تفسير سورة سورة الأنبياء من كتاب أوضح التفاسير
المعروف بـأوضح التفاسير
.
لمؤلفه
محمد عبد اللطيف الخطيب
.
المتوفي سنة 1402 هـ
ﰡ
﴿اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ﴾ أي اقتربت القيامة ﴿وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ﴾ عن هذا: سائرون في غيهم، سادرون في بغيهم ﴿مُّعْرِضُونَ﴾ عن ربهم
﴿مَا يَأْتِيهِمْ مِّن ذِكْرٍ﴾ قرآن ﴿مِّن رَّبِّهِمْ مُّحْدَثٍ﴾ جديد في سماعه، وفي نطقه، وفي كتابته، وفي حفظه. أما القرآن - بصفته كلام الرحمن - فهو صفة قائمة بذات منزله وقائله تعالى قال البوصيري رحمه الله تعالى في بردته:
آيات حق من الرحمن محدثة
قديمة صفة الموصوف بالقدم
﴿لاَهِيَةً قُلُوبُهُمْ﴾ غافلة عن معناه ﴿وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ﴾ أي تكلم الكفار فيما بينهم متناجين سراً؛ قائلين ﴿هَلْ هَذَآ﴾ يعنون محمداً ﴿أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ﴾ أي أتتبعون السحر الذي يأتي به؟
﴿بَلْ قَالُواْ﴾ على الوحي الذي أوحينا به لمحمد ﴿أَضْغَاثُ﴾ أخلاط ﴿أَحْلاَمٍ﴾ أي رؤيا مختلطة لا تعبر لكونها نتجت من فساد المعدة، وأبخرة الطعام. وقالوا أيضاً ﴿بَلِ افْتَرَاهُ﴾ أي اختلق القرآن واخترعه. وقالوا أيضاً: ﴿بَلْ هُوَ شَاعِرٌ﴾ يقول القرآن من بديهته؛ كما تقول الشعراء الشعر من بدائههم ﴿فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ﴾ معجزة ﴿كَمَآ أُرْسِلَ﴾ الرسل ﴿الأَوَّلُونَ﴾ كموسى وعيسى وغيرهما؛ فرد الله تعالى عليهم بقوله:
﴿مَآ آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَآ﴾ كقوم صالح، وقوم موسى؛ فإنهم لم يؤمنوا رغم المعجزات والآيات؛ فعاقبناهم بالإهلاك ﴿أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ﴾ أي أفيؤمن قومك؟
﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً﴾ مثلك ﴿نُّوحِي إِلَيْهِمْ﴾ مثل ما أوحينا إليك؛ وهذا رد على قولهم «هل هذا إلا بشر مثلكم» ﴿فَاسْئَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ﴾ أهل التوراة والإنجيل الذين آمنوا
﴿وَمَا جَعَلْنَاهُمْ﴾ أي وما جعلنا الأنبياء ﴿جَسَداً لاَّ يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ﴾ بل إنهم بشر أمثالكم: يأكلون الطعام، ويمشون في الأسواق ﴿وَمَا كَانُواْ خَالِدِينَ﴾ في الدنيا؛ بل يموتون كسائر البشر
﴿ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ﴾ الذي وعدناهم بإنجائهم، وإهلاك المكذبين ﴿فَأَنجَيْنَاهُمْ وَمَن نَّشَآءُ﴾ من عبادنا المؤمنين ﴿وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرفِينَ﴾ المتجاوزين الحد بالكفر والتكذيب، وارتكاب المعاصي
﴿لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً﴾ هو القرآن الكريم ﴿فِيهِ ذِكْرُكُمْ﴾ أي شرفكم وعلوكم؛ وذلك كقوله جل شأنه «وإنه لذكر لك ولقومك»
﴿وَكَمْ قَصَمْنَا﴾ أهلكنا. والقصم: الكسر
﴿فَلَمَّآ أَحَسُّواْ بَأْسَنَآ﴾ شعروا بنزول عذابنا ﴿إِذَا هُمْ مِّنْهَا﴾ أي من القرية النازل بها العذاب ﴿يَرْكُضُونَ﴾ يهربون مسرعين ﴿وَارْجِعُواْ إِلَى مَآ أُتْرِفْتُمْ﴾ أي
«لا تركضوا» وارجعوا إلى نعيمكم الذي كنتم فيه ﴿لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ﴾ أي لعله أن يطلب منكم الإيمان ثانية. وهو توبيخ وتقريع لهم
﴿حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً﴾ أي كالزرع المحصود ﴿خَامِدِينَ﴾ ميتين؛ وهو من خمود النار: أي انطفائها
﴿مِّن لَّدُنَّآ﴾ من عندنا
﴿فَيَدْمَغُهُ﴾ فيذهبه ﴿فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ﴾ مضمحل ذاهب ﴿وَلَكُمُ الْوَيْلُ﴾ العذاب ﴿مِمَّا تَصِفُونَ﴾ به الله تعالى؛ من الزوجة، أو الولد، أو الشريك
﴿وَمَنْ عِندَهُ﴾ من الملائكة ﴿وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ﴾ لا يتعبون، ولا يعيون
﴿يُسَبِّحُونَ الْلَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ﴾ أي إن تسبيحهم متصل دائم؛ لا تتخلله فترة، ولا يشوبه ملل. والفتور: السكون بعد الجدة، واللين بعد الشدة
﴿يُنشِرُونَ﴾ يحيون الموتى
﴿فَسُبْحَانَ اللَّهِ﴾ تقدس وتنزه من أن يكون له شريك
﴿لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ﴾ لأنه تعالى صاحب الملك، وخالقه، ومدبره وقد جرت العادة أن يسأل الكبير الصغير؛ ولا أكبر من الله والجليل الذليل؛ ولا أجلَّ منه تعالى ﴿وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾ لأنهم محط الأخطاء، ومناط التكاليف فلا حجة لأحد على الله، وله تعالى الحجة القائمة على كل أحد ﴿قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ﴾ (انظر آية ١٤٩ من سورة الأنعام)
﴿هَذَا﴾ القرآن ﴿ذِكْرُ مَن مَّعِيَ﴾ أي إن القرآن ذكر أمتي، وسبيلها إلى التوحيد ﴿وَذِكْرُ مَن قَبْلِي﴾ من الأمم السابقة؛ وفي هذا أن القرآن الكريم فيه ما في التوراة والإنجيل وسائر الكتب السابقة؛ مما يحتاجه المرسل إليهم لهدايتهم، والتعرف إلى ربهم؛ وليس في القرآن، ولا في أحد هذه الكتب تعدد الآلهة؛ بل كلها يجمع على أنه لا إله إلا الله وحده، لا إله غيره، وأنه فرد، صمد، لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد فمن أين جاءهم ما يقولونه، وما يزعمونه
﴿وَقَالُواْ اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ﴾ من الملائكة ﴿وَلَداً﴾ بقولهم: الملائكة بنات الله ﴿سُبْحَانَهُ﴾ تنزيهاً له، وتقديساً عن اتخاذ الولد ﴿بَلِ﴾ الملائكة ﴿عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ﴾ مطيعون له عابدون
﴿لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ﴾ الذي يريدونه؛ بل هم ﴿بِأَمْرِهِ﴾ الذي يريده ﴿يَعْمَلُونَ﴾ لا يعملون سواه
﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ﴾ ما سيحدث منهم ولهم ﴿وَمَا خَلْفَهُمْ﴾ ما مضى من أمرهم وأعمالهم ﴿وَهُمْ مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ﴾ خائفون
﴿أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً﴾ سداً ملتئمتين ﴿فَفَتَقْنَاهُمَا﴾ شققنا السماء بالمطر، والأرض بالنبات؛ نظيره قوله تعالى: ﴿وَالسَّمَآءِ ذَاتِ الرَّجْعِ * وَالأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ﴾ أو شق السماء والأرض فجعل كلاً منهما سبعاً، وزعم بعض الفلاسفة: أن قطعة انفصلت من الشمس - بعوامل طبيعية - فكانت أرضنا هذه؛ وهو قول لا دليل عليه غير ما زعموا؛ ومن عجب أن شايعهم بعض المحدثين في هذه القالة؛ التي ما أريد بها غير نفي وجود الله تعالى وقدرته على صنع هذه الأرض؛ وأنها لم تكن إلا بمحض الصدفة؛ كما أن الإنسان أيضاً كان بمحض الصدفة والتطور. وهو قول خبيث، له خبىء؛ ما أريد به وجه العلم؛ بل أريد به نشر الكفر، وفشو الإلحاد؛ فاحذر - هديت وكفيت - دس الملحدين ووسوسة الشياطين ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَآءِ﴾ أي بواسطته وسببه ﴿كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ﴾ جماداً كان أو نباتاً، حيواناً أو إنساناً
﴿وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ﴾ جبالاً ثوابت ﴿أَن تَمِيدَ بِهِمْ﴾ أي خشية أن تميل الأرض وتتحرك بمن عليها ﴿وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً﴾ مسالك ﴿سُبُلاً﴾ طرقاً
﴿وَجَعَلْنَا السَّمَآءَ سَقْفاً مَّحْفُوظاً﴾
من الوقوع، ومن عبث الشياطين ﴿وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا﴾ أي آيات السماء وما فيها من شموس ومجرات، وكواكب وأنجم، وبروج ومنازل
﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ الْلَّيْلَ﴾ لتسكنوا فيه ﴿وَالنَّهَارَ﴾ لتعملوا فيه، وتبتغوا من فضله خلق ﴿الشَّمْسَ﴾ سراجاً وهاجاً، لمنفعة الإنسان والحيوان، والثمار والنبات خلق ﴿الْقَمَرُ﴾ نوراً وضياء؛ ليهتدي به الناس إلى حساب الأشهر والسنين ﴿كُلٌّ﴾ منها ﴿فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ يسيرون في الهواء؛ كالسابح في الماء
﴿وَنَبْلُوكُم﴾ نختبركم ﴿بِالشَّرِّ﴾ الفقر، والمرض، والبؤس ﴿وَالْخَيْرِ﴾ الغنى، والصحة، والسعادة. وهذا الابتلاء بالشر والخير ﴿فِتْنَةً﴾ لكم؛ لننظر أتصبرون على الشر، وتشكرون على الخير؛ أم تكفرون في أحدهما أو كليهما
-[٣٩٢]- ﴿وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾ يوم القيامة؛ فنأجركم على الشكر والصبر، ونؤاخذكم على اليأس والكفر
﴿أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ﴾ أي قالوا: أهذا الذي يذكر آلهتكم بسوء ﴿وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ﴾ يتعجبون من ذكرك لآلهتهم بالسوء؛ وهي لا تعقل، ولا تنفع، ولا تضر؛ ويكفرون بالرحمن - عند ذكره - وهو الخالق الرازق، النافع الضار، السميع العليم
﴿خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ﴾ أي إن الإنسان لكثرة تعجله؛ كأنه خلق من عجل. وقيل: المراد بالإنسان: آدم عليه السلام؛ وأنه أراد أن يثب قبل أن تبلغ الروح رجليه: تعجلاً إلى ثمار الجنة. وقيل: «خلق الإنسان من عجل» أي من تعجيل في خلق الله تعالى إياه. والمراد بذلك: أن هذا الإنسان العجيب الخلقة، المحكم الصنع: لم يحتج إلى وقت في خلقته وصنعه؛ بل خلقه الله تعالى على عجل: بغير روية، ولا مثال ﴿سَأُوْرِيكُمْ آيَاتِي﴾ الدالة على قدرتي ووحدانيتي ﴿فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ﴾ بإنزال العذاب الموعود
﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ﴾ بالقيامة والثواب والعقاب
﴿حِينَ لاَ يَكُفُّونَ﴾ وقت لا يمنعون ويدفعون
﴿بَلْ تَأْتِيهِم﴾ الساعة ﴿بَغْتَةً﴾ فجأة ﴿فَتَبْهَتُهُمْ﴾ تدهشهم وتحيرهم ﴿وَلاَ هُمْ يُنْظَرُونَ﴾ يمهلون
﴿فَحَاقَ﴾ فنزل ﴿مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤونَ﴾ أي جزاءه وعقابه
﴿قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم﴾ يحفظكم ﴿مِّنَ الرَّحْمَنِ﴾ من عذابه وبطشه إن أراد تعذيبكم والبطش بكم ﴿وَلاَ هُمْ مِّنَّا يُصْحَبُونَ﴾ يجارون؛ كما يجير الصاحب صاحبه
﴿بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلاءِ﴾ المكذبين لك متعنا ﴿آبَآءَهُمُ﴾ بما أسبغناه عليهم من سعة ورزق وفير
-[٣٩٣]- ﴿حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ﴾ في النعمة؛ وظنوا أنهم جديرون بها، وأنها لا تزول عنهم؛ فاغتروا بذلك، وانصرفوا عن الإيمان، وأعرضوا عن تدبر الحجج والآيات ﴿أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ﴾ أي أرض الكفار ﴿نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَآ﴾ بتمليك المسلمين لها ﴿أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ﴾ أم أنت؛ وقد أظهرك الله تعالى عليهم، وأعزك وأذلهم
﴿قُلْ إِنَّمَآ أُنذِرُكُم بِالْوَحْيِ﴾ الذي هو من قبل الله تعالى؛ لا من قبل نفسي ﴿وَلاَ يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَآءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ﴾ شبههم في عدم استماعهم للنصح: بالصم الذين لا يسمعون أصلاً، ولا يستجيبون للنذر ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ﴾
﴿وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِّنْ عَذَابِ﴾ النفحة: القدر الضئيل؛ كنفحة العطر، أو كما ينفح إنسان إنساناً بقدر من ماله
﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ﴾ أي الموازين العدل. وقد ذهب الأكثرون إلى أن لكل عبد ميزاناً توزن به أعماله، أو هو ميزان واحد لسائر الخلائق. والذي يبدو أنه ليس ثمة ميزان؛ وإنما أريد بالميزان: العدل. يؤيده لفظ الآية، وقوله تعالى: ﴿وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ﴾ ﴿وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾ أي إن كان العمل وزن حبة من خردل أتينا بها وحاسبنا عليها. وحبة الخردل: مثل يضرب للقلة: لصغر هذه الحبة وخفة وزنها
﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ﴾ التوراة؛ لأنها تفرق بين الحق والباطل، والحلال والحرام؛ وسمي القرآن فرقاناً لذلك. وقد يكون «الفرقان» بمعنى النصر على الأعداء؛ بدليل قوله تعالى: ﴿وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ﴾ يعني يوم بدر؛ فيكون المعنى: ولقد آتينا موسى وهرون النصر على الأعداء، وتكون التوراة هي المعنية بقوله تعالى: ﴿وَضِيَآءً وَذِكْراً لَّلْمُتَّقِينَ﴾ وقد روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قرأ: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَآءً﴾ بغير واو؛ وهي قراءة مخالفة للمصحف الإمام
﴿الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ﴾ فيما بينهم وبين أنفسهم؛ لأنهم يعلمون تمام العلم بأنه تعالى مطلع على خوافيهم؛ كاطلاعه على ظواهرهم ﴿مُشْفِقُونَ﴾ خائفون
﴿وَهَذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ﴾ هو القرآن الكريم
﴿وَلَقَدْ آتَيْنَآ إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ﴾ هداه وتوفيقه
﴿إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ﴾ الأصنام ﴿الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ﴾ على عبادتها مواظبون
-[٣٩٤]- ﴿فطَرَهُنَّ﴾ خلقهن
﴿وَتَاللَّهِ﴾ قسم ﴿لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ﴾ أحطمها؛ قال ذلك في نفسه - بعد مجادلة قومه - وقد حطمها فعلاً
﴿فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً﴾ مكسرين فتاتاً ﴿إِلاَّ كَبِيراً لَّهُمْ﴾ أي صنماً كبيراً
﴿قَالُواْ فَأْتُواْ بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ﴾ أي على مرأى منهم
﴿قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا﴾ وأشار إلى الصنم الكبير الذي تركه من غير تحطيم. وقيل: إنه كنى بأصبعه ﴿فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُواْ يِنْطِقُونَ﴾ أراد عليه الصلاة والسلام أن يريهم مبلغ حمقهم وجهلهم، وأنهم يعبدون ما لا ينطقون: يعبدون من هو أقل من عابديه درجات؛ فتبارك القائل ﴿إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً﴾
﴿فَرَجَعُواْ إِلَى أَنفُسِهِمْ﴾ أي فكروا تفكير الراجع عن رأيه، المتبصر في حجة خصمه، المؤيد لها ﴿فَقَالُواْ﴾ لأنفسهم ﴿إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ﴾ بعبادتكم الأصنام؛ لا إبراهيم الذي حطمها
﴿ثُمَّ نُكِسُواْ عَلَى رُءُوسِهِمْ﴾ أي انقلبوا وعادوا إلى كفرهم؛ بعد ومضة الإيمان التي أظهرها الله تعالى لهم، وسلكها في قلوبهم: فبعد أن رجعوا إلى أنفسهم ﴿فَقَالُواْ إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ﴾ تغلبت أنفسهم الشريرة عليهم، وسيطر عليهم إبليس بتزيينه؛ وقالوا لإبراهيم ﴿لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ﴾ الأصنام ﴿يِنْطِقُونَ﴾ ونسوا أنهم بوصفهم هذا لآلهتهم: نزلوا بها إلى مرتبة أدنى من مراتبهم؛ بل أدنى من مرتبة العجماوات؛ وذلك لأن البهائم تنطق؛ وهؤلاء لا ينطقون. والبهائم تنفع وتضر؛ وهؤلاء لا ينفعون ولا يضرون
﴿قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلاَ يَضُرُّكُمْ﴾ بل لا يستطيع نفع نفسه، ولا دفع الضر عنها: فقد استطاع إبراهيم بيده أن يوصل الضرر لسائرهم. وجعلهم جذاذاً
﴿أُفٍّ لَّكُمْ﴾ أي قبحاً لكم؛ وهي كلمة تضجر وتكره
﴿قَالُواْ حَرِّقُوهُ وَانصُرُواْ آلِهَتَكُمْ﴾ بعد أن أقام عليهم الدليل القاطع، والبرهان الساطع؛ على فساد عباداتهم، وسخف معتقداتهم؛ يقولون هذا القول ولا بدع فالنار مثوى لهم وقد أوقدوا ناراً عظيمة؛ بلغ من عنفها وشدتها أن أحرقت الطير في جو السماء؛ ووضعوا إبراهيم في منجنيق، وقذفوا به وسط هذه النار؛ التي تذيب صلد الأحجار؛ وهنا تتجلى قدرة الجبار، ويثبت أنه وحده النافع الضار هنا يقيم القهار الدليل على وجوده لأعدائه، وعلى حفظه وكلاءته لأوليائه: فيقلب طبائع الأشياء، ويخص ما شاء بما شاء؛ كيف لا وهو ذو العرش المجيد، الفعال لما يريد
﴿قُلْنَا ينَارُ﴾ يا من طبعتك على الإحراق ﴿كُونِي بَرْداً وَسَلاَمَا عَلَى﴾ عبدي ورسولي ﴿إِبْرَاهِيمُ﴾ وأبدى القوي المتين: سره المكنون؛ وأن أمره بين الكاف والنون: فصارت النار المحرقة، كالرياض المونقة
﴿وَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً﴾ إيذاء بإحراقه بالنار ﴿فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ﴾ في الدنيا والآخرة. قيل: سلط الله تعالى عليهم البعوض فأهلكهم، وشرب دماءهم، ودخلت واحدة منه في منخر رئيسهم النمرود: فصار يضرب رأسه بالحائط، ويأمر رعيته بضرب رأسه؛ حتى ينزف دماً؛ فلا يستريح، ولا يقر له قرار؛ حتى هلك بعد أن أذاقه الله تعالى الهوان والعذاب الأليم
﴿إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ﴾ وهي الشام؛ وقد باركها الله تعالى بنزول أكثر الأنبياء بها، وبكثرة الأنهار، والأشجار، والثمار
﴿وَوَهَبْنَا لَهُ﴾ أي لإبراهيم ﴿إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً﴾ أي زيادة على ما سأل: لأنه سأل ولداً، فأُعطي اثنين
﴿وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَت تَّعْمَلُ الْخَبَائِثَ﴾ هو إتيان الذكران
﴿وَنُوحاً إِذْ نَادَى مِن قَبْلُ﴾ دعا بقوله: ﴿رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً﴾ وقوله: ﴿أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ﴾ ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ﴾ دعاءه، وانتصرنا له باستئصال الكافرين من قومه ﴿فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ﴾ الذين آمنوا معه
﴿وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي﴾ مسألة ﴿الْحَرْثِ﴾ الزرع ﴿إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ﴾ أي رعت؛ فجاء صاحب الحرث يحتكم إلى داود: فحكم لصاحب الحرث بالغنم، ولصاحب الغنم بالحرث. وذلك لأنه رأى أن قيمة الحرث - قبل رعي الغنم - تساوي سائر الغنم؛ والقاعدة أن الجاني يعوض المضرور بقدر ضرره. فلما سمع سليمان حكم أبيه داود؛ راجعه قائلاً: الرأي أن يخدم صاحب الغنم الحرث حتى ينمو الزرع كما كان، ويأخذ صاحب الحرث الغنم؛ فيستفيد من أصوافها وألبانها حتى يتسلم حرثه مزروعاً كما كان؛ فيرد لصاحب الغنم غنمه. فوافقه داود على هذا الحكم؛ ودعا له
﴿فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ﴾ أي فهمناه حقيقة القضية، وحسن الحكومة. وذلك لأن حكم سليمان طابت به نفس الخصمين، وعاد لكليهما ماله كاملاً غير منقوص. ومن هنا نعلم أنه لم يوفق موفق إلا بهدي من الله تعالى، ولا يحكم حاكم بعدل إلا بإرشاد منه تعالى ووحي. فكم رأينا ذكياً أخطأ، وغبياً أصاب ﴿وَكُلاًّ﴾ من داود وسليمان ﴿آتَيْنَا حُكْماً﴾ نبوة ﴿وَعِلْماً﴾ تبصرة بأمور الدين والدنيا. وقد أراد الله تعالى أن يرينا قدر داود عليه السلام، وأن حكمه - ولو أنه خالف الأولى - لم يغض من شأنه، أو ينقص من قدره. فقد حكم في حدود العدل الذي ارتآه؛ فلما وجد حكماً أقرب إلى العدل، وأدنى من المصلحة: أقره وأمضاه؛ لذلك كان أهلاً لما اختصه الله تعالى به، واختاره له؛ فقد سبحت الجبال معه والطير؛ بتوفيق من الله تعالى ﴿وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ﴾ يسبحن معه أيضاً: إكراماً له، وإعزازاً قال تعالى: ﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾
﴿وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ﴾ كان يصنع الدروع، وقد ألان الله تعالى له الحديد ﴿لِتُحْصِنَكُمْ مِّن بَأْسِكُمْ﴾ أي لتمنعكم في الحرب من عدوكم
﴿وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً﴾ أي شديدة الهبوب؛ قال تعالى: ﴿تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَآءً حَيْثُ أَصَابَ﴾ أي تسير الريح معه كما يشاء: عاصفة شديدة، أو هادئة لينة ﴿تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا﴾ هي الشام؛ وكانت إقامته بها
﴿وَمِنَ الشَّيَاطِينِ﴾ أي سخرنا له من الشياطين؛ وهي طائفة من الجن.
والشيطان: كل عات متمرد؛ من جن أو إنس، أو دابة؛ وأطلق على إبليس: لأنه رأس العتاة والمتمردين ﴿مَن يَغُوصُونَ لَهُ﴾ في البحر؛ فيستخرجون له من لآلئها، وجواهرها، وغرائبها ﴿وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً﴾ أعمالاً ﴿دُونِ ذَلِكَ﴾ أي غير ذلك: من بناء القصور والحصون، والتماثيل والمحاريب، وغير ذلك ﴿وَكُنَّا لَهُمْ﴾ أي للجن ﴿حَافِظِينَ﴾ لأعمالهم؛ من أن يفسدوها بعد إتمامها كشأنهم؛ والمراد أنه تعالى سلطانه قائم عليهم، وإرادته نافذة فيهم
﴿وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ الضر الذي مسه: هو ذهاب ماله، وموت أبنائه، ومرض أصابه. أما ما يرويه بعض المفسرين من أن الضر: هو مرض أتلف لحمه، وأذاب جسمه، وجعل الدود يتناثر منه فهو من أقاصيص اليهود، باطل مردود: لأن الأنبياء عليهم السلام لا يصح أن يصابوا بأمراض تشمئز منها النفوس، وتوجب النفرة منهم وقد يكون الضر هو المرض؛ ولكن ليس كما حكموا ووصفوا
﴿فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ﴾ أي وهبنا له ضعف ما فقده من الأولاد
﴿وَإِدْرِيسَ﴾ وهو من الأنبياء عليهم السلام؛ وهو اسم أعجمي، وليس مشتقاً من الدراسة كما توهم بعضهم. قيل: اسمه أخنوخ ﴿وَذَا الْكِفْلِ﴾ زعم بعضهم أنه بوذا: رئيس الملة البوذية؛ وقد تطرف أتباع بوذا من طاعته إلى عبادته؛ وعملوا له أصناماً لا تعد؛ دانوا بعبادتها، والخضوع لها؛ وما أشبههم بأصحاب عيسى: دعاهم إلىالله؛ فزعموا أنه هو الله ونفى عنه الولد؛ فقالوا: أنت المولود والولد وقيل: سمي بذي الكفل: لأنه كان متكفلاً بطاعة الله تعالى وعبادته، أو لأنه تكفل لملك زمانه بالجنة إن أسلم. وقيل: إنه زكريا؛ لأنه تكفل بمريم عليهما السلام. وهذا الرأي بعيد: لذكر زكريا عليه السلام بعد ذلك. والله تعالى أعلم بخلقه وأحكم ﴿كُلٌّ﴾ ممن ذكرنا من الأنبياء ﴿مِّنَ الصَّابِرِينَ﴾ على طاعة الله تعالى وعن معاصيه، وعلى ما يصيبهم في الحياة الدنيا من أحداث، وآلام، ومتاعب
﴿وَذَا النُّونِ﴾
النون: الحوت. أي وصاحب الحوت: وهو يونسبن متى عليه السلام ﴿إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً﴾ قومه، منصرفاً عنهم؛ بغير إذن من مرسله تعالى ﴿فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ﴾ أي تأكد أنا لن نضيق عليه؛ لقربه منا، واصطفائنا له. ولكنا أمرنا الحوت بالتقامه ﴿فَنَادَى﴾ نادانا ﴿فِي الظُّلُمَاتِ﴾ جمع ظلمة: وهي ظلمة الليل، وظلمة البحر، وظلمة بطن الحوت ﴿أَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ﴾ يعبد ويقصد ﴿سُبْحَانَكَ﴾ تعاليت وتنزهت ﴿إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ ما دعا داع بدعاء يونس عليه السلام: إلا فرّج الله همه، ودفع كربه، وأنجاه من كل بلية كيف لا؟ والله تعالى يقول
﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ﴾ أجبنا دعاءه ونداءه ﴿وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ﴾ الذي كان فيه؛ ولم يكن غمه قاصراً على التقام الحوت فحسب؛ بل كان جل همه وغمه: مظنة غضب الله تعالى عليه وقد ألهمه الله تعالى هذه الكلمات، لينجيه مما نزل به من الكرب والضيق ﴿وَكَذلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ نلهمهم ما يوصلهم إلينا، ونوفقهم إلى ما يقربهم منا
﴿رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْداً﴾ أي لا تتركني وحيداً بغير ولد يرثني
﴿وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ﴾ جعلناها صالحة للحمل بعد عقمها، أو صالحة الخلق بعد سوئها
-[٣٩٨]- ﴿وَيَدْعُونَنَا رَغَباً﴾ رغبة في رحمتنا ﴿وَرَهَباً﴾ رهبة من عذابنا
﴿وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا﴾ حفظته من الزنا: وهي مريم عليها السلام ﴿فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا﴾ أمر تعالى جبريل عليه السلام فنفخ في جيب درعها، فحملت بعيسى عليه الصلاة والسلام ﴿وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَآ آيَةً﴾ دلالة واضحة على قدرتنا
﴿وَتَقَطَّعُواْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ﴾ أي فرقوا أمر دينهم، واختلفوا فيما بينهم
﴿فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾ لأن الصالحات بغير إيمان: لا اعتبار لها، ولا اعتداد بها ﴿فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ﴾ أي فلا جحود لعمله؛ بل نثيبه عليه
﴿وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَآ﴾ أي ممتنع على أهل قرية أهلكناهم ﴿أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ﴾ أي لا يعادون إلينا يوم القيامة؛ للحساب والجزاء؛ لأن عذابهم في الدنيا لا يعفيهم من عذاب الآخرة الموعود
بيّن تعالى أن من يعمل من الصالحات وهو مؤمن: فلا كفران لسعيه؛ وأن له الحظ الأوفر، والنعيم الأكبر وأعقب ذلك بأن الكفار الذين عذبهم في الدنيا، وأهلكهم بذنوبهم: لا بد من إرجاعهم وإعادتهم في الآخرة لمحاسبتهم على ما أتوه، ومعاقبتهم على ما جنوه أو أنهم «لا يرجعون» إلى الدنيا كما طلبوا في قولهم «رب ارجعون» «فارجعنا نعمل صالحاً»
﴿حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ﴾ يفتح السد الذي أقامه ذو القرنين بيننا وبينهم؛ وذلك قبيل يوم القيامة ﴿وَهُمْ مِّن كُلِّ حَدَبٍ﴾ مرتفع من الأرض. وقرىء «جدث» وهو القبر ﴿يَنسِلُونَ﴾ يسرعون
﴿وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ﴾ يوم القيامة ﴿فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُواْ﴾ مرتفعة الأجفان؛ لا تكاد تطرف من هول ما هم فيه ﴿إِنَّكُمْ﴾ أيها الكافرون ﴿وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ﴾ غيره من الأصنام ﴿حَصَبُ﴾ حطب ﴿أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ﴾ فيها داخلون. لما نزلت هذه الآية: فرح المشركون، وضجوا بالضحك؛ وقالوا: لقد عبد النصارى عيسى، وعبد اليهود عزيراً، وعبد بعض العرب الملائكة: فعيسى وعزير والملائكة في النار. فنزل قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ﴾ ولو فطن المعاندون إلى دقة التعبير في قوله تعالى:
﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ﴾ ولم يقل: ومن تعبدون؛ ومن المعلوم لغة أن «ما» لما لا يعقل، وأن «من» لا تطلق إلا على العقلاء
﴿لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ﴾ الأصنام ﴿آلِهَةً﴾ كما زعمتم ﴿مَّا وَرَدُوهَا﴾ ما دخلوا جهنم
﴿لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ﴾ أنين وبكاء وعويل
﴿إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الْحُسْنَى﴾ وهم الذين وعدوا بالعفو والمغفرة؛ لما قدموه من إيمان صادق، وعمل صالح
﴿لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيَسَهَا﴾ صوتها
﴿لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ﴾ الذي يعم سائر العصاة والمشركين؛ مما يرونه من مظاهر الشدة والبطش والقسوة ﴿وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ﴾ مرحبين بهم، قائلين لهم: ﴿هَذَا يَوْمُكُمُ
-[٣٩٩]- الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ﴾ به في الدنيا
﴿يَوْمَ نَطْوِي السَّمَآءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ﴾ الكاتب. وقيل: «السجل» اسم ملك يطوي كتب الأعمال
﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ﴾ الكتاب الذي أُنزل على داود عليه السلام ﴿مِن بَعْدِ الذِّكْرِ﴾ التذكير ب الله تعالى ﴿أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾ المراد بالأرض: الجنة؛ وذلك كقوله تعالى: «وقالوا الحمد لله الذي أورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء فنعم أجر العاملين»
﴿إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاَغاً﴾ لتبليغاً كافياً مفهماً
﴿وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ﴾ يا محمد ﴿إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ أي رحمة للجن والإنس، والوحش والطير؛ رحمة للمؤمنين: بإنجائهم يوم الدين، ورحمة للكافرين: بإنجائهم في الدنيا من نزول العذاب؛ الذي كان يلحق بمكذبي الأمم السابقة
﴿فَإِن تَوَلَّوْاْ﴾ أعرضوا ﴿فَقُلْ آذَنتُكُمْ﴾ أي أعلمتكم ﴿عَلَى سَوَآءٍ﴾ أي مستوين كلكم في هذا الإعلام، أو أعلمتكم أني على سواء. أي على عدل واستقامة رأي، أو «آذنتكم» بالحرب؛ لا سلم بيننا: إما الإيمان وإما القتل
﴿وَإِنْ أَدْرِي﴾ وما أدري ﴿أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ﴾ به من العذاب، أو «ما توعدون» به من القيامة ﴿لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ﴾ أي لعل تأخير العذاب عنكم في الدنيا اختبار لكم ﴿وَمَتَاعٌ﴾ تمتع ﴿إِلَى حِينٍ﴾ انقضاء آجالكم
﴿وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ﴾ المطلوب منه المعونة والنصر
﴿عَلَى مَا تَصِفُونَ﴾ به أنفسكم؛ من القوة والشجاعة، والانتصار على المؤمنين؛ أو
«المستعان» الذي نستعين به
﴿عَلَى مَا تَصِفُونَ﴾ به الله تعالى؛ من الولد والشريك؛ فنقضي على هذه الفرية؛ بالقضاء على مروجيها ومعتقديها
399
سورة الحج
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
400