ووصف أهوالها في قوله:
وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ، فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا وافتتح هذه السورة بقوله: إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ، يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ.
وفي السورة المتقدمة بيان قصص أكثر من عشرة من الأنبياء تدور على ما قاموا به من إثبات توحيد الله، ونبذ الشرك، والإيمان بالبعث، وفي هذه السورة استدلال بخلق الإنسان بأطواره المتعددة وبإبداع السموات والأرض على قدرة الله على إحياء البشر للبعث، وعلى وجوده تعالى ووحدانيته، ثم تنبيه الأفكار على الالتفات لأحوال أهل القرى الظالمة التي أهلكها الله، والاتعاظ بها بسبب تكذيبهم الرسل.
بالرغم من أن هذه السورة مدنية تضمنت الكلام عن فرضية الحج ومناسكه، وعن مشروعية القتال ومقومات النصر، فإنها تحدثت عن أمور مشابهة لموضوعات السور المكية من الإيمان بالله عزّ وجلّ وتوحيده، والبعث والاستدلال عليه، والجزاء على الأعمال.
افتتحت السورة بما يهز المشاعر، وينشر الرعب والخوف من أهوال الساعة، وشدائد يوم القيامة.
ثم انتقلت إلى بيان أدلة البعث، وإتيان القيامة، وبيان بعض مشاهدها من جعل الأبرار في دار النعيم، وزجّ الكفار في نار الجحيم، وإعلان خسارة المنافقين المضطربين الذين لا يعرف لهم قرار ولا اتجاه. ثم أبانت حرمة المسجد الحرام، وفرضية الحج ومنافعه، وحرماته وشعائره، ومناسكه وذبائحه، وأردفت ذلك بالحديث المقنع عن أسباب فرضية القتال، ومقومات النصر على الأعداء، مع تسلية الرسول صلّى الله عليه وسلم عما ناله من أذى قومه، وتكذيبهم له، والتعريف بحال أهل القرى الظالمة التي أهلكها الله، وجعل العاقبة للمتقين، وتحديد مهمة النبي صلّى الله عليه وسلم وهي الإنذار مكذبي القرآن بالنار، وتبشير المؤمنين الذين يعملون الصالحات بالجنة والنعيم، وإظهار مدى فضل الله على المهاجرين وإثابتهم.
واقتضت الحكمة بعدئذ الكلام عن أدلة القدرة الإلهية من خلق الليل والنهار، والسماء والأرض، والإحياء والإماتة، والعلم الشامل لجميع مكنونات الكون، وتفرد الله تعالى بالحساب والفصل والحكم بين الناس. ثم بيان مدى تبرم الكفار بآيات الله، وإظهار الغضب على وجوههم، وتحديهم بأن معبوداتهم من الأصنام وغيرها لا تستطيع خلق ذبابة، فضلا عن خلق الإنسان، وأن منشأ