سورة مكية نزلت بعد سورة إبراهيم، وآياتها ١١٢ آية، وهي تبين قرب الساعة، مع غفلة المشركين عنها. وقد ادعوا أن الرسول لا يكون بشرا، وقالوا مرة عن القرآن سحر، ومرة شعر، ومرة أضغاث أحلام. والنذر بين أيديهم قائمة، وما كان الرسل إلا رجالا مثل محمد صلي الله عليه وسلم وأن السابقين قبلهم كذبوا كما كذبت قريش فدمر فقصم الله قراهم، وهو القادر علي الإهلاك والإبقاء، وله كل ما في السماوات والأرض، والملائكة في معارجهم يسبحون الله تعالي ولا يفترون، وإن صلاح السماوات والأرض دليل علي أن منشيءهما واحد، فلو شاركه أحد لفسدتا، والرسل جميعا جاءت بعبادة الله وحده ليس له ولد. ولا يقول أحد إن إلها آخر مع الله وإلا فجزاؤه جهنم. وبين سبحانه شأن عظمة خلقه وعجائب التكوين في السماوات والأرض، وبين حال المشركين والكافرين، ونبه سبحانه وتعالي إلي حفظ الله تعالي للناس، وأشار سبحانه إلي ما يكون مكن جزاء يوم القيامة للكافرين. وذكر قصة موسى وهارون مع فرعون، وقصة إبراهيم مع قومه وإنعامه عليه بالذرية الطيبة، وذكر سبحانه قصة لوط وقومه وهلاكهم، وقصة نوح عليه السلام وكفر قومه، وإبادتهم إلا من آمن، ثم أشار سبحانه وتعالي إلي قصص سليمان، وداود، وأيوب، وإسماعيل، وإدريس، وذي الكفل، وذي النون، وزكريا، ومريم وابنها عيسى، وتحدث عن يأجوج ومأجوج، وبين سبحانه العمل الصالح وثمرته، وما يجازى به الذين اتقوا وأحسنوا وحالهم يوم القيامة، ورحمة الله في الرسالة المحمدية، وإنذار الله للمشركين، وأن الأمر له يحكم وهو خير الحاكمين.
ﰡ
١- دنا للمشركين وقت حسابهم يوم القيامة، وهم غافلون عن هوله، معرضون عن الإيمان به.
٢- ما يأتيهم قرآن من ربهم مُجدَّد نزوله، مذكر لهم بما ينفعهم، إلا استمعوه وهم مشغولون عنه بما لا نفع فيه، يلعبون كما يلعب الأطفال.
٣- لاهية قلوبهم عن التأمل فيه، وبالغوا في إخفاء تآمرهم علي النبي وعلي القرآن، قائلين فيما بينهم : ما محمد إلا بشر مثلكم، والرسول لا يكون إلا مَلَكا. أتصدقون محمداً فتحضرون مجلس السحر وأنتم تشاهدون أنه سحر ؟ !
٤- قال الرسول لهم - وقد أطلعه الله علي حديثهم الذي أسروه - : ربى يعلم كل ما يقال في السماء والأرض، وهو الذي يَسمع كل ما يُسمع، ويعلم كل ما يقع.
٥- بل قالوا : إنه أخلاط أحلام رآها في المنام، بل اختلقه ونسبه كذباً إلي الله. ثم أعرضوا عن ذلك، وقالوا : بل هو شاعر يستولي علي نفوس سامعيه، فليأتنا بمعجزة مادية دالة علي صدقه، كما أُرسل الأنبياء الأولون مؤيدون بالمعجزات.
٦- لم تؤمن قبلهم أمة من الأمم التي أهلكناها بعد أن كذبت بالمعجزات المادية، فهل يؤمن هؤلاء إذا جاءهم ما يطلبون ؟ !.
٧- وما أرسلنا إلي الناس قبلك - أيها النبي - إلا رجالا من البشر، نوحي إليهم الدين ليبلغوه الناس، فاسألوا - أيها المنكرون - أهلَ العلم بالكتب المنزلة إن كنتم لا تعلمون ذلك.
٨- وما جعلنا الرسل أجساداً تخالف أجساد البشر يعيشون دون طعام، وما كانوا باقين مخلدين.
٩- ثم صدقناهم، وحققنا لهم الوعد، فأنجيناهم وأنجينا معهم من أردنا نجاتهم من المؤمنين، وأهلكنا الكافرين المسرفين في تكذيبهم وكفرهم برسالة أنبيائهم.
١٠- لقد أنزلنا إليكم كتاباً فيه تذكير لكم إذا علمتموه وعملتم بما فيه، فكيف تعرضون وتكفرون به ؟ ! أيبلغ بكم العناد والحمق إلي ما أنتم عليه فلا تعقلون ما ينفعكم فتسارعون إليه ؟
١١- وكثير من أهل القرى أهلكناهم بسبب كفرهم وتكذيبهم لأنبيائهم، وأنشأنا بعد كل قوم منهم قوماً غيرهم أحسن منهم حالا ومآلا.
١٢- فلما أردنا إهلاكهم، وأحسوا بما يقع عليهم من شدة عذابنا وقدرتنا علي إنزاله ؛ سارعوا إلي الهرب والتماس النجاة بما يشبه عمل الدواب.
١٣- لا تسرعوا - أيها المنكرون - فلن يعصمكم من عذاب الله شيء، وارجعوا إلي ما كنتم فيه من نعيمكم ومساكنكم، لعل خدمكم وأشياعكم يسألونكم المعونة والرأي كما كان شأنكم، وإني تستطيعون ؟.
١٤- قالوا - وقد سمعوا الاستهزاء بهم منادين هلاكهم موقنين به - : إنا كنا ظالمين حين أعرضنا عما ينفعنا، ولم نؤمن بآيات ربنا.
١٥- فما زالت هذه الكلمات يرددونها ويصيحون بها، حتى جعلناهم - بالعذاب - كالزرع المحصود خامدين لا حياة فيهم.
١٦- وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما - بهذا النظام المحكم والصنع البديع - نلعب بها، بل جعلناها لحِكمٍ عالية يدركها المتأملون.
١٧- لو أردنا أن نتخذ ما نلْهُو به لما أمكن أن نتخذه إلا من مُلكنا الذي ليس في الوجود مُلك غيره، إن كنا ممن يفعل ذلك، ولسنا ممن يفعله لاستحالته في حقنا.
١٨- بل أَمْرُنا الذي يليق بنا هو أن نقذف الحق في وجه الباطل فَيُذْهِبه، ولكم - أيها الكافرون - الهلاك بسبب افترائكم علي الله ورسوله.
١٩- ولله - وحده - كل من في السماوات والأرض خَلقاً ومُلكاً، فمن حقه - وحده - أن يُعبد، والمقرَّبون إليه من الملائكة لا يستكبرون عن عبادته والخضوع له، ولا يشعرون بالإعياء والملل من طول عبادته بالليل والنهار.
٢٠- يُنَزّهونه جل شأنه عما لا يليق به، لا يتخلل تنزيههم هذا فُتُور، بل هو تنزيه دائم لا يشغلهم عنه شاغل.
٢١- لم يفعل المشركون ما يفعله المقربون من إخلاص العبادة لله، بل عبدوا غيره، واتخذوا من الأرض آلهة لا تستحق أن تعبد، وكيف يُعْبَد من دون الله من لا يستطيع إعادة الحياة ؟ !.
٢٢- لو كان في السماء والأرض آلهة غير الله تُدبِّر أمرهما لاختلَّ النظام الذي قام عليه خلقهما، ولما بلغ غاية الدقة والإحكام، فتنزيهاً لله صاحبِ الملك عما ينسبه إليه المشركون.
٢٣- لا يُحاسب - سبحانه - ولا يُسأل عما يفعل، لأنه الواحد المتفرد بالعزة والسلطان، الحكيم العليم، فلا يخطئ في فعل أي شيء، وهم يُحاسبون ويُسألون عما يفعلون ؛ لأنهم يخطئون لضعفهم وجهلهم وغلبة الشهوة عليهم.
٢٤- لم يعرفوا حق الله عليهم، بل اتخذوا من غيره آلهة يعبدونها دون دليل معقول أو برهان صادق. قل - أيها النبي - هاتوا برهانكم علي أن لله شريكاً في الملك يبرر إشراكه في العبادة. هذا القرآن الذي جاء مذكراً لأمتي بما يجب عليها، وهذه كتب الأنبياء التي جاءت لتذكِّر الأمم قبلي تقوم كلها علي توحيد الله. بل أكثرهم لا يعلمون ما جاء في هذه الكتب، لأنهم لم يهتموا بالتأمل فيها، فهم معرضون عن الإيمان بالله.
٢٥- وما أرسلنا إلي الناس قبلك - أيها النبي - رسولا ما، إلا أوحينا إليه أن يبلِّغ أمته أنه لا يستحق العبادة غيري، فأَخْلِصُوا لي العبادة.
٢٦- وقال بعض كفار العرب : اتخذ الرحمن ولدا بزعمهم أن الملائكة بناته. تنزَّه عن أن يكون له ولد. بل الملائكة عباد مُكْرمون عنده بالقرب منه، والعبادة له.
٢٧- لا يسبقون الله بكلمة يقولونها، قبل أن يأذن لهم بها، وهم بأمره - دون غيره - يعملون، ولا يتعدون حدود ما يأمرهم به.
٢٨- يعلم الله كل أحوالهم وأعمالهم - ما قدَّموه وما أخَّروه - ولا يشفعون عنده إلا لمن رضي الله عنه، وهم من شدة خوفهم من الله تعالي وتعظيمهم له في حذرٍ دائم.
٢٩- ومن يقل من الملائكة : إني إله يعبد من دون الله فذلك نجزيه جهنم. مثل هذا الجزاء نجزى كل الذين يتجاوزون حدود الحق، ويظلمون أنفسهم بالشرك وادعاء الربوبية.
٣٠- أَعَمِىَ الذين كفروا ولم يبصروا أن السماوات والأرض كانتا في بدء خلقهما ملتصقتين، فبقدرتنا فَصَلَنا كلا منهما عن الأخرى، وجعلنا من الماء الذي لا حياة فيه كل شيء حي ؟ ! فهل بعد كل هذا يُعرضون، فلا يؤمنون بأنه لا إله غيرنا ؟
٣١- ومن دلائل قدرتنا أنا جعلنا في الأرض جبالا ثوابت، لئلا تضطرب بهم، وجعلنا فيها طرقاً فسيحة، ومسالك واسعة، لكي يهتدوا بها في سيرهم إلي أغراضهم.
٣٢- وجعلنا السماء فوقهم كالسقف المرفوع، وحفظناها من أن تقع أو يقع ما فيها عليهم. وهم مع ذلك منصرفون عن النظر والاعتبار بآياتنا الدالة علي قدرتنا، وحكمتنا، ورحمتنا.
٣٣- والله هو الذي خلق الليل والنهار، والشمس والقمر، كلٌ يجرى في مجاله الذي قدَّره الله له، ويسبح في فلكه لا يحيد عنه.
٣٤- وما جعلنا لأحد من البشر قبلك - أيها النبي - الخلود في هذه الحياة حتى يتربص بك الكفار الموت. فكيف ينتظرون موتك ليشمتوا بك وهم سيموتون كما تموت ؟ ! أفإن مت يبقى هؤلاء أحياء دون غيرهم من سائر البشر ؟.
٣٥- كل نفس لا بد أن تذوق الموت، ونعاملكم في هذه الحياة معاملة المختَبر بما يصيبكم من نفع وضر، ليتميز الشاكر للخير والصابر علي البلاء من الجاحد للنعم والجازع عند المصيبة. وإلينا ترجعون فنحاسبكم علي أعمالكم.
٣٦- وإذا رآك - أيها النبي - الذين كفروا بالله وبما جئت به لا يضعونك إلا في موضع السخرية والاستهزاء. يقول بعضهم لبعض : أهذا الذي يذكر آلهتكم بالعيب ؟ وهم بذكر الله الذي يَعُمُّهم برحمته لا يصدقون.
٣٧- وإذا كانوا يطلبون التعجيل بالعذاب فإن طبيعة الإنسان التعجل، سأريكم - أيها المستعجلون - نعمتي في الدنيا، وعذابي في الآخرة فلا تشغلوا أنفسكم باستعجال ما لابد منه.
٣٨- ويقول الكافرون مستعجلين العذاب مستبعدين وقوعه : متى يقع هذا الذي تَتوعدُوننا به - أيها المؤمنون - إن كنتم صادقين فيما تقولون ؟.
٣٩- لو يعلم الذين كفروا بالله حالهم - حين لا يستطيعون أن يدفعوا عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم، ولا يجدون من ينصرهم بدفعها ؛ ما قالوا هذا الذي يقولونه.
٤٠- لا تأتيهم القيامة علي انتظارٍ وتوقع، بل تأتيهم فجأة فتحيّرهم فلا يستطيعون ردَّها، ولا هم يُمْهَلون ليتوبوا ويعتذروا عما قدَّموا.
٤١- ولقد حدث للرسل قبلك أن استهزأ بهم الكفار من أممهم، فحَلَّ بالذين كفروا وسخروا من رسلهم العذاب الذي جعلوه مثال السخرية والاستهزاء.
٤٢- قل - أيها النبي - لهم : مَنْ يحفظكم في الليل والنهار من نقمته ويرحمكم وينعم عليكم ؟ لا أحد يستطيع ذلك، بل هم منصرفون عن القرآن - الذي يذكّرهم بما ينفعهم ويدفع العذاب عنهم.
٤٣- أَلَهُم آلهة تمنع العذاب من دوننا ؟ كلا : إنهم لا يستطيعون أن يعينوا أنفسهم حتى يعينوا غيرهم. ولا أحد يستطيع أن يحفظ واحداً منهم في جواره وصحبته إذا أردنا بهم العذاب والهلاك.
٤٤- لم نُعجل عقاب هؤلاء بكفرهم، بل استدرجناهم ومتّعناهم في الحياة الدنيا كما متعنا آباءهم قبلهم حتى طال عليهم العمر. أيتعامون عما حولهم فلا يرون أنا نقصد الأرض فننقصها من أطرافها بالفتح ونصر المؤمنين ؟ ! أفهم الغالبون، أم المؤمنون الذين وعدهم الله بالنصر والتأييد ؟ .
٤٥- قل - أيها النبي - : لا أحذركم بكلام من عندي، وإنما أحذركم بالوحي الصادر عن الله لي - وهو حق وصدق - وهم لطول إعراضهم عن صوت الحق ختم الله علي سمعهم حتى صاروا كالصم، ولا يسمع الصم الدعاءَ حين يخوِّفون بالعذاب.
٤٦- وتأكد أنهم إن أصابتهم إصابة خفيفة من العذاب الذي يسخرون منه يصيحون من الهول قائلين : يا ويلنا إنا كنا ظالمين لأنفسنا وغيرنا، إذ كفرنا بما أخبرنا به.
٤٧- ونضع الموازين التي تقيم العدل يوم القيامة، فلا تُظَلَم نفس بنقص شيء من حسناتها أو زيادة شيء في سيئاتها، ولو كان وزن حبة صغيرة أتينا بها وحاسبنا عليها، وكفي أن نكون الحاسبين فلا تظلم نفس شيئاً.
٤٨- ولقد أعطينا موسى وهارون التوراة التي تفرق بين الحق والباطل، والحلال والحرام، وهي إلي ذلك نور يهدى إلي طرق الخير والرشاد، وتذكير ينتفع به المتقون.
٤٩- الذين يخافون خالقهم ومالك أمرهم - حال بُعْد الناس عنهم - لا يراءون أحداً، وهم من أهوال يوم القيامة في خوف دائم.
٥٠- وهذا القرآن تذكير كثير للخير، أنزلناه لكم كما أنزلنا الذكر علي موسى، فكيف يكون منكم إنكاره وأنتم أولي الناس بالإيمان به ؟ !
٥١- ولقد أعطينا إبراهيم الرشد والتفكير في طلب الحق مخلصاً من قبل موسى وهارون، وكنا بأحواله وفضائله التي تؤهله لحمل الرسالة عالمين.
٥٢- واذكر - أيها النبي - حين قال إبراهيم لأبيه وقومه مستخِفّاً بالأصنام التي كانوا يعظمونها ويعكفون علي عبادتها : ما هذه التماثيل التي أنتم مقيمون علي عبادتها ؟
٥٣- قالوا : وجدنا آباءنا يعظمونها ويخصونها بعبادتهم، فاتَّبعناهم.
٥٤- قال : لقد كنتم في هذه العبادة وكان آباؤكم من قبلكم في بُعْدٍ واضحٍ عن الحق.
٥٥- قالوا : أجئتنا في هذا الذي تقوله بما تعتقد أنه الحق، أم أنت بهذا الكلام من الذين يلهون ويلعبون غير متحملين أي تبعة ؟
٥٦- قال : لا هزل فيما قلته، بل ربكم الذي يستحق - دون غيره - التعظيم والخشوع والعبادة هو الذي خلق السماوات والأرض، وأوجدهن علي غير مثال سابق. فحقه - وحده - أن يعبد، وأنا علي ذلك الذي أقوله من المتحققين الذين يقولون ما يشاهدونه ويعلمونه.
٥٧- وقال في نفسه : أقسم بالله لأدبّرن تدبيراً أكسر به أصنامكم بعد أن تبتعدوا عنها، ليظهر لكم ضلال ما أنتم عليه.
٥٨- ذهب إبراهيم بعد انصرافهم إلي الأصنام فحطمها وجعلها قطعاً، إلا صنماً كبيرا تركه ليرجعوا إليه ويسألوه عما وقع لآلهتهم فلا يجيبهم فيظهر لهم بطلان عبادتهم.
٥٩- قالوا بعد أن رأوا ما حصل لأصنامهم : مَنْ فعل هذا بآلهتنا ؟ إنه دون شك من الذين ظلموا أنفسهم بتعريضها للعقاب.
٦٠- قال بعضهم : سمعنا شاباً يذكرهم بالسب يُدعى إبراهيم.
٦١- قال كبارهم : اذهبوا إليه فأحضروه ليُحاسب علي مرأي من الناس، لعلهم يشهدون بما فعل ويشاهدون العقوبة التي سننزلها به.
٦٢- قالوا بعد أن أحضروه : أأنت الذي فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم ؟.
٦٣- قال مُنَبِّهاً لهم علي ضلالهم مُتَهكِّماً بهم : بل فعله كبيرهم هذا، فاسألوا الآلهة عمَّن فعل بها هذا إن كانوا يستطيعون أن يردوا جواب سؤالكم ؟.
٦٤- فعادوا إلي أنفسهم يفكرون فيما هم عليه من عبادة ما لا ينفع غيره، ولا يدفع عن نفسه الشر، فاستبان لهم خطؤهم، وقال بعضهم : ليس إبراهيم من الظالمين، بل أنتم - بعبادة ما لا يستحق العبادة - الظالمون.
٦٥- ثم انقلبوا من الرشاد الطارئ إلي الضلال، وقالوا لإبراهيم : إنك قد علمت أن هؤلاء الذين نعبدهم لا ينطقون، فكيف تطلب منا أن نسألهم ؟
٦٦- قال : أيكون هذا حالهم من العجز، ويكون هذا حالكم معهم، فتعبدون من غير الله ما لا ينفعكم أقل نفع إن عبدتموه، ولا يضركم إن أهملتموه ؟ !.
٦٧- قُبحاً لكم ولآلهتكم، أتعطلون تفكيركم وتُهملون الاعتبار بما تدركون ؟ إن هذه الأصنام لا تستحق العبادة.
٦٨- قال بعضهم لبعض : أحرقوه بالنار وانصروا آلهتكم عليه بهذا العقاب، إن كنتم تريدون أن تفعلوا ما تنصرون به آلهتكم.
٦٩- فجعلنا النار باردة وسلاماً لا ضرر فيها علي إبراهيم.
٧٠- وأرادوا أن يبطشوا به فأنجيناه وجعلناهم أشد الناس خسراناً.
٧١- ونجَّيناه ولوطاً من كيد الكائدين، فاتجها إلي الأرض التي أكثرنا فيها الخير للناس جميعاً، وأرسلنا فيها كثيراً من الأنبياء.
٧٢- ووهبنا له إسحاق، ومن إسحاق يعقوب هبة زائدة علي ما طلب، وكلا من إسحاق ويعقوب جعلناه أهل صلاح.
٧٣- وجعلناهم أنبياء يدعون الناس ويهدونهم إلي الخير بأمرنا لهم أن يكونوا مرشدين، وألهمناهم فعل الخيرات وإدامة القيام بالصلاة علي وجهها، وإعطاء الزكاة، وكانوا لنا - دون غيرنا - خاضعين مخلصين.
٧٤- وآتينا لوطاً القول الفصل والسداد في الحكم والعلم النافع، ونجِّيناه من القرية التي كان أهلها يعملون الأعمال الشاذة الخبيثة، إنهم كانوا قوماً يأتون الذكران - وهي فاحشة - ما سبقهم بها أحد من العالمين.
٧٥- وسلكناه في أهل رحمتنا، إنه من الصالحين الذين يشملهم الله برحمته ويمدهم بنصره.
٧٦- ولنذكر هنا نوحاً من قبل إبراهيم ولوط، حين دعا ربه أن يُطهّر الأرض من الفاسقين. فاستجبنا دعاءه ونجيناه هو ومَنْ آمن مِن أهله من كرب الطوفان العظيم.
٧٧- ومنعناه بنصرنا من كيد قومه الذين كذبوا بآياتنا الدالة علي رسالته ؛ إنهم كانوا أصحاب شر فأغرقناهم أجمعين.
٧٨- واذكر - أيها النبي - داود وسليمان حين كانا يحكمان في الزرع، إذ انتشرت فيه غنم القوم من غير أصحابه وأكلته ليلا، وكنا لحكمهما في القضية المتعلقة به عالمين.
٧٩- ففهمنا الفتوى سليمان، وكلا منهما أعطيناه حكمة وعلماً بالحياة وشؤونها، وسخرنا مع داود الجبال ينزهن الله كما ينزِّهه داود عن كل ما لا يليق به، وسخرنا الطير كذلك يسبحن الله معه، وكنا فاعلين ذلك بقدرتنا التي لا تعجز.
٨٠- وعلَّمنا داود صنعة نسج الدروع، لتكون لباساً يمنعكم من شدة بأس بعضكم لبعض، فاشكروا الله علي هذه النعم التي أنعم بها عليكم.
٨١- وسخَّرنا لسليمان الريح قوية شديدة الهبوب، تجرى بحسب رغبته وأمره إلي الأرض التي زدنا فيها الخير، وكنا بكل شيء عالمين، لا تغيب عنا كبيرة ولا صغيرة.
٨٢- وسخرنا له من الشياطين من يغوصون في الماء إلي أعماق البحار، ليستخرجوا اللؤلؤ والمرجان، ويعملوا عملا غير ذلك، كبناء الحصون والقصور، وكنا لهم مراقبين لأعمالهم، فلا ينالون أحداً بسوء، ولا يتمرَّدون علي أمر سليمان.
٨٣- واذكر - أيها النبي - أيوب حين دعا ربه - وقد أضْنَاه المرض - وقال : يا رب، إني قد أصابني الضُّر وآلمني، وأنت أرحم الراحمين.
٨٤- فأجبناه إلي ما كان يرجوه، فرفعنا عنه الضُّر، وأعطيناه أولاداً بقدر مَنْ مات من أولاده، وزدناه مثلهم رحمة به من فضلنا، وتذكيراً لغيره ممن يعبدوننا ليصبروا كما صبر، ويطمعوا في رحمة الله كما طمع.
٨٥- واذكر - أيها النبي - لقومك إسماعيل وإدريس وذا الكفل، كل منهم من الصابرين علي احتمال التكاليف والشدائد.
٨٦- وجعلناهم من أهل رحمتنا، إنهم من عبادنا الصالحين.
٨٧- واذكر - أيها النبي - قصة يونس صاحب الحوت إذ ضاق بإعراض قومه عن دعوته، فهجرهم ورحل عنهم بعيداً غاضباً عليهم، ظاناً أن الله أباح له أن يهجرهم، فظن أن الله لن يقدر عليه، فابتلعه الحوت، وعاش وهو في ظلمات البحر، ونادى ربه ضارعاً إليه معترفاً بما كان منه قائلا : يا رب، لا معبود بحق إلا أنت، أنزهك عن كل ما لا يليق بك، أعترف إني كنت من الظالمين لنفسي بعملِ ما لا يرضيك.
٨٨- فأجبناه إلي ما كان يرجوه، ونجيناه من الغم الذي كان فيه، ومثل هذا الإنجاء من البلاء ننجى المؤمنين الذين يعترفون بأخطائهم ويدعوننا مخلصين.
٨٩- واذكر قصة زكريا، حين نادى ربه بعد أن رأي من قدرته سبحانه ما بعث في نفسه الأمل في رحمته، فقال : يا رب، لا تتركني وحيداً دون وارث، وأنت خير الذين يرثون غيرهم، فإنك الباقي بعد فناء الخلق.
٩٠- فحققنا رجاءه، وأجبنا دعاءه، ووهبنا له علي الكبر ابنه يحيى، وجعلنا زوجه العقيم صالحة للولد إن هؤلاء الأصفياء الأنبياء كانوا يسارعون في عمل كل خير ندعوهم إليه، ويدعوننا طمعاً في رحمتنا وخوفاً من عذابنا، وكانوا لا يعظِّمون ولا يهابون أحداً غيرنا.
٩١- واذكر مع هؤلاء قصة مريم التي صانت فرجها، فألقينا فيها سِرَّا من أسرارنا، وجعلناها تحمل دون زوج، وجعلنا ابنها دون أب، فكانت هي وابنها دليلا ظاهراً علي قدرتنا في تغيير الأسباب والمسببات، وإننا قادرون علي كل شيء.
٩٢- إن هذه الملّة - التي هي الإسلام - هي ملّتكم الصحيحة التي يجب أن تحافظوا عليها، حال كونها ملة واحدة متجانسة لا تنافر بين أحكامها، فلا تتفرقوا فيها شيعاً وأحزاباً، وأنا خالقكم ومالك أمركم، فأخلصوا لي العبادة ولا تشركوا معي غيري.
٩٣- ومع هذا الإرشاد، تفرّق أكثر الناس بحسب شهواتهم، جاعلين أمر دينهم قِطَعاً، فصاروا به فِرقاً مختلفة، وكل فريق منهم راجع إلينا يحاسب علي أعماله.
٩٤- فمن يعمل عمله من الأعمال الصالحة وهو يؤمن بالله وبدينه الذي ارتضاه فلا نقص لشيء من سعيه، بل سيوفي جزاءه كاملا، وإنا لهذا السعي كاتبون، فلا يضيع شيء منه.
٩٥- وممتنع علي أهل كل قرية أهلكناهم بسبب ظلمهم أنهم لا يرجعون إلينا يوم القيامة، بل لابد من رجوعهم وحسابهم علي سوء أعمالهم.
٩٦- حتى إذا فتحت أبواب الشر والفساد، وأخذ أبناء يأجوج ومأجوج يسرعون خفافاً من كل مرتفع في الجبال والطرق بعوامل الفوضى والقلق.
٩٧- واقترب الموعود به الذي لابد من تحققه وهو يوم القيامة، فيفاجأ الذين كفروا بأبصارهم لا تغمض أبداً من شدة الهول، فيصيحون قائلين : يا خوفنا من هلاكنا، ويا حسرتنا علي ما قدمنا، قد كنا في غفلة من هذا اليوم، بل كنا ظالمين لأنفسنا بالكفر والعناد.
٩٨- ويقال لهؤلاء الكفار : إنكم والآلهة التي عبدتموها من غير الله وقود نار جهنم، أنتم داخلون فيها معذَّبون بها.
٩٩- لو كان هؤلاء - الذين عبدتموهم من دون الله - آلهة تستحق أن تُعْبد ما دخلوها معكم، وكل من العابدين والمعبودين باقون في النار.
١٠٠- لهم فيها نفَسٌ يخرج من الصدور بصوت مخنوق، لما يلاقونه من الضيق، وهم فيها لا يسمعون شيئاً يسرهم.
١٠١- إن الذين وفَّقناهم لاتباع الحق وعمل الخير، ووعدناهم بالعاقبة الحسنة، أولئك من جهنم وعذابها مبعدون.
١٠٢- لا يسمعون صوت فَوَران نارها، وهم فيما تشتهيه أنفسهم خالدون.
١٠٣- لا يحزنهم الهول الأكبر الذي يفزع منه الكفار، وتستقبلهم الملائكة بالتهنئة، يقولون : هذا يومكم الذي وعدكم ربكم النعيم فيه.
١٠٤- يوم نطوى السماء كما تُطْوى الورقة في الكتاب، ونُعيد الخلق إلي الحساب والجزاء، لا تعجزنا إعادتهم، فقد بدأنا خلقهم، وكما بدأناهم نعيدهم، وَعَدْنا بذلك وعْداً حقاً، إنا كنا فاعلين دائماً ما نَعِدُ به.
١٠٥- ولقد كتبنا في الزبور - وهو كتاب داود - من بعد التوراة أن الأرض يرثها عبادي الصالحون لعمارتها، وتيسير أسباب الحياة الطيبة فيها.
١٠٦- إن في هذا الذي ذكرناه من أخبار الأنبياء مع أقوامهم، وأخبار الجنة والنار لكفاية في التذكير والاعتبار، لقوم مهيئين لعبادة الله - وحده - لا تفتنهم زخارف الدنيا.
١٠٧- وما أرسلناك - أيها النبي - إلا لتكون رحمة عامة للعالمين.
١٠٨- قل - أيها النبي - للناس كافة : إن لُبَّ الذي أَوحَى الله به إلي هو : أنه لا إله لكم إلا هو، وأن بقية ما يوحى به بعد ذلك تابع لهذا الأصل، وإذا كان الأمر كذلك فيجب أن تستسلموا وتخضعوا لله وحده.
١٠٩- فإن أعرضوا عن دعوتك، فقل لهم : لقد أعلمتكم جميعاً بما أمرني به ربى، وبذلك استوينا في العلم، ولا أدرى ما توعدون به من البعث والحساب، أهو قريب أم بعيد ؟
١١٠- إن الله يعلم كل ما يقال مما تجهرون به، وما تكتمون في أنفسكم.
١١١- وما أدرى لعل إمهالكم وتأخير العذاب عنكم اختبار يمتحنكم الله به، ويمتِّعكم فيه بلذائذ الحياة إلي حينٍ قدَّره الله بحسب حكمته.
١١٢- قل - أيها النبي - : يا رب احكم بيني وبين مَنْ بلَّغتُهم الوحي بالعدل حتى لا يستوي المؤمنون والكافرون، وربنا المنعم بجلائل النعم، المستحق للحمد والشكر، وهو المستعان به علي إبطال ما تفترونه أيها الكافرون.