تفسير سورة التوبة

المنتخب في تفسير القرآن الكريم
تفسير سورة سورة التوبة من كتاب المنتخب في تفسير القرآن الكريم .
لمؤلفه المنتخب . المتوفي سنة 2008 هـ
سورة التوبة مدنية، نزلت بالمدينة في العام التاسع، وحملها علي بن أبي طالب إلى المسلمين في الحج، وقرأها عليهم، وأمير الحج في هذا العام أبو بكر الصديق رضي الله عنه وآياتها تسع وعشرون ومائة، وقد ابتدأت ببراءة الله تعالى من المشركين، ولذلك سميت براءة. وذكرت بعد ذلك حرمة الأشهر الحرم، وعهد المشركين، ووجوب الوفاء ما لم ينكثوا، ومن ينكث في العهد فإنه تجب حربه، وبينت بعد ذلك أن لب التقرب إلى الله تعالى هو الإيمان به، وأنه لا يكمل الإيمان إلا إذا كان الله ورسوله أحب إلى المؤمنين من كل شيء، وذكر سبحانه أن الاغترار بالقوة يبعد النصر، وأشار إلى حال المسلمين في غزوة حنين، وفي هذه السورة حرم على المشركين دخول المسجد الحرام، لأنهم نجس.
وفيها النص على وجوب قتال اليهود والنصارى حتى يعطوا الجزية عن يد، وبين فيها عدد الأشهر الحرم، وفيها بينت ضرورة النفرة إل القتال عند كل نداء من غير تلكؤ، وفيها من بعد ذلك إشارات إلى المخلفين والمعوقين عن الخروج للقتال، وبيان أحوال المنافقين الذين يبتغون الفتنة في كل وقت تكون الدعوة فيه إلى القتال، وذكر الله تعالى المنافقين في معاملتهم للمؤمنين في السلم وفي الحرب.
وفي هذه السورة الأمر القاطع المعلن لعقوبة النفاق، وهو ألا يصلي النبي صلى الله عليه وسلم على أحد منهم، وذكر سبحانه بعد ذلك الأعذار التي تسوغ التخلف، وبين سبحانه حال الذين أظهروا الدخول في الإسلام من الأعراب، أو خضعوا لأحكامه بعد أن صارت له قوة، وبين أن هؤلاء الأعراب مقيمون حول المدينة وقريبا منها.
وذكر من بعد ذلك أحوال الناس بالنسبة للإيمان، وذكر خبر مسجد الضرار الذي بناه المنافقون ليهربوا من المسجد الذي بناه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر سبحانه أوصاف المؤمنين الصادقين في إيمانهم. وتوبة الذين كانوا قد خلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقبول الله تعالى لهذه التوبة، كما ذكر سبحانه وتعالى أحوال الناس في تلقي آيات القرآن عند نزولها، وختم سبحانه وتعالى السورة بأن الله تعالى اختار محمدا للرسالة وهو لا يريد عنت من أرسل إليهم، وأنه بهم رؤوف رحيم، وأن الله حسبه إذا تولوا عنه.
١- الله ورسوله بريئان من المشركين الذين عاهدتموهم فنقضوا العهد.
٢- فلكم الأمان - أيها المشركون - مدة أربعة أشهر - من حين البراءة تنتقلون فيها حيث شئتم، واعلموا أنكم حيثما كنتم خاضعون لسلطان الله، وأنتم لا تعجزونه، وإن الله كاتب الخزي على الذين يجحدونه.
٣- وبلاغ من الله ورسوله إلى الناس عامة، في مجتمعهم يوم الحج الأكبر، أن الله ورسوله بريئان من عهود المشركين الخائنين - في أيها المشركون الناقضون للعهد - إذا رجعتم عن شرككم بالله، فإن ذلك خير لكم في الدنيا والآخرة، أما إن أعرضتم وبقيتم على ما أنتم عليه، فاعلموا أنكم خاضعون لسلطان الله. وأنت - أيها الرسول - أنذر جميع الكافرين بعذاب شديد الإيلام.
٤- أما من عاهدتم من المشركين، فحافظوا على عهودكم ولم يُخِلُّوا بشيء منها، ولم يعينوا عليكم أحداً، فأوفوا لهم عهدهم إلى نهايته واحترموه.. إن الله يحب المتقين المحافظين على عهودهم.
٥- فإذا انقضت مدة الأمان - الأشهر الأربعة - فاقتلوا المشركين الناقضين للعهد في كل مكان، وخذوهم بالشدة، واضربوا الحصار عليهم بسد الطرق، واقعدوا لهم في كل سبيل، فإن تابوا عن الكفر، والتزموا أحكام الإسلام بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، فلا سبيل لكم عليهم لدخولهم في دين الله، والله عظيم المغفرة لمن تاب، واسع الرحمة بعباده.
٦- وإن طلب منك الأمان - أيها الرسول - أحد من المشركين الذين أمرتم بقتالهم ليسمع دعوتك، فأمّنه حتى يسمع كلام الله، فإن دخل في الإسلام فهو منكم، وإن لم يدخل فأبلغه مكاناً يكون فيه آمناً. وهذا الأمر - بتأمين المستجير حتى يسمع كلام الله - بسبب ما ظهر من جهله للإسلام، ورغبته في العلم به.
٧- كيف يكون لهؤلاء المشركين - الناقضين للعهود مراراً - عهد محترم عند الله وعند رسوله ؟ فلا تأخذوا بعهودهم، إلا الذين عاهدتموهم من قبائل العرب عند المسجد الحرام ثم استقاموا على عهدهم، فاستقيموا أنتم لهم على عهدكم ما داموا مستقيمين، إن الله يحب الطائعين له الموفين بعهودهم.
٨- كيف تحافظون على عهودهم، وهم قوم إن يتمكنوا منكم ويكونوا ظاهرين عليكم فلن يدَّخروا جهداً في القضاء عليكم، غير مراعين فيكم قرابة ولا عهداً، وهؤلاء يخدعونكم بكلامهم المعسول، وقلوبهم منطوية على كراهيتكم، وأكثرهم خارجون عن الحق ناقضون للعهد.
٩- أعرَضوا عن آيات الله واستبدلوا بها عَرَضاً قليلاً من أعراض الدنيا، ومنعوا الناس عن الدخول في دين الله، إن هؤلاء قَبُحَ ما كانوا يعملون.
١٠- تلك حال جحودهم، لا يحترمون لمؤمن قرابة ولا عهداً، وهؤلاء هم الذين من شأنهم الاعتداء، فهو مرض لازم لهم.
١١- فإن تابوا عن الكفر، والتزموا أحكام الإسلام بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، فهم إخوانكم في الدين، لهم ما لكم وعليهم ما عليكم، ويبيّن الله الآيات لقوم ينتفعون بالعلم.
١٢- وإن نقضوا عهودهم من بعد توكيدها، واستمروا على الطعن في دينكم، فقاتلوا رؤساء الضلال ومَن معهم، لأنهم لا عهد لهم ولا ذمة، لينتهوا عن كفرهم.
١٣- هلا تسارعون - أيها المؤمنون - إلى قتال جماعة من المشركين، نقضوا عهودكم مراراً، وقد سبق أن همُّوا بإخراج الرسول من مكة وبقتله، وهم الذين بدأوكم بالإيذاء والعدوان من أول الأمر، أتخافونهم ؟ لا تخافوهم، فالله - وحده - أحق بأن تخافوه، إن كنتم صادقين في إيمانكم.
١٤- قاتلوهم - أيها المؤمنون - يذقهم الله العذاب على أيديكم، ويذلهم وينصركم عليهم، ويشف - بهزيمتهم وإعلاء عزة الإسلام - ما كان من ألم كامن وظاهر بصدور قوم مؤمنين طالما لحقهم أذى الكفار.
١٥- ويملأ الله قلوب المؤمنين فرحاً بالنصر بعد الهم والخوف، ويذهب عنهم الغيظ، ويقبل الله توبة من يشاء توبته منهم، والله واسع العلم بشئون عباده، عظيم الحكمة فيما يشرع لهم.
١٦- لا تظنوا - أيها المؤمنون - أن يترككم الله تعالى دون اختبار لكم بالجهاد ونحوه. إن من سنته تعالى الاختبار، ليظهَر علمه بالذين جاهدوا منكم مخلصين، ولم يتخذوا سوى الله ورسوله والمؤمنين بطانة وأولياء، والله عليم بجميع أعمالكم، ومجازيكم عليها.
١٧- ليس المشركون أهلاً لأن يعمروا مساجد الله، وهم مستمرون على كفرهم، معلنون له، أولئك المشركون لا اعتداد بأعمالهم ولا ثواب لهم عليها، وهم خالدون في النار يوم القيامة.
١٨- ولكن الذين يعمرون مساجد الله، إنما هم الذين آمنوا بالله - وحده - وصدَّقوا بالبعث والجزاء، وأدَّوا الصلاة على وجهها، وأخرجوا زكاة أموالهم، ولم يخشوا إلا الله - وحده - وهؤلاء يرجى لهم أن يكونوا عند الله من المهتدين إلى الصراط المستقيم.
١٩- لا ينبغي أن تجعلوا القائمين بسقاية الحجيج وعمارة المسجد الحرام من المشركين في منزلة الذين آمنوا بالله - وحده - وصدَّقوا بالبعث والجزاء، وجاهدوا في سبيل الله. ذلك أنهم ليسوا بمنزلة واحدة عند الله. والله لا يهدى إلى طريق الخير القوم المستمرين على ظلم أنفسهم بالكفر، وظلم غيرهم بالأذى المستمر.
٢٠- الذين صدَّقوا بوحدانية الله، وهاجروا من دار الكفر إلى دار الإسلام، وتحمَّلوا مشاق الجهاد في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، أعظم منزلة عند الله ممن لم يتصف بهذه الصفات، وهؤلاء هم الظافرون بمثوبة الله وكرامته.
٢١- هؤلاء يبشرهم الله تعالى برحمته الواسعة التي تشملهم، ويخصهم برضاه، وهو أكبر جزاء، وسيدخلهم يوم القيامة جنات لهم فيها نعيم قائم ثابت دائم.
٢٢- وهم خالدون في الجنة لا يتحولون عنها، وإن الله عنده أجر عظيم وثواب جزيل.
٢٣- يا أيها المؤمنون لا تتخذوا من آبائكم وأبنائكم وإخوانكم وعشيرتكم وأزواجكم، نصراء لكم ما داموا يحبون الكفر ويفضلونه على الإيمان، ومن يستنصر بالكافرين، فأولئك هم الذين تجاوزوا الطريق المستقيم.
٢٤- قل - يا أيها الرسول - للمؤمنين : إن كنتم تحبون آباءكم وأبناءكم وإخوانكم وأزواجكم، وأقرباءكم، وأموالاً اكتسبتموها، وتجارة تخافون بوارها، ومساكن تستريحون للإقامة فيها أكثر من حبكم لله ورسوله والجهاد في سبيله، حتى شغلتكم عن مناصرة الرسول، فانتظروا حتى يأتي الله بحكمه فيكم وعقوبته لكم. والله لا يهدى الخارجين على حدود دينه.
٢٥- لقد نصركم الله - أيها المؤمنون - على أعدائكم في كثير من المواقع بقوة إيمانكم، وحين غرتكم كثرتكم في معركة «حُنَيْن » ترككم الله لأنفسكم أول الأمر، فلم تنفعكم كثرتكم شيئاً، وظهر عليكم عدوكم، ولشدة الفزع ضاقت عليكم الأرض، فلم تجدوا سبيلا للقتال أو النجاة الشريفة، ولم يجد أكثركم وسيلة للنجاة غير الهرب، ففررتم منهزمين، وتركتم رسول الله مع قلة من المؤمنين١.
١ كانت موقعة حنين بين المسلمين وقبيلتي وهوازن، وكان جيش المسلمين فيها يبلغ نحو اثني عشر ألفا، وعدد الكفار نحو أربعة آلاف، وقد شددوا في القتال، لأن القضاء عليهم قضاء على آخر نفوذ للوثنية في العرب، لأن مكة فتحت قبل ذلك بقليل، وقد التقى الفريقان المؤمنون بكثرتهم وقد أعجبتهم، وأولئك بقلتهم العنيفة، وكانت الجولة للشرك لغرور المسلمين، ولكن انتهت المعركة بنصر المؤمنين، والعبرة في هذه الغزوة أن الكثرة العددية ليست هي عامل النصر إنما عامل النصر هو القوة المعنوية..
٢٦- ثم أدركتكم عناية الله، فأنزل الطمأنينة على رسوله، وملأ بها قلوب المؤمنين، وأمدَّكم بالملائكة جنوده التي ثبتت أقدامكم، ولم تروها، فانتصرتم.. وأذاق الله أعداءكم مرارة الهزيمة، وذلك جزاء الكافرين في الدنيا.
٢٧- ثم يقبل الله توبة من يشاء من عباده فيغفر ذنبه، إذا رجع عنه مخلصاً، والله عظيم المغفرة واسع الرحمة.
٢٨- يا أيها المؤمنون، إنما المشركون بسبب شركهم نجست نفوسهم، وهم ضالون في العقيدة، فلا تمكنوهم من دخول المسجد الحرام بعد هذا العام ( التاسع من الهجرة ). وإن خفتم فقراً بسبب انقطاع تجارتهم عنكم، فإن الله سوف يعوضكم عن هذا، ويغنيكم من فضله إن شاء، إن الله عليم بشئونكم، حكيم في تدبيره لها.
٢٩- يا أيها الذين آمنوا، قاتلوا الكافرين من أهل الكتاب الذين لا يؤمنون إيماناً صحيحاً بالله ولا يقرون بالبعث والجزاء إقراراً صحيحاً، ولا يلتزمون الانتهاء عما نهي الله ورسوله عنه، ولا يعتنقون الدين الحق وهو الإسلام. قاتلوهم حتى يؤمنوا، أو يؤدوا إليكم الجزية١ خاضعين طائعين غير متمردين. ليسهموا في بناء الميزانية الإسلامية.
١ الجزية من الموارد الهامة في ميزانية الدولة الإسلامية، وكانت هذه الضريبة تتراوح ما بين ثمانية وأربعين درهما، واثني عشر درهما للفرد الواحد، تؤخذ من اليهود والنصارى ومن حكمهم، وكانت واجبة على الذكر البالغ الصحيح الجسم والعقل. بشرط أن يكون له مال يدفع منه ما فرض عليه، وأعفي منها النساء والأطفال والشيوخ، لأن الحرب لا تعلن عليهم، ولا يدفعها العمي والمقعدون إلا إذا كانوا أغنياء، وكذلك الفقراء والمساكين والأرقاء، ولم يكن يطالب بها الرهبان إذا كانوا في عزلة عن الناس.
وكان الأساس في فرض ضريبة الجزية حماية أهل الذمة ودفع العدوان عنهم، لأن أهل الكتاب ومن في حكمهم لم يكلفوا الحرب أو الدفاع عن أنفسهم أو غيرهم، فكان من العدالة أن يدفعوا هذه الضريبة نظير الحماية والمنفعة ونظير تمتعهم بمرافق الدولة العامة، وأنها في مقابل ما يؤخذ من المسلم، فإن المسلم يؤخذ منه خمس الغنائم والزكاة وصدقة الفطر والكفارات المختلفة للذنوب، فكان لا بد أن يؤخذ من غير المسلم ما يقابل القدر الذي يؤخذ من المسلم، وهي تنفق في المصالح العامة وعلى الفقراء أهل الذمة الذين يدفعونها، ولا يقصد بهذه الضريبة الإذلال أو العقوبة، لأن هذا لا يتفق وعدالة الإسلام ولا يتمشى مع غايته السامية..

٣٠- ترك اليهود الوحدانية في عقيدتهم، وقالوا : عزيز١ ابن الله، وترك النصارى الوحدانية كذلك، فقالوا : المسيح ابن الله. وقولهم هذا مبتدع من عندهم، يرددونه بأفواههم ولم يأتهم به كتاب ولا رسول، وليس عليهم حُجة ولا برهان، وهم في هذا القول يشابهون قول المشركين قبلهم، لعن الله هؤلاء الكفار وأهلكهم. عجباً لهم كيف يضلون عن الحق وهو ظاهر، ويعدلون إلى الباطل.
١ عزيز هو عزرا الكاهن من نسل هارون خرج من بابل مع رجوع اليهود الثاني بعد وفاة رسول الله موسى بنحو ألف عام، وكان عزرا يلقب بالكاتب لأنه كان يكتب في شريعة موسى.
ملحوظة: خرج عزرا ومن معه من اليهود إلى أورشليم سنة ٤٥٦ ق. م السنة السابقة من حكم أريخشسنا ملك فارس بعد خراب أورشليم وحرق بيت القدس ونهبه بزمن طويل..

٣١- اتخذوا رجال دينهم أرباباً، يشرعون لهم، ويكون كلامهم ديناً، ولو كان يخالف قول رسولهم، فاتبعوهم في باطلهم، وعبدوا المسيح ابن مريم، وقد أمرهم الله في كتبه على لسان رسله ألا يعبدوا إلا إلهاً واحداً، لأنه لا يستحق العبادة في حكم الشرع والعقل إلا الإله الواحد، تنزه الله عن الإشراك في العبادة والخلق والصفات.
٣٢- يريد الكافرون بمزاعمهم الباطلة أن يطفئوا نور الله وهو الإسلام، ولا يريد الله إلا إتمام نوره، بإظهار دينه ونصر رسوله، ولو كانوا كارهين لذلك.
٣٣- هو الله الذي كفل إتمام نوره بإرسال رسوله ( محمداً ) صلى الله عليه وسلم، بالحُجج البينات، ودين الحق ( الإسلام ) ليعلى هذا الدين على جميع الأديان السابقة عليه، وإن كرهه المشركون، فإن الله يظهره رغماً عنهم.
٣٤- يا أيها المؤمنون : اعلموا أن كثيراً من علماء اليهود ورهبان النصارى يستحلون أموال الناس بغير حق، ويستغلون ثقة الناس فيهم واتباعهم لهم في كل ما يقولون، ويمنعون الناس عن الدخول في الإسلام. والذين يستحوذون على الأموال من ذهب وفضة، حابسين لها، ولا يؤدون زكاتها، فأنذرهم - أيها الرسول - بعذاب موجع.
٣٥- في يوم القيامة، يوقد على هذه الأموال في نار جهنم، ثم تحرق بتلك الأموال المحماة جباه أصحابها، وجنوبهم وظهورهم، ويقال توبيخاً لهم : هذا ما ادخرتموه لأنفسكم، ولم تؤدوا منه حق الله، فذوقوا اليوم عذاباً شديداً.
٣٦- إن عدة شهور السنة القمرية اثنا عشر شهراً، في حكم الله وتقديره، وفيما بَيَّنه في كتبه منذ بدء العالم. ومن هذه الاثني عشر شهراً أربعة أشهر يحرم القتال فيها، وهي : رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم. وهذا التحريم للأشهر الأربعة المذكورة هو دين الله المستقيم، الذي لا تبديل فيه ولا تغيير. فلا تظلموا في هذه الأشهر أنفسكم باستحلال القتال أو امتناعكم عنه إذا أغار عليكم الأعداء فيها، وقاتلوا - أيها المؤمنون - جماعة المشركين دون استثناء أحد منهم، كما يقاتلونكم معادين لكم جميعاً، وكونوا على يقين من أن الله ناصر للذين يخافون، فيلتزمون أوامره ويجتنبون نواهيه.
٣٧- وما تأخير هذه الأشهر الحرم أو بعضها عما رتَّبها الله عليه - كما كان يفعله أهل الجاهلية - إلا إمعان في الكفر، يزداد به الذين كفروا ضلالا فوق ضلالهم، وكان العرب في الجاهلية يجعلون الشهر الحرام حلالا إذا احتاجوا القتال فيه، ويجعلون الشهر الحلال حراماً، ويقولون : شهر بشهر، ليوافقوا عدد الأشهر التي حرمها الله، وقد حسَّنت لهم أهواؤهم أعمالهم السيئة، والله لا يهدى القوم المصرين على كفرهم إلى طريق الخير.
٣٨- يا أيها المؤمنون ما لكم حينما قال لكم الرسول : اخرجوا للجهاد في سبيل الله، تباطأ بعضكم عن الخروج للجهاد ؟ لا ينبغي ذلك. عجباً لكم أآثرتم الحياة الدنيا الفانية على الحياة الآخرة ونعيمها الدائم ؟ فما التمتع بالدنيا ولذائذها في جنب متاع الآخرة إلا قليل تافه.
٣٩- إن لم تستجيبوا للرسول، فتخرجوا للجهاد في سبيل الله، يعذبكم الله عذاباً موجعاً. ويستبدل ربكم بكم قوماً آخرين يستجيبون للرسول ولا يتخلفون عن الجهاد، ولا تضرون الله بهذا التخلف شيئاً، والله عظيم القدرة على كل شيء.
٤٠- يا أيها المؤمنون، إن لم تنصروا رسول الله فإن الله كفيل بنصره، كما أيَّدَه ونصره حينما اضطره الذين كفروا إلى الخروج من مكة. وليس معه إلا رفيقه أبو بكر، وكان ثاني اثنين، وبينما هما في الغار مختفين من المشركين الذين يتعقبونهما خشي أبو بكر على حياة الرسول، فقال له الرسول مطمئناً : لا تحزن فإن الله معنا بالنصر والمعونة. عند ذلك أنزل الله الطمأنينة في قلب صاحبه، وأيَّد الرسول بجنود من عنده، لا يعلمها إلا هو سبحانه. وانتهي الأمر١ بأن جعل شوكة الكافرين مفلولة ودين الله هو الغالب، والله متصف بالعزة فلا يقهر، وبالحكمة فلا يختل تدبيره.
١ الغار الذي اختفي فيه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصاحبه كان بجبل ثور، وهو جبل قريب من مكة وقد أقاما به ثلاثة أيام، وخرجا منه بليل بعد أن علما أن الطلب لهما قد سكن، ووصلا إلى المدينة لثمان خلت من ربيع الأول من السنة الأولى للهجرة..
٤١- أيها المؤمنون، إذا دعا داعي الجهاد فلبوا النداء أفراداً وجماعات - كل على قدر حاله - ناشطين بالقوة والسلامة والسلاح، وجاهدوا بالمال والنفس في سبيل إعلاء كلمة الله. ففي ذلك العز والخير لكم.. إن كنتم من أهل العلم الصحيح والمعرفة الحقة١.
١ من المعاني المقصودة: قوموا للقتال ركبانا ومشاة مسلحين بعتاد خفيف وآخر ثقيل، وهذا من الأساليب المعروفة الآن، فالأسلحة الخفيفة كالسيوف لها غرضها في قتال الجنود، أما الأسلحة الثقيلة فهي لدك معاقل العدو وحصونه..
٤٢- ندد القرآن بالمنافقين في تخلفهم عن متابعة الرسول في الجهاد، فقال : لو كان ما دعي إليه هؤلاء المنافقون عرضاً من أعراض الدنيا قريب المنال، أو لو كان كذلك سفراً سهلا، لاتبعوك - أيها الرسول - ولكن شق عليهم السفر وسيحلفون أنهم لو استطاعوا لخرجوا معك، وبهذا النفاق والكذب يهلكون أنفسهم، والله لا يخفي عليه حالهم، فهو يعلم كذبهم وسيجزيهم على ذلك.
٤٣- لقد عفا الله عنك - أيها الرسول - في إذنك لهؤلاء المنافقين في التخلف عن الجهاد، قبل أن تتبيَّن أمرهم، وتعلم الصادق من أعذارهم إن كان، كما تعرف الكاذبين منهم في ادعائهم الإيمان وفي انتحال الأعذار غير الصادقة.
٤٤- ليس من شأن المؤمنين حقاً بالله، وحسابه في اليوم الآخر، أن يستأذنوك في الجهاد بالمال والنفس، أو في التخلف عنك، لأن صدق إيمانهم يحبب إليهم الجهاد في سبيل الله. والله يعلم صدق نِيَّات المؤمنين.
٤٥- إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون إيماناً صادقاً بالله وحسابه في اليوم الآخر، فإن قلوبهم دائماً في شك وريبة، وهم يعيشون في حيرة، وسينالون جزاء ذلك.
٤٦- ولو صدقت نيَّة هؤلاء المنافقين في الخروج مع الرسول للجهاد، لأخذوا أهبة الحرب واستعدوا لها، ولكن الله كره خروجهم لعلمه أنهم لو خرجوا معكم لكانوا عليكم لا لكم، فعوّقهم عن الخروج بما امتلأت به قلوبهم من النفاق، وقال قائلهم : اقعدوا مع القاعدين من أصحاب المعاذير.
٤٧- ولو خرجوا معكم إلى الجهاد ما زادوكم بخروجهم قوة، ولكن يُشيعون الاضطراب أو يُسرعون إلى الفتنة، ويشيعونها فيما بينكم، وفيكم مَنْ يجهل خُبث نيَّاتهم، ويمكن أن يُخْدَع بكلامهم، أو لضعفه يسمع دعوتهم إلى الفتنة، والله عليم بهؤلاء المنافقين الذين يظلمون أنفسهم بما أضمروه من الفساد.
٤٨- وقد سبق أن سعى هؤلاء المنافقون بالفتنة فيما بينكم، ودبروا لك - أيها الرسول - المكايد، فأحبط الله تدبيرهم، وحقق نصرك، وأظهر دينه على الرغم منهم.
٤٩- وبعض المنافقين كان يقول للرسول : ائذن لى في القعود عن الجهاد، ولا توقعني في شدة وضيق. إنهم بهذا الموقف قد أوقعوا أنفسهم في معصية الله، وإن نار جهنم لمحيطة بهم في اليوم الآخر.
٥٠- هؤلاء المنافقون لا يريدون بك - أيها الرسول - وبأصحابك إلا المكاره، فيتألمون إذا نالكم خير من نصر أو غنيمة، ويفرحون إذا أصابكم شر من جراح أو قتل، ويقولون حينئذ شامتين : قد أخذنا حذرنا بالقعود عن الخروج للجهاد، وينصرفون مسرورين.
٥١- قل لهم أيها الرسول : لن ينالنا في دنيانا من الخير أو الشر إلا ما قدره الله علينا، فنحن راضون بقضاء الله، لا نغتر بالخير نناله، ولا نجزع بالشر يصيبنا، فإن الله وحده المتولي لجميع أمورنا، وعليه - وحده - يعتمد المؤمنون الصادقون.
٥٢- قل لهم - أيها الرسول - ليس لكم أن تتوقعوا شيئاً ينالنا إلا إحدى العاقبتين الحميدتين، إما النصر والغنيمة في الدنيا، وإما الاستشهاد في سبيل الله والجنة في الآخرة، ونحن ننتظر لكم أن يوقع الله بكم عذاباً من عنده يهلككم به، أو يعذبكم بالذلة على أيدينا، فانتظروا أمر الله، ونحن معكم منتظرون أمره.
٥٣- قل - أيها الرسول - للمنافقين، الذين يريدون أن يستروا نفاقهم بإنفاق المال في الجهاد وغيره : أنفقوا ما شئتم طائعين أو مكرهين، فلن يتقبل الله عملكم الذي أحبطه نفاقكم، إنكم دائماً متمردون على دين الله، خارجون على أمره.
٥٤- وما منع الله من قبول نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله ورسوله، والكفر يحبط الأعمال، وإلا أنهم لا يؤدون الصلاة على الوجه الذي أمروا أن يؤدوها عليه، فهم يؤدونها غير مقبلين عليها ستراً لنفاقهم، ولا ينفقون شيئاً إلا وهم كارهون لهذا الإنفاق في سرائرهم.
٥٥- ولا يروقك - أيها السامع - ويأخذ بقلبك، ما ترى من المنافقين فيه من مال وبنين، فإن الله ما أعطاهم هذا إلا ليكابدوا في سبيله المتاعب والمشقات، لحفظه في الحياة الدنيا، دون أن يؤجروا على ذلك، ويدركهم الموت وهم كافرون، فيعذبون بسببها في الآخرة.
٥٦- ويقسم هؤلاء المنافقون كذباً لكم - يا جماعة المؤمنين - أنهم مؤمنون مثلكم، والحقيقة أنهم ليسوا مؤمنين بالله، ولكنهم قوم من شأنهم الضعف والخوف، وإن ذلك يدفعهم إلى النفاق والخوف الدائم، فهم يؤكدونه بالأيْمان الفاجرة.
٥٧- وهم يضيقون بكم، ويكرهون معاشرتكم، ولو يجدون حصناً أو سراديب في الجبال أو جحوراً في الأرض يدخلون فيها، لانصرفوا إليها مسرعين.
٥٨- وبعض هؤلاء المنافقين يعيبك - أيها الرسول - ويطعن عليك في قسمة الصدقات والغنائم، إذ لا هم لهم إلا حطام الدنيا، فإن أعطيتهم ما يرغبون منها رضوا عن عملك، وإن لم تعطهم تعجلوا بالسخط عليك.
٥٩- ولو أن هؤلاء المنافقين، الذين عابوك في قسم الصدقات والغنائم، رضوا بما قسم الله لهم، وهو ما أعطاهم رسوله، وطابت نفوسهم به - وإن قل - وقالوا : كفانا حكم الله، وسيرزقنا الله من فضله، ويعطينا رسوله أكثر مما أعطانا في هذه المرة، وإنا إلى طاعة الله وأفضاله وإحسانه لراغبون، لو أنهم فعلوا ذلك لكان خيراً لهم.
٦٠- لا تُصرف الزكاة المفروضة إلا للذين لا يجدون ما يكفيهم، والمرضى الذين لا يستطيعون كسباً ولا مال لهم، والذين يجمعونها ويعملون فيها، والذين تؤلف قلوبهم، لأنهم يرجى منهم الإسلام والانتفاع بهم في خدمته ونصرته، والذين يدعون إلى الإسلام ويبشرون به، وفي عتق رقاب الأرقاء والأسرى من ربقة العبودية وذل الأسر، وفي قضاء الديون عن المدينين العاجزين عن الأداء، إذا لم تكن ناشئة عن إثم أو ظلم أو سفه، وفي إمداد الغزاة بما يعينهم على الجهاد في سبيل الله، وما يتصل بذلك من طريق الخير ووجوه البر، وفي عون المسافرين إذا انقطعت أسباب اتصالهم بأموالهم وأهليهم. شرع الله ذلك فريضة منه لمصلحة عباده، والله سبحانه عليم بمصالح خلقه، حكيم فيما يشرع١.
١ الزكاة نظام وضع لتجمع أموال من الغني وترد على الفقير، فهي حق الفقير في مال الغني، ويجمعها ولي الأمر، وينفقها في مصارفها التي يعد أهمها وأجلها محاربة آثار الفقر في الفقير. فهي تعطي للفقراء والمساكين وأبناء السبيل في أمر لا فساد فيه، وفيها باب للقرض الحسن، تطبيقها في وجوه البر، ومنها يسدد دين عجز عن سداده وكان قد اقترضه، وفي صدر الإسلام لم يجعل في المجتمع الإسلامي جائعا يبيت على الطوى، ولا شحاذا تذله الحاجة، حتى أنها لكثرتها كان يشكو عاملها من أنه لا يجد من ينفق عليه منها.
ولقد شكا عامل الصدقات على أفريقية إلى عمر بن عبد العزيز أنه لا يجد فقيرا عليه، فقال له: سدد الدين عن المدينين فسدد، ثم شكا ثانية.
قال: اشتر عبيدا وأعتقهم، وذلك مصرف من مصارفها، والحقيقة أنها لو جمعت من وجوهها وصرفت في مصارفها لتبين من تطبيقها أنها أعظم نظام للتكافل الاجتماعي..

٦١- ومن الناس منافقون يتعمَّدون إيذاء النبي، وتناوله بما يكره، فيتهمونه بأنه محب لسماع كل ما يقال له من صدق وكذب، وأنه يخدع بما يسمع، فقل لهم - أيها الرسول - : إن من تتناولونه في غيبته بهذه التهمة، ليس كما زعمتم، بل هو أذن خير لا يسمع إلا الصدق، ولا يخدع بالباطل، يصدق بالله ووحيه، ويصدق المؤمنين، لأن إيمانهم يمنعهم عن الكذب، وهو رحمة لكل من يؤمن منكم. وإن الله أعد لمن يؤذيه عذاباً مؤلماً دائماً شديداً.
٦٢- يتخلفون عنكم في قتال أعدائكم دون تردد، ثم يعتذرون عن تخلفهم كذباً، ويحلفون لكم لترضوا عنهم وتقبلوا معاذيرهم، والله والرسول أحق بحرصهم على رضائه إن كانوا مؤمنين حقاً.
٦٣- ألم يعلم هؤلاء المنافقون أن مَن يكفر، أو يُحاد الله ورسوله جزاؤه العذاب الدائم في نار جهنم، وذلك هو العار الفاضح، والذل الشديد.
٦٤- المنافقون يستهزئون فيما بينهم بالرسول، ويخشون أن يفتضح أمرهم، فتنزل فيهم على النبي آيات من القرآن تظهر ما يخفون في قلوبهم ويسرونه فيما بينهم، فقل لهم - أيها الرسول - استهزئوا ما شيءتم، فإن الله مظهر ما تخشون ظهوره.
٦٥- تأكد - أيها الرسول - أنك إن سألت المنافقين، بعد افتضاح أمرهم، عن سبب طعنهم في الدين واستهزائهم بالله وآياته، اعتذروا بقولهم : كنا نخوض في الحديث ونلهو، فقل لهم : كيف ساغ لكم أن تخوضوا أو تلهوا مستهزئين بالله وآياته ورسوله ؟ !
٦٦- لا تعتذروا بهذه المعاذير الباطلة، قد ظهر كفركم بعد ادعائكم الإيمان، فإن نعف عن طائفة منكم تابت وآمنت بسبب إيمانها وصدق توبتها، فإنا نعذب طائفة أخرى منكم بسبب إصرارها على الكفر والنفاق، وإجرامها في حق الرسول والمؤمنين.
٦٧- المنافقون والمنافقات يتشابهون في أنهم يفعلون القبيح ويأمرون به، ويتركون الحق وينهون عنه، ويبخلون ببذل المال في وجوه الخير، فهم كأجزاء من شيء واحد، أعرضوا عن الله فأعرض عنهم ولم يهدهم، لأنهم هم الخارجون عن طاعة الله.
٦٨- كتب الله للمنافقين وللكافرين نار جهنم يعذبون فيها ولا يخرجون منها، وهي حَسْبهم عقاباً، وعليهم مع هذا العقاب غضب الله والعذاب الدائم يوم القيامة.
٦٩- إن حالكم - أيها المنافقون - كحال أمثالكم ممن سبقوكم إلى النفاق والكفر، فإنهم وقد كانوا أقوى منكم وأكثر أموالاً وأولاداً، استمتعوا بما قُدِّر لهم من حظوظ الدنيا، وأعرضوا عن ذكر الله وتقواه، وقابلوا أنبياءهم بالاستخفاف، وسخروا منهم فيما بينهم وبين أنفسهم، وقد استمتعتم بما قُدِّر لكم من ملاذ الدنيا كما استمتعوا، وخضتم فيما خاضوا فيه من المنكر والباطل، إنهم قد بطلت أعمالهم، فلم تَنْفعهُم في الدنيا ولا في الآخرة، وكانوا هم الخاسرين، وأنتم مثلهم في سوء الحال والمآل.
٧٠- أفلا يعتبر المنافقون والكافرون بحال الذين سبقوهم، من قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وقوم شعيب وقوم لوط، جاءتهم رسل الله بالحُجج البينات من عند الله، فكذبوا وكفروا، فأخذ الله كُلاً بذنبه، وأهلكهم جميعاً، وما ظلمهم الله بهذا، ولكنهم ظلموا أنفسهم بكفرهم وتمردهم على الله واستحقاقهم العذاب - وحدهم - فهم الذين يظلمون أنفسهم.
٧١- والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أحباء ونصراء بعض بمقتضى الإيمان، يأمرون بما يأمر به دينهم الحق، وينهون عما ينكره الدين، يؤدون الصلاة في أوقاتها، ويؤتون الزكاة لمستحقيها في إبَّانها، ويمتثلون ما يأمر به اللَّه ورسوله، ويجتنبون ما ينهي عنه اللَّه ورسوله، وهؤلاء هم الذين سيظلون في رحمة اللَّه، فإن اللَّه قادر على رعايتهم بالرحمة، حكيم في عطائه.
٧٢- وقد وعدهم اللَّه الجنة خالدين في نعيمها، وأعد لهم مساكن تطيب بها نفوسهم في دار الإقامة والخلود، ولهم مع ذلك رضاء اللَّه عنهم يستشعرون به، وهو النعيم الأكبر، وذلك هو الفوز العظيم.
٧٣- يا أيها النبي، ثابر على جهادك في ردع الكفار عن كفرهم، والمنافقين عن نفاقهم، واشتد عليهم في جهادك، وإن مآلهم الذي أعدَه اللَّه لهم في الآخرة هو جهنم، وما أَسوأ هذا المصير.
٧٤- إن المنافقين يحلفون أمامك - أيها الرسول - باللَّه أنهم ما قالوا منكرا مما بلغك عنهم، وهم كاذبون في الإنكار، حانثون في اليمين، وإنهم قد قالوا كلمة الكفر، وظهر كفرهم بعد أن كان باطنا، وما كان سبب نقمتهم عليك إلا بطرا بالنعمة، بعد أن أغناهم اللَّه ورسوله بما حصلوا عليه من الغنائم التي شاركوا فيها المسلمين، فإن يرجعوا إلى اللَّه بترك النفاق والندم على ما كان منهم يقبل اللَّه توبتهم ويكون ذلك خيراً لهم، وإن يعرضوا عن الإيمان يعذبهم اللَّه في الدنيا بمختلف ألوان البلاء، وفي الآخرة بنار جهنم، وليس لهم في الأرض من يُدافع عنهم أو يشفع لهم، أو ينصرهم.
٧٥- ومن المنافقين منْ أقسم باللَّه وعاهده : لئن آتاهم اللَّه مالا وأغناهم من فضله، ليتصدقن وليكونن من الصالحين في أعمالهم.
٧٦- فلما استجاب اللَّه لهم، وأعطاهم من فضله، بخلوا بما أوتوا فلم ينفقوا، ولم يوفوا بالعهد، وانصرفوا عن الخير، وهم معرضون عنه وعن اللَّه.
٧٧- فكانت عاقبة بخلهم أن تمكن النفاق في قلوبهم إلى أن يموتوا ويلقوا اللَّه، بسبب نقضهم لعهدهم، وكذبهم في يمينهم.
٧٨- كيف يتجاهلون أن اللَّه مُطلع عليهم ؛ لا يخفي عليه ما يضمرونه في السر من نقض العهد، وما يتناجون به في الخفاء من الطعن في الدين وتدبير المكايد للمسلمين، وهو - جل شأنه - العليم الذي لا يغيب عنه شيء.
٧٩- ومن نقائص هؤلاء المنافقين مع بخلهم أنهم يعيبون على الموسرين من المؤمنين تصدقهم على المحتاجين، ويسخرون بغير الموسرين من المؤمنين لتصدقهم مع قلة أموالهم، وقد جازاهم اللَّه على سخريتهم بما كشف من فضائحهم، وجعلهم سخرية للناس أجمعين، ولهم في الآخرة عذاب شديد.
٨٠- لن ينفعهم أن تستجيب لدعاء بعضهم، وتطلب المغفرة من اللَّه لهم، فسواء أن تستغفر لهم - أيها النبي - أم لا تستغفر لهم، ومهما أكثرت من طلب المغفرة لهم، فلن يعفو اللَّه عنهم ؛ لأنه لا أمل في العفو والمغفرة مع الكفر والإصرار عليه، قد كفر هؤلاء باللَّه ورسوله، واللَّه لا يهدى الخارجين عليه وعلى رسوله، لتمردهم على شرعه ودينه.
٨١- إن المنافقين تخلفوا عن الخروج مع رسول اللَّه والمسلمين، وفرحوا بقعودهم في المدينة بعد خروج النبي منها، وبمخالفتهم أمره بالجهاد معه، وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم، ويضحوا بأرواحهم في سبيل إعلاء كلمة اللَّه ونصر دينه، وأخذوا يثبطون غيرهم، ويُغرونهم بالقعود معهم، ويخوفونهم من النفور إلى الحرب في الحر، فقل - أيها الرسول - لهؤلاء : لو كنتم تعقلون، لذكرتم أن نار جهنم أكثر حرارة وأشد قسوة مما تخافون.
٨٢- فليضحكوا فرحا بالقعود، وسخرية من المؤمنين، فإن ضحكهم زمنه قليل، لانتهائه بانتهاء حياتهم في الدنيا، وسيعقبه بكاء كثير لا نهاية له في الآخرة، جزاء لهم بسبب ما ارتكبوه من سيئات.
٨٣- فإن أعادك اللَّه من الغزو إلى طائفة من هؤلاء المنافقين الذين تخلفوا عن الغزو، فاستأذنوك في أن يخرجوا معك للجهاد في غزوة أخرى، فلا تأذن لهم، وقل لهم : لن تخرجوا معي في أية غزوة، ولن تشتركوا معي في قتال أي عدو، لأن قعودكم عن الخروج في أول مرة لم يسبق بعذر يبرره، ولم يلحق بتوبة تغفره، فاقعدوا كما ارتضيتم أن تقعدوا مع المتخلفين من العجزة والكهول والنساء والأطفال.
٨٤- وإذا مات أحد منهم، فلا تصل عليه، ولا تقف على قبرة عند دفنه، لأنهم عاشوا حياتهم كافرين باللَّه ورسوله، وماتوا وهم خارجون عن دين اللَّه.
٨٥- ولا يُثير عجبك - أيها الرسول - ما أعطيناهم من الأموال والأولاد مع سخطنا عليهم، فلم يكن ذلك عن إيثارهم بالخير، بل لتنفيذ ما أراد اللَّه من شقائهم في الدنيا بالانهماك في جمع المال، وما يلحقهم في ذلك من الهموم والمصائب، ولتنفيذ ما أراد اللَّه من مفارقتهم للدنيا كافرين، وقد خسروا الأولى والآخرة.
٨٦- وهؤلاء المنافقون إذا سمعوا شيئا مما أنزل عليك في القرآن يدعوهم إلى إخلاص الإيمان باللَّه، وإلى الجهاد مع رسول اللَّه، طلب الأغنياء والأقوياء منهم أن تأذن لهم في التخلف عن الجهاد معك، وقالوا لك : اتركنا مع المعذورين القاعدين في المدينة.
٨٧- إنهم قد رضوا لأنفسهم أن يكونوا في عداد المتخلفين من النساء والعجزة والأطفال الذين لا ينهضون لقتال، وختم اللَّه على قلوبهم بالخوف والنفاق، فهم لا يفهمون فهما حقيقيا ما في الجهاد ومتابعة الرسول فيه من عز في الدنيا ورضوان في الآخرة.
٨٨- ذلك شأن المنافقين، لكن الرسول والذين صدقوا معه باللَّه، قد بذلوا أموالهم وأرواحهم إرضاء للَّه وإعلاء لكلمته، وأولئك لهم - وحدهم - كل خير في الدنيا من العز والنصرة والعمل الصالح، وهم - وحدهم - الفائزون،
٨٩- وقد هيَّأ اللَّه لهم في الآخرة النعيم المقيم في جنات تتخللها الأنهار، وذلك هو الفوز العظيم والنجاح الكبير.
٩٠- وكما تخلف بعض المنافقين في المدينة عن الخروج للجهاد، جاء فريق من الأعراب، وهم أهل البادية، ينتحلون الأعذار ليؤذن لهم في التخلف، وبذلك قَعَدَ الذين كذبوا اللَّه ورسوله فيما يظهرونه من الإيمان، فلم يحضروا، ولم يعتذروا للَّه ورسوله، وذلك دليل كفرهم، وسينزل العذاب المؤلم على الكافرين منهم.
٩١- إن الذين يقبل عذرهم في التخلف هم الضعفاء، والمرضى، والفقراء الذين لا يجدون ما ينفقون، إذا أخلص هؤلاء للَّه ورسوله في دينهم فإنهم بذلك محسنون، ولا حرج على المحسنين، واللَّه كثير الغفران واسع الرحمة.
٩٢- وكذلك لا حرج على من جاء من المؤمنين يلتمسون أن تحملهم إلى الجهاد فقلت لهم : لا أجد ما أحملكم عليه، فانصرفوا عنك وعيونهم تفيض الدمع حزنا أن فاتهم شرف الجهاد في سبيل اللَّه لأنهم لا يجدون ما ينفقون.
٩٣- إنما اللوم والعقاب على هؤلاء الذين يستأذنوك - أيها النبي - في تخلفهم عن الجهاد، وهم واجدون المال والعتاد، قادرون على الخروج معك، لأنهم - مع قدرتهم واستطاعتهم - رضوا بأن يقعدوا مع النساء الضعيفات، والشيوخ العاجزين، والمرضى غير القادرين، ولأن قلوبهم أغلقت عن الحق، فهم لا يعلمون العاقبة الوخيمة التي تترتب على تخلفهم في الدنيا وفي الآخرة.
٩٤- سيعتذر هؤلاء المتخلفون المقصرون إليكم - أيها المؤمنون المجاهدون - إذا رجعتم من ميدان الجهاد والتقيتم بهم، فقل لهم - أيها الرسول - : لا تعتذروا فإنا لن نصدقكم، لأن اللَّه قد كشف حقيقة نفوسكم، وأوحى إلى نبيه بشيء من أكاذيبكم، وسيعلم اللَّه ورسوله ما يكون منكم بعد ذلك من عمل، ثم يكون مصيركم بعد الحياة الدنيا إلى اللَّه الذي يعلم السر والعلانية، فيخبركم بما كنتم تعملون، ويجازيكم بما تستحقون.
٩٥- سيحلفون لكم باللَّه، حينما ترجعون إليهم، أنهم صادقون في معاذيرهم، لكي يرضوكم فتغفلوا عن عملهم، فلا تحققوا لهم هذا الغرض، بل اجتنبوهم وامقتوهم، لأنهم في أشد درجات الخبث النفسي والكفر، ومصيرهم إلى جهنم، عقاباً على ما اقترفوه من ذنوب وأوزار..
٩٦- يُقْسمون لكم طمعا في رضائكم عنهم، فإن خُدِعْتم بأيمانهم ورضيتم عنهم، فإن رضاكم - وحدكم - لا ينفعهم، ذلك لأن الله ساخط عليهم لفسقهم وخروجهم على الدين.
٩٧- الأعراب من أهل البادية أشد جُحودا ونفاقا، وقد بلغوا في ذلك غاية الشدة، وذلك لبعدهم عن أصل الحكمة ومنابع العلم، وهم حقيقون بأن يجهلوا حدود اللَّه، وما أنزل على رسوله من شرائع وأحكام، واللَّه عليم بأحوال الفريقين، حكيم فيما يقدره من جزاء.
٩٨- وبعض هؤلاء المنافقين من أهل البادية، يعتبرون الإنفاق في سبيل اللَّه غرامة وخسراناً، لعدم اعتقادهم في ثوابه تعالى، ويتوقعون وينتظرون أن تدور عليكم الحرب - أيها المؤمنون - ألا رَدَّ اللَّه تلك المصائب عليهم، وجعل الشر الذي ينتظرونه لكم محيطا بهم، واللَّه سميع بأقوالهم، عليم بأفعالهم ونياتهم، وبما يقترفون من آثام.
٩٩- وليس كل الأعراب كذلك، فمنهم مؤمنون باللَّه مصدقون بيوم القيامة، يتخذون الإنفاق في سبيل اللَّه وسيلة يتقربون بها إلى اللَّه، وسببا لدعاء الرسول لهم، إذ كان يدعو للمتصدقين بالخير والبركة، وهي لا شك قربة عظيمة توصلهم إلى ما يبتغون، فإن اللَّه سيغمرهم برحمته، لأنه الغفور للذنوب، الرحيم بخلقه.
١٠٠- والمؤمنون - الذين سبقوا إلى الإسلام - من المهاجرين والأنصار، الذين ساروا على نهجهم فأحسنوا ولم يقصروا - يرضى اللَّه عنهم، فيقبل منهم ويجزيهم خيرا، وهم كذلك يرضون ويستبشرون بما أعد اللَّه لهم من جنات تجرى الأنهار تحت أشجارها، فينعمون فيها نعيما أبديا، وذلك هو الفوز العظيم.
١٠١- وممن يجاور المدينة من أهل البادية مَنْ يضمر الكفر ويُظهر الإيمان، ومن سكان المدينة قوم مرنوا على النفاق، حتى برعوا فيه، ستروه عن الناس حتى لقد خفي أمرهم عليك - أيها الرسول - ولكن اللَّه هو الذي يعلم حقيقتهم، وسيعذبهم في الدنيا مرتين : مرة بنصركم على أعدائكم الذين يغيظهم، ومرة بفضيحتهم وكشف نفاقهم، ثم يردون في الآخرة إلى عذاب النار وهولها الشديد.
١٠٢- وهناك ناس آخرون آذوكم، ثم من بعد ذلك اعترفوا بما أذنبوا، وسلكوا طريق الحق، فهؤلاء قد أتوا عملا صالحا وعملا سيئا، وإنهم لهذا يرجى لهم أن تقبل توبتهم، وإن اللَّه رحيم بعباده، يقبل توبتهم ويغفر لهم.
١٠٣- خذ - أيها الرسول - من أموال هؤلاء التائبين صدقات تطهرهم بها من الذنوب والشح، وترفع درجاتهم عند اللَّه، وادع لهم بالخير والهداية فإن دعاءك تسكن به نفوسهم، وتطمئن به قلوبهم، واللَّه سميع للدعاء، عليم بالمخلصين في توبتهم.
١٠٤- ألا فليعلم هؤلاء التائبون أن اللَّه - وحده - هو الذي يقبل التوبة الخالصة، والصدقة الطيبة، وأنه سبحانه، هو الواسع الفضل في قبول التوبة، العظيم الرحمة بعباده.
١٠٥- وقل - أيها الرسول - للناس : اعملوا، ولا تقصروا في عمل الخير وأداء الواجب ؛ فإن اللَّه يعلم كل أعمالكم، وسيراها الرسول والمؤمنون، فيزنونها بميزان الإيمان، ويشهدون بمقتضاها، ثم تردون بعد الموت إلى من يعلم سركم وجهركم، فيجازيكم بأعمالكم، بعد أن ينبئكم بها صغيرها وكبيرها.
١٠٦- وهناك ناس آخرون وقعوا في الذنوب، منها التخلف عن الجهاد، وليس فيهم نفاق، وهؤلاء مُرْجوْن لأمر اللَّه : إما أن يُعذبهم، وإما أن يتوب عليهم ويغفر لهم، واللَّه عليم بأحوالهم وما تنطوي عليه قلوبهم، حكيم فيما يفعله بعباده من ثواب أو عقاب.
١٠٧- ومن المنافقين جماعة بنوا مسجدا لا يبتغون به وجه اللَّه، وإنما يبتغون به الضرار والكفر والتفريق بين جماعة المؤمنين، وأنهم سيحلفون على أنهم ما أرادوا ببناء هذا المسجد إلا الخير والعمل الأحسن، واللَّه يشهد عليهم أنهم كاذبون في أيمانهم١.
١ المسجد المذكور في الآية قد أقامته طائفة من المنافقين بالمدينة، يريدون الشر، فقد أزعجهم بناء مسجد قباء الذي شيده بنو عمرو بن عوف وباركه النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة فيه، فحرض عامر الراهب هؤلاء المنافقين ليبنوا مسجدا يفاخرون به من بنوا مسجد قباء، فتكون العصبية الجاهلية موضوعها التفاخر بالمساجد، وليتخذوه وكرا لاجتماعهم وتبييت الشر للمؤمنين، وبعد تمام بنائه دعوا الرسول صلى الله عليه وسلم للصلاة فيه ليتخذوا من صلاته فيه مادة للعصبية والتفريق، وهم أن يجيب غير عالم بما يبيتون، لكن الله تعالى أعلمه بذلك عند عودته من غزوة تبوك واعتزامه أن يجيب دعوتهم، فنهاه ـ سبحانه وتعالى ـ عن أن يقوم فيه فضلا عن أن يصلي فيه..
١٠٨- لا تصل - أيها الرسول - في هذا المسجد أبدا، وإن مسجداً أقيم ابتغاء وجه اللَّه وطلبا لمرضاته من أول أمره كمسجد قُباء لجدير بأن تؤدى فيه شعائر اللَّه، وفي هذا المسجد رجال يحبون أن يُطهروا أجسادهم وقلوبهم بأداء العبادة الصحيحة فيه، واللَّه يحب ويثيب الذين يتقربون إليه بالطهارة الجسمية والمعنوية.
١٠٩- لا يستوي في عقيدته ولا في عمله من أقام بنيانه على الإخلاص في تقوى اللَّه وابتغاء رضائه، ومن أقام بنيانه على النفاق والكفر، فإن عمل المتقى مستقيم ثابت على أصل متين، وعمل المنافق كالبناء على حافة هاوية، فهو واه ساقط، يقع بصاحبه في نار جهنم، واللَّه لا يهدى إلى طريق الرشاد من أصر على ظلم نفسه بالكفر.
١١٠- وسيظل هذا البناء الذي بناه المنافقون مصدر اضطراب وخوف في قلوبهم لا ينتهي حتى تتقطع قلوبهم بالندم والتوبة أو بالموت، واللَّه عليم بكل شيء، حكيم في أفعاله وجزائه.
١١١- يؤكد اللَّه وعده للمؤمنين الذين يبذلون أنفسهم وأموالهم في سبيله، فإنه اشترى منهم تلك الأنفس والأموال بالجنة ثمنا لما بذلوا، فإنهم يجاهدون في سبيل اللَّه فيقتلون أعداء اللَّه أو يستشهدون في سبيله، وقد أثبت اللَّه هذا الوعد الحق في التوراة والإنجيل، كما أثبته في القرآن، وليس أحد أبر ولا أوفي بعهده من اللَّه، فافرحوا - أيها المؤمنون المجاهدون - بهذه المبايعة التي بذلتم فيها أنفسكم وأموالكم الفانية، وعُوضتم عنها بالجنة الباقية، وهذا الشراء والبيع هو الظفر الكبير لكم.
١١٢- إن أوصاف أولئك الذين باعوا أنفسهم للَّه بالجنة أنهم يكثرون التوبة من هفواتهم إلى اللَّه، ويحمدونه على كل حال، ويسعون في سبيل الخير لأنفسهم ولغيرهم، ويحافظون على صلواتهم. ويؤدونها كاملة في خشوع، ويأمرون بكل خير يوافق ما جاء به الشرع، وينهون عن كل شر يأباه الدين ويلتزمون بشريعة اللَّه، وبشر - أيها الرسول - المؤمنين.
١١٣- ليس للنبي وللمؤمنين أن يطلبوا المغفرة للمشركين، ولو كانوا أقرب الناس إليهم، من بعد أن يعلم المؤمنون من أمر هؤلاء المشركين بموتهم على الكفر، أنهم مستحقون للخلود في النار.
١١٤- لم يكن ما فعله إبراهيم - عليه السلام - من الاستغفار لأبيه، إلا تحقيقا لوعد من إبراهيم لأبيه، رجاء إيمانه، فلمَّا تبين لإبراهيم أن أباه عدو للَّه، بإصراره على الشرك حتى مات عليه، تبرأ منه وترك الاستغفار له، ولقد كان إبراهيم كثير الدعاء والتضرع للَّه صبورا على الأذى.
١١٥- وما كان من سنن اللَّه ولطفه بعباده أن يصف قوما بالضلال، ويجرى عليهم أحكامه بالذم والعقاب بعد أن أرشدهم إلى الإسلام، حتى يتبين لهم عن طريق الوحي إلى رسوله ما يجب عليهم اجتنابه، إن اللَّه محيط علمه بكل شيء.
١١٦- إن اللَّه - وحده - مالك السماوات والأرض وما فيهما، وهو المتصرف فيهما بالإحياء والإماتة، وليس لكم سوى اللَّه من ولى يتولى أمركم، ولا نصير ينصركم ويدافع عنكم.
١١٧- لقد تفضل الله - سبحانه - على نبيه، وأصحابه المؤمنين الصادقين من المهاجرين والأنصار، الذين خرجوا معه إلى الجهاد في وقت الشدة ( في غزوة تبوك )١ فثبتهم وصانهم عن التخلف، من بعد ما اشتد الضيق بفريق منهم، حتى كادت قلوبهم تميل إلى التخلف عن الجهاد، ثم غفر اللَّه لهم هذا الهم الذي خطر بنفوسهم، إنه - سبحانه - كثير الرأفة بهم، عظيم الرحمة.
١ كانت غزوة تبوك في رجب من السنة التاسعة للهجرة بين المسلمين والروم، والجيش الإسلامي الذي خرج في هذه الغزوة يسمى جيش العسرة، لأن التأهب لها كان في زمن عسرة من الناس وشدة من الحرمان، ولما وصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى تبوك جاء يوحنا وصالح الرسول على الجزية، وأقام الرسول بتبوك بضع عشرة ليلة، ثم خرج بعدها قافلا إلى المدينة وهذه آخر غزوة خرج بها الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ..
١١٨- وتفضل - سبحانه - بالعفو عن الرجال الثلاثة الذين تخلفوا عن الخروج في غزوة تبوك - لا عن نفاق منهم - وكان أمرهم مرجأ إلى أن يبين اللَّه حكمه فيهم، فلما كانت توبتهم خالصة، وندمهم شديدا ؛ حتى شعروا بأن الأرض قد ضاقت عليهم على رحبها وسعتها، وضاقت عليهم نفوسهم هما وحزنا، وعلموا أنه لا ملجأ من غضب اللَّه إلا باستغفاره والرجوع إليه، حينئذ هداهم اللَّه إلى التوبة، وعفا عنهم، ليظلوا عليها، إن اللَّه كثير القبول لتوبة التائبين، عظيم الرحمة بعباده.
١١٩- يا أيها الذين آمنوا اثبتوا على التقوى والإيمان، وكونوا مع الذين صدقوا في أقوالهم وأفعالهم.
١٢٠- ما كان يحل لأهل المدينة، ومن يجاورونهم من سكان البوادي، أن يتخلفوا عن الغزو مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، ولا أن يضنوا بأنفسهم عما بذل الرسول فيه نفسه، إذ أنهم لا يصيبهم في سبيل اللَّه ظمأ أو تعب أو جوع، ولا ينزلون مكاناً يثير وجودهم فيه غيظ الكفار، ولا ينالون من عدو غرضا كالهزيمة أو الغنيمة إلا حُسِب لهم بذلك عمل طيب يجزون عليه أحسن الجزاء، وإن اللَّه لا يضيع أجر الذين أحسنوا في أعمالهم.
١٢١- وكذلك لا يبذل المجاهدون أي مال - صغيرا أو كبيرا - ولا يسافرون أي سفر في سبيل اللَّه، إلا كتبه اللَّه لهم في صحائف أعمالهم الصالحة، لينالوا به أحسن ما يستحقه العاملون من جزاء.
١٢٢- ليس للمؤمنين أن يخرجوا جميعا إلى النبي صلى اللَّه عليه وسلم إذا لم يقتض الأمر ذلك، فليكن الأمر أن تخرج إلى الرسول طائفة ليتفقهوا في دينهم، وليدعوا قومهم بالإنذار والتبشير حينما يرجعون إليهم ليثبتوا دائما على الحق، وليحذروا الباطل والضلال١.
١ في الآية الكريمة بيان لقاعدة هامة في الكتاب، وهي ما كان للمؤمنين أن ينفروا جميعا نحو غزو أو طلب علم، كما لا يستقيم لهم أن يثبطوا جميعا، فإن ذلك يخل بأمر المعاش، ولذلك يعين من كل فرقة طائفة تطلب العلم والثفقه، وتحصل على المراد، وتعود لترشد باقي القوم..
١٢٣- يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الكفار الذين يجاورونكم، حتى لا يكونوا مصدر خطر عليكم، وكونوا أشدَّاء عليهم في القتال، ولا تأخذكم بهم رأفة، واعلموا أن اللَّه بعونه ونصره مع الذين يتقونه.
١٢٤- وإذا ما أنزلت سورة من سور القرآن، وسمعها المنافقون سخروا واستهزأوا، وقال بعضهم لبعض : أيكم زادته هذه السورة إيمانا ؟ ولقد رد اللَّه عليهم بأن هناك فرقا بين المنافقين والمؤمنين : فأما المؤمنون الذين أبصروا النور، وعرفوا الحق، فقد زادتهم آيات اللَّه إيمانا، وهم عند نزولها يفرحون ويستبشرون.
١٢٥- وأما المنافقون الذين مرضت قلوبهم وعميت بصائرهم عن الحق فقد زادتهم كفرا إلى كفرهم، وماتوا وهم كافرون.
١٢٦- أو لا يعتبر المنافقون بما يبتليهم اللَّه به في كل عام مرة أو مرات من ألوان البلاء بكشف أستارهم، وظهور أحوالهم، ونصر المؤمنين، وظهور باطلهم، ثم لا يتوبون عما هم فيه، ولا هم يذكرون ما وقع لهم ؟
١٢٧- وكذلك إذا ما أنزلت سورة، وهم في مجلس الرسول، تغامزوا، وقال بعضهم لبعض : هل يراكم أحد ؟ ثم انصرفت قلوبهم عن متابعته والإيمان به، زادهم اللَّه ضلالا بسبب تماديهم في الباطل وإعراضهم عن الحق، لأنهم قوم لا يفقهون.
١٢٨- لقد جاءكم - أيها الناس - رسول من البشر مثلكم في تكوينه، يشق عليه ما يصيبكم من الضرر، وهو حريص على هدايتكم، وبالمؤمنين عظيم العطف والرحمة.
١٢٩- فإن أعرضوا عن الإيمان بك - أيها الرسول - فلا تحزن لإعراضهم، واعتز بربك، وقل : يكفيني اللَّه الذي لا إله غيره، عليه - وحده - توكلت، وهو مالك الملك، ورب الكون، وصاحب السلطان العظيم.
Icon