مكية، قال الرازي بإجماع : وهي مائة وإحدى أو ثنتا عشرة آية وألف ومائة وستون كلمة وأربعة آلاف وثمان وتسعون حرفاً.
﴿ بسم الله ﴾ الحكم العدل الذي تمت قدرته وعمّ أمره ﴿ الرحمن ﴾ الذي ساوى بين خلقه في رحمة إيجاده ﴿ الرحيم ﴾ الذي نجى من شاء من عباده في معاده قال أبو جعفر بن الزبير في برهانه لما تقدم قوله تعالى :﴿ ولا تمدن عينيك ﴾ [ الحجر، ٨٨ ] إلى قوله :﴿ فستعلمون من أصحاب الصراط السوي ومن اهتدى ﴾ [ طه، ١٣٥ ].
ﰡ
قال تعالى :
﴿ اقترب ﴾ أي : قرب
﴿ للناس حسابهم ﴾ أي : في يوم القيامة أي : فلا تمدن عينيك إلى ذلك فإني جعلته فتنة، وأشار بصيغة الافتعال إلى مزيد القرب ؛ لأنه لا أمة بعد هذه ينتظر أمرها، وأخر الفاعل تهويلاً لتذهب النفس في تعيينه كل مذهب فإن قيل : كيف وصف ذلك اليوم بالاقتراب وقد عدت دون هذا القول أكثر من تسعمائة عام أجيب بأنه مقترب عند الله، والدليل عليه قوله تعالى :
﴿ ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون ﴾ [ الحج، ٤٧ ] ولأن كل آت، وإن طالت أوقات استقباله وترقبه قريب وإنما البعيد هو الذي وجد وانقرض قال الشاعر :
فلا زال ما تهواه أقرب من غد | ولا زال ما تخشاه أبعد من أمس |
ولأنّ ما بقي من الدنيا أقصر وأقل مما سلف منها بدليل انبعاث خاتم النبيين صلوات الله وسلامه عليه الموعود ببعثه في آخر الزمان، وقال :
«بعثت أنا والساعة كهاتين »، وأشار بإصبعيه وقال صلى الله عليه وسلم :
«ختمت النبوة بي » كل ذلك لأجل أن الباقي من مدة التكليف أقل من الماضي، وعن ابن عباس أن المراد بالناس المشركون وهو من إطلاق اسم الجنس على بعضه للدليل القائم، وهو ما يتلوه من صفات المشركين، وهو قوله تعالى :
﴿ وهم ﴾ أي : والحال أنهم
﴿ في غفلة ﴾ أي : عن الحساب
﴿ معرضون ﴾ عن التأهب لهذا اليوم لا يتفكرون في عاقبتهم، ولا يتفطنون لما يرجع إليه خاتمة أمرهم مع اقتضاء عقولهم أنه لا بد من جزاء المحسن والمسيء، وأيضاً إن هذه الآية نزلت في كفار مكة.
ولما أخبر تعالى عن غفلتهم وإعراضهم دلّ على ذلك بقوله :﴿ ما يأتيهم ﴾ وأغرق في النفي بقوله :﴿ من ذكر ﴾ أي : وحي ينبههم عن سنة الغفلة والجهالة، وقوله تعالى :﴿ من ربهم ﴾ صفة ذكر أوصلة ليأتيهم ﴿ محدث ﴾ إنزاله أي : ما يحدث الله تعالى من تنزيل شيء من القرآن يذكرهم ويعظهم به، وبهذا سقط احتجاج المعتزلة بأن القرآن حادث لهذه الآية، وقيل : معناه أن الله تعالى يحدث الأمر بعد الأمر، فينزل الآية بعد الآية والسورة بعد السورة في وقت الحاجة لبيان الأحكام وغيرها من الأمور والوقائع، وقيل : الذكر المحدث ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم وبيّنه من السنن والمواعظ سوى ما في القرآن، وإضافه إليه ؛ لأن الله تعالى قال :﴿ وما ينطق عن الهوى ٣ إن هو إلا وحي يوحى ﴾ [ النجم : ٣، ٤ ] ﴿ إلا استمعوه ﴾ أي : قصدوا إسماعه وهو أجد الجد وأحق الحق ﴿ وهم ﴾ أي : والحال أنهم ﴿ يلعبون ﴾ أي : يفعلون فعل اللاعبين بالاستهزاء والسخرية لتناهي غفلتهم وفرط إعراضهم عن النظر في الأمور، والتفكر في العواقب.
﴿ لاهية ﴾ أي : غافلة معرضة ﴿ قلوبهم ﴾ عن ذكر الله.
تنبيه قوله تعالى : وهم يلعبون لاهية قلوبهم حالان مترادفتان، أو متداخلتان، ولما ذكر تعالى ما يظهرونه في حالة الاستماع من اللهو واللعب ذكر ما يخفونه بقوله تعالى عطفاً على استمعوه :﴿ وأسروا ﴾ أي : الناس المحدّث عنهم ﴿ النجوى ﴾ أي : بالغوا في إسرار كلامهم، وقوله تعالى :﴿ الذين ظلموا ﴾ بدل من واو وأسروا للإيماء بأنهم ظالمون فيما أسروا به أو مبتدأ والجملة المتقدمة خبره، والمعنى : وهؤلاء أسروا النجوى، فوضع المظهر موضع المضمر تسجيلاً على فعلهم بأنه ظلم، وقيل : جاء على لغة من قال : أكلوني البراغيث وقيل : منصوب المحل على الذم، ثم بيّن تعالى ما تناجوا به بقوله تعالى :﴿ هل ﴾ أي : فقالوا في تناجيهم هذا، معجبين من ادعائه النبوّة مع مماثلته لهم في البشرية هل ﴿ هذا ﴾ الذي أتاكم بهذا الذكر ﴿ إلا بشر مثلكم ﴾ أي : في خلقه وأخلاقه من الأكل والشرب، والحياة والممات، فكيف يختص عنكم بالرسالة ما هذا الذي جاءكم به مما لا تقدرون على مثله إلا سحر لا حقيقة له، فحينئذٍ تسبب عن هذا الإنكار قولهم :﴿ أفتأتون السحر وأنتم ﴾ أي : والحال أنكم ﴿ تبصرون ﴾ بأعينكم أنه بشر مثلكم، فكأنهم استدلوا بكونه بشراً على كذبه في ادعاء النبوة و الرسالة لاعتقادهم أن الرسول لا يكون إلا ملكاً، واستلزموا منه أن ما جاء به من الخوارق كالقرآن سحر، فأنكروا حضوره.
فإن قيل : لم أسروا هذا الحديث وبالغوا في إخفائه أجيب : بأن ذلك كان يشبه التشاور فيما بينهم، والتحاور في طلب الطريق إلى هدم أمره، وعادة المتشاورين في خطب أن لا يشركوا أعداءهم في مشورتهم، و يجتهدوا في طي سرهم عنهم ما أمكن واستطيع.
ومنه قول الناس :" استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان "، قال البقاعي : فيالله العجب من قوم رأوا ما أعجزهم، فلم يجوزوا أن يكون ذلك عن الرحمن الداعي إلى الفوز بالجنان، وجزموا أنه من الشيطان الداعي إلى الهوان باصطلاء النيران والعجب أيضاً أنهم أنكروا الاختصاص بالرسالة مع مشاهدتهم بما يخص الله تعالى به بعض الناس عن بعض من الذكاء والفطنة، وحسن الخلائق والأخلاق والقوة والصحة، وطول العمر وسعة الرزق ونحو ذلك انتهى، ولا عجب فإنها عقول أضلها باريها.
ثم كأنه قيل : فإذا يقال لهؤلاء فقال :﴿ قال ﴾ لهم :﴿ ربي ﴾ المحسن إلي ﴿ يعلم القول ﴾ سواء كان سراً أم جهراً كائناً ﴿ في السماء والأرض ﴾ على حد سواء ؛ لأنه لا مسافة بينه وبين شيء من ذلك ﴿ وهو السميع العليم ﴾، فلا يخفى عليه ما يسرون ولا ما يضمرون.
فإن قيل : هلا قيل يعلم السر لقوله تعالى :﴿ وأسروا النجوى ﴾ [ طه، ٦٢ ] أجيب بأن القول عام يشمل السر والجهر، فكان في العلم به العلم بالسر وزيادة، فكان آكد في بيان الاطلاع على نجواهم من أن يقول : يعلم السر كما أن قوله : يعلم السر آكد من أن يقول يعلم سرهم.
فإن قيل : لم ترك هذا الآكد في سوره الفرقان في قوله تعالى :﴿ قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض ﴾ [ الفرقان، ٦ ]، ولم يقل : يعلم القول كما هنا ؟ أجيب : بأنه ليس بواجب أن يأتي بالآكد في كل موضع، ولكن يجيء بالوكيد تارة وبالآكد تارة أخرى، كما يجيء بالحسن في موضع وبالأحسن في غيره ليفتن الكلام افتتاناً، ويجمع الغاية وما دونها، على أن أسلوب تلك الآية خلاف أسلوب هذه من قبل أنه قدم هاهنا أنهم أسروا النجوى، فكأنه أراد أن يقول : إنّ ربي يعلم ما أسروه، فوضع القول موضع ذلك للمبالغة، وثم قصد وصف ذاته بأنه أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض، فهو كقوله تعالى :﴿ علام الغيوب ﴾ [ المائدة، ١٠٩ ] ﴿ عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة ﴾ [ سبأ، ٣ ]، وقرأ حفص وحمزة والكسائي قال بصيغة الماضي بالإخبار عن الرسول والباقون قل بصيغة الأمر.
ثم إنه تعالى بيّن أنّ المشركين اقتسموا القول في النبي صلى الله عليه وسلم وفيما يقوله بقوله تعالى :
﴿ بل قالوا ﴾ أي : قال بعضهم هذا الذي قال لكم :﴿ أضغاث أحلام ﴾ أي : أخلاط أحلام رآها في النوم، وقال بعضهم :﴿ بل افتراه ﴾ أي : اختلقه من عند نفسه، ونسبه إلى الله تعالى، وقال بعضهم :﴿ بل هو ﴾ أي : النبي صلى الله عليه وسلم ﴿ شاعر ﴾ فما جاءكم به شعر، والشاعر يخيل ما لا حقيقة له لغيره، أو أنهم كلهم أضربوا عن قولهم : هو سحر إلى أنه تخاليط أحلام، ثم إلى أنه كلام مفترى من عنده، ثم إلى أنه قول شاعر، وهكذا المبطل متحير رجاع غير ثابت على قول واحد ؛ قال الزمخشري : ويجوز أن يكون تنزيلاً من الله تعالى لأقوالهم في درج الفساد، وأن قولهم الثاني أفسد من الأول، والثالث أفسد من الثاني، وكذا الرابع أفسد من الثالث.
ثم إنهم لما قدحوا في أعظم المعجزات طلبوا آية غيره، فقالوا :﴿ فليأتنا ﴾ دليلاً على رسالته ﴿ بآية كما ﴾ أي : مثل ما ﴿ أرسل الأولون ﴾ بالآيات كتسبيح الجبال وتسخير الريح وتفجير الماء، وإحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص وصحة التشبيه من حيث إن الإرسال يتضمن الإتيان بالآية قال الله تعالى مجيباً لهم :﴿ ما آمنت قبلهم ﴾
﴿ ما آمنت قبلهم ﴾ أي : قبل مشركي مكة ﴿ من قرية ﴾ أي : من أهل قرية أتتهم الآيات ﴿ أهلكناها ﴾ باقتراح الآيات لما جاءتهم ﴿ أفهم يؤمنون ﴾ أي : لو جئتهم بها وهم أغنى منهم، وفيه دليل على أن عدم الإتيان بالمقترح للإبقاء عليهم إذ لو أتى به لم يؤمنوا، واستوجبوا عذاب الاستئصال كمن قبلهم.
ولما بيّن تعالى بطلان ما اقترحوا به في رسوله صلى الله عليه وسلم بكونه بشراً قال تعالى عاطفاً على آمنت مجيباً عن قولهم :﴿ هل هذا إلا بشر مثلكم ﴾ :﴿ وما أرسلنا قبلك ﴾ أي : في جميع الزمان الذي تقدّم زمانك في جميع طوائف البشر ﴿ إلا رجالاً ﴾ أي : لم نرسل الملائكة إلى الأولين إنما أرسلنا رجالاً ﴿ نوحي إليهم ﴾ مثلك ثم إنه تعالى أمر المشركين أن يسألوا أهل الكتاب بقوله تعالى :﴿ فاسألوا أهل الذكر ﴾ وإنما أحالهم على هؤلاء لأنهم كانوا لا ينكرون أن الرسل كانوا بشراً، وإن أنكروا نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم وقيل : المراد بالذكر القرآن، أي : فاسألوا المؤمنين العالمين من أهل القرآن، وقرأ ابن كثير والكسائي بفتح السين، ولا همزة بعدها، وكذا يفعل حمزة في الوقف، والباقون بسكون السين وهمزة مفتوحة بعدها، ثم نبّه تعالى على أنهم غير محتاجين فيه إلى السؤال بما قد كان بلغهم على الإجمال من أحوال موسى وعيسى وإبراهيم وإسماعيل وغيرهم عليهم السلام بقوله تعالى معبراً بأداة الشك محركاً لهم على المعالي ﴿ إن كنتم ﴾ أي : بجبلاتكم ﴿ لا تعلمون ﴾ أي : لا أهلية لكم في اقتناص علم بل كنتم أهل تقليد محض، وتبع صرف.
ولما بيّن تعالى أنه صلى الله عليه وسلم على سنة من مضى من الرسل في كونه رجلاً بيّن أنه على سنتهم في جميع الأوصاف التي حكم بها على البشر في العيش والموت، فنبه على الأول بقوله تعالى :﴿ وما جعلناهم ﴾ أي : الذين اخترنا بعثتهم إلى الناس ليأمروهم بأوامرنا ﴿ جسداً ﴾ أي : ذوي جسد ولحم ودم متصفين بأنهم ﴿ لا يأكلون الطعام ﴾ بل جعلناهم أجساداً يأكلون ويشربون، وليس ذلك بمانع من إرسالهم.
فائدة : قال ابن فارس في المجمل وفي كتاب الخليل : إن الجسد لا يقال لغير الإنسان، وتوحيد الجسد لإرادة الجنس كأنه قيل : ذوي ضرب من الأجساد، أو على حذف المضاف، أي : ذوي جسد كما مر، أو تأويل الضمير لكل واحد، وهو جسم ذو لون، قال البيضاوي : ولذلك أي : ولكون الجسد جسماً ذا اللون لا يطلق على الماء والهواء، وهو في الماء مبني على أنه لا لون له، وإنما يتلون بلون ظرفه أو مقاله ؛ لأنه جسم شفاف ؛ لكن قال الإمام الرازي : بل له لون ويرى، ومع ذلك لا يحجب عن رؤية ما وراءه، ثم نبه على الثاني بقوله تعالى :﴿ وما كانوا خالدين ﴾ أي : بأجسادهم، بل ماتوا كما مات الناس قبلهم وبعدهم، وإنما امتازوا عن الناس بما يأتيهم عن الله تعالى ورسولكم صلى الله عليه وسلم ليس بخالد، فتربصوا كما أشار إليه ختم طه، فإنه متربص بكم، وأنتم عاصون الملك الذي اقترب حسابه لخلقه وهو مطيع له.
﴿ ثم صدقناهم الوعد ﴾ أي : الذي وعدناهم بإهلاكهم، وهذا مثل قوله تعالى :﴿ واختار موسى قومه ﴾ [ الأعراف، ١٥٥ ] في حذف الجار والأصل في الوعد، ومن قومه ومنه صدقوهم القتال، وصدقني سنّ بكره والأصل في هذا المثل أن أعرابياً عرض بعيراً للبيع، فقال له المشتري : ما سنه ؟ قال : بكر، فاتفق أنه ند، فقال صاحبه هدع هدع، وهذه اللفظة مما يسكن بها صغار الإبل لا الكبار، فقال المشتري : صدقني سنّ بكره، وأعرض، فصار مثلاً.
تنبيه : أشار تعالى بأداة التراخي إلى أنهم طال بلاؤهم بهم، وصبرهم عليهم، ثم أحل بهم سطوته، وأراهم عظمته ﴿ فأنجيناهم ﴾ أي : الرسل ﴿ ومن نشاء ﴾ وهم المؤمنون أو من في إبقائه حكمة كمن سيؤمن هو أو واحد من ذريته، ولذلك حميت به العرب من عذاب الاستئصال، ﴿ وأهلكنا المسرفين ﴾ أي : المشركين ؛ لأن المشرك مسرف على نفسه.
﴿ لقد أنزلنا إليكم ﴾ يا معشر قريش ﴿ كتاباً ﴾ أي : القرآن ﴿ فيه ذكركم ﴾ أي : شرفكم ووصيتكم كما قال تعالى :﴿ وإنه لذكر لك ولقومك ﴾ [ الزخرف، ٤٤ ]، أو فيه مكارم الأخلاق التي كنتم تطلبون بها الثناء وحسن الذكر كحسن الجوار والوفاء بالعهد ودق الحديث وأداء الأمانة والسخاء وما أشبه ذلك، وقيل : فيه ذكر ما تحتاجون إليه من أمر دينكم، أو لأنه نزل بلغتكم، وقيل : فيه تذكرة لكم لتحذروا، فيكون الذكر بمعنى الوعد والوعيد ﴿ أفلا تعقلون ﴾ فتؤمنوا به، وفي ذلك حث على التدبر ؛ لأن الخوف من لوازم العقل.
﴿ وكم قصمنا ﴾ أي : أهلكنا ﴿ من قرية ﴾ أي : أهلها بغضب شديد ؛ لأن القصم أفظع الكسر، وهو الكسر الذي يبين تلاؤم الأجزاء بخلاف الفصم، وقوله تعالى :﴿ كانت ظالمة ﴾ أي : كافرة صفة لأهلها وصفت بها لما أقيمت مقامها، ثم بيّن الغنى عنها بقوله تعالى :﴿ وأنشأنا بعدها ﴾ أي : بعد إهلاك أهلها ﴿ قوماً آخرين ﴾ مكانهم،
ثم بيّن حالها عند إحلال البأس بها بقوله تعالى :﴿ فلما أحسوا ﴾ أي : أدرك أهلها بحواسهم ﴿ بأسنا ﴾ أي : عذابنا ﴿ إذا هم منا ﴾ أي : القرية ﴿ يركضون ﴾ هاربين منها مسرعين راكضين دوابهم لما أدركتهم مقدّمة العذاب والركض ضربة الدابة بالرجل، ومنه اركض برجلك، أو مشبهين بهم من فرط إسراعهم بعد تجبرهم على الرسل، وقولهم لهم : لنخرجنكم من أرضنا، أو لتعودن في ملتنا، فناداهم لسان الحال تقريعاً وتشنيعاً لحالهم.
﴿ لا تركضوا ﴾ أو المقال والقائل ملك أو من ثم من المؤمنين ﴿ وارجعوا ﴾ إلى قريتكم ﴿ إلى ما أترفتم ﴾ أي : تمتعتم ﴿ فيه ﴾ من التنعم والتلذذ والإتراف إبطار النعمة والترفه، ولما كان أعظم ما يؤسف عليه بعد العيش الناعم المسكن قال :﴿ ومساكنكم ﴾ أي : التي كنتم تفتخرون بها على الضعفاء بما أوسعتم من فنائها، وعليتم من بنائها، وحسنتم من مشاهدها ﴿ لعلكم تسألون ﴾ وفي هذا تهكم بهم وتوبيخ أي : ارجعوا إلى نعيمكم ومساكنكم لعلكم تسألون غداً عما يجري عليكم، وينزل بأموالكم ومساكنكم، فتجيبوا السائل عن علم ومشاهدة، أو ارجعوا، واجلسوا كما كنتم في مجالسكم وترتبوا في مراتبكم حتى يسألكم عبيدكم وحشمكم ومن تملكون أمره، وينفذ فيه أمركم ونهيكم، فيقولوا لكم بم تأمرون وماذا ترسمون، أو شيئاً من دنياكم على العادة، أو تسألون في الإيمان كما كنتم تسألون، فتأبوا بما عندكم من الأنفة والحمية والعظمة، أو في المهمات كما تكون الرؤساء في مقاعدهم العلية، ومراتبهم السنية، فيجيبون سائلهم بما شاؤوا.
ولما كان كأنه قيل : بم أجابوا هذا القائل ؟ قيل :﴿ قالوا ﴾ حين لا نفع لقولهم عند نزول البأس ﴿ يا ويلنا ﴾ إشارة إلى أنه حل بهم ؛ لأنه ينادي بيا القريب ترفقاً به كما يقول الشخص لمن يضربه : يا سيدي كأنه يستغيث به ليكف عنه، وذلك غباوة منهم، وعمى عن الذي أحله بهم ؛ لأنهم كالبهائم لا ينظرون إلا السبب الأقرب، ثم عللوا حلوله بهم تأكيداً لترفقهم بقولهم :﴿ إنا كنا ﴾ جبلة وطبعاً ﴿ ظالمين ﴾ حيث كذبنا الرسل، وعصينا أمر ربنا، فاعترفوا حيث لا ينفعهم الاعتراف لفوات محله، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن هذه القرية حَضور بفتح الحاء وبالضاد المعجمة، وهي وسحول قريتان قريبتان من اليمن تنسب إليهما الثياب، وفي الحديث :«كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثوبين سحوليين »، وروي حضوريين بعث الله لهم نبياً، فقتلوه، فسلط الله تعالى عليهم بختنصر كما سلطه الله على أهل بيت المقدس، فاستأصلهم، وروي أنه لما أخذتهم السيوف نادى منادٍ من السماء : يا لثأرات الأنبياء، وهي بفتح اللام، وبمثلثة وهمزة ساكنة أي : يا لأهل ثأراتهم أي : الطالبة بدمهم، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، فندموا وقالوا ذلك.
﴿ فما ﴾ أي : فتسبب عن إحلالنا بهم ذلك البأس أنه ما ﴿ زالت تلك ﴾ الدعوى البعيدة عن الخير والسلامة، وهي قولهم : يا ويلنا ﴿ دعواهم ﴾ يرددونها لا دعوى لهم غيرها ؛ لأن الويل ملازم لهم غير منفك عنهم، وترفقهم له غير نافعهم ﴿ حتى جعلناهم حصيداً ﴾ كالزرع المحصود بالمناجل بأن قتلوا بالسيف.
تنبيه : حصيد على وزن فعيل بمعنى مفعول، ولذلك لم يجمع ؛ لأنه يستوي فيه الجمع وغيره ﴿ خامدين ﴾ أي : ميتين كخمود النار إذا طفئت وصارت رماداً فإن قيل : كيف ينصب جعل ثلاثة مفاعيل أجيب بأنَّ حكم الاثنين الأخيرين حكم الواحد ؛ لأن معنى قولك : جعلته حلواً حامضاً جعلته جامعاً للطعمين، وكذلك معنى جعلناهم جامعين لمماثلة الحصد والخمود أو خامدين صفة لحصيداً أو حال من ضميره.
ثم نبههم سبحانه وتعالى على النظر في خلق السماوات وما بينهما ليعتبروا، فقال تعالى :﴿ وما خلقنا السماء ﴾ على علوِّها وإحكامها ﴿ والأرض ﴾ على عظمها واتساعها ﴿ وما بينهما ﴾ مما دبرناه لتمام المنافع من أصناف البدائع وغرائب الصنائع ﴿ لاعبين ﴾ أي : عابثين كما تسوّي الجبابرة سقوفهم وفرشهم، وسائر زخارفهم للهو واللعب، وإنما خلقناها مشحونة بضروب البدائع تبصرة للنظار، وتذكيراً لذوي الاعتبار، وتسبيباً لما ينتظم به أمر العباد في المعاش والمعاد.
ولما نفى عنه اللعب أتبعه دليله، فقال عز وجل :﴿ لو أردنا ﴾ أي : بما لنا من العظمة ﴿ أن نتخذ لهواً ﴾ أي : ما يتلهى به ويلعب، وقيل : هو الولد بلغة اليمن، وقيل : الزوجة والمراد الرد على النصارى ﴿ لاتخذناه من لدنا ﴾ أي : من عندنا مما يليق أن ينسب لحضرتنا من الحور العين والملائكة بما لنا تمام القدرة، وكمال العظمة ﴿ إن كنا فاعلين ﴾ ذلك لكنا لم نفعله ؛ لأنه لا يليق بجنابنا، فلم نرده.
وقوله تعالى :﴿ بل نقذف ﴾ أي : نرمي ﴿ بالحق ﴾ أي : الإيمان ﴿ على الباطل ﴾ أي : الكفر إضراب عن اتخاذ اللهو وتنزيه لذاته عن اللعب بل شأننا أن نرمي بالحق الذي من جملة الجد على الباطل الذي من عداد اللهو ﴿ فيدمغه ﴾ أي : يذهبه، واستعار لدحض الباطل بالحق القذف والدمغ تصويراً لإبطاله به، وإهداره ومحقه، فجعله كأنه جرم صلب كالصخرة، ووجه استعارة القذف والدمغ لما ذكر أن أصل استعمالهما في الأجسام، ثم استعير القذف لدحض الباطل بالحق والدمغ لإذهاب الباطل، فالمستعار منه حسيّ، والمستعار له عقليّ ﴿ فإذا هو ﴾ في الحال ﴿ زاهق ﴾ أي : ذاهب، والزهوق ذهاب الروح، وذكره لترشيح المجاز من إطلاق القذف على دحض الباطل، ثم عطف على ما أفادته إذا قوله تعالى :﴿ ولكم ﴾ أي : وإذا لكم أيها المبطلون ﴿ الويل ﴾ أي : العذاب الشديد ﴿ مما تصفون ﴾ الله تعالى به بما تهوى أنفسكم كالزوجة والولد.
تنبيه : ما إمّا مصدرية أو موصولة أو موصوفة، ولما حكى الله تعالى كلام الطاعنين في النبوات، وأجاب عنها بأن أغراضهم من تلك المطاعن التمرد، وعدم الانقياد بيّن بقوله تعالى :﴿ وله من في السماوات ﴾ أي : الأجرام العالية، وهي ما تحت العرش، وجمع السماء هنا لاقتضاء تفخيم الملك ذلك، ولما كانت عقولهم لا تدرك تعدّد الأرض وحدها، فقال :﴿ والأرض ﴾ أي : له ذلك خلقاً وملكاً أنه منزه عن طاعتهم ؛ لأنه هو المالك لجميع المحدثات والمخلوقات، وعبر بمن تغليباً للعقلاء، وقوله تعالى :﴿ ومن عنده ﴾ أي : وهم الملائكة بإجماع الأمة، ولأن الله تعالى وصفهم بأنهم يسبحون الليل والنهار لا يفترون، وهذا لا يليق بالبشر، مبتدأ خبره ﴿ لا يستكبرون عن عبادته ﴾ بنوع كبر طلباً ولا إيجاداً، وخصهم بالذكر لكرامتهم عليه تنزيلاً لهم منزلة المقرّبين عند الملك.
تنبيه : هذه العندية للشرف والرتبة لا عندية المكان والجهة، فكأنه تعالى قال : الملائكة مع كمال شرفهم وعلو مراتبهم، ونهاية جلالتهم لا يستكبرون عن عبادته، فكيف يليق بالبشر الضعيف التمرد عن طاعته ﴿ و ﴾ مع ذلك أيضاً ﴿ لا يستحسرون ﴾ أي : لا يعيون، وإنما جيء بالاستحسار الذي هو أبلغ من الحسور تنبيهاً على أن عبادتهم من ثقلها ودوامها حقيقة بأن يستحسر منها ولا يستحسرون، ولا يطلبون أن ينقطعوا عنها، فأنتج ذلك قوله تعالى :﴿ يسبحون ﴾.
﴿ يسبحون ﴾ أي : ينزهون المستحق للتنزيه بأنواع التنزيه من الأقوال والأفعال ﴿ الليل والنهار ﴾ أي : جميع آنائهما دائماً ﴿ لا يفترون ﴾ أي : عن ذلك وقتاً من الأوقات، فهو منهم كالنفس منا لا يشغلنا عنه شاغل.
ولما كانوا عند هذا البيان جديرين بأن يبادروا إلى التوحيد، فلم يفعلوا كانوا حقيقين بعد الإعراض عنهم بالتوبيخ والتهكم والتعنيف، فقال تعالى :﴿ أم اتخذوا ﴾ أي : بل اتخذوا، فأم بمعنى بل للانتقال والهمزة لإنكار اتخاذهم ﴿ آلهة من الأرض ﴾ ومعنى نسبتها إلى الإيذان بأنها الأصنام التي تعبد في الأرض ؛ لأن الآلهة على ضربين ؛ أرضية وسماوية، ومن ذلك حديث الأمة التي قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم «أين ربك ؟ فأشارت إلى السماء، فقال : إنها مؤمنة » ؛ لأنه فهم منها أن مرادها نفي الآلهة الأرضية التي هي الأصنام لا إثبات أن السماء مكان الله تعالى، ويجوز أن يراد آلهة من جنس الأرض ؛ لأنها إما أن تنحت من بعض الحجارة أو تعمل من بعض جواهر الأرض ﴿ هم ينشرون ﴾ أي : يحيون الموتى لا يقدرون على ذلك، وهم وإن لم يصرّحوا بذلك لزم من ادعائهم لها آلهة أنهم يقدرون على ذلك، فإنّ من لوازمها الاقتدار على جميع الممكنات، فالمراد به تجهيلهم والتهكم بهم، وللمبالغة في ذلك زيد الضمير الموهم لاختصاص الانتشار بهم.
ثم إنه سبحانه وتعالى أقام البرهان القطعي على نفي إله غيره ببرهان التمانع، وهو أشدّ برهان لأهل الكلام، فقال :﴿ لو كان فيهما ﴾ أي : السماوات والأرض أي : في تدبيرهما ﴿ آلهة إلا الله ﴾ أي : غير الله تعالى ﴿ لفسدتا ﴾ أي : لخرجتا عن نظامهما المشاهد لوجود التمانع بينهم على وفق العادة عند تعدّد الحاكم، وعن عبد الملك بن مروان حين قتل عمرو بن سعيد الأشدق كان والله أعز عليّ من دم ناظري، ولكن لا يجتمع فحلان في شول، وهذا ظاهر.
وأما طريقة التمانع فقال المتكلمون : القول بوجود إلهين مفضٍ إلى المحال لأنّا لو فرضنا وجود إلهين، فلا بدّ أن يكون كل واحد منهما قادراً على كل المقدورات، ولو كان كذلك لكان كل واحد منهما قادراً على تحريك زيد وتسكينه، ولو فرضنا أنّ أحدهما أراد تحريكه والآخر أراد تسكينه، فإمّا أن يقع المرادان وهو محال لاستحالة الجمع بين الضدّين، أو لا يقع واحد منهما، وهو محال ؛ لأنّ المانع من وجود مراد كل واحد منهما مراد الآخر، فلا يمتنع مراد هذا إلا عند وجود مراد ذلك وبالعكس، أو يقع مراد أحدهما دون الآخر، وذلك أيضاً محال ؛ لأنّ الذي وقع مراده يكون قادراً، والذي لم يقع مراده يكون عاجزاً، والعجز نقص، وهو على الإله محال، فثبت أن الفساد لازم على كل التقديرات، وإذا وقفت على حقيقة هذه الدلالة عرفت أنّ جميع ما في العالم العلوي والسفلي من المخلوقات دليل على أنّ وحدانية الله تعالى والدلائل السمعية على الوحدانية كثيرة في القرآن، ولما أفاد هذا الدليل أنه لا يجوز أن يكون المدبر للسموات والأرض إلا واحداً، وأن ذلك الواحد لا يكون إلا الله تعالى قال :﴿ فسبحان الله ﴾ أي : فتسبب عن ذلك تنزه المتصف بصفات الكمال ﴿ ربّ ﴾ أي : خالق ﴿ العرش ﴾ أي : الكرسي المحيط بجميع الأجسام الذي هو محل التدابير، ومنشأ التقادير ﴿ عما يصفون ﴾ أي : الكفار الله به من الشريك له وغيره.
ثم بيّن تعالى ذلك بقوله عز وجل :﴿ لا يسأل ﴾ أي : من سائل ما ﴿ عما يفعل ﴾ لعظمته وقوّة سلطانه، وإذا كانت عادة الملوك والجبابرة أن لا يسألهم من في مملكتهم عن أفعالهم وعما يوردون ويصدرون من تدبير ملكهم تهيباً وإجلالاً مع جواز الخطأ والزلل، وأنواع الفساد عليهم كان ملك الملوك ورب الأرباب خالقهم ورازقهم أولى بأن لا يسأل عن أفعاله مع ما علم واستقر في العقول من أن ما يفعله كله مفعول بدواعي الحكمة، ولا يجوز عليه تعالى الخطأ ﴿ وهم يسألون ﴾ لأنهم مملوكون مستعبدون خطاؤون، فما أخلقهم بأن يقال لهم : لم فعلتم ؟ في كل شيء فعلوه.
ولما قام الدليل ووضح السبيل واضمحلّ كل قال وقيل، وانمحقت الأباطيل كرّر تعالى :﴿ أم اتخذوا من دونه آلهة ﴾ كرّره استفظاعاً لشأنهم واستعظاماً لكفرهم، وإظهاراً لجهلهم، ولما كان جوابهم : اتخذنا ولا نرجع، أمر الله تعالى نبيه بجوابهم فقال :﴿ قل هاتوا برهانكم ﴾ على ما ادّعيتموه من عقل أو نقل كما أتيت أنا ببرهان النقل المؤيد بالعقل، ولما كان تعالى لا يؤاخذ بمخالفة العقل ما لم ينضمّ إليه دليل النقل أتبعه قوله مشيراً إلى ما بعث الله تعالى به الرسل من الكتب ﴿ هذا ذكر ﴾ أي : موعظة وشرف ﴿ من معي ﴾ ممن آمن بي وهو القرآن الذي عجزتم عن معارضته ﴿ وذكر ﴾ أي : وهذا ذكر ﴿ من قبلي ﴾ من الأمم الماضية وهو التوراة والإنجيل، وغيرهما من الكتب السماوية، فانظروا هل تجدون فيها إلا الأمر بالتوحيد والنهي عن الإشراك، ولما كانوا لا يجدون شبهة لهم فضلاً عن حجة ذمّهم الله تعالى على جهلهم بمواضع الحق فقال تعالى :﴿ بل أكثرهم ﴾ أي : هؤلاء المدّعون ﴿ لا يعلمون الحق ﴾ فلا يميزون بينه وبين الباطل بل أكثرهم جهلة، والجهل أصل الشرّ والفساد ﴿ فهم ﴾ أي : فتسبب عن جهلهم ما افتتحنا به السورة من أنهم ﴿ معرضون ﴾ عن التوحيد واتباع الرسل.
ولما كان الإرسال بالفعل غير مستغرق للزمان المتقدّم كما أنّ الرسالة لا يقوم بها كل واحد، فكذلك الإرسال لا يصلح له كل زمن أثبت الجار في قوله تعالى :﴿ وما أرسلنا من قبلك ﴾ وأغرق في النفي فقال :﴿ من رسول ﴾ في شيع الأوّلين ﴿ إلا نوحي إليه ﴾ من عندنا ﴿ أنه لا إله إلا أنا فاعبدون ﴾ وهذا مقرّر لما سبقه من آي التوحيد، وقال تعالى : إلا أنا، ولم يقل : نحن لئلا يجعلوا ذلك وسيلة إلى ما ادّعوه من تعدّد الآلهة، ولذلك قال : فاعبدون بالإفراد، وقرأ حفص وحمزة والكسائي بالنون وكسر الحاء، والباقون بالياء وفتح الحاء.
ولما بيّن سبحانه وتعالى بالدلائل الباهرة كونه منزهاً عن الشريك والضدّ والندّ أردف ذلك ببراءته عن اتخاذ الولد بقوله :﴿ وقالوا اتخذ ﴾ أي : تكلف كما يتكلف من لا يكون له ولد ﴿ الرحمن ﴾ أي : الذي كل موجود من فيض نعمه ﴿ ولداً ﴾ نزل في خزاعة حيث قالوا : الملائكة بنات الله، وقيل : نزل ذلك في اليهود حيث قالوا : إنه تعالى صاهر الجن، فكانت منهم الملائكة كما حكى الله تعالى عنهم قولهم، وجعلوا بينه وبين الجنة نسباً، ثم إنه سبحانه وتعالى نزه نفسه عن ذلك بقوله تعالى :﴿ سبحانه ﴾ أي : تنزه عن أن يكون له ولد، فإنّ ذلك يقتضي المجانسة بينه وبين الولد، ولا تصح مجانسة النعمة للمنعم الحقيقي ﴿ بل ﴾ أي : الذين جعلوهم له ولداً وهم الملائكة ﴿ عباد ﴾ من عباده أنعم عليهم بالإيجاد كما أنعم على غيرهم لا أولاد، فإنّ العبودية تنافي الولدية ﴿ مكرمون ﴾ بالعصمة من الزلل ولذلك فسر الإكرام بقوله تعالى :﴿ لا يسبقونه ﴾.
﴿ لا يسبقونه ﴾ أي : لا يسبقون إذنه ﴿ بالقول ﴾ أي : لا يقولون شيئاً حتى يقوله كما هو شأن العبيد المؤدّبين ﴿ وهم بأمره ﴾ إذا أمرهم ﴿ يعملون ﴾ لا بغيره لأنهم في غاية المراقبة له تعالى، فجمعوا في الطاعة بين القول والفعل، وذلك غاية الطاعة،
ثم علل إخباره بذلك بعلمه بما هذا المخبر به مندرج فيه بقوله تعالى :﴿ يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ﴾ أي : ما عملوا وما هم عاملون لا تخفى عليه تعالى خافية مما قدّموا وأخروا، ثم صرح تعالى بلازم الجملة الأولى، فقال :﴿ ولا يشفعون ﴾ أي : لا في الدنيا، ولا في الآخرة ﴿ إلا لمن ارتضى ﴾ فلا تطمعوا في شفاعتهم لكم بغير رضاه تعالى ؛ قال ابن عباس والضحاك : إلا لمن ارتضى أي : لمن قال : لا إله إلا الله، فسقط بذلك قول المعتزلة : إنّ الشفاعة في الآخرة لا تكون لأهل الكبائر، ثم صرّح بلازم الجملة الثانية فقال :﴿ وهم من خشيته ﴾ أي : لا من غيرها ﴿ مشفقون ﴾ أي : خائفون، وأصل الخشية خوف مع تعظيم، ولذلك خص بها العلماء والإشفاق خوف مع اعتناء، فإن عدّى بمن فمعنى الخوف فيه أظهر، وإن عدى بعلى فبالعكس.
ولما نفى تعالى الشريك مطلقاً، ثم مقيداً بالولدية أتبعه التهديد على ادّعائه بتعذيب المتبوع الموجب لتعذيب التابع بقوله تعالى :﴿ ومن يقل منهم ﴾ أي : من الخلائق حتى العباد المكرمين الذين وصف كرامتهم وقرب منزلتهم عنده، وأثنى عليهم ﴿ إني إله من دونه ﴾ أي : الله أي غيره، والذي قال ذلك كما قال الجلال المحلي هو إبليس دعا إلى عبادة نفسه، وأمر بطاعتها ﴿ فذلك ﴾ أي : اللعين الذي لا يصلح للتقريب أصلاً ﴿ نجزيه جهنم ﴾ لظلمه ﴿ كذلك ﴾ أي : مثل هذا الجزاء الفظيع جدّاً ﴿ نجزي الظالمين ﴾ أي : المشركين.
ثم إنه سبحانه وتعالى شرع الآن في الدلائل الدّالة على وجود الصانع، فذكر منها ستة أنواع ؛ النوع الأوّل : قوله تعالى :﴿ أولم ير ﴾ أي : يعلم ﴿ الذين كفروا ﴾ علماً هو كالمشاهدة ﴿ أن السماوات والأرض كانتا ﴾ ولم يقل : كنَّ ؛ لأنّ المراد جماعة السماوات وجماعة الأرض ﴿ رتقاً ﴾ قال ابن عباس والضحاك : كانتا شيئاً واحداً ملتزقتين زبدة واحدة ﴿ ففتقناهما ﴾ أي : فصلنا بينهما بالهواء، والرتق في اللغة السد، والفتق الشق، قال كعب : خلق الله السماوات والأرض بعضها على بعض، ثم خلق ريحاً توسطتهما، ففتحهما بها، وقال مجاهد والسدّي : كانت السماوات رتقاً طبقة، ففتقها، فجعلها سبع سموات، وكذلك الأرض كانت رتقاً طبقة، ففتقها، فجعلها سبع أرضين، وقال عكرمة وعطية : كانت السماوات رتقاً لا تمطر، والأرض رتقاً لا تنبت، ففتق السماء بالمطر والأرض بالنبات، فيكون المراد بالسماوات سماء الدنيا، وجمعها باعتبار الآفاق أو السماوات بأسرها على أن لها مدخلاً في الأمطار، وإنما قال تعالى : رتقاً على التوحيد، وهو نعت للسموات والأرض لأنه مصدر، والكفرة وإن لم يعلموا ذلك، فهم متمكنون من العلم بالنظر، أو باستفسار من العلماء، أو مطالعة الكتب، وقرأ ابن كثير ألم بغير واو بين الهمزة ولم، والباقون بالواو بين الهمزة واللام.
النوع الثاني من الدلائل : قوله تعالى :﴿ وجعلنا ﴾ أي : خلقنا بما اقتضته عظمتنا ﴿ من الماء ﴾ الماء هو الدافق وغيره ﴿ كل شيء حي ﴾ مجازاً في النبات وحقيقة في الحيوان فإن قيل : قد خلق الله تعالى بعض ما هو حي من غير الماء كآدم وعيسى والملائكة ؟ أجيب : بأن هذا خرج مخرج الأغلب والأكثر، أي : أن أكثر ما خلق الله خلق من الماء وبقاؤه بالماء، وقيل : المراد بالماء ما نزل من السماء أو نبع من الأرض ﴿ أفلا يؤمنون ﴾ مع ظهور هذه الآيات الواضحات بتوحيدي.
النوع الثالث من الدلائل : قوله تعالى :﴿ وجعلنا في الأرض رواسي ﴾ أي : جبالاً ثوابت كراهة ﴿ أن تميد ﴾ أي : تتحرك ﴿ بهم ﴾ قيل : إن الأرض بسطت على الماء، فكانت تتحرك كما تتحرك السفينة في الماء، فأرساها الله وأثبتها بالجبال.
النوع الرابع من الدلائل : قوله تعالى :﴿ وجعلنا فيها ﴾ أي : في الرواسي ﴿ فجاجاً ﴾ أي : مسالك واسعة سهلة، ثم أبدل منها ﴿ سبلاً ﴾ أي : مذللة للسلوك، ولولا ذلك لتعسر أو تعذر الوصول إلى بعض البلاد ﴿ لعلهم يهتدون ﴾ إلى منافعهم من ديارهم وغيرها، وإلى ما فيها من دلائل الوحدانية.
النوع الخامس من الدلائل : قوله تعالى :﴿ وجعلنا السماء ﴾ وأفردها مع إرادة الجنس ؛ لأن أكثر الناس لا يشاهدون منها إلا السماء الدنيا، ولأن الحفظ للشيء الواحد أتقن ﴿ سقفاً ﴾ أي : للأرض كالسقف للبيت ﴿ محفوظاً ﴾ أي : عن السقوط بالقدرة، وعن الفساد والانحلال إلى الوقت المعلوم بالمشيئة، وعن الشياطين بالشهب ﴿ وهم ﴾ أي : أكثر الناس ﴿ عن آياتها ﴾ أي : من الكواكب الكبار والصغار، والرياح والأمطار وغير ذلك من الدلائل التي تفوت الانحصار الدالة على قدرتنا على كل ما نريد من البعث وغيره، وعلى عظمتنا بالتفرد بالإلهية وغير ذلك من أوصاف الكمال من الجلال والجمال ﴿ معرضون ﴾ لا يتفكرون فيما فيها من السير والتدبير وغير ذلك، فيعلمون أنّ خالقها لا شريك له.
النوع السادس من الدلائل : قوله تعالى :﴿ وهو ﴾ أي : لا غيره ﴿ الذي خلق الليل والنهار ﴾ ثم أتبعهما أعظم آيتهما بقوله تعالى :﴿ والشمس ﴾ التي هي أعظم آية النهار ﴿ والقمر ﴾ الذي هو أعظم آية الليل ﴿ كل ﴾ أي : من الشمس والقمر، وتابعه وهو النجوم ﴿ في فلك ﴾ أي : مستدير كالطاحونة في السماء ﴿ يسبحون ﴾ أي : يسيرون بسرعة كالسابح في الماء، وللتشبيه به أتى بضمير جمع من يعقل والمراد بالفلك الجنس كقولك : كساهم الأمير حلة، وقلدهم سيفاً، أي : كل واحد منهم، أو كساهم وقلدهم هذين الجنسين، فاكتفى بما يدل على الجنس اختصاراً، ولأن الغرض الدلالة على الجنس.
ونزل لما قال الكفار : إن محمداً سيموت :
﴿ وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد ﴾ أي : البقاء في الدنيا
﴿ أفإن ﴾ أي : أيتمنون موتك، فإن
﴿ مت فهم الخالدون ﴾ فيها لا والله ليسوا بخالدين، فالجملة الأخيرة هي محل الاستفهام الإنكاري، وفي معنى ذلك قول فروة بن مسيك الصحابي :
وقل للشامتين بنا أفيقوا | سيلقى الشامتون كما لقينا |
وقرأ نافع وحفص والكسائي بكسر الميم والباقون بضمها، ثم بيّن تعالى أن أحداً لا يبقى في هذه الدنيا بقوله تعالى :﴿ كل نفس ذائقة الموت ﴾ أي : ذائقة مرارة الموت، أي : مرارة مفارقة روحها جسدها، فلا يفرح أحد، ولا يحزن لموت أحد بل يشتغل بما يهمه، وإليه الإشارة بقوله :﴿ ونبلوكم ﴾ أي : نعاملكم معاملة المبتلي المختبر ليظهر في عالم الشهادة الشاكر والصابر، والمؤمن والكافر كما هو عندنا في عالم الغيب بأن نخالطكم ﴿ بالشر ﴾، وهو المضارّ الدنيوية من الفقر والألم، وسائر الشدائد النازلة بالمكلفين ﴿ والخير ﴾ وهو نعم الدنيا من الصحة واللذة والسرور، والتمكن من المرادات، وقوله تعالى :﴿ فتنة ﴾ مفعول له أي : لننظر أتصبرون وتشكرون أم لا كما يفتن الذهب إذا أريد تصفيته بالنار عما يخالطه من الغش، فبين تعالى أنّ العبد مع التكليف يتردد بين هاتين الحالتين لكي يشكر على المنح ويصبر على المحن، فيعظم ثوابه إذا قام بما يلزم ﴿ وإلينا ﴾ بعد الموت لا إلى غيرنا ﴿ ترجعون ﴾ فنجازيكم بما فعلتم.
ثم عطف تعالى على قوله :﴿ وأسرّوا النجوى ﴾ قوله تعالى :﴿ وإذا رآك ﴾ أي : وأنت أشرف الخلق ﴿ الذين كفروا إن ﴾ أي : ما ﴿ يتخذونك ﴾ أي : حال الرؤية ﴿ إلا هزواً ﴾ أي : مهزواً به يقولون إنكاراً واستصغاراً ﴿ أهذا الذي يذكر آلهتكم ﴾ أي : بسوء، والذكر يكون بالخير والشر، فإذا دلت القرينة على أحدهما أطلق عليه وذكر العدوّ لا يكون إلا بسوء ﴿ وهم ﴾ أي : والحال أنهم ﴿ بذكر الرحمن ﴾ أي : إذا ذكر لهم الرحمن ﴿ هم كافرون ﴾ وذلك أنهم كانوا يقولون : لا نعرف الرحمن إلا مسيلمة، وهم الثانية للتأكيد.
ونزل في استعجالهم العذاب
﴿ خلق الإنسان من عجل ﴾ كأنه خلق منه لفرط استعجاله وقلة ثباته، والعرب تقول للذي يكثر منه الشيء : خلقت منه كقولك : خلق زيد من الكرم، فجعل ما طبع عليه بمنزلة المطبوع هو منه مبالغة في لزومه له، ولذلك قيل : إنه على القلب أي : خلق العجل من الإنسان، ومن عجلته مبادرته إلى الكفر، واستعجال الوعد، وقال سعيد بن جبير والسدّي : لما دخل الروح في رأس آدم وعينيه نظر إلى ثمار الجنة، فلما دخل الروح في جوفه اشتهى الطعام، فوثب قبل أن تبلغ الروح إلى رجليه عجلاً إلى ثمار الجنة، فوقع، فقيل : خلق الإنسان من عجل، والمراد بالإنسان آدم وأورث أولاده العجلة، وقال قوم : معناه خلق الإنسان يعني آدم عليه السلام من تعجيل في خلق الله تعالى إياه لأن خلقه كان بعد خلق كل شيء في آخر النهار يوم الجمعة، فأسرع في خلقه قبل مغيب الشمس، قال مجاهد : فلما أحيا الروح رأسه قال : يا رب استعجل بخلقي قبل غروب الشمس وقيل بسرعة وتعجيل على غير ترتيب خلق سائر الآدميين من النطفة ثم العلقة ثم المضغة وغيرها، وقال قوم : من عجل أي : من طين قال الشاعر :
والنبع في الصخرة الصماء منبته | والنخل ينبت بين الماء والعجل |
ثم قال تعالى مهدداً للمكذبين :
﴿ سأريكم آياتي ﴾ أي : مواعيدي بالعذاب
﴿ فلا تستعجلون ﴾ أي : تطلبون أن أوجد العجلة بالعذاب، أو غيره فإني منزه عن العجلة التي هي من جملة نقائصكم ؛ لأنها إرادة الشيء قبل أوانه فإن قيل : لم نهاهم عن الاستعجال مع قوله : خلق الإنسان من عجل وقوله تعالى :
﴿ وكان الإنسان عجولاً ﴾ [ الإسراء، ١١ ]، أليس هذا من تكليف ما لا يطاق ؟ أجيب : بأن هذا كما ركب فيه الشهوة وأمره أن يغلبها لأنه أعطاه القدرة التي يستطيع بها قمع الشهوة وترك العجلة، وقد أراهم بعض آياته وهو القتل ببدر.
﴿ ويقولون ﴾ في استهزائهم ﴿ متى هذا الوعد ﴾ أي : بإتيان الآيات من الساعة ومقدّماتها وغيرها ﴿ إن كنتم ﴾ فيما توعدون به ﴿ صادقين ﴾ أي : عريقين في هذا الوصف يعنون محمداً صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهذا هو الاستعجال المذموم المذكور على سبيل الاستهزاء.
ثم بيّن تعالى أنهم يقولون ذلك لجهلهم بقوله تعالى :﴿ لو يعلم الذين كفروا ﴾ وذكر المفعول به بقوله تعالى :﴿ حين ﴾ أي : وقت ﴿ لا يكفون ﴾ أي : لا يدفعون ﴿ عن وجوههم ﴾ التي هي أشرف أعضائهم ﴿ النار ﴾ استسلاماً وعجزاً ﴿ ولا عن ظهورهم ﴾ التي هي أشدّ أجسامهم السياطَ ﴿ ولا هم ينصرون ﴾ أي : لا يمنعون من العذاب في القيامة وجواب لو محذوف و المعنى : لو علموا لما أقاموا على كفرهم ولما استعجلوا العذاب، ولا قالوا : متى هذا الوعد إن كنتم صادقين.
﴿ بل تأتيهم ﴾ أي : القيامة ﴿ بغتة ﴾ أي : فجأة ﴿ فتبهتهم ﴾ أي : تحيرهم، يقال : فلان مبهوت أي : متحير ﴿ فلا يستطيعون ردّها ﴾ أي : لا يطلبون طوع ذلك لهم في ذلك الوقت ليأسهم منه ﴿ ولا هم ينظرون ﴾ أي : يمهلون لتوبة أو معذرة.
ولما كان التقدير حاق بهم هذا باستهزائهم بك أتبعه ما يدل على أنّ الرسل في ذلك شرع واحد تسلية له صلى الله عليه وسلم فقال عاطفاً على وإذا رآك :﴿ ولقد استهزئ برسل من قبلك ﴾ أي : كثيرين فلك بهم أسوة، وقرأ أبو عمرو وعاصم وحمزة في الوصل بكسر الدال والباقون بالضم وإذا وقف حمزة أبدل الهمزة ياء ساكنة ﴿ فحاق ﴾ أي : نزل ﴿ بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون ﴾ وهو العذاب فكذا يحيق بمن استهزأ بك،
ولما أعلم الله تعالى أن الكفار في الآخرة لا يكفون عن وجهوهم النار ولا عن ظهورهم بسائر ما وصفهم به. أتبعه بأنهم في الدنيا أيضاً لولا أنّ الله تعالى يحرسهم ويحفظهم لما بقوا في السلامة، فقال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم :
﴿ قل ﴾ يا أشرف المرسلين للمستهزئين ﴿ من يكلؤكم ﴾ أي : يحفظكم ﴿ بالليل والنهار من الرحمن ﴾ أي : من عذابه إن نزل بكم أي : لا أحد يفعل ذلك ﴿ بل هم عن ذكر ربهم ﴾ أي : القرآن ﴿ معرضون ﴾ لا يتفكرون فيه ولا يخطرونه ببالهم فضلاً أن يخافوا بأسه.
﴿ أم ﴾ فيها معنى الهمزة للإنكار أي : الله ﴿ لهم آلهة ﴾ ﴿ موصوفة بأنها { تمنعهم ﴾ مما يسوءهم ﴿ من دوننا ﴾ ليس لهم ذلك ثم وصف آلهتهم بالضعف فقال تعالى :﴿ لا يستطيعون ﴾ أي : الآلهة ﴿ نصر أنفسهم ﴾ فكيف ينصرون عابديهم ﴿ ولا هم ﴾ أي : الكفار ﴿ منّا ﴾ أي : من عذابنا ﴿ يصحبون ﴾ أي : يجارون يقال : صحبك الله أي : حفظك وأجارك.
﴿ بل متعنا هؤلاء ﴾ أي : الكفار على حقارتهم ﴿ وآباءهم ﴾ من قبلهم بالنعم استدراجاً ﴿ حتى طال عليهم العمر ﴾ أي : امتدّت بهم أيام الدنيا بالروح والطمأنينة فحسبوا أن لا يزالوا على ذلك لا يغلبون ولا ينزع عنهم ثوب أمنتهم واستمتاعهم فاغتروا بذلك وذلك طمع فارغ وأمل كاذب، وغلظ ورش اللام بخلاف عنه ﴿ أفلا يرون ﴾ أي : يعلمون علماً هو في وضوحه مثل الرؤية بالبصر ﴿ أنّا نأت الأرض ﴾ أي : أرض الكفرة ﴿ ننقصها من أطرافها ﴾ بتسليط المسلمين عليها وإظهارهم على أهلها بقتل بعض ورّد بعض عن دينه إلى الإسلام فهم في نقص وأولياؤنا في زيادة ﴿ أفهم الغالبون ﴾ أي : مع مشاهدتهم لذلك أم أولياؤنا.
ولما كرّر سبحانه وتعالى في القرآن الأدلة وبالغ في التنبيه عليها على ما تقدم أتبعه بقوله تعالى :﴿ قل ﴾ يا أشرف الخلق لهؤلاء المشركين ﴿ إنما أنذركم ﴾ أي : أخوّفكم ﴿ بالوحي ﴾ أي : بالقرآن الذي هو كلام ربكم فلا تظنوا أنه من قبل نفسي ﴿ ولا يسمع الصم الدعاء ﴾ أي : ممن يدعوهم ﴿ إذا ما ينذرون ﴾ أي : يخوّفون فهم لترك العمل بما سمعوه كالصم فإن قيل : الصم لا يسمعون دعاء البشر كما لا يسمعون دعاء المنذر، فكيف قيل : إذا ما ينذزون ؟ أجيب : بأنه وضع الظاهر موضع المضمر للدلالة على تصامّهم وسدّهم أسماعهم إذا أنذروا، أي : هم على هذه الصفة من الجراءة والجسارة وعلى التصامّ عن آيات الإنذار، وقرأ ابن عامر ولا تسمع بالتاء الفوقية مضمومة وكسر الميم ونصب ميم الصم على الخطاب النبوي والباقون بالياء التحتية وفتح الميم ورفع ميم الصم وفي الدعاء، وإذا همزتان مختلفتان من كلمتين ؛ الأولى مفتوحة، والثانية مكسورة قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بتحقيق الأولى وتسهيل الثانية بين الهمزة والياء والباقون بتحقيق الهمزتين، وهذا في حال الوصل، فإن وقف على الهمزة الأولى فالجميع يبتدئون الثانية بالتحقيق، ويقف حمزة وهشام بإبدال الهمزة ألفاً مع المدّ والتوسط والقصر.
﴿ ولئن مستهم ﴾ أي : أصابتهم ﴿ نفحة ﴾ أي : دفعة خفيفة وفي ذلك مبالغات ذكر المس و ما في النفحة من معنى القلة فإنّ أصل النفح هبوب رائحة الشيء والتاء الدالة على المرّة ﴿ من عذاب ربك ﴾ المحسن إليك بنصرك عليهم من الذي ينذرون به ﴿ ليقولنّ ﴾ وقد أذهلهم أمرها ﴿ يا ويلنا ﴾ الذي لا نرى بحضرتنا الآن غيره ﴿ إنّا كنّا ظالمين ﴾ دعوا على أنفسهم بالويل بعد ما أقرّوا بالظلم.
ثم ذكر تعالى بعض ما يفعل في حساب الساعة من العدل، فقال عاطفاً على قوله تعالى :﴿ بل تأتيهم بغتة ﴾ :﴿ ونضع الموازين القسط ﴾ أي : ذوات العدل ﴿ ليوم القيامة ﴾ أي : فيه وإنما جمع الموازين لكثرة من توزن أعمالهم ويجوز أن يرجع إلى الوزنات وقيل : وضع الموازين تمثيلاً لإرصاد الحساب السويّ والجزاء على حسب الأعمال بالعدل والصحيح الذي عليه أئمة السلف أن الله تعالى يضع ميزاناً حقيقة توزن به أعمال العباد وعن الحسن هو الميزان له كفتان ولسان، ويروى أنّ داود عليه السلام سأل ربه أن يريه الميزان، فأراه كل كفة ما بين المشرق والمغرب، فغشي عليه ثم أفاق فقال : إلهي من الذي يقدر أن يملأ كفته حسنات، قال : يا داود إني إذا رضيت عن عبدي ملأتها بتمرة فإن قيل : كيف توزن الأعمال مع أنها أعراض ؟ أجيب : بأن فيه طريقين ؛ أحدهما أن توزن صحائف الأعمال فتوضع صحائف الحسنات في كفة وصحائف السيئات في كفة و الثاني أن توضع في كفة الحسنات جواهر بيض مشرقة وفي كفة السيئات جواهر سود مظلمة فإن قيل : هذه الآية يناقضها قوله تعالى في الكفار :﴿ فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً ﴾ [ الكهف، ١٠٥ ] أجيب : بأن المراد منه أنا لا نكرمهم ولا نعظمهم ﴿ فلا تظلم نفس شيئاً ﴾ أي : من نقص حسنة أو زيادة سيئة ﴿ وإن كان ﴾ أي : العمل ﴿ مثقال ﴾ أي : وزن ﴿ حبة من خردل ﴾ أو أصغر منه وإنما مثل به لأنه غاية عندنا في القلة، وقرأ نافع برفع اللام على أنّ كان تامّة والباقون بالنصب وكذا في لقمان ﴿ أتينا بها ﴾ أي : بوزنها ولما كان حساب الخلائق كلهم في كل ما صدر منهم أمراً باهراً للعقل حقره عند عظمته فقال :﴿ وكفى بنا ﴾ أي : بما لنا من العظمة ﴿ حاسبين ﴾ أي : محصين في كل شيء، فلا يكون في الحساب أحد مثلنا، ففيه توعد من جهة أن معناه أن لا يروج عليه شيء من خداع، ولا يقبل غلطاً ولا يضل ولا ينسى إلى غير ذلك من كل ما يلزم منه نوع لبس وشوب منقص ووعد من جهة أنه مطلع على حسن قصد وإن دق وخفي.
ولما تكلم سبحانه وتعالى في دلائل التوحيد والنبوّة والمعاد شرع في قصص الأنبياء عليهم السلام تسلية لرسوله صلى الله عليه وسلم فيما يناله من قومه وتقوية لقلبه على أداء الرسالة والصبر على كل عارض وذكر منها عشراً :
القصة الأولى : قصة موسى عليه السلام المذكورة في قوله تعالى :﴿ ولقد آتينا موسى وهرون ﴾ أي : أخاه الذي سأل ربه أن يشدّ أزره به ﴿ الفرقان ﴾ أي : التوراة الفارقة بين الحق والباطل وبين الحلال والحرام ﴿ وضياء ﴾ بهاء لا ظلام معه أي : ليستضاء بها في ظلمات الحيرة والجهل وقرأ قنبل بعد الضاد بهمزة مفتوحة ممدودة والباقون بياء بعدها ألف ﴿ وذكراً ﴾ أي : عظة ﴿ للمتقين ﴾ أو ذكر ما يحتاجون إليه من الشرائع وقيل الفرقان النصر وقيل فلق البحر ويراد بالضياء على هذين التوراة.
ثم بيّن المتقين بوصفهم بقوله تعالى :﴿ الذين يخشون ﴾ أي : يخافون خوفاً عظيماً ﴿ ربهم ﴾ أي : المحسن إليهم بعد الإيجاد بالتربية وأنواع الإحسان ﴿ بالغيب ﴾ عن الناس أي : في الخلاء عنهم أو بالغيب قبل أن يكشف لهم الحجاب في الجنة ﴿ وهم من الساعة ﴾ التي توضع فيها الموازين وقد أعرض عنها الجاهلون مع كونها أعظم حامل على كل خير ومباعد عن كل ضير ﴿ مشفقون ﴾ أي : خائفون لأنهم لقيامها متحققون ولنصب الموازين فيها عالمون.
ولما ذكر تعالى فرقان موسى عليه السلام وكان العرب يشاهدون تمسك اليهود به حثهم على كتابهم هو أشرف منه بقوله تعالى :﴿ وهذا ﴾ أي : القرآن وأشار إليه بأداة القرب إيماء إلى سهولة تناوله عليهم ﴿ ذكر ﴾ أي : موعظة ﴿ مبارك ﴾ أي : كثير خيره ﴿ أنزلناه ﴾ على أشرف الرسل محمد صلى الله عليه وسلم وقوله تعالى :﴿ أفأنتم له منكرون ﴾ أي : جاحدون استفهام توبيخ.
القصة الثانية : قصة إبراهيم عليه السلام المذكورة في قوله تعالى :﴿ ولقد أتينا ﴾ بما لنا من العظمة ﴿ إبراهيم رشده ﴾ أي : صلاحه وهداه ﴿ من قبل ﴾ أي : من قبل موسى وهارون ومحمد صلى الله وسلم عليهم وقيل : من قبل استنبائه أو بلوغه حيث قال : إني وجهّت وجهي ﴿ وكنّا به ﴾ ظاهراً وباطناً ﴿ عالمين ﴾ بأنه أهل لما آتيناه لأنه جبلة خير جامع لمحاسن الأوصاف ومكارم الأخلاق والخصال يدوم على الرشد ويترقى فيه إلى أعلى درجاته لما طبعناه عليه، وفي ذلك إشارة إلى أنه فعله تعالى باختيار وحكمة وأنه عالم بالجزئيات.
وتعليق ﴿ إذ قال ﴾ أي : إبراهيم ﴿ لأبيه وقومه ﴾ بعالمين إشارة إلى أن قوله لما كان بإذن منا ورضا لنا نصرناه وهو وحده على قومه كلهم، ولو لم يكن يرضينا لمنعناه منه بنصر قومه عليه وتمكين النار منه، ثم ذكر مقول القول في قوله : منكراً عليهم محقراً لأصنامهم ﴿ ما هذه التماثيل ﴾ أي : الصور التي صنعتموها مماثلين بها ما فيه روح الله جاعلين لها ما لا يكون إلا لمن لا مثل له وهي الأصنام ﴿ التي أنتم لها ﴾ أي : لأجلها وحدها مع كثرة ما يشابهها وما هو أفضل منها ﴿ عاكفون ﴾ أي : مقيمون على عبادتها فإن قيل : هلا قال عليها عاكفون، كقوله تعالى :﴿ يعكفون على أصنام لهم ﴾ [ الأعراف، ١٣٨ ] أجيب : بأن اللام للاختصاص لا للتعدية، ولو قصد التعدية لعدّاه بصلته التي هي على.
ثم إنه تعالى ذكر جوابهم له بما لزم الاستفهام عن السؤال بأنهم ﴿ قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين ﴾ فاقتدينا بهم لا حجة لنا غير ذلك فانظر ما أقبح التقليد وما أعظم كيد الشيطان للمقلدين حتى استدرجهم إلى أن قلدوا آباءهم في عبادة التماثيل وعفروا لها جباههم وهم معتقدون أنهم على شيء وجادّون في نصرة مذهبهم ومجادلون أهل الحق عن باطلهم وكفى أهل التقليد مسبة أن عبدة الأصنام منهم والتقليد إن جاز فإنما يجوز لمن علم في الجملة أنه على حق.
ولذا ﴿ قال ﴾ إبراهيم عليه السلام ﴿ لقد كنتم ﴾ وأكده بقوله :﴿ أنتم ﴾ لأجل صحة العطف لأن الضمير المرفوع المتصل حكمه حكم جزء الفعل والعطف على ضمير هو في حكم بعض الفعل ممتنع ونحوه :﴿ اسكن أنت وزوجك الجنة ﴾ [ البقرة، ٣٥ ]، ﴿ وآباؤكم ﴾ أي : من قبلكم ﴿ في ضلال مبين ﴾ فبين أن المقلدين والمقلدين جميعاً منخرطون في سلك ضلال لا يخفى على من به أدنى مسكة لاستناد الفريقين إلى غير دليل بل إلى هوى متبع وشيطان مطاع لاستبعادهم أن يكون ما هم عليه ضلالاً بقوا متعجبين من تضليله إياهم.
فلذا ﴿ قالوا ﴾ ظناً منهم أنه لم يقل لهم ذلك على ظاهره ﴿ أجئتنا ﴾ في هذا الكلام ﴿ بالحق ﴾ الذي يطابقه الواقع ﴿ أم أنت من اللاعبين ﴾ أي : تقوله على وجه المزاح والملاعبة لا على وجه الجد.
﴿ قال ﴾ عليه السلام بانياً على ما تقديره ليس كلامي لعباً بل هو جد وهذه التماثيل ليست أرباباً ﴿ بل ربكم ﴾ أي : الذي يستحق منكم اختصاصه بالعبادة ﴿ رب السماوات والأرض ﴾ أي : مدبرهنّ القائم بمصالحهنّ ﴿ الذي فطرهنّ ﴾ أي : خلقهنّ على غير مثال سبق وأنتم وتماثيلكم بما فيهما من مصنوعاته أنتم تشهدون بذلك إذا رجعتم إلى عقولكم مجرّدة عن الهوى وقيل : الضمير في فطرهنّ للتماثيل قال الزمخشري : وكونه للتماثيل أدخل في تضليلهم وأثبت للاحتجاج عليهم ﴿ وأنا على ذلكم ﴾ أي : الأمر البين من أنه ربكم وحده فلا تجوز عبادة غيره ﴿ من الشاهدين ﴾ أي : الذين يقدرون على إقامة الدليل على ما يشهدون به لم يشهدوا إلا على ما هو عندهم مثل الشمس لا كما فعلتم أنتم حين اضطرّكم السؤال إلى الضلال.
ولما أقام البرهان على إثبات الإله الحق أتبعه البرهان على إبطال الباطل بقوله :﴿ وتاللّه ﴾ وهو قسم والأصل في القسم الباء الموحدة والواو بدل منها والتاء بدل من الواو وفيها مع كونها بدلاً زيادة على التأكيد التعجب ﴿ لأكيدن أصنامهم ﴾ أي : لأجتهدنّ في كسرها والتأكيد وما في التاء من التعجب من تسهيل الكيد على يده وتأتيه لأنّ ذلك كان أمراً مقنوطاً منه لصعوبته وتعذره ولعمري إنّ مثله صعب متعذر في كل زمان خصوصاً في زمن نمروذ مع عتّوه واستكباره وقوّة سلطانه وتهالكه على نصرة دينه، ولكن :
إذا الله سنى عقد شيء تيسراً ***
ولما كان عزمه على إيقاع الكيد في جميع الزمان الذي يقع فيه توليهم في أي جزء تيسر له منه أسقط الجار فقال :﴿ بعد أن تولّوا مدبرين ﴾ أي : بعد أن تدبروا منطلقين إلى عيدكم قال مجاهد وقتادة : إنما قال إبراهيم هذا سراً من قومه ولم يسمع ذلك إلا رجل واحد فأفشاه عليه وقال :﴿ إنا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم ﴾، وقال السدّي : كان لهم في كل سنة مجمع عيد فكانوا إذا رجعوا من عيدهم دخلوا على الأصنام فسجدوا لها ثم عادوا إلى منازلهم، فلما كان ذلك العيد قال أبو إبراهيم له : يا إبراهيم لو خرجت معنا إلى عيدنا أعجبك ديننا فخرج معهم إبراهيم فلما كان ببعض الطريق ألقى نفسه وقال : إني سقيم أشتكي برجلي فلما مضوا نادى في آخرهم وقد بقي ضعفاء الناس تالله لأكيدن أصنامكم فسمعوها منه ثم رجع إبراهيم إلى بيت الآلهة وهي في بهو عظيم مستقبل باب البهو صنم عظيم إلى جنبه أصغر منه والأصنام بعضها إلى جنب بعض كل صنم يليه أصغر منه إلى باب البهو وإذا هم قد جعلوا طعاماً فوضعوه بين يدي الآلهة، وقالوا : إذا رجعنا وقد بركت الأصنام الآلهة عليه أكلنا منه فلما نظر إبراهيم إليهم وإلى ما بين أيديهم من الطعام قال لهم على طريق الاستهزاء : ألا تأكلون ؟ فلما لم يجيبوه قال لهم مالكم لا تنطقون، فراغ عليهم ضرباً باليمين وجعل يكسرهن بفأس في يده حتى لم يبق إلا الصنم الأكبر علق الفأس في عنقه ثم خرج، فذلك قوله عز وجل : فجعلهم جذاذاً }.
﴿ فجعلهم جذاذاً ﴾ أي : فتاتاً وقرأ الكسائي بكسر الجيم والباقون بضمها ﴿ إلا كبيراً لهم ﴾ فإنه لم يكسره ووضع الفأس في عنقه وقيل ربطه بيده وكانت اثنين وسبعين صنماً بعضها من ذهب وبعضها من فضة وبعضها من حديد ورصاص وخشب وحجر وكان الصنم الكبير من الذهب مكللاً بالجواهر في عينيه ياقوتتان تتقدان ﴿ لعلهم ﴾ أي : هؤلاء الضلال ﴿ إليه ﴾ أي : إبراهيم ﴿ يرجعون ﴾ عند إلزامه بالسؤال فتقوم عليهم الحجة فلما عادوا إلى أصنامهم فوجدوها على تلك الحال.
﴿ قالوا من فعل هذا ﴾ الفعل الفاحش ﴿ بآلهتنا إنه لمن الظالمين ﴾ حيث وضع الإهانة في غير موضعها فإنّ الآلهة حقها الإكرام لا الإهانة والانتقام.
﴿ قالوا ﴾ أي : الذين سمعوا قول إبراهيم وتاالله لأكيدنّ أصنامكم ﴿ سمعنا فتى ﴾ أي : شاباً من الشباب ﴿ يذكرهم ﴾ أي : يعيبهم ويسبهم ﴿ يقال له إبراهيم ﴾ أي : هو الذي نظنّ أنه صنع هذا،
فلما بلغ ذلك نمروذ الجبار وأشراف قومه. ﴿ قالوا فأتوا به ﴾ إلى بيت الأصنام ﴿ على أعين الناس ﴾ أي : جهرة والناس ينظرون إليه نظر الإخفاء معه حتى كأنه ماش على أبصارهم متمكن منها تمكن الراكب على المركوب ﴿ لعلهم يشهدون ﴾ عليه بأنه الذي فعل بالآلهة هذا الفعل كرهوا أن يأخذوه بغير بينة، وقيل معناه : لعلهم يحضرون عذابه وما يصنع به،
فلما أتوا به ﴿ قالوا ﴾ منكرين عليه ﴿ أأنت فعلت هذا ﴾ الفعل الفاحش ﴿ بآلهتنا يا إبراهيم ﴾.
تنبيه : هنا همزتان مفتوحتان من كلمة فالقرّاء الجميع على تحقيق الأولى، وأمّا الثانية فيسهلها نافع وابن كثير وأبو عمرو، وهشام بخلاف عنه وأدخل بينهما ألفاً قالون وأبو عمرو والباقون بتحقيقهما وعدم الإدخال بينهما.
ثم ﴿ قال ﴾ إبراهيم متهكماً بهم وملزماً بالحجة ﴿ بل فعله كبيرهم ﴾ غيرة أن يعبد معه من هو دونه وتقييده بقوله :﴿ هذا ﴾ إشارة إلى الذي تركه من غير كسر، ولما أخبرهم ولم يكن أحد رآه حتى يشهد على فعله وكانوا قد أحلوهم بعبادتهم ووضع الطعام لهم محل من يعقل تسبب عنه أمرهم بسؤالهم فقال :﴿ فاسألوهم ﴾ أي : عن الفاعل ليخبروكم به وقوله :﴿ إن كانوا ينطقون ﴾ أي : على زعمكم أنهم آلهة يضرّون وينفعون فيه تقديم جواب الشرط أي : فإن قدروا على النطق أمكنت عنهم القدرة وإلا فلا، فأراهم عجزهم عن النطق وفي ضمنه أنا فعلت ذلك. روي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات ثنتين منهن في ذات الله قوله إني سقيم وقوله : بل فعله كبيرهم هذا، وقوله لسارة : هذه أختي »، وقال في حديث الشفاعة، ويذكر كذباته أي : إنه لم يتكلم بكلمات صورتها صورة الكذب وإن كان حقاً في الباطن إلا هذه الكلمات، وقيل في قوله : إن سقيم أي : سأسقم، وقيل سقيم القلب أي : مغتم بضلالتكم، وقوله لسارة هذه أختي أي : في الدين وقوله بل فعله كبيرهم هذا ؛ روي عن الكسائي أنه كان يقف عند قوله بل فعله ويقول : معناه بل فعله من فعله، وقوله : كبيرهم هذا مبتدأ وخبر قال البغوي : وهذه التأويلات لنفي الكذب، والأولى هو الأول للحديث فيه، ويجوز أن يكون الله تعالى قد أذن له في ذلك لقصد الصلاح وتوبيخهم والاحتجاج عليهم كما أذن ليوسف عليه السلام حتى نادى مناديه فقال :﴿ أيتها العير إنكم لسارقون ﴾ [ يوسف، ٧٠ ]
ولم يكونوا سرقوا، وقال الرازي : الحديث محمول على المعاريض، فإن فيها مندوحة عن الكذب، أي : تسمية المعاريض كذباً لما أشبهت صورتها صورته، وقرأ ابن كثير والكسائي بفتح السين وترك الهمزة، وكذا يفعل حمزة في الوقف والباقون بسكون السين وبعدها همزة مفتوحة، وقيل : الوقف على بل فعله، ثم يبتدئ بقوله : كبيرهم هذا.
ولما اضطرّهم الدليل أن يحققوا أنهم على محض الباطل ﴿ فرجعوا إلى أنفسهم ﴾ بالتفكر ﴿ فقالوا ﴾ أي : بعضهم لبعض ﴿ إنكم أنتم الظالمون ﴾ لكونكم وضعتم العبادة في غير موضعها إلا إبراهيم، فإنه أصاب بإهانتها.
﴿ ثم نكسوا على رؤوسهم ﴾ أي : انقلبوا غير مستحبين مما يلزمهم من الإقرار بالسفه إلى المجادلة له بعدما استقاموا بالمراجعة من قولهم نكس المريض إذا عاد إلى حاله الأول، شبّه عودهم إلى الباطل بصورة جعل أسفل الشيء مستعلياً على أعلاه، ثم إنهم قالوا في مجادلتهم عن شركائهم والله ﴿ لقد علمت ﴾ يا إبراهيم ﴿ ما هؤلاء ﴾ لا صحيحهم ولا جريحهم ﴿ ينطقون ﴾ أي : فكيف تأمرنا بسؤالهم ؟
ولما تسبب عن قولهم هذا إقرارهم بأنهم لا فائدة فيهم اتجه لإبراهيم عليه السلام الحجة عليهم. ﴿ قال ﴾ منكراً عليهم موبخاً لهم ﴿ أفتعبدون من دون الله ﴾ أي : بدله ﴿ ما لا ينفعكم شيئاً ﴾ من رزق وغيره لترجوه ﴿ ولا يضرّكم ﴾ شيئاً إذا لم تعبدوه لتخافوه.
﴿ أفٍ ﴾ أي : تباً وقبحاً ﴿ لكم ولما تعبدون من دون الله ﴾ أي : غيره، وقرأ نافع وحفص بتنوين الفاء مكسورة وابن كثير وابن عامر بفتح الفاء من غير تنوين والباقون بكسر الفاء من غير تنوين، ولما تسبب عن فعلهم هذا وضوح أنه لا يقربه عاقل، أنكر عليهم ووبخهم بقوله :﴿ أفلا تعقلون ﴾ قبح صنيعكم وأنتم شيوخ قد مرّت بكم الدهور وحنكتكم التجارب.
ولما دحضت حجتهم وبان عجزهم، وظهر الحق واندفع الباطل ﴿ قالوا ﴾ عادلين إلى العناد، واستعمال القوّة الحسية ﴿ حرّقوه ﴾ بالنار لتكونوا قد فعلتم فيه فعلاً أعظم مما فعل بآلهتكم ﴿ وانصروا آلهتكم ﴾ التي جعلها جذاذاً ﴿ إن كنتم فاعلين ﴾ نصرتها قال ابن عمر : إنّ الذي قال هذا رجل من الأكراد قيل : اسمه هيتون، فخسف الله تعالى به الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة، وقيل : قاله نمروذ بن كوش بن حام بن نوح عليه السلام، وروي أنّ نمروذ وقومه حين هموا بإحراقه حبسوه في بيت، ثم بنوا عليه بيتاً كالحظيرة بقرية يقال لها كوثى، ثم جمعوا له أصلاب الحطب من أصناف الخشب مدّة شهر حتى كان الرجل يمرض، فيقول : لئن عوفيت لأجمعنّ حطباً لإبراهيم، وكانت المرأة تغزل وتشتري بغزلها الحطب احتساباً في دينها، وكان الرجل يوصي بشراء الحطب وإلقائه فيه، فلما جمعوا ما أرادوا وأشعلوا في كل ناحية من الحطب ناراً، فاشتعلت النار، واشتدت حتى كان الطير يمرّ بها، فيحترق من شدّة وهجها وحرّها، وأوقدوا عليه سبعة أيام، فلما أرادوا أن يلقوا إبراهيم لم يعلموا كيف يلقوه، فجاءهم إبليس عليه اللعنة، فعلّمهم عمل المنجنيق فعملوا ثم عمدوا إلى إبراهيم فقيدوه ورفعوه على رأس البنيان ووضعوه في المنجنيق مقيداً مغلولاً، فصاحت السماء والأرض، ومن فيهما من الملائكة وجميع الخلق إلا الثقلين صيحة واحدة ربنا خليلك يلقى في النار وليس في أرضك من يعبدك غيره فأذن لنا في نصرته، فقال عز وجل : إنه خليلي وليس لي خليل غيره وأنا إلهه ليس له إله غيري، فإن استغاث بأحد منكم أو دعاه فلينصره، فقد أذنت له في ذلك، وإن لم يدع أحداً غيري فأنا أعلم به وأنا وليه، فخلوا بيني وبينه، فلما أرادوا إلقاءه في النار أتاه خازن المياه، فقال : إن أردت أخمدت النار وأتاه خازن الرياح، فقال : إن شئت طيرت النار في الهواء، فقال إبراهيم عليه السلام : لا حاجة لي إليكم حسبي الله ونعم الوكيل، وروي عن كعب الأحبار أن إبراهيم قال حين أوثقوه ليلقوه في النار لا
إله إلا أنت سبحانك رب العالمين لك الحمد ولك الملك لا شريك لك، ثم رموا به في المنجنيق إلى النار، فاستقبله جبريل، فقال : يا إبراهيم ألك حاجة ؟ قال : أما إليك فلا، فقال جبريل : فاسأل ربك، فقال إبراهيم حسبي من سؤالي علمه بحالي. وعن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى :﴿ وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل ﴾ [ آل عمران، ١٧٣ ] قالها إبراهيم : حين ألقي في النار وقالها أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم حين قال لهم الناس :﴿ إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم ﴾ [ آل عمران، ١٧٣ ] ؛ قال كعب الأحبار جعل كل شيء يطفئ النار عنه إلا الوزغ، فإنه كان ينفخ في النار، وعن أمّ شريك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الأوزاغ، وقال :" كان ينفخ على إبراهيم ".
ولما أراد الله تعالى الذي له القوّة جميعاً سلامته منها قال تعالى :﴿ قلنا يا نار كوني ﴾ بإرادتنا التي لا يتخلف عنها مراد ﴿ برداً ﴾ قال ابن عباس : لو لم يقل :﴿ وسلاماً ﴾ لمات إبراهيم من بردها، وفي الآثار أنه لم يبق يومئذٍ نار في الأرض إلا طفئت، فلم ينتفع في ذلك اليوم بنار في العالم، ولو لم يقل تعالى :﴿ على إبراهيم ﴾ لبقيت ذات برد أبداً، والمعنى كوني ذات برد وسلام على إبراهيم، فبولغ في ذلك حتى كان ذاتها برد وسلام، والمراد : ابردي فيسلم منك إبراهيم أو ابردي برداً غير ضارّ، قال السدّي : فأخذت الملائكة بضبعي إبراهيم فأقعدوه على الأرض، فإذا بعين ماء عذب وورد أحمر، ونرجس قال كعب : ما أحرقت النار من إبراهيم إلا وثاقه، قالوا : وكان إبراهيم في ذلك الموضع سبعة أيام قال المنهال ابن عمرو قال إبراهيم : ما كنت أياماً قط أنعم مني في الأيام التي كنت في النار، وقال ابن يسار وبعث الله تعالى ملك الظل في صورة إبراهيم فقعد فيها إلى جنب إبراهيم يؤنسه قال وبعث الله تعالى جبريل عليه السلام بقميص من حرير الجنة وطنفسة، فألبسه القميص وأجلسه على الطنفسة وقعد معه يحدّثه، وقال جبريل : يا إبراهيم إنّ ربك يقول : أما علمت أنّ النار لا تضر أحبابي، ثم نظر نمروذ وأشرف على النار من صرح له، فرآه جالساً في روضة والملك قاعد إلى جنبه وما حوله نار تحرق الحطب فناداه يا إبراهيم بإلهك الذي بلغت قدرته أن حال بينك وبين ما أرى هل تستطيع أن تخرج منها ؟ قال : نعم، قال : هل تخشى إن قمت فيها أن تضرك قال : لا، قال : قم فاخرج منها، فقام إبراهيم يمشي فيها حتى خرج منها، فلما خرج إليه قال له : من الرجل الذي رأيته معك في مثل صورتك قاعداً إلى جنبك قال : ذاك ملك الظل أرسله إليّ ربي ليؤنسني فيها، فقال نمروذ : إني مقرب إلى إلهك قرباناً لما رأيت من قدرته وعزته فيما صنع بك حين أبيت إلا عبادته وتوحيده إني ذابح له أربعة آلاف بقرة قال : إذاً لا يقبل الله منك ما كنت على دينك حتى تفارقه إلى ديني، فقال : لا أستطيع ترك ملكي، ولكن
أذبحها له فذبحها له نمروذ، ثم كف عن إبراهيم ومنعه الله تعالى منه وكان إبراهيم إذ ذاك ابن ست عشرة سنة واختاروا المعاقبة بالنار لأنها أهول ما يعاقب به وأفظعه، ولذلك جاء في الحديث :«لا يعذب بالنار إلا خالقها »، وقيل : إنّ الله تعالى نزع عنها طبعها الذي طبعها عليه من الحر والإحراق، وأبقاها على الإضاءة والإشراق والاشتعال كما كانت والله على كل شيء قدير، فدفع عن إبراهيم حرّها كما يدفع ذلك عن خزنة جهنم.
﴿ وأرادوا به كيداً ﴾ أي : مكراً في إضراره بالنار، وبعد خروجه منها ﴿ فجعلناهم ﴾ أي : بما لنا من الجلال ﴿ الأخسرين ﴾ أي : أخسر من كل خاسر عاد سعيهم برهاناً قاطعاً على أنهم على الباطل، وإبراهيم على الحق، وموجباً لزيادة درجته واستحقاقهم أشدّ العذاب، وقد أرسل الله تعالى على نمروذ، وعلى قومه البعوض فأكلت لحومهم، وشربت دماءهم ودخلت في دماغه بعوضة، فأهلكته.
فائدة : وقع مثل هذه القصة لبعض أتباع نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وهو أبو مسلم الخولانيّ طلبه الأسود العنسي لما ادّعى النبوّة فقال له : اشهد أني رسول الله، قال : ما أسمع، قال : أتشهد أن محمداً رسول الله ؟ قال : نعم، فأمر بنار، فألقي فيها، ثم وجده قائماً يصلي فيها، وقد صارت عليه برداً وسلاماً، وقدم المدينة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم فأجلسه عمر بينه وبين أبي بكر رضي الله عنهم، وقال عمر : الحمد لله الذي لم يمتني حتى أراني من أمّة محمد صلى الله عليه وسلم من فعل به كما فعل بإبراهيم خليل الله.
﴿ ونجيناه ولوطاً ﴾ من نمروذ وقومه من أرض العراق ﴿ إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين ﴾ وهي الشام بارك الله فيها بالخصب وكثرة الأشجار والثمار والأنهار، ومنها بعث أكثر الأنبياء قال أبيّ بن كعب بارك الله فيها وسماها مباركة ؛ لأن ما من ماء عذب إلا وينبع أصله من تحت الصخرة التي ببيت المقدس أي : يهبط من السماء إلى الصخرة ثم يتفرّق في الأرض قاله أبو العالية، وعن قتادة أنّ عمر رضي الله تعالى عنه قال لكعب الأحبار ألا تتحول إلى المدينة فيها مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبره، فقال كعب : إني وجدت في كتاب الله المنزل يا أمير المؤمنين إن الشام كنز الله في أرضه، وبها كنزه من عباده، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" ستكون هجرة بعد هجرة، فخيار الناس إلى مهاجر إبراهيم " ؛ قال محمد بن إسحاق استجاب لإبراهيم رجال من قومه حين رأوا ما صنع الله عز وجل به من جعل النار عليه برداً وسلاماً على خوف من نمروذ وملئهم، وآمن به لوط، وكان ابن أخيه وهو لوط بن هاران بن تارح وهاران هو أخو إبراهيم، وكان لهما أخ ثالث يقال له ناحور بن تارح، وآمنت به أيضاً سارة وهي بنت عمه، وهي سارة بنت هاران الأكبر عمّ إبراهيم، فخرج من كوثى وهي بضم الكاف ومثلثة قال ابن الأثير هي كوثن العراق وهي سرّة السواد، وبها ولد إبراهيم الخليل عليه السلام، وخرج مهاجراً إلى ربه ومعه لوط وسارة كما قال تعالى :﴿ فآمن له لوط وقال إني مهاجر إلى ربي ﴾ [ العنكبوت، ٢٦ ] فخرج يلتمس الفرار بدينه والأمان على عبادة ربه حتى نزل حران، فمكث بها ما شاء الله، ثم خرج منها مهاجراً حتى قدم مصر، ثم خرج من مصر إلى الشام، فنزل السبع من أرض فلسطين، وهي برية الشام، ونزل لوط بالمؤتفكة، وهي على مسيرة يوم وليلة من السبع فبعثه الله تعالى نبياً إلى أهلها وما قرب منها فذلك قوله تعالى :﴿ ونجيناه ولوطاً إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين ﴾ أي : كما أنجيناك أنت يا أشرف الخلق ويا أفضل أولاده، وصديقك أبا بكر رضي الله تعالى عنه إلى طيبة التي شرفناها بك وبثثنا من أنوارها في أرجاء الأرض وأقطارها ما لم نبث مثله قط وباركنا فيها للعالمين بالخلفاء الراشدين وغيرهم من العلماء والصالحين الذين انبثت خيراتهم العملية والعلمية والمالية في جميع الأقطار.
ولما ولد لإبراهيم عليه السلام في حال شيخوخته وعجز امرأته مع كونها عقيماً، وكان ذلك دالاً على الاقتدار على البعث الذي السياق كله له قال تعالى :﴿ ووهبنا له ﴾ دالاً على ذلك بنون العظمة ﴿ إسحاق ﴾ أي : من شبه العدم وترك شرح حاله لتقدّمه أي : فكان ذلك دليلاً على اقتدارنا على ما نريد لاسيما من إعادة الخلق في يوم الحساب، ثم إنه قد يظن أنه لتولده بين شيخٍ فانٍ وعجوز عقيم كان على حالة من الضعف لا يولد لمثله معها نفى ذلك بقوله تعالى :﴿ ويعقوب نافلة ﴾ أي : ولداً لإسحاق زيادة على ما دعا به إبراهيم عليهما السلام، ثم نمى سبحانه وتعالى أولاد يعقوب، وهو إسرائيل وذرّياتهم إلى أن ساموا النجوم عدّة وباروا الجبال شدّة ﴿ وكلاً ﴾ من هؤلاء الأربعة وهم إبراهيم ولوط وإسحاق ويعقوب وعظم رتبتهم بقوله تعالى :﴿ جعلنا صالحين ﴾ أي : مهيئين لطاعتهم لله تعالى لكل ما يرونه أو يرادون له، أو يراد منهم.
ثم لما ذكر أنه تعالى أعطاهم رتبة الصلاح في أنفسهم ذكر أنه تعالى أعطاهم رتبة لإصلاح لغيرهم، فقال تعالى معظماً لإمامتهم :﴿ وجعلناهم أئمة ﴾ أي : أعلاماً ومقاصد يقتدى بهم في الدين لما آتيناهم من العلم والنبوّة، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بتسهيل الهمزة الثانية المكسورة بين الهمزة والياء، ويجوز إبدالها عندهم ياء خالصة ولا يدخلون بينهما شيئاً وقرأ هشام بتحقيق الهمزتين وإدخال ألف بينهما بخلاف عنه في الإدخال وعدمه، والباقون بتحقيق الهمزتين من غير إدخال بلا خلاف ﴿ يهدون ﴾ أي : يدعون إلينا من وفقناه للهداية ﴿ بأمرنا ﴾ أي : بإذننا ﴿ وأوحينا إليهم ﴾ أيضاً ﴿ فعل ﴾ أي : أن يفعلوا ﴿ الخيرات ﴾ ليحثوهم عليها، فيتم كمالهم بانضمام العلم إلى العمل، قال البقاعي : ولعله تعالى عبّر بالفعل دلالة على أنهم امتثلوا كل ما يوحي إليهم، وقال الزمخشري : أصله أن تفعل الخيرات، ثم فعلا الخيرات، ثم فعل الخيرات، وكذلك إقام الصلاة وإيتاء الزكاة انتهى. وقوله تعالى :﴿ وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ﴾ من عطف الخاص على العام تعظيماً لشأنهما ؛ لأن الصلاة تقرب العبد إلى الحق تعالى، والزكاة إحسان إلى الخلق، قال الزجاج : الإضافة في الصلاة عوض عن تاء التأنيث يعني : فيكون من الغالب لا من القليل ﴿ وكانوا لنا ﴾ دائماً جبلة وطبيعة ﴿ عابدين ﴾ أي : موحدين مخلصين في العبادة ولذلك قدَّم الصلة.
القصة الثالثة : قصة لوط عليه السلام المذكورة في قوله تعالى :﴿ ولوطاً ﴾ أي : وآتينا لوطاً أو واذكر لوطاً، ثم استأنف قوله تعالى :﴿ آتيناه حكماً ﴾ أي : نبوّة وعملاً محكماً بالعلم، وقيل : فصلاً بين الخصوم ﴿ وعلماً ﴾ مزيناً بالعمل مما ينبغي علمه للأنبياء ﴿ ونجيناه من القرية ﴾ أي : قرية سدوم ﴿ التي كانت ﴾ قبل إنجائنا له منها ﴿ تعمل ﴾ أي : أهلها الأعمال ﴿ الخبائث ﴾ من اللواط والرمي بالبندق واللعب بالطيور والتضارط في أنديتهم وغير ذلك وإنما وصف القرية بصفة أهلها وأسندها إليها على حذف المضاف وأقامته مقامه ويدل عليه ﴿ إنهم كانوا ﴾ أي : بما جبلوا عليه ﴿ قوم سوء ﴾ أي : ذوي قدرة على الشرّ بانهماكهم في الأعمال السيئة ﴿ فاسقين ﴾ أي : خارجين من كل خير.
﴿ وأدخلناه ﴾ دونهم ﴿ في رحمتنا ﴾ أي : في الأحوال السنية والأقوال العلية والأفعال الزكية التي هي سبب للرحمة العظمى ومسببة عنها ثم علل ذلك بقوله تعالى ﴿ إنه من الصالحين ﴾ أي : الذين سبقت لهم منا الحسنى أي : لما جبلناه عليه من الخير.
القصة الرابعة : قصة نوح عليه السلام المذكورة في قوله تعالى :﴿ ونوحاً ﴾ أي : واذكر نوحاً﴿ إذ ﴾ أي : حين ﴿ نادى ﴾ أي : دعا الله تعالى على قومه بالهلاك بقوله :﴿ رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً ﴾ [ نوح، ٢٦ ] ونحوه من الدعاء ﴿ من قبل ﴾ أي : من قبل لوط ومن تقدّمه ﴿ فاستجبنا ﴾ أي : أردنا الإجابة وأوجدناها بعظمتنا ﴿ له ﴾ في ذلك النداء، ثم تسبب عن ذلك قوله تعالى :﴿ فنجيناه وأهله ﴾ أي : الذين دام ثباتهم على الإيمان وهم من كان معه في السفينة ﴿ من الكرب العظيم ﴾ أي : من أذى قومه ومن الغرق والكرب الغمّ الشديد قاله السدّي وقال أبو حيان الكرب أقصى الغمّ والأخذ بالنفس وهو هنا الغرق عبّر عنه بأوّل أحوال مأخذ الغريق.
﴿ ونصرناه ﴾ أي : منعناه ﴿ من القوم ﴾ أي : المتصفين بالقوّة ﴿ الذين كذبوا بآياتنا ﴾ من أن يصلوا إليه بسوء، وقيل : من بمعنى على ﴿ أنهم كانوا قوم سوء ﴾ أي : لا عمل لهم إلا ما يسوء ﴿ فأغرقناهم أجمعين ﴾ لاجتماع الأمرين تكذيب الحق والانهماك في الشر لم يجتمعا في قوم إلا وأهلكهم الله تعالى.
القصة الخامسة : قصة داود وسليمان عليهما السلام المذكورة في قوله تعالى :﴿ وداود وسليمان ﴾ ابنه أي : اذكرهما واذكر شأنهما ﴿ إذ ﴾ أي : حين ﴿ يحكمان في الحرث ﴾ الذي أنبت الزرع وهو من إطلاق اسم السبب على المسبب كالسماء على المطر والنبت، قال ابن عباس : وأكثر المفسرين كان ذلك كرماً قد تدلت عناقيده، وقال قتادة : كان زرعاً قال ابن الخازن وهو أشبه للعرف ﴿ إذ نفشت ﴾ أي : انتشرت ليلاً بغير راع ﴿ فيه غنم القوم ﴾ فرعته، قال قتادة : النفش في الليل والعمل في النهار ﴿ وكنا لحكمهم ﴾ أي : الحكمين والمتحاكمين إليهما ﴿ شاهدين ﴾ أي : كان ذلك بعلمنا ومرأى منّا لا يخفى علينا علمه، وقال الفرّاء : جمع الاثنين فقال لحكمهم ويريد داود وسليمان ؛ لأن الاثنين جمع وهو مثل قوله تعالى :﴿ فإن كان له أخوة فلأمه السدس ﴾ [ النساء، ١١ ]
وهو يريد أخوين، قال ابن عباس وقتادة وذلك أن رجلين دخلا على داود عليه السلام أحدهما صاحب حرث والآخر صاحب غنم، فقال صاحب الزرع : إنّ هذا انفلتت غنمه ليلاً، فوقعت في حرثي، فأفسدته، فلم تبق منه شيئاً، فأعطاه داود رقاب الغنم بالحرث فخرجا فمرّا على سليمان عليه السلام فقال : كيف قضى بينكما، فأخبراه، فقال سليمان وهو ابن إحدى عشر سنة : لو وليت أمرهما لقضيت بغير هذا، وروي أنه قال : غير هذا أرفق بالفريقين، فأخبر بذلك داود، فدعاه فقال : كيف تقضي، ويروى أنه قال بحق النبوة والأبوّة إلا ما أخبرتني بالذي هو أرفق بالفريقين، قال : ادفع الغنم إلى صاحب الحرث فينتفع بدرّها ونسلها وصوفها، ويبذر صاحب الغنم لصاحب الحرث مثل حرثه، فإذا صار الحرث كهيئته دفع إلى أهله وأخذ صاحب الغنم غنمه، فقال داود : القضاء ما قضيت. كما قال تعالى :﴿ ففهمناها ﴾.
﴿ ففهمناها ﴾ أي : الحكومة ﴿ سليمان ﴾ أي : علمناه القضية وألهمناها له.
تنبيه : يجوز أن تكون حكومتهما بوحي إلا أنّ حكومة داود نسخت بحكومة سليمان، ويجوز أن تكون باجتهاد إلا أن اجتهاد سليمان أشبه بالصواب فإن قيل : ما وجه كل واحدة من الحكومتين ؟ أجيب : بأنّ وجه حكومة داود أنّ الضرر وقع بالغنم فسلمت بجنايتها إلى المجني عليه.
كما قال أبو حنيفة في العبد إذا جنى على النفس يدفعه المولى بذلك أو يفديه، وعند الشافعي يبيعه في ذلك، أو يفديه، ولعل قيمة الغنم كانت على قدر النقصان في الحرث.
ووجه حكومة سليمان : أنه جعل الانتفاع بالغنم بإزاء ما فات من الانتفاع بالحرث من غير أن يزول ملك المالك عن الغنم، وأوجب على صاحب الغنم أن يعمل في الحرث حتى يزول الضرر والنقصان، مثاله ما قال أصحاب الشافعي فيمن غصب عبداً وأبق من يده أنه يضمن بالقيمة، فينتفع بها المغصوب منه بإزاء ما فوته الغاصب من منافع العبد، فإذا ظهر ترادَّا.
فإن قيل : لو وقعت هذه الواقعة في شريعتنا ما حكمها ؟ أجيب : بأن أبا حنيفة وأصحابه لا يرون فيها ضماناً بالليل أو بالنهار إلا أن يكون مع البهيمة سائق أو قائد لقوله صلى الله عليه وسلم «جرح العجماء جبار »، أي : هدر رواه الشيخان وغيرهما، والشافعي وأصحابه يوجبون الضمان بالليل إذ المعتاد ضبط الدواب ليلاً، ولذلك قضى النبيّ صلى الله عليه وسلم لما دخلت ناقة البراء حائطاً وأفسدته، فقال على :«أهل الأموال حفظها بالنهار، وعلى أهل الماشية حفظها بالليل »، ولما كان ذلك ربما أوهم شيئاً في أمر داود، نفاه بقوله تعالى :﴿ وكلاً ﴾ أي : منهما ﴿ آتينا حكماً ﴾ أي : نبوّة وعملاً مؤسساً على حكمة العلم ﴿ وعلماً ﴾ مؤيداً بصالح العمل، وعن الحسن لولا هذه الآية لرأيت القضاة قد هلكوا، ولكنه تعالى أثنى على سليمان عليه السلام لصوابه، وعلى داود باجتهاده انتهى، وهذا على الرأي الثاني، وعليه أكثر المفسرين، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«إذا حكم الحاكم فاجتهد، فأصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ، فله أجر »، وهل كل مجتهد مصيب أو المصيب واحد لا بعينه ؟ رأيان أظهرهما الثاني، وإن كان مخالفاً لمفهوم الآية إذ لو كان كل مجتهد مصيباً لم يكن للتقسيم في الحديث معنى وقوله صلى الله عليه وسلم : وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر لم يرد به أنه يؤجر على الخطأ بل يؤجر على اجتهاده في طلب الحق ؛ لأنّ اجتهاده عبادة، والإثم في الخطأ عنه موضوع.
فائدة : من أحكام داود وسليمان عليهما السلام ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :«كانت امرأتان معهما ابناهما، فجاء الذئب فذهب بابن إحداهما، فقالت لصاحبتها : إنما ذهب بابنك، وقالت الأخرى : إنما ذهب بابنك، فتحاكما إلى داود فقضى به للكبرى، فخرجتا على سليمان، فأخبرتاه، فقال : ائتوني بالسكين أشقه بينكما، فقالت الصغرى : لا تفعل يرحمك الله هو ابنها، فقضى به للصغرى » أخرجاه في الصحيحين.
ثم إنه تعالى ذكر لداود وسليمان بعض معجزات، فمن بعض معجزات الأوّل ما ذكره بقوله تعالى :﴿ وسخرنا مع داود الجبال ﴾ مع صلابتها وعظمها ﴿ يسبحن ﴾ معه أي : يقدّسن الله تعالى، ولو شئنا لجعلنا الحرث والغنم تكلمه بصواب الحكم، وقال ابن عباس : كان يفهم تسبيح الحجر والشجر، وقوله تعالى :﴿ والطير ﴾ عطف على الجبال أو مفعول معه، وقال : وهب كانت الجبال تجاوبه بالتسبيح، وكذا الطير، وقال قتادة : يسبحن أي : يصلين معه إذا صلى، وقيل : كان داود إذا فتر يسمعه الله تعالى تسبيح الجبال والطير لينشط في التسبيح ويشتاق إليه، وقيل : يسبحن بلسان الحال، وقيل : يسبح من رآها تسير معه بتسيير الله تعالى، فلما جبلت على التسبيح وصفت به ﴿ وكنا غافلين ﴾ أي : من شأننا الفعل لأمثال هذه الأفاعيل، ولكل شيء نريده، فلا تستكثروا علينا أمراً، وإن كان عندكم عجباً، وقد اتفق نحو هذا لغير واحد من هذه الأمة. كان مطرف بن عبد الله بن الشخير إذا دخل بيته سبحت معه أبنيته، وأمّا النبيّ صلى الله عليه وسلم فكان الطعام يسبح بحضرته والحصى وغيره.
﴿ وعلمناه صنعة لبوس ﴾ أي : صنعة الدروع التي تلبس في الحرب ؛ قال قتادة : أوّل من صنع هذه الدروع وسردها واتخذها حلقاً داود، وكانت من قبل صفائح، وقد ألان الله تعالى لداود الحديد فكان يعمل منه بغير نار كأنه طين ؛ قال البغوي : وهو أي : اللبوس في اللغة : اسم لكل ما يلبس ويستعمل في الأسلحة كلها وهو بمعنى الملبوس كالحلوب والركوب، وقوله تعالى :﴿ لكم ﴾ متعلق بعلم أو صفة للبوس، وقوله تعالى :﴿ لتحصنكم من بأسكم ﴾ بدل منه بدل اشتمال بإعادة الجار ومرجع الضمير يختلف باختلاف القراءات، فقرأ شعبة بالنون فالضمير لله تعالى، وقرأ ابن عامر وحفص بالتاء على التأنيث، فالضمير للصنعة أو للبوس على تأويل الدرع، وقرأ الباقون بالياء التحتية، فالضمير لداود أو للبوس، وقوله تعالى :﴿ فهل أنتم شاكرون ﴾ أي : لنا على ذلك أمر أخرجه في صورة الاستفهام للمبالغة أو التقريع.
ومن بعض معجزات الثاني ما ذكره بقوله :﴿ ولسليمان ﴾ أي : وسخر لسليمان ﴿ الريح ﴾ قال البغوي : وهو هواء يتحرّك وهو جسم لطيف يمتنع بلطفه من القبض عليه، ويظهر للحس بحركته والريح تذكر وتؤنث ﴿ عاصفة ﴾ أي : شديدة الهبوب فإن قيل : قد قال تعالى في موضع آخر تجري بأمره رخاء، والرخاء اللين ؟ أجيب : بأنها كانت تحت أمره إن أراد أن تشتدّ اشتدّت، وإن أراد أن تلين لانت، وقيل : كانت في نفسها رخية طيبة كالنسيم، فإذا مرّت بكرسيه أبعدت به في مدة يسيرة على ما قال تعالى :﴿ غدوها شهر ورواحها شهر ﴾ [ سبأ، ١٢ ] وقوله تعالى :﴿ تجري بأمره ﴾ أي : بمشيئته حال ثانية أو بدل من الأوّل أو حال من ضميرها ﴿ إلى الأرض التي باركنا فيها ﴾ أي : الشام، وذلك أنها كانت تجري بسليمان وأصحابه إلى حيث شاء سليمان، ثم يعود إلى منزله بالشام.
قال وهب بن منبه : كان سليمان عليه السلام إذا خرج إلى مجلسه عكفت عليه الطير، وقام إليه الجنّ والإنس حتى يجلس على سريره، وكان امرأً غزاء قلما يقعد عن الغزو، ولا يسمع في ناحية من الأرض بملك إلا أتاه حتى يذله، فكان إذا أراد الغزو أمر بعسكره فضرب له بخشب ثم نصب له على الخشب ثم حمل عليه الناس والدواب وآلة الحرب فإذا حمل معه ما يريد أمر العاصف من الريح فدخلت تحت ذلك الخشب فاحتملته حتى إذا استقلت به أمر الرخاء فمرت به شهراً في روحته، وشهراً في غدوته إلى حيث أراد، وكانت تمر بعسكره الريح الرخاء بالمزرعة، فما تحركها ولا تثير تراباً، ولا تؤذي طائراً.
وقال مقاتل : نسجت الشياطين لسليمان بساطاً فرسخاً في فرسخ ذهباً في إبريسم، وكان يوضع له منبر من الذهب في وسطه البساط، فيقعد عليه وحوله ثلاثة آلاف كرسي من ذهب وفضة تقعد الأنبياء عليهم السلام على كراسي الذهب، والعلماء على كراسي الفضة وحولهم الناس وحول الناس الجنّ والشياطين، وتظله الطير بأجنحتها حتى لا تقع عليه الشمس وترفع ريح الصبا البساط مسيرة شهر من الصباح إلى الرواح، ومن الرواح إلى الغروب.
وقال سعيد بن جبير : كان يوضع لسليمان ستمائة ألف كرسي تجلس الإنس ما يليه، ثم تليهم الجنّ، ثم تظلهم الطير، ثم تحملهم الريح، وقال الحسن لما شغلت الخيل نبيّ الله سليمان حتى فاتته صلاة العصر غضب لله فعقر الخيل، فأبدله الله مكانها خيراً منها، وأسرع وهي الريح تجري بأمره كيف يشاء، فكان يغدو من إيلياء فيقيل بإصطخر، ثم يروح منها، فيكون رواحها ببابل.
وقال ابن زيد : كان له مركب من خشب، وكان فيه ألف ركن في كل ركن ألف بيت تركب معه فيه الجنّ والإنس تحت كل ركن ألف شيطان يرفعون ذلك الركن، فإذا ارتفعت أتت الريح الرخاء، فسارت به وبهم يقيل عند قوم بينه وبينهم شهر، ولا يدري القوم إلا وقد أظلهم معه الجيوش ﴿ وكنا ﴾ أي : أزلاً وأبداً بإحاطة العظمة ﴿ بكل شيء ﴾ أي : من هذا وغيره من أمره وغيره ﴿ عالمين ﴾ ومن علمنا أنّ ذلك لا يزيدهم إلا تواضعاً، وكما سخرنا الريح له سخرناها للنبيّ صلى الله عليه وسلم ليالي الأحزاب قال حذيفة رضي الله عنه حتى كانت تقذفهم بالحجارة ما تجاوز عسكرهم، فهزمهم الله تعالى بها، وردّوا بغيظهم لم ينالوا خيراً وأعطي صلى الله عليه وسلم أعمّ مما أعطي جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فقد أعطي صلى الله عليه وسلم التصرف في العالم العلوي الذي جعل الله تعالى منه الفيض على العالم السفلي بالاحتراق لطباقه بالإسراء تارة وبإمساك المطر لما دعا بسبع كسبع يوسف عليه السلام وبإرساله أخرى كما في أحاديث كثيرة، وأتى مع ذلك بمفاتيح خزائن الأرض كلها، فردّها صلى الله عليه وسلم.
﴿ ومن ﴾ أي : وسخرنا لسليمان من ﴿ الشياطين ﴾ الذين هم أكثر شيء تمرداً وعتواً ﴿ من يغوصون له ﴾ أي : يدخلون في البحر، فيخرجون منه الجواهر وغيرها من المنافع وذلك بأن أكثفنا أجسامهم مع لطافتها لتقبل الغوص في الماء معجزة في معجزة، وقد خنق نبينا صلى الله عليه وسلم العفريت الذي جاءه بشهاب من نار، وأسر جماعة من أصحابه رضي الله تعالى عنهم عفاريت أتوا إلى تمر الصدقة، وأمكنهم الله تعالى منهم ﴿ ويعملون عملاً دون ذلك ﴾ أي : سوى الغوص كبناء المدن والقصور واختراع الصنائع الغريبة كقوله تعالى :﴿ يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل ﴾ [ سبأ، ١٣ ] الآية ﴿ وكنا لهم حافظين ﴾ أي : حتى لا يخرجوا عن أمره، وقال الزجاج : معناه : حفظناهم من أن يفسدوا ما عملوا، وكان من عادة الشياطين إذا عملوا عملاً بالنهار، وفرغوا منه قبل الليل أفسدوه وخربوه، وفي القصة أن سليمان كان إذا بعث شيطاناً مع إنسان ليعمل له عملاً قال له : إذا فرغ من عمله قبل الليل فأشغله بعمل آخر لئلا يفسد ما عمل ويخربه.
القصة السادسة : قصة أيوب عليه السلام المذكورة في قوله تعالى :﴿ وأيوب ﴾ أي : واذكر أيوب ويبدل منه ﴿ إذ نادى ربه ﴾ قال وهب بن منبه : كان أيوب عليه السلام رجلاً من الروم وهو أيوب بن أموص بن رزاح بن روم بن عيصو بن إسحاق بن إبراهيم، وكانت أمّه من ولد لوط بن هاران، وكان الله تعالى قد اصطفاه ونبأه وبسط عليه الدنيا. وكانت له الثنية من أرض البلقاء من أعمال حوران من أرض الشام كلها سهلها وجبلها، وكان له فيها من أصناف المال كله من الإبل والبقر والغنم، والخيل والحمير ما لا يكون لرجل أفضل منه في العدّة والكثرة. وكان له خمسمائة فدّان يتبعها خمسمائة عبد لكل عبد امرأة وعبد وولد ومال، ويحمل آلة كل فدّان أتان لكل أتان من الولد اثنان أو ثلاث أو أربع أو خمس وفوق ذلك.
وكان الله تعالى قد أعطاه أهلاً وولداً من رجال ونساء، وكان برّاً تقياً رحيماً بالمساكين يطعمهم ويكفل الأيتام والأرامل، ويكرم الضيف ويبلغ ابن السبيل، وكان شاكراً لأنعم الله مؤدياً لحق الله تعالى قد امتنع من عدو الله إبليس أن يصيب منه ما يصيب من أهل الغنى من الغرّة والغفلة والتشاغل عن أمر الله بما هو فيه من الدنيا.
وكان معه ثلاثة نفر قد آمنوا به وصدقوه رجل من اليمن يقال له اليفن، ورجلان من بلده يقال لأحدهما بلدد، والآخر صابر، وكانوا كهولاً، وكان إبليس لا يحجب عن شيء من السماوات، وكان يقف فيهنّ حيثما أراد حتى رفع الله تعالى عيسى عليه السلام، فحجب من أربع، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم عن السماوات كلها إلا من استرق السمع، فسمع إبليس تجاوب الملائكة بالصلاة على أيوب عليه السلام، وذلك حين ذكره الله تعالى وأثنى عليه، فأدركه البغي والحسد، فصعد سريعاً حتى وقف من السماء موقفاً كان يقفه، فقال : إلهي نظرت في أمر عبدك أيوب، فوجدته عبداً أنعمت عليه فشكرك وعافيته فحمدك، ولو ابتليته بنزع ما أعطيته لحال عما هو عليه من شكرك وعبادتك، ولخرج من طاعتك ؛ قال الله تعالى : انطلق فقد سلطتك على ماله، فانقض عدو الله إبليس حتى وقع على الأرض، ثم جمع عفاريت الجنّ ومردة الشياطين وقال لهم : ماذا عندكم من القوّة، فإني قد سلطت على مال أيوب وهي المصيبة الفادحة، والفتنة التي لا تصبر عليها الرجال، فقال عفريت من الشياطين : أعطيت من القوة ما إذا شئت تحولت إعصاراً من نار، وأحرقت كل شيء آتى عليه ؛ قال إبليس : فأت الإبل ورعاتها، فأتى الإبل، وقد وضعت رؤوسها ورعت في مراعيها، فلم يشعر الناس حتى ثار من تحت الأرض إعصار من نار لا يدنو منها أحد إلا احترق، فأحرق الإبل ورعاتها حتى أتى على آخرها.
ثم جاء عدو الله إبليس في صورة قبيحة على قعود إلى أيوب، فوجده قائماً يصلي فقال : يا أيوب أقبلت نار حتى غشيت إبلك، فأحرقتها ومن فيها غيري، فقال أيوب : الحمد لله الذي أعطانيها، وهو أخذها وإنها مال الله أعارنيها، وهو أولى بها إذا شاء تركها، وإذا شاء نزعها، وقديماً كنت وطنت نفسي ومالي على الفناء ؛ قال إبليس : فإن الله ربك أرسل عليها ناراً من السماء، فاحترقت، فتركت الناس مبهوتين يتعجبون منها ؛ منهم من يقول : ما كان أيوب يعبد شيئاً وما كان أيوب إلا في غرور، ومنهم من يقول : لو كان إله أيوب يقدر على أن يصنع شيئاً لمنع وليه، ومنهم من يقول : بل هو الذي فعل ليشمت به عدوّه ويفجع صديقه، فقال أيوب : الحمد لله حين أعطاني، وحين نزع مني عرياناً خرجت من بطن أمي، وعرياناً أعود في التراب، وعرياناً أحشر إلى الله عز وجل ليس ينبغي لك أن تفرح حين أعطاك الله وتجزع حين قبض الله على عاريته الله أولى بك وبما أعطاك، ولو علم الله تعالى فيك أيها العبد خيراً لنقل روحك مع تلك الأرواح، وصرت شهيداً، ولكنه علم منك شرّاً، فأخرجك فرجع إبليس إلى أصحابه خاسئاً ذليلاً، فقال لهم : ماذا عندكم من القوّة فإني لم أكلم قلبه ؟ قال عفريت : عندي من القوّة ما إذا شئت صحت صيحة لا يسمعها ذو روح إلا خرجت روحه ؛ قال إبليس : فأت الغنم ورعاتها، فانطلق حتى توسطها، ثم صاح صيحة فتجثمت أمواتاً من عند آخرها، وماتت رعاتها.
ثم جاء إبليس متمثلاً بقهرمان الرعاة إلى أيوب وهو يصلي فقال له مثل القول الأول، فردّ عليه أيوب مثل الردّ الأوّل، ثم رجع إبليس إلى أصحابه فقال : ماذا عندكم من القوّة، فإني لم أكلم قلب أيوب، فقال عفريت : عندي من القوّة ما إذا شئت تحولت ريحاً عاصفاً تنسف كل شيء تأتي عليه، قال : فأتِ الفدادين والحرث، فانطلق حين شرع الفدادون في الحرث والزرع، فلم يشعروا حتى هبت ريح عاصف فنسفت كل شيء من ذلك حتى كأنه لم يكن.
ثم جاء إبليس متمثلاً بقهرمان الحرث إلى أيوب وهو قائم يصلي، فقال له مثل قوله الأوّل، فردّ عليه أيوب مثل ردّه الأوّل، وجعل إبليس يهلك أمواله مالاً مالاً حتى مرّ على آخره كلما انتهى إليه هلاك مال من أمواله حمد الله تعالى، وأحسن الثناء عليه ورضي عنه بالقضاء، ووطن نفسه بالصبر على البلاء حتى لم يبق له مال، فلما رأى إبليس أنه قد أفنى ماله ولم ينجح منه بشيء صعد سريعاً حتى وقف في الموقف الذي يقف فيه وقال : إلهي إنّ أيوب يرى أنك ما متعته بولده، فأنت تعطيه المال، فهل أنت مسلطي على ولده، فإنها المصيبة التي لا تقوم لها قلوب الرجال.
قال الله تعالى : انطلق فقد سلطتك على ولده، فانقض عدوّ الله إبليس حتى جاء بني أيوب وهم في قصرهم، فلم يزل يزلزله بهم حتى تداعى من قواعده وجعل جدره يضرب بعضها بعضاً، ويرميهم بالخشب والحجارة حتى مثل بهم كل مثلة ورفع القصر فقلبه، فصاروا منكبين وانطلق إلى أيوب متمثلاً بالمعلم الذي كان يعلمهم الحكمة وهو جريح مشدوخ الوجه يسيل دمه ودماغه، فأخبره وقال : لو رأيت بنيك كيف عذبوا وقلبوا فكانوا منكبين على رؤوسهم تسيل دماؤهم، ولو رأيت كيف شقت بطونهم فتناثرت أمعاؤهم لقطع قلبك، فلم يزل يقول : هذا أو نحوه حتى رق قلب أيوب وبكى، وقبض قبضة من التراب فوضعها على رأسه وقال : ليت أمّي لم تلدني، فاغتنم إبليس ذلك، فصعد سريعاً بالذي كان من جزع أيوب مسروراً به، ثم لم يلبث أيوب أن فاء وأبصر واستغفر، فصعد قرناؤه من الملائكة بتوبته، فسبقت توبته إلى الله عزّ وجلّ، وهو أعلم، فوقف إبليس خاسئاً ذليلاً.
وقال : إلهي إنما هوّن على أيوب المال والولد إنه يرى أنك ما متعته بنفسه، فإنك تعيد له المال والولد، فهل أنت مسلطي على جسده، فقال الله عزّ وجلّ : انطلق فقد سلطتك على جسده، ولكن ليس لك سلطان على لسانه ولا على قلبه ولا على عقله، وكان الله عز وجل أعلم به لم يسلطه عليه إلا رحمة لأيوب ليعظم له الثواب ويجعله عبرة للصابرين وذكرى للعالمين في كل بلاء نزل بهم ليتأسوا به في الصبر ورجاء الثواب، فانقض عدوّ الله سريعاً فوجد أيوب في مصلاه ساجداً، فعجل قبل أن يرفع رأسه فأتاه من قبل وجهه، فنفخ في منخره نفخة اشتعل منها سائر جسده، فخرج من قرنه إلى قدمه ثآليل مثل أليات الغنم، ووقعت فيه حكة، فحك بأظفاره حتى سقطت كلها، ثم حكها بالمسوح الخشنة حتى قطعها، ثم حكها بالفخار والحجارة الخشنة، فلم يزل يحكها حتى بقل لحمه، وتقطع وتغير وأنتن، وأخرجه أهل القرية وجعلوه على كناسة، وجعلوا له عريشاً فرفضه خلق الله كلهم غير امرأته، وهي رحمة بنت إفرائيم بن يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام، فكانت تختلف إليه بما يصلحه وتلزمه، ولما رأى الثلاثة من أصحابه وهم اليفن وبلدد وصابر ما ابتلاه الله تعالى به اتهموه ورفضوه من غير أن يتركوا دينه، فلما طال به البلاء انطلقوا إليه، فبكتوه ولاموه، وقالوا له : تب إلى الله تعالى من الذنب الذي عوقبت عليه، قال وحضره معهم فتى حديث السنّ قد آمن به وصدّقه فقال لهم : إنكم تكلمتم أيها الكهول، وأنتم أحق بالكلام مني لأسنانكم، ولكنكم تركتم من القول أحسن من الذي قلتم، ومن الرأي أصوب من الذي رأيتم، ومن الأمر أجمل من الذي أتيتم، وقد كان لأيوب عليكم من الحق والذمام أفضل من الذي وصفتم، فهل تدرون أيها الكهول حق من انتقصتم وحرمة من انتهكتم، ومن الرجل الذي عبتم واتهمتم ؛ ألم تعلموا أنه أيوب نبي الله وخيرته وصفوته من أهل الأرض إلى يومكم هذا، ثم لم تعلموا ولم يطلعكم الله على أنه قد سخط شيئاً من أمره منذ ما آتاه الله ما آتاه إلى يومكم هذا ولا أنه نزع شيئاً منه من الكرامة التي أكرمه بها، ولا أنّ أيوب قال على الله غير الحق في طول ما صحبتموه إلى يومكم هذا، فإن كان البلاء هو الذي أزرى به عندكم ووضعه في أنفسكم فقد علمتم أن الله تعالى يبتلي المؤمنين والصدِّيقين والشهداء والصالحين، وليس بلاؤه لأولئك على سخطه عليهم، ولا لهوانه لهم، ولكنها كرامة وخبرة لهم، ولو كان أيوب ليس من الله بهذه المنزلة إلا أنه أخ آخيتموه على وجه الصحبة لكان لا يجمل بالحكيم أن يعذل أخاه عند البلاء ولا يعيره بالمصيبة، ولا يعيبه بما لا يعلم وهو مكروب حزين، ولكنه يرحمه ويبكي معه، ويستغفر له، ويحزن لحزنه ويدله على أرشد أمره، وليس بحكيم ولا رشيد من جهل هذا، فالله الله أيها الكهول، فقد كان في عظمة الله وجلاله وذكر الموت ما يقطع ألسنتكم، ويكسر قلوبكم، ألم تعلموا أنّ لله عباداً أسكتتهم خشيته من غير عيّ، ولا بكم، وإنهم لهم الفصحاء البلغاء النبلاء الألباء العالمون بالله، ولكنهم إذا ذكروا عظمة الله انقطعت ألسنتهم، واقشعرّت جلودهم، وانكسرت قلوبهم، وطاشت عقولهم إعظاماً لله وإجلالاً له، فإذا استفاقوا من ذلك استبقوا إلى الله بالأعمال الزاكية يعدّون أنفسهم مع الظالمين والخاطئين، وإنهم لأبرار براء، ومع المقصرين المفرطين، وإنهم لأكياس أقوياء.
فقال أيوب : إنّ الله سبحانه وتعالى يزرع الحكمة بالرحمة في قلب الصغير والكبير، فمتى ثبتت في القلب يظهرها الله تعالى على اللسان، وليست تكون الحكمة من قبل السن والشيبة، ولا طول التجربة، وإذا جعل الله العبد حكيماً في الصبا لم تسقط منزلته عند الحكماء، وهم يرون عليه من الله تعالى نور الكرامة، ثم أعرض عنهم أيوب عليه السلام يعني الثلاثة وقال : أتيتموني غضاباً رهبتم قبل أن تسترهبوا، وبكيتم قبل أن تضربوا، فكيف بي لو قلت تصدقوا عليَّ بأموالكم لعل الله أن يخلصني، أو قربوا قرباناً لعل الله أن يتقبله ويرضى عني، وإنكم قد أعجبتكم أنفسكم، وظننتم أنكم عوضتم بإحسانكم، ولو نظرتم فيما بينكم وبين ربكم، ثم صدقتم لوجدتم لكم عيوباً قد سترها الله تعالى بالعافية التي ألبسكم، وقد كنتم فيما خلا توقرونني وأنا مسموع كلامي معروف حقي منتصف من خصمي، فأصبحت اليوم وليس لي رأي ولا كلام، وأنتم كنتم أشد عليّ من مصيبتي، ثم أعرض عنهم أيوب وأقبل على ربه مستعيناً به مستغفراً متضرّعاً إليه.
فقال : يا رب لأيّ شيء خلقتني ليتني إذ كرهتني لم تخلقني يا ليتني عرفت الذنب الذي أذنبت والعمل الذي عملت، فصرفت وجهك الكريم عني لو كنت أمتني، فألحقتني بآبائي، فالموت كان أجمل بي ؛ ألم أكن للغريب داراً ولل
﴿ فاستجبنا له ﴾ والجزع إنما هو الشكوى إلى الخلق، وأما الشكوى إلى الله تعالى، فلا يكون جزعاً، ولا ترك صبر، كما قال يعقوب عليه السلام :﴿ إنما أشكو بثي وحزني إلى الله ﴾ [ يوسف، ٨٦ ] وقال سفيان بن عيينة من أظهر الشكوى إلى الناس وهو راض بقضاء الله تعالى لا يكون ذلك جزعاً، كما روي «أن جبريل عليه السلام دخل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال : كيف تجدك، قال :" أجدني مغموماً أجدني مكروباً "، وقال صلى الله عليه وسلم :«لعائشة رضي الله تعالى عنها حين قالت : وارأساه، بل أنا وارأساه » وروي أن امرأة أيوب قالت له يوماً : لو دعوت الله فقال لها : كم كانت مدّة الرخاء، فقالت : ثمانين سنة، فقال : أستحي من الله أن أدعوه وما بلغت مدّة بلائي مدّة رخائي، ثم تسبب عن الإجابة قوله تعالى :﴿ فكشفنا ﴾ أي : بما لنا من العظمة ﴿ ما به من ضرّ ﴾ بأن أمرناه أن يركض برجله فتنبع له عين من ماء كما قال تعالى :﴿ اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب ﴾ [ ص، ٤٢ ] فركض برجله، فانفجرت له عين ماء فدخل فيها فاغتسل، فأذهب الله تعالى كل ما كان به من البلاء بظاهره، ثم مشى أربعين خطوة، فأمره أن يضرب برجله الأرض مرّة أخرى، ففعل، فنبع عين ماء بارد، فأمره فشرب منها فذهب كل داء كان بباطنه، فصار كأصح ما يكون من الرجال وأجملهم، فأقبلت امرأته تلتمسه في مضجعه، فلم تجده، فقامت كالوالهة، ثم جاءت إليه وهي لا تعرفه، فقالت : يا عبد الله هل لك علم بالرجل المبتلى الذي كان هاهنا ؟ قال : نعم وما لي لا أعرفه، فتبسم وقال : أنا هو، فعرفته بضحكه، فاعتنقته قال ابن عباس : فوالذي نفس عبد الله بيده ما فارقته من عناقه حتى ردّ لهما كل ما كان لهما كما قال تعالى :﴿ وآتيناه أهله ﴾ أي : أولاده الذكور والإناث بأن أحيوا له وكل من الصنفين ثلاث أو سبع ﴿ ومثلهم معهم ﴾ أي : من زوجته رحمة، وزيد في شبابها هذا ما دل عليه أكثر المفسرين، وقيل : آتاه الله تعالى المثل من نسل ماله وولده الذي رده إليه، أي : فولد له من ولده نوافل، وقال : وهب كان له سبع بنات، وثلاثة بنين، وروى الضحاك عن ابن عباس رد إلى امرأته شبابها، فولدت له ستة وعشرين ذكراً، وقال قوم : آتى الله تعالى أيوب في الدنيا مثل أهله الذين هلكوا، فأمّا الذين هلكوا فإنهم لم يردّوا عليه في الدنيا، وقال عكرمة : قيل لأيوب : إنّ أهلك لك في الآخرة، وإن شئت عجلناهم لك في الدنيا، وإن شئت كانوا لك في الآخرة، وآتيناك مثلهم في الدنيا، فعلى هذا يكون معنى الآية : وآتيناه أهله في الآخرة ومثلهم معهم في الدنيا، فقال : يكونون لي في الآخرة، وأوتي مثلهم في الدنيا، وروي عن أنس يرفعه «كان لأيوب أندران ؛ أندر للقمح، وأندر للشعير، فبعث الله تعالى سحابتين، فأفرغت إحداهما على أندر القمح الذهب، وأفرغت الأخرى على أندر الشعير الورق حتى فاض » وروي أن الله تعالى بعث إليه ملكاً فقال : إن ربك يقرئك السلام بصبرك فاخرج إلى أندرك فخرج إليه فأرسل عليه جراداً من ذهب قيل : إنه لما اغتسل
وخرج الدود منه جعل الله تعالى لها أجنحة، فطارت فجعلها الله تعالى جراداً من ذهب، وأمطرت عليه، فطارت واحدة فاتبعها وردّها إلى أندره، فقال له الملك : أما يكفيك ما في أندرك، فقال : هذا بركة من بركات ربي، ولا أشبع من بركته، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«بينما أيوب يغتسل عرياناً خرَّ عليه جراد من ذهب، فجعل أيوب يحثي في ثوبه فناداه ربه : يا أيوب ألم أكن أغنيتك عما ترى قال : بلى يا رب، ولكن لا غنى لي عن بركتك »، وقوله تعالى :﴿ رحمة ﴾ مفعول له : أي : نعمة عظيمة وفخمها بقوله تعالى :﴿ من عندنا ﴾ بحيث لا يشك من ينظر ذلك أنا ما فعلناه إلا رحمة منا له، وإنّ غيرنا لا يقدر على ذلك ﴿ وذكرى ﴾ أي : عظمة عظيمة ﴿ للعابدين ﴾ أي : كلهم ليتأسوا به، فيصبروا إذا ابتلوا ولا يظنوا أنّ ذلك إنما نزل بهم لهوانهم، ويشكروا فيثابوا كما أثيب، وقيل : لرحمتنا العابدين فإنا نذكرهم بالإحسان ولا ننساهم.
القصة السابعة : قصة إسماعيل وإدريس وذي الكفل المذكورة في قوله تعالى :﴿ وإسماعيل ﴾ أي : واذكر إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام الذي سخرنا له من الماء بواسطة الروح الأمين ما عاش به صغيراً بعدما كان هالكاً لا محالة، ثم جعلناه طعام طعم وشفاء سقم دائماً وصناه وهو كبير من الذبح حين رأى أبوه في المنام أنه يذبحه ورؤيا الأنبياء وحي، ﴿ وفديناه بذبح عظيم ﴾ [ الصافات، ١٠٧ ] ﴿ و ﴾ اذكر ﴿ إدريس ﴾ أي : ابن شيث بن آدم عليهم السلام الذي أحييناه بعد موته ورفعناه مكاناً عليا وهو أوّل نبيّ بعث من بني آدم عليهم السلام وتقدّمت قصته في سورة مريم ﴿ و ﴾ اذكر ﴿ ذا الكفل ﴾ سمي بذلك قال عطاء : لأن نبياً من أنبياء بني إسرائيل أوحى الله تعالى إليه أني أريد أن أقبض روحك، فاعرض ملكك على بني إسرائيل، فمن تكفل لك أن يصلي بالليل لا يفتر ويصوم بالنهار لا يفطر، ويقضي بين الناس ولا يغضب فادفع ملكك إليه، ففعل ذلك، فقام شاب فقال : أنا أتكفل لك بهذا، فتكفل ووفى به، فشكر الله له، ونبأه فسمي ذا الكفل، وقال مجاهد لما كبر إليسع قال : لو أني استخلفت رجلاً من الناس يعمل عليهم في حياتي حتى أنظر كيف يعمل قال : فجمع الناس، فقال : من يقبل مني ثلاثاً أستخلفه يصوم النهار ويقوم الليل ولا يغضب، فقام رجل فقال : أنا، فاستخلفه، فأتاه إبليس في صورة شيخ ضعيف حين أخذ مضجعه للقائلة، وكان لا ينام بالليل والنهار إلا تلك النومة، فدق الباب فقال : من هذا ؟ فقال : شيخ كبير مظلوم، فقام ففتح الباب فقال : إنّ بيني وبين قومي خصومة، وإنهم ظلموني، وفعلوا ما فعلوا، وجعل يطوّل حتى ذهبت القائلة، فقال : إذا رحت فأتني فإني آخذ حقك، فانطلق وراح فكان في مجلسه ينظر هل يرى الشيخ، فلم يره فقام يتبعه فلم يجده، فلما كان الغد جعل يقضي بين الناس وينظره، فلم يره.
فلما رجع إلى القائلة، وأخذ مضجعه أتاه، فدق الباب، فقال من أنت ؟ فقال : الشيخ المظلوم، ففتح له وقال : ألم أقل لك إذا قعدت فأتني، فقال : إنهم أخبث قوم إذا عرفوا أنك قاعد قالوا : نحن نعطيك حقك، وإذا قمت جحدوني قال : فانطلق فإذا جلست فأتني وفاتته القائلة، فلما جلس جعل ينظر فلا يراه، وشق عليه النعاس فلما كان اليوم الثالث قال لبعض أهله : لا تدعوا هذا الرجل يقرب من هذا الباب حتى أنام، فإنه قد شق عليّ النعاس، فلما كانت تلك الساعة جاء، فلم يأذن له الرجل فلما أعياه نظر، فرأى كوّة في البيت فتسور منها فإذا هو في البيت يدق عليه الباب من داخل فاستيقظ فقال : يا فلان ألم آمرك قال : أما من قبلي فلم تؤت فانظر من أين أتيت فقام إلى الباب فإذا هو مغلق كما أغلقه وإذا بالرجل معه في البيت، فقال : أتنام والخصوم ببابك، فقال : أعدوّ الله قال : نعم أعييتني ففعلت ما ترى لأغضبك، فعصمك الله تعالى، فسمي ذا الكفل لأنه تكفل بأمر فوفى به، وقيل إن إبليس جاءه وقال : إن لي غريماً يظلمني، فأحب أن تقوم معي وتستوفي حقي منه، فانطلق معه حتى إذا كان في السوق خلاه وذهب وروي أنه اعتذر إليه وقال صاحبي هرب وقيل : إن ذا الكفل رجل كفل أن يصلي كل ليلة مائة ركعة إلى أن يقبضه الله تعالى، فوفى به واختلفوا في أنه هل كان نبياً ؟ فقال الحسن : كان نبياً، وعن ابن عباس أنه إلياس، وقيل : هو زكريا، وقيل : هو يوشع بن نون، وقال أبو موسى : لم يكن نبياً، ولكن كان عبداً صالحاً، ولما قرن الله تعالى بين هؤلاء الثلاثة استأنف مدحهم بقوله تعالى ﴿ كلٌ ﴾ أي : كل واحد منهم ﴿ من الصابرين ﴾ على ما ابتليناه به فآتيناهم ثواب الصابرين.
﴿ وأدخلناهم في رحمتنا ﴾ أي : فعلنا بهم من الإحسان ما يفعله الراحم بمن يرحمه على وجه عمهم من جميع جهاتهم، فكان ظرفاً لهم، ثم علل ذلك بقوله تعالى :﴿ إنهم من الصالحين ﴾ أي : لكل ما يرضاه تعالى منهم يعني أنهم جبلوا جبلة خير، فعملوا على مقتضى ذلك فكانوا من الكاملين في الصلاح وهم الأنبياء لأنّ صلاحهم معصوم عن كدر الفساد.
القصة الثامنة : قصة يونس عليه الصلاة والسلام المذكورة في قوله تعالى :﴿ وذا النون ﴾ أي : واذكر صاحب الحوت وهو يونس بن متى ويبدل منه ﴿ إذ ذهب مغاضباً ﴾ واختلفوا في معنى ذلك، فقال الضحاك : مغاضباً لقومه، وهو رواية العوفي وغيره عن ابن عباس قال : كان قوم يونس يسكنون فلسطين، فغزاهم ملك فسبى منهم تسعة أسباط ونصفاً وبقي سبطان ونصف، فأوحى الله تعالى إلى شعيب النبيّ عليه السلام أن سر إلى حزقيل الملك وقل له يوجه نبياً قوياً إلى هؤلاء فإني ألقي في قلوبهم الرعب حتى يرسلوا معه بني إسرائيل فقال له الملك فمن ترى ؟ وكان في مملكته خمسة أنبياء فقال يونس : فإنه قويّ أمين، فدعا الملك يونس وأمره أن يخرج فقال يونس : هل أمرك الله بإخراجي قال : لا قال : فهل سماني لك، قال : لا، قال : فهاهنا أنبياء غيري أقوياء فألحوا عليه، فخرج من بينهم مغاضباً للنبيّ والملك ولقومه، فأتى بحر الروم فركبه، وقال عروة بن الزبير وسعيد بن جبير وجماعة ذهب عن قومه مغاضباً لربه إذا كشف عن قومه العذاب بعد ما وعدهم به وكره أن يكون بين قوم قد جربوا عليه الخلف فيما وعدهم واستحيا منهم، ولم يعلم السبب الذي رفع به العذاب عنهم، و كان غضبه أنفة من ظهور خلف وعده وأن يسمى كذاباً لا كراهية الحكم لله تعالى.
وفي بعض الأخبار أنه كان من عادة قومه أن يقتلوا من جرب عليه الكذب، فخشي أن يقتلوه لما لم يأتهم العذاب للميعاد، فغضب والمغاضبة هاهنا من المفاعلة التي تكون من واحد كالمنافرة والمعاقبة، فمعنى قوله مغاضباً أي : غضباناً.
وقال الحسن : إنما غاضب ربه من أجل أنه أمره بالمسير إلى قوم لينذرهم بأسه ويدعوهم إليه، فسأل ربه أن ينظره ليذهب، فقيل له : إن الأمر أسرع من ذلك حتى سأله أن ينظره إلى أن يأخذ نعلاً يلبسها، فلم ينظره، وكان في خلقه ضيق، فذهب مغاضباً، وعن ابن عباس قال : أتى جبريل يونس فقال : انطلق إلى أهل نينوى فأنذرهم، قال التمس دابة قال : الأمر أعجل من ذلك، فغضب فانطلق إلى السفينة وقال وهب : إنّ يونس كان عبداً صالحاً، وكان في خلقه ضيق، فلما حمل عليه أثقال النبوّة تفسخ تحتها تفسخ الربع تحت الحمل الثقيل، فقذفها بين يديه وخرج هارباً، فلذلك أخرجه الله تعالى من أولي العزم، فقال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم ﴿ فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ﴾ [ الأحقاف، ٣٥ ]، وقال :﴿ ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم ﴾ [ القلم، ٤٨ ] ﴿ فظن أن لن نقدر عليه ﴾ أي : لن نقضي عليه بالعقوبة قاله مجاهد وقتادة والضحاك، وقال عطاء وكثير من العلماء معناه، فظن أن لن نضيق عليه الحبس من قوله تعالى :﴿ الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ﴾ [ الرعد، ٢٦ ] وعن ابن عباس أنه دخل على معاوية فقال : لقد ضربتني أمواج القرآن البارحة فغرقت فيها، فلم أجد لنفسي خلاصاً إلا بك، قال : وما هي يا معاوية ؟ فقرأ هذه الآية فقال : أو يظن نبيّ الله أن لن يقدر عليه، قال هذا من القدر الذي معناه الضيق لا من القدرة، وقال ابن زيد : هو استفهام معناه أفظن أنه يعجز ربه فلا يقدر عليه ﴿ فنادى ﴾ أي : فاقتضت حكمتنا أن عاتبناه حتى يستسلم، فألقى نفسه في البحر، فالتقمه الحوت، فمكث فيه أربعين من بين يوم وليلة، وقال عطاء : سبعة أيام.
وقيل : إن الحوت ذهب به مسيرة ستة آلاف سنة، وقيل : بلغ به تخوم الأرض السابعة، ومنعناه أن يكون له طعاماً، فنادى ﴿ في الظلمات ﴾ ظلمة الليل وظلمة البحر، وظلمة بطن الحوت وقيل : في الظلمة الشديدة المتكاثفة في بطن الحوت كقوله تعالى :﴿ ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات ﴾ [ البقرة، ١٧ ] وقوله :﴿ يخرجهم من النور إلى الظلمات ﴾ [ البقرة، ٢٥٧ ]، وقيل : ابتلع حوته حوت أكبر منه فجعل في ظلمتي بطن الحوتين، وظلمة البحر ﴿ أن لا إله إلا أنت ﴾ ولما نزهه عن الشريك عمم فقال تعالى :﴿ سبحانك ﴾ أي : تنزهت عن كل نقص فلا يقدر على الإنجاء مما أنا فيه إلا أنت، ثم أفصح بطلب الخلاص بقوله ناسباً إلى نفسه من النقص ما نزه الله عن مثله ﴿ إني كنت من الظالمين ﴾ أي : في خروجي من بين قومي قبل الإذن فاعف عني كما هي سيرة القادرين. روي عن أبي هريرة مرفوعاً «أوحى الله تعالى إلى الحوت أن خذه، ولا تخدش له لحماً، ولا تكسر له عظماً، فأخذه ثم هوى به إلى مسكنه في البحر، فلما انتهى به إلى أسفل البحر سمع يونس حساً فقال في نفسه : ما هذا، فأوحى الله تعالى إليه أنّ هذا تسبيح دواب البحر ؛ قال : فسبح هو في بطن الحوت فسمع الملائكة تسبيحه فقالوا : يا ربنا نسمع صوتاً ضعيفاً بأرض غريبة، وفي رواية صوتاً معروفاً من مكان مجهول، فقال ذلك عبدي يونس عصاني فحبسته في بطن الحوت، فقالوا : العبد الصالح الذي كان يصعد إليك منه في كل يوم وليلة عمل صالح قال نعم فشفعوا فيه عند ذلك، فأمر الحوت فقذفه في الساحل كما قال تعالى ﴿ فنبذناه بالعراء وهو سقيم ﴾
فذلك قوله تعالى :﴿ فاستجبنا له ﴾
﴿ فاستجبنا له ﴾ أي : أجبناه ﴿ ونجيناه من الغم ﴾ أي : من تلك الظلمات بتلك الكلمات ﴿ وكذلك ﴾ أي : وكما نجيناه ﴿ ننجي المؤمنين ﴾ من كربهم إذا استغاثوا بنا داعين قال الرازي في اللوامع : وشرط كل من يلتجئ إلى الله أن يبدأ بالتوحيد ثم بعده بالتسبيح والثناء، ثم بالاعتراف والاستغفار والاعتذار، وهذا شرط كل داع أه.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم :«ما من مكروب يدعو بهذا الدعاء إلا استجيب له »، وعن الحسن ما نجاه والله إلا إقراره على نفسه بالظلم، وقرأ ابن عامر وأبو بكر بنون واحدة مضمومة وتشديد الجيم على أنّ أصله ننجي، فحذفت النون الثانية كما حذفت التاء الثانية في تظاهرون، وهي إن كانت فاء فحذفها أوقع من حذف حرف المضارعة الذي لمعنى وقيل : هو ماض مجهول أسند إلى ضمير المصدر وهو النجاء، وقرأ الباقون بنونين الثانية مخفاة عند الجيم.
تنبيه : اختلفوا في متى كانت رسالة يونس عليه الصلاة والسلام فروى سعيد بن جبير عن ابن عباس كانت بعد أن أخرجه الله تعالى من بطن الحوت بدليل قوله تعالى في سورة والصافات :﴿ فنبذناه بالعراء ﴾ [ الصافات، ١٤٥ ]، ثم ذكر بعده :﴿ وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون ﴾ [ الصافات، ١٤٧ ]، وقال آخرون : إنها كانت من قبل بدليل قوله تعالى :﴿ وإن يونس لمن المرسلين ١٣٩ إذ أبق إلى الفلك المشحون ١٤٠ فساهم فكان من المدحضين ١٤١ فالتقمه الحوت وهو مليم ١٤٢ فلولا أنه كان من المسبحين ١٤٣ للبث في بطنه إلى يوم يبعثون ﴾ [ الصافات، ١٣٩ - ١٤٤ ].
القصة التاسعة : قصة زكريا عليه الصلاة والسلام المذكورة في قوله تعالى :﴿ وزكريا ﴾ أي : واذكر زكريا ويبدل منه ﴿ إذ نادى ربه ﴾ نداء الحبيب القريب فقال :﴿ رب ﴾ بإسقاط أداة البعد ﴿ لا تذرني فرداً ﴾ أي : وحيداً من غير ولد ذكر يرث ما آتيتني من الحكمة ﴿ وأنت ﴾ أي : والحال أنك ﴿ خير الوارثين ﴾ أي : الباقي بعد فناء خلقك، وكثيراً ما تمنح إرث بعض عبيدك عبيداً آخرين، فأنت الحقيق بأن تفعل في إرثي من العلم والحكمة ما أحب، فتهبني ولداً تمنّ عليَّ به.
﴿ فاستجبنا له ﴾ بعظمتنا وإن كان في حدّ من السن لا حراك به معه، وزوجه في حال من العقم لا يرجى معه حبلها فكيف وقد جاوزت سن اليأس، ولذلك عبر بما يدل على العظمة، فقال تعالى :﴿ ووهبنا له يحيى ﴾ ولداً وارثاً نبياً حكيماً عظيماً ﴿ وأصلحنا له ﴾ خاصة من بين أهل ذلك الزمان ﴿ زوجه ﴾ أي : جعلناها صالحة لكل خير خالصة له، فأصلحناها للولادة بعد عقمها، وأصلحناها لزكريا بعد أن كانت سريعة الغضب سيئة الخلق، فأصلحناها له ورزقناها حسن الخلق ﴿ إنهم ﴾ أي : الأنبياء الذين سماهم في هذه السورة وقيل : زكريا وزوجه ويحيى ﴿ كانوا ﴾ أي : جبلة وطبعاً ﴿ يسارعون في الخيرات ﴾ أي : الطاعات يبالغون في الإسراع بها مبالغة من يسابق آخر، ودل على عظيم أفعالهم بقوله تعالى :﴿ ويدعوننا ﴾ مستحضرين لجلالنا وعظمتنا وكمالنا ﴿ رغباً ﴾ أي : طمعاً في رحمتنا ﴿ ورهباً ﴾ أي : خوفاً من عذابنا ﴿ وكانوا ﴾ أي : جبلة وطبعاً ﴿ لنا ﴾ خاصة ﴿ خاشعين ﴾ أي : خائفين خوفاً عظيماً يحملهم على الخضوع والانكسار، قال مجاهد : الخشوع هو الخوف اللازم للقلب، وقيل : متواضعين، وسئل الأعمش عن هذه الآية فقال : أما إني سألت إبراهيم فقال : ألا تدري ؟ قلت : أفدني، قال : بينه وبين الله إذا أرخى ستره عليه وأغلق بابه فلير الله منه خيراً لعلك ترى أنه يأكل خشناً ويلبس خشناً ويطأطئ رأسه.
القصة العاشرة : قصة مريم وابنها عليهما السلام المذكورة في قوله تعالى :﴿ والتي ﴾ أي : واذكر مريم التي ﴿ أحصنت فرجها ﴾ أي : حفظته من الحلال والحرام حفظاً يحق له أن يذكر ويتحدّث به كما قال تعالى حكاية عنها، ﴿ ولم يمسسني بشر ولم أك بغياً ﴾ [ مريم، ٢٠ ] ؛ لأنّ ذلك غاية في العفة والصيانة والتخلي عن الملاذ إلى الانقطاع إلى الله تعالى بالعبادة مع ما جمعت مع ذلك من الأمانة والاجتهاد في متانة الديانة والصحيح أنها ليست بنبية ﴿ فنفخنا فيها من روحنا ﴾ أي : أمرنا جبريل حتى نفخ في جيب درعها فأحدثنا بذلك النفخ المسيح في بطنها، وأضاف الروح إليه تعالى تشريفاً لعيسى عليه السلام كبيت الله وناقة الله.
ثم بيّن تعالى ما خص مريم وعيسى من الآيات فقال تعالى :﴿ وجعلناها وابنها ﴾ أي : قصتهما أو حالهما، ولذلك وحد قوله تعالى :﴿ آية للعالمين ﴾ من الجنّ والإنس والملائكة، وإنّ تأمّل حالهما تحقق كمال قدرة الله تعالى فإن قيل : هلا قال تعالى آيتين كما قال تعالى :﴿ وجعلنا الليل والنهار آيتين ﴾ [ الإسراء، ١٢ ] أجيب : بما تقدّم وبأن الآية كانت فيهما واحدة وهي أنها أتت به من غير فحل.
وهاهنا آخر القصص. ولما دل ما مضى من قصص هؤلاء الأنبياء عليهم السلام أنهم كلهم متفقون على التوحيد الذي هو أصل الدين قال تعالى :
﴿ إن هذه ﴾ أي : ملة الإسلام ﴿ أمّتكم ﴾ أي : دينكم أيها المخاطبون أي : يجب أن تكونوا عليها حال كونها ﴿ أمة ﴾ قال البغوي وأصل الأمّة الجماعة التي هي على مقصد واحد ا. ه فجعل الشريعة أمّة لاجتماع أهلها على مقصد واحد. أه ثم أكد سبحانه وتعالى هذا المعنى بقوله تعالى :﴿ واحدة ﴾ فأبطل ما سوى الإسلام من الأديان ﴿ وأنا ربكم ﴾ أي : المحسن إليكم لا غيري في كل زمان فإني لا أتغير على طول الدهر، ولا يشغلني شأن عن شأن ﴿ فاعبدون ﴾ دون غيري فإنه لا كفء لي، ثم إنّ بعضهم خالف الأمر بالاجتماع كما أخبر الله تعالى.
﴿ وتقطعوا ﴾ أي : بعض المخاطبين ﴿ أمرهم بينهم ﴾ أي : تفرقوا أمر دينهم متخالفين فيه وهم طوائف اليهود والنصارى ؛ قال الكلبي : فرّقوا دينهم بينهم يلعن بعضهم بعضاً ويتبرأ بعضهم من بعض.
تنبيه : الأصل وتقطعتم إلا أنّ الكلام صرف إلى الغيبة على طريقة الالتفات كأنه ينعي عليهم ما أفسدوه إلى آخرين، ويقبح عليهم فعلهم عندهم، ويقول لهم : ألا ترون إلى عظيم ما ارتكب هؤلاء في دين الله تعالى، والمعنى : جعلوا أمر دينهم فيما بينهم قطعاً كما يتوزع الجماعة الشيء ويقتسمونه بينهم، فيصير لهذا نصيب، ولذاك نصيب تمثيلاً لاختلافهم فيه وصيرورتهم فرقاً وأحزاباً شتى، ثم توعدهم بقوله تعالى :﴿ كلٌ ﴾ أي : من هذه الفرق وإن بالغ في التمرّد ﴿ إلينا ﴾ يوم القيامة ﴿ راجعون ﴾ فنحكم بينهم فيتسبب عن ذلك أنّا نجازيهم إقامة للعدل، فنعطي كلاً من المحق التابع لأصفيائنا والمبطل المائل إلى الشياطين أعدائنا ما يستحقه، وذلك هو معنى قوله تعالى فارقاً بين المحسن والمسيء تحقيقاً للعدل وتشويقاً إلى الفضل.
﴿ فمن يعمل ﴾ أي : منهم الآن ﴿ من الصالحات وهو ﴾ أي : والحال أنه ﴿ مؤمن ﴾ أي : يأتي بعمله على الأساس الصحيح ﴿ فلا كفران ﴾ أي : لا جحود ﴿ لسعيه ﴾ بل يشكر ويثاب عليه.
تنبيه : قوله تعالى : فلا كفران نفى الجنس ليكون أبلغ من أن يقول : فلا نكفر سعيه ﴿ وإنّا له ﴾ أي : لسعيه ﴿ كاتبون ﴾ أي : مثبتون في صحيفة عمله وما أثبتناه فهو غير ضائع فلا يفقد منه شيئاً قل أو جل، ومن المعلوم أنّ قسيمه وهو من يعمل من السيئات وهو كافر، فلا نقيم له وزناً، ومن يعمل منها وهو مؤمن فهو تحت مشيئتنا قال البقاعيّ : ولعله حذف هذين القسمين ترغيباً في الإيمان.
ولما كان هذا غير صريح في أنَّ هذا الرجوع بعد الموت بيّنه بقوله تعالى :﴿ وحرام ﴾ أي : ممنوع ﴿ على قرية ﴾ أي : أهلها ﴿ أهلكناها ﴾ أي : بالموت ﴿ أنهم لا يرجعون ﴾ أي : إلينا بأن يذهبوا تحت التراب باطلاً من غير إحباس بل إلينا بموتهم راجعون فحبسناهم في البرزخ منعمين أو معذبين نعيماً أو عذاباً دون النعيم والعذاب الأكبر.
تنبيه : ما قدّرناه في الآية هو ما جرى عليه البقاعيّ والذي قدّره الزمخشري أنَّ معنى أهلكناها عزمنا على إهلاكها، أو قدّرنا إهلاكها، ومعنى الرجوع الرجوع من الكفر إلى الإسلام والإنابة، فتكون لا مزيدة والذي قدّره الجلال المحلي أنّ لا زائدة أي : يمتنع رجوعهم إلى الدنيا فيكون الإهلاك بالموت، وهذا قريب مما قاله ابن عباس فإنه قال : وحرام على قرية أهلكناها أن يرجعوا بعد الهلاك، فجعل لا زائدة قال البغويّ وقال آخرون : الحرام بمعنى الواجب، فعلى هذا يكون لا ثابتاً ومعناه واجب على أهل قرية أهلكناهم أي : حكمنا بهلاكهم أن لا تتقبل أعمالهم لأنهم لا يرجعون أي : لا يتوبون والدليل على هذا المعنى أنه تعالى قال في الآية التي قبلها :﴿ ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه ﴾ أي : يتقبل عمله، ثم ذكر هذه الآية عقبه وبين أنّ الكافر لا يتقبل عمله انتهى والذي قدّره البيضاوي قريب مما قدّره الزمخشري وكل هذه التقادير صحيحة ؛ لكن الأوّل أظهر، وقرأ شعبة وحمزة والكسائي بكسر الحاء وسكون الراء والباقون بفتح الحاء والراء وألف بعد الراء قال البغوي : وهما لغتان مثل حل وحلال.
وقوله تعالى :﴿ حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج ﴾ متعلق كما قال الزمخشري بحرام وحتى غاية له ؛ لأن امتناع رجوعهم لا يزول حتى تقوم القيامة وهي حتى التي يحكى بعدها الكلام أي : فهي الابتدائية لا الجارّة ولا العاطفة والمحكي هو الجملة الشرطية، وقرأ ابن عامر بتشديد التاء بعد الفاء والباقون بالتخفيف ويأجوج ومأجوج اسمان أعجميان اسم لقبيلتين من جنس الإنس ويقدر قبله مضاف أي : سدّهما، وذلك قرب الساعة يقال الناس عشرة أجزاء ؛ تسعة منها يأجوج ومأجوج، وقرأهما عاصم بهمزة ساكنة والباقون بالألف، ثم عبّر عن كثرتهم التي لا يعلمها إلا هو سبحانه وتعالى بقوله تعالى :﴿ وهم ﴾ أي : والحال أنهم ﴿ من كل حدب ﴾ أي : نشز عال من الأرض ﴿ ينسلون ﴾ أي : يسرعون من النسلان، وهو تقارب الخطا مع السرعة كمشي الذئب، وفي العبارة إيماء إلى أنّ الأرض كرة، وقيل : الضمير راجع إلى الناس المسوقين إلى المحشر. روي عن حذيفة بن أسيد الغفاري قال :" اطلع النبيّ صلى الله عليه وسلم علينا ونحن نتذاكر الساعة فقال صلى الله عليه وسلم ما تتذاكرون ؟ قلنا : نتذاكر الساعة، قال : إنها لن تقوم الساعة حتى تروا قبلها عشر آيات، فذكر الدجال والدخان والدابة وطلوع الشمس من مغربها، ونزول عيسى بن مريم عليه السلام، ويأجوج ومأجوج وثلاثة خسوف خسف بالمشرق وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم ".
﴿ واقترب الوعد الحق ﴾ أي : يوم القيامة ؛ قال حذيفة : لو أنّ رجلاً اقتنى فلواً بعد خروج يأجوج ومأجوج لم يركبه حتى تقوم الساعة ﴿ فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا ﴾ قال الكلبيّ : شخصت أبصار الكفار فلا تكاد تطرف من شدة ذلك اليوم.
تنبيه : فإذا هي إذا للمفاجأة وهي تقع في المجازاة سادّة مسدّ الفاء كقوله تعالى :﴿ إذا هم يقنطون ﴾ [ الروم، ٣٦ ]، فإذا جاءت الفاء معها تعاونتا على وصل الجزاء بالشرط، فيتأكد، ولو قيل : إذا هي شاخصة أو فهي شاخصة كان سديداً، قال سيبويه : والضمير للقصة بمعنى فإذا القصة شاخصة يعني القصة أنّ أبصار الذين كفروا تشخص عند ذلك، وقال الزمخشري : هي ضمير مبهم توضحه الأبصار، وتفسره كما فسر الذين ظلموا وأسروا النجوى وقولهم :﴿ يا ويلنا ﴾ أي : هلاكنا متعلق بمحذوف تقديره : يقولون يا ويلنا، ويقولون في موضع الحال من الذين كفروا ويا للتنبيه ﴿ قد كنا ﴾ أي : في الدنيا ﴿ في غفلة من هذا ﴾ أي : اليوم حيث كذبنا وقلنا : إنه غير كائن، ثم أضربوا عن الغفلة فقالوا :﴿ بل كنا ظالمين ﴾ أنفسنا بعدم اعتقاده واضعين الشيء في غير موضعه حيث أعرضنا عن تأمّل دلائله، والنظر في مخايله، وكذبنا الرسل وعبدنا الأوثان.
وقوله تعالى :﴿ إنكم ﴾ خطاب لأهل مكة، وأكده لإنكارهم مضمون الخبر ﴿ وما تعبدون من دون الله ﴾ أي : غيره من الأوثان ﴿ حصب جهنم ﴾ أي : وقودها، وهو ما يرمى به إليها وتهيج به من حصبه يحصبه إذا رماه بالحصب والحصب في لغة أهل اليمن الحطب، وقال عكرمة : هو الحطب بالحبشية قال الضحاك : يعني يرمون بهم في النار كما يرمى بالحصب، وقوله تعالى :﴿ أنتم لها واردون ﴾ أي : داخلون استئناف أو بدل من حصب جهنم، واللام معوضة من على للاختصاص والدلالة على أنّ ورودهم لأجلها.
﴿ لو كان هؤلاء ﴾ أي : الأوثان ﴿ آلهة ﴾ أي : كما زعمتم ﴿ ما وردوها ﴾ أي : ما دخل الأوثان وعابدوها النار، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بإبدال الهمزة الثانية ياءً خالصة في الوصل بعد تحقيق الأولى، والباقون بتحقيقهما ﴿ وكل ﴾ أي : من العابدين والمعبودين ﴿ فيها ﴾ أي : في جهنم ﴿ خالدون ﴾ لا انفكاك لهم عنها بل يحمى بكل منهم فيها على الآخر فإن قيل : لم قرنوا بآلهتهم ؟ أجيب : بأنهم لا يزالون لمقارنتهم في زيادة غم وحسرة حيث أصابهم ما أصابهم بسببهم والنظر إلى وجه العدوّ باب من العذاب ؛ لأنهم قدروا أنهم يستشفعون في الآخرة وينتفعون بشفاعتهم، فإذا صادفوا الأمر على عكس ما قدروا لم يكن شيء أبغض إليهم منهم.
فإن قيل : إذا عنيت بما تعبدون الأوثان فما معنى قوله تعالى :﴿ لهم فيها زفير ﴾ أي : تنفس عظيم على غاية من الشدّة والمد تكاد تخرج معه النفس ؟ أجيب : بأنهم إذا كانوا هم وأوثانهم في قرن واحد جاز أن يقال لهم : زفير، وإن لم يكن الزافرون إلا هم دون الأوثان للتغليب ولعدم الإلباس ﴿ وهم فيها لا يسمعون ﴾ شيئاً لشدّة غليانها، وقال ابن مسعود في هذه الآية : إذا بقي في النار من يخلد فيها جعلوا في توابيت من نار، ثم جعلت تلك التوابيت في توابيت أخرى عليها مسامير من نار فلا يسمعون شيئاً، ولا يرى أحد منهم أنّ أحداً يعذب في النار غيره، وروي «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل المسجد وصناديد قريش في الحطيم وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً فجلس إليهم، فعرض له النضر بن الحارث فكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أفحمه، ثم تلا عليهم إنكم وما تعبدون من دون الله الآية، فأقبل عبد الله بن الزبعري السلمي، فرآهم يتهامسون فقال : فيم خوضكم، فأخبره الوليد بن المغيرة بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عبد الله : أما والله لو وجدته لخصمته، فدعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له ابن الزبعري : أأنت قلت ذلك ؟ قال : نعم، قال : قد خصمتك ورب الكعبة أليس اليهود عبدوا عزيراً والنصارى عبدوا المسيح، وبنو مليح عبدوا الملائكة، فقال صلى الله عليه وسلم : بل هم عبدوا الشياطين التي أمرتهم بذلك، فأنزل الله تعالى :﴿ إن الذين سبقت لهم منا الحسنى ﴾.
﴿ إن الذين سبقت لهم منا الحسنى ﴾ أي : الحكم بالموعدة البالغة في الحسن في الأزل، ومنهم من ذكر سواء أضل بأحد منهم الكفار فأطروه أم لا ﴿ أولئك ﴾ أي : العالو الرتبة ﴿ عنها ﴾ أي : جهنم ﴿ مبعدون ﴾ برحمة الله تعالى لأنهم أحسنوا في العبادة واتقوا، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان، وفي رواية ابن عباس «أن ابن الزبعرى لما قال للنبي صلى الله عليه وسلم ذلك سكت ولم يجب، فضحك القوم، فنزل قوله تعالى :﴿ ولما ضرب ابن مريم مثلاً إذا قومك منه يصدّون ٥٧ وقالوا أآلهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلاً بل هم قوم خصمون ﴾ [ الزخرف، ٥٧، ٥٨ ]، ونزل في عيسى والملائكة أن الذين سبقت لهم منا الحسنى الآية، وقد أسلم ابن الزبعري بعد ذلك رضي الله تعالى عنه، ومدح النبي صلى الله عليه وسلم وادّعى جماعة أنّ المراد من الآية الأصنام ؛ لأنّ الله تعالى قال : وما تعبدون من دون الله، ولو أراد الملائكة والناس لقال : ومن تعبدون، يروى أن علياً رضي الله تعالى عنه قرأ هذه الآية ثم قال : أنا منهم، وأبو بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وسعد وسعيد وعبد الرحمن بن عوف وابن الجراح، ثم أقيمت الصلاة فقام يجرّ رداءه وهو يقول :﴿ لا يسمعون حسيسها ﴾.
﴿ لا يسمعون حسيسها ﴾ أي : حركتها البالغة وصوتها الشديد، فكيف بما دونه ؛ لأنّ الحس مطلق الصوت أو الصوت الخفي كما قاله البغوي، فإذا زادت حروفه زاد معناه، فذكر ذلك بدلاً من مبعدون أو حال من ضميره للمبالغة في إبعادهم عنها ﴿ وهم ﴾ أي : الذين سبقت لهم منا الحسنى ﴿ في ما اشتهت أنفسهم ﴾ في الجنة كما قال تعالى :﴿ وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين ﴾ [ الزخرف، ٧١ ] والشهوة طلب النفس اللذة ﴿ خالدون ﴾ أي : دائماً أبداً في غاية التنعم وتقديم الظرف للاختصاص والاهتمام به.
فائدة : في هنا مقطوعة من ما ولما كان معنى ذلك أن سرورهم ليس له زوال أكده بقوله تعالى :﴿ لا يحزنهم الفزع الأكبر ﴾.
﴿ لا يحزنهم الفزع الأكبر ﴾ قال الحسن : هو حين يؤمر بالعبد إلى النار، وقال ابن عباس : هو النفخة الأخيرة لقوله تعالى :﴿ ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض ﴾ [ النمل، ٧٨ ]، وقال ابن جريج : هو حين يذبح الموت وينادى : يا أهل النار خلود بلا موت، وقال سعيد بن جبير هو أن تنطبق جهنم، وذلك بعد أن يخرج الله تعالى منها من يريد أن يخرجه ﴿ وتتلقاهم ﴾ أي : تستقبلهم ﴿ الملائكة ﴾ قال البغوي : على أبواب الجنة يهنونهم، وقال الجلال المحلي : عند خروجهم من القبور، ولا مانع أنها تستقبلهم في الحالين ويقولون لهم :﴿ هذا يومكم الذي كنتم توعدون ﴾ أي : هذا وقت ثوابكم الذي وعدكم ربكم به في الدنيا فأبشروا فيه بجميع ما يسركم.
ولما كانت هذه الأفعال على غاية من الأهوال تتشوّف بها النفس إلى معرفة اليوم الذي تكون فيه قال تعالى :﴿ يوم ﴾ أي : تكون هذه الأشياء يوم ﴿ نطوي السماء ﴾ طياً، فتكون كأنها لم تكن ثم صوّر طيها بما يعرفونه، فقال مشبهاً للمصدر الذي دل عليه الفعل ﴿ كطيّ السجلّ ﴾، واختلف في السجلّ فقال بعضهم : هو الكاتب الذي له العلوّ والقدرة على مكتوبه ﴿ للكتاب ﴾ أي : القرطاس الذي يكتبه ويرسله إلى أحد، وقال السدّي : هو ملك يكتب أعمال العباد، وقيل : كاتب كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم والكتاب على هذه الأقوال اسم للصحيفة المكتوب فيها، وقال ابن عباس ومجاهد والأكثرون : السجل الصحيفة والمعنى كطيّ الصحيفة على مكتوبها، والطي هو الدرج، وهو ضدّ النشر، وإنما وقع هذا الاختلاف ؛ لأن السجل يطلق على الكتاب وعلى الكاتب قاله في القاموس، وقرأ حفص وحمزة والكسائي بضم الكاف والتاء على الجمع، والباقون بكسر الكاف وفتح التاء، وبين الكاف والتاء ألف على الإفراد، فقراءة الإفراد لمقابلة لفظ السماء والجمع للدلالة على أن المراد الجنس، فجميع السماوات تطوى.
روي عن ابن عباس أنه قال : يطوي الله تعالى السماوات السبع بما فيها من الخليقة والأرضين السبع بما فيها من الخليقة يطوي ذلك كله بيمينه أي بقدرته، حتى يكون ذلك بمنزلة خردلة، وروي عن ابن عباس أنه قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بموعظة فقال :" أيها الناس إنكم محشورون إلى الله حفاة عراة غرلاً " أي : غير مختونين ﴿ كما بدأنا أوّل خلق نعيده ﴾ أي : كما بدأناهم في بطون أمهاتهم عراة غرلاً غير مختونين نعيدهم يوم القيامة ؛ نظيره قوله تعالى :﴿ ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرّة ﴾ [ الأنعام، ٩٤ ] ﴿ وعداً ﴾ وأكد ذلك بقوله تعالى ﴿ علينا ﴾ وزاده بقوله تعالى :﴿ إنّا كنّا ﴾ أي : أزلاً وأبداً على حالة لا تحول ﴿ فاعلين ﴾ أي : شأننا أن نفعل ما نريد لا كلفة علينا في شيء من ذلك.
ثم إنه تعالى حقق ذلك بقوله تعالى :﴿ ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر ﴾ قال سعيد بن جبير ومجاهد الزبور جميع كتب الله تعالى المنزلة والذكر أمّ الكتاب الذي عنده، ومعناه من بعدما كتب ذكره في اللوح المحفوظ، وقال ابن عباس والضحاك : الزبور والتوراة والذكر الكتب المنزلة من بعد التوراة، وقال الشعبي : الزبور كتاب داود الذكر التوراة، وقيل : الزبور كتاب داود عليه السلام، والذكر القرآن، وبعد بمعنى قبل كقوله تعالى :﴿ وكان وراءهم ملك ﴾ [ الكهف، ٧٩ ] أي : أمامهم، وقوله تعالى :﴿ والأرض بعد ذلك دحاها ﴾ [ النازعات، ٣٠ ] أي : قبله، وقرأ حمزة بضم الزاي والباقون بفتحها ﴿ أن الأرض ﴾ أي : أرض الجنة ﴿ يرثها عبادي ﴾ وحقق ذلك ما أفادته إضافتهم إليه بقوله تعالى :﴿ الصالحون ﴾ أي : المتحققون بأخلاق أهل الذكر، المقبلون على ربهم الموحدون له، المشفقون من الساعة، الراهبون من سطوته، الراغبون في رحمته، الخاشعون له، فهذا عام في كل صالح، وقال مجاهد : يعني أمّة محمد صلى الله عليه وسلم دليله قوله تعالى :﴿ وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوّأ من الجنة حيث نشاء ﴾ [ الزمر، ٧٤ ] وقال ابن عباس : أراد أنّ أراضي الكفار يفتحها المسلمون، وهذا حكم من الله تعالى بإظهار الدين وإعزاز المسلمين، وقيل : أراد بالأرض الأرض المقدسة، وقيل : أراد جنس الأرض الشامل لبقاع أرض الدنيا كلها ولأرض المحشر والجنة وغير ذلك مما يعلمه الله تعالى، وجرى على هذا البقاعي في تفسيره، وقرأ حمزة بسكون الياء، والباقون بفتحها.
﴿ إنّ في هذا ﴾ أي : القرآن كما قاله البغوي ﴿ لبلاغاً ﴾ أي : وصولاً إلى البغية، فإن من اتبع القرآن وعمل به وصل إلى ما يرجو من الثواب، وقيل : بلاغاً أي : كفاية يقال في هذا الشيء بلاغ وبلغة أي : كفاية، والقرآن زاد الجنة كبلاغ المسافر، وقال الرازي : هذا إشارة إلى المذكور في هذه السورة من الأخبار والوعد والوعيد والمواعظ البالغة ﴿ لقوم عابدين ﴾ أي : عاملين به، وقال ابن عباس : عالمين، قال الرازي : والأولى أنهم الجامعون بين أمرين ؛ لأن العلم كالشجرة، والعمل كالثمر والشجر بدون الثمر غير مفيد، والثمر بدون الشجر غير كائن، وقال كعب الأحبار هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم أهل الصلوات الخمس، وشهر رمضان،
ولما كان هذا مشيراً إلى إرشادهم فكان التقدير فما أرسلناك إلا لإسعادهم عطف عليه قوله تعالى :﴿ وما أرسلناك ﴾ أي : على حالة من الأحوال ﴿ إلا ﴾ على حال كونك ﴿ رحمة للعالمين ﴾ كلهم أهل السماوات وأهل الأرض من الجنّ والإنس وغيرهم طائعهم بالثواب وعاصيهم بتأخير العقاب الذي كنا نستأصل الأمم به، فنحن نمهلهم ونترفق بهم إظهاراً لشرفك، وإعلاء لقدرك، ثم نردّ كثيراً منهم إلى دينك ونجعلهم من أكابر أنصارك وأعاظم أعوانك بعد طول ارتكابهم الضلال، وارتباكهم في إشراك المحال، ومن أعظم ما يظهر فيه هذا الشرف في عموم الرحمة وقت الشفاعة العظمى يوم يجمع الله تعالى الأوّلين والآخرين، وتقوم الملائكة صفوفاً والثقلان وسطهم، ويموج بعضهم في بعض من شدّة ما هم فيه يطلبون من يشفع لهم فيقصدون أكابر الأنبياء نبياً نبياً عليهم الصلاة والسلام، فيحيل بعضهم على بعض وكل منهم يقول : لست لها حتى يأتوه صلى الله عليه وسلم فيقول :«أنا لها »، ويقوم معه لواء الحمد، فيشفعه الله تعالى، وهو المقام المحمود الذي يغبطه به الأولون والآخرون، فهو صلى الله عليه وسلم أفضل الخلق أجمعين.
ولما أورد تعالى على الكفار الحجج في أن لا إله سواه وبيّن أنه أرسل رسوله رحمة للعالمين أتبع ذلك بأمره صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى :﴿ قل إنما يوحي إلي أنما إلهكم إله واحد ﴾ أي : ما يوحى إلي في أمر الإله إلا وحدانيته وما إلهكم إلا إله واحد لم يوح إلي فيما تدّعون من الشركة غير ذلك فالأوّل من قصر الصفة على الموصوف، والثاني : من قصر الموصوف على الصفة والمخاطب بهما من يعتقد الشركة فهو قصر قلب، وقال الزمخشري : إنما لقصر الحكم على شيء أو لقصر الشيء على حكم كقولك : إنما زيد قائم، وإنما يقوم زيد، وقد اجتمع المثالان في هذه الآية ؛ لأن إنما يوحي إلي مع فاعله بمنزلة إنما يقوم زيد وإنما إلهكم إله واحد بمنزلة إنما زيد قائم، وفائدة اجتماعهما الدلالة على أنّ الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقصور على استئثار الله تعالى بالوحدانية انتهى. ولما كان الوحي الوارد على هذه السنن موجباً أن يخلصوا التوحيد لله تعالى قال صلى الله عليه وسلم ﴿ فهل أنتم مسلمون ﴾ أي : منقادون لما يوحى إلي من وحدانية الإله، والاستفهام بمعنى الأمر أي : أسلموا.
﴿ فإن تولوا ﴾ أي : لم يقبلوا ما دعوتهم إليه ﴿ فقل ﴾ أي : لهم ﴿ آذنتكم ﴾ أي : أعلمتكم بالحرب كرجل بينه وبين أعدائه هدنة فأحس منهم بغدرة، فنبذ إليهم العهد وأشهر النبذ وأشاعه وآذنهم جميعاً بذلك، وقوله :﴿ على سواء ﴾ حال من الفاعل والمفعول أي : مستوين في الإعلام به لم أطوه عن أحد منكم ولا أستبدّ به دونكم لتتأهبوا ﴿ وإن ﴾ أي : وما ﴿ أدري أقريب ﴾ جدّاً بحيث يكون قربه على ما يتعارفونه ﴿ أم بعيد ما توعدون ﴾ من غلب المسلمين عليكم أو عذاب الله أو القيامة المشتملة عليه، وإنّ ذلك كائن لا محالة ولا بدّ أن يلحقكم بذلك الذلة والصغار، وإن كنت لا أدري متى يكون ذلك ؛ لأنّ الله تعالى لم يعلمني علمه، ولم يطلعني عليه، وإنما يعلمه الله تعالى.
﴿ إنه ﴾ تعالى ﴿ يعلم الجهر من القول ﴾ أي : مما يجهرون به من العظائم وغير ذلك، ونبه تعالى على ذلك فإنّ من أحوال الجهر أن ترتفع الأصوات جداً بحيث تختلط ولا يميز بينها ولا يعرف كثير من حاضريها ما قاله أكثر القائلين، فأعلم سبحانه وتعالى أنه لا يشغله صوت عن آخر، ولا يفوته شيء من ذلك ولو كثر ﴿ ويعلم ما تكتمون ﴾ مما تضمرونه في صدوركم من الأحقاد للمسلمين، ونظير ذلك قوله تعالى في أول السورة :﴿ قال ربي يعلم القول في السماء والأرض ﴾ [ الأنبياء، ٤ ] ومن لازم ذلك من المجازاة عليه بما يحق لكم من تعجيل وتأجيل فستعلمون كيف تخيب ظنونكم ويتحقق ما أقول فتنطقون حينئذٍ بأني صادق ولست بساحر ولا شاعر ولا كاهن، فهو من أبلغ التهديد، فإنه لا أبلغ من التهديد بالعلم،
ولما كان الإمهال قد يكون نعمة وقد يكون نقمة قال :﴿ وإن ﴾ أي : وما ﴿ أدري ﴾ أن يكون تأخير عذابكم نعمة لكم كما تظنون أم لا ﴿ لعله ﴾ أي : تأخير العذاب ﴿ فتنة ﴾ أي : اختبار ﴿ لكم ﴾ ليظهر ما يعلمه منكم من السر لغيره لأنّ حالكم حال من يتوقع منه ذلك ﴿ ومتاع ﴾ لكم تتمتعون به ﴿ إلى حين ﴾ أي : بلوغ مدّة آجالكم التي ضربها لكم في الأزل، ثم يأخذكم بغتة وأنتم لا تشعرون،
ولما كان لله أن يفعل ما يشاء من عدل وفضل، وكان من العدل جواز تعذيب الله تعالى الطائع وتنعيم المؤمن العاصي، وكان صلى الله عليه وسلم قد بلغ الغاية في البيان لهم، وهم قد بلغوا النهاية في أذيته وتكذيبه أمر الله تعالى أن يفوّض الأمر إليه تسلية له بقوله تعالى :﴿ قل رب ﴾ أيها المحسن إليّ ﴿ احكم ﴾ أي : أنجز الحكم بيني وبين قومي ﴿ بالحق ﴾ أي : بالأمر الذي يحق لكل منا من نصر وخذلان، وقرأ حفص بفتح القاف وألف بعدها، وفتح اللام بصيغة الماضي على حكاية رسول الله صلى الله عليه وسلم والباقون بضم القاف وسكون اللام بصيغة الأمر فإن قيل : كيف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم احكم بالحق والله تعالى لا يحكم إلا بالحق ؟ أجيب : بأن الحق هاهنا بمعنى العذاب، فكأنه استعجل العذاب لقومه فعذبوا يوم بدر، نظيره قوله :﴿ ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق ﴾ [ الأعراف، ٨٩ ]، وقال أهل المعاني : معناه رب احكم بحكمك الحق فحذف الحكم وأقيم الحق مقامه، والله تعالى يحكم بالحق طلب أم لم يطلب، ومعنى الطلب ظهور الرغبة من الطالب في حكمه الحق ﴿ وربنا ﴾ أي : المحسن إلينا أجمعين ﴿ الرحمن ﴾ أي : العام الرحمة لنا ولكم بإدرارها علينا، ولولا عموم رحمته لأهلكنا أجمعين، وإن كنا نحن أطعناه لأنّا لا نقدره حقّ قدره، ﴿ ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ﴾ [ فاطر، ٤٥ ] ﴿ المستعان ﴾ أي : المطلوب منه العون ﴿ على ما تصفون ﴾ من كذبكم على الله تعالى في قولكم : اتخذ الله ولداً، وعليّ في قولكم ساحر، وعلى القرآن في قولكم شعر قال الرازي : روي أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول ذلك في حروبه، ولم يذكر له سنداً، وأما ما رواه البيضاوي تبعاً للزمخشري من أنه صلى الله عليه وسلم قال :«من قرأ اقترب حاسبه الله حساباً يسيراً، وصافحه وسلم عليه كل نبيّ ذكر اسمه في القرآن »، فحديث موضوع والله تعالى أعلم بالصواب.