تفسير سورة التوبة

التفسير الحديث
تفسير سورة سورة التوبة من كتاب التفسير الحديث .
لمؤلفه دروزة . المتوفي سنة 1404 هـ
سورة التوبة :
في هذه السورة فصول عديدة ومتنوعة إلا أنها يجمعها طابع عام واحد هو الحث على الجهاد والحملة على المنافقين والكافرين والمشركين. والثناء على المؤمنين المخلصين.
وتنطوي فصولها على :
( ١ ) التبرؤ من المشركين الناقضين للعهد والحث على قتالهم إلى أن يتوبوا ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، مع احترام عهد المعاهدين الأوفياء لعهودهم.
( ٢ ) والتنبيه على أن المشركين نجس لا يجوز أن يدخلوا منطقة البيت الحرام بعد أن صار في حوزة الإسلام، ولا أن يتولوا مسجدا ويعمروه أو يعمروا المسجد الحرام، وليس لهم في ذلك حق وميزة.
( ٣ ) وحظر تولي الآباء والأقارب الكفار ومناصرتهم والتحالف معهم وإيجاب إيثار الله ورسوله والجهاد في سبيله عليهم وعلى جميع أعراض الدنيا إذا تعارض هذا مع ذاك.
( ٤ ) وحث على قتال أهل الكتاب الذين لا يؤمنون بالله ورسوله ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق حتى يعطوا الجزية ويخضعوا لسلطان الإسلام فيكون لهم ذلك مانعا.
( ٥ ) وإقرار حرمة الأشهر الحرم الأربعة بأعيانها وتحريم النسيء والتلاعب في أوقاتها بسبيل التقديم والتأخير فيها، وإخراج بعضها من الحرمة وجعل غيرها بديلا عنها.
( ٦ ) وحث واستنفار إلى غزوة أجمعت الروايات على أنها غزوة تبوك وتنديد بالمتثاقلين والمتخلفين عنها بأعذار كاذبة ووصمهم بالنفاق.
( ٧ ) وصور من مواقف المنافقين وأقوالهم ومكائدهم وسخريتهم وتثبيطهم وإخلافهم لوعودهم وعهودهم وتنديد باعتذاراتهم وأيمانهم الكاذبة وإنذارات قارعة لهم وإيجاب الوقوف منهم موقف الشدة والحزم.
( ٨ ) وبيان لطبيعة الأعراب وشدة كفر الكافرين ونفاق المنافقين منهم بسببها مع التنويه بطبقة أخلصت في إيمانها وإسلامها وأعمالها منهم.
( ٩ ) وتصنيف المنتسبين إلى الإسلام إلى مخلصين سابقين وتابعيهم بإحسان، ومنافقين متسترين، وخالطي عمل صالح بعمل سيء، وأناس غير معروفة حقيقتهم على اليقين موكولين إلى الله، ومنافقين مجاهرين بالضرر والفساد.
( ١٠ ) وحظر الاستغفار للمشركين والصلاة عليهم.
( ١١ ) ومشاهد عن إخلاص بعض فقراء المسلمين إزاء الدعوة إلى الجهاد وشدة ندم بعض المخلصين المتخلفين وتوبة الله عليهم.
( ١٢ ) ومشاهد عن مواقف المنافقين عند نزول القرآن.
( ١٣ ) وتشريع في صدد التناوب في الجهاد.
( ١٤ ) وختام وصفي رائع لأخلاق النبي صلى الله عليه وآله وسلم وشدة حرصه على المسلمين ورأفته ورحمته بهم.
وأكثر فصول السورة معقودة على غزوة تبوك وظروفها وأحداثها. وهناك رواية غريبة تذكر أنها نزلت دفعة واحدة ( ١ )١. في حين أن مضامين فصولها تلهم بكل قوة أن منها ما نزل قبل غزوة تبوك بمدة ما. ومنها ما نزل أثناء هذه الغزوة، ومنها ما نزل بعد العودة من هذه الغزوة ؛ حيث يسوغ القول : إن الرواية المذكورة غير معقولة وغير صحيحة، وإن فصول السورة قد رتبت في وقت متأخر من عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن تم نزول الفصول التي اقتضت حكمة الله ورسوله أن تحتويها. والمصحف الذي اعتمدناه يروي أن آيتيها الأخيرتين مكيتان. وهذه الرواية مروية في تفسير المنار وفي الإتقان للسيوطي ( ١ )٢عن ابن الفرس. وصاحب تفسير المنار يسوغ الرواية ويقول : إن معنى الآيتين لا يظهر إلا في دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الإسلام في مكة في أول زمن البعثة، وهناك رواية أوردها ابن كثير تفيد أن الآيتين كانتا منسيتين فألحقتا بآخر السورة ارتجالا. وكانت هذه الرواية مما قوى تسويغ صاحب المنار. هذا في حين أن هناك روايات تذكر أن الآيتين هما آخر القرآن نزولا. وقد رجحنا أنهما جاءتا معقبتين على الآيات السابقة لهما استلهاما من فحواهما. وسنزيد الأمر بيانا في سياق تفسير الآيات.
والمتواتر اليقيني أن مصحف عثمان هو أصل المصاحف لم يفصل بين سورتي الأنفال وهذه السورة بالبسملة أسوة بسائر السور. وقد روى الترمذي ( ٢ )٣ حديثا عن ابن عباس جاء فيه :( قلت لعثمان رضي الله عنه : ما حملكم أن عمدتم إلى الأنفال وهي في المثاني وإلى براءة وهي من المئين ( ٣ )٤ فقرنتم بينهما، ولم تكتبوا بينهما بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتموها في السبع الطوال. فقال عثمان : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يأتي عليه الزمان وهو تنزل عليه السور ذوات العدد، فكان إذا نزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب فيقول : ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا، وكانت الأنفال من أوائل ما أنزل بالمدينة، وكانت براءة من آخر القرآن، وكانت قصتها شبيهة بقصتها ( ٤ )٥ فظننت أنها منها فقبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يبين لنا أنها منها ؛ فلذلك قرنت بينهما ولم أكتب بينهما بسم الله الرحمن الرحيم فوضعتها في السبعة الطوال ). وهناك روايات أخرى في صدد ذلك. منها رواية عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه جوابا على سؤال سأله ابنه محمد مفادها : أن هذه السورة نزلت بالسيف، وأن البسملة أمان. ورواية عن أبي بن كعب أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يأمر في كل سورة بكتابة بسم الله الرحمن الرحيم، ولم يأمر بذلك في سورة التوبة وكانت نزلت في آخر القرآن فضمت إلى الأنفال لشبهها بها. ورواية – جاءت بصيغة قيل – تذكر أن الصحابة اختلفوا فيما إذا كانت سورتا الأنفال وبراءة واحدة أم سورتين ؟ ولم يتغلب رأي فتركوا بينهما فرجة تنبيها على قول من يقول : إنهما سورتان. ولم يكتبوا البسملة تنبيها على قول من يقول : إنهما سورة واحدة. وهناك رواية تذكر أن السورتين كانتا تسميان القرينتين لهذا السبب ( ١ )٦.
وباستثناء حديث الترمذي عن ابن عباس ليس شيء من هذه الروايات واردا في الصحاح. والمتبادر أن رواية عدم وضع البسملة بسبب كونها نزلت في القتال غير سائغة ؛ لأن هناك سورا أخرى احتوت الأمر بالقتال. وتبقى الروايات الأخرى وهي محتملة. وقد يكون فيها إزالة لإشكال ورود سورة الأنفال التي تقل آياتها عن المائة بين السور الطوال في حين أن ترتيب سور القرآن سار على وضع الأطول فالأطول إجمالا. ولم يؤثر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر بوضع البسملة بينهما. وآياتهما معا تجعل سلكهما في سلك السور الطوال سائغا.
وهذه الروايات مع حديث ابن عباس الذي رواه الترمذي تفيدنا مسألتين مهمتين في صدد تأليف وترتيب سور القرآن والمصحف والآيات، الأولى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يأمر بأن تكون كل سورة في قراطيس لحدتها مفتوحة للزيادة عليها. وكان وضع الآيات في السور بأمره. والثانية أن ترتيب السور واحدة وراء أخرى كما جاء في المصحف هو بأمره. ونرجح أن المسألة الأولى كانت بنوع خاص بالنسبة للسور المدنية. وأن السور المكية كان قد تم ترتيبها إما في مكة وإما بعد الهجرة بقليل. وكل ما هنالك أن بعض آيات مدنية أضيفت إلى بعض هذه السور مثل الآية الأخيرة من كل من سورتي المزمل والشعراء والآيات ( ١٦٣ – ١٧٠ ) من سورة الأعراف للتناسب الموضوعي. ومن المحتمل كثيرا أن تكون هذه الآيات نزلت في أوائل الهجرة. والله أعلم.
والمصحف الذي اعتمدناه يروي ترتيب هذه السورة قبل سورة النصر التي يجعلها آخر السور المدنية نزولا. وبعض روايات الترتيب يجعلها بعد سورة النصر. وبعضها يجعلها ثانية عشرة سورة مدنية نزولا وبعضها سادسة عشرة بل وبعضها سادسة ( ١ )٧، ومضامينها تلهم أن الروايات الثلاث الأخيرة لا يمكن أن تكون صحيحة. وقد أخذنا برواية المصحف الذي اعتمدناه لأن فحوى وروح سورة النصر يسوغان صحة رواية هذا المصحف بكونها آخر السور المدنية نزولا كما أن هناك أحاديث تؤيد ذلك على ما سوف نورده في سياقها.
وللسورة أسماء عديدة. المشهور منها اثنان وهما ( التوبة ) و( براءة ). وهما مقتبسان من ألفاظ فيها كما هو شأن معظم السور. والباقي أطلق عليها بسبب ما فيها من دلالات فهي الفاضحة لأنها فضحت المنافقين، وهي المبعثرة ؛ لأنها بعثرة أسرارهم، وهي المقشقشة ؛ لأنها تقشقش أن تبرئ المسلمين من الكفر والنفاق، وهي المدمدمة أي المهلكة، وهي الحافرة ؛ لأنها حفرت قلوب المنافقين وكشفت ما يسترونه، وهي المثيرة لأنها أثارت مخازيهم، وهي العذاب ؛ لأنها نزلت بعذاب الكفار. وهذه الأسماء التي بلغت العشيرة معزوة إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتابعيهم ( ٢ )٨.
١ انظر تفسير الزمخشري والطبرسي والمنار..
٢ الإتقان ص ١٦..
٣ التاج ج ٤ ص ١١٢، ١١٣..
٤ يسمى ما قلت آياته عن المائة من السور ولم تكن من القصار بالمثاني، وما زادت آياته على المائة بالمئين..
٥ أي فصول مثلها من جهاد وعهد..
٦ انظر تفسير البغوي والزمخشري والطبرسي والخازن والنسفي وابن كثير والنيسابوري ومن الغريب أن الطبري لم يتعرض لهذا البحث ورواياته!.
٧ انظر روايات ترتيب نزول السور في كتابتنا سيرة الرسول. ج ٢ ص ٩..
٨ انظر كتب التفسير السابقة. وأجمعها للأسماء تفسير الطبرسي..
﴿ بَرَاءةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ( ١ ) فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَأَنَّ اللّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ ( ٢ ) ﴾ ( ١ – ٢ ).
تعليق على الآيتين الأوليين من السورة ومتناولهما
عبارة الآيتين واضحة. والخطاب في الآية الأولى موجه إلى المسلمين يخبرون به بأن الله ورسوله يعلنان براءتهما من الذين عاهدوهم من المشركين وتنصلهما من عهدهم. وفي الثانية موجه إلى المشركين يؤذون به بأن لهم أن يسيحوا في الأرض أربعة أشهر بأمان. مع إنذارهم بأنهم غير معجزين لله وغير فالتين منه، وأنه مخزي الكافرين في أي حال.
وتوجيه الخطاب في الآية الأولى إلى المسلمين قد يبدو غريبا لأول وهلة ؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي كان يعقد العهود مع غير المسلمين. والمتبادر أن حكمة التنزيل لما اقتضت أن يقرن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع الله عز وجل في إعلان البراءة والتنصل من هذه العهود جاءت العبارة القرآنية على النحو الذي جاءت عليه ؛ لأن العهود وإن كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي يعقدها فإنها كانت أيضا بين المسلمين والمشركين.
ولقد قال الطبري : إن أهل التأويل – وقد ذكر في سياق كلامه ابن عباس والضحاك وقتادة والسدي ومحمد بن كعب القرظي – اختلفوا في من برئ الله ورسوله إليه من العهد فقال بعضهم : هم صنفان. أحدهما : كانت مدة عهده أقل من أربعة أشهر فأمهل أربعة أشهر ؛ لأن الآيات نزلت في شوال الذي يعقبه الأشهر الحرم الثلاثة ذو القعدة وذو الحجة والمحرم. وثانيهما : كانت مدته أكثر من أربعة أشهر فقصرت على أربعة أشهر ليرتاء لنفسه ويعلم أنه على حرب إن لم يسلم. وقال بعضهم : إن الآيات براءة من العهود مع المشركين عامة ؛ لأن الله تعالى علم سرائرهم وأنهم كانوا يخفون غير ما يظهرون من نية الغدر والعداء.
وهذه الأقوال تتعارض كما هو المتبادر مع استثنائين وردا في آيتين تردان بعد قليل. أولهما : لمن عاهدهم المسلمون ووفوا بعهودهم. وقد أمر المسلمون بإتمام عهدهم إلى مدتهم التي كانت على الأرجح أكثر من أربعة أشهر ؛ لأن حكمة الأمر إنما تكون في ذلك. وثانيهما لمن عاهدهم المسلمون عند المسجد الحرام واستقاموا على عهدهم. وقد أمر المسلمون بالاستقامة لهم ما استقاموا لهم دون تحديد وتوقيت. وهذا فضلا عن تعارضها مع تكرر إيجاب الوفاء بالعهود والعقود على المسلمين في سور عديدة مكية ومدنية.
ولقد لاحظ الطبري هذا. وعقب على الأقوال التي رواها قائلا : إن أولى الأقوال بالصواب أن الأجل الذي جعله الله لأهل العهد من المشركين إنما هو لأهل العهد الذين ظاهروا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونقضوا عهدهم قبل انقضاء مدته دون الذين لم ينقضوا ؛ لأن الله أمر بإتمام العهد معهم وبالاستقامة لهم ما استقاموا عليه.
وفي تفسير البغوي رواية عن ابن إسحاق ومجاهد تذكر أن الآيات نزلت قبل تبوك، وأنها نزلت في أهل مكة. وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عاهد قريشا عام الحديبية على وضع الحرب عشر سنين ودخلت خزاعة في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبنو بكر في عهد قريش، ثم عدا بنو بكر على خزاعة فنالوا منها، وأعانتهم قريش بالسلاح وحينئذ خرج عمرو بن سالم الخزاعي إلى المدينة، وناشد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم النصر فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا نصرت إن أنصركم وتجهز إلى مكة.
والرواية تقتضي أن تكون الآيات قد نزلت قبل فتح مكة، في حين أن الآية التالية لها المنسجمة معها كل الانسجام تدل على أن الآيات نزلت بعد فتح مكة.
ولقد روى المفسر إلى روايته المذكورة رواية أخرى. جاء فيها :( إن المفسرين – ويقصد أهل التفسير والتأويل في الصدر الأول – قالوا : إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما خرج إلى تبوك أرجف المنافقون وأخذ المشركون ينقضون عهودهم فأنزل الله الآيات بالنسبة لهؤلاء مع إمهالهم أربعة أشهر إن كانت مدة عهدهم أقل أو قصرها على أربعة أشهر كانت أكثر ). وهذا متساوق مع ما ذهب إليه الطبري وصوبه، وهو أن الآيات نزلت في شأن الذين بدرت منهم بوادر نقض من المشركين. والرواية تفيد أن ذلك كان بعد فتح مكة ؛ لأن سفرة تبوك كانت بعد الفتح. وهو الحق والصواب اللذان يزول بهما وهم التعارض والتناقض.
وليس في كتب التفسير الأخرى شيء مهم آخر في صورة الآيتين. فاكتفينا بما أورده الطبري والبغوي ؛ لأنهما من أقدم من وصل إلينا كتبهم ومعظم من أتى بعدهم من المفسرين نقلوا عنهم.
﴿ وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ( ٣ ) ﴾ ( ٣ ).
تعليق على الآية
﴿ وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ....................... ﴾ الخ
وما روي في صدد إعلانها مع غيرها
يوم الحج الأكبر من روايات وتمحيصها
في الآية أمر بأن يعلن للناس يوم الحج الأكبر أن الله تعالى ورسوله بريئان من المشركين، وبأن ينذر المشركون بأنهم إذا تابوا فهو خير لهم. وإن أعرضوا وتصامموا فليعلموا أنهم غير معجزين لله تعالى. وأمر بتبشير الكافرين عامة بعذاب الله الأليم.
والآية معطوفة على الآيتين السابقتين بحيث يصح القول : إن المشركين فيها هم الذين ذكروا في الآيتين السابقتين. وتكرار جملة :﴿ غير معجزي الله ﴾ قرينة على ذلك.
وفي الآية دلالة قاطعة على أنها نزلت بعد فتح مكة. وفي هذا تأييد لما ذكره البغوي ؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد زحف إلى تبوك بعد هذا الفتح بمدة غير طويلة.
والمستلهم من جملة :﴿ فإن تبتم ﴾ أن إمهال المشركين الناقضين أربعة أشهر يسيحون في الأرض بأمان هو في الوقت نفسه مهلة لهم للتروي لعل ذلك يؤدي بهم إلى التوبة عن كفرهم وشركهم. وفي هذا ما فيه من تلقين مستمر المدى.
ولقد رويت روايات عديدة في صدد إعلان هذه الآية وما قبلها وآيات عديدة أخرى بعدها أو إعلان أحكامها يوم الحج الأكبر ( ١ )١.
منها أن التبليغ والإعلان كان لعشر آيات من در براءة، ومنها أنه كان لثلاثين، ومنها أنه كان لأربعين. ومنها أنه حينما نزلت الآيات العشر أو الثلاثون أو الأربعون الأولى من السورة أرسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم من ينادي في الناس بأربع مسائل وهي أن لا يطوف بالبيت عريان. وأن لا يحج مشرك، وأنه لا يدخل الجنة إلا النفس المؤمنة، وأن كل عهد مؤجل إلى مدته وفي رواية إلى أربعة أشهر.
وفي الآيات الثلاثين أو الأربعين الأولى مواضيع متنوعة أخرى غير أمر المشركين وإعلانهم. وليس في الآيات العشر الأولى أمر حظر المسجد الحرام على المشركين. وإنما جاء هذا في الآية ( ٢٨ ) من السورة وهي :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا ﴾ ( ١ )٢، ثم إن الآيات بعد هذه الآية هي في موضوع قتال أهل الكتاب ثم في موضوع النسيء وتحريمه والاستنفار إلى غزوة تبوك. ولو كانت نزلت حين إرسال النداء لكان من المعقول أن ينادي على الأقل بتحريم النسيء. وهو ما لم يقع. وهذا كله يسوغ التوقف في كون النبي صلى الله عليه وآله وسلم أرسل الآيات الثلاثين أو الأربعين للتبليغ. وكل ما يمكن أن يكون أنه أرسل يبلغ بعض ما جاء في الآيات بعد نزول الشطر الذي فيه حظر المسجد الحرام على المشركين. والله أعلم.
ومن الروايات ما هو في صدد الذي قام بالتبليغ الرباني والنبوي. وهذه متعددة ومتضاربة أيضا. فمما رواه الطبري منه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يحب أن يحج في السنة التالية لفتح مكة أي في السنة التاسعة ؛ لأنه يحضر البيت مشركون ويطوفون عراة فأرسل أبا بكر ليحج بالناس وأن صدر براءة نزل بعد سفره، فأرسله مع علي بن أبي طالب وأمره أن ينادي بالناس بالمسائل الأربع. ومنها أن أبا بكر لما رأى عليا مقبل ليبلغ عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجع فقال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم : هل نزل في شيء ؟ قال : لا. ولكنني أمرت أن أبلغها أنا أو رجل من أهل بيتي. ومنها أن الآيات لما نزلت قيل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم : لو بعثت بها إلى أبي بكر فقال : لا يؤدي عني إلا رجل من أهل بيتي، وروي في سياق ذلك أن أبا بكر سأل عليا لما أقبل عليه أأميرا أم مأمورا ؟ فقال له : بل مأمور فأقام أبو بكر للناس الحج، وقام علي فأذن في الناس بالمسائل الأربع. ومنها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أرسلها مع أبي بكر حينما أمره على الحج، ثم أتبعه بعلي فأخذها منه في الطريق فرجع إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقال له : بأبي أنت وأمي أأنزل في شأني شيء ؟ قال : لا. ولكن لا يبلغ عني غيري إلا رجل مني. وفي رواية إلا أنا أو علي. وسأله ألا ترضى يا أبا بكر أنك كنت معي في الغار، وأنك صاحبي على الحوض. قال : بلى يا رسول الله. ومنها أن أبا بكر لما قضى يوم عرفة وخطب في الناس قال لعلي : قم فأد رسالة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ومنها عن أبي هريرة أنه كان مع علي حين بعثه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ينادي في الناس فكان إذا صحل صوته – أي صوت علي – ناد هو. وقد روى البخاري حديثا عن أبي هريرة جاء فيه :( بعثني أبو بكر في الحجة التي أمره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليها قبل حجة الوداع في رهط يؤذنون في الناس بمنى : ألا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان. ثم أردف النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعلي يؤذن ببراءة، فأذن معنا في أهل منى يوم النحر ببراءة ) ( ١ )٣. وروى الترمذي حديثا عن أبي هريرة جاء فيه :( بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم أبا بكر، وأمره أن ينادي بهؤلاء الكلمات، ثم أتبعه عليا فبينا أبو بكر في الطريق سمع رغاء ناقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم القصواء، فخرج فزعا فظن أنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإذا هو علي، فدفع كتاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأمر عليا أن ينادي بهؤلاء الكلمات، فانطلقا فحجا فقام علي أيام التشريق فنادى :( ذمة الله ورسوله بريئة من كل مشرك، فسيحوا في الأرض أربعة أشهر، ولا يحجن بعد العام مشرك، ولا يطوفن بالبيت عريان. ولا يدخل الجنة إلا مؤمن. وكان علي ينادي فإذا عيي قام أبو بكر فنادى بها ) ( ٢ )٤. وروى الترمذي حديثا آخر جاء فيه :( سئل علي بأي شيء بعثت في الحجة. قال : بعثت بأربع : أن لا يطوف بالبيت عريان، ومن كان بينه وبين النبي عهد فهو إلى مدته. ومن لم يكن له عهد فأجله أربعة أشهر، ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، ولا يجتمع المسلمون والمشركون بعد عامهم هذا ) ( ٣ )٥. وروى ابن سعد الحديث الذي رواه البخاري بدون جملة :( ثم أردف النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعلي الخ ) ( ١ )٦. وروى ابن كثير حديثا عن علي أخرجه الإمام أحمد جاء فيه :( لما نزلت عشر آيات من براءة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، دعا أبا بكر فبعثه بها ليقرأها على أهل مكة، ثم دعاني فقال : أدرك أبا بكر فحيثما لحقته فخذ الكتاب منه فاذهب إلى أهل مكة فاقرأه عليه، فلحقته بالجحفة فأخذت الكتاب منه ورجع أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : يا رسول الله نزل في شيء. فقال : لا. ولكن جبريل جاءني فقال : لن يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك ) وروى حديثا آخر عن علي أيضا :( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين بعثه ببراءة قال : يا نبي الله إني لست باللسن ولا بالخطيب قال : لا بد لي من أن أذهب بها أنا أو تذهب بها أنت قال : فإن كان ولا بد فسأذهب أنا قال : انطلق فإن الله يثبت لسانك ويهدي قلبك، ثم وضع يده على فيه ).
ونحن نخشى بل نرجح أن يكون الهوى الشيعي قد لعب دورا في بعض هذه الروايات، وبخاصة في الروايات التي فيها :( لا يبلغ إلا أنا أو رجل من أهل بيتي أو إلا أنا أو علي أو إلا رجل مني ) والتي فيها :( جاءني جبريل............... الخ } ثم الرواية التي تذكر :( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن أعطى الآيات لأبي بكر أو كلفه بالمهمة أرسل عليا فأخذها منه في الطريق ). ولا سيما أن الشيعة يعلقون أهمية عظمى على هذه الروايات، وقد استخرجوا منها اختصاص النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليا بما هو من خصائصه النبوية وعدوها دليلا على أنه والنبي صلى الله عليه وآله وسلم شيء واحد، وأنه وريثه في هذه الخصائص ( ٢ )٧.
ومن المحتمل أن يكون أهل السنة رأوا في إناطة إمارة الحج بأبي بكر دليلا على خلافته للنبي صلى الله عليه وآله وسلم من بعده، فأراد الشيعة أن يهونوا من هذا الدليل أو يبطلوه. ولعل بعض أهل السنة لعبوا دورا في بعض الروايات بالمقابلة في رواية كون علي قال لأبي بكر : إنه جاء مأمورا ولم يجئ أميرا...
فليس يعقل قط أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن يرسل الآيات مع أبي بكر أو يكلفه بإعلان المسائل يبعث عليا ليأخذها منه، وليس يعقل قط أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول : لا يبلغ عني إلا رجل مني أو إلا من أهل بيتي في أمر لا صلة له بالاعتبارات الأسروية، وإنما هو متصل بمهمته العظمى التي اختصه الله تعالى بها لخصائصه الذاتية التي عبرت عنها جملة :﴿ الله أعلم حيث يجعل رسالته ﴾ ( الأنعام : ١٢٤ ) وجملة :﴿ وإنك لعلى خلق عظيم ﴾ ( القلم : ٤ ). ولقد كان من المعقول أكثر لو فكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمثل هذه الاعتبارات – وحاشاه ذلك – أن يرسل علي أميرا على الحج دون أبي بكر. وحديث البخاري عن أبي بكر الذي يعتبر أصح الأحاديث والروايات الواردة في هذا الصدد صريحة بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كلف أبا بكر ببعض المسائل الواردة في الآيات، ثم أرسل عليا بمسألة أخرى رأى وجوب إعلانها أيضا. وأن الإعلان كان بإشراف أبي بكر وأمره، وأن عليا شارك أو ساعده فيه. وهذا هو الذي يعقل أن يكون وقع دون الحواشي والزوائد الواردة في الروايات الأخرى. والله تعالى أعلم.
ولقد تعددت الأحاديث والأقوال التي يرويها المفسرون عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبعض أصحابه وتابعيهم في المقصود ب :﴿ يوم الحج الأكبر ﴾. وبعض الأحاديث والأقوال تروى متناقضة عن نفس الأشخاص. فقد روي عن قيس بن مخرمة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خطب يوم عرفة فقال :( هذا يوم الحج الأكبر )، وروي عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقف يوم النحر عند الجمرات في حجة الوداع فقال : هذا يوم الحج الأكبر ). وروى بعضهم عن علي أنه يوم عرفة. كما روى بعضهم عنه أنه يوم النحر. وروي عن عمر وابن الزبير أنه يوم عرفة. وعن عبد الله بن قيس والمغيرة بن شعبة وأبي هريرة أنه يوم النحر. وإلى هذه الأقوال روي عن مجاهد أن قرن الحج مع العمرة هو الحج الأكبر تمييزا له عن الإفراد بين العمرة والحج الذي يسمى الحج الأصغر. وروي عنه في الوقت نفسه أن جميع أيام منى أو أيام الحج كلها هي يوم الحج الأكبر تمييزا لها عن العمرة لحدوثها في غير موسم الحج التي كانت تسمى الحج الأصغر. وهناك قول غريب عن الحارث بن نوفل أنه يوم حج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حجة الوداع ؛ حيث اجتمع في ذلك اليوم حج المسلمين وحج اليهود وحج النصارى، ولم يحدث هذا قبل ذلك ولا بعده.
والنصوص السابقة لم ترد في أي من الكتب الخمسة. وقد ورد في جامع الترمذي وهو من هذه الكتب حديث روي عن علي قال :( سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن يوم الحج الأكبر فقال : يوم النحر ) ( ١ )٨. وقد ص
١ انظر الطبري والنسفي والنيسابوري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي..
٢ أي بعد السنة التاسعة الهجرية التي أعلن فيها ذلك على ما هو المتفق عليه..
٣ التاج ج ٤ ص ١١٤ – ١١٥..
٤ المصدر نفسه..
٥ المصدر نفسه..
٦ ابن سعد ج ٣ ص ٢٢٢..
٧ في تفسير رشيد رضا فصل طويل في مزاعم الشيعة وما يعلقونه على هذا الأمر من أهمية. سواء في اختصاص النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليا بالتبليغ عنه أم في عدم تفويض ذلك لأبي بكر كما يؤيد ما قلناه من أن الهوى الشيعي الحزبي لعب دورا في بعض هذه الروايات..
٨ التاج ج ٤ ص ١١٤..
﴿ إلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ( ٤ ) فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ٥ ) ﴾ ( ٤ – ٥ ).
تعليق على الآية :
﴿ لاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ......... ﴾
والآية التالية لها. وتمحيص مدى ما ورد في شأن قتال المشركين
في هذه الآية إلى أن يتوبوا ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة
عبارة الآيتين واضحة أيضا. وفي أولاهما استثناء وجه الخطاب فيه إلى المسلمين بالنسبة للذين عاهدوهم ووفوا بعهدهم فلم ينقضوا ولم ينقصوهم شيئا ولم يظاهروا ويناصروا أحدا عليهم ؛ حيث يؤمرون بإتمام عهدهم إلى نهاية المدة المتفق عليها بينهم. فهذا هو من التقوى والله يحب المتقين. وفي ثانيهما وجه الخطاب إلى المسلمين يؤمرون فيه بقتال المشركين بعد انقضاء الأشهر الحرم ؛ حيث وجدوهم ومطاردتهم والترصد لهم في كل مكان. وبالكف عنهم إذا تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة. فإن الله غفور رحيم لعباده التائبين.
والآيتان كما هو ظاهر استمرار في السياق السابق وجزء منه. وقد روى الطبري عن قتادة أن المقصود من الاستثناء هم مشركو قريش الذين عاهدهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحديبية. وهذا غريب لأن صلح الحديبية قد انتقض في السنة الثامنة، وأدى ذلك إلى زحف النبي صلى الله عليه وآله وسلم على مكة وفتحها ودخول قريش في دين الله. في حين أن الآيات نزلت بعد فتح مكة على ما تدل عليه الآية ( ٣ ) بصراحة. وقد روى البغوي أنهم حي من كنانة يقال له بنو ضمرة لم ينقضوا العهد وكان بقي من مدتهم تسعة أشهر. وخبر موادعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لبني ضمرة من كنانة قد ذكره ابن سعد ولم يذكر أنه كان موقوتا ( ١ )١. وعلى كل حال فإن فحوى الآية الأولى التي فيها الاستثناء يدل على أنها في حق الذين بينهم وبين المسلمين عهد موقوت ولم يبد منهم نقض له بشكل ما، وقد يكون هناك من كان كذلك فعلا. وفي الاستثناء حكم مستمر المدى كما هو المتبادر.
والآية الأولى هذه تؤيد الرواية التي أوردناها قبلا بكون النداء يوم الحج الأكبر الذي نادى به أبو بكر وعلي هو :( من كان له عهد فلأجله ) وكون الإذن والإمهال أربعة أشهر هما بالنسبة لمن كان أجله أقل من أربعة أشهر دون الرواية الأخرى التي تقول : إن النداء كان :( من كانت مدته أقل من أربعة أشهر فله مهلة أربعة أشهر، ومن كانت مدته أكثر فتقصر على أربعة أشهر ).
وروح هذه الآية بل فحواها يؤيد كذلك الرواية التي رواها البغوي والقول الذي قاله الطبري بأن المشركين المعاهدين الذين أعلنت براءة الله ورسوله منهم في الآية الأولى من السورة هم الناقضون لعهدهم. وهذا يستتبع القول : إن الذين أمر المسلمون بقتالهم في الآية الثانية من الآيتين اللتين نحن في صدد تفسيرهما عقب انقضاء الأشهر الحرم التي في نهايتها تنتهي مدة الأشهر الأربعة – لأن الآيات نزلت في شوال كما ذكرنا – هم هؤلاء الناقضون لأنهم موضوع السياق.
وفي الآيتين وما قبلهما صور من السيرة النبوية في أواخر العهد المدني ؛ حيث ينطوي فيهما أنه كان بين المسلمين والمشركين عهود سلم بعد الفتح المكي ربما كانت ممتدة إلى ما قبله، وأن من المشركين من ظلوا أوفياء لعهودهم، ومنهم من نقض أو ظهرت منه علائم النقض والغدر.
ولقد نبهنا قبل على أن أهل التأويل والمفسرين يسمون الآية الثانية من الآيتين اللتين نحن في صددهما آية السيف ويعتبرونها ناسخة لكل آية فيها أمر بالتسامح والتساهل مع المشركين وإمهالهم والإغضاء والصفح والإعراض عنهم، وتوجب قتالهم إطلاقا. وبعضهم يستثني المعاهدين منهم إلى مدتهم، وبعضهم لا يستثنيهم ولا يجوز قبول غير الإسلام منهم بعد نزولها. ونبهنا على ما في ذلك من غلو ومناقضة للتقريرات القرآنية المتضمنة لأحكام محكمة بعدم قتال غير الأعداء وترك المسلمين والموادين وبرهم والإقساط إليهم. ولقد كرر المفسرون أقوالهم ورواياتهم عن قدماء أهل التأويل في مناسبة هذه الآية، فروى ابن كثير عن ابن عباس أن الآية أمرت النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن يضع السيف في من عاهدهم حتى يدخلوا في الإسلام، وأن ينقض ما كان سمى لهم من عهد وميثاق، وأنها لم تبق لأحد من المشركين عهدا ولا ذمة، وقد روى المفسر نفسه قولا عن سفيان بن عيينة جمع فيه بين هذه الآية وآيات أخرى من هذه السورة وغيرها ليست في صدد قتال المشركين سماها الأسياف وقال : إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعث علي بن أبي طالب بها حين بعثه يؤذن في الناس يوم الحج الأكبر منها هذه الآية وسماها سيفا في المشركين من العرب. ومنها آية التوبة هذه :﴿ قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ( ٢٩ ) ﴾ وسماها سيفا في قتال أهل الكتاب. ومنها هذه الآية من سورة التوبة أيضا :﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ( ٧٣ ) ﴾ وسماها سيفا في قتال المنافقين. ومنها هذه الآية في سورة الحجرات :﴿ وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله ﴾ ( ٩ ) وسماها سيفا في قتال أهل البغي. ومن العجيب أن الطبري ذهب إلى أن هذه الآية تشمل المعاهدين حين انتهاء مدتهم، أو إذا نقضوا العهد ومن لا عهد لهم إطلاقا دون تفريق مع أنه قرر في سياق آية الممتحنة هذه :﴿ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ( ٨ ) ﴾ أنها محكمة وأن الله لا ينهى المسلمين عن البر والإقساط لمن يقف منهم موقف المسالمة والمحاسنة والحياد من أية ملة كانوا. وهؤلاء قد لا يكونون معاهدين !.
كل هذا والآية كما هو واضح من فحواها وسياقها هي في صدد قتال المشركين المعاهدين الناقضين لعهدهم وحسب. بحيث يسوغ القول : إن اعتبارها آية سيف وجعلها شاملة لكل مشرك إطلاقا تحميل لها بما لا يتحمله هذا السياق والفحوى. وكذلك الأمر في اعتبارها ناسخة للتقريرات القرآنية المنطوية في آيات عديدة والتي عليها طابع المبدأ المحكم العام مثل عدم الإكراه في الدين والدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن والحث على البر والإقساط لمن لا يقاتل المسلمين ولا يخرجونهم من ديارهم على ما نبهنا عليه في مناسبات عديدة سابقة. ومنها آية سورة النساء ( ٩٠ ) التي سنورد نصها بعد قليل والتي تذكر أن الله لم يجعل للمسلمين سبيلا على من لا يقاتلهم ومن يعتزلهم ويلقي إليهم السلم. ويأتي بعد قليل آية فيها أمر صريح للمسلمين بالاستقامة على عهدهم مع المشركين الذين عاهدوهم عند المسجد الحرام ما استقاموا لهم بدون تحديد وتوقيت. وفي هذه الآية دليل قوي على وجاهة ما نقرره إن شاء الله ( ١ )٢.
ولقد ورد في الحديث الذي رواه الترمذي وأوردناه قبل أن عليا أمر بأن ينادي فيما أمر به :( من كان بينه وبين النبي صلى الله عليه وآله وسلم عهد فهو إلى مدته، ومن لم يكن له عهد فأجله أربعة أشهر ). ونحن نتوقف في أن يكون مدى الحديث هو الأمر بالقتال بعد انقضاء الأربعة أشهر عام ضد من لم يكن له عهد من المشركين مطلقا، ولو لم يكن عدوا معتديا بناء على ما شرحناه قبل. والله أعلم.
ولقد وقف الطبري عند الرواية التي تذكر أن الإعلان يوم الحج الأكبر كان فيه إمهال للمشركين أربعة أشهر. ورأى فيها تعارضا مع عبارة :﴿ فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ.......... ﴾ لأنه لم يكن بين الإعلان وبين نهاية الأشهر الحرم إلا خمسون يوما وقال إن في هذه الرواية وهما. وأورد صيغة أخرى للحديث المروي عن علي رواها من طرق متعددة وهي :( أمرت بأربع : أن لا يقرب البيت بعد هذا العام مشرك، ولا يطوف رجل بالبيت عريانا، ولا يدخل الجنة إلا كل نفس مسلمة، وأن يتم إلى كل ذي عهد عهده ) ومما قاله : إن الآيات نزلت في شوال، وبانتهاء الأشهر الحرم تكون مهلة الأشهر الأربعة المذكورة في الآية الثانية قد انتهت. والمتبادر أن فيما يسوقه الطبري صوابا وسدادا ؛ لأن به وحده يزول وهم التعارض بين نصوص القرآن، وبين بعض الأحاديث والروايات. والله تعالى أعلم.
وقد ترد مسألتان في صدد ما ينطوي في الآيتين من أحكام. أولاهما : أن الاستثناء الوارد في أولى الآيتين محدد بانقضاء مدة العهد فهل يكون المعاهدون من المشركين حين انقضاء هذه المدة موضوع براءة الله ورسوله ويجب قتالهم ؟ وكلام المفسرين ينطوي على الإجابة على هذا السؤال بالإيجاب، ولم نطلع على أثر نبوي وثيق في هذا الصدد. ونرى أن كلام المفسرين يصح أن يكون محل توقف إذا أريد به الإطلاق، وأن الأمر يتحمل شيئا من التوضيح : فالمعاهدون إما أن يكونوا أعداء للمسلمين قبل العهد وقد وقع حرب وقتال بينهم، ثم عاهدهم المسلمون كما كان شأن قريش وصلحهم مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحديبية، وإما أن يكونوا قد رغبوا في موادعة المسلمين ومسالمتهم دون أن يكون قد وقع بينهم عداء وقتال. وآية النساء هذه :﴿ إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىَ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ أَوْ جَآؤُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُواْ قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاء اللّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً ( ٩٠ ) ﴾. تنطوي فيها على ما نعتقد حالة واقعية مثل ذلك. وفي روايات السيرة بعض الأمثلة ؛ حيث روى ابن سعد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وادع بني ضمرة من كنانة أن لا يغزوهم ولا يغزوه، ولا يكثروا عليه ولا يعينوا عليه عدوا، وكتب بينه وبينهم كتابا بذلك، ووادع هلال بن عويمر وسراقة المدلجي وقومه بمثل ذلك ( ١ )٣. وليس في الآية ولا في غيرها ما يمنع تجديد العهد أو تمديده مع هؤلاء ولا مع أولئك إذا رغبوا ولم يكن قد ظهر منهم نقض ولا نية غدر. وليس للمسلمين أن يرفضوا ذلك ؛ لأنهم إنما أمروا بقتال من يقاتلهم ويعتدي عليهم بشكل من الأشكال. وفي الآية التي تأتي بعد قليل والتي تأمر المسلمين بصراحة الاستقامة على عهدهم مع المشركين ما استقاموا لهم قرين
١ انظر طبقات ابن سعد ج ٣ ص ٤٦..
٢ في تفسير المنار تعليق سديد على هذا الموضوع في سياق الآيتين متطابق في النتيجة مع ما قررناه..
٣ طبقات ابن سعد ج ٣ ص ٤٦. وانظر تفسير الطبري والبغوي وابن كثير لتفسير الآية (٩٠) من سورة النساء والآيات (٤ و ٧) من سورة التوبة..
( ١ ) انسلخ : بمعنى انقضى.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٤:﴿ إلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ( ٤ ) فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ٥ ) ﴾ ( ٤ – ٥ ).

تعليق على الآية :

﴿ لاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ......... ﴾
والآية التالية لها. وتمحيص مدى ما ورد في شأن قتال المشركين
في هذه الآية إلى أن يتوبوا ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة
عبارة الآيتين واضحة أيضا. وفي أولاهما استثناء وجه الخطاب فيه إلى المسلمين بالنسبة للذين عاهدوهم ووفوا بعهدهم فلم ينقضوا ولم ينقصوهم شيئا ولم يظاهروا ويناصروا أحدا عليهم ؛ حيث يؤمرون بإتمام عهدهم إلى نهاية المدة المتفق عليها بينهم. فهذا هو من التقوى والله يحب المتقين. وفي ثانيهما وجه الخطاب إلى المسلمين يؤمرون فيه بقتال المشركين بعد انقضاء الأشهر الحرم ؛ حيث وجدوهم ومطاردتهم والترصد لهم في كل مكان. وبالكف عنهم إذا تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة. فإن الله غفور رحيم لعباده التائبين.
والآيتان كما هو ظاهر استمرار في السياق السابق وجزء منه. وقد روى الطبري عن قتادة أن المقصود من الاستثناء هم مشركو قريش الذين عاهدهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحديبية. وهذا غريب لأن صلح الحديبية قد انتقض في السنة الثامنة، وأدى ذلك إلى زحف النبي صلى الله عليه وآله وسلم على مكة وفتحها ودخول قريش في دين الله. في حين أن الآيات نزلت بعد فتح مكة على ما تدل عليه الآية ( ٣ ) بصراحة. وقد روى البغوي أنهم حي من كنانة يقال له بنو ضمرة لم ينقضوا العهد وكان بقي من مدتهم تسعة أشهر. وخبر موادعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لبني ضمرة من كنانة قد ذكره ابن سعد ولم يذكر أنه كان موقوتا ( ١ )١. وعلى كل حال فإن فحوى الآية الأولى التي فيها الاستثناء يدل على أنها في حق الذين بينهم وبين المسلمين عهد موقوت ولم يبد منهم نقض له بشكل ما، وقد يكون هناك من كان كذلك فعلا. وفي الاستثناء حكم مستمر المدى كما هو المتبادر.
والآية الأولى هذه تؤيد الرواية التي أوردناها قبلا بكون النداء يوم الحج الأكبر الذي نادى به أبو بكر وعلي هو :( من كان له عهد فلأجله ) وكون الإذن والإمهال أربعة أشهر هما بالنسبة لمن كان أجله أقل من أربعة أشهر دون الرواية الأخرى التي تقول : إن النداء كان :( من كانت مدته أقل من أربعة أشهر فله مهلة أربعة أشهر، ومن كانت مدته أكثر فتقصر على أربعة أشهر ).
وروح هذه الآية بل فحواها يؤيد كذلك الرواية التي رواها البغوي والقول الذي قاله الطبري بأن المشركين المعاهدين الذين أعلنت براءة الله ورسوله منهم في الآية الأولى من السورة هم الناقضون لعهدهم. وهذا يستتبع القول : إن الذين أمر المسلمون بقتالهم في الآية الثانية من الآيتين اللتين نحن في صدد تفسيرهما عقب انقضاء الأشهر الحرم التي في نهايتها تنتهي مدة الأشهر الأربعة – لأن الآيات نزلت في شوال كما ذكرنا – هم هؤلاء الناقضون لأنهم موضوع السياق.
وفي الآيتين وما قبلهما صور من السيرة النبوية في أواخر العهد المدني ؛ حيث ينطوي فيهما أنه كان بين المسلمين والمشركين عهود سلم بعد الفتح المكي ربما كانت ممتدة إلى ما قبله، وأن من المشركين من ظلوا أوفياء لعهودهم، ومنهم من نقض أو ظهرت منه علائم النقض والغدر.
ولقد نبهنا قبل على أن أهل التأويل والمفسرين يسمون الآية الثانية من الآيتين اللتين نحن في صددهما آية السيف ويعتبرونها ناسخة لكل آية فيها أمر بالتسامح والتساهل مع المشركين وإمهالهم والإغضاء والصفح والإعراض عنهم، وتوجب قتالهم إطلاقا. وبعضهم يستثني المعاهدين منهم إلى مدتهم، وبعضهم لا يستثنيهم ولا يجوز قبول غير الإسلام منهم بعد نزولها. ونبهنا على ما في ذلك من غلو ومناقضة للتقريرات القرآنية المتضمنة لأحكام محكمة بعدم قتال غير الأعداء وترك المسلمين والموادين وبرهم والإقساط إليهم. ولقد كرر المفسرون أقوالهم ورواياتهم عن قدماء أهل التأويل في مناسبة هذه الآية، فروى ابن كثير عن ابن عباس أن الآية أمرت النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن يضع السيف في من عاهدهم حتى يدخلوا في الإسلام، وأن ينقض ما كان سمى لهم من عهد وميثاق، وأنها لم تبق لأحد من المشركين عهدا ولا ذمة، وقد روى المفسر نفسه قولا عن سفيان بن عيينة جمع فيه بين هذه الآية وآيات أخرى من هذه السورة وغيرها ليست في صدد قتال المشركين سماها الأسياف وقال : إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعث علي بن أبي طالب بها حين بعثه يؤذن في الناس يوم الحج الأكبر منها هذه الآية وسماها سيفا في المشركين من العرب. ومنها آية التوبة هذه :﴿ قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ( ٢٩ ) ﴾ وسماها سيفا في قتال أهل الكتاب. ومنها هذه الآية من سورة التوبة أيضا :﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ( ٧٣ ) ﴾ وسماها سيفا في قتال المنافقين. ومنها هذه الآية في سورة الحجرات :﴿ وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله ﴾ ( ٩ ) وسماها سيفا في قتال أهل البغي. ومن العجيب أن الطبري ذهب إلى أن هذه الآية تشمل المعاهدين حين انتهاء مدتهم، أو إذا نقضوا العهد ومن لا عهد لهم إطلاقا دون تفريق مع أنه قرر في سياق آية الممتحنة هذه :﴿ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ( ٨ ) ﴾ أنها محكمة وأن الله لا ينهى المسلمين عن البر والإقساط لمن يقف منهم موقف المسالمة والمحاسنة والحياد من أية ملة كانوا. وهؤلاء قد لا يكونون معاهدين !.
كل هذا والآية كما هو واضح من فحواها وسياقها هي في صدد قتال المشركين المعاهدين الناقضين لعهدهم وحسب. بحيث يسوغ القول : إن اعتبارها آية سيف وجعلها شاملة لكل مشرك إطلاقا تحميل لها بما لا يتحمله هذا السياق والفحوى. وكذلك الأمر في اعتبارها ناسخة للتقريرات القرآنية المنطوية في آيات عديدة والتي عليها طابع المبدأ المحكم العام مثل عدم الإكراه في الدين والدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن والحث على البر والإقساط لمن لا يقاتل المسلمين ولا يخرجونهم من ديارهم على ما نبهنا عليه في مناسبات عديدة سابقة. ومنها آية سورة النساء ( ٩٠ ) التي سنورد نصها بعد قليل والتي تذكر أن الله لم يجعل للمسلمين سبيلا على من لا يقاتلهم ومن يعتزلهم ويلقي إليهم السلم. ويأتي بعد قليل آية فيها أمر صريح للمسلمين بالاستقامة على عهدهم مع المشركين الذين عاهدوهم عند المسجد الحرام ما استقاموا لهم بدون تحديد وتوقيت. وفي هذه الآية دليل قوي على وجاهة ما نقرره إن شاء الله ( ١ )٢.
ولقد ورد في الحديث الذي رواه الترمذي وأوردناه قبل أن عليا أمر بأن ينادي فيما أمر به :( من كان بينه وبين النبي صلى الله عليه وآله وسلم عهد فهو إلى مدته، ومن لم يكن له عهد فأجله أربعة أشهر ). ونحن نتوقف في أن يكون مدى الحديث هو الأمر بالقتال بعد انقضاء الأربعة أشهر عام ضد من لم يكن له عهد من المشركين مطلقا، ولو لم يكن عدوا معتديا بناء على ما شرحناه قبل. والله أعلم.
ولقد وقف الطبري عند الرواية التي تذكر أن الإعلان يوم الحج الأكبر كان فيه إمهال للمشركين أربعة أشهر. ورأى فيها تعارضا مع عبارة :﴿ فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ.......... ﴾ لأنه لم يكن بين الإعلان وبين نهاية الأشهر الحرم إلا خمسون يوما وقال إن في هذه الرواية وهما. وأورد صيغة أخرى للحديث المروي عن علي رواها من طرق متعددة وهي :( أمرت بأربع : أن لا يقرب البيت بعد هذا العام مشرك، ولا يطوف رجل بالبيت عريانا، ولا يدخل الجنة إلا كل نفس مسلمة، وأن يتم إلى كل ذي عهد عهده ) ومما قاله : إن الآيات نزلت في شوال، وبانتهاء الأشهر الحرم تكون مهلة الأشهر الأربعة المذكورة في الآية الثانية قد انتهت. والمتبادر أن فيما يسوقه الطبري صوابا وسدادا ؛ لأن به وحده يزول وهم التعارض بين نصوص القرآن، وبين بعض الأحاديث والروايات. والله تعالى أعلم.
وقد ترد مسألتان في صدد ما ينطوي في الآيتين من أحكام. أولاهما : أن الاستثناء الوارد في أولى الآيتين محدد بانقضاء مدة العهد فهل يكون المعاهدون من المشركين حين انقضاء هذه المدة موضوع براءة الله ورسوله ويجب قتالهم ؟ وكلام المفسرين ينطوي على الإجابة على هذا السؤال بالإيجاب، ولم نطلع على أثر نبوي وثيق في هذا الصدد. ونرى أن كلام المفسرين يصح أن يكون محل توقف إذا أريد به الإطلاق، وأن الأمر يتحمل شيئا من التوضيح : فالمعاهدون إما أن يكونوا أعداء للمسلمين قبل العهد وقد وقع حرب وقتال بينهم، ثم عاهدهم المسلمون كما كان شأن قريش وصلحهم مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحديبية، وإما أن يكونوا قد رغبوا في موادعة المسلمين ومسالمتهم دون أن يكون قد وقع بينهم عداء وقتال. وآية النساء هذه :﴿ إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىَ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ أَوْ جَآؤُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُواْ قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاء اللّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً ( ٩٠ ) ﴾. تنطوي فيها على ما نعتقد حالة واقعية مثل ذلك. وفي روايات السيرة بعض الأمثلة ؛ حيث روى ابن سعد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وادع بني ضمرة من كنانة أن لا يغزوهم ولا يغزوه، ولا يكثروا عليه ولا يعينوا عليه عدوا، وكتب بينه وبينهم كتابا بذلك، ووادع هلال بن عويمر وسراقة المدلجي وقومه بمثل ذلك ( ١ )٣. وليس في الآية ولا في غيرها ما يمنع تجديد العهد أو تمديده مع هؤلاء ولا مع أولئك إذا رغبوا ولم يكن قد ظهر منهم نقض ولا نية غدر. وليس للمسلمين أن يرفضوا ذلك ؛ لأنهم إنما أمروا بقتال من يقاتلهم ويعتدي عليهم بشكل من الأشكال. وفي الآية التي تأتي بعد قليل والتي تأمر المسلمين بصراحة الاستقامة على عهدهم مع المشركين ما استقاموا لهم قرين
١ انظر طبقات ابن سعد ج ٣ ص ٤٦..
٢ في تفسير المنار تعليق سديد على هذا الموضوع في سياق الآيتين متطابق في النتيجة مع ما قررناه..
٣ طبقات ابن سعد ج ٣ ص ٤٦. وانظر تفسير الطبري والبغوي وابن كثير لتفسير الآية (٩٠) من سورة النساء والآيات (٤ و ٧) من سورة التوبة..

﴿ وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ ( ١ ) مَأْمَنَهُ ( ٢ ) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ ( ٦ ) ﴾ ( ٦ ).
( ١ ) أبلغه : أوصله، أو يسر له الوصول.
( ٢ ) مأمنه : المكان الذي يكون فيه أمنا على حياته.
تعليق على الآية :
﴿ وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ.............................. ﴾ الخ
وما روي في صددها ومدى ما فيها من تلقين ودلالات
عبارة الآية واضحة. وفيها أمر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنه إذا ما أراد أحد من المشركين أن يأتي النبي صلى الله عليه وآله وسلم وطلب منه الجوار والحماية فعليه أن يمنحهما له حتى يتسنى له سماع كلام الله تعالى، وعليه بعد ذلك أن ييسر له البلوغ إلى المكان الذي يكون فيه آمنا على حياته. وتعليل لذلك بأن المشركين جاهلون ومن الحق على النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يتيح لهم فرصة العلم وسماع كلام الله وتدبره.
وقد روى الزمخشري عن سعيد بن جبير أن رجلا جاء إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه حين نادى يوم الحج الأكبر فقال : إذا أراد الرجل منا أن يأتي محمدا بعد انقضاء الأجل يسمع كلام الله أو يأتيه لحاجة قتل ؟ قال : لا لأن الله تعالى يقول :﴿ وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ... ﴾ الخ وهذه الرواية بهذه الصيغة لا تكون سبب نزول الآية. والآية بعد معطوفة على ما قبلها وجزء من السياق كما هو ظاهر ؛ حيث يتبادر لنا أن حكمة التنزيل أوحت بها في جملة السياق على سبيل الاستدراك والاستثناء في صدد حالة محتملة. وهذا لا يمنع احتمال نزولها بسبب حالة وقعت أو سؤال ورد، ثم وضعت في السياق للتناسب. والله أعلم.
ونرى في الآية قرينة أخرى على صحة ما ذكرناه قبل من أن الآية السابقة لها ليست في صدد قتل وقتال كل مشرك إطلاقا إلى أن يكف عن الشرك ويقيم الصلاة ويؤتي الزكاة. وعلى ما قررناه في مناسبات عديدة قريبة وسابقة من عدم إكراه أي مشرك غير عدو وغير محارب على الإسلام. ونرى فيها تلقينا مستمر المدى للمسلمين وأولياء أمورهم في كل وقت بوجوب منح الفرص لغيرهم، ولو كانوا أعداء محاربين ؛ ليسمعوا منهم كلام الله ويستوعبوا منهم مبادئ وأهداف الإسلام، وبوجوب قبول التجاء غيرهم إليهم وحمايتهم إذا ما كان قصدهم التعرف على تلك المبادئ والأهداف، وضمان عودتهم إلى بلادهم آمنين.
ولقد أورد المفسر القاسمي في سياق الآية حديثا رواه البخاري والنسائي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( من أمن رجلا على دمه فقتله فأنا بريء من القاتل، وإن كان المقتول كافرا ) وحديثا آخر رواه الإمام أحمد والشيخان عن أنس قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لكل غادر لواء يعرف به يوم القيامة ).
وفي الحديثين تلقين متساوق مع التلقين القرآني كما هو واضح من تشديد ضد من ينحرف عن هذا التلقين. ولقد روى القاسمي عن الحاكم تنبيها وجيها في هذا الصدد. وهو أن الإجارة والتأمين منوطان بالتيقن من حسن القصد. وإن جملة :﴿ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ﴾ مما يدعم ذلك. وهذا يعني عدم الإجابة لطلب الجواز إذا غلب الظن بكبر الطالب وخداعه وسوء نيته. والله أعلم.
ولقد روى الطبري وغيره عن الضحاك والسدي أن الآية منسوخة بجملة :﴿ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ ﴾ في الآية السابقة لها. وعن ابن زيد أنها محكمة غير منسوخة، وليس هناك أثر نبوي. وورود الآية بعد الآية التي تأمر بقتل المشركين إلى أن يتوبوا قد يكون قرينة قوية على وجاهة القول الثاني ؛ حيث يمكن أن تكون الآية قد جاءت للاستدراك. والإجابة على تساؤل ما من بعض الكفار، وروحها يدعم ذلك أيضا ؛ لأن القتال والقتل لم يكن غاية، وإنما هو مقابلة للعدوان وعقوبة على النكث. والدعوة إلى الإسلام تظل قائمة لكل الناس في كل وقت. وهدف الآية إعطاء فرصة لكافر ما ولكافر عدو بخاصة ؛ ليسمع كلام الله لعله يستجيب ويؤمن. والآية السابقة للآية تأمر بالكف عن قتال المشركين الناكثين الأعداء إذا ما تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة. والاستجابة للاستجارة وسيلة إلى ذلك. والله أعلم.
استطراد إلى مدى جملة :
﴿ كلام الله ﴾ ومسألة أزلية القرآن وحدوثه
ونرى أن نستطرد هنا بمناسبة جملة :﴿ كلام الله ﴾ في الآية إلى مدى هذه الجملة، وما تفرع عنها من خلاف مذهبي فنقول : إن هذه الجملة وردت في آيات أخرى مثل آية البقرة ( ٧٥ ) وآية سورة الفتح ( ١٥ ) غير أنها هنا عنت القرآن أكثر من هذه الآيات على الأرجح وعلى ما عليه جمهور المفسرين. ووصف القرآن بأنه ﴿ كلام الله ﴾ أدى إلى ذلك الخلاف حيث ذهب بعض علماء الكلام إلى أن كلام الله متصل بذات الله وذات الله أزلية فيكون كلام الله أزليا، وما دام القرآن هو كلام الله فيكون بدوره أزليا. وحيث ذهب فريق آخر إلى كون القرآن ليس أزليا، وإنما هو حادث. ولقد كان من جراء هذا الخلاف فتنة شديدة في زمن المأمون ثامن الخلفاء العباسيين وامتدت نحو عشرين عاما. واضطهد وعذب فيها علماء كثيرون على رأسهم الإمام أحمد بن حنبل، وكان أحيانا يشتبك أنصار هؤلاء وهؤلاء في نزاع دام تزهق فيه مئات الأرواح. ولقد كان المعتزلة الذين يسمون أهل العدل والتوحيد من القائلين بالقول الثاني. وكان لهم مركز الوجاهة والنفوذ عند المأمون وجعلوه يقنع بقولهم وأرادوه على حمل الإمام أحمد بن حنبل ومن يقول بقوله أي القول الأول أن يرجعوا عن قولهم بالقول الثاني فأبوا.
وهذه المسألة متفرعة عبر مسألة أعم. وهي الخلاف على صفات الله تعالى بين أهل السنة والجماعة الذين كان الإمام أحمد من رؤوسهم وبين المعتزلة.
فهؤلاء قالوا : إن صفات الله هي ذات الله فهو عالم بذاته متكلم بذاته الخ أي بدون علم وقدرة وكلام زائد عن ذاته أو غير ذاته، على اعتبار أن الذهاب إلى كون صفات الله القديمة بقدمه هي غير ذاته يعني تعددا لله القديم الذي يستحيل عليه التعدد. في حين قال أهل السنة والجماعة : إن لصفات الله تعالى معنى زائدا عن ذاته فهو عالم بعلم وقادر بقدرة ومتكلم بكلام وحي بحياة الخ. واحترزوا من أن يكون هذا الكلام مؤديا إلى التعدد ؛ لأنهم مثل المعتزلة يعتقدون باستحالة التعدد بحق الله تعالى فقالوا : إن الله عالم بعلم غير منفك عن ذاته وقادر بقدرة غير منفكة عن ذاته ومتكلم بكلام غير منفك عن ذاته.. ثم انجر الخلاف إلى صفة كلام الله وماهية القرآن باعتباره كلام الله فقال فريق من أهل السنة والجماعة : إن الله تكلم بكلام أزلي قديم زائد عن ذاته وغير منفك عنها، وإن القرآن معنى قائم بذات الله مع تقييدهم أنهم لا يعنون بذلك الحروف والأصوات المقروءة المسموعة المكتوبة، ومثلوا على ذلك بالفرق بين ما يدور في خلد الإنسان من كلام، دون أن ينطق به فهو شامل في أي وقت لجميع الكلام الذي يدور في الخلد. أما الحروف والأصوات المقروءة المسموعة المكتوبة من القرآن فإنها ليست من تلك الصفة القديمة، وإنما هي من الحوادث ؛ لأنها تابعة لترتيب يتقدم فيه حرف على حرف نطقا وكتابة وسمعا وهذا من سمات الأمور الحادثة. وهناك من هذا الفريق من قال : إن حروف القرآن المكتوبة المقروءة وأصواتها المسموعة غير منفكة عن كلام الله الأزلي القديم، وإنها مثله قديمة أزلية أيضا ليست حادثة ولا مخلوقة. وهناك من هذا الفريق من قال : إن جميع ما في المصحف هو من صفة الله القديمة حتى الورق والمداد وجلدة الغلاف... أما المعتزلة والشيعة الإمامية الذين يذهبون إلى أكثر المذاهب الكلامية التي يذهب إليها المعتزلة فقالوا : إن الله تكلم بذاته بدون كلام زائد عن هذه الذات، وأنه يخلق الحروف والأصوات في الأعراض فتقرأ وتسمع، وأن القرآن باعتبار أنه متصف بما هو صفة المخلوق وسمات الحدوث من تأليف وتنظيم وإنزال وتنزيل وكتابة وسماع وعروبة لسان وحفظ وناسخ ومنسوخ إلخ هو مخلوق لا يصح أن يكون قديما أزليا. ومما قالوه : إن القرآن اسم لما نقل إلينا بين دفتي المصحف تواترا، وهذا يستلزم كونه مكتوبا في المصاحف مقروءا بالألسن مسموعا بالآذان. وكل ذلك من سمات الحدوث بالضرورة. ويرد عليهم جمهور أهل السنة بأنه كلام الله مكتوب في مصاحفنا محفوظ في قلوبنا مقروء بألسنتنا مسموع بآذاننا غير حال فيها، بل هو معنى قديم قائم بذات الله يلفظ ويسمع بالنظم الدال عليه، ويكتب بنقوش وصور وأشكال موضوعة للحروف ويكتب بالقلم. وأن المراد بأن القرآن غير مخلوق هو حقيقته الموجودة في الخارج.
هذه خلاصة وجيزة جدا لرأي علماء المذاهب الكلامية. وواضح أن الجماعات المختلفة يعترفون بكمال صفات الله، وأن اختلافهم هو حول آثار هذه الصفات وتخيلها وتفهمها. وأن شأنهم في هذا شأنهم في الخلافات الكلامية الأخرى المتصلة بالله تعالى وقدرته وكنهه وما ينسبه القرآن إليه مون أعضاء وأفعال.
منهم المعظم لله ومنهم المنزه له، وأنهم متفقون على أن القرآن منزل من الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم.
ونعتقد أن ثوران هذه المسألة الخلافية وما يترتب عليها من فتنة ومحنة في أوائل القرن الثالث الهجري ذو صلة بالأحداث السياسية والنحلية والطائفية والعنصرية التي حدثت في القرن الإسلامي الأول. ومن مظاهرها مسألة القدر وفرق المسلمين فيه على ما شرحناه في سياق سورة القمر، مع احتمال أن يكون لتسرب الأفكار والكتب اليونانية وغير اليونانية أثر فيها. وأنها ضخمت أكثر مما تتحمل طبيعتها. وقد يصح أن يقال مع ذلك : إن للقرآن صلة وثقى بأحداث السيرة النبوية وظروف البيئة النبوية وشؤون البشر والحياة على إطلاقها وإن جل سوره وفصوله وآياته أو كلها قد نزلت حسب المناسبات والأحداث والمقتضيات من هذه السيرة والظروف والشؤون. وإنه استهدف صلاح البشر وتوجيههم إلى ما فيه خيرهم وصلاحهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة. وكل هذا من الأمور الحادثة المتجددة المتبدلة المتطورة، ويجعل القول الثاني أكثر ورودا ووجاهة. ولا سيما إن القول الأول يؤدي إلى حرج القول أنه ما دام كلام الله صفة غير منفكة عن ذات الله وما دام القرآن هو كلام الله فيكون القرآن هو ذات الله سبحانه وتعالى..
ومما يجعل القول الثاني أكثر ورودا ووجاهة أن ألفاظ القرآن ( مفرداتها وتركيباتها ) ليست أمرا قاصرا على القرآن. وإنما هي مما يستعمله الناطقون باللغة العربية للتعبير عن أفكارهم نطقا وكتابة. وكان ذلك قبل نزول القرآن واستمر بعده وإلى ما شاء الله. وهي ألفاظ بشرية للتعبير عن أمور وأفكار بشرية حادثة. والله ليس كمثله شيء. فله سمع وبصر ولكن ذلك غير مماثل لأي شيء كما جاء في آية سورة الشورى التي أوردناها والتي هي ضابط قرآني هام في مثل هذه المسائل. ومن ذلك فهو متكلم، ولكن كلامه غير مماثل لأي شيء.
وهناك أمر آخر مهم يقوي ذلك أيضا وهو أن الله عز وجل لم يكلم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالقرآن مباشرة. ففي سورة الشعراء هذه الآيات :﴿ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ( ١٩٣ ) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ ( ١٩ ) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ ( ١٩٥ ) ﴾. وفي سورة النحل هذه
﴿ كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ( ٧ ) كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ ( ١ ) لاَ يَرْقُبُواْ ( ٢ ) فِيكُمْ إِلاًّ ( ٣ ) وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ ( ٨ ) اشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً ( ٤ ) فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( ٩ ) لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ ( ١٠ ) فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ( ١١ ) وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ ( ١٢ ) ﴾ ( ٧ – ١٢ ).
في الآيات :
( ١ ) تساؤل يتضمن معنى النفي عما إذا كان يصح أن يكون للمشركين عهد محترم عند الله وعند رسوله.
( ٢ ) واستثناء وجه الخطاب فيه للمسلمين بالنسبة للذين عاهدوهم عند المسجد الحرام، وأمر بأن يستقيموا على عهدهم معهم ما استقاموا هم عليه، فإن في هذا تقوى الله والله يحب المتقين.
( ٣ ) وتساؤل آخر وجه الخطاب فيه كذلك للمسلمين يتضمن أيضا معنى النفي، ثم تقريرا لواقع المشركين وتعليلا لعدم استحقاق عهودهم للاحترام، فإنهم إذا ظهروا عليهم وانتصروا لا يرعون فيهم عهدا ولا ذمة ويعاملونهم معاملة العدو اللدود، وأنهم إنما يحاولون إرضاءهم بالكلام وقلوبهم غير صادقة ولا مخلصة، وإن أكثرهم فاسقون متمردون على الله تعالى خبثاء الطوية، وإنهم لا يرقبون في مؤمن عهدا ولا ذمة، وإنهم معتدون متجاوزون على كل حق في جميع مواقفهم.
( ٤ ) وخطاب موجه إلى المسلمين كذلك بشأنهم : فإذا تابوا عن شركهم وأسلموا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإنهم يصبحون إخوانا لهم في الدين. وفي هذا بيان يفهمه ويدرك قيمته الذين يعلمون ويدركون الأمور. أما إذا نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم الذي قطعوه على أنفسهم للمسلمين وطعنوا في دينهم، فعليهم أن يقاتلوا أئمة الكفر الذين لا يقيمون وزنا لأيمانهم، لعل هذا القتال يضطرهم إلى الانتهاء عن موقفهم الباغي.
تعليق على الآية :
﴿ كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ................... ﴾
والآيات الخمس التالية لها وما روي في صددها من روايات
وما انطوى فيها من أحكام وتلقين ودلالات.
ولم يرو المفسرون فيما اطلعنا عليه رواية خاصة في مناسبة نزول هذه الآيات أو بعضها. وإنما رووا روايات عن المقصود منها ( ١ )١. فمن ذلك أن المقصود من الاستثناء الوارد في الآية الأولى منها أي الآية ( ٧ ) هم بنو خزيمة أو بنو مدلج أو بنو الديل من بني بكر بن كنانة الذين دخلوا في صلح الحديبية مع قريش ولكنهم لم ينقضوا حينما نقض بطون أخرى من بني بكر وظاهرتهم قريش فكان ذلك سببا لحملة الفتح المكي. ومنها أن المقصود منه هم قريش الذين عاهدوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحديبية. وبخاصة زعماءهم الذين يصح عليهم وصف أئمة الكفر مثل أبي سفيان وأبي جهل وأمية بن خلف وعتبة بن شيبة وسهيل بن عمرو. وذكر هذه الأسماء عجيب ؛ لأن منهم من كان قتل يوم بدر مثل أبي جهل وأمية وعتبة. ومنها أن المقصود منه قوم في جواز منطقة المسجد الحرام كان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وآله وسلم عهد على أن لا يدخلوا هذه المنطقة ولا يعطوا للمسلمين جزية. ومن ذلك أن المقصود في الفقرة الأولى من الآية الأولى، ثم في الآيات الأخرى هم المقصودون في آيات السورة الأولى أي المعاهدون الناقضون لعهدهم.
وقد علق الطبري على الروايات التي تقول إن المقصود في الآيات قريش فقال : إن الآيات نزلت بعد فتح مكة وبعد دخول قريش في الإسلام. وهذا سديد صحيح. وقد رجح الرواية التي تقول : إنهم البطن الذي لم ينقض من بني بكر حين نقض العهد البطون الأخرى مع قريش فأمر المسلمون بالاستقامة لهم ما استقاموا عليه، وهذا أيضا وجيه. ولكنه لا يمنع أن يكون أناس آخرون في جوار منطقة المسجد الحرام عاهدهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد فتح مكة فاستقاموا على عهدهم فعنتهم الآية والله أعلم. والرواية التي تقول : إن المقصود من الفقرة الأولى من الآية الأولى أي الآية ( ٧ ) ثم الآيات الأخرى أي ( ٨ – ١٢ ) هم المشركون المعاهدون الناقضون لعهدهم محتملة ومتسقة مع فحوى الآيات وروحها. وقد انطوى فيها تبرير لإعلان براءة الله ورسوله منهم في الآية الأولى ثم في الآية الثالثة من السورة وتبرير للأمر الوارد في الآية الخامسة بقتلهم أينما وجدوا بدون هوادة إلى أن يتوبوا ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة. وفي الآية ( ١١ ) قرينة على ذلك ؛ حيث جاءت بصيغة مماثلة للفقرة الأخيرة من الآية الخامسة.
وعبارات التبرير الواردة في الآيات قوية شديدة تدل على أن المشركين المعاهدين الذين بدا منهم النقض والغدر، والذين أعلنت براءة الله ورسوله منهم كانوا على درجة شديدة من الحقد على المسلمين وتبييت المكر والشر والكيد لهم بحيث كان من المستبعد أن يحترموا العهد احتراما صحيحا. وبحيث انطوى فيها حكمة التنزيل في عدم الكف عن مطاردتهم وقتالهم وقتلهم إلا إذا تابوا نهائيا عن الشرك وأسلموا.
والأمر بالاستقامة في العهد لمن يستقيم عليه من المشركين دليل كما نبهنا من قبل على أن المقصود من المشركين المعلن براءة الله ورسوله منهم والمأمور بقتالهم هم الناقضون البادي غدرهم. ويلحظ أن العبارة مطلقة بدون توقيت، وهذا مهم في بابه كما هو المتبادر.
وجملة :﴿ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ ﴾ بالنسبة لمن يتوبون من المشركين ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة جديرة بالتنويه حيث تلهم روحها معنى خلاص المشركين من تبعة أعمالهم ومواقفهم السابقة. وفي ذلك من التلقين والتشجيع والتسامح وفتح الباب للاندماج في الكيان الإسلامي يسير. والعفو عما سلف ما هو جدير بالإجلال. وما فيه الدلالة على أن غاية الدعوة الإسلامية هي إنشاء كيان إسلامي قوي قائم على المبادئ القويمة السامية التي قامت عليها الدعوة الإسلامية وتيسير الاندماج فيه لكل امرئ مهما كانت حالته ومواقفه السابقة. وهذا متسق مع التقريرات القرآنية الكثيرة. وبخاصة مع الهدف والتلقين المنطويين في آيات التوبة الكثيرة على ما نبهنا عليه في مناسباته. وكلمة :﴿ فإخوانكم ﴾ بخاصة تنطوي مقامها على هدف التحبب والتأنيس لمن ينضوي إلى لواء الإسلام وتؤكد أخوة المنضوين الدينية التي قررتها جملة :﴿ إنما المؤمنون إخوة ﴾ ( الحجرات : ١٠ ) والتي تمثل أقوى الروابط الروحية الإنسانية وأعمقها ؛ لأنها رابطة العقيدة والمبدأ التي تسمو على سائر الروابط. ولقد جاء في آية سورة الأنفال :﴿ قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ ﴾( ٣٨ ). ويبدو أن حكمة التنزيل اقتضت أن يكون المعنى هنا أقوى وأروع وأبعد مدى.
وجملة :﴿ وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ ﴾ في ( الآية : ١٢ ) قد توهم أنها في صدد معاهدين لم يكونوا نكثوا حينما نزلت الآيات. غير أن فحوى آيات السياق وروحها يلهمان بقوة أنها في صدد موضوع الكلام السابق من المعاهدين. بل إن نظم الآية قد يفيد ذلك ؛ حيث عطفت على ما قبلها والضمير فيها راجع إلى الذين هم موضوع الكلام السابق.
وجملة :﴿ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ ﴾ في الآية تجعل الطعن في الدين الإسلامي من أسباب قتال المسلمين للمشركين والكفار ومبرراته. وهذا حق لا ريب فيه ؛ لأن الطعن يؤدي إلى الصد عنه. وبالتالي إنه عدوان على الدين وأهله وحرية الدعوة إليه.
وجملة :﴿ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ ﴾ قد تكون في صدد جميع المشركين بوصفهم أئمة كفر. وقد تكون في معنى التشديد في التحريض على قتال الأشد نكاية منهم في العداء والأذى. وقد يكون سياق الآيات وروحها مما يجعل الرجحان للمعنى الأول. غير أن المعنى الثاني لا يخلو من وجاهة ؛ لأن التنكيل بالكبار والأشد نكاية يحل عقدة الباقين الذين هم تبع لهم. ومتأثرون بهم. والحملة على زعماء الكفار قد تكررت في القرآن من أجل ذلك وبسببه. غير أنها لم تقتصر عليهم، وإنما شملت الكفار عامة مع التشديد على الزعماء. ويصح أن يقال : إن مدى الجملة هنا هو من هذا القبيل. والله أعلم.
١ أكثر المفسرين استيعابا لهذه الروايات هو الطبري..
( ١ ) إن يظهروا عليكم : إن يتفقوا عليكم ويغلبوكم.
( ٢ ) لا يرقبوا : لا يراعوا.
( ٣ ) إلا : عهدا.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٧:﴿ كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ( ٧ ) كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ ( ١ ) لاَ يَرْقُبُواْ ( ٢ ) فِيكُمْ إِلاًّ ( ٣ ) وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ ( ٨ ) اشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً ( ٤ ) فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( ٩ ) لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ ( ١٠ ) فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ( ١١ ) وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ ( ١٢ ) ﴾ ( ٧ – ١٢ ).

في الآيات :

( ١ ) تساؤل يتضمن معنى النفي عما إذا كان يصح أن يكون للمشركين عهد محترم عند الله وعند رسوله.
( ٢ ) واستثناء وجه الخطاب فيه للمسلمين بالنسبة للذين عاهدوهم عند المسجد الحرام، وأمر بأن يستقيموا على عهدهم معهم ما استقاموا هم عليه، فإن في هذا تقوى الله والله يحب المتقين.
( ٣ ) وتساؤل آخر وجه الخطاب فيه كذلك للمسلمين يتضمن أيضا معنى النفي، ثم تقريرا لواقع المشركين وتعليلا لعدم استحقاق عهودهم للاحترام، فإنهم إذا ظهروا عليهم وانتصروا لا يرعون فيهم عهدا ولا ذمة ويعاملونهم معاملة العدو اللدود، وأنهم إنما يحاولون إرضاءهم بالكلام وقلوبهم غير صادقة ولا مخلصة، وإن أكثرهم فاسقون متمردون على الله تعالى خبثاء الطوية، وإنهم لا يرقبون في مؤمن عهدا ولا ذمة، وإنهم معتدون متجاوزون على كل حق في جميع مواقفهم.
( ٤ ) وخطاب موجه إلى المسلمين كذلك بشأنهم : فإذا تابوا عن شركهم وأسلموا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإنهم يصبحون إخوانا لهم في الدين. وفي هذا بيان يفهمه ويدرك قيمته الذين يعلمون ويدركون الأمور. أما إذا نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم الذي قطعوه على أنفسهم للمسلمين وطعنوا في دينهم، فعليهم أن يقاتلوا أئمة الكفر الذين لا يقيمون وزنا لأيمانهم، لعل هذا القتال يضطرهم إلى الانتهاء عن موقفهم الباغي.

تعليق على الآية :

﴿ كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ................... ﴾
والآيات الخمس التالية لها وما روي في صددها من روايات
وما انطوى فيها من أحكام وتلقين ودلالات.
ولم يرو المفسرون فيما اطلعنا عليه رواية خاصة في مناسبة نزول هذه الآيات أو بعضها. وإنما رووا روايات عن المقصود منها ( ١ )١. فمن ذلك أن المقصود من الاستثناء الوارد في الآية الأولى منها أي الآية ( ٧ ) هم بنو خزيمة أو بنو مدلج أو بنو الديل من بني بكر بن كنانة الذين دخلوا في صلح الحديبية مع قريش ولكنهم لم ينقضوا حينما نقض بطون أخرى من بني بكر وظاهرتهم قريش فكان ذلك سببا لحملة الفتح المكي. ومنها أن المقصود منه هم قريش الذين عاهدوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحديبية. وبخاصة زعماءهم الذين يصح عليهم وصف أئمة الكفر مثل أبي سفيان وأبي جهل وأمية بن خلف وعتبة بن شيبة وسهيل بن عمرو. وذكر هذه الأسماء عجيب ؛ لأن منهم من كان قتل يوم بدر مثل أبي جهل وأمية وعتبة. ومنها أن المقصود منه قوم في جواز منطقة المسجد الحرام كان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وآله وسلم عهد على أن لا يدخلوا هذه المنطقة ولا يعطوا للمسلمين جزية. ومن ذلك أن المقصود في الفقرة الأولى من الآية الأولى، ثم في الآيات الأخرى هم المقصودون في آيات السورة الأولى أي المعاهدون الناقضون لعهدهم.
وقد علق الطبري على الروايات التي تقول إن المقصود في الآيات قريش فقال : إن الآيات نزلت بعد فتح مكة وبعد دخول قريش في الإسلام. وهذا سديد صحيح. وقد رجح الرواية التي تقول : إنهم البطن الذي لم ينقض من بني بكر حين نقض العهد البطون الأخرى مع قريش فأمر المسلمون بالاستقامة لهم ما استقاموا عليه، وهذا أيضا وجيه. ولكنه لا يمنع أن يكون أناس آخرون في جوار منطقة المسجد الحرام عاهدهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد فتح مكة فاستقاموا على عهدهم فعنتهم الآية والله أعلم. والرواية التي تقول : إن المقصود من الفقرة الأولى من الآية الأولى أي الآية ( ٧ ) ثم الآيات الأخرى أي ( ٨ – ١٢ ) هم المشركون المعاهدون الناقضون لعهدهم محتملة ومتسقة مع فحوى الآيات وروحها. وقد انطوى فيها تبرير لإعلان براءة الله ورسوله منهم في الآية الأولى ثم في الآية الثالثة من السورة وتبرير للأمر الوارد في الآية الخامسة بقتلهم أينما وجدوا بدون هوادة إلى أن يتوبوا ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة. وفي الآية ( ١١ ) قرينة على ذلك ؛ حيث جاءت بصيغة مماثلة للفقرة الأخيرة من الآية الخامسة.
وعبارات التبرير الواردة في الآيات قوية شديدة تدل على أن المشركين المعاهدين الذين بدا منهم النقض والغدر، والذين أعلنت براءة الله ورسوله منهم كانوا على درجة شديدة من الحقد على المسلمين وتبييت المكر والشر والكيد لهم بحيث كان من المستبعد أن يحترموا العهد احتراما صحيحا. وبحيث انطوى فيها حكمة التنزيل في عدم الكف عن مطاردتهم وقتالهم وقتلهم إلا إذا تابوا نهائيا عن الشرك وأسلموا.
والأمر بالاستقامة في العهد لمن يستقيم عليه من المشركين دليل كما نبهنا من قبل على أن المقصود من المشركين المعلن براءة الله ورسوله منهم والمأمور بقتالهم هم الناقضون البادي غدرهم. ويلحظ أن العبارة مطلقة بدون توقيت، وهذا مهم في بابه كما هو المتبادر.
وجملة :﴿ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ ﴾ بالنسبة لمن يتوبون من المشركين ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة جديرة بالتنويه حيث تلهم روحها معنى خلاص المشركين من تبعة أعمالهم ومواقفهم السابقة. وفي ذلك من التلقين والتشجيع والتسامح وفتح الباب للاندماج في الكيان الإسلامي يسير. والعفو عما سلف ما هو جدير بالإجلال. وما فيه الدلالة على أن غاية الدعوة الإسلامية هي إنشاء كيان إسلامي قوي قائم على المبادئ القويمة السامية التي قامت عليها الدعوة الإسلامية وتيسير الاندماج فيه لكل امرئ مهما كانت حالته ومواقفه السابقة. وهذا متسق مع التقريرات القرآنية الكثيرة. وبخاصة مع الهدف والتلقين المنطويين في آيات التوبة الكثيرة على ما نبهنا عليه في مناسباته. وكلمة :﴿ فإخوانكم ﴾ بخاصة تنطوي مقامها على هدف التحبب والتأنيس لمن ينضوي إلى لواء الإسلام وتؤكد أخوة المنضوين الدينية التي قررتها جملة :﴿ إنما المؤمنون إخوة ﴾ ( الحجرات : ١٠ ) والتي تمثل أقوى الروابط الروحية الإنسانية وأعمقها ؛ لأنها رابطة العقيدة والمبدأ التي تسمو على سائر الروابط. ولقد جاء في آية سورة الأنفال :﴿ قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ ﴾( ٣٨ ). ويبدو أن حكمة التنزيل اقتضت أن يكون المعنى هنا أقوى وأروع وأبعد مدى.
وجملة :﴿ وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ ﴾ في ( الآية : ١٢ ) قد توهم أنها في صدد معاهدين لم يكونوا نكثوا حينما نزلت الآيات. غير أن فحوى آيات السياق وروحها يلهمان بقوة أنها في صدد موضوع الكلام السابق من المعاهدين. بل إن نظم الآية قد يفيد ذلك ؛ حيث عطفت على ما قبلها والضمير فيها راجع إلى الذين هم موضوع الكلام السابق.
وجملة :﴿ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ ﴾ في الآية تجعل الطعن في الدين الإسلامي من أسباب قتال المسلمين للمشركين والكفار ومبرراته. وهذا حق لا ريب فيه ؛ لأن الطعن يؤدي إلى الصد عنه. وبالتالي إنه عدوان على الدين وأهله وحرية الدعوة إليه.
وجملة :﴿ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ ﴾ قد تكون في صدد جميع المشركين بوصفهم أئمة كفر. وقد تكون في معنى التشديد في التحريض على قتال الأشد نكاية منهم في العداء والأذى. وقد يكون سياق الآيات وروحها مما يجعل الرجحان للمعنى الأول. غير أن المعنى الثاني لا يخلو من وجاهة ؛ لأن التنكيل بالكبار والأشد نكاية يحل عقدة الباقين الذين هم تبع لهم. ومتأثرون بهم. والحملة على زعماء الكفار قد تكررت في القرآن من أجل ذلك وبسببه. غير أنها لم تقتصر عليهم، وإنما شملت الكفار عامة مع التشديد على الزعماء. ويصح أن يقال : إن مدى الجملة هنا هو من هذا القبيل. والله أعلم.
١ أكثر المفسرين استيعابا لهذه الروايات هو الطبري..

( ٤ ) اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا : بمعنى فضلوا الثمن القليل أي متاع الدنيا وزينتها على آيات الله ودينه.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٧:﴿ كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ( ٧ ) كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ ( ١ ) لاَ يَرْقُبُواْ ( ٢ ) فِيكُمْ إِلاًّ ( ٣ ) وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ ( ٨ ) اشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً ( ٤ ) فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( ٩ ) لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ ( ١٠ ) فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ( ١١ ) وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ ( ١٢ ) ﴾ ( ٧ – ١٢ ).

في الآيات :

( ١ ) تساؤل يتضمن معنى النفي عما إذا كان يصح أن يكون للمشركين عهد محترم عند الله وعند رسوله.
( ٢ ) واستثناء وجه الخطاب فيه للمسلمين بالنسبة للذين عاهدوهم عند المسجد الحرام، وأمر بأن يستقيموا على عهدهم معهم ما استقاموا هم عليه، فإن في هذا تقوى الله والله يحب المتقين.
( ٣ ) وتساؤل آخر وجه الخطاب فيه كذلك للمسلمين يتضمن أيضا معنى النفي، ثم تقريرا لواقع المشركين وتعليلا لعدم استحقاق عهودهم للاحترام، فإنهم إذا ظهروا عليهم وانتصروا لا يرعون فيهم عهدا ولا ذمة ويعاملونهم معاملة العدو اللدود، وأنهم إنما يحاولون إرضاءهم بالكلام وقلوبهم غير صادقة ولا مخلصة، وإن أكثرهم فاسقون متمردون على الله تعالى خبثاء الطوية، وإنهم لا يرقبون في مؤمن عهدا ولا ذمة، وإنهم معتدون متجاوزون على كل حق في جميع مواقفهم.
( ٤ ) وخطاب موجه إلى المسلمين كذلك بشأنهم : فإذا تابوا عن شركهم وأسلموا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإنهم يصبحون إخوانا لهم في الدين. وفي هذا بيان يفهمه ويدرك قيمته الذين يعلمون ويدركون الأمور. أما إذا نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم الذي قطعوه على أنفسهم للمسلمين وطعنوا في دينهم، فعليهم أن يقاتلوا أئمة الكفر الذين لا يقيمون وزنا لأيمانهم، لعل هذا القتال يضطرهم إلى الانتهاء عن موقفهم الباغي.

تعليق على الآية :

﴿ كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ................... ﴾
والآيات الخمس التالية لها وما روي في صددها من روايات
وما انطوى فيها من أحكام وتلقين ودلالات.
ولم يرو المفسرون فيما اطلعنا عليه رواية خاصة في مناسبة نزول هذه الآيات أو بعضها. وإنما رووا روايات عن المقصود منها ( ١ )١. فمن ذلك أن المقصود من الاستثناء الوارد في الآية الأولى منها أي الآية ( ٧ ) هم بنو خزيمة أو بنو مدلج أو بنو الديل من بني بكر بن كنانة الذين دخلوا في صلح الحديبية مع قريش ولكنهم لم ينقضوا حينما نقض بطون أخرى من بني بكر وظاهرتهم قريش فكان ذلك سببا لحملة الفتح المكي. ومنها أن المقصود منه هم قريش الذين عاهدوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحديبية. وبخاصة زعماءهم الذين يصح عليهم وصف أئمة الكفر مثل أبي سفيان وأبي جهل وأمية بن خلف وعتبة بن شيبة وسهيل بن عمرو. وذكر هذه الأسماء عجيب ؛ لأن منهم من كان قتل يوم بدر مثل أبي جهل وأمية وعتبة. ومنها أن المقصود منه قوم في جواز منطقة المسجد الحرام كان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وآله وسلم عهد على أن لا يدخلوا هذه المنطقة ولا يعطوا للمسلمين جزية. ومن ذلك أن المقصود في الفقرة الأولى من الآية الأولى، ثم في الآيات الأخرى هم المقصودون في آيات السورة الأولى أي المعاهدون الناقضون لعهدهم.
وقد علق الطبري على الروايات التي تقول إن المقصود في الآيات قريش فقال : إن الآيات نزلت بعد فتح مكة وبعد دخول قريش في الإسلام. وهذا سديد صحيح. وقد رجح الرواية التي تقول : إنهم البطن الذي لم ينقض من بني بكر حين نقض العهد البطون الأخرى مع قريش فأمر المسلمون بالاستقامة لهم ما استقاموا عليه، وهذا أيضا وجيه. ولكنه لا يمنع أن يكون أناس آخرون في جوار منطقة المسجد الحرام عاهدهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد فتح مكة فاستقاموا على عهدهم فعنتهم الآية والله أعلم. والرواية التي تقول : إن المقصود من الفقرة الأولى من الآية الأولى أي الآية ( ٧ ) ثم الآيات الأخرى أي ( ٨ – ١٢ ) هم المشركون المعاهدون الناقضون لعهدهم محتملة ومتسقة مع فحوى الآيات وروحها. وقد انطوى فيها تبرير لإعلان براءة الله ورسوله منهم في الآية الأولى ثم في الآية الثالثة من السورة وتبرير للأمر الوارد في الآية الخامسة بقتلهم أينما وجدوا بدون هوادة إلى أن يتوبوا ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة. وفي الآية ( ١١ ) قرينة على ذلك ؛ حيث جاءت بصيغة مماثلة للفقرة الأخيرة من الآية الخامسة.
وعبارات التبرير الواردة في الآيات قوية شديدة تدل على أن المشركين المعاهدين الذين بدا منهم النقض والغدر، والذين أعلنت براءة الله ورسوله منهم كانوا على درجة شديدة من الحقد على المسلمين وتبييت المكر والشر والكيد لهم بحيث كان من المستبعد أن يحترموا العهد احتراما صحيحا. وبحيث انطوى فيها حكمة التنزيل في عدم الكف عن مطاردتهم وقتالهم وقتلهم إلا إذا تابوا نهائيا عن الشرك وأسلموا.
والأمر بالاستقامة في العهد لمن يستقيم عليه من المشركين دليل كما نبهنا من قبل على أن المقصود من المشركين المعلن براءة الله ورسوله منهم والمأمور بقتالهم هم الناقضون البادي غدرهم. ويلحظ أن العبارة مطلقة بدون توقيت، وهذا مهم في بابه كما هو المتبادر.
وجملة :﴿ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ ﴾ بالنسبة لمن يتوبون من المشركين ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة جديرة بالتنويه حيث تلهم روحها معنى خلاص المشركين من تبعة أعمالهم ومواقفهم السابقة. وفي ذلك من التلقين والتشجيع والتسامح وفتح الباب للاندماج في الكيان الإسلامي يسير. والعفو عما سلف ما هو جدير بالإجلال. وما فيه الدلالة على أن غاية الدعوة الإسلامية هي إنشاء كيان إسلامي قوي قائم على المبادئ القويمة السامية التي قامت عليها الدعوة الإسلامية وتيسير الاندماج فيه لكل امرئ مهما كانت حالته ومواقفه السابقة. وهذا متسق مع التقريرات القرآنية الكثيرة. وبخاصة مع الهدف والتلقين المنطويين في آيات التوبة الكثيرة على ما نبهنا عليه في مناسباته. وكلمة :﴿ فإخوانكم ﴾ بخاصة تنطوي مقامها على هدف التحبب والتأنيس لمن ينضوي إلى لواء الإسلام وتؤكد أخوة المنضوين الدينية التي قررتها جملة :﴿ إنما المؤمنون إخوة ﴾ ( الحجرات : ١٠ ) والتي تمثل أقوى الروابط الروحية الإنسانية وأعمقها ؛ لأنها رابطة العقيدة والمبدأ التي تسمو على سائر الروابط. ولقد جاء في آية سورة الأنفال :﴿ قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ ﴾( ٣٨ ). ويبدو أن حكمة التنزيل اقتضت أن يكون المعنى هنا أقوى وأروع وأبعد مدى.
وجملة :﴿ وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ ﴾ في ( الآية : ١٢ ) قد توهم أنها في صدد معاهدين لم يكونوا نكثوا حينما نزلت الآيات. غير أن فحوى آيات السياق وروحها يلهمان بقوة أنها في صدد موضوع الكلام السابق من المعاهدين. بل إن نظم الآية قد يفيد ذلك ؛ حيث عطفت على ما قبلها والضمير فيها راجع إلى الذين هم موضوع الكلام السابق.
وجملة :﴿ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ ﴾ في الآية تجعل الطعن في الدين الإسلامي من أسباب قتال المسلمين للمشركين والكفار ومبرراته. وهذا حق لا ريب فيه ؛ لأن الطعن يؤدي إلى الصد عنه. وبالتالي إنه عدوان على الدين وأهله وحرية الدعوة إليه.
وجملة :﴿ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ ﴾ قد تكون في صدد جميع المشركين بوصفهم أئمة كفر. وقد تكون في معنى التشديد في التحريض على قتال الأشد نكاية منهم في العداء والأذى. وقد يكون سياق الآيات وروحها مما يجعل الرجحان للمعنى الأول. غير أن المعنى الثاني لا يخلو من وجاهة ؛ لأن التنكيل بالكبار والأشد نكاية يحل عقدة الباقين الذين هم تبع لهم. ومتأثرون بهم. والحملة على زعماء الكفار قد تكررت في القرآن من أجل ذلك وبسببه. غير أنها لم تقتصر عليهم، وإنما شملت الكفار عامة مع التشديد على الزعماء. ويصح أن يقال : إن مدى الجملة هنا هو من هذا القبيل. والله أعلم.
١ أكثر المفسرين استيعابا لهذه الروايات هو الطبري..

﴿ أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ ( ١٣ ) قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ ( ١٤ ) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللّهُ عَلَى مَن يَشَاء وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( ١٥ ) أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً ( ١ ) وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ( ١٦ ) ﴾ ( ١٣ – ١٦ ).
عبارات الآيات واضحة. وفيها :
( ١ ) تحريض وجه الخطاب فيه إلى المسلمين بصيغة السؤال عما إذا كان يصح لهم أن يترددوا ويحجموا عن قتال قوم نكثوا أيمانهم بعد العهد وكانوا من قبل يكيدون للنبي صلى الله عليه وآله وسلم. وتآمروا على إخراجه. كما كانوا هم الذين بدأوهم بالبغي والعدوان. وعما إذا كان يصح أن يخشوهم في حين أن الله تعالى وحده هو الأحق بالخشية إن كانوا مؤمنين حقا.
( ٢ ) وتوكيد للتحريض ينطوي على التطمين، فعليهم أن يقاتلوهم. فإن الله معذبهم بأيديهم ومخزيهم وناصر المسلمين عليهم. وشاف بذلك صدور قوم منهم مغيظة محنقة مما بدا منهم نحوهم. وقد يكون هذا القتال وسيلة لهداية الله من شاء هدايته منهم وتوبته عليهم، وهو العليم بما في صدور الناس وطواياهم. الحكيم الذي لا يكون في أوامره وتوجيهاته إلا الحكمة والصواب.
( ٣ ) وتنبيه بصيغة السؤال موجه إلى المسلمين أيضا عما إذا كانوا يحسبون أنهم قد نالوا رضاء الله واستحقوا وعده لهم وانتهت متاعبهم بما جرى وما تم إلى الآن من أحداث في حين أن الله تعالى ما يزال يرى ضرورة لاختبارهم لتمييز المجاهدين المخلصين منهم الذين لم يتخذوا لهم وليا ولا معتمدا ولا بطانة غير الله ورسوله والمؤمنين ولم يجعلوا لغير هؤلاء شركة ودخلا في أنفسهم وقلوبهم.
تعليق على الآية :
﴿ أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ........ ﴾
والآيات الثلاث التي بعدها وما فيها من تلقين وما ورد في صدد تأويلها من أقوال.
ولم يرو المفسرون رواية خاصة في مناسبة نزول هذه الآيات. غير أن الأقوال التي رواها الطبري عن أهل التأويل من التابعين، ومنهم السدي ومجاهد في المقصود فيها متعددة ؛ حيث روي عن بعضهم أنها في صدد قريش والحث على قتالهم بعد أن نكثوا عهدهم في صلح الحديبية. كما روي عن بعض آخر أنها في صدد قتال الذين أعلنت البراءة منهم بسبب نقضهم وغدرهم وأمهلوا أربعة أشهر.
وصلة الآيات بما قبلها وثيقة حتى كأنها جزء منها واستمرار لها. وهذا يجعل القول إنها في صدد مشركي قريش محل تساؤل وتوقف ؛ لأن الآيات نزلت بعد فتح مكة. وقد دخلت قريش في الإسلام وانتهوا من موقف الشرك والعداء. وقد يجعل القول الثاني هو الأوجه غير أن الوصف الذي انطوى في الآية الأولى يثير الحيرة. لأن وصف :﴿ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾ ينطبق لأول وهلة على قريش. ولقد كان من الذين دخلوا في صلح الحديبية إلى جانب قريش بطون بني بكر ؛ لأنهم حلفاء لهم في حين أنه دخل في هذا الصلح إلى جانب النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بنو خزاعة لما كان بينهم وبين بني بكر من عداء. ولقد بقي بعض بطون بني بكر أوفياء لعهدهم حينما نقضه فريق منهم بتشجيع بعض جماعة من قريش على ما ذكرناه آنفا. وكان نقض هذا الفريق سبب زحف النبي صلى الله عليه وآله وسلم على مكة. فلعل من هذا البعض من بدا منهم نكث وغدر بعد الفتح المكي، وكانوا من جملة من كان موضوع البراءة. ولقد كانوا في الأصل حلفاء قريش فيمكن أن يكونوا وصفوا بما جاء في الآية على هذا الاعتبار. ولقد روى البغوي عن مجاهد أن جملة :﴿ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ ﴾ قد قصد بها خزاعة حلفاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذين أعانت قريش أعداءهم بني بكر عليهم. وهذه الرواية قد تؤيد ما خمناه من أن يكون الذين بدا منهم نكث وغدر بعد الفتح المكي هم بعض بني بكر، في حين ظل بعض آخر أوفياء لعهدهم. وتفيد الرواية كذلك أن بني خزاعة قد اعتنقوا الإسلام فصار يصح عليهم جملة :﴿ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ ﴾ ويمكن أن يكون هذا نتيجة لما كان من تحالف النبي صلى الله عليه وآله وسلم معهم ثم انتصاره لهم وزحفه على مكة. والله أعلم.
وفي الآية الأولى بخاصة توكيد لصواب التوجيهات التي وجهناها في سياق الآيات السابقة إن شاء الله. وهي كون الأمر بالقتال والتحريض عليه إنما كان ضد الناكثين والذين بدأوا المسلمين بالعدوان والأذى والطاعنين في دينهم.
ولقد قال المفسرون : إن الفقرة الأخيرة من الآية الثالثة احتوت إشارة إلى ما علم الله تعالى من دخول أهل مكة في الإسلام. والقول يكون وجيها لو كان نزول الآيات قبل الفتح المكي. وعلى كل حال فإن في الفقرة بشرى للمسلمين وتشجيعا لهم على قتال الناكثين من جهة. وإبقاء لباب التوبة والإسلام مفتوحا أمام المشركين والناكثين من جهة أخرى. وهو ما جرى عليه القرآن في مواضع ومناسبات عديدة سابقة. وفيه ما فيه من روعة وجلال من حيث تركيز كون هداية الناس بهدى الإسلام والرسالة المحمدية التي هي الهدف الجوهري في كل المواقف والمناسبات.
ولقد روى الطبري عن حذيفة وزيد بن وهب في صدد وصف أئمة الكفر : أن أهل هذه الآية لم يقاتلوا بعد. بحيث تفيد الرواية أنهم غير أئمة الكفر في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأنهم جماعة آخرون يظهرون بعد. وروى الطبرسي عن علي بن أبي طالب أنه قرأ هذه الآيات يوم البصرة الذي كانت المعركة فيه بينه مع أنصاره من جهة وبين عائشة وطلحة والزبير وأنصارهم من جهة ثم قال : أما والله لقد عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلي قال : يا علي لتقاتلن الفئة الناكثة والفئة الباغية والفئة المارقة.
والرواية الأولى غريبة. وغير متسقة مع فحوى الآيات وسياقها ؛ حيث إنها تتحدث عن أمور واقعة في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. أما الرواية الثانية فالهوى الشيعي بارز عليها. وهي من نوع ما يرويه رواة الشيعة ومفسروهم على هامش الآيات القرآنية من روايات كثيرة بسبيل تأييد أهوائهم.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٣:﴿ أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ ( ١٣ ) قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ ( ١٤ ) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللّهُ عَلَى مَن يَشَاء وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( ١٥ ) أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً ( ١ ) وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ( ١٦ ) ﴾ ( ١٣ – ١٦ ).

عبارات الآيات واضحة. وفيها :

( ١ ) تحريض وجه الخطاب فيه إلى المسلمين بصيغة السؤال عما إذا كان يصح لهم أن يترددوا ويحجموا عن قتال قوم نكثوا أيمانهم بعد العهد وكانوا من قبل يكيدون للنبي صلى الله عليه وآله وسلم. وتآمروا على إخراجه. كما كانوا هم الذين بدأوهم بالبغي والعدوان. وعما إذا كان يصح أن يخشوهم في حين أن الله تعالى وحده هو الأحق بالخشية إن كانوا مؤمنين حقا.
( ٢ ) وتوكيد للتحريض ينطوي على التطمين، فعليهم أن يقاتلوهم. فإن الله معذبهم بأيديهم ومخزيهم وناصر المسلمين عليهم. وشاف بذلك صدور قوم منهم مغيظة محنقة مما بدا منهم نحوهم. وقد يكون هذا القتال وسيلة لهداية الله من شاء هدايته منهم وتوبته عليهم، وهو العليم بما في صدور الناس وطواياهم. الحكيم الذي لا يكون في أوامره وتوجيهاته إلا الحكمة والصواب.
( ٣ ) وتنبيه بصيغة السؤال موجه إلى المسلمين أيضا عما إذا كانوا يحسبون أنهم قد نالوا رضاء الله واستحقوا وعده لهم وانتهت متاعبهم بما جرى وما تم إلى الآن من أحداث في حين أن الله تعالى ما يزال يرى ضرورة لاختبارهم لتمييز المجاهدين المخلصين منهم الذين لم يتخذوا لهم وليا ولا معتمدا ولا بطانة غير الله ورسوله والمؤمنين ولم يجعلوا لغير هؤلاء شركة ودخلا في أنفسهم وقلوبهم.

تعليق على الآية :

﴿ أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ........ ﴾
والآيات الثلاث التي بعدها وما فيها من تلقين وما ورد في صدد تأويلها من أقوال.
ولم يرو المفسرون رواية خاصة في مناسبة نزول هذه الآيات. غير أن الأقوال التي رواها الطبري عن أهل التأويل من التابعين، ومنهم السدي ومجاهد في المقصود فيها متعددة ؛ حيث روي عن بعضهم أنها في صدد قريش والحث على قتالهم بعد أن نكثوا عهدهم في صلح الحديبية. كما روي عن بعض آخر أنها في صدد قتال الذين أعلنت البراءة منهم بسبب نقضهم وغدرهم وأمهلوا أربعة أشهر.
وصلة الآيات بما قبلها وثيقة حتى كأنها جزء منها واستمرار لها. وهذا يجعل القول إنها في صدد مشركي قريش محل تساؤل وتوقف ؛ لأن الآيات نزلت بعد فتح مكة. وقد دخلت قريش في الإسلام وانتهوا من موقف الشرك والعداء. وقد يجعل القول الثاني هو الأوجه غير أن الوصف الذي انطوى في الآية الأولى يثير الحيرة. لأن وصف :﴿ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾ ينطبق لأول وهلة على قريش. ولقد كان من الذين دخلوا في صلح الحديبية إلى جانب قريش بطون بني بكر ؛ لأنهم حلفاء لهم في حين أنه دخل في هذا الصلح إلى جانب النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بنو خزاعة لما كان بينهم وبين بني بكر من عداء. ولقد بقي بعض بطون بني بكر أوفياء لعهدهم حينما نقضه فريق منهم بتشجيع بعض جماعة من قريش على ما ذكرناه آنفا. وكان نقض هذا الفريق سبب زحف النبي صلى الله عليه وآله وسلم على مكة. فلعل من هذا البعض من بدا منهم نكث وغدر بعد الفتح المكي، وكانوا من جملة من كان موضوع البراءة. ولقد كانوا في الأصل حلفاء قريش فيمكن أن يكونوا وصفوا بما جاء في الآية على هذا الاعتبار. ولقد روى البغوي عن مجاهد أن جملة :﴿ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ ﴾ قد قصد بها خزاعة حلفاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذين أعانت قريش أعداءهم بني بكر عليهم. وهذه الرواية قد تؤيد ما خمناه من أن يكون الذين بدا منهم نكث وغدر بعد الفتح المكي هم بعض بني بكر، في حين ظل بعض آخر أوفياء لعهدهم. وتفيد الرواية كذلك أن بني خزاعة قد اعتنقوا الإسلام فصار يصح عليهم جملة :﴿ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ ﴾ ويمكن أن يكون هذا نتيجة لما كان من تحالف النبي صلى الله عليه وآله وسلم معهم ثم انتصاره لهم وزحفه على مكة. والله أعلم.
وفي الآية الأولى بخاصة توكيد لصواب التوجيهات التي وجهناها في سياق الآيات السابقة إن شاء الله. وهي كون الأمر بالقتال والتحريض عليه إنما كان ضد الناكثين والذين بدأوا المسلمين بالعدوان والأذى والطاعنين في دينهم.
ولقد قال المفسرون : إن الفقرة الأخيرة من الآية الثالثة احتوت إشارة إلى ما علم الله تعالى من دخول أهل مكة في الإسلام. والقول يكون وجيها لو كان نزول الآيات قبل الفتح المكي. وعلى كل حال فإن في الفقرة بشرى للمسلمين وتشجيعا لهم على قتال الناكثين من جهة. وإبقاء لباب التوبة والإسلام مفتوحا أمام المشركين والناكثين من جهة أخرى. وهو ما جرى عليه القرآن في مواضع ومناسبات عديدة سابقة. وفيه ما فيه من روعة وجلال من حيث تركيز كون هداية الناس بهدى الإسلام والرسالة المحمدية التي هي الهدف الجوهري في كل المواقف والمناسبات.
ولقد روى الطبري عن حذيفة وزيد بن وهب في صدد وصف أئمة الكفر : أن أهل هذه الآية لم يقاتلوا بعد. بحيث تفيد الرواية أنهم غير أئمة الكفر في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأنهم جماعة آخرون يظهرون بعد. وروى الطبرسي عن علي بن أبي طالب أنه قرأ هذه الآيات يوم البصرة الذي كانت المعركة فيه بينه مع أنصاره من جهة وبين عائشة وطلحة والزبير وأنصارهم من جهة ثم قال : أما والله لقد عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلي قال : يا علي لتقاتلن الفئة الناكثة والفئة الباغية والفئة المارقة.
والرواية الأولى غريبة. وغير متسقة مع فحوى الآيات وسياقها ؛ حيث إنها تتحدث عن أمور واقعة في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. أما الرواية الثانية فالهوى الشيعي بارز عليها. وهي من نوع ما يرويه رواة الشيعة ومفسروهم على هامش الآيات القرآنية من روايات كثيرة بسبيل تأييد أهوائهم.

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٣:﴿ أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ ( ١٣ ) قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ ( ١٤ ) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللّهُ عَلَى مَن يَشَاء وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( ١٥ ) أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً ( ١ ) وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ( ١٦ ) ﴾ ( ١٣ – ١٦ ).

عبارات الآيات واضحة. وفيها :

( ١ ) تحريض وجه الخطاب فيه إلى المسلمين بصيغة السؤال عما إذا كان يصح لهم أن يترددوا ويحجموا عن قتال قوم نكثوا أيمانهم بعد العهد وكانوا من قبل يكيدون للنبي صلى الله عليه وآله وسلم. وتآمروا على إخراجه. كما كانوا هم الذين بدأوهم بالبغي والعدوان. وعما إذا كان يصح أن يخشوهم في حين أن الله تعالى وحده هو الأحق بالخشية إن كانوا مؤمنين حقا.
( ٢ ) وتوكيد للتحريض ينطوي على التطمين، فعليهم أن يقاتلوهم. فإن الله معذبهم بأيديهم ومخزيهم وناصر المسلمين عليهم. وشاف بذلك صدور قوم منهم مغيظة محنقة مما بدا منهم نحوهم. وقد يكون هذا القتال وسيلة لهداية الله من شاء هدايته منهم وتوبته عليهم، وهو العليم بما في صدور الناس وطواياهم. الحكيم الذي لا يكون في أوامره وتوجيهاته إلا الحكمة والصواب.
( ٣ ) وتنبيه بصيغة السؤال موجه إلى المسلمين أيضا عما إذا كانوا يحسبون أنهم قد نالوا رضاء الله واستحقوا وعده لهم وانتهت متاعبهم بما جرى وما تم إلى الآن من أحداث في حين أن الله تعالى ما يزال يرى ضرورة لاختبارهم لتمييز المجاهدين المخلصين منهم الذين لم يتخذوا لهم وليا ولا معتمدا ولا بطانة غير الله ورسوله والمؤمنين ولم يجعلوا لغير هؤلاء شركة ودخلا في أنفسهم وقلوبهم.

تعليق على الآية :

﴿ أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ........ ﴾
والآيات الثلاث التي بعدها وما فيها من تلقين وما ورد في صدد تأويلها من أقوال.
ولم يرو المفسرون رواية خاصة في مناسبة نزول هذه الآيات. غير أن الأقوال التي رواها الطبري عن أهل التأويل من التابعين، ومنهم السدي ومجاهد في المقصود فيها متعددة ؛ حيث روي عن بعضهم أنها في صدد قريش والحث على قتالهم بعد أن نكثوا عهدهم في صلح الحديبية. كما روي عن بعض آخر أنها في صدد قتال الذين أعلنت البراءة منهم بسبب نقضهم وغدرهم وأمهلوا أربعة أشهر.
وصلة الآيات بما قبلها وثيقة حتى كأنها جزء منها واستمرار لها. وهذا يجعل القول إنها في صدد مشركي قريش محل تساؤل وتوقف ؛ لأن الآيات نزلت بعد فتح مكة. وقد دخلت قريش في الإسلام وانتهوا من موقف الشرك والعداء. وقد يجعل القول الثاني هو الأوجه غير أن الوصف الذي انطوى في الآية الأولى يثير الحيرة. لأن وصف :﴿ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾ ينطبق لأول وهلة على قريش. ولقد كان من الذين دخلوا في صلح الحديبية إلى جانب قريش بطون بني بكر ؛ لأنهم حلفاء لهم في حين أنه دخل في هذا الصلح إلى جانب النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بنو خزاعة لما كان بينهم وبين بني بكر من عداء. ولقد بقي بعض بطون بني بكر أوفياء لعهدهم حينما نقضه فريق منهم بتشجيع بعض جماعة من قريش على ما ذكرناه آنفا. وكان نقض هذا الفريق سبب زحف النبي صلى الله عليه وآله وسلم على مكة. فلعل من هذا البعض من بدا منهم نكث وغدر بعد الفتح المكي، وكانوا من جملة من كان موضوع البراءة. ولقد كانوا في الأصل حلفاء قريش فيمكن أن يكونوا وصفوا بما جاء في الآية على هذا الاعتبار. ولقد روى البغوي عن مجاهد أن جملة :﴿ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ ﴾ قد قصد بها خزاعة حلفاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذين أعانت قريش أعداءهم بني بكر عليهم. وهذه الرواية قد تؤيد ما خمناه من أن يكون الذين بدا منهم نكث وغدر بعد الفتح المكي هم بعض بني بكر، في حين ظل بعض آخر أوفياء لعهدهم. وتفيد الرواية كذلك أن بني خزاعة قد اعتنقوا الإسلام فصار يصح عليهم جملة :﴿ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ ﴾ ويمكن أن يكون هذا نتيجة لما كان من تحالف النبي صلى الله عليه وآله وسلم معهم ثم انتصاره لهم وزحفه على مكة. والله أعلم.
وفي الآية الأولى بخاصة توكيد لصواب التوجيهات التي وجهناها في سياق الآيات السابقة إن شاء الله. وهي كون الأمر بالقتال والتحريض عليه إنما كان ضد الناكثين والذين بدأوا المسلمين بالعدوان والأذى والطاعنين في دينهم.
ولقد قال المفسرون : إن الفقرة الأخيرة من الآية الثالثة احتوت إشارة إلى ما علم الله تعالى من دخول أهل مكة في الإسلام. والقول يكون وجيها لو كان نزول الآيات قبل الفتح المكي. وعلى كل حال فإن في الفقرة بشرى للمسلمين وتشجيعا لهم على قتال الناكثين من جهة. وإبقاء لباب التوبة والإسلام مفتوحا أمام المشركين والناكثين من جهة أخرى. وهو ما جرى عليه القرآن في مواضع ومناسبات عديدة سابقة. وفيه ما فيه من روعة وجلال من حيث تركيز كون هداية الناس بهدى الإسلام والرسالة المحمدية التي هي الهدف الجوهري في كل المواقف والمناسبات.
ولقد روى الطبري عن حذيفة وزيد بن وهب في صدد وصف أئمة الكفر : أن أهل هذه الآية لم يقاتلوا بعد. بحيث تفيد الرواية أنهم غير أئمة الكفر في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأنهم جماعة آخرون يظهرون بعد. وروى الطبرسي عن علي بن أبي طالب أنه قرأ هذه الآيات يوم البصرة الذي كانت المعركة فيه بينه مع أنصاره من جهة وبين عائشة وطلحة والزبير وأنصارهم من جهة ثم قال : أما والله لقد عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلي قال : يا علي لتقاتلن الفئة الناكثة والفئة الباغية والفئة المارقة.
والرواية الأولى غريبة. وغير متسقة مع فحوى الآيات وسياقها ؛ حيث إنها تتحدث عن أمور واقعة في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. أما الرواية الثانية فالهوى الشيعي بارز عليها. وهي من نوع ما يرويه رواة الشيعة ومفسروهم على هامش الآيات القرآنية من روايات كثيرة بسبيل تأييد أهوائهم.

( ١ ) وليجة : مرادفة في معناها للدخيلة بمعنى الولي أو البطانة الذي يدخل في خصيصة شأن المرء.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٣:﴿ أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ ( ١٣ ) قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ ( ١٤ ) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللّهُ عَلَى مَن يَشَاء وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( ١٥ ) أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً ( ١ ) وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ( ١٦ ) ﴾ ( ١٣ – ١٦ ).

عبارات الآيات واضحة. وفيها :

( ١ ) تحريض وجه الخطاب فيه إلى المسلمين بصيغة السؤال عما إذا كان يصح لهم أن يترددوا ويحجموا عن قتال قوم نكثوا أيمانهم بعد العهد وكانوا من قبل يكيدون للنبي صلى الله عليه وآله وسلم. وتآمروا على إخراجه. كما كانوا هم الذين بدأوهم بالبغي والعدوان. وعما إذا كان يصح أن يخشوهم في حين أن الله تعالى وحده هو الأحق بالخشية إن كانوا مؤمنين حقا.
( ٢ ) وتوكيد للتحريض ينطوي على التطمين، فعليهم أن يقاتلوهم. فإن الله معذبهم بأيديهم ومخزيهم وناصر المسلمين عليهم. وشاف بذلك صدور قوم منهم مغيظة محنقة مما بدا منهم نحوهم. وقد يكون هذا القتال وسيلة لهداية الله من شاء هدايته منهم وتوبته عليهم، وهو العليم بما في صدور الناس وطواياهم. الحكيم الذي لا يكون في أوامره وتوجيهاته إلا الحكمة والصواب.
( ٣ ) وتنبيه بصيغة السؤال موجه إلى المسلمين أيضا عما إذا كانوا يحسبون أنهم قد نالوا رضاء الله واستحقوا وعده لهم وانتهت متاعبهم بما جرى وما تم إلى الآن من أحداث في حين أن الله تعالى ما يزال يرى ضرورة لاختبارهم لتمييز المجاهدين المخلصين منهم الذين لم يتخذوا لهم وليا ولا معتمدا ولا بطانة غير الله ورسوله والمؤمنين ولم يجعلوا لغير هؤلاء شركة ودخلا في أنفسهم وقلوبهم.

تعليق على الآية :

﴿ أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ........ ﴾
والآيات الثلاث التي بعدها وما فيها من تلقين وما ورد في صدد تأويلها من أقوال.
ولم يرو المفسرون رواية خاصة في مناسبة نزول هذه الآيات. غير أن الأقوال التي رواها الطبري عن أهل التأويل من التابعين، ومنهم السدي ومجاهد في المقصود فيها متعددة ؛ حيث روي عن بعضهم أنها في صدد قريش والحث على قتالهم بعد أن نكثوا عهدهم في صلح الحديبية. كما روي عن بعض آخر أنها في صدد قتال الذين أعلنت البراءة منهم بسبب نقضهم وغدرهم وأمهلوا أربعة أشهر.
وصلة الآيات بما قبلها وثيقة حتى كأنها جزء منها واستمرار لها. وهذا يجعل القول إنها في صدد مشركي قريش محل تساؤل وتوقف ؛ لأن الآيات نزلت بعد فتح مكة. وقد دخلت قريش في الإسلام وانتهوا من موقف الشرك والعداء. وقد يجعل القول الثاني هو الأوجه غير أن الوصف الذي انطوى في الآية الأولى يثير الحيرة. لأن وصف :﴿ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾ ينطبق لأول وهلة على قريش. ولقد كان من الذين دخلوا في صلح الحديبية إلى جانب قريش بطون بني بكر ؛ لأنهم حلفاء لهم في حين أنه دخل في هذا الصلح إلى جانب النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بنو خزاعة لما كان بينهم وبين بني بكر من عداء. ولقد بقي بعض بطون بني بكر أوفياء لعهدهم حينما نقضه فريق منهم بتشجيع بعض جماعة من قريش على ما ذكرناه آنفا. وكان نقض هذا الفريق سبب زحف النبي صلى الله عليه وآله وسلم على مكة. فلعل من هذا البعض من بدا منهم نكث وغدر بعد الفتح المكي، وكانوا من جملة من كان موضوع البراءة. ولقد كانوا في الأصل حلفاء قريش فيمكن أن يكونوا وصفوا بما جاء في الآية على هذا الاعتبار. ولقد روى البغوي عن مجاهد أن جملة :﴿ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ ﴾ قد قصد بها خزاعة حلفاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذين أعانت قريش أعداءهم بني بكر عليهم. وهذه الرواية قد تؤيد ما خمناه من أن يكون الذين بدا منهم نكث وغدر بعد الفتح المكي هم بعض بني بكر، في حين ظل بعض آخر أوفياء لعهدهم. وتفيد الرواية كذلك أن بني خزاعة قد اعتنقوا الإسلام فصار يصح عليهم جملة :﴿ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ ﴾ ويمكن أن يكون هذا نتيجة لما كان من تحالف النبي صلى الله عليه وآله وسلم معهم ثم انتصاره لهم وزحفه على مكة. والله أعلم.
وفي الآية الأولى بخاصة توكيد لصواب التوجيهات التي وجهناها في سياق الآيات السابقة إن شاء الله. وهي كون الأمر بالقتال والتحريض عليه إنما كان ضد الناكثين والذين بدأوا المسلمين بالعدوان والأذى والطاعنين في دينهم.
ولقد قال المفسرون : إن الفقرة الأخيرة من الآية الثالثة احتوت إشارة إلى ما علم الله تعالى من دخول أهل مكة في الإسلام. والقول يكون وجيها لو كان نزول الآيات قبل الفتح المكي. وعلى كل حال فإن في الفقرة بشرى للمسلمين وتشجيعا لهم على قتال الناكثين من جهة. وإبقاء لباب التوبة والإسلام مفتوحا أمام المشركين والناكثين من جهة أخرى. وهو ما جرى عليه القرآن في مواضع ومناسبات عديدة سابقة. وفيه ما فيه من روعة وجلال من حيث تركيز كون هداية الناس بهدى الإسلام والرسالة المحمدية التي هي الهدف الجوهري في كل المواقف والمناسبات.
ولقد روى الطبري عن حذيفة وزيد بن وهب في صدد وصف أئمة الكفر : أن أهل هذه الآية لم يقاتلوا بعد. بحيث تفيد الرواية أنهم غير أئمة الكفر في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأنهم جماعة آخرون يظهرون بعد. وروى الطبرسي عن علي بن أبي طالب أنه قرأ هذه الآيات يوم البصرة الذي كانت المعركة فيه بينه مع أنصاره من جهة وبين عائشة وطلحة والزبير وأنصارهم من جهة ثم قال : أما والله لقد عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلي قال : يا علي لتقاتلن الفئة الناكثة والفئة الباغية والفئة المارقة.
والرواية الأولى غريبة. وغير متسقة مع فحوى الآيات وسياقها ؛ حيث إنها تتحدث عن أمور واقعة في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. أما الرواية الثانية فالهوى الشيعي بارز عليها. وهي من نوع ما يرويه رواة الشيعة ومفسروهم على هامش الآيات القرآنية من روايات كثيرة بسبيل تأييد أهوائهم.

( ١ ) يعمروا، وعمارة : هنا بمعنى الخدمة والصيانة وقيل : إنها تعني كذلك كثرة الغشيان للمساجد.
( ٢ ) شاهدين على أنفسهم بالكفر : بعضهم أول الجملة بأنهم الذين كانوا يعترفون بشكرهم وكفرهم. وبعضهم أولها بأن كفرهم وشركهم بمثابة شهادة منهم على أنفسهم، وهذا أوجه فيما هو المتبادر.
﴿ مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ ( ١ ) مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ ( ٢ ) أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ ( ١٧ ) إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَـئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ ( ١٨ ) أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ ( ٣ ) وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ( ١٩ ) الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ( ٢٠ ) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ ( ٢١ ) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ( ٢٢ ) ﴾ ( ١٧ – ٢٢ ).

في الآيات :

( ١ ) تقرير بأنه لا يصح أن يكون المشركون عمارا لمساجد الله ومتولين لأمورها في حين أن شركهم شاهد منهم على أنفسهم بأنهم غير مؤمنين بالله وحده والمساجد مساجد الله وحده. وبأنهم مهما عملوا من أعمال يظنون أنها خدمة لله فهي حابطة ومصيرهم الخلود في النار.
( ٢ ) وتعقيب تقريري بأن الذين يصح أن يكونوا عمارا لمساجد الله هم الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ولا يخافون أحدا غير الله. فهؤلاء هم الذين يمكن أن يكونوا على هدى من الله وأن يستحقوا رضاءه.
( ٣ ) وسؤال استنكاري موجه للسامعين والراجح للمسلمين على ما يستلهم من روح الآيات عما إذا كان – والحالة هذه – يصح أن يجعلوا الذين يقومون بمهمة سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام من المشركين مثل الذين آمنوا بالله واليوم الآخر وجاهدوا في سبيل الله وفي درجتهم ومنزلتهم، وتقرير بمثابة الإجابة بأن الفريقين لا يمكن أن يكونوا سواء عند الله. وإن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا هم الأعظم درجة عنده. وإنهم هم الفائزون المبشرون برضوانه ورحمته. والخالدون في جناته.

تعليق على الآية :

﴿ مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله.............. ﴾ الخ
والآيات الخمس التالية لها
وما ورد في صددها من روايات وما انطوى فيها من تلقين وصور
موضوع الآيات فصل جديد، ولقد روي في مناسبة نزولها روايات عديدة ومختلفة. فقد روى الطبري أن قريشا افتخرت بما تفعله من سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام وقالت : لا أحد أفضل منا، فأنزل الله الآيات ردا عليهم. وروي عن النعمان بن بشير أنه كان في نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في يوم جمعة فقال رجل منهم : ما أبالي أن لا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج، وقال آخر : بل عمارة المسجد الحرام، وقال آخر : بل الجهاد في سبيل الله خير مما قلتم، فزجرهم عمر وقال : لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن إذا صليت الجمعة دخلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاستفتيته فيما اختلفتم فيه ففعل فأنزل الله :﴿ أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ ﴾ الآية. وروي أن المسلمين أقبلوا يوم بدر يعيرون الأسرى من المشركين وفيهم العباس عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : لئن سبقتمونا بالإسلام والهجرة والجهاد لقد كنا نعمر المسجد الحرام ونسقي الحاج ونفك العاني ( الأسير ) فأنزل الله :﴿ أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ ﴾ الآية. وروي أنها نزلت في العباس وعلي وطلحة بن شيبة حيث اجتمع ثلاثتهم فقال الأول : أنا أفضلكم أنا أسقي حجاج بيت الله، وقال طلحة : أنا أعمر مسجد الله، وقال علي : أنا هاجرت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأجاهد معه في سبيل الله، فأنزل الله :﴿ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً ﴾. وروى الطبرسي أن عليا قال لعمه العباس : ألا تهاجر وتلحق برسول الله ؟ فقال : ألست في أفضل من الهجرة أعمر المسجد الحرام وأسقي حاج بيت الله فنزلت :﴿ أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ............. ﴾.
والآيتان الأولى والثانية تنفيان حق المشركين وأهليتهم لعمارة مساجد الله وتقرران كون هذا الحق والأهلية هما للذين آمنوا بالله وباليوم الآخر وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة ولم يخشوا إلا الله، حيث يلهم هذا أن أصل المفاضلة لم يكن بين مؤمنين فيما بينهم وإنما كان في صدد نفي صلاحية المشركين وحقهم في عمارة مساجد الله التي منها المسجد الحرام. فاحتوت الآية الأولى ردا على ذلك وقررت الثانية أن المؤمنين هم الأولى به. وهذا يلحظ أيضا في الآيات الأربع التالية للآيتين ؛ لأنها تندد بجعل سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام في درجة الإيمان بالله والجهاد في سبيله حيث يفيد هذا أن مؤمنين قالوا ذلك وأن المفاضلة ليست بالنسبة لمؤمنين يقومون بالمهمتين ولكنها بالنسبة لمشركين يقومون بهما لأنه ليس من محل للمفاضلة لو كان هؤلاء من المؤمنين. وهذا يسوغ القول : إن الروايات التي تذكر المفاضلة أو المفاخرة بين مؤمنين فيما هو الأفضل لا تنطبق تماما على مدى الآيات. وكذلك الروايات التي تذكر أقوال العباس في بدر أو لعلي بن أبي طالب لا تنطبق ؛ لأنه ليس فيها نسبة ذلك القول إلى مؤمنين. وهذا فضلا عن أن بعض الروايات يفيد أن الآيات نزلت قبل فتح مكة مع أن السياق جميعه هو بعد هذا الفتح.
ولقد تبادر لنا احتمالات أخرى يمكن أن تطبق على هذه الآيات أكثر. منها أن يكون وقع جدل بين مؤمنين حول ما إذا كان للذين كانوا يقومون بسقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام وهم على شركهم ثواب ومنزلة عند الله على اعتبار أنهم كانوا يخدمون بيته وحجاجه. فسئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك فنزلت الآيات للرد والبيان وجاءت الآيتان الأوليان منها كمقدمة عامة الشمول. ومنها أن تكون حكمة التنزيل اقتضت الإيحاء بها لتبرير منع المشركين من دخول المسجد الحرام الذي كان روي أنه كان مما أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإعلان يوم الحج الأكبر، ونودي به على ما ذكرناه في سياق شرح الآية الثالثة من السورة. ولعل بعض المؤمنين القرشيين أو غيرهم جادلوا في أمر منع المشركين من الدخول إلى المسجد الحرام ونوهوا بما كان يقوم به بعضهم من خدمات للمسجد الحرام وللحجاج. أو بما كان يعود على أهل هذا المسجد من الزوار المشركين من فوائد. ولقد أمرت الآية ( ٢٨ ) من هذه السورة التي تأتي بعد قليل منع المشركين من دخول المسجد الحرام بأسلوب تشريعي حاسم، وعللت ذلك بأنهم رجس، وطمأنت المسلمين بأنهم إذا كانوا يخشون سوء الحالة الاقتصادية والمعايشة بسبب ذلك، فإن الله كفيل بإغنائهم عنهم إن شاء حيث تبدو صلة ما بين هذه الآية والآيات التي نحن في صددها وحيث قضت الحكمة الإيحاء بها بسبيل ذلك ولتدعيم ذلك الإعلان الذي أمر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم الحج الأكبر. والله أعلم.
وبهذا البيان تبدو الصلة الموضوعية والظرفية واضحة بين هذه الآيات والسياق السابق مهما بدا عليها أنها فصل جديد.
ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية ( ١٨ ) حديثا رواه الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان ). وحديثا آخر عن انس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( إنما عمار المساجد هم أهل الله ). والحديث الأول رواه الترمذي أيضا بزيادة في آخره وهي :( قال الله تعالى :﴿ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ﴾ ( ١ )١. والحديثان متساوقان في التنويه والتلقين مع الآية الكريمة كما هو واضح.
والآيات في حد ذاتها مطلقة العبارة وعامة الهدف والتقرير. وما احتوته متسق مع ما تكرر تقريره في القرآن كثيرا من أن الإيمان بالله واليوم الآخر والأعمال الصالحة التي تقرب إلى الله كالهجرة والجهاد بالمال والنفس في سبيله هي التي تستحق رضاء الله وتدل على الإخلاص له. وإن كل خدمة أو عمل مع الشرك بالله حابط عند الله، وإنه لا يصح مهما عظم في الأذهان والعرف أن يقاس مع الإيمان بالله والإخلاص له والجهاد في سبيله أو يكون في منزلته. وواضح أن هذه التقريرات المتكررة بالأساليب المتنوعة تستهدف فيما تستهدفه تدعيم الدعوة إلى سبيل الله والإخلاص له وحده في كل عمل وقول. والتنويه بمن ينضوي إليها ويخلص فيها ويجاهد في سبيلها وما له عند الله من عظيم المنزلة والأجر.
هذا، ومع أن ذكر السقاية والعمارة لم يقصد به مدلولها الخاص فقط وإنما قصد به الجنس وهو خدمة المسجد الحرام وحجاجه كما تلهم روح الآيات فإن في ورود الكلمتين توكيدا وتأييدا لما روته الروايات العربية ( ٢ )٢. من وجود مناصب ومهمات عامة في مكة قبل الإسلام ظلت إلى الفتح الإسلامي. وكان يقوم عليها زعماء البيوتات القرشية الرفيعة. وقد كانت السقاية في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في عهدة عمه العباس بن عبد المطلب والحجابة أو مفتاح البيت في عهدة طلحة بن عثمان بن شيبة. وقد كان من جملة تلك المناصب والمهام الرفادة واللواء والقيادة والسفارة والديات ورئاسة دار الندوة والأموال المحجرة والأعنة على ما ذكرته تلك الروايات. والسقاية هي تهيئة الماء الصالح للحجاج. والرفادة هي إكرام الحجاج وإطعام المحتاجين منهم. والديات هي جمع ما يترتب على قريش من الديات على ما يقع من بعض أفرادهم من جنايات الدم وفقا للتقاليد القبلية. واللواء هو عقد راية الحرب وتسليمها للقائد. والقيادة هي قيادة الحرب والحملات الحربية. والسفارة هي القيام بالمفاوضات والصلات بين قريش والقبائل الأخرى لحل المشاكل التي تقوم بين الطرفين. والأموال المحجرة هي الإشراف على ما كان يوقف وينذر من أموال الكعبة والأصنام، والأعنة هي قيادة الخيل. وقد كان يتألف من أصحاب هذه المناصب مجلس له الكلمة والنفوذ. وكان يتولى أمور مكة العامة وسياستها ومصالحها ويجتمع في دار قرب الكعبة تسمى دار الندوة.
وتروي الروايات أن هذه الأمور قد رتبت من قبل قصي بن كنانة أحد أجداد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأجداد الأسر القرشية التي تلتقي مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في النسب. ويخمن وجوده قبل الإسلام بنحو مائة وخمسين سنة ؛ حيث نبغ واستطاع أن يبسط حكمه على مكة.
ولقد أثر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال في خطبته عقب فتحه مكة :( ألا إن كل مأثرة أو دم أو مال يدعى فهو تحت قدمي هاتين إلا سدانة البيت وسقاية الحاج ) وأنه أبقى مفتاح الكعبة مع عثمان بن طلحة وقال له : خذوها يا بني طلحة تالدة خالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم وأبى أن يستجيب لعمه العباس الذي طلب منه أن يجمع لبني عبد المطلب السدانة والسقاية. واكتفى بإ
﴿ مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ ( ١ ) مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ ( ٢ ) أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ ( ١٧ ) إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَـئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ ( ١٨ ) أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ ( ٣ ) وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ( ١٩ ) الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ( ٢٠ ) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ ( ٢١ ) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ( ٢٢ ) ﴾ ( ١٧ – ٢٢ ).

في الآيات :

( ١ ) تقرير بأنه لا يصح أن يكون المشركون عمارا لمساجد الله ومتولين لأمورها في حين أن شركهم شاهد منهم على أنفسهم بأنهم غير مؤمنين بالله وحده والمساجد مساجد الله وحده. وبأنهم مهما عملوا من أعمال يظنون أنها خدمة لله فهي حابطة ومصيرهم الخلود في النار.
( ٢ ) وتعقيب تقريري بأن الذين يصح أن يكونوا عمارا لمساجد الله هم الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ولا يخافون أحدا غير الله. فهؤلاء هم الذين يمكن أن يكونوا على هدى من الله وأن يستحقوا رضاءه.
( ٣ ) وسؤال استنكاري موجه للسامعين والراجح للمسلمين على ما يستلهم من روح الآيات عما إذا كان – والحالة هذه – يصح أن يجعلوا الذين يقومون بمهمة سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام من المشركين مثل الذين آمنوا بالله واليوم الآخر وجاهدوا في سبيل الله وفي درجتهم ومنزلتهم، وتقرير بمثابة الإجابة بأن الفريقين لا يمكن أن يكونوا سواء عند الله. وإن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا هم الأعظم درجة عنده. وإنهم هم الفائزون المبشرون برضوانه ورحمته. والخالدون في جناته.

تعليق على الآية :

﴿ مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله.............. ﴾ الخ
والآيات الخمس التالية لها
وما ورد في صددها من روايات وما انطوى فيها من تلقين وصور
موضوع الآيات فصل جديد، ولقد روي في مناسبة نزولها روايات عديدة ومختلفة. فقد روى الطبري أن قريشا افتخرت بما تفعله من سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام وقالت : لا أحد أفضل منا، فأنزل الله الآيات ردا عليهم. وروي عن النعمان بن بشير أنه كان في نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في يوم جمعة فقال رجل منهم : ما أبالي أن لا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج، وقال آخر : بل عمارة المسجد الحرام، وقال آخر : بل الجهاد في سبيل الله خير مما قلتم، فزجرهم عمر وقال : لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن إذا صليت الجمعة دخلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاستفتيته فيما اختلفتم فيه ففعل فأنزل الله :﴿ أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ ﴾ الآية. وروي أن المسلمين أقبلوا يوم بدر يعيرون الأسرى من المشركين وفيهم العباس عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : لئن سبقتمونا بالإسلام والهجرة والجهاد لقد كنا نعمر المسجد الحرام ونسقي الحاج ونفك العاني ( الأسير ) فأنزل الله :﴿ أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ ﴾ الآية. وروي أنها نزلت في العباس وعلي وطلحة بن شيبة حيث اجتمع ثلاثتهم فقال الأول : أنا أفضلكم أنا أسقي حجاج بيت الله، وقال طلحة : أنا أعمر مسجد الله، وقال علي : أنا هاجرت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأجاهد معه في سبيل الله، فأنزل الله :﴿ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً ﴾. وروى الطبرسي أن عليا قال لعمه العباس : ألا تهاجر وتلحق برسول الله ؟ فقال : ألست في أفضل من الهجرة أعمر المسجد الحرام وأسقي حاج بيت الله فنزلت :﴿ أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ............. ﴾.
والآيتان الأولى والثانية تنفيان حق المشركين وأهليتهم لعمارة مساجد الله وتقرران كون هذا الحق والأهلية هما للذين آمنوا بالله وباليوم الآخر وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة ولم يخشوا إلا الله، حيث يلهم هذا أن أصل المفاضلة لم يكن بين مؤمنين فيما بينهم وإنما كان في صدد نفي صلاحية المشركين وحقهم في عمارة مساجد الله التي منها المسجد الحرام. فاحتوت الآية الأولى ردا على ذلك وقررت الثانية أن المؤمنين هم الأولى به. وهذا يلحظ أيضا في الآيات الأربع التالية للآيتين ؛ لأنها تندد بجعل سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام في درجة الإيمان بالله والجهاد في سبيله حيث يفيد هذا أن مؤمنين قالوا ذلك وأن المفاضلة ليست بالنسبة لمؤمنين يقومون بالمهمتين ولكنها بالنسبة لمشركين يقومون بهما لأنه ليس من محل للمفاضلة لو كان هؤلاء من المؤمنين. وهذا يسوغ القول : إن الروايات التي تذكر المفاضلة أو المفاخرة بين مؤمنين فيما هو الأفضل لا تنطبق تماما على مدى الآيات. وكذلك الروايات التي تذكر أقوال العباس في بدر أو لعلي بن أبي طالب لا تنطبق ؛ لأنه ليس فيها نسبة ذلك القول إلى مؤمنين. وهذا فضلا عن أن بعض الروايات يفيد أن الآيات نزلت قبل فتح مكة مع أن السياق جميعه هو بعد هذا الفتح.
ولقد تبادر لنا احتمالات أخرى يمكن أن تطبق على هذه الآيات أكثر. منها أن يكون وقع جدل بين مؤمنين حول ما إذا كان للذين كانوا يقومون بسقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام وهم على شركهم ثواب ومنزلة عند الله على اعتبار أنهم كانوا يخدمون بيته وحجاجه. فسئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك فنزلت الآيات للرد والبيان وجاءت الآيتان الأوليان منها كمقدمة عامة الشمول. ومنها أن تكون حكمة التنزيل اقتضت الإيحاء بها لتبرير منع المشركين من دخول المسجد الحرام الذي كان روي أنه كان مما أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإعلان يوم الحج الأكبر، ونودي به على ما ذكرناه في سياق شرح الآية الثالثة من السورة. ولعل بعض المؤمنين القرشيين أو غيرهم جادلوا في أمر منع المشركين من الدخول إلى المسجد الحرام ونوهوا بما كان يقوم به بعضهم من خدمات للمسجد الحرام وللحجاج. أو بما كان يعود على أهل هذا المسجد من الزوار المشركين من فوائد. ولقد أمرت الآية ( ٢٨ ) من هذه السورة التي تأتي بعد قليل منع المشركين من دخول المسجد الحرام بأسلوب تشريعي حاسم، وعللت ذلك بأنهم رجس، وطمأنت المسلمين بأنهم إذا كانوا يخشون سوء الحالة الاقتصادية والمعايشة بسبب ذلك، فإن الله كفيل بإغنائهم عنهم إن شاء حيث تبدو صلة ما بين هذه الآية والآيات التي نحن في صددها وحيث قضت الحكمة الإيحاء بها بسبيل ذلك ولتدعيم ذلك الإعلان الذي أمر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم الحج الأكبر. والله أعلم.
وبهذا البيان تبدو الصلة الموضوعية والظرفية واضحة بين هذه الآيات والسياق السابق مهما بدا عليها أنها فصل جديد.
ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية ( ١٨ ) حديثا رواه الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان ). وحديثا آخر عن انس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( إنما عمار المساجد هم أهل الله ). والحديث الأول رواه الترمذي أيضا بزيادة في آخره وهي :( قال الله تعالى :﴿ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ﴾ ( ١ )١. والحديثان متساوقان في التنويه والتلقين مع الآية الكريمة كما هو واضح.
والآيات في حد ذاتها مطلقة العبارة وعامة الهدف والتقرير. وما احتوته متسق مع ما تكرر تقريره في القرآن كثيرا من أن الإيمان بالله واليوم الآخر والأعمال الصالحة التي تقرب إلى الله كالهجرة والجهاد بالمال والنفس في سبيله هي التي تستحق رضاء الله وتدل على الإخلاص له. وإن كل خدمة أو عمل مع الشرك بالله حابط عند الله، وإنه لا يصح مهما عظم في الأذهان والعرف أن يقاس مع الإيمان بالله والإخلاص له والجهاد في سبيله أو يكون في منزلته. وواضح أن هذه التقريرات المتكررة بالأساليب المتنوعة تستهدف فيما تستهدفه تدعيم الدعوة إلى سبيل الله والإخلاص له وحده في كل عمل وقول. والتنويه بمن ينضوي إليها ويخلص فيها ويجاهد في سبيلها وما له عند الله من عظيم المنزلة والأجر.
هذا، ومع أن ذكر السقاية والعمارة لم يقصد به مدلولها الخاص فقط وإنما قصد به الجنس وهو خدمة المسجد الحرام وحجاجه كما تلهم روح الآيات فإن في ورود الكلمتين توكيدا وتأييدا لما روته الروايات العربية ( ٢ )٢. من وجود مناصب ومهمات عامة في مكة قبل الإسلام ظلت إلى الفتح الإسلامي. وكان يقوم عليها زعماء البيوتات القرشية الرفيعة. وقد كانت السقاية في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في عهدة عمه العباس بن عبد المطلب والحجابة أو مفتاح البيت في عهدة طلحة بن عثمان بن شيبة. وقد كان من جملة تلك المناصب والمهام الرفادة واللواء والقيادة والسفارة والديات ورئاسة دار الندوة والأموال المحجرة والأعنة على ما ذكرته تلك الروايات. والسقاية هي تهيئة الماء الصالح للحجاج. والرفادة هي إكرام الحجاج وإطعام المحتاجين منهم. والديات هي جمع ما يترتب على قريش من الديات على ما يقع من بعض أفرادهم من جنايات الدم وفقا للتقاليد القبلية. واللواء هو عقد راية الحرب وتسليمها للقائد. والقيادة هي قيادة الحرب والحملات الحربية. والسفارة هي القيام بالمفاوضات والصلات بين قريش والقبائل الأخرى لحل المشاكل التي تقوم بين الطرفين. والأموال المحجرة هي الإشراف على ما كان يوقف وينذر من أموال الكعبة والأصنام، والأعنة هي قيادة الخيل. وقد كان يتألف من أصحاب هذه المناصب مجلس له الكلمة والنفوذ. وكان يتولى أمور مكة العامة وسياستها ومصالحها ويجتمع في دار قرب الكعبة تسمى دار الندوة.
وتروي الروايات أن هذه الأمور قد رتبت من قبل قصي بن كنانة أحد أجداد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأجداد الأسر القرشية التي تلتقي مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في النسب. ويخمن وجوده قبل الإسلام بنحو مائة وخمسين سنة ؛ حيث نبغ واستطاع أن يبسط حكمه على مكة.
ولقد أثر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال في خطبته عقب فتحه مكة :( ألا إن كل مأثرة أو دم أو مال يدعى فهو تحت قدمي هاتين إلا سدانة البيت وسقاية الحاج ) وأنه أبقى مفتاح الكعبة مع عثمان بن طلحة وقال له : خذوها يا بني طلحة تالدة خالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم وأبى أن يستجيب لعمه العباس الذي طلب منه أن يجمع لبني عبد المطلب السدانة والسقاية. واكتفى بإ
( ٣ ) سقاية الحاج : مهمة تدبير الماء للحجاج.
﴿ مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ ( ١ ) مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ ( ٢ ) أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ ( ١٧ ) إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَـئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ ( ١٨ ) أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ ( ٣ ) وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ( ١٩ ) الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ( ٢٠ ) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ ( ٢١ ) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ( ٢٢ ) ﴾ ( ١٧ – ٢٢ ).

في الآيات :

( ١ ) تقرير بأنه لا يصح أن يكون المشركون عمارا لمساجد الله ومتولين لأمورها في حين أن شركهم شاهد منهم على أنفسهم بأنهم غير مؤمنين بالله وحده والمساجد مساجد الله وحده. وبأنهم مهما عملوا من أعمال يظنون أنها خدمة لله فهي حابطة ومصيرهم الخلود في النار.
( ٢ ) وتعقيب تقريري بأن الذين يصح أن يكونوا عمارا لمساجد الله هم الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ولا يخافون أحدا غير الله. فهؤلاء هم الذين يمكن أن يكونوا على هدى من الله وأن يستحقوا رضاءه.
( ٣ ) وسؤال استنكاري موجه للسامعين والراجح للمسلمين على ما يستلهم من روح الآيات عما إذا كان – والحالة هذه – يصح أن يجعلوا الذين يقومون بمهمة سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام من المشركين مثل الذين آمنوا بالله واليوم الآخر وجاهدوا في سبيل الله وفي درجتهم ومنزلتهم، وتقرير بمثابة الإجابة بأن الفريقين لا يمكن أن يكونوا سواء عند الله. وإن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا هم الأعظم درجة عنده. وإنهم هم الفائزون المبشرون برضوانه ورحمته. والخالدون في جناته.

تعليق على الآية :

﴿ مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله.............. ﴾ الخ
والآيات الخمس التالية لها
وما ورد في صددها من روايات وما انطوى فيها من تلقين وصور
موضوع الآيات فصل جديد، ولقد روي في مناسبة نزولها روايات عديدة ومختلفة. فقد روى الطبري أن قريشا افتخرت بما تفعله من سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام وقالت : لا أحد أفضل منا، فأنزل الله الآيات ردا عليهم. وروي عن النعمان بن بشير أنه كان في نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في يوم جمعة فقال رجل منهم : ما أبالي أن لا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج، وقال آخر : بل عمارة المسجد الحرام، وقال آخر : بل الجهاد في سبيل الله خير مما قلتم، فزجرهم عمر وقال : لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن إذا صليت الجمعة دخلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاستفتيته فيما اختلفتم فيه ففعل فأنزل الله :﴿ أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ ﴾ الآية. وروي أن المسلمين أقبلوا يوم بدر يعيرون الأسرى من المشركين وفيهم العباس عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : لئن سبقتمونا بالإسلام والهجرة والجهاد لقد كنا نعمر المسجد الحرام ونسقي الحاج ونفك العاني ( الأسير ) فأنزل الله :﴿ أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ ﴾ الآية. وروي أنها نزلت في العباس وعلي وطلحة بن شيبة حيث اجتمع ثلاثتهم فقال الأول : أنا أفضلكم أنا أسقي حجاج بيت الله، وقال طلحة : أنا أعمر مسجد الله، وقال علي : أنا هاجرت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأجاهد معه في سبيل الله، فأنزل الله :﴿ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً ﴾. وروى الطبرسي أن عليا قال لعمه العباس : ألا تهاجر وتلحق برسول الله ؟ فقال : ألست في أفضل من الهجرة أعمر المسجد الحرام وأسقي حاج بيت الله فنزلت :﴿ أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ............. ﴾.
والآيتان الأولى والثانية تنفيان حق المشركين وأهليتهم لعمارة مساجد الله وتقرران كون هذا الحق والأهلية هما للذين آمنوا بالله وباليوم الآخر وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة ولم يخشوا إلا الله، حيث يلهم هذا أن أصل المفاضلة لم يكن بين مؤمنين فيما بينهم وإنما كان في صدد نفي صلاحية المشركين وحقهم في عمارة مساجد الله التي منها المسجد الحرام. فاحتوت الآية الأولى ردا على ذلك وقررت الثانية أن المؤمنين هم الأولى به. وهذا يلحظ أيضا في الآيات الأربع التالية للآيتين ؛ لأنها تندد بجعل سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام في درجة الإيمان بالله والجهاد في سبيله حيث يفيد هذا أن مؤمنين قالوا ذلك وأن المفاضلة ليست بالنسبة لمؤمنين يقومون بالمهمتين ولكنها بالنسبة لمشركين يقومون بهما لأنه ليس من محل للمفاضلة لو كان هؤلاء من المؤمنين. وهذا يسوغ القول : إن الروايات التي تذكر المفاضلة أو المفاخرة بين مؤمنين فيما هو الأفضل لا تنطبق تماما على مدى الآيات. وكذلك الروايات التي تذكر أقوال العباس في بدر أو لعلي بن أبي طالب لا تنطبق ؛ لأنه ليس فيها نسبة ذلك القول إلى مؤمنين. وهذا فضلا عن أن بعض الروايات يفيد أن الآيات نزلت قبل فتح مكة مع أن السياق جميعه هو بعد هذا الفتح.
ولقد تبادر لنا احتمالات أخرى يمكن أن تطبق على هذه الآيات أكثر. منها أن يكون وقع جدل بين مؤمنين حول ما إذا كان للذين كانوا يقومون بسقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام وهم على شركهم ثواب ومنزلة عند الله على اعتبار أنهم كانوا يخدمون بيته وحجاجه. فسئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك فنزلت الآيات للرد والبيان وجاءت الآيتان الأوليان منها كمقدمة عامة الشمول. ومنها أن تكون حكمة التنزيل اقتضت الإيحاء بها لتبرير منع المشركين من دخول المسجد الحرام الذي كان روي أنه كان مما أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإعلان يوم الحج الأكبر، ونودي به على ما ذكرناه في سياق شرح الآية الثالثة من السورة. ولعل بعض المؤمنين القرشيين أو غيرهم جادلوا في أمر منع المشركين من الدخول إلى المسجد الحرام ونوهوا بما كان يقوم به بعضهم من خدمات للمسجد الحرام وللحجاج. أو بما كان يعود على أهل هذا المسجد من الزوار المشركين من فوائد. ولقد أمرت الآية ( ٢٨ ) من هذه السورة التي تأتي بعد قليل منع المشركين من دخول المسجد الحرام بأسلوب تشريعي حاسم، وعللت ذلك بأنهم رجس، وطمأنت المسلمين بأنهم إذا كانوا يخشون سوء الحالة الاقتصادية والمعايشة بسبب ذلك، فإن الله كفيل بإغنائهم عنهم إن شاء حيث تبدو صلة ما بين هذه الآية والآيات التي نحن في صددها وحيث قضت الحكمة الإيحاء بها بسبيل ذلك ولتدعيم ذلك الإعلان الذي أمر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم الحج الأكبر. والله أعلم.
وبهذا البيان تبدو الصلة الموضوعية والظرفية واضحة بين هذه الآيات والسياق السابق مهما بدا عليها أنها فصل جديد.
ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية ( ١٨ ) حديثا رواه الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان ). وحديثا آخر عن انس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( إنما عمار المساجد هم أهل الله ). والحديث الأول رواه الترمذي أيضا بزيادة في آخره وهي :( قال الله تعالى :﴿ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ﴾ ( ١ )١. والحديثان متساوقان في التنويه والتلقين مع الآية الكريمة كما هو واضح.
والآيات في حد ذاتها مطلقة العبارة وعامة الهدف والتقرير. وما احتوته متسق مع ما تكرر تقريره في القرآن كثيرا من أن الإيمان بالله واليوم الآخر والأعمال الصالحة التي تقرب إلى الله كالهجرة والجهاد بالمال والنفس في سبيله هي التي تستحق رضاء الله وتدل على الإخلاص له. وإن كل خدمة أو عمل مع الشرك بالله حابط عند الله، وإنه لا يصح مهما عظم في الأذهان والعرف أن يقاس مع الإيمان بالله والإخلاص له والجهاد في سبيله أو يكون في منزلته. وواضح أن هذه التقريرات المتكررة بالأساليب المتنوعة تستهدف فيما تستهدفه تدعيم الدعوة إلى سبيل الله والإخلاص له وحده في كل عمل وقول. والتنويه بمن ينضوي إليها ويخلص فيها ويجاهد في سبيلها وما له عند الله من عظيم المنزلة والأجر.
هذا، ومع أن ذكر السقاية والعمارة لم يقصد به مدلولها الخاص فقط وإنما قصد به الجنس وهو خدمة المسجد الحرام وحجاجه كما تلهم روح الآيات فإن في ورود الكلمتين توكيدا وتأييدا لما روته الروايات العربية ( ٢ )٢. من وجود مناصب ومهمات عامة في مكة قبل الإسلام ظلت إلى الفتح الإسلامي. وكان يقوم عليها زعماء البيوتات القرشية الرفيعة. وقد كانت السقاية في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في عهدة عمه العباس بن عبد المطلب والحجابة أو مفتاح البيت في عهدة طلحة بن عثمان بن شيبة. وقد كان من جملة تلك المناصب والمهام الرفادة واللواء والقيادة والسفارة والديات ورئاسة دار الندوة والأموال المحجرة والأعنة على ما ذكرته تلك الروايات. والسقاية هي تهيئة الماء الصالح للحجاج. والرفادة هي إكرام الحجاج وإطعام المحتاجين منهم. والديات هي جمع ما يترتب على قريش من الديات على ما يقع من بعض أفرادهم من جنايات الدم وفقا للتقاليد القبلية. واللواء هو عقد راية الحرب وتسليمها للقائد. والقيادة هي قيادة الحرب والحملات الحربية. والسفارة هي القيام بالمفاوضات والصلات بين قريش والقبائل الأخرى لحل المشاكل التي تقوم بين الطرفين. والأموال المحجرة هي الإشراف على ما كان يوقف وينذر من أموال الكعبة والأصنام، والأعنة هي قيادة الخيل. وقد كان يتألف من أصحاب هذه المناصب مجلس له الكلمة والنفوذ. وكان يتولى أمور مكة العامة وسياستها ومصالحها ويجتمع في دار قرب الكعبة تسمى دار الندوة.
وتروي الروايات أن هذه الأمور قد رتبت من قبل قصي بن كنانة أحد أجداد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأجداد الأسر القرشية التي تلتقي مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في النسب. ويخمن وجوده قبل الإسلام بنحو مائة وخمسين سنة ؛ حيث نبغ واستطاع أن يبسط حكمه على مكة.
ولقد أثر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال في خطبته عقب فتحه مكة :( ألا إن كل مأثرة أو دم أو مال يدعى فهو تحت قدمي هاتين إلا سدانة البيت وسقاية الحاج ) وأنه أبقى مفتاح الكعبة مع عثمان بن طلحة وقال له : خذوها يا بني طلحة تالدة خالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم وأبى أن يستجيب لعمه العباس الذي طلب منه أن يجمع لبني عبد المطلب السدانة والسقاية. واكتفى بإ
﴿ مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ ( ١ ) مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ ( ٢ ) أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ ( ١٧ ) إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَـئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ ( ١٨ ) أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ ( ٣ ) وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ( ١٩ ) الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ( ٢٠ ) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ ( ٢١ ) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ( ٢٢ ) ﴾ ( ١٧ – ٢٢ ).

في الآيات :

( ١ ) تقرير بأنه لا يصح أن يكون المشركون عمارا لمساجد الله ومتولين لأمورها في حين أن شركهم شاهد منهم على أنفسهم بأنهم غير مؤمنين بالله وحده والمساجد مساجد الله وحده. وبأنهم مهما عملوا من أعمال يظنون أنها خدمة لله فهي حابطة ومصيرهم الخلود في النار.
( ٢ ) وتعقيب تقريري بأن الذين يصح أن يكونوا عمارا لمساجد الله هم الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ولا يخافون أحدا غير الله. فهؤلاء هم الذين يمكن أن يكونوا على هدى من الله وأن يستحقوا رضاءه.
( ٣ ) وسؤال استنكاري موجه للسامعين والراجح للمسلمين على ما يستلهم من روح الآيات عما إذا كان – والحالة هذه – يصح أن يجعلوا الذين يقومون بمهمة سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام من المشركين مثل الذين آمنوا بالله واليوم الآخر وجاهدوا في سبيل الله وفي درجتهم ومنزلتهم، وتقرير بمثابة الإجابة بأن الفريقين لا يمكن أن يكونوا سواء عند الله. وإن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا هم الأعظم درجة عنده. وإنهم هم الفائزون المبشرون برضوانه ورحمته. والخالدون في جناته.

تعليق على الآية :

﴿ مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله.............. ﴾ الخ
والآيات الخمس التالية لها
وما ورد في صددها من روايات وما انطوى فيها من تلقين وصور
موضوع الآيات فصل جديد، ولقد روي في مناسبة نزولها روايات عديدة ومختلفة. فقد روى الطبري أن قريشا افتخرت بما تفعله من سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام وقالت : لا أحد أفضل منا، فأنزل الله الآيات ردا عليهم. وروي عن النعمان بن بشير أنه كان في نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في يوم جمعة فقال رجل منهم : ما أبالي أن لا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج، وقال آخر : بل عمارة المسجد الحرام، وقال آخر : بل الجهاد في سبيل الله خير مما قلتم، فزجرهم عمر وقال : لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن إذا صليت الجمعة دخلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاستفتيته فيما اختلفتم فيه ففعل فأنزل الله :﴿ أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ ﴾ الآية. وروي أن المسلمين أقبلوا يوم بدر يعيرون الأسرى من المشركين وفيهم العباس عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : لئن سبقتمونا بالإسلام والهجرة والجهاد لقد كنا نعمر المسجد الحرام ونسقي الحاج ونفك العاني ( الأسير ) فأنزل الله :﴿ أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ ﴾ الآية. وروي أنها نزلت في العباس وعلي وطلحة بن شيبة حيث اجتمع ثلاثتهم فقال الأول : أنا أفضلكم أنا أسقي حجاج بيت الله، وقال طلحة : أنا أعمر مسجد الله، وقال علي : أنا هاجرت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأجاهد معه في سبيل الله، فأنزل الله :﴿ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً ﴾. وروى الطبرسي أن عليا قال لعمه العباس : ألا تهاجر وتلحق برسول الله ؟ فقال : ألست في أفضل من الهجرة أعمر المسجد الحرام وأسقي حاج بيت الله فنزلت :﴿ أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ............. ﴾.
والآيتان الأولى والثانية تنفيان حق المشركين وأهليتهم لعمارة مساجد الله وتقرران كون هذا الحق والأهلية هما للذين آمنوا بالله وباليوم الآخر وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة ولم يخشوا إلا الله، حيث يلهم هذا أن أصل المفاضلة لم يكن بين مؤمنين فيما بينهم وإنما كان في صدد نفي صلاحية المشركين وحقهم في عمارة مساجد الله التي منها المسجد الحرام. فاحتوت الآية الأولى ردا على ذلك وقررت الثانية أن المؤمنين هم الأولى به. وهذا يلحظ أيضا في الآيات الأربع التالية للآيتين ؛ لأنها تندد بجعل سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام في درجة الإيمان بالله والجهاد في سبيله حيث يفيد هذا أن مؤمنين قالوا ذلك وأن المفاضلة ليست بالنسبة لمؤمنين يقومون بالمهمتين ولكنها بالنسبة لمشركين يقومون بهما لأنه ليس من محل للمفاضلة لو كان هؤلاء من المؤمنين. وهذا يسوغ القول : إن الروايات التي تذكر المفاضلة أو المفاخرة بين مؤمنين فيما هو الأفضل لا تنطبق تماما على مدى الآيات. وكذلك الروايات التي تذكر أقوال العباس في بدر أو لعلي بن أبي طالب لا تنطبق ؛ لأنه ليس فيها نسبة ذلك القول إلى مؤمنين. وهذا فضلا عن أن بعض الروايات يفيد أن الآيات نزلت قبل فتح مكة مع أن السياق جميعه هو بعد هذا الفتح.
ولقد تبادر لنا احتمالات أخرى يمكن أن تطبق على هذه الآيات أكثر. منها أن يكون وقع جدل بين مؤمنين حول ما إذا كان للذين كانوا يقومون بسقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام وهم على شركهم ثواب ومنزلة عند الله على اعتبار أنهم كانوا يخدمون بيته وحجاجه. فسئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك فنزلت الآيات للرد والبيان وجاءت الآيتان الأوليان منها كمقدمة عامة الشمول. ومنها أن تكون حكمة التنزيل اقتضت الإيحاء بها لتبرير منع المشركين من دخول المسجد الحرام الذي كان روي أنه كان مما أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإعلان يوم الحج الأكبر، ونودي به على ما ذكرناه في سياق شرح الآية الثالثة من السورة. ولعل بعض المؤمنين القرشيين أو غيرهم جادلوا في أمر منع المشركين من الدخول إلى المسجد الحرام ونوهوا بما كان يقوم به بعضهم من خدمات للمسجد الحرام وللحجاج. أو بما كان يعود على أهل هذا المسجد من الزوار المشركين من فوائد. ولقد أمرت الآية ( ٢٨ ) من هذه السورة التي تأتي بعد قليل منع المشركين من دخول المسجد الحرام بأسلوب تشريعي حاسم، وعللت ذلك بأنهم رجس، وطمأنت المسلمين بأنهم إذا كانوا يخشون سوء الحالة الاقتصادية والمعايشة بسبب ذلك، فإن الله كفيل بإغنائهم عنهم إن شاء حيث تبدو صلة ما بين هذه الآية والآيات التي نحن في صددها وحيث قضت الحكمة الإيحاء بها بسبيل ذلك ولتدعيم ذلك الإعلان الذي أمر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم الحج الأكبر. والله أعلم.
وبهذا البيان تبدو الصلة الموضوعية والظرفية واضحة بين هذه الآيات والسياق السابق مهما بدا عليها أنها فصل جديد.
ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية ( ١٨ ) حديثا رواه الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان ). وحديثا آخر عن انس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( إنما عمار المساجد هم أهل الله ). والحديث الأول رواه الترمذي أيضا بزيادة في آخره وهي :( قال الله تعالى :﴿ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ﴾ ( ١ )١. والحديثان متساوقان في التنويه والتلقين مع الآية الكريمة كما هو واضح.
والآيات في حد ذاتها مطلقة العبارة وعامة الهدف والتقرير. وما احتوته متسق مع ما تكرر تقريره في القرآن كثيرا من أن الإيمان بالله واليوم الآخر والأعمال الصالحة التي تقرب إلى الله كالهجرة والجهاد بالمال والنفس في سبيله هي التي تستحق رضاء الله وتدل على الإخلاص له. وإن كل خدمة أو عمل مع الشرك بالله حابط عند الله، وإنه لا يصح مهما عظم في الأذهان والعرف أن يقاس مع الإيمان بالله والإخلاص له والجهاد في سبيله أو يكون في منزلته. وواضح أن هذه التقريرات المتكررة بالأساليب المتنوعة تستهدف فيما تستهدفه تدعيم الدعوة إلى سبيل الله والإخلاص له وحده في كل عمل وقول. والتنويه بمن ينضوي إليها ويخلص فيها ويجاهد في سبيلها وما له عند الله من عظيم المنزلة والأجر.
هذا، ومع أن ذكر السقاية والعمارة لم يقصد به مدلولها الخاص فقط وإنما قصد به الجنس وهو خدمة المسجد الحرام وحجاجه كما تلهم روح الآيات فإن في ورود الكلمتين توكيدا وتأييدا لما روته الروايات العربية ( ٢ )٢. من وجود مناصب ومهمات عامة في مكة قبل الإسلام ظلت إلى الفتح الإسلامي. وكان يقوم عليها زعماء البيوتات القرشية الرفيعة. وقد كانت السقاية في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في عهدة عمه العباس بن عبد المطلب والحجابة أو مفتاح البيت في عهدة طلحة بن عثمان بن شيبة. وقد كان من جملة تلك المناصب والمهام الرفادة واللواء والقيادة والسفارة والديات ورئاسة دار الندوة والأموال المحجرة والأعنة على ما ذكرته تلك الروايات. والسقاية هي تهيئة الماء الصالح للحجاج. والرفادة هي إكرام الحجاج وإطعام المحتاجين منهم. والديات هي جمع ما يترتب على قريش من الديات على ما يقع من بعض أفرادهم من جنايات الدم وفقا للتقاليد القبلية. واللواء هو عقد راية الحرب وتسليمها للقائد. والقيادة هي قيادة الحرب والحملات الحربية. والسفارة هي القيام بالمفاوضات والصلات بين قريش والقبائل الأخرى لحل المشاكل التي تقوم بين الطرفين. والأموال المحجرة هي الإشراف على ما كان يوقف وينذر من أموال الكعبة والأصنام، والأعنة هي قيادة الخيل. وقد كان يتألف من أصحاب هذه المناصب مجلس له الكلمة والنفوذ. وكان يتولى أمور مكة العامة وسياستها ومصالحها ويجتمع في دار قرب الكعبة تسمى دار الندوة.
وتروي الروايات أن هذه الأمور قد رتبت من قبل قصي بن كنانة أحد أجداد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأجداد الأسر القرشية التي تلتقي مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في النسب. ويخمن وجوده قبل الإسلام بنحو مائة وخمسين سنة ؛ حيث نبغ واستطاع أن يبسط حكمه على مكة.
ولقد أثر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال في خطبته عقب فتحه مكة :( ألا إن كل مأثرة أو دم أو مال يدعى فهو تحت قدمي هاتين إلا سدانة البيت وسقاية الحاج ) وأنه أبقى مفتاح الكعبة مع عثمان بن طلحة وقال له : خذوها يا بني طلحة تالدة خالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم وأبى أن يستجيب لعمه العباس الذي طلب منه أن يجمع لبني عبد المطلب السدانة والسقاية. واكتفى بإ
﴿ مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ ( ١ ) مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ ( ٢ ) أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ ( ١٧ ) إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَـئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ ( ١٨ ) أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ ( ٣ ) وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ( ١٩ ) الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ( ٢٠ ) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ ( ٢١ ) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ( ٢٢ ) ﴾ ( ١٧ – ٢٢ ).

في الآيات :

( ١ ) تقرير بأنه لا يصح أن يكون المشركون عمارا لمساجد الله ومتولين لأمورها في حين أن شركهم شاهد منهم على أنفسهم بأنهم غير مؤمنين بالله وحده والمساجد مساجد الله وحده. وبأنهم مهما عملوا من أعمال يظنون أنها خدمة لله فهي حابطة ومصيرهم الخلود في النار.
( ٢ ) وتعقيب تقريري بأن الذين يصح أن يكونوا عمارا لمساجد الله هم الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ولا يخافون أحدا غير الله. فهؤلاء هم الذين يمكن أن يكونوا على هدى من الله وأن يستحقوا رضاءه.
( ٣ ) وسؤال استنكاري موجه للسامعين والراجح للمسلمين على ما يستلهم من روح الآيات عما إذا كان – والحالة هذه – يصح أن يجعلوا الذين يقومون بمهمة سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام من المشركين مثل الذين آمنوا بالله واليوم الآخر وجاهدوا في سبيل الله وفي درجتهم ومنزلتهم، وتقرير بمثابة الإجابة بأن الفريقين لا يمكن أن يكونوا سواء عند الله. وإن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا هم الأعظم درجة عنده. وإنهم هم الفائزون المبشرون برضوانه ورحمته. والخالدون في جناته.

تعليق على الآية :

﴿ مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله.............. ﴾ الخ
والآيات الخمس التالية لها
وما ورد في صددها من روايات وما انطوى فيها من تلقين وصور
موضوع الآيات فصل جديد، ولقد روي في مناسبة نزولها روايات عديدة ومختلفة. فقد روى الطبري أن قريشا افتخرت بما تفعله من سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام وقالت : لا أحد أفضل منا، فأنزل الله الآيات ردا عليهم. وروي عن النعمان بن بشير أنه كان في نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في يوم جمعة فقال رجل منهم : ما أبالي أن لا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج، وقال آخر : بل عمارة المسجد الحرام، وقال آخر : بل الجهاد في سبيل الله خير مما قلتم، فزجرهم عمر وقال : لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن إذا صليت الجمعة دخلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاستفتيته فيما اختلفتم فيه ففعل فأنزل الله :﴿ أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ ﴾ الآية. وروي أن المسلمين أقبلوا يوم بدر يعيرون الأسرى من المشركين وفيهم العباس عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : لئن سبقتمونا بالإسلام والهجرة والجهاد لقد كنا نعمر المسجد الحرام ونسقي الحاج ونفك العاني ( الأسير ) فأنزل الله :﴿ أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ ﴾ الآية. وروي أنها نزلت في العباس وعلي وطلحة بن شيبة حيث اجتمع ثلاثتهم فقال الأول : أنا أفضلكم أنا أسقي حجاج بيت الله، وقال طلحة : أنا أعمر مسجد الله، وقال علي : أنا هاجرت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأجاهد معه في سبيل الله، فأنزل الله :﴿ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً ﴾. وروى الطبرسي أن عليا قال لعمه العباس : ألا تهاجر وتلحق برسول الله ؟ فقال : ألست في أفضل من الهجرة أعمر المسجد الحرام وأسقي حاج بيت الله فنزلت :﴿ أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ............. ﴾.
والآيتان الأولى والثانية تنفيان حق المشركين وأهليتهم لعمارة مساجد الله وتقرران كون هذا الحق والأهلية هما للذين آمنوا بالله وباليوم الآخر وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة ولم يخشوا إلا الله، حيث يلهم هذا أن أصل المفاضلة لم يكن بين مؤمنين فيما بينهم وإنما كان في صدد نفي صلاحية المشركين وحقهم في عمارة مساجد الله التي منها المسجد الحرام. فاحتوت الآية الأولى ردا على ذلك وقررت الثانية أن المؤمنين هم الأولى به. وهذا يلحظ أيضا في الآيات الأربع التالية للآيتين ؛ لأنها تندد بجعل سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام في درجة الإيمان بالله والجهاد في سبيله حيث يفيد هذا أن مؤمنين قالوا ذلك وأن المفاضلة ليست بالنسبة لمؤمنين يقومون بالمهمتين ولكنها بالنسبة لمشركين يقومون بهما لأنه ليس من محل للمفاضلة لو كان هؤلاء من المؤمنين. وهذا يسوغ القول : إن الروايات التي تذكر المفاضلة أو المفاخرة بين مؤمنين فيما هو الأفضل لا تنطبق تماما على مدى الآيات. وكذلك الروايات التي تذكر أقوال العباس في بدر أو لعلي بن أبي طالب لا تنطبق ؛ لأنه ليس فيها نسبة ذلك القول إلى مؤمنين. وهذا فضلا عن أن بعض الروايات يفيد أن الآيات نزلت قبل فتح مكة مع أن السياق جميعه هو بعد هذا الفتح.
ولقد تبادر لنا احتمالات أخرى يمكن أن تطبق على هذه الآيات أكثر. منها أن يكون وقع جدل بين مؤمنين حول ما إذا كان للذين كانوا يقومون بسقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام وهم على شركهم ثواب ومنزلة عند الله على اعتبار أنهم كانوا يخدمون بيته وحجاجه. فسئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك فنزلت الآيات للرد والبيان وجاءت الآيتان الأوليان منها كمقدمة عامة الشمول. ومنها أن تكون حكمة التنزيل اقتضت الإيحاء بها لتبرير منع المشركين من دخول المسجد الحرام الذي كان روي أنه كان مما أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإعلان يوم الحج الأكبر، ونودي به على ما ذكرناه في سياق شرح الآية الثالثة من السورة. ولعل بعض المؤمنين القرشيين أو غيرهم جادلوا في أمر منع المشركين من الدخول إلى المسجد الحرام ونوهوا بما كان يقوم به بعضهم من خدمات للمسجد الحرام وللحجاج. أو بما كان يعود على أهل هذا المسجد من الزوار المشركين من فوائد. ولقد أمرت الآية ( ٢٨ ) من هذه السورة التي تأتي بعد قليل منع المشركين من دخول المسجد الحرام بأسلوب تشريعي حاسم، وعللت ذلك بأنهم رجس، وطمأنت المسلمين بأنهم إذا كانوا يخشون سوء الحالة الاقتصادية والمعايشة بسبب ذلك، فإن الله كفيل بإغنائهم عنهم إن شاء حيث تبدو صلة ما بين هذه الآية والآيات التي نحن في صددها وحيث قضت الحكمة الإيحاء بها بسبيل ذلك ولتدعيم ذلك الإعلان الذي أمر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم الحج الأكبر. والله أعلم.
وبهذا البيان تبدو الصلة الموضوعية والظرفية واضحة بين هذه الآيات والسياق السابق مهما بدا عليها أنها فصل جديد.
ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية ( ١٨ ) حديثا رواه الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان ). وحديثا آخر عن انس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( إنما عمار المساجد هم أهل الله ). والحديث الأول رواه الترمذي أيضا بزيادة في آخره وهي :( قال الله تعالى :﴿ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ﴾ ( ١ )١. والحديثان متساوقان في التنويه والتلقين مع الآية الكريمة كما هو واضح.
والآيات في حد ذاتها مطلقة العبارة وعامة الهدف والتقرير. وما احتوته متسق مع ما تكرر تقريره في القرآن كثيرا من أن الإيمان بالله واليوم الآخر والأعمال الصالحة التي تقرب إلى الله كالهجرة والجهاد بالمال والنفس في سبيله هي التي تستحق رضاء الله وتدل على الإخلاص له. وإن كل خدمة أو عمل مع الشرك بالله حابط عند الله، وإنه لا يصح مهما عظم في الأذهان والعرف أن يقاس مع الإيمان بالله والإخلاص له والجهاد في سبيله أو يكون في منزلته. وواضح أن هذه التقريرات المتكررة بالأساليب المتنوعة تستهدف فيما تستهدفه تدعيم الدعوة إلى سبيل الله والإخلاص له وحده في كل عمل وقول. والتنويه بمن ينضوي إليها ويخلص فيها ويجاهد في سبيلها وما له عند الله من عظيم المنزلة والأجر.
هذا، ومع أن ذكر السقاية والعمارة لم يقصد به مدلولها الخاص فقط وإنما قصد به الجنس وهو خدمة المسجد الحرام وحجاجه كما تلهم روح الآيات فإن في ورود الكلمتين توكيدا وتأييدا لما روته الروايات العربية ( ٢ )٢. من وجود مناصب ومهمات عامة في مكة قبل الإسلام ظلت إلى الفتح الإسلامي. وكان يقوم عليها زعماء البيوتات القرشية الرفيعة. وقد كانت السقاية في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في عهدة عمه العباس بن عبد المطلب والحجابة أو مفتاح البيت في عهدة طلحة بن عثمان بن شيبة. وقد كان من جملة تلك المناصب والمهام الرفادة واللواء والقيادة والسفارة والديات ورئاسة دار الندوة والأموال المحجرة والأعنة على ما ذكرته تلك الروايات. والسقاية هي تهيئة الماء الصالح للحجاج. والرفادة هي إكرام الحجاج وإطعام المحتاجين منهم. والديات هي جمع ما يترتب على قريش من الديات على ما يقع من بعض أفرادهم من جنايات الدم وفقا للتقاليد القبلية. واللواء هو عقد راية الحرب وتسليمها للقائد. والقيادة هي قيادة الحرب والحملات الحربية. والسفارة هي القيام بالمفاوضات والصلات بين قريش والقبائل الأخرى لحل المشاكل التي تقوم بين الطرفين. والأموال المحجرة هي الإشراف على ما كان يوقف وينذر من أموال الكعبة والأصنام، والأعنة هي قيادة الخيل. وقد كان يتألف من أصحاب هذه المناصب مجلس له الكلمة والنفوذ. وكان يتولى أمور مكة العامة وسياستها ومصالحها ويجتمع في دار قرب الكعبة تسمى دار الندوة.
وتروي الروايات أن هذه الأمور قد رتبت من قبل قصي بن كنانة أحد أجداد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأجداد الأسر القرشية التي تلتقي مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في النسب. ويخمن وجوده قبل الإسلام بنحو مائة وخمسين سنة ؛ حيث نبغ واستطاع أن يبسط حكمه على مكة.
ولقد أثر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال في خطبته عقب فتحه مكة :( ألا إن كل مأثرة أو دم أو مال يدعى فهو تحت قدمي هاتين إلا سدانة البيت وسقاية الحاج ) وأنه أبقى مفتاح الكعبة مع عثمان بن طلحة وقال له : خذوها يا بني طلحة تالدة خالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم وأبى أن يستجيب لعمه العباس الذي طلب منه أن يجمع لبني عبد المطلب السدانة والسقاية. واكتفى بإ
﴿ مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ ( ١ ) مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ ( ٢ ) أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ ( ١٧ ) إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَـئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ ( ١٨ ) أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ ( ٣ ) وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ( ١٩ ) الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ( ٢٠ ) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ ( ٢١ ) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ( ٢٢ ) ﴾ ( ١٧ – ٢٢ ).

في الآيات :

( ١ ) تقرير بأنه لا يصح أن يكون المشركون عمارا لمساجد الله ومتولين لأمورها في حين أن شركهم شاهد منهم على أنفسهم بأنهم غير مؤمنين بالله وحده والمساجد مساجد الله وحده. وبأنهم مهما عملوا من أعمال يظنون أنها خدمة لله فهي حابطة ومصيرهم الخلود في النار.
( ٢ ) وتعقيب تقريري بأن الذين يصح أن يكونوا عمارا لمساجد الله هم الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ولا يخافون أحدا غير الله. فهؤلاء هم الذين يمكن أن يكونوا على هدى من الله وأن يستحقوا رضاءه.
( ٣ ) وسؤال استنكاري موجه للسامعين والراجح للمسلمين على ما يستلهم من روح الآيات عما إذا كان – والحالة هذه – يصح أن يجعلوا الذين يقومون بمهمة سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام من المشركين مثل الذين آمنوا بالله واليوم الآخر وجاهدوا في سبيل الله وفي درجتهم ومنزلتهم، وتقرير بمثابة الإجابة بأن الفريقين لا يمكن أن يكونوا سواء عند الله. وإن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا هم الأعظم درجة عنده. وإنهم هم الفائزون المبشرون برضوانه ورحمته. والخالدون في جناته.

تعليق على الآية :

﴿ مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله.............. ﴾ الخ
والآيات الخمس التالية لها
وما ورد في صددها من روايات وما انطوى فيها من تلقين وصور
موضوع الآيات فصل جديد، ولقد روي في مناسبة نزولها روايات عديدة ومختلفة. فقد روى الطبري أن قريشا افتخرت بما تفعله من سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام وقالت : لا أحد أفضل منا، فأنزل الله الآيات ردا عليهم. وروي عن النعمان بن بشير أنه كان في نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في يوم جمعة فقال رجل منهم : ما أبالي أن لا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج، وقال آخر : بل عمارة المسجد الحرام، وقال آخر : بل الجهاد في سبيل الله خير مما قلتم، فزجرهم عمر وقال : لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن إذا صليت الجمعة دخلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاستفتيته فيما اختلفتم فيه ففعل فأنزل الله :﴿ أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ ﴾ الآية. وروي أن المسلمين أقبلوا يوم بدر يعيرون الأسرى من المشركين وفيهم العباس عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : لئن سبقتمونا بالإسلام والهجرة والجهاد لقد كنا نعمر المسجد الحرام ونسقي الحاج ونفك العاني ( الأسير ) فأنزل الله :﴿ أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ ﴾ الآية. وروي أنها نزلت في العباس وعلي وطلحة بن شيبة حيث اجتمع ثلاثتهم فقال الأول : أنا أفضلكم أنا أسقي حجاج بيت الله، وقال طلحة : أنا أعمر مسجد الله، وقال علي : أنا هاجرت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأجاهد معه في سبيل الله، فأنزل الله :﴿ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً ﴾. وروى الطبرسي أن عليا قال لعمه العباس : ألا تهاجر وتلحق برسول الله ؟ فقال : ألست في أفضل من الهجرة أعمر المسجد الحرام وأسقي حاج بيت الله فنزلت :﴿ أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ............. ﴾.
والآيتان الأولى والثانية تنفيان حق المشركين وأهليتهم لعمارة مساجد الله وتقرران كون هذا الحق والأهلية هما للذين آمنوا بالله وباليوم الآخر وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة ولم يخشوا إلا الله، حيث يلهم هذا أن أصل المفاضلة لم يكن بين مؤمنين فيما بينهم وإنما كان في صدد نفي صلاحية المشركين وحقهم في عمارة مساجد الله التي منها المسجد الحرام. فاحتوت الآية الأولى ردا على ذلك وقررت الثانية أن المؤمنين هم الأولى به. وهذا يلحظ أيضا في الآيات الأربع التالية للآيتين ؛ لأنها تندد بجعل سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام في درجة الإيمان بالله والجهاد في سبيله حيث يفيد هذا أن مؤمنين قالوا ذلك وأن المفاضلة ليست بالنسبة لمؤمنين يقومون بالمهمتين ولكنها بالنسبة لمشركين يقومون بهما لأنه ليس من محل للمفاضلة لو كان هؤلاء من المؤمنين. وهذا يسوغ القول : إن الروايات التي تذكر المفاضلة أو المفاخرة بين مؤمنين فيما هو الأفضل لا تنطبق تماما على مدى الآيات. وكذلك الروايات التي تذكر أقوال العباس في بدر أو لعلي بن أبي طالب لا تنطبق ؛ لأنه ليس فيها نسبة ذلك القول إلى مؤمنين. وهذا فضلا عن أن بعض الروايات يفيد أن الآيات نزلت قبل فتح مكة مع أن السياق جميعه هو بعد هذا الفتح.
ولقد تبادر لنا احتمالات أخرى يمكن أن تطبق على هذه الآيات أكثر. منها أن يكون وقع جدل بين مؤمنين حول ما إذا كان للذين كانوا يقومون بسقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام وهم على شركهم ثواب ومنزلة عند الله على اعتبار أنهم كانوا يخدمون بيته وحجاجه. فسئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك فنزلت الآيات للرد والبيان وجاءت الآيتان الأوليان منها كمقدمة عامة الشمول. ومنها أن تكون حكمة التنزيل اقتضت الإيحاء بها لتبرير منع المشركين من دخول المسجد الحرام الذي كان روي أنه كان مما أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإعلان يوم الحج الأكبر، ونودي به على ما ذكرناه في سياق شرح الآية الثالثة من السورة. ولعل بعض المؤمنين القرشيين أو غيرهم جادلوا في أمر منع المشركين من الدخول إلى المسجد الحرام ونوهوا بما كان يقوم به بعضهم من خدمات للمسجد الحرام وللحجاج. أو بما كان يعود على أهل هذا المسجد من الزوار المشركين من فوائد. ولقد أمرت الآية ( ٢٨ ) من هذه السورة التي تأتي بعد قليل منع المشركين من دخول المسجد الحرام بأسلوب تشريعي حاسم، وعللت ذلك بأنهم رجس، وطمأنت المسلمين بأنهم إذا كانوا يخشون سوء الحالة الاقتصادية والمعايشة بسبب ذلك، فإن الله كفيل بإغنائهم عنهم إن شاء حيث تبدو صلة ما بين هذه الآية والآيات التي نحن في صددها وحيث قضت الحكمة الإيحاء بها بسبيل ذلك ولتدعيم ذلك الإعلان الذي أمر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم الحج الأكبر. والله أعلم.
وبهذا البيان تبدو الصلة الموضوعية والظرفية واضحة بين هذه الآيات والسياق السابق مهما بدا عليها أنها فصل جديد.
ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية ( ١٨ ) حديثا رواه الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان ). وحديثا آخر عن انس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( إنما عمار المساجد هم أهل الله ). والحديث الأول رواه الترمذي أيضا بزيادة في آخره وهي :( قال الله تعالى :﴿ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ﴾ ( ١ )١. والحديثان متساوقان في التنويه والتلقين مع الآية الكريمة كما هو واضح.
والآيات في حد ذاتها مطلقة العبارة وعامة الهدف والتقرير. وما احتوته متسق مع ما تكرر تقريره في القرآن كثيرا من أن الإيمان بالله واليوم الآخر والأعمال الصالحة التي تقرب إلى الله كالهجرة والجهاد بالمال والنفس في سبيله هي التي تستحق رضاء الله وتدل على الإخلاص له. وإن كل خدمة أو عمل مع الشرك بالله حابط عند الله، وإنه لا يصح مهما عظم في الأذهان والعرف أن يقاس مع الإيمان بالله والإخلاص له والجهاد في سبيله أو يكون في منزلته. وواضح أن هذه التقريرات المتكررة بالأساليب المتنوعة تستهدف فيما تستهدفه تدعيم الدعوة إلى سبيل الله والإخلاص له وحده في كل عمل وقول. والتنويه بمن ينضوي إليها ويخلص فيها ويجاهد في سبيلها وما له عند الله من عظيم المنزلة والأجر.
هذا، ومع أن ذكر السقاية والعمارة لم يقصد به مدلولها الخاص فقط وإنما قصد به الجنس وهو خدمة المسجد الحرام وحجاجه كما تلهم روح الآيات فإن في ورود الكلمتين توكيدا وتأييدا لما روته الروايات العربية ( ٢ )٢. من وجود مناصب ومهمات عامة في مكة قبل الإسلام ظلت إلى الفتح الإسلامي. وكان يقوم عليها زعماء البيوتات القرشية الرفيعة. وقد كانت السقاية في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في عهدة عمه العباس بن عبد المطلب والحجابة أو مفتاح البيت في عهدة طلحة بن عثمان بن شيبة. وقد كان من جملة تلك المناصب والمهام الرفادة واللواء والقيادة والسفارة والديات ورئاسة دار الندوة والأموال المحجرة والأعنة على ما ذكرته تلك الروايات. والسقاية هي تهيئة الماء الصالح للحجاج. والرفادة هي إكرام الحجاج وإطعام المحتاجين منهم. والديات هي جمع ما يترتب على قريش من الديات على ما يقع من بعض أفرادهم من جنايات الدم وفقا للتقاليد القبلية. واللواء هو عقد راية الحرب وتسليمها للقائد. والقيادة هي قيادة الحرب والحملات الحربية. والسفارة هي القيام بالمفاوضات والصلات بين قريش والقبائل الأخرى لحل المشاكل التي تقوم بين الطرفين. والأموال المحجرة هي الإشراف على ما كان يوقف وينذر من أموال الكعبة والأصنام، والأعنة هي قيادة الخيل. وقد كان يتألف من أصحاب هذه المناصب مجلس له الكلمة والنفوذ. وكان يتولى أمور مكة العامة وسياستها ومصالحها ويجتمع في دار قرب الكعبة تسمى دار الندوة.
وتروي الروايات أن هذه الأمور قد رتبت من قبل قصي بن كنانة أحد أجداد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأجداد الأسر القرشية التي تلتقي مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في النسب. ويخمن وجوده قبل الإسلام بنحو مائة وخمسين سنة ؛ حيث نبغ واستطاع أن يبسط حكمه على مكة.
ولقد أثر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال في خطبته عقب فتحه مكة :( ألا إن كل مأثرة أو دم أو مال يدعى فهو تحت قدمي هاتين إلا سدانة البيت وسقاية الحاج ) وأنه أبقى مفتاح الكعبة مع عثمان بن طلحة وقال له : خذوها يا بني طلحة تالدة خالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم وأبى أن يستجيب لعمه العباس الذي طلب منه أن يجمع لبني عبد المطلب السدانة والسقاية. واكتفى بإ
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ( ٢٣ ) قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا ( ١ ) وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ( ٢٤ ) ﴾ ( ٢٣ – ٢٤ ).
عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت :
( ١ ) نهيا للمسلمين عن اتخاذ آبائهم وإخوانهم أولياء ونصراء إذا فضلوا الكفر على الإيمان. ووصفا لمن يفعل ذلك بالظلم أي بالتمرد على الله والانحراف عن جادة الحق والبغي على نفسه بالذات ؛ لأنه بذلك يعرضها للخطر.
( ٢ ) وإنذارا لكل من يكون أبوه وأخوه وابنه وزوجته وعشيرته وأمواله وتجارته وموطنه المحبب إليه أحب إليه من الله ورسوله والجهاد في سبيله. فعلى من يكون كذلك أن ينتظر أمر الله فيه. وإن هذا لفسق، وإن الله لا يمكن أن يسعد الفاسقين ويرضى عنهم.
تعليق على الآية :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ ﴾
والآية التي بعدها وما فيهما من صور وتلقين ودلالات
لقد روى الطبري عن أهل التأويل من التابعين أن الآيات نزلت في العباس وطلحة بن شيبة حينما أمروا بالهجرة فقالوا : نبقى لنقوم بمهمتنا. وأردف الطبري هذا بقوله وكان ذلك قبل الفتح ! وروى كذلك عن مجاهد أن جملة :﴿ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ ﴾ تعني فتح مكة. وروى البغوي أن الآيات في شأن الذين تختلفوا عن الهجرة بعد الفتح تعلقا بأبنائهم وأزواجهم وأموالهم والذين نزلت فيهم وفي أمثالهم جملة :﴿ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ﴾ في الآية ( ٧٢ ) من سورة الأنفال. كما روي أنها في صدد النهي عن موالاة تسعة من المسلمين ارتدوا ولحقوا بمكة. وروى هذا المفسر عن الحسن أن الجملة المذكورة آنفا هي إنذار بعقوبة عاجلة أو آجلة إطلاقا. وروى الطبرسي أن الآيات نزلت في حاطب بن أبي بلتعة حين أرسل إلى أهل مكة ينذرهم بعزم النبي صلى الله عليه وآله وسلم على غزوهم. وليس شيء من هذه الروايات واردا في الصحاح وهي لا تنطبق على فحوى الآيات وروحها. وفي الآيات التالية لها دليل قاطع على أنها نزلت بعد فتح مكة لا قبله كما تذكر الروايات أو تقتضيه ؛ لأنها تذكر المؤمنين بما كان من نصر الله لهم في يوم حنين بعد هزيمتهم على سبيل تدعيم النهي. ويوم حنين إنما كان بعد فتح مكة. ومن العجيب أن لا ينتبه الرواة والمفسرون إلى ذلك.
والصورة التي يمكن أن تنطوي في الآيات هي أنه كان لبعض المؤمنين بعد الفتح المكي أقارب مازالوا على شركهم، وكان المؤمنون يتواصلون معهم ويعتبرونهم عصبيتهم. ومن المحتمل أن يكون لبعضهم في المكان الذي هاجروا منه أموال وأرض فكانوا يتطلعون إليها ومنهم من حاول الالتحاق بها. ومن المحتمل أن يكون هؤلاء من أهل مكة أو من القبائل المجاورة لها أو من القبائل التي لم تكن أسلمت من أطراف المدينة. ومن المحتمل أن تكون الظروف اقتضت أن يسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعض سراياه عليهم فاعترض أقاربهم المؤمنون أو أظهروا عصبيتهم نحوهم، فاقتضت الحكمة إنزال الآيات بالأسلوب القوي الذي جاءت به ليكون زاجرا وحاسما في توطيد الرابطة الدينية والكيان الإسلامي دون أي اعتبار لشيء آخر من صلات وأنساب ومنافع.
والآيات مطلقة العبارة وعامة الهدف والتقرير والتلقين مع خصوصيتها الزمنية والموضوعية. فصحة إيمان المؤمن منوطة بأن يكون الله ورسوله و الجهاد في سبيله أحب إليه من كل عرض دنيوي وصلة رحمية مهما عظمت في نفسه أو عظمت فيها مصلحته الشخصية. وهكذا تكون الآيات قد وضعت قياسا لإيمان المسلم وإخلاصه. وهو قياس دقيق شديد بل قياس خالد لإيمان المؤمنين وإخلاصهم لعقائدهم ومبادئهم في كل ظرف ومكان. وإذا لوحظ أن الآية شملت كل ما يمكن أن يكون للمرء فيه مصلحة خاصة ومحببة وصلة وشيجة من آباء وأبناء وإخوان وأزواج وعشيرة وأموال وتجارة ووطن خاص بدا مدى هذا القياس الرقيق الشديد الخالد. وسبيل الله التي تجعل الآيات الجهاد فيها من أركان هذا القياس هي الدعوة الإسلامية وما ينطوي فيها من أوامر ونواه ومبادئ وأهداف دنيوية وأخروية بصورة عامة على ما شرحناه في مناسبات سابقة حيث يبدو من خلال ذلك شمول هذا القياس الدقيق. وينطوي في الآيات بالإضافة إلى ذلك هدف توطيد الكيان الإسلامي وتضامن المسلمين في نطاقه بقطع النظر عن أي اعتبار وصلة خارجة عنه.
ومن الجدير بالذكر أن القرآن المكي وصى الإنسان والمسلم بوالديه حسنا على أن لا يطيعهما في الشرك وأن يصاحبهما في الدنيا معروفا. كما جاء في آيات سورة الإسراء ( ٢٣ – ٢٤ ) وسورة لقمان ( ١٣ – ١٤ ) وسورة العنكبوت ( ٨ ) ثم تطور هذا في الآية ( ٢٢ ) من سورة المجادلة ؛ حيث قررت أنه لا يمكن لمؤمن صادق أن يواد من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم. ثم جاءت الآيات التي نحن في صدد تفسيرها تطورا آخر حاسما بنهيها صراحة عن اتخاذ الآباء والأبناء وغيرهم من ذوي الأرحام أولياء ونصراء إذا ظلوا كفارا. والفرق التطوري يلمح في كون الوصف في آية المجادلة هو :﴿ من حاد الله ورسوله ﴾ وهذا يعني العداء في حين أن الوصف في الآيات التي نحن في صددها :﴿ إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ ﴾ وهذا لا يعني العداء دائما. وحكمة التطور تلمح في تطور حالة المسلمين والإسلام وقوتهما واشتدادا أمرهما كما هو المتبادر. وفي ذلك كله صور من صور السيرة النبوية.
ومن الحق أن نستدرك في هذا الصدد أمرا وهو مدلول ( الأولياء ) في الآيات التي نحن في صددها من حيث كونه يعني التحالف والتناصر. بحيث يمكن أن يقال : إن حكم آية سورة الممتحنة :﴿ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ لم يتعطل بالآيات التي نحن في صددها وإنه ليس فيها ما يمنع البر بالوالدين والأقارب والإقساط إليهم فضلا عن غيرهم ولو كانوا كفارا إذا كانوا موادين مسالمين كافين ألسنتهم وأيديهم عن الإسلام والمسلمين.
ولقد أورد ابن كثير في سياق هذه الآيات حديثا رواه الإمام أحمد عن زهرة بن معبد عن جده قال :( كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب فقال : والله يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه فقال عمر : فأنت الآن والله أحب إلي من نفسي، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : الآن يا عمر ). وحديثا رواه البخاري عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين ) وهذا الحديث رواه الشيخان والنسائي أيضا ( ١ )١. وهناك حديث آخر من بابه رواه الثلاثة ومنهم الترمذي عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال :( ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان : أن يكون الله ورسوله أحب إليه من سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله تعالى وأن يكره أن يعود إلى الكفر كما يكره أن يقذف في النار ) ( ٢ )٢. حيث ينطوي في الأحاديث تنبهات نبوية متساوقة مع مدى الآية.
١ التاج ج ١ ص ٢٢..
٢ المصدر نفسه..
( ١ ) اقترفتموها : بمعنى كسبتموها وحزتموها.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٣:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ( ٢٣ ) قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا ( ١ ) وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ( ٢٤ ) ﴾ ( ٢٣ – ٢٤ ).

عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت :

( ١ ) نهيا للمسلمين عن اتخاذ آبائهم وإخوانهم أولياء ونصراء إذا فضلوا الكفر على الإيمان. ووصفا لمن يفعل ذلك بالظلم أي بالتمرد على الله والانحراف عن جادة الحق والبغي على نفسه بالذات ؛ لأنه بذلك يعرضها للخطر.
( ٢ ) وإنذارا لكل من يكون أبوه وأخوه وابنه وزوجته وعشيرته وأمواله وتجارته وموطنه المحبب إليه أحب إليه من الله ورسوله والجهاد في سبيله. فعلى من يكون كذلك أن ينتظر أمر الله فيه. وإن هذا لفسق، وإن الله لا يمكن أن يسعد الفاسقين ويرضى عنهم.

تعليق على الآية :

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ ﴾
والآية التي بعدها وما فيهما من صور وتلقين ودلالات
لقد روى الطبري عن أهل التأويل من التابعين أن الآيات نزلت في العباس وطلحة بن شيبة حينما أمروا بالهجرة فقالوا : نبقى لنقوم بمهمتنا. وأردف الطبري هذا بقوله وكان ذلك قبل الفتح ! وروى كذلك عن مجاهد أن جملة :﴿ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ ﴾ تعني فتح مكة. وروى البغوي أن الآيات في شأن الذين تختلفوا عن الهجرة بعد الفتح تعلقا بأبنائهم وأزواجهم وأموالهم والذين نزلت فيهم وفي أمثالهم جملة :﴿ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ﴾ في الآية ( ٧٢ ) من سورة الأنفال. كما روي أنها في صدد النهي عن موالاة تسعة من المسلمين ارتدوا ولحقوا بمكة. وروى هذا المفسر عن الحسن أن الجملة المذكورة آنفا هي إنذار بعقوبة عاجلة أو آجلة إطلاقا. وروى الطبرسي أن الآيات نزلت في حاطب بن أبي بلتعة حين أرسل إلى أهل مكة ينذرهم بعزم النبي صلى الله عليه وآله وسلم على غزوهم. وليس شيء من هذه الروايات واردا في الصحاح وهي لا تنطبق على فحوى الآيات وروحها. وفي الآيات التالية لها دليل قاطع على أنها نزلت بعد فتح مكة لا قبله كما تذكر الروايات أو تقتضيه ؛ لأنها تذكر المؤمنين بما كان من نصر الله لهم في يوم حنين بعد هزيمتهم على سبيل تدعيم النهي. ويوم حنين إنما كان بعد فتح مكة. ومن العجيب أن لا ينتبه الرواة والمفسرون إلى ذلك.
والصورة التي يمكن أن تنطوي في الآيات هي أنه كان لبعض المؤمنين بعد الفتح المكي أقارب مازالوا على شركهم، وكان المؤمنون يتواصلون معهم ويعتبرونهم عصبيتهم. ومن المحتمل أن يكون لبعضهم في المكان الذي هاجروا منه أموال وأرض فكانوا يتطلعون إليها ومنهم من حاول الالتحاق بها. ومن المحتمل أن يكون هؤلاء من أهل مكة أو من القبائل المجاورة لها أو من القبائل التي لم تكن أسلمت من أطراف المدينة. ومن المحتمل أن تكون الظروف اقتضت أن يسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعض سراياه عليهم فاعترض أقاربهم المؤمنون أو أظهروا عصبيتهم نحوهم، فاقتضت الحكمة إنزال الآيات بالأسلوب القوي الذي جاءت به ليكون زاجرا وحاسما في توطيد الرابطة الدينية والكيان الإسلامي دون أي اعتبار لشيء آخر من صلات وأنساب ومنافع.
والآيات مطلقة العبارة وعامة الهدف والتقرير والتلقين مع خصوصيتها الزمنية والموضوعية. فصحة إيمان المؤمن منوطة بأن يكون الله ورسوله و الجهاد في سبيله أحب إليه من كل عرض دنيوي وصلة رحمية مهما عظمت في نفسه أو عظمت فيها مصلحته الشخصية. وهكذا تكون الآيات قد وضعت قياسا لإيمان المسلم وإخلاصه. وهو قياس دقيق شديد بل قياس خالد لإيمان المؤمنين وإخلاصهم لعقائدهم ومبادئهم في كل ظرف ومكان. وإذا لوحظ أن الآية شملت كل ما يمكن أن يكون للمرء فيه مصلحة خاصة ومحببة وصلة وشيجة من آباء وأبناء وإخوان وأزواج وعشيرة وأموال وتجارة ووطن خاص بدا مدى هذا القياس الرقيق الشديد الخالد. وسبيل الله التي تجعل الآيات الجهاد فيها من أركان هذا القياس هي الدعوة الإسلامية وما ينطوي فيها من أوامر ونواه ومبادئ وأهداف دنيوية وأخروية بصورة عامة على ما شرحناه في مناسبات سابقة حيث يبدو من خلال ذلك شمول هذا القياس الدقيق. وينطوي في الآيات بالإضافة إلى ذلك هدف توطيد الكيان الإسلامي وتضامن المسلمين في نطاقه بقطع النظر عن أي اعتبار وصلة خارجة عنه.
ومن الجدير بالذكر أن القرآن المكي وصى الإنسان والمسلم بوالديه حسنا على أن لا يطيعهما في الشرك وأن يصاحبهما في الدنيا معروفا. كما جاء في آيات سورة الإسراء ( ٢٣ – ٢٤ ) وسورة لقمان ( ١٣ – ١٤ ) وسورة العنكبوت ( ٨ ) ثم تطور هذا في الآية ( ٢٢ ) من سورة المجادلة ؛ حيث قررت أنه لا يمكن لمؤمن صادق أن يواد من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم. ثم جاءت الآيات التي نحن في صدد تفسيرها تطورا آخر حاسما بنهيها صراحة عن اتخاذ الآباء والأبناء وغيرهم من ذوي الأرحام أولياء ونصراء إذا ظلوا كفارا. والفرق التطوري يلمح في كون الوصف في آية المجادلة هو :﴿ من حاد الله ورسوله ﴾ وهذا يعني العداء في حين أن الوصف في الآيات التي نحن في صددها :﴿ إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ ﴾ وهذا لا يعني العداء دائما. وحكمة التطور تلمح في تطور حالة المسلمين والإسلام وقوتهما واشتدادا أمرهما كما هو المتبادر. وفي ذلك كله صور من صور السيرة النبوية.
ومن الحق أن نستدرك في هذا الصدد أمرا وهو مدلول ( الأولياء ) في الآيات التي نحن في صددها من حيث كونه يعني التحالف والتناصر. بحيث يمكن أن يقال : إن حكم آية سورة الممتحنة :﴿ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ لم يتعطل بالآيات التي نحن في صددها وإنه ليس فيها ما يمنع البر بالوالدين والأقارب والإقساط إليهم فضلا عن غيرهم ولو كانوا كفارا إذا كانوا موادين مسالمين كافين ألسنتهم وأيديهم عن الإسلام والمسلمين.
ولقد أورد ابن كثير في سياق هذه الآيات حديثا رواه الإمام أحمد عن زهرة بن معبد عن جده قال :( كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب فقال : والله يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه فقال عمر : فأنت الآن والله أحب إلي من نفسي، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : الآن يا عمر ). وحديثا رواه البخاري عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين ) وهذا الحديث رواه الشيخان والنسائي أيضا ( ١ )١. وهناك حديث آخر من بابه رواه الثلاثة ومنهم الترمذي عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال :( ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان : أن يكون الله ورسوله أحب إليه من سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله تعالى وأن يكره أن يعود إلى الكفر كما يكره أن يقذف في النار ) ( ٢ )٢. حيث ينطوي في الأحاديث تنبهات نبوية متساوقة مع مدى الآية.
١ التاج ج ١ ص ٢٢..
٢ المصدر نفسه..

﴿ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ ( ٢٥ ) ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ ( ٢٦ ) ثُمَّ يَتُوبُ اللّهُ مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَن يَشَاء وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ٢٧ ) ﴾ ( ٢٥ – ٢٧ ).
عبارة الآيات واضحة كذلك، وقد احتوت الآيتان الأولى والثانية تذكيرا للمسلمين على سبيل المن الرباني بما كان من نصر الله لهم في مواطن كثيرة اشتبكوا فيها مع أعدائهم وبما كان بنوع خاص في يوم حرب حنين ؛ حيث كانوا كثيري العدد فأعجبتهم كثرتهم وداخلهم الزهو فلم تفدهم كثرتهم، واشتد عليهم ضغط أعدائهم حتى ضاقت عليهم الأرض على رحبها وولوا منهزمين. ثم نظر الله إليهم برحمته فأنزل السكينة على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وعلى المؤمنين المخلصين وأيدهم بجنود لم يروهم فدارت الدائرة على أعدائهم الكافرين ونالهم ما استحقوا من عذاب الله. أما الآية الثالثة فقد احتوت تطمينا عاما ؛ حيث قررت كون الله من بعد ذلك يتوب على من يشاء ممن يهتدي بهداه ويستحق رحمته وغفرانه وهو الغفور الرحيم.
تعليق على الآية :
﴿ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ......................... ﴾ الخ
والآيتين التاليتين لها وما فيها من تلقين وصور
وموجز الروايات عن وقعة حنين وحصار الطائف وفتحها
ولم نطلع على رواية خاصة في مناسبة نزول الآيات. والمتبادر أنها جاءت استطرادا تدعيميا للآيتين السابقتين لها هادفة إلى تقرير كون الله تعالى هو الذي نصر المسلمين وينصرهم دائما. وأن هذا يغنيهم عن اتخاذ آبائهم وإخوانهم وعشيرتهم أولياء إذا استحبوا الكفر على الإيمان. وأن التكثر بهم لا يغنيهم شيئا. وقد رأوا مثالا على ذلك بما كان من كثرتهم يوم حنين وزهوهم بها وتيقنهم أنهم منتصرون على أعدائهم فانهزموا ليكون لهم بذلك درس وعبرة. ثم أنزل الله سكينته على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وعليهم وأيدهم بجنود من عنده فانتصروا.
وواضح أن الآيات بهذا الشرح قد انطوت على تلقين وتهذيب مستمري المدى يستمد منهما المسلم قوة روحية عظيمة، ويجعلانه يدرك وجوب الاعتماد على الله والإخلاص له وحده وعدم التأثر بالمصالح الشخصية وجعلها تحرفه عن ذلك وعدم التضامن مع غير المخلصين مثله مهما اشتدت بينه وبينهم الروابط، وكون ذلك هو الذي يكفل له النصر والتأييد الربانيين بقطع النظر عن القلة والكثرة.
وهذا مما تكرر في مناسبات عديدة سابقة بأساليب متنوعة.
ويوم حنين المذكور في الآيات هو وقعة حربية نشبت بين المسلمين وقبائل هوازن بعد فتح مكة. وملخص ما روته الروايات عنها ( ١ )١أن هذه القبائل كانت حليفة لقريش مثل قبائل ثقيف، وأن قريشا حينما علمت بزحف النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين أرسلت إليها تستنجد بها فتحركت للنجدة. ولكن زحف النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان أسرع وتم استيلاؤه على مكة قبل أن تصل النجدات فعاد فريق من ثقيف إلى منازله وبقي فريق مع هوازن وتحشدوا في وادي حنين على بعد ثلاث ليال من مكة نحو الطائف. وأرسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم من يستطلع خبرهم فعاد الرسول يقول إنهم مجموعون على الحرب وإن المدد متواصل إليهم. فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أوائل شوال على رأس ( ١٢٠٠٠ ) فيهم نحو ألفين ممن أسلم من أهل مكة حتى لقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو أبو بكر أو رجل من بكر على اختلاف الروايات : لن نغلب اليوم من قلة. وكان قائد القبائل مالك بن عوف. واشتبك الفريقان. وكان عدد جيش مالك نحو أربعة آلاف. غير أنه كان فيهم رماة ماهرون. فلما اشتبك الفريقان ظهر من جانب بعض المسلمين استهتار بالعدو لقلته وكثرتهم. ورشق الرماة المسلمين بمدرار من النبل، فأدى هذا وذاك إلى اضطراب صفوف المسلمين وفرار أكثرهم من الميدان عدا النبي صلى الله عليه وآله وسلم كعادته وأبي بكر وعمر والعباس وعلي والفضل وآخرون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المخلصين رضي الله عنهم. وأخذ ينادي الناس بصوته : يا أنصار الله يا أنصار رسول الله. فلم يلبث المسلمون أن هدأ روعهم، وأنزل الله السكينة عليهم وعادوا إلى الميدان هاتفين : لبيك لبيك ثم حملوا على المشركين حتى قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : الآن حمي الوطيس. وجعل يرتجز وهو على ظهر بغلته :
أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب
وأيد الله المسلمين وقذف الرعب في قلوب المشركين، فانهزموا لا يلوون على شيء، واحتاز المسلمون أنعامهم وماشيتهم ونسائهم وأطفالهم، وكان عدد السبي ( ٦٠٠٠ ) والإبل ( ٢٤٠٠٠ ) والغنم ( ٤٠٠٠٠ ) والفضة ( ٤٠٠٠ ) أوقية.
وقد زحف بعد ذلك في شهر شوال على الطائف ؛ لأن معظم أهلها من ثقيف الذين كانوا حلفاء قريش وهوازن وجاءوا إلى نجدتهم. وحاصرهم نحو ثمانية عشر يوما وضربها بالمنجنيق حيث كانت مسورة ولم يتيسر له فتحها ولم يخرج أهلها إلى المسلمين. وتراشق الطرفان بالنبال واستشهد نحو اثني عشر من المسلمين وأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقطع أعنابهم وتحريقها، فنادوه من وراء الأسوار وناشدوه الرحم فاستجاب وقال : أدعها لله والرحم، واستشار بعض أصحابه فقال له بعضهم :( ثعلب في جحر إن أقمت عليه أخذته وإن تركته لم يضرك ) فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مناديا ينادي بالرحيل. وأمر الناس أن يهتفوا :( آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون ) وسألوه أن يدعو على ثقيف فقال :( اللهم اهد ثقيفا وائت بهم ).
وهناك حديث رواه الشيخان عن عبد الله بن عمرو في صدد حصار الطائف والانصراف عنها قال :( حاصر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أهل الطائف فلم ينل منهم شيئا فقال : إنا قافلون إن شاء الله. قال أصحابه : نرجع ولم نفتح. فقال لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم اغدوا على القتال فغدوا عليه، فأصابهم جراح فقال لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم : إنا قافلون غدا. قال فأعجبهم ذلك فضحك النبي صلى الله عليه وآله وسلم ) ( ١ )٢.
وفي طريق عودته توقف في الجعرانة لقسمة سبي هوازن وغنائمها. وقد رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن ينعم منها على بعض زعماء مكة والقبائل زيادة على الأسهم العادية تألفا لقلوبهم لحداثة عهدهم بالإسلام، فأعطى بعضهم مائة من الإبل وبعضهم خمسين، ومنهم من أعطاه فضة ومنهم من أعطاه غنما، ثم وزع الباقي على سائر الناس بعد إفراز الخمس لبيت المال، وفعل كذلك بالسبي. أي : أنه قرر استرقاق السبي – النساء والأطفال – ووزعهم كغنائم على المسلمين.
ولقد أرسلت هوازن وفدا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم تعلنه بإسلامها وتطلب منه رد أموالها وسبيها فأخبرهم أنه قد وزع السبي والأموال ثم سألهم : أبناؤكم ونساؤكم أحب إليكم من أموالكم ؟ فقالوا : بلى. فقال : أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم، فإذا صليت الظهر فقوموا فقولوا : إنا نستشفع برسول الله إلى المسلمين وبالمسلمين إلى رسول الله. ففعلوا فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم. فقال الأنصار والمهاجرون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : وما كان لنا فهو لرسول الله، وقال بنو سليم كذلك، وأبى بعض زعماء القبائل فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أما من تمسك بحقه منكم من هذا السبي فله بكل إنسان ست فرائض من أول سبي أصيبه. فقبل الممتنعون وردوا ما في أيديهم من السبايا.
ومما روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مر بامرأة قتيل فسأل عن شأنها فقالوا : قتلها خالد بن الوليد فأمر أحد أصحابه ليدرك خالدا ويقول له : إن رسول الله ينهاه عن قتل المرأة والوليد والعسيف ( ١ )٣.
ومما روي في سياق توزيع الغنائم أن الأنصار وجدوا في أنفسهم، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يمنح زعمائهم كما منح زعماء مكة والقبائل حتى قال قائلهم : إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لقي قومه. ودخل عليه سعد بن عبادة زعيم الخزرج فقال : يا رسول الله إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم في هذا الفيء الذي أصبت. قسمت في قومك وأعطيت عطايا عظيمة في قبائل العرب ولم يك في هذا الحي من الأنصار منها شيء. فقال له : اجمع لي قومك فجمعهم، فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال بعد حمد الله :( يا معشر الأنصار ما قالة بلغتني عنكم، وجدة وجدتموها علي في أنفسكم، ألم آتكم ضلالا فهداكم الله، وعالة فأغناكم الله، وأعداء فألف الله بين قلوبكم ؟ قالوا : بلى يا رسول الله. الله ورسوله أمن وأفضل. ثم قال : ألا تجيبوني يا معشر الأنصار ؟ قالوا : بماذا نجيبك يا رسول الله ؟ لله ورسوله المن والفضل فقال لهم : أما والله لو شئتم لقلتم، فلصدقتم وصدقتم : أتيتنا مكذبا فصدقناك، ومخذولا فنصرناك، وطردا فآويناك. وعائلا فآسيناك. أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوما ليسلموا ووكلتكم إلى إسلامكم ؟ ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعوا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى رحالكم ؟ فواللذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، ولو سلك الناس شعبا وسلك الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار. اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار ) ( ١ )٤. فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم وقالوا : رضينا برسول الله قسما وحظا فكان مشهدا من أروع مشاهد السيرة. وفيه تلقين بليغ المدى سواء أفي عظم أخلاق ووفاء السيد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أم في عظم مقام الأنصار عنده أم في النظرة النبوية إلى الناس حسب قوة إيمانهم وإخلاصهم.
وفي الكتب الخمسة أحاديث نبوية في بعضها تطابق لما جاء في الروايات أو إيجاز، وفي بعضها مغايرة وتوضيح، وفي بعضها صور لم ترد في الروايات. وقد رأينا من المفيد إيرادها لإكمال الصورة ولأنها الأوثق في بابها.
من ذلك حديث رواه مسلم والبخاري عن أنس جاء فيه :( إن أناسا من الأنصار قالوا يوم حنين : أفاء الله على رسوله من أموال هوازن ما أفاء، فطفق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعطي رجالا من قريش المائة من الإبل فقالوا : يغفر الله لرسول الله يعطي قريشا ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم. فسمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من قولهم فأرسل إلى الأنصار فقال : ما حديث بلغني عنكم. فقال له فقهاء الأنصار : يا رسول الله أما ذوو رأينا فلم يقولوا شيئا، وأما أناس منا حديثة أسنانهم قالوا : يغفر الله لرسوله يعطي قريشا ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : فإني أعطي رجالا حديثي عهد بكفر أتألفهم. أفلا ترضون أن يذهب الناس بالأموال وترجعون إلى رحالكم برسول الله ؟ فوالله لما تنقلبون
١ انظر ابن سعد ج ٣ ص ٢٠٠ - ٢١٢، وابن هشام ج ٤ ص ٦٥ – ١٤٩، وتاريخ الطبري ج ٢ ص ٣٤٤ – ٣٦٠. وتفسير الطبري وتفسير البغوي أيضا..
٢ التاج ج ٤ ص ٣٩١..
٣ الخادم أو المملوك..
٤ انظر التاج ج ٤ ص ٣٨٩..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٥:﴿ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ ( ٢٥ ) ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ ( ٢٦ ) ثُمَّ يَتُوبُ اللّهُ مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَن يَشَاء وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ٢٧ ) ﴾ ( ٢٥ – ٢٧ ).
عبارة الآيات واضحة كذلك، وقد احتوت الآيتان الأولى والثانية تذكيرا للمسلمين على سبيل المن الرباني بما كان من نصر الله لهم في مواطن كثيرة اشتبكوا فيها مع أعدائهم وبما كان بنوع خاص في يوم حرب حنين ؛ حيث كانوا كثيري العدد فأعجبتهم كثرتهم وداخلهم الزهو فلم تفدهم كثرتهم، واشتد عليهم ضغط أعدائهم حتى ضاقت عليهم الأرض على رحبها وولوا منهزمين. ثم نظر الله إليهم برحمته فأنزل السكينة على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وعلى المؤمنين المخلصين وأيدهم بجنود لم يروهم فدارت الدائرة على أعدائهم الكافرين ونالهم ما استحقوا من عذاب الله. أما الآية الثالثة فقد احتوت تطمينا عاما ؛ حيث قررت كون الله من بعد ذلك يتوب على من يشاء ممن يهتدي بهداه ويستحق رحمته وغفرانه وهو الغفور الرحيم.

تعليق على الآية :

﴿ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ......................... ﴾ الخ
والآيتين التاليتين لها وما فيها من تلقين وصور
وموجز الروايات عن وقعة حنين وحصار الطائف وفتحها
ولم نطلع على رواية خاصة في مناسبة نزول الآيات. والمتبادر أنها جاءت استطرادا تدعيميا للآيتين السابقتين لها هادفة إلى تقرير كون الله تعالى هو الذي نصر المسلمين وينصرهم دائما. وأن هذا يغنيهم عن اتخاذ آبائهم وإخوانهم وعشيرتهم أولياء إذا استحبوا الكفر على الإيمان. وأن التكثر بهم لا يغنيهم شيئا. وقد رأوا مثالا على ذلك بما كان من كثرتهم يوم حنين وزهوهم بها وتيقنهم أنهم منتصرون على أعدائهم فانهزموا ليكون لهم بذلك درس وعبرة. ثم أنزل الله سكينته على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وعليهم وأيدهم بجنود من عنده فانتصروا.
وواضح أن الآيات بهذا الشرح قد انطوت على تلقين وتهذيب مستمري المدى يستمد منهما المسلم قوة روحية عظيمة، ويجعلانه يدرك وجوب الاعتماد على الله والإخلاص له وحده وعدم التأثر بالمصالح الشخصية وجعلها تحرفه عن ذلك وعدم التضامن مع غير المخلصين مثله مهما اشتدت بينه وبينهم الروابط، وكون ذلك هو الذي يكفل له النصر والتأييد الربانيين بقطع النظر عن القلة والكثرة.
وهذا مما تكرر في مناسبات عديدة سابقة بأساليب متنوعة.
ويوم حنين المذكور في الآيات هو وقعة حربية نشبت بين المسلمين وقبائل هوازن بعد فتح مكة. وملخص ما روته الروايات عنها ( ١ )١أن هذه القبائل كانت حليفة لقريش مثل قبائل ثقيف، وأن قريشا حينما علمت بزحف النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين أرسلت إليها تستنجد بها فتحركت للنجدة. ولكن زحف النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان أسرع وتم استيلاؤه على مكة قبل أن تصل النجدات فعاد فريق من ثقيف إلى منازله وبقي فريق مع هوازن وتحشدوا في وادي حنين على بعد ثلاث ليال من مكة نحو الطائف. وأرسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم من يستطلع خبرهم فعاد الرسول يقول إنهم مجموعون على الحرب وإن المدد متواصل إليهم. فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أوائل شوال على رأس ( ١٢٠٠٠ ) فيهم نحو ألفين ممن أسلم من أهل مكة حتى لقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو أبو بكر أو رجل من بكر على اختلاف الروايات : لن نغلب اليوم من قلة. وكان قائد القبائل مالك بن عوف. واشتبك الفريقان. وكان عدد جيش مالك نحو أربعة آلاف. غير أنه كان فيهم رماة ماهرون. فلما اشتبك الفريقان ظهر من جانب بعض المسلمين استهتار بالعدو لقلته وكثرتهم. ورشق الرماة المسلمين بمدرار من النبل، فأدى هذا وذاك إلى اضطراب صفوف المسلمين وفرار أكثرهم من الميدان عدا النبي صلى الله عليه وآله وسلم كعادته وأبي بكر وعمر والعباس وعلي والفضل وآخرون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المخلصين رضي الله عنهم. وأخذ ينادي الناس بصوته : يا أنصار الله يا أنصار رسول الله. فلم يلبث المسلمون أن هدأ روعهم، وأنزل الله السكينة عليهم وعادوا إلى الميدان هاتفين : لبيك لبيك ثم حملوا على المشركين حتى قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : الآن حمي الوطيس. وجعل يرتجز وهو على ظهر بغلته :
أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب
وأيد الله المسلمين وقذف الرعب في قلوب المشركين، فانهزموا لا يلوون على شيء، واحتاز المسلمون أنعامهم وماشيتهم ونسائهم وأطفالهم، وكان عدد السبي ( ٦٠٠٠ ) والإبل ( ٢٤٠٠٠ ) والغنم ( ٤٠٠٠٠ ) والفضة ( ٤٠٠٠ ) أوقية.
وقد زحف بعد ذلك في شهر شوال على الطائف ؛ لأن معظم أهلها من ثقيف الذين كانوا حلفاء قريش وهوازن وجاءوا إلى نجدتهم. وحاصرهم نحو ثمانية عشر يوما وضربها بالمنجنيق حيث كانت مسورة ولم يتيسر له فتحها ولم يخرج أهلها إلى المسلمين. وتراشق الطرفان بالنبال واستشهد نحو اثني عشر من المسلمين وأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقطع أعنابهم وتحريقها، فنادوه من وراء الأسوار وناشدوه الرحم فاستجاب وقال : أدعها لله والرحم، واستشار بعض أصحابه فقال له بعضهم :( ثعلب في جحر إن أقمت عليه أخذته وإن تركته لم يضرك ) فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مناديا ينادي بالرحيل. وأمر الناس أن يهتفوا :( آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون ) وسألوه أن يدعو على ثقيف فقال :( اللهم اهد ثقيفا وائت بهم ).
وهناك حديث رواه الشيخان عن عبد الله بن عمرو في صدد حصار الطائف والانصراف عنها قال :( حاصر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أهل الطائف فلم ينل منهم شيئا فقال : إنا قافلون إن شاء الله. قال أصحابه : نرجع ولم نفتح. فقال لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم اغدوا على القتال فغدوا عليه، فأصابهم جراح فقال لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم : إنا قافلون غدا. قال فأعجبهم ذلك فضحك النبي صلى الله عليه وآله وسلم ) ( ١ )٢.
وفي طريق عودته توقف في الجعرانة لقسمة سبي هوازن وغنائمها. وقد رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن ينعم منها على بعض زعماء مكة والقبائل زيادة على الأسهم العادية تألفا لقلوبهم لحداثة عهدهم بالإسلام، فأعطى بعضهم مائة من الإبل وبعضهم خمسين، ومنهم من أعطاه فضة ومنهم من أعطاه غنما، ثم وزع الباقي على سائر الناس بعد إفراز الخمس لبيت المال، وفعل كذلك بالسبي. أي : أنه قرر استرقاق السبي – النساء والأطفال – ووزعهم كغنائم على المسلمين.
ولقد أرسلت هوازن وفدا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم تعلنه بإسلامها وتطلب منه رد أموالها وسبيها فأخبرهم أنه قد وزع السبي والأموال ثم سألهم : أبناؤكم ونساؤكم أحب إليكم من أموالكم ؟ فقالوا : بلى. فقال : أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم، فإذا صليت الظهر فقوموا فقولوا : إنا نستشفع برسول الله إلى المسلمين وبالمسلمين إلى رسول الله. ففعلوا فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم. فقال الأنصار والمهاجرون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : وما كان لنا فهو لرسول الله، وقال بنو سليم كذلك، وأبى بعض زعماء القبائل فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أما من تمسك بحقه منكم من هذا السبي فله بكل إنسان ست فرائض من أول سبي أصيبه. فقبل الممتنعون وردوا ما في أيديهم من السبايا.
ومما روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مر بامرأة قتيل فسأل عن شأنها فقالوا : قتلها خالد بن الوليد فأمر أحد أصحابه ليدرك خالدا ويقول له : إن رسول الله ينهاه عن قتل المرأة والوليد والعسيف ( ١ )٣.
ومما روي في سياق توزيع الغنائم أن الأنصار وجدوا في أنفسهم، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يمنح زعمائهم كما منح زعماء مكة والقبائل حتى قال قائلهم : إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لقي قومه. ودخل عليه سعد بن عبادة زعيم الخزرج فقال : يا رسول الله إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم في هذا الفيء الذي أصبت. قسمت في قومك وأعطيت عطايا عظيمة في قبائل العرب ولم يك في هذا الحي من الأنصار منها شيء. فقال له : اجمع لي قومك فجمعهم، فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال بعد حمد الله :( يا معشر الأنصار ما قالة بلغتني عنكم، وجدة وجدتموها علي في أنفسكم، ألم آتكم ضلالا فهداكم الله، وعالة فأغناكم الله، وأعداء فألف الله بين قلوبكم ؟ قالوا : بلى يا رسول الله. الله ورسوله أمن وأفضل. ثم قال : ألا تجيبوني يا معشر الأنصار ؟ قالوا : بماذا نجيبك يا رسول الله ؟ لله ورسوله المن والفضل فقال لهم : أما والله لو شئتم لقلتم، فلصدقتم وصدقتم : أتيتنا مكذبا فصدقناك، ومخذولا فنصرناك، وطردا فآويناك. وعائلا فآسيناك. أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوما ليسلموا ووكلتكم إلى إسلامكم ؟ ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعوا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى رحالكم ؟ فواللذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، ولو سلك الناس شعبا وسلك الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار. اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار ) ( ١ )٤. فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم وقالوا : رضينا برسول الله قسما وحظا فكان مشهدا من أروع مشاهد السيرة. وفيه تلقين بليغ المدى سواء أفي عظم أخلاق ووفاء السيد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أم في عظم مقام الأنصار عنده أم في النظرة النبوية إلى الناس حسب قوة إيمانهم وإخلاصهم.
وفي الكتب الخمسة أحاديث نبوية في بعضها تطابق لما جاء في الروايات أو إيجاز، وفي بعضها مغايرة وتوضيح، وفي بعضها صور لم ترد في الروايات. وقد رأينا من المفيد إيرادها لإكمال الصورة ولأنها الأوثق في بابها.
من ذلك حديث رواه مسلم والبخاري عن أنس جاء فيه :( إن أناسا من الأنصار قالوا يوم حنين : أفاء الله على رسوله من أموال هوازن ما أفاء، فطفق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعطي رجالا من قريش المائة من الإبل فقالوا : يغفر الله لرسول الله يعطي قريشا ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم. فسمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من قولهم فأرسل إلى الأنصار فقال : ما حديث بلغني عنكم. فقال له فقهاء الأنصار : يا رسول الله أما ذوو رأينا فلم يقولوا شيئا، وأما أناس منا حديثة أسنانهم قالوا : يغفر الله لرسوله يعطي قريشا ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : فإني أعطي رجالا حديثي عهد بكفر أتألفهم. أفلا ترضون أن يذهب الناس بالأموال وترجعون إلى رحالكم برسول الله ؟ فوالله لما تنقلبون
١ انظر ابن سعد ج ٣ ص ٢٠٠ - ٢١٢، وابن هشام ج ٤ ص ٦٥ – ١٤٩، وتاريخ الطبري ج ٢ ص ٣٤٤ – ٣٦٠. وتفسير الطبري وتفسير البغوي أيضا..
٢ التاج ج ٤ ص ٣٩١..
٣ الخادم أو المملوك..
٤ انظر التاج ج ٤ ص ٣٨٩..

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٥:﴿ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ ( ٢٥ ) ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ ( ٢٦ ) ثُمَّ يَتُوبُ اللّهُ مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَن يَشَاء وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ٢٧ ) ﴾ ( ٢٥ – ٢٧ ).
عبارة الآيات واضحة كذلك، وقد احتوت الآيتان الأولى والثانية تذكيرا للمسلمين على سبيل المن الرباني بما كان من نصر الله لهم في مواطن كثيرة اشتبكوا فيها مع أعدائهم وبما كان بنوع خاص في يوم حرب حنين ؛ حيث كانوا كثيري العدد فأعجبتهم كثرتهم وداخلهم الزهو فلم تفدهم كثرتهم، واشتد عليهم ضغط أعدائهم حتى ضاقت عليهم الأرض على رحبها وولوا منهزمين. ثم نظر الله إليهم برحمته فأنزل السكينة على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وعلى المؤمنين المخلصين وأيدهم بجنود لم يروهم فدارت الدائرة على أعدائهم الكافرين ونالهم ما استحقوا من عذاب الله. أما الآية الثالثة فقد احتوت تطمينا عاما ؛ حيث قررت كون الله من بعد ذلك يتوب على من يشاء ممن يهتدي بهداه ويستحق رحمته وغفرانه وهو الغفور الرحيم.

تعليق على الآية :

﴿ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ......................... ﴾ الخ
والآيتين التاليتين لها وما فيها من تلقين وصور
وموجز الروايات عن وقعة حنين وحصار الطائف وفتحها
ولم نطلع على رواية خاصة في مناسبة نزول الآيات. والمتبادر أنها جاءت استطرادا تدعيميا للآيتين السابقتين لها هادفة إلى تقرير كون الله تعالى هو الذي نصر المسلمين وينصرهم دائما. وأن هذا يغنيهم عن اتخاذ آبائهم وإخوانهم وعشيرتهم أولياء إذا استحبوا الكفر على الإيمان. وأن التكثر بهم لا يغنيهم شيئا. وقد رأوا مثالا على ذلك بما كان من كثرتهم يوم حنين وزهوهم بها وتيقنهم أنهم منتصرون على أعدائهم فانهزموا ليكون لهم بذلك درس وعبرة. ثم أنزل الله سكينته على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وعليهم وأيدهم بجنود من عنده فانتصروا.
وواضح أن الآيات بهذا الشرح قد انطوت على تلقين وتهذيب مستمري المدى يستمد منهما المسلم قوة روحية عظيمة، ويجعلانه يدرك وجوب الاعتماد على الله والإخلاص له وحده وعدم التأثر بالمصالح الشخصية وجعلها تحرفه عن ذلك وعدم التضامن مع غير المخلصين مثله مهما اشتدت بينه وبينهم الروابط، وكون ذلك هو الذي يكفل له النصر والتأييد الربانيين بقطع النظر عن القلة والكثرة.
وهذا مما تكرر في مناسبات عديدة سابقة بأساليب متنوعة.
ويوم حنين المذكور في الآيات هو وقعة حربية نشبت بين المسلمين وقبائل هوازن بعد فتح مكة. وملخص ما روته الروايات عنها ( ١ )١أن هذه القبائل كانت حليفة لقريش مثل قبائل ثقيف، وأن قريشا حينما علمت بزحف النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين أرسلت إليها تستنجد بها فتحركت للنجدة. ولكن زحف النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان أسرع وتم استيلاؤه على مكة قبل أن تصل النجدات فعاد فريق من ثقيف إلى منازله وبقي فريق مع هوازن وتحشدوا في وادي حنين على بعد ثلاث ليال من مكة نحو الطائف. وأرسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم من يستطلع خبرهم فعاد الرسول يقول إنهم مجموعون على الحرب وإن المدد متواصل إليهم. فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أوائل شوال على رأس ( ١٢٠٠٠ ) فيهم نحو ألفين ممن أسلم من أهل مكة حتى لقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو أبو بكر أو رجل من بكر على اختلاف الروايات : لن نغلب اليوم من قلة. وكان قائد القبائل مالك بن عوف. واشتبك الفريقان. وكان عدد جيش مالك نحو أربعة آلاف. غير أنه كان فيهم رماة ماهرون. فلما اشتبك الفريقان ظهر من جانب بعض المسلمين استهتار بالعدو لقلته وكثرتهم. ورشق الرماة المسلمين بمدرار من النبل، فأدى هذا وذاك إلى اضطراب صفوف المسلمين وفرار أكثرهم من الميدان عدا النبي صلى الله عليه وآله وسلم كعادته وأبي بكر وعمر والعباس وعلي والفضل وآخرون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المخلصين رضي الله عنهم. وأخذ ينادي الناس بصوته : يا أنصار الله يا أنصار رسول الله. فلم يلبث المسلمون أن هدأ روعهم، وأنزل الله السكينة عليهم وعادوا إلى الميدان هاتفين : لبيك لبيك ثم حملوا على المشركين حتى قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : الآن حمي الوطيس. وجعل يرتجز وهو على ظهر بغلته :
أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب
وأيد الله المسلمين وقذف الرعب في قلوب المشركين، فانهزموا لا يلوون على شيء، واحتاز المسلمون أنعامهم وماشيتهم ونسائهم وأطفالهم، وكان عدد السبي ( ٦٠٠٠ ) والإبل ( ٢٤٠٠٠ ) والغنم ( ٤٠٠٠٠ ) والفضة ( ٤٠٠٠ ) أوقية.
وقد زحف بعد ذلك في شهر شوال على الطائف ؛ لأن معظم أهلها من ثقيف الذين كانوا حلفاء قريش وهوازن وجاءوا إلى نجدتهم. وحاصرهم نحو ثمانية عشر يوما وضربها بالمنجنيق حيث كانت مسورة ولم يتيسر له فتحها ولم يخرج أهلها إلى المسلمين. وتراشق الطرفان بالنبال واستشهد نحو اثني عشر من المسلمين وأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقطع أعنابهم وتحريقها، فنادوه من وراء الأسوار وناشدوه الرحم فاستجاب وقال : أدعها لله والرحم، واستشار بعض أصحابه فقال له بعضهم :( ثعلب في جحر إن أقمت عليه أخذته وإن تركته لم يضرك ) فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مناديا ينادي بالرحيل. وأمر الناس أن يهتفوا :( آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون ) وسألوه أن يدعو على ثقيف فقال :( اللهم اهد ثقيفا وائت بهم ).
وهناك حديث رواه الشيخان عن عبد الله بن عمرو في صدد حصار الطائف والانصراف عنها قال :( حاصر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أهل الطائف فلم ينل منهم شيئا فقال : إنا قافلون إن شاء الله. قال أصحابه : نرجع ولم نفتح. فقال لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم اغدوا على القتال فغدوا عليه، فأصابهم جراح فقال لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم : إنا قافلون غدا. قال فأعجبهم ذلك فضحك النبي صلى الله عليه وآله وسلم ) ( ١ )٢.
وفي طريق عودته توقف في الجعرانة لقسمة سبي هوازن وغنائمها. وقد رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن ينعم منها على بعض زعماء مكة والقبائل زيادة على الأسهم العادية تألفا لقلوبهم لحداثة عهدهم بالإسلام، فأعطى بعضهم مائة من الإبل وبعضهم خمسين، ومنهم من أعطاه فضة ومنهم من أعطاه غنما، ثم وزع الباقي على سائر الناس بعد إفراز الخمس لبيت المال، وفعل كذلك بالسبي. أي : أنه قرر استرقاق السبي – النساء والأطفال – ووزعهم كغنائم على المسلمين.
ولقد أرسلت هوازن وفدا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم تعلنه بإسلامها وتطلب منه رد أموالها وسبيها فأخبرهم أنه قد وزع السبي والأموال ثم سألهم : أبناؤكم ونساؤكم أحب إليكم من أموالكم ؟ فقالوا : بلى. فقال : أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم، فإذا صليت الظهر فقوموا فقولوا : إنا نستشفع برسول الله إلى المسلمين وبالمسلمين إلى رسول الله. ففعلوا فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم. فقال الأنصار والمهاجرون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : وما كان لنا فهو لرسول الله، وقال بنو سليم كذلك، وأبى بعض زعماء القبائل فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أما من تمسك بحقه منكم من هذا السبي فله بكل إنسان ست فرائض من أول سبي أصيبه. فقبل الممتنعون وردوا ما في أيديهم من السبايا.
ومما روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مر بامرأة قتيل فسأل عن شأنها فقالوا : قتلها خالد بن الوليد فأمر أحد أصحابه ليدرك خالدا ويقول له : إن رسول الله ينهاه عن قتل المرأة والوليد والعسيف ( ١ )٣.
ومما روي في سياق توزيع الغنائم أن الأنصار وجدوا في أنفسهم، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يمنح زعمائهم كما منح زعماء مكة والقبائل حتى قال قائلهم : إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لقي قومه. ودخل عليه سعد بن عبادة زعيم الخزرج فقال : يا رسول الله إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم في هذا الفيء الذي أصبت. قسمت في قومك وأعطيت عطايا عظيمة في قبائل العرب ولم يك في هذا الحي من الأنصار منها شيء. فقال له : اجمع لي قومك فجمعهم، فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال بعد حمد الله :( يا معشر الأنصار ما قالة بلغتني عنكم، وجدة وجدتموها علي في أنفسكم، ألم آتكم ضلالا فهداكم الله، وعالة فأغناكم الله، وأعداء فألف الله بين قلوبكم ؟ قالوا : بلى يا رسول الله. الله ورسوله أمن وأفضل. ثم قال : ألا تجيبوني يا معشر الأنصار ؟ قالوا : بماذا نجيبك يا رسول الله ؟ لله ورسوله المن والفضل فقال لهم : أما والله لو شئتم لقلتم، فلصدقتم وصدقتم : أتيتنا مكذبا فصدقناك، ومخذولا فنصرناك، وطردا فآويناك. وعائلا فآسيناك. أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوما ليسلموا ووكلتكم إلى إسلامكم ؟ ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعوا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى رحالكم ؟ فواللذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، ولو سلك الناس شعبا وسلك الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار. اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار ) ( ١ )٤. فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم وقالوا : رضينا برسول الله قسما وحظا فكان مشهدا من أروع مشاهد السيرة. وفيه تلقين بليغ المدى سواء أفي عظم أخلاق ووفاء السيد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أم في عظم مقام الأنصار عنده أم في النظرة النبوية إلى الناس حسب قوة إيمانهم وإخلاصهم.
وفي الكتب الخمسة أحاديث نبوية في بعضها تطابق لما جاء في الروايات أو إيجاز، وفي بعضها مغايرة وتوضيح، وفي بعضها صور لم ترد في الروايات. وقد رأينا من المفيد إيرادها لإكمال الصورة ولأنها الأوثق في بابها.
من ذلك حديث رواه مسلم والبخاري عن أنس جاء فيه :( إن أناسا من الأنصار قالوا يوم حنين : أفاء الله على رسوله من أموال هوازن ما أفاء، فطفق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعطي رجالا من قريش المائة من الإبل فقالوا : يغفر الله لرسول الله يعطي قريشا ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم. فسمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من قولهم فأرسل إلى الأنصار فقال : ما حديث بلغني عنكم. فقال له فقهاء الأنصار : يا رسول الله أما ذوو رأينا فلم يقولوا شيئا، وأما أناس منا حديثة أسنانهم قالوا : يغفر الله لرسوله يعطي قريشا ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : فإني أعطي رجالا حديثي عهد بكفر أتألفهم. أفلا ترضون أن يذهب الناس بالأموال وترجعون إلى رحالكم برسول الله ؟ فوالله لما تنقلبون
١ انظر ابن سعد ج ٣ ص ٢٠٠ - ٢١٢، وابن هشام ج ٤ ص ٦٥ – ١٤٩، وتاريخ الطبري ج ٢ ص ٣٤٤ – ٣٦٠. وتفسير الطبري وتفسير البغوي أيضا..
٢ التاج ج ٤ ص ٣٩١..
٣ الخادم أو المملوك..
٤ انظر التاج ج ٤ ص ٣٨٩..

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً ( ١ ) فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاء إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( ٢٨ ) ﴾ ( ٢٨ ).
( ١ ) عيلة : فقرا أو فاقة.
عبارة الآية واضحة. وقد تضمنت :
( ١ ) خطابا للمسلمين تؤذنهم فيه بأن المشركين نجس، فلا ينبغي أن يقربوا المسجد الحرام بعد هذا العام الذي أنزلت فيه الآية.
( ٢ ) وتطمينا لهم فإذا كانوا يخافون الفاقة وضيق العيش من هذا المنع فليطمئنوا فإن الله عز وجل قادر على إغنائهم من فضله. وإنه لهو العليم الحكيم الذي يعلم مقتضيات الأمور ويأمر بما فيه الحكمة والصواب.
تعليق على الآية :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا ﴾
وما روي في صددها من أقوال وما ينطوي فيها
من صور وتطور وتلقين أحكام
لقد روى الطبري أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما أمر بالنداء بأن لا يحج بعد هذا العام مشرك قال المسلمون : كنا نصيب من بياعاتهم في الموسم فأنزل الله الآية. كما روي أنه لما نزل شطر الآية الأول وشق على المسلمين وقالوا : من يأتينا بطعامنا ومن يأتينا بالمتاع فنزل شقها الثاني. هذا في حين أن الطبري روى في جملة ما روى في سياق الآيات الأولى من السورة أن هذه الآية نزلت مع ما قبلها من أول السورة، وكان حكمها في جملة ما نودي به يوم الحج الأكبر، وهو أن لا يحج بعد هذا العام مشرك.
ومهما يكن من أمر فالذي يتبادر لنا أن الآية على كل حال لم تنزل لحدتها، ولم تنزل مجزأة وإنما هي جزء من السياق السابق أو نتيجة من نتائجه. فالآيات السابقة أمرت بقتال المشركين الناكثين وقررت عدم أهلية المشركين كافة لعمارة مساجد الله. ولقد كان من جملة ما أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإعلانه يوم الحج الأكبر : أن لا يحج بعد الآن مشرك على ما رويناه قبل.
ولقد علم الله أن حياة أهل مكة كانت تقوم على الخارج تجارة وغذاء. وأن أهلها سوف يستشعرون خوفا من أن يضيق بالمنع رزقهم ومعيشتهم فاقتضت حكمة التنزيل الإيحاء بالآية تبريرا للمنع من جهة وتطمينا لأهل مكة من جهة أخرى.
ولما كان نزول الآيات والنداء يوم الحج الأكبر الذي أمرت الآية الثالثة من السورة وتنفيذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم له بواسطة أبي بكر وعلي رضي الله عنهما قد وقع بعد سنة من فتح مكة وبعد فتح الطائف ودخول هوازن وثقيف أقوى قبائل منطقة الحجاز في الإسلام بالإضافة إلى أهل مكة ومعظم من حولها من القبائل، فإن معنى هذا أن ذلك قد وقع بعد أن صارت هذه المنطقة جميعها في حوزة السلطان الإسلامي وصار معظم أهلها مسلمين حيث صار في الإمكان منع من بقي على شركه من العرب من دخول منطقة المسجد الحرام وممارسة طقوس تتنافى مع دين الله الذي توطد فيها. وينطوي في هذا صورة لتطور الدعوة الإسلامية وانتشارها وقوتها وسلطانها تحت راية النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
ولقد حج النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد هذه السنة الحجة التي سميت حجة الوداع ؛ لأنه مات بعدها بقليل. ومن الممكن أن يلمح من ذلك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يحج ويكون في من يشهدون الحج مشركون فأرسل أبا بكر أميرا للحج وأرسل معه الأمر بمنع المشركين بعد هذه السنة من دخول المسجد الحرام تنفيذا لهذه الآية. فلما تم ذلك بادر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الحج في السنة التالية حيث لم يشهد الحج معه إلا المسلمون.
ولقد تعددت أقوال المفسرين وأهل التأويل من التابعين الذين يروي المفسرون أقوالهم في مفهومهم لنجاسة المشركين. وتحديد المنطقة المحرمة. وشمول التحريم :
١ – فبالنسبة للنقطة الأولى فهناك من قال : إن نجاستهم عينية كنجاسة الكلب والخنزير، وإن على من يمسهم ويصافحهم أن يغسل يده أو يتوضأ. وهناك من قال : إنها نجاسة حكيمة. وأكثر المذاهب الفقهية على القول الثاني. وهو الأوجه إذ المتبادر أن الوصف منبثق من ما كان عليه المشركون من عقائد باطلة. وما كانوا يمارسونه من تقاليد شنيعة من جملتها الطواف في حالة العري وأكل الميتة والتزوج بزوجات الآباء وعدم التطهر من الجنابة الخ. وكل هذا نجاسة معنوية مما يتنافر مع قدسية المسجد الحرام وطهارته.
٢- وبالنسبة للنقطة الثانية هناك حديث مرفوع أخرجه الإمام أحمد وأورده ابن كثير عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( لا يدخل مسجدنا بعد عامنا هذا إلا أهل العهد وخدمهم ) حيث يفيد ظاهر هذا الحديث أن المنع هو للمسجد. وهناك قول يرويه الزمخشري عن عطاء أحد كبار التابعين بأن المراد بالمسجد هو الحرم أي منطقة الحرم بل هناك قول رواه الزمخشري أيضا عن مالك أن المنع شامل لكل مساجد المسلمين.
ولما كان نص الآية قطعيا بأنها في صدد المسجد الحرام فإن تشميل المنع لكل مسجد أو لغير المسجد الحرام هو غلو لا مبرر له. ولما كان على القادم إلى مكة أن يحرم من حدود الحرم المعروفة خارج مكة فالمتبادر أن المنع هو لمنطقة الحرم ويكون قول عطاء هو الأوجه، وهو ما عليه الجمهور. وليس في هذا نقض للحديث المروي عن جابر في حالة صحته. فإن روح الآيات القرآنية التي ورد فيها ذكر المسجد الحرام تلهم أن المقصد من التعبير منطقة المسجد الحرام ( ١ )١. وآية العنكبوت هذه :﴿ أو لم يروا أنا جعلنا حراما آمنا ويتخطف الناس من حولهم ﴾ ( ٦٧ ). وآية القصص هذه :﴿ وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِن لَّدُنَّا ﴾ ( ٥٧ ) بنوع خاص تلهمان ذلك بكل قوة.
٣- وبالنسبة للمسألة الثالثة فإن الحديث الذي رواه جابر وأورده ابن كثير يفيد أن المنع للمشركين دون الذميين ( ٢ )٢. وقد روى الطبري عن جابر مع ذلك قولين متناقضين أحدهما يجعل المنع شاملا للذميين. وثانيهما لا يشمله. وروي عن قتادة أن المنع للمشركين وأن الذميين وعبيد المسلمين مستثنون منه. وروي أن عمر بن عبد العزيز أمر بمنع اليهود والنصارى من دخول المسجد الحارم بهذه الآية. ويظهر أنه لم يثبت عنده حديث جابر من جهة واجتهد بأن قول اليهود : عزير ابن الله وقول النصارى : المسيح ابن الله هو شرك بوجه ما. ومنع اليهود والنصارى بالإضافة إلى المشركين من دخول المسجد الحرام هو الذي عليه التعامل المتواتر منذ صدر الإسلام إلى اليوم. ولقد قال البغوي وتابعه الخازن : إن علماء الإسلام يقسمون بدلا الإسلام بالنسبة للكفار إلى ثلاثة أقسام :
( ١ ) الحرم المكي : فلا يجوز لكافر أن يدخله ذميا كان أو مستأمنا. وننبه على أن كلمة الكافر تطلق على كل جاحد برسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن. فيدخل في ذلك أهل الكتاب وغيرهم.
( ٢ ) الحجاز : فيجوز للكافر دخولها بإذن ولمدة مؤقتة دون الإقامة ؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر بإخراج المشركين واليهود والنصارى من جزيرة العرب. وعدم السماح بوجود دينين فيها. ومعنى هذا منعهم من الإقامة فيها.
( ٣ ) سائر بلاد الإسلام : فيجوز للكافر أن يقيم فيها بذمة أو أمان. على أن لا يدخل مساجد المسلمين إلا بإذن منهم. وهو تقسيم وجيه مع التنبيه على أن التعليل بالنسبة للقسم الثاني يقتضي أن يكون منع الإقامة الدائمة شاملا لجميع جزيرة العرب وليس للحجاز فقط. وقد يكون الجاري في الحجاز هو هذا حيث إن أهلها جميعهم مسلمون وإن غير المسلمين الذين يقيمون في جدة إنما يقيمون إقامة مؤقتة. ولا يمكن أن يقال هذا بالنسبة لليمن مثلا التي كان وما يزال يسمح لليهود بالإقامة فيها إقامة دائمة. ولعل شيئا من هذا جار في أنحاء جزيرة العرب الجنوبية والشرقية والغربية الأخرى.
ولم يذكر أصحاب التقسيم المسجد النبوي بخاصة والمساجد في جميع جزيرة العرب بعامة. واقتصر كلامهم على أن دخول غير المسلمين إلى مساجد المسلمين في غير جزيرة العرب منوط بإذن المسلمين.
وما دام النص القرآني محصورا في المسجد الحرام، وليس هناك أثر ثابت صحيح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن غيره فالمقتضى أن يكون دخول غير المسلمين إلى مساجد المسلمين غير محرم باستثناء المسجد الحرام. والجاري اليوم بالنسبة للمسجد النبوي هو التحريم مع أن المتواتر الذي بلغ حد اليقين أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ظل يستقبل في مسجده إلى آخر حياته طوائف من الكفار مشركين وكتابيين ومعاهدين وغير معاهدين لمصالح ومقاصد متنوعة وان خلفاءه الراشدين فعلوا ذلك أيضا.
والآية ( ٢٨ ) من هذه السورة التي تأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإجارة من يستجيره من المشركين حتى يسمع كلام الله تنطوي على قرينة قرآنية بالإباحة ؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما كان يستقبل جميع الناس من غير المسلمين في مسجده.
ولقد روى مسلم والترمذي عن عبد الله بن زيد بن عاصم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( إن إبراهيم حرم مكة ودعا لأهلها، وإني حرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة، وإني دعوت في صاعها ومدها بمثلي ما دعا به إبراهيم لأهل مكة ) ( ١ )٣.
وروى البخاري ومسلم وأبو داود عن علي قال :( من زعم أن عندنا شيئا نقرأه إلا كتاب الله وهذه الصحيفة فقد كذب. فيها أسنان الإبل وأشياء من الجراحات. وفيها قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : المدينة حرم ما بين عير إلى ثور. فمن أحدث فيها حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا. وذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم. زاد في رواية فمن أخفر مسلما فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ) ( ٢ )٤. وروى الشيخان والترمذي عن أبي هريرة قال :( حرم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما بين لابتي المدينة، فلو وجدت الظباء ما بين لابتيها ما ذعرتها. وجعل اثني عشر ميلا حول المدينة حمى ) ( ٣ )٥. ومع أن المتبادر من هذه الأحاديث هو تحريم سفك الدماء فيها وضمان الأمن لمن يكون فيها كما هو الأمر بالنسبة للحرم المكي ومداه قد يكون ما درج عليه المسلمون منذ العهود القديمة من عدم السماح لغير المسلمين بدخول المدينة مستمدا من ذلك. والله تعالى أعلم.
وأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم المذكور في الفقرة الثانية بعد السماح بوجود دينين في جزيرة العرب وإخراج اليهود والنصارى منها جاء في أحاديث عديدة. منها حديث رواه ابن هشام والطبري والبلاذري ونصه :( لا يترك بجزيرة العرب دينان ) ( ٤ )٦.
وحديث رواه الإمام أبو عبيد بن القاسم في كتاب الأموال وهو :( أخرجوا اليهود من الحجاز وأهل نجران من جزيرة العرب ) ( ١ )٧. وحديث رواه الشيخان وأبو داود عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جاء فيه :( أخرجوا المشركين من جزيرة العرب ) ( ٢ )٨.
ومما لا شك فيه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد هدف بذلك إلى غاية عظيمة. وهي تحصين جزيرة العرب من تعدد الأديان وما يؤدي هذا إليه من شقاق ونزاع ودسائس ومكائد وجعلها بلادا خالصة للإس
١ اقرأ آيات سورة الفتح (٢٥) وسورة الحج (٧٥) وسورة الأنفال (٣٤) مثلا. فالصد في هذه الآيات كان عن منطقة الحرم وعن الحج ويدخل في ذلك الكعبة وفناؤها..
٢ والمقصود بكلمة الذميين في الأعم الأغلب أهل العهد مع الكتابيين..
٣ التاج ج ٢ ص ١٦٧ و ١٦٨..
٤ المصدر نفسه..
٥ المصدر نفسه..
٦ انظر ابن هشام ج ٤ ص ٣٤٥ وتاريخ الطبري ج ٢ ص ٥٣٤ و ٥٣٥ وفتوح البلدان للبلاذري ص ٧٣..
٧ كتاب الأموال ص ٩٩..
٨ التاج ج ٤ ص ٣٦١..
( ١ ) الجزية : قيل إنها من الجزاء بمعنى المكافأة والمقابلة. وقيل إنها الإجزاء بمعنى الإكفاء، وقيل : إنها من الجزي بمعنى القضاء، وعلى القول الأول يكون معناها في مقامها ( جزاء إقرار أهل الكتاب على ما هم عليه ) وعلى القول الثاني ( اجتزاء بها عن إسلامهم ) وعلى القول الثالث ( قضاء ما عليهم ) وعلى كل حال فالكلمة اصطلاح للضريبة التي يدفعها المغلوب المستسلم لغالبه مقابل إقراره على ما هو عليه والدفاع عنه. ونرجح أنها كانت في هذا المعنى في اللغة قبل الإسلام أيضا. ولقد قال بعضهم ( ١ )١ : إنها فارسية معربة من لفظ ( كزيت ) وكان الفرس يستعملونها في المعنى المراد منها. وقد يكون هذا صحيحا. وقد تكون أصالة عروبتها هي الصحيحة. ونحن نميل إلى هذا ما دام في العروبة جذر مناسب لها ولا يبعد أن تكون دخلت إلى اللغة الفارسية وحرفت فيما بعد. وعلى كل حال فمما لا ريب فيه أن الكلمة بصيغتها مما كان العرب قبل الإسلام يتداولونه في معناها.
﴿ قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ ( ١ ) عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ( ٢٩ ) وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ ( ٢ ) قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ( ٣٠ ) اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ( ٣١ ) يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ( ٣٢ ) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ( ٣٣ ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ( ٣٤ ) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَـذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ ( ٣٥ ) ﴾ ( ٢٩ – ٣٥ ).

تعليق على الآية :

﴿ قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ........................ ﴾
والآيات الخمس التي بعدها وما ورد في صددها من أحاديث وأقوال
وما ترتب عليها من أحكام وتلقينات وبخاصة في صدد الجزية
وتمحيص ما روي في صدد قتال الكتابيين ومن ملة الذميين منهم
عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت أمرا للمسلمين بقتال الموصوفين فيها بأوصاف معينة من أهل الكتاب حتى يخضعوا لهم ويعطوهم الجزية مقهورين صاغرين. واستطرادات تعليلية لهذا الأمر. والآيات الست منسجمة مترابطة. وهذا ما جعلنا نوردها جملة واحدة برغم ما احتوته من أحكام متنوعة وكثيرة.
ولقد روى البغوي عن الكلبي أن الآية الأولى نزلت في بني قريظة وبني النضير من اليهود فصالحهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وكانت أول جزية أصابها أهل الإسلام، وأول ذل أصاب أهل الكتاب بأيدي المسلمين. ويقتضي هذا أن تكون الآية نزلت في السنة الثالثة أو في السنة الخامسة اللتين أجلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيهما يهود بني النضير ونكل ببني قريظة على ما شرحناه في سورتي الحشر والأحزاب. في حين أن سياق الآيات وما بعدها يلهم بقوة أنها نزلت بعد الفتح المكي وبين يدي غزوة تبوك. وهناك مأخذ آخر على رواية الكلبي وهو قوله : إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صالحهم على الجزية في حين أنه لم يكن صلح ولا جزية بل كان إجلاء للأولين وتنكيلا حاسما بالآخرين على ما شرحناه في السورتين المذكورتين آنفا.
ولقد عقب الطبري على الآية السابقة لهذه الآيات فقال : إن لمسلمين لما قالوا : من أين نأكل ومع من نتجر ولسوف نغدو فقراء بسبب منع المشركين عن دخول الحرم أنزل الله الآية ( ٢٩ ) وأمرهم بغزوة تبوك ليأخذوا الجزية بدلا عما ضاع عليهم، ثم قال في سياق تفسير هذه الآية : إن الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بحرب الروم فغزا غزوة تبوك بعد نزلها. وعزا أقواله إلى بعض أهل التأويل من التابعين مثل الضحاك وقتادة والسدي ومجاهد.
وهذه الأقوال تقتضي أن يكون الله عز وجل قد جعل الجزية التي قد تأتي من حرب الروم مقابل ما خسره المسلمون من منع المشركين من الاقتراب من المسجد الحرام، وأن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن قد حارب الروم، ثم أن لا يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد أخذ الجزية من أهل الكتاب قبل هذه الآية. ويرد على هذا ملاحظات عديدة. فأولا : أنه لم يقع حرب في غزوة تبوك وأخذت الجزية نتيجة لها. والعهود التي عقدها النبي صلى الله عليه وآله وسلم لبعض أهل هذه الأنحاء على ما سوف نشرحه بعد عهود مسالمة وموادعة. وما تعهدوا بأدائه لم يكن مقدارا مهما يسد ثغرة واسعة في حياة المسلمين الاقتصادية. وهو عائد إلى بيت المال الذي كان ينفق منه على مصالح المسلمين العامة والمحتاجين منهم وحسب، في حين أن التخوف المذكور في الآية السابقة ( ٢٨ ) هو تعبير عن لسان أهل مكة الذين كانت مواسم الحج وسيلة لتكسبهم وقضاء مصالحهم المعاشية. فضلا عن أن هؤلاء كانوا أقلية بين المسلمين والجزية ليست عائدة إليهم. وثانيا : أن هذه الأقوال تعني أن الله جعل الجزية هدفا للمسلمين من القتال، في حين أن القرآن قرر في أكثر من موضع أن الغنائم ليست هدفا للقتال، ولا يجوز أن تكون هدفا على ما مر شرحه في مناسبات عديدة سابقة وبخاصة في سياق تفسير الآية ( ٩٤ ) من سورة النساء دون أن يكون ذلك نتيجة لقتال. وثالثا : أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صالح نصارى نجران على جزية سنوية معينة على ما شرحناه في سياق تفسير الآيات :( ٣٣ – ٦٤ ) من سورة آل عمران. وأن روايات السيرة ذكرت أنه أرسل سرية في السنة السادسة إلى دومة الجندل في أنحاء تبوك لتأديب قبائلها النصرانية ودعوتها إلى الإسلام فأسلم من أسلم وتعهد من أقام على دينه بالجزية ( ١ )٢. ولقد سبق غزوة تبوك حركات حربية عديدة في أنحائها للمقابلة والدفاع على ما ذكرته روايات السيرة. فقد بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رسلا يحملون كتبه إلى ملوك وأمراء تخوم الجزيرة العربية في السنة السادسة للهجرة فقتل والي مؤتة من قبل الروم والغسانيين رسول النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى ملك بصرى وهو الحارث الأزدي ( ٢ )٣. وقتل الروم والي معان من قبلهم واسمه فروة الجذامي بسبب إسلامه ( ٣ )٤، وشلح جماعة من نصارى جذام النازلين في أنحاء تبوك دحية الكلبي رسول النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى قيصر ( ٤ )٥. وكانت قبائل كلب وجذام وقضاعة النصرانية تعتدي على قوافل المسلمين وتتجمع من حين لآخر لغزو المدينة ( ٥ )٦. فكان هذا مما جعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتحرك للمقابلة قبل نزول هذه الآيات بأربع سنين ؛ حيث قاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أول السنة الهجرية الخامسة حملة نحو دومة الجندل على بعد ١٥ أو ١٦ ليلة من المدينة وعاد منها دون الاشتباك ؛ لأن قبائلها فرت وتفرقت ) ( ١ )٧. ثم سير حملة بقيادة زيد بن حارثة إلى حسمي وراء وادي القرى لتأديب الجذاميين الذين شلحوا دحية فقتل وغنم وسبى منهم ( ٢ )٨. ثم سير حملة بقيادة عبد الرحمن بن عوف إلى دومة الجندل ثانية، فأسلم من أسلم وضرب على من لم يسلم الجزية ( ٣ )٩. ثم سير جيشا قويا في السنة الثامنة وقبل فتح مكة إلى مؤتة بقيادة زيد بن حارثة للثأر من واليها الذي قتل رسول النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد بلغ الجيش مؤتة في ناحية البلقاء، واشتبك مع الروم والقبائل النصرانية ودارت الدائرة عليه واستشهد ثلاثة قواد كانوا يتسلمون القيادة واحدا بعد آخر وهم زيد بن حارثة ثم جعفر بن أبي طالب ثم عبد الله بن رواحة رضي الله عنهم. ثم تمكن من الانسحاب بقيادة خالد بن الوليد ( ٤ )١٠. ثم سير حملة بقيادة عمرو بن العاص إلى ذات السلاسل لأن قضاعة كانت تتجمع للزحف على المدينة فدوخ الناحية وهرب أهلها ( ٥ )١١. حيث يبدو من هذه السلسلة التي يصح أن يضاف إليها وقائع إجلاء وحرب النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين مع يهود بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة وخيبر ووادي القرى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين حاربوا أهل الكتاب وأخذوا منهم الجزية قبل نزول هذه الآيات التي نحن في صددها، وأن الأقوال التي يوردها الطبري غير متسقة مع الوقائع من جهة، وأن هذه الوقائع متسقة في أسبابها وظروفها مع المبادئ القرآنية التي تقرر أن الجهاد إنما شرع للدفاع ومقابلة العدوان بالمثل ولم تكن الجزية والغنائم من أهدافه من جهة أخرى.
ولما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد استنفر المسلمين بعد نزول هذه الآيات إلى غزوة تبوك وزحف على رأس حشد عظيم نحوها وبلغها على ما تذكره جميع مصادر التاريخ والتفسير القديم وتلهمه آيات السورة. ولما كان معظم منطقة تبوك وما وراءها من مشارف الشام إلى تخوم البلقاء وما بعدها من النصارى أهل الكتاب وكانوا تحت سلطان الروم من أهل الكتاب أيضا، فإنه يسوغ القول بكل قوة والحالة هذه أن الآيات إنما نزلت بين يدي هذه الغزوة على سبيل الحث والتبرير والتعليل وحسب. والروايات تذكر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما استنفر إليها لما بلغه من أن الروم قد حشدوا حشودا كثيرة بقصد الزحف على المدينة وانضوى إليها قبائل لخم وجذام وعامة النصرانية وأرسلوا طلائعهم إلى مشارف الشام ( ١ )١٢. فضلا عن الأسباب السابقة وما استدعته من حركات عديدة حيث يتسق هذا مع أسباب الحركات الأولى ومع التقريرات القرآنية لأسباب ومبررات الجهاد الإسلامي وأهدافه. وقد ذكرت الروايات أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما عاد من تبوك فكر في تسيير جيش جديد إلى مؤتة للثأر لجيش زيد بن حارثة الذي سار للثأر من والي مؤتة لقتله رسول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعين لقيادته أسامة بن زيد حيث يدل هذا على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ظل يعتبر حالة الحرب قائمة بينه وبين الروم ونصارى العرب في مشارف الشام. ولقد مات النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل أن يسير هذا الجيش فسيره خليفته الأول أبو بكر، ثم لم يكد هذا الخليفة أن يقمع الحركات المهمة من حركات فتنة الردة حتى التفت نحو الشام، فسير الجيوش العديدة استمرارا وتنفيذا لاختيار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وبهذا يظهر بكل وضوح أن حركة الفتوح الشامية إنما كانت استمرارا لحالة الحرب التي قامت بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين وبين الروم وأعوانهم والتي كانت أسبابها ودواعيها متسقة مع التقريرات القرآنية ولم تكن بدءا هجوميا بقصد الفتح والغنائم.
ويلحظ أن الآيات قد جمعت أهل الكتاب وأهل الكتاب ليسوا النصارى فقط، والتعبير يشمل اليهود أيضا بل وغيرهم على ما شرحناه في سياق سورة غافر والشورى والمدثر. ولا نرى في هذا نقضا لما قلناه. وإذا لاحظنا أن اليهود قد أجلوا عن المدينة نهائيا وخضدت شوكتهم في خيبر والقرى الأخرى في طريق الشام في السنة الهجرية السادسة، فلم يعد في الحجاز وطريق الشام يهود يصح أن يقاتلوا ولم يكن لهم دولة أو كتلة أخرى إذ ذاك يصح أن تقاتل فإنه يسوغ أن يقال حينئذ : إن الأمر القرآني من حيث الواقع الموضوعي إنما كان للحث والتحريض على النفرة إلى غزوة تبوك لقتال الروم وقبائل النصارى. وإن استعمال تعبير :﴿ أهل الكتاب ﴾ في الآية ا
١ انظر تفسير رشيد رضا..
( ٢ ) يضاهئون : يتشبهون ويماثلون.
﴿ قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ ( ١ ) عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ( ٢٩ ) وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ ( ٢ ) قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ( ٣٠ ) اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ( ٣١ ) يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ( ٣٢ ) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ( ٣٣ ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ( ٣٤ ) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَـذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ ( ٣٥ ) ﴾ ( ٢٩ – ٣٥ ).

تعليق على الآية :

﴿ قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ........................ ﴾
والآيات الخمس التي بعدها وما ورد في صددها من أحاديث وأقوال
وما ترتب عليها من أحكام وتلقينات وبخاصة في صدد الجزية
وتمحيص ما روي في صدد قتال الكتابيين ومن ملة الذميين منهم
عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت أمرا للمسلمين بقتال الموصوفين فيها بأوصاف معينة من أهل الكتاب حتى يخضعوا لهم ويعطوهم الجزية مقهورين صاغرين. واستطرادات تعليلية لهذا الأمر. والآيات الست منسجمة مترابطة. وهذا ما جعلنا نوردها جملة واحدة برغم ما احتوته من أحكام متنوعة وكثيرة.
ولقد روى البغوي عن الكلبي أن الآية الأولى نزلت في بني قريظة وبني النضير من اليهود فصالحهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وكانت أول جزية أصابها أهل الإسلام، وأول ذل أصاب أهل الكتاب بأيدي المسلمين. ويقتضي هذا أن تكون الآية نزلت في السنة الثالثة أو في السنة الخامسة اللتين أجلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيهما يهود بني النضير ونكل ببني قريظة على ما شرحناه في سورتي الحشر والأحزاب. في حين أن سياق الآيات وما بعدها يلهم بقوة أنها نزلت بعد الفتح المكي وبين يدي غزوة تبوك. وهناك مأخذ آخر على رواية الكلبي وهو قوله : إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صالحهم على الجزية في حين أنه لم يكن صلح ولا جزية بل كان إجلاء للأولين وتنكيلا حاسما بالآخرين على ما شرحناه في السورتين المذكورتين آنفا.
ولقد عقب الطبري على الآية السابقة لهذه الآيات فقال : إن لمسلمين لما قالوا : من أين نأكل ومع من نتجر ولسوف نغدو فقراء بسبب منع المشركين عن دخول الحرم أنزل الله الآية ( ٢٩ ) وأمرهم بغزوة تبوك ليأخذوا الجزية بدلا عما ضاع عليهم، ثم قال في سياق تفسير هذه الآية : إن الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بحرب الروم فغزا غزوة تبوك بعد نزلها. وعزا أقواله إلى بعض أهل التأويل من التابعين مثل الضحاك وقتادة والسدي ومجاهد.
وهذه الأقوال تقتضي أن يكون الله عز وجل قد جعل الجزية التي قد تأتي من حرب الروم مقابل ما خسره المسلمون من منع المشركين من الاقتراب من المسجد الحرام، وأن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن قد حارب الروم، ثم أن لا يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد أخذ الجزية من أهل الكتاب قبل هذه الآية. ويرد على هذا ملاحظات عديدة. فأولا : أنه لم يقع حرب في غزوة تبوك وأخذت الجزية نتيجة لها. والعهود التي عقدها النبي صلى الله عليه وآله وسلم لبعض أهل هذه الأنحاء على ما سوف نشرحه بعد عهود مسالمة وموادعة. وما تعهدوا بأدائه لم يكن مقدارا مهما يسد ثغرة واسعة في حياة المسلمين الاقتصادية. وهو عائد إلى بيت المال الذي كان ينفق منه على مصالح المسلمين العامة والمحتاجين منهم وحسب، في حين أن التخوف المذكور في الآية السابقة ( ٢٨ ) هو تعبير عن لسان أهل مكة الذين كانت مواسم الحج وسيلة لتكسبهم وقضاء مصالحهم المعاشية. فضلا عن أن هؤلاء كانوا أقلية بين المسلمين والجزية ليست عائدة إليهم. وثانيا : أن هذه الأقوال تعني أن الله جعل الجزية هدفا للمسلمين من القتال، في حين أن القرآن قرر في أكثر من موضع أن الغنائم ليست هدفا للقتال، ولا يجوز أن تكون هدفا على ما مر شرحه في مناسبات عديدة سابقة وبخاصة في سياق تفسير الآية ( ٩٤ ) من سورة النساء دون أن يكون ذلك نتيجة لقتال. وثالثا : أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صالح نصارى نجران على جزية سنوية معينة على ما شرحناه في سياق تفسير الآيات :( ٣٣ – ٦٤ ) من سورة آل عمران. وأن روايات السيرة ذكرت أنه أرسل سرية في السنة السادسة إلى دومة الجندل في أنحاء تبوك لتأديب قبائلها النصرانية ودعوتها إلى الإسلام فأسلم من أسلم وتعهد من أقام على دينه بالجزية ( ١ )٢. ولقد سبق غزوة تبوك حركات حربية عديدة في أنحائها للمقابلة والدفاع على ما ذكرته روايات السيرة. فقد بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رسلا يحملون كتبه إلى ملوك وأمراء تخوم الجزيرة العربية في السنة السادسة للهجرة فقتل والي مؤتة من قبل الروم والغسانيين رسول النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى ملك بصرى وهو الحارث الأزدي ( ٢ )٣. وقتل الروم والي معان من قبلهم واسمه فروة الجذامي بسبب إسلامه ( ٣ )٤، وشلح جماعة من نصارى جذام النازلين في أنحاء تبوك دحية الكلبي رسول النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى قيصر ( ٤ )٥. وكانت قبائل كلب وجذام وقضاعة النصرانية تعتدي على قوافل المسلمين وتتجمع من حين لآخر لغزو المدينة ( ٥ )٦. فكان هذا مما جعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتحرك للمقابلة قبل نزول هذه الآيات بأربع سنين ؛ حيث قاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أول السنة الهجرية الخامسة حملة نحو دومة الجندل على بعد ١٥ أو ١٦ ليلة من المدينة وعاد منها دون الاشتباك ؛ لأن قبائلها فرت وتفرقت ) ( ١ )٧. ثم سير حملة بقيادة زيد بن حارثة إلى حسمي وراء وادي القرى لتأديب الجذاميين الذين شلحوا دحية فقتل وغنم وسبى منهم ( ٢ )٨. ثم سير حملة بقيادة عبد الرحمن بن عوف إلى دومة الجندل ثانية، فأسلم من أسلم وضرب على من لم يسلم الجزية ( ٣ )٩. ثم سير جيشا قويا في السنة الثامنة وقبل فتح مكة إلى مؤتة بقيادة زيد بن حارثة للثأر من واليها الذي قتل رسول النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد بلغ الجيش مؤتة في ناحية البلقاء، واشتبك مع الروم والقبائل النصرانية ودارت الدائرة عليه واستشهد ثلاثة قواد كانوا يتسلمون القيادة واحدا بعد آخر وهم زيد بن حارثة ثم جعفر بن أبي طالب ثم عبد الله بن رواحة رضي الله عنهم. ثم تمكن من الانسحاب بقيادة خالد بن الوليد ( ٤ )١٠. ثم سير حملة بقيادة عمرو بن العاص إلى ذات السلاسل لأن قضاعة كانت تتجمع للزحف على المدينة فدوخ الناحية وهرب أهلها ( ٥ )١١. حيث يبدو من هذه السلسلة التي يصح أن يضاف إليها وقائع إجلاء وحرب النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين مع يهود بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة وخيبر ووادي القرى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين حاربوا أهل الكتاب وأخذوا منهم الجزية قبل نزول هذه الآيات التي نحن في صددها، وأن الأقوال التي يوردها الطبري غير متسقة مع الوقائع من جهة، وأن هذه الوقائع متسقة في أسبابها وظروفها مع المبادئ القرآنية التي تقرر أن الجهاد إنما شرع للدفاع ومقابلة العدوان بالمثل ولم تكن الجزية والغنائم من أهدافه من جهة أخرى.
ولما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد استنفر المسلمين بعد نزول هذه الآيات إلى غزوة تبوك وزحف على رأس حشد عظيم نحوها وبلغها على ما تذكره جميع مصادر التاريخ والتفسير القديم وتلهمه آيات السورة. ولما كان معظم منطقة تبوك وما وراءها من مشارف الشام إلى تخوم البلقاء وما بعدها من النصارى أهل الكتاب وكانوا تحت سلطان الروم من أهل الكتاب أيضا، فإنه يسوغ القول بكل قوة والحالة هذه أن الآيات إنما نزلت بين يدي هذه الغزوة على سبيل الحث والتبرير والتعليل وحسب. والروايات تذكر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما استنفر إليها لما بلغه من أن الروم قد حشدوا حشودا كثيرة بقصد الزحف على المدينة وانضوى إليها قبائل لخم وجذام وعامة النصرانية وأرسلوا طلائعهم إلى مشارف الشام ( ١ )١٢. فضلا عن الأسباب السابقة وما استدعته من حركات عديدة حيث يتسق هذا مع أسباب الحركات الأولى ومع التقريرات القرآنية لأسباب ومبررات الجهاد الإسلامي وأهدافه. وقد ذكرت الروايات أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما عاد من تبوك فكر في تسيير جيش جديد إلى مؤتة للثأر لجيش زيد بن حارثة الذي سار للثأر من والي مؤتة لقتله رسول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعين لقيادته أسامة بن زيد حيث يدل هذا على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ظل يعتبر حالة الحرب قائمة بينه وبين الروم ونصارى العرب في مشارف الشام. ولقد مات النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل أن يسير هذا الجيش فسيره خليفته الأول أبو بكر، ثم لم يكد هذا الخليفة أن يقمع الحركات المهمة من حركات فتنة الردة حتى التفت نحو الشام، فسير الجيوش العديدة استمرارا وتنفيذا لاختيار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وبهذا يظهر بكل وضوح أن حركة الفتوح الشامية إنما كانت استمرارا لحالة الحرب التي قامت بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين وبين الروم وأعوانهم والتي كانت أسبابها ودواعيها متسقة مع التقريرات القرآنية ولم تكن بدءا هجوميا بقصد الفتح والغنائم.
ويلحظ أن الآيات قد جمعت أهل الكتاب وأهل الكتاب ليسوا النصارى فقط، والتعبير يشمل اليهود أيضا بل وغيرهم على ما شرحناه في سياق سورة غافر والشورى والمدثر. ولا نرى في هذا نقضا لما قلناه. وإذا لاحظنا أن اليهود قد أجلوا عن المدينة نهائيا وخضدت شوكتهم في خيبر والقرى الأخرى في طريق الشام في السنة الهجرية السادسة، فلم يعد في الحجاز وطريق الشام يهود يصح أن يقاتلوا ولم يكن لهم دولة أو كتلة أخرى إذ ذاك يصح أن تقاتل فإنه يسوغ أن يقال حينئذ : إن الأمر القرآني من حيث الواقع الموضوعي إنما كان للحث والتحريض على النفرة إلى غزوة تبوك لقتال الروم وقبائل النصارى. وإن استعمال تعبير :﴿ أهل الكتاب ﴾ في الآية ا
﴿ قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ ( ١ ) عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ( ٢٩ ) وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ ( ٢ ) قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ( ٣٠ ) اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ( ٣١ ) يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ( ٣٢ ) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ( ٣٣ ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ( ٣٤ ) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَـذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ ( ٣٥ ) ﴾ ( ٢٩ – ٣٥ ).

تعليق على الآية :

﴿ قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ........................ ﴾
والآيات الخمس التي بعدها وما ورد في صددها من أحاديث وأقوال
وما ترتب عليها من أحكام وتلقينات وبخاصة في صدد الجزية
وتمحيص ما روي في صدد قتال الكتابيين ومن ملة الذميين منهم
عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت أمرا للمسلمين بقتال الموصوفين فيها بأوصاف معينة من أهل الكتاب حتى يخضعوا لهم ويعطوهم الجزية مقهورين صاغرين. واستطرادات تعليلية لهذا الأمر. والآيات الست منسجمة مترابطة. وهذا ما جعلنا نوردها جملة واحدة برغم ما احتوته من أحكام متنوعة وكثيرة.
ولقد روى البغوي عن الكلبي أن الآية الأولى نزلت في بني قريظة وبني النضير من اليهود فصالحهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وكانت أول جزية أصابها أهل الإسلام، وأول ذل أصاب أهل الكتاب بأيدي المسلمين. ويقتضي هذا أن تكون الآية نزلت في السنة الثالثة أو في السنة الخامسة اللتين أجلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيهما يهود بني النضير ونكل ببني قريظة على ما شرحناه في سورتي الحشر والأحزاب. في حين أن سياق الآيات وما بعدها يلهم بقوة أنها نزلت بعد الفتح المكي وبين يدي غزوة تبوك. وهناك مأخذ آخر على رواية الكلبي وهو قوله : إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صالحهم على الجزية في حين أنه لم يكن صلح ولا جزية بل كان إجلاء للأولين وتنكيلا حاسما بالآخرين على ما شرحناه في السورتين المذكورتين آنفا.
ولقد عقب الطبري على الآية السابقة لهذه الآيات فقال : إن لمسلمين لما قالوا : من أين نأكل ومع من نتجر ولسوف نغدو فقراء بسبب منع المشركين عن دخول الحرم أنزل الله الآية ( ٢٩ ) وأمرهم بغزوة تبوك ليأخذوا الجزية بدلا عما ضاع عليهم، ثم قال في سياق تفسير هذه الآية : إن الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بحرب الروم فغزا غزوة تبوك بعد نزلها. وعزا أقواله إلى بعض أهل التأويل من التابعين مثل الضحاك وقتادة والسدي ومجاهد.
وهذه الأقوال تقتضي أن يكون الله عز وجل قد جعل الجزية التي قد تأتي من حرب الروم مقابل ما خسره المسلمون من منع المشركين من الاقتراب من المسجد الحرام، وأن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن قد حارب الروم، ثم أن لا يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد أخذ الجزية من أهل الكتاب قبل هذه الآية. ويرد على هذا ملاحظات عديدة. فأولا : أنه لم يقع حرب في غزوة تبوك وأخذت الجزية نتيجة لها. والعهود التي عقدها النبي صلى الله عليه وآله وسلم لبعض أهل هذه الأنحاء على ما سوف نشرحه بعد عهود مسالمة وموادعة. وما تعهدوا بأدائه لم يكن مقدارا مهما يسد ثغرة واسعة في حياة المسلمين الاقتصادية. وهو عائد إلى بيت المال الذي كان ينفق منه على مصالح المسلمين العامة والمحتاجين منهم وحسب، في حين أن التخوف المذكور في الآية السابقة ( ٢٨ ) هو تعبير عن لسان أهل مكة الذين كانت مواسم الحج وسيلة لتكسبهم وقضاء مصالحهم المعاشية. فضلا عن أن هؤلاء كانوا أقلية بين المسلمين والجزية ليست عائدة إليهم. وثانيا : أن هذه الأقوال تعني أن الله جعل الجزية هدفا للمسلمين من القتال، في حين أن القرآن قرر في أكثر من موضع أن الغنائم ليست هدفا للقتال، ولا يجوز أن تكون هدفا على ما مر شرحه في مناسبات عديدة سابقة وبخاصة في سياق تفسير الآية ( ٩٤ ) من سورة النساء دون أن يكون ذلك نتيجة لقتال. وثالثا : أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صالح نصارى نجران على جزية سنوية معينة على ما شرحناه في سياق تفسير الآيات :( ٣٣ – ٦٤ ) من سورة آل عمران. وأن روايات السيرة ذكرت أنه أرسل سرية في السنة السادسة إلى دومة الجندل في أنحاء تبوك لتأديب قبائلها النصرانية ودعوتها إلى الإسلام فأسلم من أسلم وتعهد من أقام على دينه بالجزية ( ١ )٢. ولقد سبق غزوة تبوك حركات حربية عديدة في أنحائها للمقابلة والدفاع على ما ذكرته روايات السيرة. فقد بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رسلا يحملون كتبه إلى ملوك وأمراء تخوم الجزيرة العربية في السنة السادسة للهجرة فقتل والي مؤتة من قبل الروم والغسانيين رسول النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى ملك بصرى وهو الحارث الأزدي ( ٢ )٣. وقتل الروم والي معان من قبلهم واسمه فروة الجذامي بسبب إسلامه ( ٣ )٤، وشلح جماعة من نصارى جذام النازلين في أنحاء تبوك دحية الكلبي رسول النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى قيصر ( ٤ )٥. وكانت قبائل كلب وجذام وقضاعة النصرانية تعتدي على قوافل المسلمين وتتجمع من حين لآخر لغزو المدينة ( ٥ )٦. فكان هذا مما جعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتحرك للمقابلة قبل نزول هذه الآيات بأربع سنين ؛ حيث قاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أول السنة الهجرية الخامسة حملة نحو دومة الجندل على بعد ١٥ أو ١٦ ليلة من المدينة وعاد منها دون الاشتباك ؛ لأن قبائلها فرت وتفرقت ) ( ١ )٧. ثم سير حملة بقيادة زيد بن حارثة إلى حسمي وراء وادي القرى لتأديب الجذاميين الذين شلحوا دحية فقتل وغنم وسبى منهم ( ٢ )٨. ثم سير حملة بقيادة عبد الرحمن بن عوف إلى دومة الجندل ثانية، فأسلم من أسلم وضرب على من لم يسلم الجزية ( ٣ )٩. ثم سير جيشا قويا في السنة الثامنة وقبل فتح مكة إلى مؤتة بقيادة زيد بن حارثة للثأر من واليها الذي قتل رسول النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد بلغ الجيش مؤتة في ناحية البلقاء، واشتبك مع الروم والقبائل النصرانية ودارت الدائرة عليه واستشهد ثلاثة قواد كانوا يتسلمون القيادة واحدا بعد آخر وهم زيد بن حارثة ثم جعفر بن أبي طالب ثم عبد الله بن رواحة رضي الله عنهم. ثم تمكن من الانسحاب بقيادة خالد بن الوليد ( ٤ )١٠. ثم سير حملة بقيادة عمرو بن العاص إلى ذات السلاسل لأن قضاعة كانت تتجمع للزحف على المدينة فدوخ الناحية وهرب أهلها ( ٥ )١١. حيث يبدو من هذه السلسلة التي يصح أن يضاف إليها وقائع إجلاء وحرب النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين مع يهود بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة وخيبر ووادي القرى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين حاربوا أهل الكتاب وأخذوا منهم الجزية قبل نزول هذه الآيات التي نحن في صددها، وأن الأقوال التي يوردها الطبري غير متسقة مع الوقائع من جهة، وأن هذه الوقائع متسقة في أسبابها وظروفها مع المبادئ القرآنية التي تقرر أن الجهاد إنما شرع للدفاع ومقابلة العدوان بالمثل ولم تكن الجزية والغنائم من أهدافه من جهة أخرى.
ولما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد استنفر المسلمين بعد نزول هذه الآيات إلى غزوة تبوك وزحف على رأس حشد عظيم نحوها وبلغها على ما تذكره جميع مصادر التاريخ والتفسير القديم وتلهمه آيات السورة. ولما كان معظم منطقة تبوك وما وراءها من مشارف الشام إلى تخوم البلقاء وما بعدها من النصارى أهل الكتاب وكانوا تحت سلطان الروم من أهل الكتاب أيضا، فإنه يسوغ القول بكل قوة والحالة هذه أن الآيات إنما نزلت بين يدي هذه الغزوة على سبيل الحث والتبرير والتعليل وحسب. والروايات تذكر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما استنفر إليها لما بلغه من أن الروم قد حشدوا حشودا كثيرة بقصد الزحف على المدينة وانضوى إليها قبائل لخم وجذام وعامة النصرانية وأرسلوا طلائعهم إلى مشارف الشام ( ١ )١٢. فضلا عن الأسباب السابقة وما استدعته من حركات عديدة حيث يتسق هذا مع أسباب الحركات الأولى ومع التقريرات القرآنية لأسباب ومبررات الجهاد الإسلامي وأهدافه. وقد ذكرت الروايات أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما عاد من تبوك فكر في تسيير جيش جديد إلى مؤتة للثأر لجيش زيد بن حارثة الذي سار للثأر من والي مؤتة لقتله رسول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعين لقيادته أسامة بن زيد حيث يدل هذا على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ظل يعتبر حالة الحرب قائمة بينه وبين الروم ونصارى العرب في مشارف الشام. ولقد مات النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل أن يسير هذا الجيش فسيره خليفته الأول أبو بكر، ثم لم يكد هذا الخليفة أن يقمع الحركات المهمة من حركات فتنة الردة حتى التفت نحو الشام، فسير الجيوش العديدة استمرارا وتنفيذا لاختيار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وبهذا يظهر بكل وضوح أن حركة الفتوح الشامية إنما كانت استمرارا لحالة الحرب التي قامت بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين وبين الروم وأعوانهم والتي كانت أسبابها ودواعيها متسقة مع التقريرات القرآنية ولم تكن بدءا هجوميا بقصد الفتح والغنائم.
ويلحظ أن الآيات قد جمعت أهل الكتاب وأهل الكتاب ليسوا النصارى فقط، والتعبير يشمل اليهود أيضا بل وغيرهم على ما شرحناه في سياق سورة غافر والشورى والمدثر. ولا نرى في هذا نقضا لما قلناه. وإذا لاحظنا أن اليهود قد أجلوا عن المدينة نهائيا وخضدت شوكتهم في خيبر والقرى الأخرى في طريق الشام في السنة الهجرية السادسة، فلم يعد في الحجاز وطريق الشام يهود يصح أن يقاتلوا ولم يكن لهم دولة أو كتلة أخرى إذ ذاك يصح أن تقاتل فإنه يسوغ أن يقال حينئذ : إن الأمر القرآني من حيث الواقع الموضوعي إنما كان للحث والتحريض على النفرة إلى غزوة تبوك لقتال الروم وقبائل النصارى. وإن استعمال تعبير :﴿ أهل الكتاب ﴾ في الآية ا
﴿ قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ ( ١ ) عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ( ٢٩ ) وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ ( ٢ ) قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ( ٣٠ ) اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ( ٣١ ) يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ( ٣٢ ) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ( ٣٣ ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ( ٣٤ ) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَـذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ ( ٣٥ ) ﴾ ( ٢٩ – ٣٥ ).

تعليق على الآية :

﴿ قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ........................ ﴾
والآيات الخمس التي بعدها وما ورد في صددها من أحاديث وأقوال
وما ترتب عليها من أحكام وتلقينات وبخاصة في صدد الجزية
وتمحيص ما روي في صدد قتال الكتابيين ومن ملة الذميين منهم
عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت أمرا للمسلمين بقتال الموصوفين فيها بأوصاف معينة من أهل الكتاب حتى يخضعوا لهم ويعطوهم الجزية مقهورين صاغرين. واستطرادات تعليلية لهذا الأمر. والآيات الست منسجمة مترابطة. وهذا ما جعلنا نوردها جملة واحدة برغم ما احتوته من أحكام متنوعة وكثيرة.
ولقد روى البغوي عن الكلبي أن الآية الأولى نزلت في بني قريظة وبني النضير من اليهود فصالحهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وكانت أول جزية أصابها أهل الإسلام، وأول ذل أصاب أهل الكتاب بأيدي المسلمين. ويقتضي هذا أن تكون الآية نزلت في السنة الثالثة أو في السنة الخامسة اللتين أجلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيهما يهود بني النضير ونكل ببني قريظة على ما شرحناه في سورتي الحشر والأحزاب. في حين أن سياق الآيات وما بعدها يلهم بقوة أنها نزلت بعد الفتح المكي وبين يدي غزوة تبوك. وهناك مأخذ آخر على رواية الكلبي وهو قوله : إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صالحهم على الجزية في حين أنه لم يكن صلح ولا جزية بل كان إجلاء للأولين وتنكيلا حاسما بالآخرين على ما شرحناه في السورتين المذكورتين آنفا.
ولقد عقب الطبري على الآية السابقة لهذه الآيات فقال : إن لمسلمين لما قالوا : من أين نأكل ومع من نتجر ولسوف نغدو فقراء بسبب منع المشركين عن دخول الحرم أنزل الله الآية ( ٢٩ ) وأمرهم بغزوة تبوك ليأخذوا الجزية بدلا عما ضاع عليهم، ثم قال في سياق تفسير هذه الآية : إن الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بحرب الروم فغزا غزوة تبوك بعد نزلها. وعزا أقواله إلى بعض أهل التأويل من التابعين مثل الضحاك وقتادة والسدي ومجاهد.
وهذه الأقوال تقتضي أن يكون الله عز وجل قد جعل الجزية التي قد تأتي من حرب الروم مقابل ما خسره المسلمون من منع المشركين من الاقتراب من المسجد الحرام، وأن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن قد حارب الروم، ثم أن لا يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد أخذ الجزية من أهل الكتاب قبل هذه الآية. ويرد على هذا ملاحظات عديدة. فأولا : أنه لم يقع حرب في غزوة تبوك وأخذت الجزية نتيجة لها. والعهود التي عقدها النبي صلى الله عليه وآله وسلم لبعض أهل هذه الأنحاء على ما سوف نشرحه بعد عهود مسالمة وموادعة. وما تعهدوا بأدائه لم يكن مقدارا مهما يسد ثغرة واسعة في حياة المسلمين الاقتصادية. وهو عائد إلى بيت المال الذي كان ينفق منه على مصالح المسلمين العامة والمحتاجين منهم وحسب، في حين أن التخوف المذكور في الآية السابقة ( ٢٨ ) هو تعبير عن لسان أهل مكة الذين كانت مواسم الحج وسيلة لتكسبهم وقضاء مصالحهم المعاشية. فضلا عن أن هؤلاء كانوا أقلية بين المسلمين والجزية ليست عائدة إليهم. وثانيا : أن هذه الأقوال تعني أن الله جعل الجزية هدفا للمسلمين من القتال، في حين أن القرآن قرر في أكثر من موضع أن الغنائم ليست هدفا للقتال، ولا يجوز أن تكون هدفا على ما مر شرحه في مناسبات عديدة سابقة وبخاصة في سياق تفسير الآية ( ٩٤ ) من سورة النساء دون أن يكون ذلك نتيجة لقتال. وثالثا : أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صالح نصارى نجران على جزية سنوية معينة على ما شرحناه في سياق تفسير الآيات :( ٣٣ – ٦٤ ) من سورة آل عمران. وأن روايات السيرة ذكرت أنه أرسل سرية في السنة السادسة إلى دومة الجندل في أنحاء تبوك لتأديب قبائلها النصرانية ودعوتها إلى الإسلام فأسلم من أسلم وتعهد من أقام على دينه بالجزية ( ١ )٢. ولقد سبق غزوة تبوك حركات حربية عديدة في أنحائها للمقابلة والدفاع على ما ذكرته روايات السيرة. فقد بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رسلا يحملون كتبه إلى ملوك وأمراء تخوم الجزيرة العربية في السنة السادسة للهجرة فقتل والي مؤتة من قبل الروم والغسانيين رسول النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى ملك بصرى وهو الحارث الأزدي ( ٢ )٣. وقتل الروم والي معان من قبلهم واسمه فروة الجذامي بسبب إسلامه ( ٣ )٤، وشلح جماعة من نصارى جذام النازلين في أنحاء تبوك دحية الكلبي رسول النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى قيصر ( ٤ )٥. وكانت قبائل كلب وجذام وقضاعة النصرانية تعتدي على قوافل المسلمين وتتجمع من حين لآخر لغزو المدينة ( ٥ )٦. فكان هذا مما جعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتحرك للمقابلة قبل نزول هذه الآيات بأربع سنين ؛ حيث قاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أول السنة الهجرية الخامسة حملة نحو دومة الجندل على بعد ١٥ أو ١٦ ليلة من المدينة وعاد منها دون الاشتباك ؛ لأن قبائلها فرت وتفرقت ) ( ١ )٧. ثم سير حملة بقيادة زيد بن حارثة إلى حسمي وراء وادي القرى لتأديب الجذاميين الذين شلحوا دحية فقتل وغنم وسبى منهم ( ٢ )٨. ثم سير حملة بقيادة عبد الرحمن بن عوف إلى دومة الجندل ثانية، فأسلم من أسلم وضرب على من لم يسلم الجزية ( ٣ )٩. ثم سير جيشا قويا في السنة الثامنة وقبل فتح مكة إلى مؤتة بقيادة زيد بن حارثة للثأر من واليها الذي قتل رسول النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد بلغ الجيش مؤتة في ناحية البلقاء، واشتبك مع الروم والقبائل النصرانية ودارت الدائرة عليه واستشهد ثلاثة قواد كانوا يتسلمون القيادة واحدا بعد آخر وهم زيد بن حارثة ثم جعفر بن أبي طالب ثم عبد الله بن رواحة رضي الله عنهم. ثم تمكن من الانسحاب بقيادة خالد بن الوليد ( ٤ )١٠. ثم سير حملة بقيادة عمرو بن العاص إلى ذات السلاسل لأن قضاعة كانت تتجمع للزحف على المدينة فدوخ الناحية وهرب أهلها ( ٥ )١١. حيث يبدو من هذه السلسلة التي يصح أن يضاف إليها وقائع إجلاء وحرب النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين مع يهود بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة وخيبر ووادي القرى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين حاربوا أهل الكتاب وأخذوا منهم الجزية قبل نزول هذه الآيات التي نحن في صددها، وأن الأقوال التي يوردها الطبري غير متسقة مع الوقائع من جهة، وأن هذه الوقائع متسقة في أسبابها وظروفها مع المبادئ القرآنية التي تقرر أن الجهاد إنما شرع للدفاع ومقابلة العدوان بالمثل ولم تكن الجزية والغنائم من أهدافه من جهة أخرى.
ولما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد استنفر المسلمين بعد نزول هذه الآيات إلى غزوة تبوك وزحف على رأس حشد عظيم نحوها وبلغها على ما تذكره جميع مصادر التاريخ والتفسير القديم وتلهمه آيات السورة. ولما كان معظم منطقة تبوك وما وراءها من مشارف الشام إلى تخوم البلقاء وما بعدها من النصارى أهل الكتاب وكانوا تحت سلطان الروم من أهل الكتاب أيضا، فإنه يسوغ القول بكل قوة والحالة هذه أن الآيات إنما نزلت بين يدي هذه الغزوة على سبيل الحث والتبرير والتعليل وحسب. والروايات تذكر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما استنفر إليها لما بلغه من أن الروم قد حشدوا حشودا كثيرة بقصد الزحف على المدينة وانضوى إليها قبائل لخم وجذام وعامة النصرانية وأرسلوا طلائعهم إلى مشارف الشام ( ١ )١٢. فضلا عن الأسباب السابقة وما استدعته من حركات عديدة حيث يتسق هذا مع أسباب الحركات الأولى ومع التقريرات القرآنية لأسباب ومبررات الجهاد الإسلامي وأهدافه. وقد ذكرت الروايات أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما عاد من تبوك فكر في تسيير جيش جديد إلى مؤتة للثأر لجيش زيد بن حارثة الذي سار للثأر من والي مؤتة لقتله رسول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعين لقيادته أسامة بن زيد حيث يدل هذا على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ظل يعتبر حالة الحرب قائمة بينه وبين الروم ونصارى العرب في مشارف الشام. ولقد مات النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل أن يسير هذا الجيش فسيره خليفته الأول أبو بكر، ثم لم يكد هذا الخليفة أن يقمع الحركات المهمة من حركات فتنة الردة حتى التفت نحو الشام، فسير الجيوش العديدة استمرارا وتنفيذا لاختيار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وبهذا يظهر بكل وضوح أن حركة الفتوح الشامية إنما كانت استمرارا لحالة الحرب التي قامت بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين وبين الروم وأعوانهم والتي كانت أسبابها ودواعيها متسقة مع التقريرات القرآنية ولم تكن بدءا هجوميا بقصد الفتح والغنائم.
ويلحظ أن الآيات قد جمعت أهل الكتاب وأهل الكتاب ليسوا النصارى فقط، والتعبير يشمل اليهود أيضا بل وغيرهم على ما شرحناه في سياق سورة غافر والشورى والمدثر. ولا نرى في هذا نقضا لما قلناه. وإذا لاحظنا أن اليهود قد أجلوا عن المدينة نهائيا وخضدت شوكتهم في خيبر والقرى الأخرى في طريق الشام في السنة الهجرية السادسة، فلم يعد في الحجاز وطريق الشام يهود يصح أن يقاتلوا ولم يكن لهم دولة أو كتلة أخرى إذ ذاك يصح أن تقاتل فإنه يسوغ أن يقال حينئذ : إن الأمر القرآني من حيث الواقع الموضوعي إنما كان للحث والتحريض على النفرة إلى غزوة تبوك لقتال الروم وقبائل النصارى. وإن استعمال تعبير :﴿ أهل الكتاب ﴾ في الآية ا
﴿ قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ ( ١ ) عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ( ٢٩ ) وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ ( ٢ ) قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ( ٣٠ ) اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ( ٣١ ) يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ( ٣٢ ) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ( ٣٣ ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ( ٣٤ ) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَـذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ ( ٣٥ ) ﴾ ( ٢٩ – ٣٥ ).

تعليق على الآية :

﴿ قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ........................ ﴾
والآيات الخمس التي بعدها وما ورد في صددها من أحاديث وأقوال
وما ترتب عليها من أحكام وتلقينات وبخاصة في صدد الجزية
وتمحيص ما روي في صدد قتال الكتابيين ومن ملة الذميين منهم
عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت أمرا للمسلمين بقتال الموصوفين فيها بأوصاف معينة من أهل الكتاب حتى يخضعوا لهم ويعطوهم الجزية مقهورين صاغرين. واستطرادات تعليلية لهذا الأمر. والآيات الست منسجمة مترابطة. وهذا ما جعلنا نوردها جملة واحدة برغم ما احتوته من أحكام متنوعة وكثيرة.
ولقد روى البغوي عن الكلبي أن الآية الأولى نزلت في بني قريظة وبني النضير من اليهود فصالحهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وكانت أول جزية أصابها أهل الإسلام، وأول ذل أصاب أهل الكتاب بأيدي المسلمين. ويقتضي هذا أن تكون الآية نزلت في السنة الثالثة أو في السنة الخامسة اللتين أجلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيهما يهود بني النضير ونكل ببني قريظة على ما شرحناه في سورتي الحشر والأحزاب. في حين أن سياق الآيات وما بعدها يلهم بقوة أنها نزلت بعد الفتح المكي وبين يدي غزوة تبوك. وهناك مأخذ آخر على رواية الكلبي وهو قوله : إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صالحهم على الجزية في حين أنه لم يكن صلح ولا جزية بل كان إجلاء للأولين وتنكيلا حاسما بالآخرين على ما شرحناه في السورتين المذكورتين آنفا.
ولقد عقب الطبري على الآية السابقة لهذه الآيات فقال : إن لمسلمين لما قالوا : من أين نأكل ومع من نتجر ولسوف نغدو فقراء بسبب منع المشركين عن دخول الحرم أنزل الله الآية ( ٢٩ ) وأمرهم بغزوة تبوك ليأخذوا الجزية بدلا عما ضاع عليهم، ثم قال في سياق تفسير هذه الآية : إن الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بحرب الروم فغزا غزوة تبوك بعد نزلها. وعزا أقواله إلى بعض أهل التأويل من التابعين مثل الضحاك وقتادة والسدي ومجاهد.
وهذه الأقوال تقتضي أن يكون الله عز وجل قد جعل الجزية التي قد تأتي من حرب الروم مقابل ما خسره المسلمون من منع المشركين من الاقتراب من المسجد الحرام، وأن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن قد حارب الروم، ثم أن لا يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد أخذ الجزية من أهل الكتاب قبل هذه الآية. ويرد على هذا ملاحظات عديدة. فأولا : أنه لم يقع حرب في غزوة تبوك وأخذت الجزية نتيجة لها. والعهود التي عقدها النبي صلى الله عليه وآله وسلم لبعض أهل هذه الأنحاء على ما سوف نشرحه بعد عهود مسالمة وموادعة. وما تعهدوا بأدائه لم يكن مقدارا مهما يسد ثغرة واسعة في حياة المسلمين الاقتصادية. وهو عائد إلى بيت المال الذي كان ينفق منه على مصالح المسلمين العامة والمحتاجين منهم وحسب، في حين أن التخوف المذكور في الآية السابقة ( ٢٨ ) هو تعبير عن لسان أهل مكة الذين كانت مواسم الحج وسيلة لتكسبهم وقضاء مصالحهم المعاشية. فضلا عن أن هؤلاء كانوا أقلية بين المسلمين والجزية ليست عائدة إليهم. وثانيا : أن هذه الأقوال تعني أن الله جعل الجزية هدفا للمسلمين من القتال، في حين أن القرآن قرر في أكثر من موضع أن الغنائم ليست هدفا للقتال، ولا يجوز أن تكون هدفا على ما مر شرحه في مناسبات عديدة سابقة وبخاصة في سياق تفسير الآية ( ٩٤ ) من سورة النساء دون أن يكون ذلك نتيجة لقتال. وثالثا : أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صالح نصارى نجران على جزية سنوية معينة على ما شرحناه في سياق تفسير الآيات :( ٣٣ – ٦٤ ) من سورة آل عمران. وأن روايات السيرة ذكرت أنه أرسل سرية في السنة السادسة إلى دومة الجندل في أنحاء تبوك لتأديب قبائلها النصرانية ودعوتها إلى الإسلام فأسلم من أسلم وتعهد من أقام على دينه بالجزية ( ١ )٢. ولقد سبق غزوة تبوك حركات حربية عديدة في أنحائها للمقابلة والدفاع على ما ذكرته روايات السيرة. فقد بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رسلا يحملون كتبه إلى ملوك وأمراء تخوم الجزيرة العربية في السنة السادسة للهجرة فقتل والي مؤتة من قبل الروم والغسانيين رسول النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى ملك بصرى وهو الحارث الأزدي ( ٢ )٣. وقتل الروم والي معان من قبلهم واسمه فروة الجذامي بسبب إسلامه ( ٣ )٤، وشلح جماعة من نصارى جذام النازلين في أنحاء تبوك دحية الكلبي رسول النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى قيصر ( ٤ )٥. وكانت قبائل كلب وجذام وقضاعة النصرانية تعتدي على قوافل المسلمين وتتجمع من حين لآخر لغزو المدينة ( ٥ )٦. فكان هذا مما جعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتحرك للمقابلة قبل نزول هذه الآيات بأربع سنين ؛ حيث قاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أول السنة الهجرية الخامسة حملة نحو دومة الجندل على بعد ١٥ أو ١٦ ليلة من المدينة وعاد منها دون الاشتباك ؛ لأن قبائلها فرت وتفرقت ) ( ١ )٧. ثم سير حملة بقيادة زيد بن حارثة إلى حسمي وراء وادي القرى لتأديب الجذاميين الذين شلحوا دحية فقتل وغنم وسبى منهم ( ٢ )٨. ثم سير حملة بقيادة عبد الرحمن بن عوف إلى دومة الجندل ثانية، فأسلم من أسلم وضرب على من لم يسلم الجزية ( ٣ )٩. ثم سير جيشا قويا في السنة الثامنة وقبل فتح مكة إلى مؤتة بقيادة زيد بن حارثة للثأر من واليها الذي قتل رسول النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد بلغ الجيش مؤتة في ناحية البلقاء، واشتبك مع الروم والقبائل النصرانية ودارت الدائرة عليه واستشهد ثلاثة قواد كانوا يتسلمون القيادة واحدا بعد آخر وهم زيد بن حارثة ثم جعفر بن أبي طالب ثم عبد الله بن رواحة رضي الله عنهم. ثم تمكن من الانسحاب بقيادة خالد بن الوليد ( ٤ )١٠. ثم سير حملة بقيادة عمرو بن العاص إلى ذات السلاسل لأن قضاعة كانت تتجمع للزحف على المدينة فدوخ الناحية وهرب أهلها ( ٥ )١١. حيث يبدو من هذه السلسلة التي يصح أن يضاف إليها وقائع إجلاء وحرب النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين مع يهود بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة وخيبر ووادي القرى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين حاربوا أهل الكتاب وأخذوا منهم الجزية قبل نزول هذه الآيات التي نحن في صددها، وأن الأقوال التي يوردها الطبري غير متسقة مع الوقائع من جهة، وأن هذه الوقائع متسقة في أسبابها وظروفها مع المبادئ القرآنية التي تقرر أن الجهاد إنما شرع للدفاع ومقابلة العدوان بالمثل ولم تكن الجزية والغنائم من أهدافه من جهة أخرى.
ولما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد استنفر المسلمين بعد نزول هذه الآيات إلى غزوة تبوك وزحف على رأس حشد عظيم نحوها وبلغها على ما تذكره جميع مصادر التاريخ والتفسير القديم وتلهمه آيات السورة. ولما كان معظم منطقة تبوك وما وراءها من مشارف الشام إلى تخوم البلقاء وما بعدها من النصارى أهل الكتاب وكانوا تحت سلطان الروم من أهل الكتاب أيضا، فإنه يسوغ القول بكل قوة والحالة هذه أن الآيات إنما نزلت بين يدي هذه الغزوة على سبيل الحث والتبرير والتعليل وحسب. والروايات تذكر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما استنفر إليها لما بلغه من أن الروم قد حشدوا حشودا كثيرة بقصد الزحف على المدينة وانضوى إليها قبائل لخم وجذام وعامة النصرانية وأرسلوا طلائعهم إلى مشارف الشام ( ١ )١٢. فضلا عن الأسباب السابقة وما استدعته من حركات عديدة حيث يتسق هذا مع أسباب الحركات الأولى ومع التقريرات القرآنية لأسباب ومبررات الجهاد الإسلامي وأهدافه. وقد ذكرت الروايات أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما عاد من تبوك فكر في تسيير جيش جديد إلى مؤتة للثأر لجيش زيد بن حارثة الذي سار للثأر من والي مؤتة لقتله رسول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعين لقيادته أسامة بن زيد حيث يدل هذا على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ظل يعتبر حالة الحرب قائمة بينه وبين الروم ونصارى العرب في مشارف الشام. ولقد مات النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل أن يسير هذا الجيش فسيره خليفته الأول أبو بكر، ثم لم يكد هذا الخليفة أن يقمع الحركات المهمة من حركات فتنة الردة حتى التفت نحو الشام، فسير الجيوش العديدة استمرارا وتنفيذا لاختيار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وبهذا يظهر بكل وضوح أن حركة الفتوح الشامية إنما كانت استمرارا لحالة الحرب التي قامت بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين وبين الروم وأعوانهم والتي كانت أسبابها ودواعيها متسقة مع التقريرات القرآنية ولم تكن بدءا هجوميا بقصد الفتح والغنائم.
ويلحظ أن الآيات قد جمعت أهل الكتاب وأهل الكتاب ليسوا النصارى فقط، والتعبير يشمل اليهود أيضا بل وغيرهم على ما شرحناه في سياق سورة غافر والشورى والمدثر. ولا نرى في هذا نقضا لما قلناه. وإذا لاحظنا أن اليهود قد أجلوا عن المدينة نهائيا وخضدت شوكتهم في خيبر والقرى الأخرى في طريق الشام في السنة الهجرية السادسة، فلم يعد في الحجاز وطريق الشام يهود يصح أن يقاتلوا ولم يكن لهم دولة أو كتلة أخرى إذ ذاك يصح أن تقاتل فإنه يسوغ أن يقال حينئذ : إن الأمر القرآني من حيث الواقع الموضوعي إنما كان للحث والتحريض على النفرة إلى غزوة تبوك لقتال الروم وقبائل النصارى. وإن استعمال تعبير :﴿ أهل الكتاب ﴾ في الآية ا
﴿ قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ ( ١ ) عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ( ٢٩ ) وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ ( ٢ ) قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ( ٣٠ ) اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ( ٣١ ) يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ( ٣٢ ) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ( ٣٣ ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ( ٣٤ ) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَـذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ ( ٣٥ ) ﴾ ( ٢٩ – ٣٥ ).

تعليق على الآية :

﴿ قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ........................ ﴾
والآيات الخمس التي بعدها وما ورد في صددها من أحاديث وأقوال
وما ترتب عليها من أحكام وتلقينات وبخاصة في صدد الجزية
وتمحيص ما روي في صدد قتال الكتابيين ومن ملة الذميين منهم
عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت أمرا للمسلمين بقتال الموصوفين فيها بأوصاف معينة من أهل الكتاب حتى يخضعوا لهم ويعطوهم الجزية مقهورين صاغرين. واستطرادات تعليلية لهذا الأمر. والآيات الست منسجمة مترابطة. وهذا ما جعلنا نوردها جملة واحدة برغم ما احتوته من أحكام متنوعة وكثيرة.
ولقد روى البغوي عن الكلبي أن الآية الأولى نزلت في بني قريظة وبني النضير من اليهود فصالحهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وكانت أول جزية أصابها أهل الإسلام، وأول ذل أصاب أهل الكتاب بأيدي المسلمين. ويقتضي هذا أن تكون الآية نزلت في السنة الثالثة أو في السنة الخامسة اللتين أجلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيهما يهود بني النضير ونكل ببني قريظة على ما شرحناه في سورتي الحشر والأحزاب. في حين أن سياق الآيات وما بعدها يلهم بقوة أنها نزلت بعد الفتح المكي وبين يدي غزوة تبوك. وهناك مأخذ آخر على رواية الكلبي وهو قوله : إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صالحهم على الجزية في حين أنه لم يكن صلح ولا جزية بل كان إجلاء للأولين وتنكيلا حاسما بالآخرين على ما شرحناه في السورتين المذكورتين آنفا.
ولقد عقب الطبري على الآية السابقة لهذه الآيات فقال : إن لمسلمين لما قالوا : من أين نأكل ومع من نتجر ولسوف نغدو فقراء بسبب منع المشركين عن دخول الحرم أنزل الله الآية ( ٢٩ ) وأمرهم بغزوة تبوك ليأخذوا الجزية بدلا عما ضاع عليهم، ثم قال في سياق تفسير هذه الآية : إن الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بحرب الروم فغزا غزوة تبوك بعد نزلها. وعزا أقواله إلى بعض أهل التأويل من التابعين مثل الضحاك وقتادة والسدي ومجاهد.
وهذه الأقوال تقتضي أن يكون الله عز وجل قد جعل الجزية التي قد تأتي من حرب الروم مقابل ما خسره المسلمون من منع المشركين من الاقتراب من المسجد الحرام، وأن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن قد حارب الروم، ثم أن لا يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد أخذ الجزية من أهل الكتاب قبل هذه الآية. ويرد على هذا ملاحظات عديدة. فأولا : أنه لم يقع حرب في غزوة تبوك وأخذت الجزية نتيجة لها. والعهود التي عقدها النبي صلى الله عليه وآله وسلم لبعض أهل هذه الأنحاء على ما سوف نشرحه بعد عهود مسالمة وموادعة. وما تعهدوا بأدائه لم يكن مقدارا مهما يسد ثغرة واسعة في حياة المسلمين الاقتصادية. وهو عائد إلى بيت المال الذي كان ينفق منه على مصالح المسلمين العامة والمحتاجين منهم وحسب، في حين أن التخوف المذكور في الآية السابقة ( ٢٨ ) هو تعبير عن لسان أهل مكة الذين كانت مواسم الحج وسيلة لتكسبهم وقضاء مصالحهم المعاشية. فضلا عن أن هؤلاء كانوا أقلية بين المسلمين والجزية ليست عائدة إليهم. وثانيا : أن هذه الأقوال تعني أن الله جعل الجزية هدفا للمسلمين من القتال، في حين أن القرآن قرر في أكثر من موضع أن الغنائم ليست هدفا للقتال، ولا يجوز أن تكون هدفا على ما مر شرحه في مناسبات عديدة سابقة وبخاصة في سياق تفسير الآية ( ٩٤ ) من سورة النساء دون أن يكون ذلك نتيجة لقتال. وثالثا : أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صالح نصارى نجران على جزية سنوية معينة على ما شرحناه في سياق تفسير الآيات :( ٣٣ – ٦٤ ) من سورة آل عمران. وأن روايات السيرة ذكرت أنه أرسل سرية في السنة السادسة إلى دومة الجندل في أنحاء تبوك لتأديب قبائلها النصرانية ودعوتها إلى الإسلام فأسلم من أسلم وتعهد من أقام على دينه بالجزية ( ١ )٢. ولقد سبق غزوة تبوك حركات حربية عديدة في أنحائها للمقابلة والدفاع على ما ذكرته روايات السيرة. فقد بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رسلا يحملون كتبه إلى ملوك وأمراء تخوم الجزيرة العربية في السنة السادسة للهجرة فقتل والي مؤتة من قبل الروم والغسانيين رسول النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى ملك بصرى وهو الحارث الأزدي ( ٢ )٣. وقتل الروم والي معان من قبلهم واسمه فروة الجذامي بسبب إسلامه ( ٣ )٤، وشلح جماعة من نصارى جذام النازلين في أنحاء تبوك دحية الكلبي رسول النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى قيصر ( ٤ )٥. وكانت قبائل كلب وجذام وقضاعة النصرانية تعتدي على قوافل المسلمين وتتجمع من حين لآخر لغزو المدينة ( ٥ )٦. فكان هذا مما جعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتحرك للمقابلة قبل نزول هذه الآيات بأربع سنين ؛ حيث قاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أول السنة الهجرية الخامسة حملة نحو دومة الجندل على بعد ١٥ أو ١٦ ليلة من المدينة وعاد منها دون الاشتباك ؛ لأن قبائلها فرت وتفرقت ) ( ١ )٧. ثم سير حملة بقيادة زيد بن حارثة إلى حسمي وراء وادي القرى لتأديب الجذاميين الذين شلحوا دحية فقتل وغنم وسبى منهم ( ٢ )٨. ثم سير حملة بقيادة عبد الرحمن بن عوف إلى دومة الجندل ثانية، فأسلم من أسلم وضرب على من لم يسلم الجزية ( ٣ )٩. ثم سير جيشا قويا في السنة الثامنة وقبل فتح مكة إلى مؤتة بقيادة زيد بن حارثة للثأر من واليها الذي قتل رسول النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد بلغ الجيش مؤتة في ناحية البلقاء، واشتبك مع الروم والقبائل النصرانية ودارت الدائرة عليه واستشهد ثلاثة قواد كانوا يتسلمون القيادة واحدا بعد آخر وهم زيد بن حارثة ثم جعفر بن أبي طالب ثم عبد الله بن رواحة رضي الله عنهم. ثم تمكن من الانسحاب بقيادة خالد بن الوليد ( ٤ )١٠. ثم سير حملة بقيادة عمرو بن العاص إلى ذات السلاسل لأن قضاعة كانت تتجمع للزحف على المدينة فدوخ الناحية وهرب أهلها ( ٥ )١١. حيث يبدو من هذه السلسلة التي يصح أن يضاف إليها وقائع إجلاء وحرب النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين مع يهود بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة وخيبر ووادي القرى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين حاربوا أهل الكتاب وأخذوا منهم الجزية قبل نزول هذه الآيات التي نحن في صددها، وأن الأقوال التي يوردها الطبري غير متسقة مع الوقائع من جهة، وأن هذه الوقائع متسقة في أسبابها وظروفها مع المبادئ القرآنية التي تقرر أن الجهاد إنما شرع للدفاع ومقابلة العدوان بالمثل ولم تكن الجزية والغنائم من أهدافه من جهة أخرى.
ولما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد استنفر المسلمين بعد نزول هذه الآيات إلى غزوة تبوك وزحف على رأس حشد عظيم نحوها وبلغها على ما تذكره جميع مصادر التاريخ والتفسير القديم وتلهمه آيات السورة. ولما كان معظم منطقة تبوك وما وراءها من مشارف الشام إلى تخوم البلقاء وما بعدها من النصارى أهل الكتاب وكانوا تحت سلطان الروم من أهل الكتاب أيضا، فإنه يسوغ القول بكل قوة والحالة هذه أن الآيات إنما نزلت بين يدي هذه الغزوة على سبيل الحث والتبرير والتعليل وحسب. والروايات تذكر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما استنفر إليها لما بلغه من أن الروم قد حشدوا حشودا كثيرة بقصد الزحف على المدينة وانضوى إليها قبائل لخم وجذام وعامة النصرانية وأرسلوا طلائعهم إلى مشارف الشام ( ١ )١٢. فضلا عن الأسباب السابقة وما استدعته من حركات عديدة حيث يتسق هذا مع أسباب الحركات الأولى ومع التقريرات القرآنية لأسباب ومبررات الجهاد الإسلامي وأهدافه. وقد ذكرت الروايات أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما عاد من تبوك فكر في تسيير جيش جديد إلى مؤتة للثأر لجيش زيد بن حارثة الذي سار للثأر من والي مؤتة لقتله رسول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعين لقيادته أسامة بن زيد حيث يدل هذا على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ظل يعتبر حالة الحرب قائمة بينه وبين الروم ونصارى العرب في مشارف الشام. ولقد مات النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل أن يسير هذا الجيش فسيره خليفته الأول أبو بكر، ثم لم يكد هذا الخليفة أن يقمع الحركات المهمة من حركات فتنة الردة حتى التفت نحو الشام، فسير الجيوش العديدة استمرارا وتنفيذا لاختيار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وبهذا يظهر بكل وضوح أن حركة الفتوح الشامية إنما كانت استمرارا لحالة الحرب التي قامت بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين وبين الروم وأعوانهم والتي كانت أسبابها ودواعيها متسقة مع التقريرات القرآنية ولم تكن بدءا هجوميا بقصد الفتح والغنائم.
ويلحظ أن الآيات قد جمعت أهل الكتاب وأهل الكتاب ليسوا النصارى فقط، والتعبير يشمل اليهود أيضا بل وغيرهم على ما شرحناه في سياق سورة غافر والشورى والمدثر. ولا نرى في هذا نقضا لما قلناه. وإذا لاحظنا أن اليهود قد أجلوا عن المدينة نهائيا وخضدت شوكتهم في خيبر والقرى الأخرى في طريق الشام في السنة الهجرية السادسة، فلم يعد في الحجاز وطريق الشام يهود يصح أن يقاتلوا ولم يكن لهم دولة أو كتلة أخرى إذ ذاك يصح أن تقاتل فإنه يسوغ أن يقال حينئذ : إن الأمر القرآني من حيث الواقع الموضوعي إنما كان للحث والتحريض على النفرة إلى غزوة تبوك لقتال الروم وقبائل النصارى. وإن استعمال تعبير :﴿ أهل الكتاب ﴾ في الآية ا
تعليق خاص على الآية :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ ﴾ والآية التالية لها
وما ورد في صدد كنز الفضة والذهب وأداء الزكاة من أحاديث
وأقوال، وما انطوى في ذلك من صور وتلقين، وتمحيص ما روي من تأخر فرض الزكاة، واستطراد إلى حركة أبي ذر الغفاري رضي الله عنه
وأسلوب الفقرة الثانية من الآية الأولى أي :﴿ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ عام كما هو ظاهر. غير أن وصف الرهبان والأحبار بأنهم يأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله في الفقرة الأولى من الآية يكون قرينة على أن الفقرة الثانية تعنيهم بالدرجة الأولى. فأكلهم أموال الناس بالباطل كان يؤدي إلى اكتنازهم الذهب والفضة. وصدهم عن سبيل الله كان لاستبقاء الوسيلة إلى الاكتناز في يدهم وبذلك تكون الآية محكمة التنديد والإلزام ويكون الإنذار الرهيب المذكور فيها وفي الآية التالية لها موجها إليهم بالدرجة الأولى.
على أن أسلوبها العام يسوغ القول أنها احتوت في الوقت نفسه توجيها وإنذارا عامين على سبيل الاستطراد إلى كل من يكتنز الذهب والفضة ولا ينفقها في سبيل الله. ولقد روى الطبري عن ابن عباس أن المقصود في الآية هم أهل الكتاب، ولكنها في الوقت نفسه عامة وخاصة أي فيهم وفي المسلمين معا. وهذا متطابق مع ما قررناه آنفا.
ولقد روى المفسرون ( ١ )١، أحاديث عديدة نبوية وصحابية في صدد ومعنى :﴿ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ ﴾ وفي إباحة اكتناز المال وذمه فقد روى أبو داود والحاكم ومالك عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( ما بلغ أن تؤدى زكاته فزكي فليس بكنز وفي رواية ما أدي زكاته فليس بكنز ) ( ٢ )٢. وقد أخرج الترمذي والحاكم حديثا آخر عن أبي هريرة مرفوعا جاء فيه :( إذا أديت زكاة مالك فقد قضيت ما عليك ) ( ٣ )٣. وروي عن ابن عمر أن الكنز هو كل مال لا تؤدى زكاته ولو كان غير مدفون وإن قل، وأن كل مال تؤدى زكاته ليس كنزا ولو كان مدفونا وإن كثر. وروي مثل هذا عن ابن عباس. وروي عن ابن عمر كذلك قوله : لا أبالي لو أن لي مثل أحد ذهبا أعلم عدده أزكيه وأعمل بطاعة الله فيه. وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حديث جاء فيه :( نعم المال الصالح للعبد الصالح ). وحديث آخر أنه لما نزلت الآية كبر ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقالوا : ما يستطيع أحد منا أن يدع لولده شيئا فذكر عمر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال له : إن هذه الآية قد كبرت على أصحابك يا رسول الله فقال صلى الله عليه وآله وسلم :( إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيب بها ما بقي من أموالكم، وإنما فرض المواريث من أموال تبقى بعدكم، فكبر عمر. فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ألا أخبرك بخير ما يكنز المرء ؟ المرأة الصالحة التي إذا نظر إليها سرته. وإذا أمرها أطاعته، وإذا غاب عنها حفظته ).
فهذه الأحاديث تفيد كما هو واضح أنه لا حرج من حيازة المال ولو كثر إذا أديت زكاته وأن الإنذار هو للذين لا يؤدون زكاة أموالهم. وأن معنى :﴿ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ ﴾ لا يؤدون الزكاة عنها التي جعلت للإنفاق في سبيل الله. ولقد روى المفسرون ( ١ )٤، في سياق تفسير الآية أحاديث نبوية رهيبة الإنذار للذين لا يؤدون زكاة أموالهم. منها حديث رواه أبو هريرة جاء فيه :( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثل له ماله يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة فيأخذ بلهزميه – أي شدقيه – ثم يقول : أنا مالك، أنا كنزك ) ( ٢ )٥. ومنها حديث آخر عن أبي هريرة أيضا جاء فيه :( ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار فأحمي عليها في نار جهنم فيكوى بها جبينه وجنبه وظهره، كل ما بردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار. قيل : يا رسول الله فالإبل ؟ قال : ولا صاحب إبل لا يؤدي منها حقها، ومن حقها حلبها يوم وردها إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر أوفر ما كانت لا يفقد منها فصيلا واحدا تطؤه بأخفافها وتعضه بأفواهها كلما مر عليه أولاها رد عليه أخراها، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار. قيل : يا رسول الله فالبقر والغنم ؟ قال : ولا صاحب بقر ولا غنم لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر لا يفقد منها شيئا ليس فيها عقصاء ولا جلحاء ولا عضباء تنطحه بقرونها وتطؤه بأظلافها كل ما مر عليه أولاها رد عليه أخراها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار ) ( ١ )٦. حيث يبدو من هذه الأحاديث الاهتمام العظيم الذي كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوليه لإيتاء الزكاة اتساقا مع القرآن الذي يوليها مثل ذلك بكثرة ترديدها والتوكيد على إيتائها والتنويه بفاعليها واعتبارها دليلا لا بد منه على صدق إيمان المسلم. ولا غرو فهي دعامة التضامن الاجتماعي والسلطان الإسلامي في آن واحد على ما شرحناه في المناسبات العديدة السابقة.
وإلى جانب الأحاديث الواردة في معنى الكنز وإباحة الاكتناز إذا أديت زكاته روى المفسرون أحاديث فيها تحديد للحد الأعلى الذي يكون ما فوقه كنز يحق على صاحبه الإنذار وفيها ذم لاكتناز المال والذهب والفضة إطلاقا. فقد روي عن علي بن أبي طالب قوله : إن الكنز ما زاد على أربعة آلاف درهم سواء أديت زكاته أم لم تؤد، وما دون ذلك نفقة لا حرج في حيازته. وأورد ابن كثير حديثا رواه الإمام أحمد عن عبد الرزاق عن علي بن أبي طالب جاء فيه :( لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( تبا للذهب، تبا للفضة ثلاث مرات. فشق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا : فأي مال نتخذ ؟ فقال عمر : أنا أعلم لكم ذلك، ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : يا رسول الله إن أصحابك قد شق عليهم. قالوا : أي المال نتخذ ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لسانا ذاكرا وقلبا شاكرا وزوجة صالحة تعين أحدكم على دينه ) ( ٢ )٧.
والحديث قد يفيد أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فهموا أن المذموم هو نوع المال أي عين الذهب والفضة لا جنس المال، فكان جواب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منبها إلى أن المذموم هو الجنس على ما هو المتبادر. وفي الحديث الطويل الذي أوردناه آنفا صراحة أكثر ؛ لأنه شمل الذهب والفضة والإبل والبقر والغنم. وقد روى الطبري هذا الحديث بطرق عديدة وصيغ متقاربة. وروى معه عن ثوبان حديثا جاء فيه :( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من ترك بعده كنزا مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يتبعه فيقول : ويلك ما أنت ؟ فيقول : أنا كنزك الذي تركته بعدك ولا يزال يتبعه حتى يلقمه يده فيقضمها ثم يتبعها سائر جسده ) ( ١ )٨. وروي عن أبي سعيد حديث جاء فيه :( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : الق الله فقيرا ولا تلقه غنيا. قال : يا رسول الله كيف لي بذلك ؟ قال : ما سئلت لا تمنع ما رزقت لا تخبأ. قال : يا رسول الله كيف لي بذلك قال : هو ذاك وإلا فالنار ). وروي عن قتادة :( أن رجلا من أهل الصفة مات، فوجد في مئزره دينار فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( كية ) ثم توفي رجل آخر فوجد في مئزره ديناران فقال كيتان ). وهناك أحاديث أخرى وردت في الكتب الخمسة في ذم المال والاكتناز والتحذير من فتنتهما. منها حديث رواه الترمذي عن كعب بن عياض عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( إن لكل أمة فتنة وفتنة أمتي المال ) ( ٢ )٩. وحديث رواه الترمذي عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( لا تتخذوا الضيعة فترغبوا في الدنيا ) ( ٣ )١٠. وحديث رواه البخاري عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( إن المكثرين هم المقلون يوم القيامة إلا من أعطاه الله خيرا فنفخ فيه يمينه وشماله وبين يديه ووراءه وعمل فيه خيرا ) ( ٤ )١١. وحديث رواه مسلم والترمذي عن مطرف عن أبيه قال :( انتهى إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقول : ألهاكم التكاثر. قال : يقول ابن آدم مالي مالي، وهل لك من مالك إلا ما تصدقت فأمضيت، أو أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت ) ( ٥ )١٢. وحديث رواه أبو داود عن أنس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( أما إن كل بناء وبال على صاحبه إلا ما لا، إلا ما لا، يعني ما لا بد منه ) ( ١ )١٣. وحديث رواه البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة، إن أعطي رضي وإن لم يعط لم يرض ) ( ٢ )١٤.
وحديث رواه مسلم والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( قد أفلح من أسلم، وكان رزقه كفافا وقنعه الله ) ( ٣ )١٥. وحديث رواه الترمذي عن أنس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين يوم القيامة. فقالت عائشة : لم يا رسول الله ؟ قال : إنهم يدخلون الجنة قبل أغنيائهم بأربعين خريفا ) ( ٤ )١٦. وحديث رواه الترمذي عن عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال :( يا عائشة إن أدرت اللحوق بي فيكفيك من الدنيا كزاد الراكب، وإياك ومجالسة الأغنياء ولا تستخلقي ثوبا حتى ترقعيه ) ( ٥ )١٧. وحديث رواه الترمذي عن عثمان عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( ليس لابن آدم حق في سوى هذه الخصال بيت يسكنه، وثوب يواري عورته وجلف الخبز والماء ) ( ٦ )١٨. وحديث رواه الترمذي عن عبيد الله بن محصن عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( من أصبح منكم آمنا في سربه معافى في جسده عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا ) ( ٧ )١٩. وحديث رواه الترمذي عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( إن أغبط أوليائي عندي لمؤمن خفيف الحاذ، ذو حظ من الصلاة، أحسن عبادة ربه، وأطاعه في السر، وكان غامضا في الناس، لا يشار إليه بالأصابع، وكان رزقه كفافا فصبر على ذلك، ثم نفض يده فقال : عجلت منيته، قلت بواكيه، قل تراثه ) ( ٨ )٢٠. وحديث رواه الشيخان عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( إن هذا المال حلو من أخذه بحقه ووضعه في حقه فنعم المعونة هو، ومن أخذه بغير حقه كان كالذي يأكل ولا يشبع ) ( ١ )٢١. وحديث رواه البغوي عن أبي ذر قال :( انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو جالس في ظل الكعبة، فلما رآني قال : هم الأخسرون ورب الكعبة. فجئت حتى جلست فلم أتقار أن قمت فقلت : يا رسول الله فداك أبي وأمي من هم ؟ فقال : الأكثرون أموالا إلا من قال هكذا وهكذا من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله وقليل ما هم ). وروي عن أبي ذر أ
١ انظر كتب تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي والزمخشري. والنصوص التي ننقلها هي من الطبري والبغوي وابن كثير..
٢ التاج ج ٢ ص ٦..
٣ تفسير القاسمي..
٤ انظر تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والقاسمي. ومعظم ما نورده من نصوص وارد في تفسير الطبري..
٥ روى هذا الحديث البخاري ومسلم والترمذي والنسائي. انظر التاج ج ٢ ص ٧..
٦ روى هذا الحديث البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي. انظر التاج ج ٢ ص ٦ – ٧..
٧ روى الترمذي هذا الحديث بهذه الصيغة: (لما نزلت الآية قال: بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: انزل في الذهب والفضة ما أنزل لو علمنا أي المال خير فنتخذه؟ فقال: أفضله لسان ذاكر وقلب شاكر وزوجة مؤمنة تعينه على إيمانه) انظر التاج ج ٤ ص ١١٦..
٨ أوردناه قبل حديثا رواه الشيخان عن أبي هريرة صيغته مقاربة لهذه الصيغة مع فارق مهم هو أن الوعيد لمن لا يؤدي زكاة كنزه..
٩ التاج ج ٥ ص ١٤٧ – ١٥٩..
١٠ المصدر نفسه..
١١ المصدر نفسه..
١٢ المصدر نفسه..
١٣ التاج ج ٥ ص ١٤٧ – ١٥٩..
١٤ المصدر نفسه..
١٥ المصدر نفسه..
١٦ المصدر نفسه..
١٧ المصدر نفسه..
١٨ المصدر نفسه..
١٩ المصدر نفسه..
٢٠ المصدر نفسه..
٢١ التاج ج ٥ ص ١٤٧ – ١٥٩..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٤:﴿ قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ ( ١ ) عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ( ٢٩ ) وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ ( ٢ ) قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ( ٣٠ ) اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ( ٣١ ) يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ( ٣٢ ) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ( ٣٣ ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ( ٣٤ ) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَـذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ ( ٣٥ ) ﴾ ( ٢٩ – ٣٥ ).

تعليق على الآية :

﴿ قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ........................ ﴾
والآيات الخمس التي بعدها وما ورد في صددها من أحاديث وأقوال
وما ترتب عليها من أحكام وتلقينات وبخاصة في صدد الجزية
وتمحيص ما روي في صدد قتال الكتابيين ومن ملة الذميين منهم
عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت أمرا للمسلمين بقتال الموصوفين فيها بأوصاف معينة من أهل الكتاب حتى يخضعوا لهم ويعطوهم الجزية مقهورين صاغرين. واستطرادات تعليلية لهذا الأمر. والآيات الست منسجمة مترابطة. وهذا ما جعلنا نوردها جملة واحدة برغم ما احتوته من أحكام متنوعة وكثيرة.
ولقد روى البغوي عن الكلبي أن الآية الأولى نزلت في بني قريظة وبني النضير من اليهود فصالحهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وكانت أول جزية أصابها أهل الإسلام، وأول ذل أصاب أهل الكتاب بأيدي المسلمين. ويقتضي هذا أن تكون الآية نزلت في السنة الثالثة أو في السنة الخامسة اللتين أجلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيهما يهود بني النضير ونكل ببني قريظة على ما شرحناه في سورتي الحشر والأحزاب. في حين أن سياق الآيات وما بعدها يلهم بقوة أنها نزلت بعد الفتح المكي وبين يدي غزوة تبوك. وهناك مأخذ آخر على رواية الكلبي وهو قوله : إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صالحهم على الجزية في حين أنه لم يكن صلح ولا جزية بل كان إجلاء للأولين وتنكيلا حاسما بالآخرين على ما شرحناه في السورتين المذكورتين آنفا.
ولقد عقب الطبري على الآية السابقة لهذه الآيات فقال : إن لمسلمين لما قالوا : من أين نأكل ومع من نتجر ولسوف نغدو فقراء بسبب منع المشركين عن دخول الحرم أنزل الله الآية ( ٢٩ ) وأمرهم بغزوة تبوك ليأخذوا الجزية بدلا عما ضاع عليهم، ثم قال في سياق تفسير هذه الآية : إن الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بحرب الروم فغزا غزوة تبوك بعد نزلها. وعزا أقواله إلى بعض أهل التأويل من التابعين مثل الضحاك وقتادة والسدي ومجاهد.
وهذه الأقوال تقتضي أن يكون الله عز وجل قد جعل الجزية التي قد تأتي من حرب الروم مقابل ما خسره المسلمون من منع المشركين من الاقتراب من المسجد الحرام، وأن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن قد حارب الروم، ثم أن لا يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد أخذ الجزية من أهل الكتاب قبل هذه الآية. ويرد على هذا ملاحظات عديدة. فأولا : أنه لم يقع حرب في غزوة تبوك وأخذت الجزية نتيجة لها. والعهود التي عقدها النبي صلى الله عليه وآله وسلم لبعض أهل هذه الأنحاء على ما سوف نشرحه بعد عهود مسالمة وموادعة. وما تعهدوا بأدائه لم يكن مقدارا مهما يسد ثغرة واسعة في حياة المسلمين الاقتصادية. وهو عائد إلى بيت المال الذي كان ينفق منه على مصالح المسلمين العامة والمحتاجين منهم وحسب، في حين أن التخوف المذكور في الآية السابقة ( ٢٨ ) هو تعبير عن لسان أهل مكة الذين كانت مواسم الحج وسيلة لتكسبهم وقضاء مصالحهم المعاشية. فضلا عن أن هؤلاء كانوا أقلية بين المسلمين والجزية ليست عائدة إليهم. وثانيا : أن هذه الأقوال تعني أن الله جعل الجزية هدفا للمسلمين من القتال، في حين أن القرآن قرر في أكثر من موضع أن الغنائم ليست هدفا للقتال، ولا يجوز أن تكون هدفا على ما مر شرحه في مناسبات عديدة سابقة وبخاصة في سياق تفسير الآية ( ٩٤ ) من سورة النساء دون أن يكون ذلك نتيجة لقتال. وثالثا : أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صالح نصارى نجران على جزية سنوية معينة على ما شرحناه في سياق تفسير الآيات :( ٣٣ – ٦٤ ) من سورة آل عمران. وأن روايات السيرة ذكرت أنه أرسل سرية في السنة السادسة إلى دومة الجندل في أنحاء تبوك لتأديب قبائلها النصرانية ودعوتها إلى الإسلام فأسلم من أسلم وتعهد من أقام على دينه بالجزية ( ١ )٢. ولقد سبق غزوة تبوك حركات حربية عديدة في أنحائها للمقابلة والدفاع على ما ذكرته روايات السيرة. فقد بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رسلا يحملون كتبه إلى ملوك وأمراء تخوم الجزيرة العربية في السنة السادسة للهجرة فقتل والي مؤتة من قبل الروم والغسانيين رسول النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى ملك بصرى وهو الحارث الأزدي ( ٢ )٣. وقتل الروم والي معان من قبلهم واسمه فروة الجذامي بسبب إسلامه ( ٣ )٤، وشلح جماعة من نصارى جذام النازلين في أنحاء تبوك دحية الكلبي رسول النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى قيصر ( ٤ )٥. وكانت قبائل كلب وجذام وقضاعة النصرانية تعتدي على قوافل المسلمين وتتجمع من حين لآخر لغزو المدينة ( ٥ )٦. فكان هذا مما جعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتحرك للمقابلة قبل نزول هذه الآيات بأربع سنين ؛ حيث قاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أول السنة الهجرية الخامسة حملة نحو دومة الجندل على بعد ١٥ أو ١٦ ليلة من المدينة وعاد منها دون الاشتباك ؛ لأن قبائلها فرت وتفرقت ) ( ١ )٧. ثم سير حملة بقيادة زيد بن حارثة إلى حسمي وراء وادي القرى لتأديب الجذاميين الذين شلحوا دحية فقتل وغنم وسبى منهم ( ٢ )٨. ثم سير حملة بقيادة عبد الرحمن بن عوف إلى دومة الجندل ثانية، فأسلم من أسلم وضرب على من لم يسلم الجزية ( ٣ )٩. ثم سير جيشا قويا في السنة الثامنة وقبل فتح مكة إلى مؤتة بقيادة زيد بن حارثة للثأر من واليها الذي قتل رسول النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد بلغ الجيش مؤتة في ناحية البلقاء، واشتبك مع الروم والقبائل النصرانية ودارت الدائرة عليه واستشهد ثلاثة قواد كانوا يتسلمون القيادة واحدا بعد آخر وهم زيد بن حارثة ثم جعفر بن أبي طالب ثم عبد الله بن رواحة رضي الله عنهم. ثم تمكن من الانسحاب بقيادة خالد بن الوليد ( ٤ )١٠. ثم سير حملة بقيادة عمرو بن العاص إلى ذات السلاسل لأن قضاعة كانت تتجمع للزحف على المدينة فدوخ الناحية وهرب أهلها ( ٥ )١١. حيث يبدو من هذه السلسلة التي يصح أن يضاف إليها وقائع إجلاء وحرب النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين مع يهود بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة وخيبر ووادي القرى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين حاربوا أهل الكتاب وأخذوا منهم الجزية قبل نزول هذه الآيات التي نحن في صددها، وأن الأقوال التي يوردها الطبري غير متسقة مع الوقائع من جهة، وأن هذه الوقائع متسقة في أسبابها وظروفها مع المبادئ القرآنية التي تقرر أن الجهاد إنما شرع للدفاع ومقابلة العدوان بالمثل ولم تكن الجزية والغنائم من أهدافه من جهة أخرى.
ولما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد استنفر المسلمين بعد نزول هذه الآيات إلى غزوة تبوك وزحف على رأس حشد عظيم نحوها وبلغها على ما تذكره جميع مصادر التاريخ والتفسير القديم وتلهمه آيات السورة. ولما كان معظم منطقة تبوك وما وراءها من مشارف الشام إلى تخوم البلقاء وما بعدها من النصارى أهل الكتاب وكانوا تحت سلطان الروم من أهل الكتاب أيضا، فإنه يسوغ القول بكل قوة والحالة هذه أن الآيات إنما نزلت بين يدي هذه الغزوة على سبيل الحث والتبرير والتعليل وحسب. والروايات تذكر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما استنفر إليها لما بلغه من أن الروم قد حشدوا حشودا كثيرة بقصد الزحف على المدينة وانضوى إليها قبائل لخم وجذام وعامة النصرانية وأرسلوا طلائعهم إلى مشارف الشام ( ١ )١٢. فضلا عن الأسباب السابقة وما استدعته من حركات عديدة حيث يتسق هذا مع أسباب الحركات الأولى ومع التقريرات القرآنية لأسباب ومبررات الجهاد الإسلامي وأهدافه. وقد ذكرت الروايات أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما عاد من تبوك فكر في تسيير جيش جديد إلى مؤتة للثأر لجيش زيد بن حارثة الذي سار للثأر من والي مؤتة لقتله رسول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعين لقيادته أسامة بن زيد حيث يدل هذا على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ظل يعتبر حالة الحرب قائمة بينه وبين الروم ونصارى العرب في مشارف الشام. ولقد مات النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل أن يسير هذا الجيش فسيره خليفته الأول أبو بكر، ثم لم يكد هذا الخليفة أن يقمع الحركات المهمة من حركات فتنة الردة حتى التفت نحو الشام، فسير الجيوش العديدة استمرارا وتنفيذا لاختيار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وبهذا يظهر بكل وضوح أن حركة الفتوح الشامية إنما كانت استمرارا لحالة الحرب التي قامت بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين وبين الروم وأعوانهم والتي كانت أسبابها ودواعيها متسقة مع التقريرات القرآنية ولم تكن بدءا هجوميا بقصد الفتح والغنائم.
ويلحظ أن الآيات قد جمعت أهل الكتاب وأهل الكتاب ليسوا النصارى فقط، والتعبير يشمل اليهود أيضا بل وغيرهم على ما شرحناه في سياق سورة غافر والشورى والمدثر. ولا نرى في هذا نقضا لما قلناه. وإذا لاحظنا أن اليهود قد أجلوا عن المدينة نهائيا وخضدت شوكتهم في خيبر والقرى الأخرى في طريق الشام في السنة الهجرية السادسة، فلم يعد في الحجاز وطريق الشام يهود يصح أن يقاتلوا ولم يكن لهم دولة أو كتلة أخرى إذ ذاك يصح أن تقاتل فإنه يسوغ أن يقال حينئذ : إن الأمر القرآني من حيث الواقع الموضوعي إنما كان للحث والتحريض على النفرة إلى غزوة تبوك لقتال الروم وقبائل النصارى. وإن استعمال تعبير :﴿ أهل الكتاب ﴾ في الآية ا

تعليق خاص على الآية :

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ ﴾ والآية التالية لها
وما ورد في صدد كنز الفضة والذهب وأداء الزكاة من أحاديث
وأقوال، وما انطوى في ذلك من صور وتلقين، وتمحيص ما روي من تأخر فرض الزكاة، واستطراد إلى حركة أبي ذر الغفاري رضي الله عنه
وأسلوب الفقرة الثانية من الآية الأولى أي :﴿ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ عام كما هو ظاهر. غير أن وصف الرهبان والأحبار بأنهم يأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله في الفقرة الأولى من الآية يكون قرينة على أن الفقرة الثانية تعنيهم بالدرجة الأولى. فأكلهم أموال الناس بالباطل كان يؤدي إلى اكتنازهم الذهب والفضة. وصدهم عن سبيل الله كان لاستبقاء الوسيلة إلى الاكتناز في يدهم وبذلك تكون الآية محكمة التنديد والإلزام ويكون الإنذار الرهيب المذكور فيها وفي الآية التالية لها موجها إليهم بالدرجة الأولى.
على أن أسلوبها العام يسوغ القول أنها احتوت في الوقت نفسه توجيها وإنذارا عامين على سبيل الاستطراد إلى كل من يكتنز الذهب والفضة ولا ينفقها في سبيل الله. ولقد روى الطبري عن ابن عباس أن المقصود في الآية هم أهل الكتاب، ولكنها في الوقت نفسه عامة وخاصة أي فيهم وفي المسلمين معا. وهذا متطابق مع ما قررناه آنفا.
ولقد روى المفسرون ( ١ )١، أحاديث عديدة نبوية وصحابية في صدد ومعنى :﴿ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ ﴾ وفي إباحة اكتناز المال وذمه فقد روى أبو داود والحاكم ومالك عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( ما بلغ أن تؤدى زكاته فزكي فليس بكنز وفي رواية ما أدي زكاته فليس بكنز ) ( ٢ )٢. وقد أخرج الترمذي والحاكم حديثا آخر عن أبي هريرة مرفوعا جاء فيه :( إذا أديت زكاة مالك فقد قضيت ما عليك ) ( ٣ )٣. وروي عن ابن عمر أن الكنز هو كل مال لا تؤدى زكاته ولو كان غير مدفون وإن قل، وأن كل مال تؤدى زكاته ليس كنزا ولو كان مدفونا وإن كثر. وروي مثل هذا عن ابن عباس. وروي عن ابن عمر كذلك قوله : لا أبالي لو أن لي مثل أحد ذهبا أعلم عدده أزكيه وأعمل بطاعة الله فيه. وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حديث جاء فيه :( نعم المال الصالح للعبد الصالح ). وحديث آخر أنه لما نزلت الآية كبر ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقالوا : ما يستطيع أحد منا أن يدع لولده شيئا فذكر عمر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال له : إن هذه الآية قد كبرت على أصحابك يا رسول الله فقال صلى الله عليه وآله وسلم :( إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيب بها ما بقي من أموالكم، وإنما فرض المواريث من أموال تبقى بعدكم، فكبر عمر. فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ألا أخبرك بخير ما يكنز المرء ؟ المرأة الصالحة التي إذا نظر إليها سرته. وإذا أمرها أطاعته، وإذا غاب عنها حفظته ).
فهذه الأحاديث تفيد كما هو واضح أنه لا حرج من حيازة المال ولو كثر إذا أديت زكاته وأن الإنذار هو للذين لا يؤدون زكاة أموالهم. وأن معنى :﴿ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ ﴾ لا يؤدون الزكاة عنها التي جعلت للإنفاق في سبيل الله. ولقد روى المفسرون ( ١ )٤، في سياق تفسير الآية أحاديث نبوية رهيبة الإنذار للذين لا يؤدون زكاة أموالهم. منها حديث رواه أبو هريرة جاء فيه :( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثل له ماله يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة فيأخذ بلهزميه – أي شدقيه – ثم يقول : أنا مالك، أنا كنزك ) ( ٢ )٥. ومنها حديث آخر عن أبي هريرة أيضا جاء فيه :( ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار فأحمي عليها في نار جهنم فيكوى بها جبينه وجنبه وظهره، كل ما بردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار. قيل : يا رسول الله فالإبل ؟ قال : ولا صاحب إبل لا يؤدي منها حقها، ومن حقها حلبها يوم وردها إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر أوفر ما كانت لا يفقد منها فصيلا واحدا تطؤه بأخفافها وتعضه بأفواهها كلما مر عليه أولاها رد عليه أخراها، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار. قيل : يا رسول الله فالبقر والغنم ؟ قال : ولا صاحب بقر ولا غنم لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر لا يفقد منها شيئا ليس فيها عقصاء ولا جلحاء ولا عضباء تنطحه بقرونها وتطؤه بأظلافها كل ما مر عليه أولاها رد عليه أخراها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار ) ( ١ )٦. حيث يبدو من هذه الأحاديث الاهتمام العظيم الذي كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوليه لإيتاء الزكاة اتساقا مع القرآن الذي يوليها مثل ذلك بكثرة ترديدها والتوكيد على إيتائها والتنويه بفاعليها واعتبارها دليلا لا بد منه على صدق إيمان المسلم. ولا غرو فهي دعامة التضامن الاجتماعي والسلطان الإسلامي في آن واحد على ما شرحناه في المناسبات العديدة السابقة.
وإلى جانب الأحاديث الواردة في معنى الكنز وإباحة الاكتناز إذا أديت زكاته روى المفسرون أحاديث فيها تحديد للحد الأعلى الذي يكون ما فوقه كنز يحق على صاحبه الإنذار وفيها ذم لاكتناز المال والذهب والفضة إطلاقا. فقد روي عن علي بن أبي طالب قوله : إن الكنز ما زاد على أربعة آلاف درهم سواء أديت زكاته أم لم تؤد، وما دون ذلك نفقة لا حرج في حيازته. وأورد ابن كثير حديثا رواه الإمام أحمد عن عبد الرزاق عن علي بن أبي طالب جاء فيه :( لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( تبا للذهب، تبا للفضة ثلاث مرات. فشق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا : فأي مال نتخذ ؟ فقال عمر : أنا أعلم لكم ذلك، ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : يا رسول الله إن أصحابك قد شق عليهم. قالوا : أي المال نتخذ ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لسانا ذاكرا وقلبا شاكرا وزوجة صالحة تعين أحدكم على دينه ) ( ٢ )٧.
والحديث قد يفيد أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فهموا أن المذموم هو نوع المال أي عين الذهب والفضة لا جنس المال، فكان جواب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منبها إلى أن المذموم هو الجنس على ما هو المتبادر. وفي الحديث الطويل الذي أوردناه آنفا صراحة أكثر ؛ لأنه شمل الذهب والفضة والإبل والبقر والغنم. وقد روى الطبري هذا الحديث بطرق عديدة وصيغ متقاربة. وروى معه عن ثوبان حديثا جاء فيه :( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من ترك بعده كنزا مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يتبعه فيقول : ويلك ما أنت ؟ فيقول : أنا كنزك الذي تركته بعدك ولا يزال يتبعه حتى يلقمه يده فيقضمها ثم يتبعها سائر جسده ) ( ١ )٨. وروي عن أبي سعيد حديث جاء فيه :( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : الق الله فقيرا ولا تلقه غنيا. قال : يا رسول الله كيف لي بذلك ؟ قال : ما سئلت لا تمنع ما رزقت لا تخبأ. قال : يا رسول الله كيف لي بذلك قال : هو ذاك وإلا فالنار ). وروي عن قتادة :( أن رجلا من أهل الصفة مات، فوجد في مئزره دينار فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( كية ) ثم توفي رجل آخر فوجد في مئزره ديناران فقال كيتان ). وهناك أحاديث أخرى وردت في الكتب الخمسة في ذم المال والاكتناز والتحذير من فتنتهما. منها حديث رواه الترمذي عن كعب بن عياض عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( إن لكل أمة فتنة وفتنة أمتي المال ) ( ٢ )٩. وحديث رواه الترمذي عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( لا تتخذوا الضيعة فترغبوا في الدنيا ) ( ٣ )١٠. وحديث رواه البخاري عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( إن المكثرين هم المقلون يوم القيامة إلا من أعطاه الله خيرا فنفخ فيه يمينه وشماله وبين يديه ووراءه وعمل فيه خيرا ) ( ٤ )١١. وحديث رواه مسلم والترمذي عن مطرف عن أبيه قال :( انتهى إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقول : ألهاكم التكاثر. قال : يقول ابن آدم مالي مالي، وهل لك من مالك إلا ما تصدقت فأمضيت، أو أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت ) ( ٥ )١٢. وحديث رواه أبو داود عن أنس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( أما إن كل بناء وبال على صاحبه إلا ما لا، إلا ما لا، يعني ما لا بد منه ) ( ١ )١٣. وحديث رواه البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة، إن أعطي رضي وإن لم يعط لم يرض ) ( ٢ )١٤.
وحديث رواه مسلم والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( قد أفلح من أسلم، وكان رزقه كفافا وقنعه الله ) ( ٣ )١٥. وحديث رواه الترمذي عن أنس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين يوم القيامة. فقالت عائشة : لم يا رسول الله ؟ قال : إنهم يدخلون الجنة قبل أغنيائهم بأربعين خريفا ) ( ٤ )١٦. وحديث رواه الترمذي عن عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال :( يا عائشة إن أدرت اللحوق بي فيكفيك من الدنيا كزاد الراكب، وإياك ومجالسة الأغنياء ولا تستخلقي ثوبا حتى ترقعيه ) ( ٥ )١٧. وحديث رواه الترمذي عن عثمان عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( ليس لابن آدم حق في سوى هذه الخصال بيت يسكنه، وثوب يواري عورته وجلف الخبز والماء ) ( ٦ )١٨. وحديث رواه الترمذي عن عبيد الله بن محصن عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( من أصبح منكم آمنا في سربه معافى في جسده عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا ) ( ٧ )١٩. وحديث رواه الترمذي عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( إن أغبط أوليائي عندي لمؤمن خفيف الحاذ، ذو حظ من الصلاة، أحسن عبادة ربه، وأطاعه في السر، وكان غامضا في الناس، لا يشار إليه بالأصابع، وكان رزقه كفافا فصبر على ذلك، ثم نفض يده فقال : عجلت منيته، قلت بواكيه، قل تراثه ) ( ٨ )٢٠. وحديث رواه الشيخان عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( إن هذا المال حلو من أخذه بحقه ووضعه في حقه فنعم المعونة هو، ومن أخذه بغير حقه كان كالذي يأكل ولا يشبع ) ( ١ )٢١. وحديث رواه البغوي عن أبي ذر قال :( انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو جالس في ظل الكعبة، فلما رآني قال : هم الأخسرون ورب الكعبة. فجئت حتى جلست فلم أتقار أن قمت فقلت : يا رسول الله فداك أبي وأمي من هم ؟ فقال : الأكثرون أموالا إلا من قال هكذا وهكذا من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله وقليل ما هم ). وروي عن أبي ذر أ
١ انظر كتب تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي والزمخشري. والنصوص التي ننقلها هي من الطبري والبغوي وابن كثير..
٢ التاج ج ٢ ص ٦..
٣ تفسير القاسمي..
٤ انظر تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والقاسمي. ومعظم ما نورده من نصوص وارد في تفسير الطبري..
٥ روى هذا الحديث البخاري ومسلم والترمذي والنسائي. انظر التاج ج ٢ ص ٧..
٦ روى هذا الحديث البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي. انظر التاج ج ٢ ص ٦ – ٧..
٧ روى الترمذي هذا الحديث بهذه الصيغة: (لما نزلت الآية قال: بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: انزل في الذهب والفضة ما أنزل لو علمنا أي المال خير فنتخذه؟ فقال: أفضله لسان ذاكر وقلب شاكر وزوجة مؤمنة تعينه على إيمانه) انظر التاج ج ٤ ص ١١٦..
٨ أوردناه قبل حديثا رواه الشيخان عن أبي هريرة صيغته مقاربة لهذه الصيغة مع فارق مهم هو أن الوعيد لمن لا يؤدي زكاة كنزه..
٩ التاج ج ٥ ص ١٤٧ – ١٥٩..
١٠ المصدر نفسه..
١١ المصدر نفسه..
١٢ المصدر نفسه..
١٣ التاج ج ٥ ص ١٤٧ – ١٥٩..
١٤ المصدر نفسه..
١٥ المصدر نفسه..
١٦ المصدر نفسه..
١٧ المصدر نفسه..
١٨ المصدر نفسه..
١٩ المصدر نفسه..
٢٠ المصدر نفسه..
٢١ التاج ج ٥ ص ١٤٧ – ١٥٩..

﴿ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ( ٣٦ ) إِنَّمَا النَّسِيءُ ( ١ ) زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلِّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِؤُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ( ٣٧ ) ﴾ ( ٣٦ – ٣٧ ).
تعليق على الآية :
﴿ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا............................ ﴾
والآية التي بعدها وما ورد في صددهما من روايات
وما انطوى فيهما من صور ودلالات وتلقين وأحكام
المستلهم من روح الآيتين وفحواهما أنهما بسبيل التنبيه على حرمة الأشهر الحرم بأعيانها وأعدادها معا. والتنديد بالنسيء الذي يؤدي إلى الإخلال بحرمة أعيانها مع محافظته على أعدادها. وأسلوب الآيتين تقريري يتضمن تقرير ما يلي :
إن الله قد جعل للزمن منذ خلق السماوات والأرض دورة تتجدد كل سنة. وجعل في كل سنة اثني عشرة دورة ثانية متجددة تظهر في مشاهد القمر وهي الشهور. ومن هذه الشهور أربعة محرمة بأعيانها. وهذا هو الحق القويم ويجب على المسلمين مراعاته وعدم ظلم أنفسهم بفعل ما يخل به وفي عادة النسيء الذي سار عليها العرب في الجاهلية إخلال به. وفي سير الكفار عليه زيادة في الكفر ؛ لأنه وإن كان فيه رعاية للعدد فإن فيه تحليلا لأشهر حرمها الله بأعيانها وتحريما لأشهر أحلها الله بأعيانها والاكتفاء بالمحافظة على العدد وحسب، مع أن الواجب أن ترعى حرمة العين كما ترعى حرمة العدد. وهذا مما زين للكافرين من عاداتهم السيئة فلا يجوز للمسلمين أن يتبعوه.
وقد جاء في الفقرة الأخيرة من الآية الأولى حث للمسلمين على قتال المشركين كافة ومجتمعين ومتضامنين كما يقاتلهم المشركون كذلك. وتطمين لهم بأن الله تعالى مع المتقين لحرماته يؤيدهم وينصرهم.
ولا يروي المفسرون فيما اطلعنا عليه رواية خاصة في سبب نزول الآيتين اللتين تبدوان في الظاهر أن لا صلة لهما بما قبلهما ولا بما بعدهما. وكل ما قاله الطبري أن فيهما حثا للمسلمين على قتال المشركين جميعا متفقين ومؤتلفين وغير متفرقين كما يفعلون هم ذلك. ولم يذكر تأويلا لسبب ذكر عدة الشهور والأشهر الحرم والنسيء. وقال البغوي وابن كثير عن جملة :﴿ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً ﴾ هي في صدد تبرير حصار النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين للطائف في شهر ذي القعدة المحرم استمرارا لما بدأ به في شوال. وحصار الطائف كان بعد قليل من فتح مكة ويوم حنين أي في السنة الثامنة على ما ذكرناه قبل. وهذه الآيات نزلت في سياق آيات أخرى بين يدي غزوة تبوك التي كانت بعد سنة تقريبا من ذلك. ولا تبدو حكمة من إقحام ذلك في هذا السياق. ولم يذكر المفسران بدورهما شيئا من أسباب وحكمة ذكر عدة الشهور والنسيء. وليس في كتب التفسير الأخرى التي بين أيدينا شيء مهم آخر في هذا الصدد.
ولقد ذكرت الروايات أن غزوة تبوك قد كانت في شهر رجب من العام الهجري التاسع ( ١ )١. وذكرت كذلك أن وقفة الحج في الحجة التي حجها أبو بكر رضي الله عنه في هذا العام بأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونيابة عنه كانت في شهر ذي القعدة بدلا من شهر ذي الحجة ( ٢ )٢. بناء على إعلان إنساء في العام السابق ؛ حيث صار بهذا الإعلان الأشهر الحرم الثلاثة المتوالية شوال وذا القعدة وذا الحجة بدلا من ذي القعدة وذي الحجة والمحرم وصارت الوقفة في ذي القعدة وصار المحرم حلالا.
ونتيجة لذلك تغير رجب عن مكانه الصحيح وهو رابع الأشهر الحرم بسبب موسم ديني كان يقوم في الحجاز فيه، وقد سمي لذلك رجب مضر على ما شرحناه في سياق تفسير سورة البقرة. فالذي يخطر بالبال أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما استنفر الناس إلى غزوة تبوك، وكان ذلك في رجب اعترض البعض على السير للقتال في هذا الشهر لأنه شهر محرم أو لاحظوا ذلك فنزلت الآيتان ليعلن بهما :
أولا : إن هذا الرجب ليس هو الرجب المحرم الأصلي، وإن مكان الرجب المحرم الأصلي هو جمادى الثانية ؛ لأن رجب يأتي بعد المحرم بستة أشهر. وقد صار ذو الحجة في هذا العام بديلا عن المحرم فصار رجب هذا العام غير الرجب الأصلي ويكون الرجب الأصلي هو جمادى الآخرة.
وثانيا : إن السير إلى غزوة تبوك في رجب هذا العام ليس فيه إحلال بحرمة شهر المحرم ؛ لأن رجب هذا العام ليس هو الشهر المحرم الأصلي.
وثالثا : إن تقليد النسيء باطل وكفر وضلال، ولو أن فيه مواطأة لعدة الأشهر المحرمة ؛ لأن الحرمة ليست للعدة فقط بل هي لعين الأشهر أيضا. فإذا صح هذا ونرجو أن يكون صحيحا والشرح يقوي صحته ورجحانه على أي احتمال آخر، فتكون الآيتان قد نزلتا في المناسبة التي نزلت فيها الآيات السابقة واللاحقة ويكون السياق منسجما ومتلاحقا.
ولقد حج النبي صلى الله عليه وآله وسلم في العام الثاني لحجة أبي بكر أي في العام العاشر للهجرة. وكان ترتيب الأشهر قد عاد إلى أصله فكان مما قاله في خطبة الوداع :( إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض : السنة اثنا عشر شهرا، منها أربعة حرم، ثلاث متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان ) ( ١ )٣. وهكذا حسم أمر وجوب الاحتفاظ بأعداد الأشهر الحرم وأعيانها وترتيبها دون أي إخلال.
وجملة :﴿ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً ﴾ قد تبدو ولا صلة لها بالمناسبة. غير أن التمعن في الآية ( ٣١ ) يكشف عن صلتها الوثيقة بها ؛ لأنها حكت نسبة اليهود عزيرا إلى الله بالبنوة ونسبة النصارى المسيح إلى الله بالبنوة واتخاذهم أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله في حين أنهم لم يؤمروا إلا بعبادة إله واحد ونزهت الله تعالى عما يشركون. وبهذا دخلوا في زمرة المشركين. وهكذا يطرد الكلام ويستقيم ويتوثق الانسجام في السياق.
ولقد دأب المفسرون على وصف هذه الجملة بآية السيف مثل الآية :( ٥ ) من هذه السورة وظلوا يقررون أنها ناسخة لكل ما جاء في القرآن في صدد التساهل والتعاقد مع المشركين وقبول غير الإسلام منهم على ما ذكرناه في مناسبات عديدة سابقة. ولقد أدخلت الآية :( ٣١ ) النصارى واليهود – أهل الكتاب – في زمرة المشركين وأذنت بالكف عن الأعداء المحاربين منهم إذا رضخوا للمسلمين وأعطوهم الجزية. وهذا دليل قرآني على عدم نسخ الآية للآيات الأخرى فضلا عن كون ذلك غير متسق مع المبادئ القرآنية العامة ولا مع طبائع الأمور على ما شرحناه قبل قليل. وفي الجملة تفسير لمقصدها. فالأعداء المشركون – ومنهم المنحرفون من أهل الكتاب – يقاتلون المسلمين كافة ومجتمعين وبكل حماسة فيجب أن يكون قتال المسلمين لهم مثل ذلك. وفي الجملة والحالة هذه توكيد على المبادئ القرآنية العامة التي نبهنا عليها بدلا من كونها تنقضها وتنسخها !.
ولقد تعددت الأقوال التي يرويها الطبري وغيره ( ١ )٤، عن أهل التأويل في صدد جملة :﴿ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ ﴾. فهناك من صرفها إلى جميع الأشهر، وهناك من صرفها إلى الأشهر الحرم، وهناك من أول الظلم بالإثم والمنكر عامة. والذين صرفوها إلى الأشهر الحرم وصرفوا الظلم إلى الإثم والمنكر قالوا : إن النهي هو بسبب كون الظلم فيها أشد إثما منه في غيرها. وهناك من صرف الظلم إلى الإخلال بحرمة الأشهر الحرم وعمل ما هو محرم فيها مما هو غير محرم في غيرها كالصيد والقتال أو تبديل أعيانها وجعل حلالها حراما وحرامها حلالا. وقد رجح الطبري قول من قال : إنها في صدد الأشهر الحرم وتنظيم حرمتها وعدم استحلال حرامها. وهو الصواب المتبادر من مقام الجملة وروحها. والله أعلم.
والنسيء تقليد جاهلي متصل بحرمة الأشهر الحرم. ويظهر من فحوى الآية وروحها أنه بدعة ابتدعت فيما بعد. ومما روي ( ١ )٥، عن ذلك أنه كان يتولى إعلان النسيء زعيم بيت معين من بيوتات العرب يوم الحج الأكبر إذا رأى ذلك مناسبا أو طلب منه الناس فيعلن مثلا بأن يكون شهر شوال القادم حراما فيصبح شهر المحرم حلالا ويتغير موعد الحج فتكون الوقفة في شهر ذي القعدة بدلا من ذي الحجة. ويكون ذو الحجة بديلا عن المحرم. ثم يعلن في سنة ثانية بأن يعود المحرم محرما، فتعود الأشهر الحرم إلى ترتيبها أو يعلن أن صفر العام القابل محرما فيصير بدء الأشهر الحرم الثلاثة المتوالية ذا الحجة، وتكون الوقفة في شهر المحرم. وقد روي أن صاحب النسيء في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان أبا ثمامة جنادة بن عوف بن أمية الكناني ؛ حيث كان يوافي الموسم فينادي يوم الحج الأكبر فيقول : ألا إن أبا ثمامة لا يعاب ولا يخاب فيقال له : نعم فيعلن تقديم الأشهر الحرم أو تأخيرها شهرا. ويروى أن أبا ثمامة ورث المهمة عم أبيه أمية. وهذا عن أبيه قلع وهذا عن أبيه عباد وهذا عن أبيه حذيفة الذي كان أول من تولى مهمة إعلان النسيء. ومما يروى أن العرب كانوا يطلبون من صاحب النسيء إعلان ذلك ليتمكنوا من متابعة حرب تعطلت بدخول الأشهر الحرم دون انتظار طويل. ويروى إلى هذا ما يفيد أن هذا التقليد قد ابتدع لموازنة الفصول ؛ حيث كان من شأن السير في حساب أشهر السنة على حساب القمر أن تتبدل مواعيد الحج وتدور على الفصول، فكان يراد بالنسيء إبقاؤه في موسم أو فصل واحد. ونحن نميل إلى ترجيح كون الأصل في النسيء هو الرواية الأخيرة لأنها متسقة مع طبائع الأشياء كما أن من الممكن الاستدلال على رجحانه بأسماء الأشهر نفسها. ففي أسماء الأشهر العربية المستعملة دلالات على الفصول وموسم الحج معا مثل ذي الحجة وربيع الأول وربيع الثاني ورمضان. وأسماء الأشهر المتداولة الآن مبدلة عن أسماء سابقة ؛ حيث كانت الأسماء هكذا : المؤتمر بدلا من المحرم، ثم ناجر وخوات ومصان وحنتم ورباء والأصم وعاذل ونافق وغل وهواع وبرك. وهناك روايات فيها أسماء بدلا من أسماء. وفي تسمية رمضان دلالة على شدة الحرارة لأنها من الرمضاء على ما هو متفق عليه عند علماء اللغة. ويعقبه شوال وهو ليس محرما ثم تأتي الأشهر المحرمة الثلاثة وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم وهي أشهر الحج. فمن المحتمل أن يكون تقليد الأشهر الحرم للحج قد ضعف لسبب ما، ثم جاءت ظروف قضت تقويته وتجديده. وربما كان ذلك لاتجاه أنظار العرب إلى الكعبة في الظرف الذي غزا الأحباش فيه اليمن، وقوضوا السلطان العربي عنها وسيطروا عليها. وكان الرومان مسيطرين على بلاد الشام وعربها والفرس مسيطرين على بلاد العراق وعربها. وكانت الحجاز وحدها تحتفظ باستقلالها. وربما كان ذلك في آخر صيف وكان رمضان يصادف شهر آب وشوال يصادف شهر أيلول فصارت أشهر الحج الحرم وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم مصادفة لأشهر تشرين أ
١ انظر ابن سعد ج ٣ ص ٢١٨..
٢ المصدر نفسه ص ٢٣٨..
٣ روى هذا الحديث البخاري انظر التاج ج ٤ ص ١١٦، و ١١٧ظ. وروى الطبري هذا الحديث بطرق عديدة أيضا..
٤ انظر أيضا البغوي والخازن وابن كثير..
٥ انظر لأجل هذه النبذة تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي وتاريخ العرب قبل الإسلام لجواد علي ج ٥ ص ٢٣٤ وما بعدها..
النسيء : من الإنساء وهو التأجيل. والتعبير اصطلاح على تقليد جاهلي لتبديل أعيان الأشهر المحرمة بالتقديم والتأخير.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٦:﴿ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ( ٣٦ ) إِنَّمَا النَّسِيءُ ( ١ ) زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلِّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِؤُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ( ٣٧ ) ﴾ ( ٣٦ – ٣٧ ).

تعليق على الآية :

﴿ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا............................ ﴾
والآية التي بعدها وما ورد في صددهما من روايات
وما انطوى فيهما من صور ودلالات وتلقين وأحكام
المستلهم من روح الآيتين وفحواهما أنهما بسبيل التنبيه على حرمة الأشهر الحرم بأعيانها وأعدادها معا. والتنديد بالنسيء الذي يؤدي إلى الإخلال بحرمة أعيانها مع محافظته على أعدادها. وأسلوب الآيتين تقريري يتضمن تقرير ما يلي :
إن الله قد جعل للزمن منذ خلق السماوات والأرض دورة تتجدد كل سنة. وجعل في كل سنة اثني عشرة دورة ثانية متجددة تظهر في مشاهد القمر وهي الشهور. ومن هذه الشهور أربعة محرمة بأعيانها. وهذا هو الحق القويم ويجب على المسلمين مراعاته وعدم ظلم أنفسهم بفعل ما يخل به وفي عادة النسيء الذي سار عليها العرب في الجاهلية إخلال به. وفي سير الكفار عليه زيادة في الكفر ؛ لأنه وإن كان فيه رعاية للعدد فإن فيه تحليلا لأشهر حرمها الله بأعيانها وتحريما لأشهر أحلها الله بأعيانها والاكتفاء بالمحافظة على العدد وحسب، مع أن الواجب أن ترعى حرمة العين كما ترعى حرمة العدد. وهذا مما زين للكافرين من عاداتهم السيئة فلا يجوز للمسلمين أن يتبعوه.
وقد جاء في الفقرة الأخيرة من الآية الأولى حث للمسلمين على قتال المشركين كافة ومجتمعين ومتضامنين كما يقاتلهم المشركون كذلك. وتطمين لهم بأن الله تعالى مع المتقين لحرماته يؤيدهم وينصرهم.
ولا يروي المفسرون فيما اطلعنا عليه رواية خاصة في سبب نزول الآيتين اللتين تبدوان في الظاهر أن لا صلة لهما بما قبلهما ولا بما بعدهما. وكل ما قاله الطبري أن فيهما حثا للمسلمين على قتال المشركين جميعا متفقين ومؤتلفين وغير متفرقين كما يفعلون هم ذلك. ولم يذكر تأويلا لسبب ذكر عدة الشهور والأشهر الحرم والنسيء. وقال البغوي وابن كثير عن جملة :﴿ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً ﴾ هي في صدد تبرير حصار النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين للطائف في شهر ذي القعدة المحرم استمرارا لما بدأ به في شوال. وحصار الطائف كان بعد قليل من فتح مكة ويوم حنين أي في السنة الثامنة على ما ذكرناه قبل. وهذه الآيات نزلت في سياق آيات أخرى بين يدي غزوة تبوك التي كانت بعد سنة تقريبا من ذلك. ولا تبدو حكمة من إقحام ذلك في هذا السياق. ولم يذكر المفسران بدورهما شيئا من أسباب وحكمة ذكر عدة الشهور والنسيء. وليس في كتب التفسير الأخرى التي بين أيدينا شيء مهم آخر في هذا الصدد.
ولقد ذكرت الروايات أن غزوة تبوك قد كانت في شهر رجب من العام الهجري التاسع ( ١ )١. وذكرت كذلك أن وقفة الحج في الحجة التي حجها أبو بكر رضي الله عنه في هذا العام بأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونيابة عنه كانت في شهر ذي القعدة بدلا من شهر ذي الحجة ( ٢ )٢. بناء على إعلان إنساء في العام السابق ؛ حيث صار بهذا الإعلان الأشهر الحرم الثلاثة المتوالية شوال وذا القعدة وذا الحجة بدلا من ذي القعدة وذي الحجة والمحرم وصارت الوقفة في ذي القعدة وصار المحرم حلالا.
ونتيجة لذلك تغير رجب عن مكانه الصحيح وهو رابع الأشهر الحرم بسبب موسم ديني كان يقوم في الحجاز فيه، وقد سمي لذلك رجب مضر على ما شرحناه في سياق تفسير سورة البقرة. فالذي يخطر بالبال أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما استنفر الناس إلى غزوة تبوك، وكان ذلك في رجب اعترض البعض على السير للقتال في هذا الشهر لأنه شهر محرم أو لاحظوا ذلك فنزلت الآيتان ليعلن بهما :
أولا : إن هذا الرجب ليس هو الرجب المحرم الأصلي، وإن مكان الرجب المحرم الأصلي هو جمادى الثانية ؛ لأن رجب يأتي بعد المحرم بستة أشهر. وقد صار ذو الحجة في هذا العام بديلا عن المحرم فصار رجب هذا العام غير الرجب الأصلي ويكون الرجب الأصلي هو جمادى الآخرة.
وثانيا : إن السير إلى غزوة تبوك في رجب هذا العام ليس فيه إحلال بحرمة شهر المحرم ؛ لأن رجب هذا العام ليس هو الشهر المحرم الأصلي.
وثالثا : إن تقليد النسيء باطل وكفر وضلال، ولو أن فيه مواطأة لعدة الأشهر المحرمة ؛ لأن الحرمة ليست للعدة فقط بل هي لعين الأشهر أيضا. فإذا صح هذا ونرجو أن يكون صحيحا والشرح يقوي صحته ورجحانه على أي احتمال آخر، فتكون الآيتان قد نزلتا في المناسبة التي نزلت فيها الآيات السابقة واللاحقة ويكون السياق منسجما ومتلاحقا.
ولقد حج النبي صلى الله عليه وآله وسلم في العام الثاني لحجة أبي بكر أي في العام العاشر للهجرة. وكان ترتيب الأشهر قد عاد إلى أصله فكان مما قاله في خطبة الوداع :( إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض : السنة اثنا عشر شهرا، منها أربعة حرم، ثلاث متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان ) ( ١ )٣. وهكذا حسم أمر وجوب الاحتفاظ بأعداد الأشهر الحرم وأعيانها وترتيبها دون أي إخلال.
وجملة :﴿ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً ﴾ قد تبدو ولا صلة لها بالمناسبة. غير أن التمعن في الآية ( ٣١ ) يكشف عن صلتها الوثيقة بها ؛ لأنها حكت نسبة اليهود عزيرا إلى الله بالبنوة ونسبة النصارى المسيح إلى الله بالبنوة واتخاذهم أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله في حين أنهم لم يؤمروا إلا بعبادة إله واحد ونزهت الله تعالى عما يشركون. وبهذا دخلوا في زمرة المشركين. وهكذا يطرد الكلام ويستقيم ويتوثق الانسجام في السياق.
ولقد دأب المفسرون على وصف هذه الجملة بآية السيف مثل الآية :( ٥ ) من هذه السورة وظلوا يقررون أنها ناسخة لكل ما جاء في القرآن في صدد التساهل والتعاقد مع المشركين وقبول غير الإسلام منهم على ما ذكرناه في مناسبات عديدة سابقة. ولقد أدخلت الآية :( ٣١ ) النصارى واليهود – أهل الكتاب – في زمرة المشركين وأذنت بالكف عن الأعداء المحاربين منهم إذا رضخوا للمسلمين وأعطوهم الجزية. وهذا دليل قرآني على عدم نسخ الآية للآيات الأخرى فضلا عن كون ذلك غير متسق مع المبادئ القرآنية العامة ولا مع طبائع الأمور على ما شرحناه قبل قليل. وفي الجملة تفسير لمقصدها. فالأعداء المشركون – ومنهم المنحرفون من أهل الكتاب – يقاتلون المسلمين كافة ومجتمعين وبكل حماسة فيجب أن يكون قتال المسلمين لهم مثل ذلك. وفي الجملة والحالة هذه توكيد على المبادئ القرآنية العامة التي نبهنا عليها بدلا من كونها تنقضها وتنسخها !.
ولقد تعددت الأقوال التي يرويها الطبري وغيره ( ١ )٤، عن أهل التأويل في صدد جملة :﴿ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ ﴾. فهناك من صرفها إلى جميع الأشهر، وهناك من صرفها إلى الأشهر الحرم، وهناك من أول الظلم بالإثم والمنكر عامة. والذين صرفوها إلى الأشهر الحرم وصرفوا الظلم إلى الإثم والمنكر قالوا : إن النهي هو بسبب كون الظلم فيها أشد إثما منه في غيرها. وهناك من صرف الظلم إلى الإخلال بحرمة الأشهر الحرم وعمل ما هو محرم فيها مما هو غير محرم في غيرها كالصيد والقتال أو تبديل أعيانها وجعل حلالها حراما وحرامها حلالا. وقد رجح الطبري قول من قال : إنها في صدد الأشهر الحرم وتنظيم حرمتها وعدم استحلال حرامها. وهو الصواب المتبادر من مقام الجملة وروحها. والله أعلم.
والنسيء تقليد جاهلي متصل بحرمة الأشهر الحرم. ويظهر من فحوى الآية وروحها أنه بدعة ابتدعت فيما بعد. ومما روي ( ١ )٥، عن ذلك أنه كان يتولى إعلان النسيء زعيم بيت معين من بيوتات العرب يوم الحج الأكبر إذا رأى ذلك مناسبا أو طلب منه الناس فيعلن مثلا بأن يكون شهر شوال القادم حراما فيصبح شهر المحرم حلالا ويتغير موعد الحج فتكون الوقفة في شهر ذي القعدة بدلا من ذي الحجة. ويكون ذو الحجة بديلا عن المحرم. ثم يعلن في سنة ثانية بأن يعود المحرم محرما، فتعود الأشهر الحرم إلى ترتيبها أو يعلن أن صفر العام القابل محرما فيصير بدء الأشهر الحرم الثلاثة المتوالية ذا الحجة، وتكون الوقفة في شهر المحرم. وقد روي أن صاحب النسيء في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان أبا ثمامة جنادة بن عوف بن أمية الكناني ؛ حيث كان يوافي الموسم فينادي يوم الحج الأكبر فيقول : ألا إن أبا ثمامة لا يعاب ولا يخاب فيقال له : نعم فيعلن تقديم الأشهر الحرم أو تأخيرها شهرا. ويروى أن أبا ثمامة ورث المهمة عم أبيه أمية. وهذا عن أبيه قلع وهذا عن أبيه عباد وهذا عن أبيه حذيفة الذي كان أول من تولى مهمة إعلان النسيء. ومما يروى أن العرب كانوا يطلبون من صاحب النسيء إعلان ذلك ليتمكنوا من متابعة حرب تعطلت بدخول الأشهر الحرم دون انتظار طويل. ويروى إلى هذا ما يفيد أن هذا التقليد قد ابتدع لموازنة الفصول ؛ حيث كان من شأن السير في حساب أشهر السنة على حساب القمر أن تتبدل مواعيد الحج وتدور على الفصول، فكان يراد بالنسيء إبقاؤه في موسم أو فصل واحد. ونحن نميل إلى ترجيح كون الأصل في النسيء هو الرواية الأخيرة لأنها متسقة مع طبائع الأشياء كما أن من الممكن الاستدلال على رجحانه بأسماء الأشهر نفسها. ففي أسماء الأشهر العربية المستعملة دلالات على الفصول وموسم الحج معا مثل ذي الحجة وربيع الأول وربيع الثاني ورمضان. وأسماء الأشهر المتداولة الآن مبدلة عن أسماء سابقة ؛ حيث كانت الأسماء هكذا : المؤتمر بدلا من المحرم، ثم ناجر وخوات ومصان وحنتم ورباء والأصم وعاذل ونافق وغل وهواع وبرك. وهناك روايات فيها أسماء بدلا من أسماء. وفي تسمية رمضان دلالة على شدة الحرارة لأنها من الرمضاء على ما هو متفق عليه عند علماء اللغة. ويعقبه شوال وهو ليس محرما ثم تأتي الأشهر المحرمة الثلاثة وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم وهي أشهر الحج. فمن المحتمل أن يكون تقليد الأشهر الحرم للحج قد ضعف لسبب ما، ثم جاءت ظروف قضت تقويته وتجديده. وربما كان ذلك لاتجاه أنظار العرب إلى الكعبة في الظرف الذي غزا الأحباش فيه اليمن، وقوضوا السلطان العربي عنها وسيطروا عليها. وكان الرومان مسيطرين على بلاد الشام وعربها والفرس مسيطرين على بلاد العراق وعربها. وكانت الحجاز وحدها تحتفظ باستقلالها. وربما كان ذلك في آخر صيف وكان رمضان يصادف شهر آب وشوال يصادف شهر أيلول فصارت أشهر الحج الحرم وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم مصادفة لأشهر تشرين أ
١ انظر ابن سعد ج ٣ ص ٢١٨..
٢ المصدر نفسه ص ٢٣٨..
٣ روى هذا الحديث البخاري انظر التاج ج ٤ ص ١١٦، و ١١٧ظ. وروى الطبري هذا الحديث بطرق عديدة أيضا..
٤ انظر أيضا البغوي والخازن وابن كثير..
٥ انظر لأجل هذه النبذة تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي وتاريخ العرب قبل الإسلام لجواد علي ج ٥ ص ٢٣٤ وما بعدها..

( ١ ) اثاقلتم إلى الأرض : أثقلتم مقاعدكم في الأرض. والجملة كناية عن عدم المسارعة إلى الاستجابة إلى دعوة النفرة في سبيل الله ومقابلتها بالبطء والتثاقل.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ ( ١ ) إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ ( ٣٨ ) إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( ٣٩ ) إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( ٤٠ ) انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً ( ٢ ) وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ( ٤١ ) ﴾ ( ٣٨ – ٤١ ).

في هذه الآيات :

( ١ ) تنديد وعتاب موجه للمسلمين على تثاقلهم وعدم نشاطهم حينما يدعون إلى النفرة إلى الجهاد في سبيل الله.
( ٢ ) وسؤال على سبيل الإنكار والعتب عما إذا كانوا قد رضوا بالحياة الدنيا بدلا من الآخرة، مع أن مدة الحياة الدنيا ومتاعها بالنسبة للآخرة قليلة تافهة.
( ٣ ) وإنذار لهم بأنهم إذا لم ينفروا يعرضون أنفسهم لعذاب الله الأليم. ولغضبه واستغنائه عنهم واستبداله إياهم بغيرهم، وهو القادر على كل شيء، ولن يضروه شيئا.
( ٤ ) وتذكير منطو على العتاب والتحدي : فإذا لم ينصروا النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويلبوه فإن الله ناصره وكفى به نصيرا. وهو الذي نصره حينما اضطره الكفار إلى الخروج فخرج ليس معه إلا صاحبه ولبثا في الغار. وقد ألم بصاحبه الخوف والحزن فهتف به لا تحزن إن الله معنا. وقد أنزل الله عليه سكينته وأيده بجنود لم يرها أحد. ثم كان من أمره أن أظهره الله على جميع أعدائه حتى صارت كلمة الله هي العليا وكلمة الكفار هي السفلى.
( ٥ ) وتعقيب على هذا كله بأمر المسلمين بالنفرة خفافا وثقالا على كل حال وبأي إمكان وصورة وبدون أي اعتذار وتعلل وبالجهاد بالمال والنفس في سبيل الله، فذلك خير لهم لو كانوا يعلمون.

تعليق على الآية :

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ.............................. ﴾
والآيات الثلاث التي بعدها، وما فيها من صور وتلقين، وما روي
في صددها من روايات، وموجز خبر غزوة تبوك وأسبابها وأحداثها
والمفسرون ( ١ )١، متفقون على أن هذه الآيات وما بعدها هي في صدد استنفار المسلمين إلى غزوة تبوك، وما جرى فيها من أحداث وصور وبعض مواقف المسلمين والمنافقين في أثنائها وقبلها في سياق ذلك. وفي الآيات التالية لها بعض القرائن على ذلك.
ولقد ذكرنا قبل أن منطقة تبوك وما وراءها كانت مأهولة بقبائل نصرانية وكان سلطان الروم ممتدا عليها. وأن الآية ( ٢٩ ) وما بعدها هي بسبيل غزوة تبوك. وهكذا تكون الآيات استمرارا للسياق.
والعتاب والتنديد في الآيات عام التوجيه إلى المسلمين. غير أن الآيات التالية احتوت دلائل صريحة على أن الذين وقفوا الموقف الموصوف في الآيات في مناسبة غزوة تبوك هم المسلمون المستجدون والمنافقون وذوو القلوب المريضة وفريق من الأعراب.
ومثل هذا العتاب والتنديد جاء في فصول قرآنية عديدة في سور عديدة أيضا. واحتوت دلائل صريحة وضمنية على أن المقصود بهما هذه الفئات أيضا. ولما كانت غزوة تبوك هي آخر غزوات النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإن هذا يعني أن هذه الفئات التي كانت تقف المواقف المستوجبة للعتاب والتنديد ظلت تقف نفس المواقف إلى أواخر العهد المدني. وظلت من أجل ذلك عرضة للعتاب والتنديد بل للمقت الرباني الذي انطوى في آيات سورة الصف هذه :﴿ يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون ( ٢ ) كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ( ٣ ) إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص ( ٤ ) ﴾ ( ١ )٢. أما السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان فقد كانوا يسارعون إلى تلبية كل دعوة إلى الجهاد والتضحية وتنفيذ أوامر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مختلف الأوقات وظلوا كذلك إلى النهاية على ما احتوت الإشارة إليه والتنويه بهم من أجله آيات كثيرة في سور سابقة وآيات أخرى في هذه السورة.
والعتاب والتنديد والإنذار وتهوين أمر الدنيا في الآيات قد جاء بأسلوب قوي قارع ؛ حيث يدل هذا على أن موقف المتثاقلين المتباطئين والمنافقين ومرضى القلوب كان شديد الوقع والأثر. وفي آيات أخرى من السورة استمرار في ذلك وفضح لمواقف سابقة ولاحقة لهم ؛ حيث يوثق ذلك تلك الدلالة. ومع خصوصية الآيات الزمنية يظل ما فيها من نداء وتنديد قارعا مستمر المدى بالنسبة لكل موقف مماثل يتثاقل فيه بعض الجماعات الإسلامية عن النفرة إلى الجهاد في سبيل الله. إذا ما دعت الحاجة إليه والتضامن في الدفاع عن الإسلام ومصالح المسلمين.
وغزوة تبوك التي قلنا : إن المتفق عليه أن معظم هذه السور نزلت فيها كانت كما قلنا آخر غزوة غزاها النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأعظمها حشدا وأبعدها شقة. وكانت في السنة الهجرية التاسعة أي بعد فتح مكة بنحو سنة. وآيات السورة لا تذكر وقائع، وإنما هي بسبيل التنويه والتعليم والعظة والتنديد بسبب ما كان في سياقها وأثنائها من مشاهد ومواقف وصور متنوعة جريا على الأسلوب القرآني.
ولقد روى المفسرون ورواة السيرة والمؤرخون القدماء روايات عديدة فيها بيانات كثيرة عن هذه الغزوة. خلاصتها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بلغه أن الروم جمعت جموعا كثيرة بالشام وأجلبت معهم لخم وجذام وعاملة وغسان من العرب النصارى وقدموا طلائعهم يريدون غزو الحجاز، ولعلهم كانوا يقصدون الرد على غزوة المسلمين لمؤتة في السنة الثامنة. وهي الغزوة التي كانت تحت قيادة زيد بن حارثة. والتي أشرنا إليها في مناسبة قريبة من هذه السورة، فرأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يجمع أكبر عدد ممكن من المسلمين ويخرج بهم إلى مشارف الشام إرهابا للأعداء. فاستنفر الناس بدوا وحضرا واستعانهم بالمال ولم يزل بهم محرضا مرغبا ومنذرا حتى تمكن من جمع جيش عظيم بلغ على ما ذكرته الروايات ثلاثين ألفا فيه عشرة آلاف فرس. وقد سمي الجيش بجيش العسرة بسبب كون الوقت كان صيفا قائظا وحالة المسلمين الاقتصادية سيئة والشقة بعيدة. ولقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم اعتاد أن يكني ولا يفصح عن المكان الذي يغزوه إلا هذه الغزوة ؛ حيث صرح لهم بقصده ليكونوا على بينة واستعداد. وكان من مشاهد هذه الحركة أن تبرع بعض أغنياء الصحابة المخلصين كعثمان بن عفان بمبالغ طائلة سددت ثغرات واسعة من الحاجة كما كان من مشاهدها تسابق فقراء الصحابة المخلصين إلى التبرع بجهدهم والانضمام إلى الجيش. وبكاء وحزن بعض المسلمين الذين لم يتسن لهم الاشتراك في الحملة بسبب فقرهم وعدم إمكان مساعدتهم على تحقيق رغبتهم ( ١ )٣.
وقد خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم بجيشه العظيم في شهر رجب فوصل تبوك بعد عشرين يوما وعسكر فيها ولم يتعدها. ولم يجد فيها ما بلغه من جموع ؛ حيث كانوا تفرقوا حينما بلغهم مسيره. ولم يشتبك مع أحد بحرب. وقد أقام نحو شهر ثم قفل راجعا، ولم تخل الغزوة من مكاسب مادية وسياسية ومعنوية.
فقد بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سراياه ورسله في أنحاء المنطقة. فوافاه نتيجة لذلك إلى تبوك يوحنه بن رؤبة وأهل جربا وأذرح فصالحوه على الجزية وكتب لهم كتب أمان. وسعى إليه يهود مقنا بنو جبنة وبنو العريض وبنو عاديا فوجدوه قد رجع إلى المدينة فلحقوا به وصالحوه على الجزية وأخذوا منه كتاب أمان. وقد كان من السرايا التي سيرها سرية بقيادة خالد بن الوليد إلى أكيدر صاحب دومة الجندل. وقد استطاع خالد أن ينتصر عليه ويأسره واضطره إلى الصلح على ٢٠٠٠ بعير و ٨٠٠ رأس رقيق و ٤٠٠ درع و ٤٠٠ رمح وحمله معه إلى المدينة حيث أسلم على يد النبي صلى الله عليه وآله وسلم فكتب له كتاب عهد.....
وعلى كل حال فقد كانت هذه الغزوة في الجملة موطدة لهيبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين في هذه الأنحاء وقرعة قوية للأسماع والأذهان بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، ودعوته فيها وفيما وراءها وتدشينا للخطوات التاريخية الخالدة التي خطاها خلفاءه الراشدون من بعده. ولقد كان من بين الوفود التي تدفقت على المدينة في السنتين التاسعة والعاشرة وفود عديدة من هذه الأنحاء فبايعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الإسلام.
والمستفاد من الروايات أن المنافقين من اشترك في الحملة ومنهم من اعتذر وتخلف. وكان هذا شأن الأعراب أيضا. أما المخلصون فلم يتخلف منهم قادر بدون عذر إلا ثلاثة. وهذا وذاك مستفاد من بعض آيات السورة أيضا على ما سوف يأتي بعد. وهذا يؤيد صحة ما روي من العدد العظيم الذي اشترك في الحملة. ولقد روى ابن هشام أن عبد الله بن أبي كبير المنافقين ضرب عسكره مع من ينضوي إليه منفردا وكان فيما يزعمون – والتعبير لابن إسحاق الذي يروي عنه ابن هشام – ليس أقل العسكرين، ثم اعتذر وتخلف مع قسم كبير من رفاقه. وقد روت بعض الروايات أن عدد المتخلفين من المنافقين وذوي القلوب المريضة بعد اعتذارهم بأعذار كاذبة وإذن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم كان نحو ثمانين ( ١ )٤. والرواية السابقة التي شك فيها ابن إسحاق بحق لا يمكن أن تصح لأن آيات عديدة في هذه السورة وقبلها مما نزل بعد التنكيل الحاسم باليهود ذكرت ما كان يعتري المنافقين من خوف وما كان من أيمانهم المغلظة على إخلاصهم مما لا يعقل أن يكون ذلك منهم لو كانت لهم مثل هذه القوة. وكانوا قبل ذلك معتدين بأنفسهم حتى بلغ من أمرهم أن قالوا :﴿ لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ﴾ على ما شرحناه في سياق سورة المنافقون.
ورواية كون عدد المتخلفين من المنافقين نحو ثمانين مما يؤيد ما نقول. وكانوا أكثرية المنافقين على ما يستفاد من آيات السورة. والرواية معقولة ؛ لأن المستفاد من الآية أن المستأذنين المتخلفين هم ذوو الطول أي الأغنياء. وهؤلاء محدودو العدد دائما.
ونكتفي بهذه الخلاصة على أن شرح الصور والمواقف الأخرى في مناسبات الآيات التي أشير إليها فيها.
ولقد روى الطبرسي عن السدي أن الآية الأخيرة قد نسخت بآية التوبة هذه :﴿ لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ ﴾ ( ٩١ ) لما علم الله من أن أصحاب هذه الأعذار عاجزون عن النفرة. وروى ابن كثير عن ابن عباس وعكرمة أنها نسخت بآية التوبة هذه :﴿ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ ﴾ ( ١٢٢ ). ومع أن الآية في مقامها هي في معرض ال
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ ( ١ ) إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ ( ٣٨ ) إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( ٣٩ ) إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( ٤٠ ) انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً ( ٢ ) وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ( ٤١ ) ﴾ ( ٣٨ – ٤١ ).

في هذه الآيات :

( ١ ) تنديد وعتاب موجه للمسلمين على تثاقلهم وعدم نشاطهم حينما يدعون إلى النفرة إلى الجهاد في سبيل الله.
( ٢ ) وسؤال على سبيل الإنكار والعتب عما إذا كانوا قد رضوا بالحياة الدنيا بدلا من الآخرة، مع أن مدة الحياة الدنيا ومتاعها بالنسبة للآخرة قليلة تافهة.
( ٣ ) وإنذار لهم بأنهم إذا لم ينفروا يعرضون أنفسهم لعذاب الله الأليم. ولغضبه واستغنائه عنهم واستبداله إياهم بغيرهم، وهو القادر على كل شيء، ولن يضروه شيئا.
( ٤ ) وتذكير منطو على العتاب والتحدي : فإذا لم ينصروا النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويلبوه فإن الله ناصره وكفى به نصيرا. وهو الذي نصره حينما اضطره الكفار إلى الخروج فخرج ليس معه إلا صاحبه ولبثا في الغار. وقد ألم بصاحبه الخوف والحزن فهتف به لا تحزن إن الله معنا. وقد أنزل الله عليه سكينته وأيده بجنود لم يرها أحد. ثم كان من أمره أن أظهره الله على جميع أعدائه حتى صارت كلمة الله هي العليا وكلمة الكفار هي السفلى.
( ٥ ) وتعقيب على هذا كله بأمر المسلمين بالنفرة خفافا وثقالا على كل حال وبأي إمكان وصورة وبدون أي اعتذار وتعلل وبالجهاد بالمال والنفس في سبيل الله، فذلك خير لهم لو كانوا يعلمون.

تعليق على الآية :

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ.............................. ﴾
والآيات الثلاث التي بعدها، وما فيها من صور وتلقين، وما روي
في صددها من روايات، وموجز خبر غزوة تبوك وأسبابها وأحداثها
والمفسرون ( ١ )١، متفقون على أن هذه الآيات وما بعدها هي في صدد استنفار المسلمين إلى غزوة تبوك، وما جرى فيها من أحداث وصور وبعض مواقف المسلمين والمنافقين في أثنائها وقبلها في سياق ذلك. وفي الآيات التالية لها بعض القرائن على ذلك.
ولقد ذكرنا قبل أن منطقة تبوك وما وراءها كانت مأهولة بقبائل نصرانية وكان سلطان الروم ممتدا عليها. وأن الآية ( ٢٩ ) وما بعدها هي بسبيل غزوة تبوك. وهكذا تكون الآيات استمرارا للسياق.
والعتاب والتنديد في الآيات عام التوجيه إلى المسلمين. غير أن الآيات التالية احتوت دلائل صريحة على أن الذين وقفوا الموقف الموصوف في الآيات في مناسبة غزوة تبوك هم المسلمون المستجدون والمنافقون وذوو القلوب المريضة وفريق من الأعراب.
ومثل هذا العتاب والتنديد جاء في فصول قرآنية عديدة في سور عديدة أيضا. واحتوت دلائل صريحة وضمنية على أن المقصود بهما هذه الفئات أيضا. ولما كانت غزوة تبوك هي آخر غزوات النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإن هذا يعني أن هذه الفئات التي كانت تقف المواقف المستوجبة للعتاب والتنديد ظلت تقف نفس المواقف إلى أواخر العهد المدني. وظلت من أجل ذلك عرضة للعتاب والتنديد بل للمقت الرباني الذي انطوى في آيات سورة الصف هذه :﴿ يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون ( ٢ ) كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ( ٣ ) إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص ( ٤ ) ﴾ ( ١ )٢. أما السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان فقد كانوا يسارعون إلى تلبية كل دعوة إلى الجهاد والتضحية وتنفيذ أوامر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مختلف الأوقات وظلوا كذلك إلى النهاية على ما احتوت الإشارة إليه والتنويه بهم من أجله آيات كثيرة في سور سابقة وآيات أخرى في هذه السورة.
والعتاب والتنديد والإنذار وتهوين أمر الدنيا في الآيات قد جاء بأسلوب قوي قارع ؛ حيث يدل هذا على أن موقف المتثاقلين المتباطئين والمنافقين ومرضى القلوب كان شديد الوقع والأثر. وفي آيات أخرى من السورة استمرار في ذلك وفضح لمواقف سابقة ولاحقة لهم ؛ حيث يوثق ذلك تلك الدلالة. ومع خصوصية الآيات الزمنية يظل ما فيها من نداء وتنديد قارعا مستمر المدى بالنسبة لكل موقف مماثل يتثاقل فيه بعض الجماعات الإسلامية عن النفرة إلى الجهاد في سبيل الله. إذا ما دعت الحاجة إليه والتضامن في الدفاع عن الإسلام ومصالح المسلمين.
وغزوة تبوك التي قلنا : إن المتفق عليه أن معظم هذه السور نزلت فيها كانت كما قلنا آخر غزوة غزاها النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأعظمها حشدا وأبعدها شقة. وكانت في السنة الهجرية التاسعة أي بعد فتح مكة بنحو سنة. وآيات السورة لا تذكر وقائع، وإنما هي بسبيل التنويه والتعليم والعظة والتنديد بسبب ما كان في سياقها وأثنائها من مشاهد ومواقف وصور متنوعة جريا على الأسلوب القرآني.
ولقد روى المفسرون ورواة السيرة والمؤرخون القدماء روايات عديدة فيها بيانات كثيرة عن هذه الغزوة. خلاصتها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بلغه أن الروم جمعت جموعا كثيرة بالشام وأجلبت معهم لخم وجذام وعاملة وغسان من العرب النصارى وقدموا طلائعهم يريدون غزو الحجاز، ولعلهم كانوا يقصدون الرد على غزوة المسلمين لمؤتة في السنة الثامنة. وهي الغزوة التي كانت تحت قيادة زيد بن حارثة. والتي أشرنا إليها في مناسبة قريبة من هذه السورة، فرأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يجمع أكبر عدد ممكن من المسلمين ويخرج بهم إلى مشارف الشام إرهابا للأعداء. فاستنفر الناس بدوا وحضرا واستعانهم بالمال ولم يزل بهم محرضا مرغبا ومنذرا حتى تمكن من جمع جيش عظيم بلغ على ما ذكرته الروايات ثلاثين ألفا فيه عشرة آلاف فرس. وقد سمي الجيش بجيش العسرة بسبب كون الوقت كان صيفا قائظا وحالة المسلمين الاقتصادية سيئة والشقة بعيدة. ولقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم اعتاد أن يكني ولا يفصح عن المكان الذي يغزوه إلا هذه الغزوة ؛ حيث صرح لهم بقصده ليكونوا على بينة واستعداد. وكان من مشاهد هذه الحركة أن تبرع بعض أغنياء الصحابة المخلصين كعثمان بن عفان بمبالغ طائلة سددت ثغرات واسعة من الحاجة كما كان من مشاهدها تسابق فقراء الصحابة المخلصين إلى التبرع بجهدهم والانضمام إلى الجيش. وبكاء وحزن بعض المسلمين الذين لم يتسن لهم الاشتراك في الحملة بسبب فقرهم وعدم إمكان مساعدتهم على تحقيق رغبتهم ( ١ )٣.
وقد خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم بجيشه العظيم في شهر رجب فوصل تبوك بعد عشرين يوما وعسكر فيها ولم يتعدها. ولم يجد فيها ما بلغه من جموع ؛ حيث كانوا تفرقوا حينما بلغهم مسيره. ولم يشتبك مع أحد بحرب. وقد أقام نحو شهر ثم قفل راجعا، ولم تخل الغزوة من مكاسب مادية وسياسية ومعنوية.
فقد بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سراياه ورسله في أنحاء المنطقة. فوافاه نتيجة لذلك إلى تبوك يوحنه بن رؤبة وأهل جربا وأذرح فصالحوه على الجزية وكتب لهم كتب أمان. وسعى إليه يهود مقنا بنو جبنة وبنو العريض وبنو عاديا فوجدوه قد رجع إلى المدينة فلحقوا به وصالحوه على الجزية وأخذوا منه كتاب أمان. وقد كان من السرايا التي سيرها سرية بقيادة خالد بن الوليد إلى أكيدر صاحب دومة الجندل. وقد استطاع خالد أن ينتصر عليه ويأسره واضطره إلى الصلح على ٢٠٠٠ بعير و ٨٠٠ رأس رقيق و ٤٠٠ درع و ٤٠٠ رمح وحمله معه إلى المدينة حيث أسلم على يد النبي صلى الله عليه وآله وسلم فكتب له كتاب عهد.....
وعلى كل حال فقد كانت هذه الغزوة في الجملة موطدة لهيبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين في هذه الأنحاء وقرعة قوية للأسماع والأذهان بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، ودعوته فيها وفيما وراءها وتدشينا للخطوات التاريخية الخالدة التي خطاها خلفاءه الراشدون من بعده. ولقد كان من بين الوفود التي تدفقت على المدينة في السنتين التاسعة والعاشرة وفود عديدة من هذه الأنحاء فبايعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الإسلام.
والمستفاد من الروايات أن المنافقين من اشترك في الحملة ومنهم من اعتذر وتخلف. وكان هذا شأن الأعراب أيضا. أما المخلصون فلم يتخلف منهم قادر بدون عذر إلا ثلاثة. وهذا وذاك مستفاد من بعض آيات السورة أيضا على ما سوف يأتي بعد. وهذا يؤيد صحة ما روي من العدد العظيم الذي اشترك في الحملة. ولقد روى ابن هشام أن عبد الله بن أبي كبير المنافقين ضرب عسكره مع من ينضوي إليه منفردا وكان فيما يزعمون – والتعبير لابن إسحاق الذي يروي عنه ابن هشام – ليس أقل العسكرين، ثم اعتذر وتخلف مع قسم كبير من رفاقه. وقد روت بعض الروايات أن عدد المتخلفين من المنافقين وذوي القلوب المريضة بعد اعتذارهم بأعذار كاذبة وإذن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم كان نحو ثمانين ( ١ )٤. والرواية السابقة التي شك فيها ابن إسحاق بحق لا يمكن أن تصح لأن آيات عديدة في هذه السورة وقبلها مما نزل بعد التنكيل الحاسم باليهود ذكرت ما كان يعتري المنافقين من خوف وما كان من أيمانهم المغلظة على إخلاصهم مما لا يعقل أن يكون ذلك منهم لو كانت لهم مثل هذه القوة. وكانوا قبل ذلك معتدين بأنفسهم حتى بلغ من أمرهم أن قالوا :﴿ لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ﴾ على ما شرحناه في سياق سورة المنافقون.
ورواية كون عدد المتخلفين من المنافقين نحو ثمانين مما يؤيد ما نقول. وكانوا أكثرية المنافقين على ما يستفاد من آيات السورة. والرواية معقولة ؛ لأن المستفاد من الآية أن المستأذنين المتخلفين هم ذوو الطول أي الأغنياء. وهؤلاء محدودو العدد دائما.
ونكتفي بهذه الخلاصة على أن شرح الصور والمواقف الأخرى في مناسبات الآيات التي أشير إليها فيها.
ولقد روى الطبرسي عن السدي أن الآية الأخيرة قد نسخت بآية التوبة هذه :﴿ لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ ﴾ ( ٩١ ) لما علم الله من أن أصحاب هذه الأعذار عاجزون عن النفرة. وروى ابن كثير عن ابن عباس وعكرمة أنها نسخت بآية التوبة هذه :﴿ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ ﴾ ( ١٢٢ ). ومع أن الآية في مقامها هي في معرض ال
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ ( ١ ) إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ ( ٣٨ ) إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( ٣٩ ) إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( ٤٠ ) انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً ( ٢ ) وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ( ٤١ ) ﴾ ( ٣٨ – ٤١ ).

في هذه الآيات :

( ١ ) تنديد وعتاب موجه للمسلمين على تثاقلهم وعدم نشاطهم حينما يدعون إلى النفرة إلى الجهاد في سبيل الله.
( ٢ ) وسؤال على سبيل الإنكار والعتب عما إذا كانوا قد رضوا بالحياة الدنيا بدلا من الآخرة، مع أن مدة الحياة الدنيا ومتاعها بالنسبة للآخرة قليلة تافهة.
( ٣ ) وإنذار لهم بأنهم إذا لم ينفروا يعرضون أنفسهم لعذاب الله الأليم. ولغضبه واستغنائه عنهم واستبداله إياهم بغيرهم، وهو القادر على كل شيء، ولن يضروه شيئا.
( ٤ ) وتذكير منطو على العتاب والتحدي : فإذا لم ينصروا النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويلبوه فإن الله ناصره وكفى به نصيرا. وهو الذي نصره حينما اضطره الكفار إلى الخروج فخرج ليس معه إلا صاحبه ولبثا في الغار. وقد ألم بصاحبه الخوف والحزن فهتف به لا تحزن إن الله معنا. وقد أنزل الله عليه سكينته وأيده بجنود لم يرها أحد. ثم كان من أمره أن أظهره الله على جميع أعدائه حتى صارت كلمة الله هي العليا وكلمة الكفار هي السفلى.
( ٥ ) وتعقيب على هذا كله بأمر المسلمين بالنفرة خفافا وثقالا على كل حال وبأي إمكان وصورة وبدون أي اعتذار وتعلل وبالجهاد بالمال والنفس في سبيل الله، فذلك خير لهم لو كانوا يعلمون.

تعليق على الآية :

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ.............................. ﴾
والآيات الثلاث التي بعدها، وما فيها من صور وتلقين، وما روي
في صددها من روايات، وموجز خبر غزوة تبوك وأسبابها وأحداثها
والمفسرون ( ١ )١، متفقون على أن هذه الآيات وما بعدها هي في صدد استنفار المسلمين إلى غزوة تبوك، وما جرى فيها من أحداث وصور وبعض مواقف المسلمين والمنافقين في أثنائها وقبلها في سياق ذلك. وفي الآيات التالية لها بعض القرائن على ذلك.
ولقد ذكرنا قبل أن منطقة تبوك وما وراءها كانت مأهولة بقبائل نصرانية وكان سلطان الروم ممتدا عليها. وأن الآية ( ٢٩ ) وما بعدها هي بسبيل غزوة تبوك. وهكذا تكون الآيات استمرارا للسياق.
والعتاب والتنديد في الآيات عام التوجيه إلى المسلمين. غير أن الآيات التالية احتوت دلائل صريحة على أن الذين وقفوا الموقف الموصوف في الآيات في مناسبة غزوة تبوك هم المسلمون المستجدون والمنافقون وذوو القلوب المريضة وفريق من الأعراب.
ومثل هذا العتاب والتنديد جاء في فصول قرآنية عديدة في سور عديدة أيضا. واحتوت دلائل صريحة وضمنية على أن المقصود بهما هذه الفئات أيضا. ولما كانت غزوة تبوك هي آخر غزوات النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإن هذا يعني أن هذه الفئات التي كانت تقف المواقف المستوجبة للعتاب والتنديد ظلت تقف نفس المواقف إلى أواخر العهد المدني. وظلت من أجل ذلك عرضة للعتاب والتنديد بل للمقت الرباني الذي انطوى في آيات سورة الصف هذه :﴿ يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون ( ٢ ) كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ( ٣ ) إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص ( ٤ ) ﴾ ( ١ )٢. أما السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان فقد كانوا يسارعون إلى تلبية كل دعوة إلى الجهاد والتضحية وتنفيذ أوامر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مختلف الأوقات وظلوا كذلك إلى النهاية على ما احتوت الإشارة إليه والتنويه بهم من أجله آيات كثيرة في سور سابقة وآيات أخرى في هذه السورة.
والعتاب والتنديد والإنذار وتهوين أمر الدنيا في الآيات قد جاء بأسلوب قوي قارع ؛ حيث يدل هذا على أن موقف المتثاقلين المتباطئين والمنافقين ومرضى القلوب كان شديد الوقع والأثر. وفي آيات أخرى من السورة استمرار في ذلك وفضح لمواقف سابقة ولاحقة لهم ؛ حيث يوثق ذلك تلك الدلالة. ومع خصوصية الآيات الزمنية يظل ما فيها من نداء وتنديد قارعا مستمر المدى بالنسبة لكل موقف مماثل يتثاقل فيه بعض الجماعات الإسلامية عن النفرة إلى الجهاد في سبيل الله. إذا ما دعت الحاجة إليه والتضامن في الدفاع عن الإسلام ومصالح المسلمين.
وغزوة تبوك التي قلنا : إن المتفق عليه أن معظم هذه السور نزلت فيها كانت كما قلنا آخر غزوة غزاها النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأعظمها حشدا وأبعدها شقة. وكانت في السنة الهجرية التاسعة أي بعد فتح مكة بنحو سنة. وآيات السورة لا تذكر وقائع، وإنما هي بسبيل التنويه والتعليم والعظة والتنديد بسبب ما كان في سياقها وأثنائها من مشاهد ومواقف وصور متنوعة جريا على الأسلوب القرآني.
ولقد روى المفسرون ورواة السيرة والمؤرخون القدماء روايات عديدة فيها بيانات كثيرة عن هذه الغزوة. خلاصتها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بلغه أن الروم جمعت جموعا كثيرة بالشام وأجلبت معهم لخم وجذام وعاملة وغسان من العرب النصارى وقدموا طلائعهم يريدون غزو الحجاز، ولعلهم كانوا يقصدون الرد على غزوة المسلمين لمؤتة في السنة الثامنة. وهي الغزوة التي كانت تحت قيادة زيد بن حارثة. والتي أشرنا إليها في مناسبة قريبة من هذه السورة، فرأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يجمع أكبر عدد ممكن من المسلمين ويخرج بهم إلى مشارف الشام إرهابا للأعداء. فاستنفر الناس بدوا وحضرا واستعانهم بالمال ولم يزل بهم محرضا مرغبا ومنذرا حتى تمكن من جمع جيش عظيم بلغ على ما ذكرته الروايات ثلاثين ألفا فيه عشرة آلاف فرس. وقد سمي الجيش بجيش العسرة بسبب كون الوقت كان صيفا قائظا وحالة المسلمين الاقتصادية سيئة والشقة بعيدة. ولقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم اعتاد أن يكني ولا يفصح عن المكان الذي يغزوه إلا هذه الغزوة ؛ حيث صرح لهم بقصده ليكونوا على بينة واستعداد. وكان من مشاهد هذه الحركة أن تبرع بعض أغنياء الصحابة المخلصين كعثمان بن عفان بمبالغ طائلة سددت ثغرات واسعة من الحاجة كما كان من مشاهدها تسابق فقراء الصحابة المخلصين إلى التبرع بجهدهم والانضمام إلى الجيش. وبكاء وحزن بعض المسلمين الذين لم يتسن لهم الاشتراك في الحملة بسبب فقرهم وعدم إمكان مساعدتهم على تحقيق رغبتهم ( ١ )٣.
وقد خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم بجيشه العظيم في شهر رجب فوصل تبوك بعد عشرين يوما وعسكر فيها ولم يتعدها. ولم يجد فيها ما بلغه من جموع ؛ حيث كانوا تفرقوا حينما بلغهم مسيره. ولم يشتبك مع أحد بحرب. وقد أقام نحو شهر ثم قفل راجعا، ولم تخل الغزوة من مكاسب مادية وسياسية ومعنوية.
فقد بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سراياه ورسله في أنحاء المنطقة. فوافاه نتيجة لذلك إلى تبوك يوحنه بن رؤبة وأهل جربا وأذرح فصالحوه على الجزية وكتب لهم كتب أمان. وسعى إليه يهود مقنا بنو جبنة وبنو العريض وبنو عاديا فوجدوه قد رجع إلى المدينة فلحقوا به وصالحوه على الجزية وأخذوا منه كتاب أمان. وقد كان من السرايا التي سيرها سرية بقيادة خالد بن الوليد إلى أكيدر صاحب دومة الجندل. وقد استطاع خالد أن ينتصر عليه ويأسره واضطره إلى الصلح على ٢٠٠٠ بعير و ٨٠٠ رأس رقيق و ٤٠٠ درع و ٤٠٠ رمح وحمله معه إلى المدينة حيث أسلم على يد النبي صلى الله عليه وآله وسلم فكتب له كتاب عهد.....
وعلى كل حال فقد كانت هذه الغزوة في الجملة موطدة لهيبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين في هذه الأنحاء وقرعة قوية للأسماع والأذهان بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، ودعوته فيها وفيما وراءها وتدشينا للخطوات التاريخية الخالدة التي خطاها خلفاءه الراشدون من بعده. ولقد كان من بين الوفود التي تدفقت على المدينة في السنتين التاسعة والعاشرة وفود عديدة من هذه الأنحاء فبايعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الإسلام.
والمستفاد من الروايات أن المنافقين من اشترك في الحملة ومنهم من اعتذر وتخلف. وكان هذا شأن الأعراب أيضا. أما المخلصون فلم يتخلف منهم قادر بدون عذر إلا ثلاثة. وهذا وذاك مستفاد من بعض آيات السورة أيضا على ما سوف يأتي بعد. وهذا يؤيد صحة ما روي من العدد العظيم الذي اشترك في الحملة. ولقد روى ابن هشام أن عبد الله بن أبي كبير المنافقين ضرب عسكره مع من ينضوي إليه منفردا وكان فيما يزعمون – والتعبير لابن إسحاق الذي يروي عنه ابن هشام – ليس أقل العسكرين، ثم اعتذر وتخلف مع قسم كبير من رفاقه. وقد روت بعض الروايات أن عدد المتخلفين من المنافقين وذوي القلوب المريضة بعد اعتذارهم بأعذار كاذبة وإذن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم كان نحو ثمانين ( ١ )٤. والرواية السابقة التي شك فيها ابن إسحاق بحق لا يمكن أن تصح لأن آيات عديدة في هذه السورة وقبلها مما نزل بعد التنكيل الحاسم باليهود ذكرت ما كان يعتري المنافقين من خوف وما كان من أيمانهم المغلظة على إخلاصهم مما لا يعقل أن يكون ذلك منهم لو كانت لهم مثل هذه القوة. وكانوا قبل ذلك معتدين بأنفسهم حتى بلغ من أمرهم أن قالوا :﴿ لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ﴾ على ما شرحناه في سياق سورة المنافقون.
ورواية كون عدد المتخلفين من المنافقين نحو ثمانين مما يؤيد ما نقول. وكانوا أكثرية المنافقين على ما يستفاد من آيات السورة. والرواية معقولة ؛ لأن المستفاد من الآية أن المستأذنين المتخلفين هم ذوو الطول أي الأغنياء. وهؤلاء محدودو العدد دائما.
ونكتفي بهذه الخلاصة على أن شرح الصور والمواقف الأخرى في مناسبات الآيات التي أشير إليها فيها.
ولقد روى الطبرسي عن السدي أن الآية الأخيرة قد نسخت بآية التوبة هذه :﴿ لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ ﴾ ( ٩١ ) لما علم الله من أن أصحاب هذه الأعذار عاجزون عن النفرة. وروى ابن كثير عن ابن عباس وعكرمة أنها نسخت بآية التوبة هذه :﴿ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ ﴾ ( ١٢٢ ). ومع أن الآية في مقامها هي في معرض ال
تعليق خاص على الآية :
﴿ إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ...... ﴾ الخ.
في هذه الآية إشارة خاطفة إلى حادث خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم مهاجرا من مكة إلى المدينة. وقد جاءت كما شرحناه قبل على سبيل التنديد بالمتثاقلين عن النفرة إلى الجهاد وتنبههم إلى أن الله كفيل بنصر رسوله إن لم ينصروه، وقد نصره من قبل حين أخرجه الكفار من مكة.
وهي الإشارة الوحيدة في القرآن الصريحة إلى هذا الحادث العظيم الذي كان له أعظم الأثر في الرسالة الإسلامية وأدى إلى اندحار الشرك وغدو كلمة الله هي العليا كما جاء في الآية.
ولقد أوردنا خلاصة ما روي في صدد هذا الحادث في سياق الآية ( ٣٠ ) من سورة الأنفال وأوردنا ما روي من أحاديث نبوية أيضا وعلقنا على كل ذلك بما يغني عن التكرار.
والآية لا تذكر اسم صاحب النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الغار. ولكن التواتر الذي بلغ مبلغ اليقين أنه أبو بكر الصديق رضي الله عنه حتى إن بعضهم قال بكفر من أنكر ذلك ( ١ )١. ولقد روى الترمذي حديثا عن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال لأبي بكر : أنت صاحبي على الحوض، وصاحبي في الغار ( ٢ )٢. وهناك حديث رواه البخاري والترمذي عن أنس جاء فيه :( إن أبا بكر حدثه. قال : قلت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ونحن في الغار : لو أن أحدهم ينظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه. فقال : يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما ) ( ٣ )٣. حيث ينطوي في الحديثين الصحيحين أدلة نقلية على كون أبي بكر هو صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الغار.
وفي الآية صورة رائعة لعمق إيمان النبي صلى الله عليه وآله وسلم واعتماده على الله تعالى وما انبث في نفسه نتيجة لذلك من رباط جأش. وصورة رائعة لشدة إخلاص أبي بكر رضي الله عنه. والحديث الذي يرويه البخاري والترمذي لا يذكر قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم له :( لا تحزن إن الله معنا ). وإن كان يذكر معنى ذلك. ويجب الإيمان بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال له هذه الجملة لأنها نص قرآني قاطع.
والتذكير في الآية قوي محكم. وبخاصة الإثارة إلى ما كان من نتائج نصر الله الباهر لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم ؛ حيث خرج شريدا خائفا ثاني اثنين. فلم يزل الله تعالى يؤيده وينصره إلى أن أرغم جميع أعداء الإسلام وجعل كلمة الكفر والكفار السفلى وكلمة الله هي العليا في أنحاء جزيرة العرب، وامتد ذلك إلى أطراف الجزيرة، من خارجها ثم من خارجها إلى أبعاد شاسعة في مشارق الأرض ومغاربها. ولعل في هذه الإشارة صورة خاطفة، ولكنها قوية رائعة وتامة لدعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسيرها ونتائجها.
ومن المؤسف المثير أن الشيعة الذين يظهر أنهم لم يستطيعوا نفي صحبة أبي بكر لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم زعموا زورا وكفرا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما أخذه معه مخافة أن يشي به للمشركين والعياذ بالله من ذلك. وحاولوا تهوين شأنه في هجرته مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بسفسطات أشبه ما تكون بالهذيان منها بأي شيء آخر ( ١ )٤. متجاهلين أحاديث كثيرة صحيحة في التنويه بفضل أبي بكر وعظم قدره عند الله ورسوله. منها حديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي سعيد قال :( خطب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الناس وقال : إن الله خير عبدا بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ذلك العبد ما عند الله. قال : فبكى أبو بكر فعجبنا لبكائه. فكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو المخير. وكان أبو بكر أعلمنا به. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن من أمن الناس علي في صحبته وماله أبا بكر. ولو كنت متخذا خليلا غير ربي لاتخذت أبا بكر ولكن أخوة الإسلام ومودته. وفي رواية ولكنه أخي وصاحبي ) ( ٢ )٥. وحديث رواه الترمذي عن عائشة قالت :( قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما لأحد عندنا يد إلا وقد كافيناه ما خلا أبا بكر، فإن له عندنا يدا يكافئه الله بها يوم القيامة. وما نفعني مال أحد قط ما نفعني مال أبي بكر ) ( ٣ )٦. وحديثان آخران رواهما الترمذي عن عائشة جاء في أحدهما :( دخل أبو بكر على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : أنت عتيق الله من النار قالت فمن يومئذ سمي عتيقا ). وجاء في ثانيهما :( قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : لا ينبغي لقوم فيهم أبو بكر أن يؤمهم غيره ) ( ١ )٧.
١ انظر تفسير الآية في تفسير البغوي..
٢ التاج ج ٣ ص ٢٧٦..
٣ التاج ج ٤ ص ١١٧..
٤ انظر تفسير الآية في تفسير المنار لرشيد رضا..
٥ التاج ج ٣ ص ٢٧٥..
٦ المصدر السابق نفسه..
٧ المصدر السابق نفسه. وهناك أحاديث صحيحة أخرى في فضائل أبي بكر فاكتفينا بما أوردناه. انظر المصدر نفسه..
( ٢ ) خفافا وثقالا : قيل في تأويل اللفظين إنهما بمعنى حمل السلاح خفيفه وثقيله. وقيل : إنهما بمعنى النفرة إلى سبيل الله مشاة وركبانا. أو شيوخا وشبانا. أو مع أسرهم وبدونها. أو سواء أكانوا مشاغيل أم لا. أو فقراء وأغنياء. وعلى كل حال فالمراد بهما الاستجابة إلى النفرة في أي حال وإمكان وصورة وعدة.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ ( ١ ) إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ ( ٣٨ ) إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( ٣٩ ) إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( ٤٠ ) انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً ( ٢ ) وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ( ٤١ ) ﴾ ( ٣٨ – ٤١ ).

في هذه الآيات :

( ١ ) تنديد وعتاب موجه للمسلمين على تثاقلهم وعدم نشاطهم حينما يدعون إلى النفرة إلى الجهاد في سبيل الله.
( ٢ ) وسؤال على سبيل الإنكار والعتب عما إذا كانوا قد رضوا بالحياة الدنيا بدلا من الآخرة، مع أن مدة الحياة الدنيا ومتاعها بالنسبة للآخرة قليلة تافهة.
( ٣ ) وإنذار لهم بأنهم إذا لم ينفروا يعرضون أنفسهم لعذاب الله الأليم. ولغضبه واستغنائه عنهم واستبداله إياهم بغيرهم، وهو القادر على كل شيء، ولن يضروه شيئا.
( ٤ ) وتذكير منطو على العتاب والتحدي : فإذا لم ينصروا النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويلبوه فإن الله ناصره وكفى به نصيرا. وهو الذي نصره حينما اضطره الكفار إلى الخروج فخرج ليس معه إلا صاحبه ولبثا في الغار. وقد ألم بصاحبه الخوف والحزن فهتف به لا تحزن إن الله معنا. وقد أنزل الله عليه سكينته وأيده بجنود لم يرها أحد. ثم كان من أمره أن أظهره الله على جميع أعدائه حتى صارت كلمة الله هي العليا وكلمة الكفار هي السفلى.
( ٥ ) وتعقيب على هذا كله بأمر المسلمين بالنفرة خفافا وثقالا على كل حال وبأي إمكان وصورة وبدون أي اعتذار وتعلل وبالجهاد بالمال والنفس في سبيل الله، فذلك خير لهم لو كانوا يعلمون.

تعليق على الآية :

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ.............................. ﴾
والآيات الثلاث التي بعدها، وما فيها من صور وتلقين، وما روي
في صددها من روايات، وموجز خبر غزوة تبوك وأسبابها وأحداثها
والمفسرون ( ١ )١، متفقون على أن هذه الآيات وما بعدها هي في صدد استنفار المسلمين إلى غزوة تبوك، وما جرى فيها من أحداث وصور وبعض مواقف المسلمين والمنافقين في أثنائها وقبلها في سياق ذلك. وفي الآيات التالية لها بعض القرائن على ذلك.
ولقد ذكرنا قبل أن منطقة تبوك وما وراءها كانت مأهولة بقبائل نصرانية وكان سلطان الروم ممتدا عليها. وأن الآية ( ٢٩ ) وما بعدها هي بسبيل غزوة تبوك. وهكذا تكون الآيات استمرارا للسياق.
والعتاب والتنديد في الآيات عام التوجيه إلى المسلمين. غير أن الآيات التالية احتوت دلائل صريحة على أن الذين وقفوا الموقف الموصوف في الآيات في مناسبة غزوة تبوك هم المسلمون المستجدون والمنافقون وذوو القلوب المريضة وفريق من الأعراب.
ومثل هذا العتاب والتنديد جاء في فصول قرآنية عديدة في سور عديدة أيضا. واحتوت دلائل صريحة وضمنية على أن المقصود بهما هذه الفئات أيضا. ولما كانت غزوة تبوك هي آخر غزوات النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإن هذا يعني أن هذه الفئات التي كانت تقف المواقف المستوجبة للعتاب والتنديد ظلت تقف نفس المواقف إلى أواخر العهد المدني. وظلت من أجل ذلك عرضة للعتاب والتنديد بل للمقت الرباني الذي انطوى في آيات سورة الصف هذه :﴿ يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون ( ٢ ) كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ( ٣ ) إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص ( ٤ ) ﴾ ( ١ )٢. أما السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان فقد كانوا يسارعون إلى تلبية كل دعوة إلى الجهاد والتضحية وتنفيذ أوامر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مختلف الأوقات وظلوا كذلك إلى النهاية على ما احتوت الإشارة إليه والتنويه بهم من أجله آيات كثيرة في سور سابقة وآيات أخرى في هذه السورة.
والعتاب والتنديد والإنذار وتهوين أمر الدنيا في الآيات قد جاء بأسلوب قوي قارع ؛ حيث يدل هذا على أن موقف المتثاقلين المتباطئين والمنافقين ومرضى القلوب كان شديد الوقع والأثر. وفي آيات أخرى من السورة استمرار في ذلك وفضح لمواقف سابقة ولاحقة لهم ؛ حيث يوثق ذلك تلك الدلالة. ومع خصوصية الآيات الزمنية يظل ما فيها من نداء وتنديد قارعا مستمر المدى بالنسبة لكل موقف مماثل يتثاقل فيه بعض الجماعات الإسلامية عن النفرة إلى الجهاد في سبيل الله. إذا ما دعت الحاجة إليه والتضامن في الدفاع عن الإسلام ومصالح المسلمين.
وغزوة تبوك التي قلنا : إن المتفق عليه أن معظم هذه السور نزلت فيها كانت كما قلنا آخر غزوة غزاها النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأعظمها حشدا وأبعدها شقة. وكانت في السنة الهجرية التاسعة أي بعد فتح مكة بنحو سنة. وآيات السورة لا تذكر وقائع، وإنما هي بسبيل التنويه والتعليم والعظة والتنديد بسبب ما كان في سياقها وأثنائها من مشاهد ومواقف وصور متنوعة جريا على الأسلوب القرآني.
ولقد روى المفسرون ورواة السيرة والمؤرخون القدماء روايات عديدة فيها بيانات كثيرة عن هذه الغزوة. خلاصتها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بلغه أن الروم جمعت جموعا كثيرة بالشام وأجلبت معهم لخم وجذام وعاملة وغسان من العرب النصارى وقدموا طلائعهم يريدون غزو الحجاز، ولعلهم كانوا يقصدون الرد على غزوة المسلمين لمؤتة في السنة الثامنة. وهي الغزوة التي كانت تحت قيادة زيد بن حارثة. والتي أشرنا إليها في مناسبة قريبة من هذه السورة، فرأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يجمع أكبر عدد ممكن من المسلمين ويخرج بهم إلى مشارف الشام إرهابا للأعداء. فاستنفر الناس بدوا وحضرا واستعانهم بالمال ولم يزل بهم محرضا مرغبا ومنذرا حتى تمكن من جمع جيش عظيم بلغ على ما ذكرته الروايات ثلاثين ألفا فيه عشرة آلاف فرس. وقد سمي الجيش بجيش العسرة بسبب كون الوقت كان صيفا قائظا وحالة المسلمين الاقتصادية سيئة والشقة بعيدة. ولقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم اعتاد أن يكني ولا يفصح عن المكان الذي يغزوه إلا هذه الغزوة ؛ حيث صرح لهم بقصده ليكونوا على بينة واستعداد. وكان من مشاهد هذه الحركة أن تبرع بعض أغنياء الصحابة المخلصين كعثمان بن عفان بمبالغ طائلة سددت ثغرات واسعة من الحاجة كما كان من مشاهدها تسابق فقراء الصحابة المخلصين إلى التبرع بجهدهم والانضمام إلى الجيش. وبكاء وحزن بعض المسلمين الذين لم يتسن لهم الاشتراك في الحملة بسبب فقرهم وعدم إمكان مساعدتهم على تحقيق رغبتهم ( ١ )٣.
وقد خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم بجيشه العظيم في شهر رجب فوصل تبوك بعد عشرين يوما وعسكر فيها ولم يتعدها. ولم يجد فيها ما بلغه من جموع ؛ حيث كانوا تفرقوا حينما بلغهم مسيره. ولم يشتبك مع أحد بحرب. وقد أقام نحو شهر ثم قفل راجعا، ولم تخل الغزوة من مكاسب مادية وسياسية ومعنوية.
فقد بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سراياه ورسله في أنحاء المنطقة. فوافاه نتيجة لذلك إلى تبوك يوحنه بن رؤبة وأهل جربا وأذرح فصالحوه على الجزية وكتب لهم كتب أمان. وسعى إليه يهود مقنا بنو جبنة وبنو العريض وبنو عاديا فوجدوه قد رجع إلى المدينة فلحقوا به وصالحوه على الجزية وأخذوا منه كتاب أمان. وقد كان من السرايا التي سيرها سرية بقيادة خالد بن الوليد إلى أكيدر صاحب دومة الجندل. وقد استطاع خالد أن ينتصر عليه ويأسره واضطره إلى الصلح على ٢٠٠٠ بعير و ٨٠٠ رأس رقيق و ٤٠٠ درع و ٤٠٠ رمح وحمله معه إلى المدينة حيث أسلم على يد النبي صلى الله عليه وآله وسلم فكتب له كتاب عهد.....
وعلى كل حال فقد كانت هذه الغزوة في الجملة موطدة لهيبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين في هذه الأنحاء وقرعة قوية للأسماع والأذهان بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، ودعوته فيها وفيما وراءها وتدشينا للخطوات التاريخية الخالدة التي خطاها خلفاءه الراشدون من بعده. ولقد كان من بين الوفود التي تدفقت على المدينة في السنتين التاسعة والعاشرة وفود عديدة من هذه الأنحاء فبايعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الإسلام.
والمستفاد من الروايات أن المنافقين من اشترك في الحملة ومنهم من اعتذر وتخلف. وكان هذا شأن الأعراب أيضا. أما المخلصون فلم يتخلف منهم قادر بدون عذر إلا ثلاثة. وهذا وذاك مستفاد من بعض آيات السورة أيضا على ما سوف يأتي بعد. وهذا يؤيد صحة ما روي من العدد العظيم الذي اشترك في الحملة. ولقد روى ابن هشام أن عبد الله بن أبي كبير المنافقين ضرب عسكره مع من ينضوي إليه منفردا وكان فيما يزعمون – والتعبير لابن إسحاق الذي يروي عنه ابن هشام – ليس أقل العسكرين، ثم اعتذر وتخلف مع قسم كبير من رفاقه. وقد روت بعض الروايات أن عدد المتخلفين من المنافقين وذوي القلوب المريضة بعد اعتذارهم بأعذار كاذبة وإذن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم كان نحو ثمانين ( ١ )٤. والرواية السابقة التي شك فيها ابن إسحاق بحق لا يمكن أن تصح لأن آيات عديدة في هذه السورة وقبلها مما نزل بعد التنكيل الحاسم باليهود ذكرت ما كان يعتري المنافقين من خوف وما كان من أيمانهم المغلظة على إخلاصهم مما لا يعقل أن يكون ذلك منهم لو كانت لهم مثل هذه القوة. وكانوا قبل ذلك معتدين بأنفسهم حتى بلغ من أمرهم أن قالوا :﴿ لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ﴾ على ما شرحناه في سياق سورة المنافقون.
ورواية كون عدد المتخلفين من المنافقين نحو ثمانين مما يؤيد ما نقول. وكانوا أكثرية المنافقين على ما يستفاد من آيات السورة. والرواية معقولة ؛ لأن المستفاد من الآية أن المستأذنين المتخلفين هم ذوو الطول أي الأغنياء. وهؤلاء محدودو العدد دائما.
ونكتفي بهذه الخلاصة على أن شرح الصور والمواقف الأخرى في مناسبات الآيات التي أشير إليها فيها.
ولقد روى الطبرسي عن السدي أن الآية الأخيرة قد نسخت بآية التوبة هذه :﴿ لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ ﴾ ( ٩١ ) لما علم الله من أن أصحاب هذه الأعذار عاجزون عن النفرة. وروى ابن كثير عن ابن عباس وعكرمة أنها نسخت بآية التوبة هذه :﴿ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ ﴾ ( ١٢٢ ). ومع أن الآية في مقامها هي في معرض ال
( ١ ) عرضا قريبا : بمعنى الهدف القريب والغنيمة السهلة المنال.
( ٢ ) سفرا قاصدا : رحلة قصيرة قليلة العناء.
( ٣ ) بعدت عليهم الشقة : رأوا الرحلة بعيدة شاقة.
﴿ لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا ( ١ ) وَسَفَرًا قَاصِدًا( ٢ ) لا اَّتَّبَعُوكَ وَلَـكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ ( ٣ ) وَسَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ( ٤٢ ) عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ ( ٤٣ ) لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ ( ٤٤ ) إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ ( ٤٥ ) وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَـكِن كَرِهَ اللّهُ انبِعَاثَهُمْ ( ٤ ) فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ ( ٤٦ ) لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ( ٥ ) ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ ( ٦ ) يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ( ٤٧ ) لَقَدِ ابْتَغَوُاْ الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُواْ لَكَ الأُمُورَ ( ٧ )حَتَّى جَاء الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ ( ٤٨ ) ﴾ ( ٤٢ – ٤٨ ).
في هذه الآيات : تنديد بالمتثاقلين عن استجابة دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى النفرة في سبيل الله والمستأذنين المتخلفين عنها. وبيان لحقيقة أمرهم من جهة، وتطمين وتسلية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين من جهة أخرى بالتقريرات التالية :
( ١ ) لو كان ما دعوا إليه غنيمة قريبة المنال أو رحلة قصيرة المسافة قليلة العناء لاتبعوه حرصا على المنفعة الدنيوية، ولكنهم رأوا المسافة بعيدة والرحلة شاقة فبدا منهم ما بدا من الاستثقال.
( ٢ ) ولسوف يحاولون الاعتذار ويحلفون أن لو استطاعوا لخرجوا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، في حين أن الله تعالى يعلم أنهم كاذبون. وليست أيمانهم إلا لتزيد في إثمهم ووسيلة جديدة لهلاكهم وعذابهم.
( ٣ ) وأذن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم بالتخلف حينما استأذنوه بذلك خطأ عفا الله عنه. وكان الأحرى به أن لا يأذن حتى تظهر له حقيقة أمرهم، ويتبين بذلك الصادق من الكاذب. فإنه لا يمكن لمؤمن مخلص بالله واليوم الآخر أن يستأذن بالتخلف وبأعذار كاذبة عن الجهاد بماله ونفسه. والله يعلم حقيقة المتقين المخلصين ولا يتقاعد عن الجهاد ويستأذن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالتخلف إلا الذين لا يؤمنون إيمانا صادقا بالله واليوم الآخر والذين ارتكسوا في الشكوك والتردد.
( ٤ ) ولو أرادوا الخروج حقا وكانت معذرتهم التي أدلوا بها للتخلف طارئة حقا لكنوا أعدوا عدة الخروج. ولكنهم لم يفعلوا شيئا من هذا فدل ذلك على تصميمهم من البدء على التخلف وعدم الاستجابة وحق عليهم أن يقال لهم اقعدوا مع القاعدين العاجزين كالصبيان والنساء والطاعنين في السن والمرضى والزمنى والعميان...
( ٥ ) ومع ذلك فإن الله قد أراد الخير للمسلمين فيما كان منهم ؛ لأنه يعلم نواياهم. ويعلم أنهم لو خرجوا معهم لما كان منهم إلا الفساد والسعي بالنميمة وإيقاع الاضطراب في صفوف المسلمين وإثارة الفتنة بينهم. ولا سيما أن في المسلمين من له صلات بهم، يسمع كلامهم ويتأثر به ( ١ )١. ولذلك لم يشأ الله تعالى أن يخرجوا وثبط عزيمتهم وألهمهم التخلف والقعود.
( ٦ ) ولقد كان هذا الخلق فيهم منذ البداية. فحاولوا إثارة الفتن والفساد والكيد في مختلف المناسبات وبمختلف الصور والوسائل. وإذا كان ظهر منهم شيء من المسايرة والملاينة بعد ذلك فإنما كان لأن الحق قد قوي وأمر الله قد ظهر برغم عنهم فلم يعد يسعهم إلا إظهار ما أظهروه من التزلف وحسن القصد كذبا.

تعليق على الآية :

﴿ لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاَّتَّبَعُوكَ............................... ﴾
والآيات الست التي بعدها
وما فيها من صور وتلقين وما روي في صددها من روايات
ولم يذكر المفسرون أسماء ولا أحداثا معينة في سياق هذه الآيات. وهي كما هو المتبادر استمرار للآيات السابقة أو تعقيب عليها. والصلة بينها وبينها وثيقة وفي الآية الأولى قرينة على صحة ما اتفق عليه الرواة من أن هذه الآيات قد نزلت في مناسبة وصدد غزوة تبوك البعيدة المسافة الشاقة السفر التي لم يكن يؤمل فيها غنائم ويسر وكبير سلامة وعافية بل التي كان الخطر فيها متوقعا أكثر.
وفي صيغة :﴿ وَسَيَحْلِفُونَ ﴾ وفي جملة :﴿ عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ ﴾ وجملة :﴿ لو خرجوا فيكم ﴾ قرائن على أن هذه الآيات قد نزلت في أثناء الرحلة. والآيات تلهم أن تخلف المتخلفين قد أهم المسلمين بعض الشيء وجعلهم يتحدثون فيه في أثناء سفرهم، فاقتضت حكمة التنزيل أن تتضمن ما تضمنته من تنديد بالمتخلفين وتطمين وتسلية للمسلمين.
والوصف الذي وصف به المتخلفون يدل على أنهم إنما كانوا من المنافقين وذوي القلوب المريضة وإن لم يرد هذا بصراحة في هذه الآيات. وقد احتوت الآيات التالية من السلسلة ذلك صراحة على ما سوف يأتي بعد.
ومضمون الآيات قد يدل على أن فريق المنافقين قد خضدت شوكته وخفتت نأمته كثيرا بعد ما تطور موقف النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقوي أمره وتم ما تم من الفتح وانتشار الدعوة. وأن هذا الفريق صار يفعل ما يفعله ويقول ما يقول من أفعال وأقوال تنم عن نفاقه مواربا متماشيا أكثر من ذي قبل ويكثر الاعتذار وتوكيد حسن النية والطاعة. ولكن أمره لم يكن ليخفى فكانت تفضحه آثار النية الخبيثة والقلب المرتاب بالأقوال والأفعال.
ومع أن الآية الثالثة أي الآية ( ٤٤ ) قد وردت على سبيل بيان مظهر المؤمن المخلص ومقايسة الموقف الذي لا يمكن أن يقف غيره مع موقف المنافق فإنها احتوت على ما يتبادر لنا إشارة أو دلالة على أن المخلصين قد استجابوا إلى دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بدون تردد فكان موضع تنويه الآية بإخلاصهم وقوة إيمانهم وتفانيهم في طاعة الله ورسوله والجهاد في سبيله بالمال والنفس. وهذا يدعم من جهة الروايات التي تذكر أن عدد الجيش بلغ ثلاثين ألفا، ويدل من جهة أخرى على سعة انتشار الإسلام وكون أغلبية الذين انضووا إليه من المخلصين.
ولقد روى الطبري وغيره عن مجاهد أن الآية ( ٤٣ ) نزلت في جماعة قالوا : استأذنوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم فإن أذن لكم فاقعدوا وإن لم يأذن فاقعدوا كما رووا أن في جملة :﴿ عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ ﴾ قد انطوت على عتاب رباني للنبي صلى الله عليه وآله وسلم. وروى الطبري بعد إيراد ذلك أن الله رخص للنبي صلى الله عليه وآله وسلم الإذن لمن شاء في آية سورة النور هذه :﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ٦٢ ) ﴾. هذا في حين أن سورة النور نزلت قبل سورة التوبة وأن آية سورة النور هذه ليست في صدد الاستئذان والإذن بالقعود عن الجهاد. وهي فضلا عن ذلك تثني على المستأذنين وتنوه بإيمانهم بالله ورسوله. وأن آيات سورة التوبة التي نحن في صددها تنطوي على تنديد بالمستأذنين. ولقد قال البغوي الذي أورد رواية كون الآية تنطوي على عتاب رباني ( وقيل إن الله عز وجل وقر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ورفع محله بافتتاح الكلام بالدعاء له، كما يقول الرجل لمن يخاطبه إذا كان كريما عنده عفا الله عنك ما صنعت في حاجتي ورضي الله عنك ألا زرتني ) ويتبادر لنا أن هذا التوجيه هو الأوجه الأكثر اتساقا مع مقام الجملة.
ولقد حاول الطبرسي والزمخشري أن يوفقا بين ما ظنا أنه متناقض بين التنديد بالمتخلفين من جهة وتقرير كون تخلفهم بإلهام من الله تعالى من جهة أخرى. وقد قال الطبرسي في صدد ذلك :( لا ينبغي أن يقال كره الله انبعاثهم بعد ما أمرهم به ؛ حيث يقال : إنما أمر به على وجه الذب عن الدين ونية الجهاد وكرهه منهم على نية التخريب والفساد أو أمرهم به لأنه طاعة وثبطهم عنه لأنه علم بضرره منهم. والآيات كما قلنا قبل جاءت على سبيل التطمين والتسلية ولا نرى محلا للإشكال ولا ضرورة للتكلف فيه.
ولقد روى البغوي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن يعرف المنافقين يومئذ فأذن لمن استأذنه على اعتبار أنه صادق في اعتذاره. ومع أن في هذه السورة آية تفيد أنه كان منافقون في المدينة وفي من حولهم من الأعراب لا يعلمهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهي الآية ( ١٠١ ) فإن هناك آيات عديدة في سور عديدة تصف المنافقين وتذكر أقوالهم وأفعالهم وتدمغهم بها دمغا يدل على دلالة لا ريب فيها أن كثيرا منهم كانوا معروفين بأعيانهم وأسمائهم عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه. ولقد روى المفسرون أسماء عدد من المستأذنين منهم : عبد الله بن نبتل ورفاعة بن تابوت وعبد الله بن أبي وأوس بن قيظي والجد بن قيس وجميع هؤلاء ممن عرف عنهم النفاق والمخامرة. والاحتمال الوارد هو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يرد أن يتشدد في أمر السفر لما يعرفه من شدة ظروف الغزوة للضرر المادي والمعنوي الذي يترتب على المكرهين عليه فأذن لمن استأذنه سواء أكانوا من المعروفين بنفاقهم أم لا. وفي الآيات :( ٤٥ – ٤٧ ) قرائن قوية على ذلك. ولقد قال بعض المفسرين إن في الآية :( ٤٣ ) دليلا على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يجتهد وينفذ اجتهاده. وهذا طبعا فيما لم يكن فيه وحي قرآني وقد تكررت هذه الظاهرة في مناسبات آيات عديدة نبهنا عليها ؛ حيث كان الوحي إما يقر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في اجتهاده أو يسكت سكوت إقرار أو ينبه على ما هو الأولى على ما شرحناه في تلك المناسبات.
هذا، ومع خصوصية الآيات الزمنية والموضوعية فالواضح أن الصورة التي احتوتها من الصور التي يمكن أن تظهر في ظروف النضال والأزمات والأخطار في مختلف الأزمنة والأمكنة وهي من أجل ذلك يمكن أن تكون مستمد إلهام وتلقين دائم المدى والأثر في الموقف الذي يجب أن يوقف إزاء أصحاب هذه الصورة والحذر منهم وعدم الاعتماد عليهم وعدم فسح المجال لهم للتدخل في الأمور العامة والجولان بين الصفوف المخلصة لتأمين المنافع الخاصة عن طريق تضحيات وجهود المخلصين.
﴿ لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا ( ١ ) وَسَفَرًا قَاصِدًا( ٢ ) لا اَّتَّبَعُوكَ وَلَـكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ ( ٣ ) وَسَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ( ٤٢ ) عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ ( ٤٣ ) لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ ( ٤٤ ) إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ ( ٤٥ ) وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَـكِن كَرِهَ اللّهُ انبِعَاثَهُمْ ( ٤ ) فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ ( ٤٦ ) لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ( ٥ ) ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ ( ٦ ) يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ( ٤٧ ) لَقَدِ ابْتَغَوُاْ الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُواْ لَكَ الأُمُورَ ( ٧ )حَتَّى جَاء الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ ( ٤٨ ) ﴾ ( ٤٢ – ٤٨ ).
في هذه الآيات : تنديد بالمتثاقلين عن استجابة دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى النفرة في سبيل الله والمستأذنين المتخلفين عنها. وبيان لحقيقة أمرهم من جهة، وتطمين وتسلية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين من جهة أخرى بالتقريرات التالية :
( ١ ) لو كان ما دعوا إليه غنيمة قريبة المنال أو رحلة قصيرة المسافة قليلة العناء لاتبعوه حرصا على المنفعة الدنيوية، ولكنهم رأوا المسافة بعيدة والرحلة شاقة فبدا منهم ما بدا من الاستثقال.
( ٢ ) ولسوف يحاولون الاعتذار ويحلفون أن لو استطاعوا لخرجوا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، في حين أن الله تعالى يعلم أنهم كاذبون. وليست أيمانهم إلا لتزيد في إثمهم ووسيلة جديدة لهلاكهم وعذابهم.
( ٣ ) وأذن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم بالتخلف حينما استأذنوه بذلك خطأ عفا الله عنه. وكان الأحرى به أن لا يأذن حتى تظهر له حقيقة أمرهم، ويتبين بذلك الصادق من الكاذب. فإنه لا يمكن لمؤمن مخلص بالله واليوم الآخر أن يستأذن بالتخلف وبأعذار كاذبة عن الجهاد بماله ونفسه. والله يعلم حقيقة المتقين المخلصين ولا يتقاعد عن الجهاد ويستأذن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالتخلف إلا الذين لا يؤمنون إيمانا صادقا بالله واليوم الآخر والذين ارتكسوا في الشكوك والتردد.
( ٤ ) ولو أرادوا الخروج حقا وكانت معذرتهم التي أدلوا بها للتخلف طارئة حقا لكنوا أعدوا عدة الخروج. ولكنهم لم يفعلوا شيئا من هذا فدل ذلك على تصميمهم من البدء على التخلف وعدم الاستجابة وحق عليهم أن يقال لهم اقعدوا مع القاعدين العاجزين كالصبيان والنساء والطاعنين في السن والمرضى والزمنى والعميان...
( ٥ ) ومع ذلك فإن الله قد أراد الخير للمسلمين فيما كان منهم ؛ لأنه يعلم نواياهم. ويعلم أنهم لو خرجوا معهم لما كان منهم إلا الفساد والسعي بالنميمة وإيقاع الاضطراب في صفوف المسلمين وإثارة الفتنة بينهم. ولا سيما أن في المسلمين من له صلات بهم، يسمع كلامهم ويتأثر به ( ١ )١. ولذلك لم يشأ الله تعالى أن يخرجوا وثبط عزيمتهم وألهمهم التخلف والقعود.
( ٦ ) ولقد كان هذا الخلق فيهم منذ البداية. فحاولوا إثارة الفتن والفساد والكيد في مختلف المناسبات وبمختلف الصور والوسائل. وإذا كان ظهر منهم شيء من المسايرة والملاينة بعد ذلك فإنما كان لأن الحق قد قوي وأمر الله قد ظهر برغم عنهم فلم يعد يسعهم إلا إظهار ما أظهروه من التزلف وحسن القصد كذبا.

تعليق على الآية :

﴿ لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاَّتَّبَعُوكَ............................... ﴾
والآيات الست التي بعدها
وما فيها من صور وتلقين وما روي في صددها من روايات
ولم يذكر المفسرون أسماء ولا أحداثا معينة في سياق هذه الآيات. وهي كما هو المتبادر استمرار للآيات السابقة أو تعقيب عليها. والصلة بينها وبينها وثيقة وفي الآية الأولى قرينة على صحة ما اتفق عليه الرواة من أن هذه الآيات قد نزلت في مناسبة وصدد غزوة تبوك البعيدة المسافة الشاقة السفر التي لم يكن يؤمل فيها غنائم ويسر وكبير سلامة وعافية بل التي كان الخطر فيها متوقعا أكثر.
وفي صيغة :﴿ وَسَيَحْلِفُونَ ﴾ وفي جملة :﴿ عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ ﴾ وجملة :﴿ لو خرجوا فيكم ﴾ قرائن على أن هذه الآيات قد نزلت في أثناء الرحلة. والآيات تلهم أن تخلف المتخلفين قد أهم المسلمين بعض الشيء وجعلهم يتحدثون فيه في أثناء سفرهم، فاقتضت حكمة التنزيل أن تتضمن ما تضمنته من تنديد بالمتخلفين وتطمين وتسلية للمسلمين.
والوصف الذي وصف به المتخلفون يدل على أنهم إنما كانوا من المنافقين وذوي القلوب المريضة وإن لم يرد هذا بصراحة في هذه الآيات. وقد احتوت الآيات التالية من السلسلة ذلك صراحة على ما سوف يأتي بعد.
ومضمون الآيات قد يدل على أن فريق المنافقين قد خضدت شوكته وخفتت نأمته كثيرا بعد ما تطور موقف النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقوي أمره وتم ما تم من الفتح وانتشار الدعوة. وأن هذا الفريق صار يفعل ما يفعله ويقول ما يقول من أفعال وأقوال تنم عن نفاقه مواربا متماشيا أكثر من ذي قبل ويكثر الاعتذار وتوكيد حسن النية والطاعة. ولكن أمره لم يكن ليخفى فكانت تفضحه آثار النية الخبيثة والقلب المرتاب بالأقوال والأفعال.
ومع أن الآية الثالثة أي الآية ( ٤٤ ) قد وردت على سبيل بيان مظهر المؤمن المخلص ومقايسة الموقف الذي لا يمكن أن يقف غيره مع موقف المنافق فإنها احتوت على ما يتبادر لنا إشارة أو دلالة على أن المخلصين قد استجابوا إلى دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بدون تردد فكان موضع تنويه الآية بإخلاصهم وقوة إيمانهم وتفانيهم في طاعة الله ورسوله والجهاد في سبيله بالمال والنفس. وهذا يدعم من جهة الروايات التي تذكر أن عدد الجيش بلغ ثلاثين ألفا، ويدل من جهة أخرى على سعة انتشار الإسلام وكون أغلبية الذين انضووا إليه من المخلصين.
ولقد روى الطبري وغيره عن مجاهد أن الآية ( ٤٣ ) نزلت في جماعة قالوا : استأذنوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم فإن أذن لكم فاقعدوا وإن لم يأذن فاقعدوا كما رووا أن في جملة :﴿ عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ ﴾ قد انطوت على عتاب رباني للنبي صلى الله عليه وآله وسلم. وروى الطبري بعد إيراد ذلك أن الله رخص للنبي صلى الله عليه وآله وسلم الإذن لمن شاء في آية سورة النور هذه :﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ٦٢ ) ﴾. هذا في حين أن سورة النور نزلت قبل سورة التوبة وأن آية سورة النور هذه ليست في صدد الاستئذان والإذن بالقعود عن الجهاد. وهي فضلا عن ذلك تثني على المستأذنين وتنوه بإيمانهم بالله ورسوله. وأن آيات سورة التوبة التي نحن في صددها تنطوي على تنديد بالمستأذنين. ولقد قال البغوي الذي أورد رواية كون الآية تنطوي على عتاب رباني ( وقيل إن الله عز وجل وقر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ورفع محله بافتتاح الكلام بالدعاء له، كما يقول الرجل لمن يخاطبه إذا كان كريما عنده عفا الله عنك ما صنعت في حاجتي ورضي الله عنك ألا زرتني ) ويتبادر لنا أن هذا التوجيه هو الأوجه الأكثر اتساقا مع مقام الجملة.
ولقد حاول الطبرسي والزمخشري أن يوفقا بين ما ظنا أنه متناقض بين التنديد بالمتخلفين من جهة وتقرير كون تخلفهم بإلهام من الله تعالى من جهة أخرى. وقد قال الطبرسي في صدد ذلك :( لا ينبغي أن يقال كره الله انبعاثهم بعد ما أمرهم به ؛ حيث يقال : إنما أمر به على وجه الذب عن الدين ونية الجهاد وكرهه منهم على نية التخريب والفساد أو أمرهم به لأنه طاعة وثبطهم عنه لأنه علم بضرره منهم. والآيات كما قلنا قبل جاءت على سبيل التطمين والتسلية ولا نرى محلا للإشكال ولا ضرورة للتكلف فيه.
ولقد روى البغوي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن يعرف المنافقين يومئذ فأذن لمن استأذنه على اعتبار أنه صادق في اعتذاره. ومع أن في هذه السورة آية تفيد أنه كان منافقون في المدينة وفي من حولهم من الأعراب لا يعلمهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهي الآية ( ١٠١ ) فإن هناك آيات عديدة في سور عديدة تصف المنافقين وتذكر أقوالهم وأفعالهم وتدمغهم بها دمغا يدل على دلالة لا ريب فيها أن كثيرا منهم كانوا معروفين بأعيانهم وأسمائهم عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه. ولقد روى المفسرون أسماء عدد من المستأذنين منهم : عبد الله بن نبتل ورفاعة بن تابوت وعبد الله بن أبي وأوس بن قيظي والجد بن قيس وجميع هؤلاء ممن عرف عنهم النفاق والمخامرة. والاحتمال الوارد هو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يرد أن يتشدد في أمر السفر لما يعرفه من شدة ظروف الغزوة للضرر المادي والمعنوي الذي يترتب على المكرهين عليه فأذن لمن استأذنه سواء أكانوا من المعروفين بنفاقهم أم لا. وفي الآيات :( ٤٥ – ٤٧ ) قرائن قوية على ذلك. ولقد قال بعض المفسرين إن في الآية :( ٤٣ ) دليلا على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يجتهد وينفذ اجتهاده. وهذا طبعا فيما لم يكن فيه وحي قرآني وقد تكررت هذه الظاهرة في مناسبات آيات عديدة نبهنا عليها ؛ حيث كان الوحي إما يقر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في اجتهاده أو يسكت سكوت إقرار أو ينبه على ما هو الأولى على ما شرحناه في تلك المناسبات.
هذا، ومع خصوصية الآيات الزمنية والموضوعية فالواضح أن الصورة التي احتوتها من الصور التي يمكن أن تظهر في ظروف النضال والأزمات والأخطار في مختلف الأزمنة والأمكنة وهي من أجل ذلك يمكن أن تكون مستمد إلهام وتلقين دائم المدى والأثر في الموقف الذي يجب أن يوقف إزاء أصحاب هذه الصورة والحذر منهم وعدم الاعتماد عليهم وعدم فسح المجال لهم للتدخل في الأمور العامة والجولان بين الصفوف المخلصة لتأمين المنافع الخاصة عن طريق تضحيات وجهود المخلصين.
﴿ لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا ( ١ ) وَسَفَرًا قَاصِدًا( ٢ ) لا اَّتَّبَعُوكَ وَلَـكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ ( ٣ ) وَسَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ( ٤٢ ) عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ ( ٤٣ ) لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ ( ٤٤ ) إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ ( ٤٥ ) وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَـكِن كَرِهَ اللّهُ انبِعَاثَهُمْ ( ٤ ) فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ ( ٤٦ ) لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ( ٥ ) ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ ( ٦ ) يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ( ٤٧ ) لَقَدِ ابْتَغَوُاْ الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُواْ لَكَ الأُمُورَ ( ٧ )حَتَّى جَاء الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ ( ٤٨ ) ﴾ ( ٤٢ – ٤٨ ).
في هذه الآيات : تنديد بالمتثاقلين عن استجابة دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى النفرة في سبيل الله والمستأذنين المتخلفين عنها. وبيان لحقيقة أمرهم من جهة، وتطمين وتسلية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين من جهة أخرى بالتقريرات التالية :
( ١ ) لو كان ما دعوا إليه غنيمة قريبة المنال أو رحلة قصيرة المسافة قليلة العناء لاتبعوه حرصا على المنفعة الدنيوية، ولكنهم رأوا المسافة بعيدة والرحلة شاقة فبدا منهم ما بدا من الاستثقال.
( ٢ ) ولسوف يحاولون الاعتذار ويحلفون أن لو استطاعوا لخرجوا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، في حين أن الله تعالى يعلم أنهم كاذبون. وليست أيمانهم إلا لتزيد في إثمهم ووسيلة جديدة لهلاكهم وعذابهم.
( ٣ ) وأذن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم بالتخلف حينما استأذنوه بذلك خطأ عفا الله عنه. وكان الأحرى به أن لا يأذن حتى تظهر له حقيقة أمرهم، ويتبين بذلك الصادق من الكاذب. فإنه لا يمكن لمؤمن مخلص بالله واليوم الآخر أن يستأذن بالتخلف وبأعذار كاذبة عن الجهاد بماله ونفسه. والله يعلم حقيقة المتقين المخلصين ولا يتقاعد عن الجهاد ويستأذن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالتخلف إلا الذين لا يؤمنون إيمانا صادقا بالله واليوم الآخر والذين ارتكسوا في الشكوك والتردد.
( ٤ ) ولو أرادوا الخروج حقا وكانت معذرتهم التي أدلوا بها للتخلف طارئة حقا لكنوا أعدوا عدة الخروج. ولكنهم لم يفعلوا شيئا من هذا فدل ذلك على تصميمهم من البدء على التخلف وعدم الاستجابة وحق عليهم أن يقال لهم اقعدوا مع القاعدين العاجزين كالصبيان والنساء والطاعنين في السن والمرضى والزمنى والعميان...
( ٥ ) ومع ذلك فإن الله قد أراد الخير للمسلمين فيما كان منهم ؛ لأنه يعلم نواياهم. ويعلم أنهم لو خرجوا معهم لما كان منهم إلا الفساد والسعي بالنميمة وإيقاع الاضطراب في صفوف المسلمين وإثارة الفتنة بينهم. ولا سيما أن في المسلمين من له صلات بهم، يسمع كلامهم ويتأثر به ( ١ )١. ولذلك لم يشأ الله تعالى أن يخرجوا وثبط عزيمتهم وألهمهم التخلف والقعود.
( ٦ ) ولقد كان هذا الخلق فيهم منذ البداية. فحاولوا إثارة الفتن والفساد والكيد في مختلف المناسبات وبمختلف الصور والوسائل. وإذا كان ظهر منهم شيء من المسايرة والملاينة بعد ذلك فإنما كان لأن الحق قد قوي وأمر الله قد ظهر برغم عنهم فلم يعد يسعهم إلا إظهار ما أظهروه من التزلف وحسن القصد كذبا.

تعليق على الآية :

﴿ لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاَّتَّبَعُوكَ............................... ﴾
والآيات الست التي بعدها
وما فيها من صور وتلقين وما روي في صددها من روايات
ولم يذكر المفسرون أسماء ولا أحداثا معينة في سياق هذه الآيات. وهي كما هو المتبادر استمرار للآيات السابقة أو تعقيب عليها. والصلة بينها وبينها وثيقة وفي الآية الأولى قرينة على صحة ما اتفق عليه الرواة من أن هذه الآيات قد نزلت في مناسبة وصدد غزوة تبوك البعيدة المسافة الشاقة السفر التي لم يكن يؤمل فيها غنائم ويسر وكبير سلامة وعافية بل التي كان الخطر فيها متوقعا أكثر.
وفي صيغة :﴿ وَسَيَحْلِفُونَ ﴾ وفي جملة :﴿ عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ ﴾ وجملة :﴿ لو خرجوا فيكم ﴾ قرائن على أن هذه الآيات قد نزلت في أثناء الرحلة. والآيات تلهم أن تخلف المتخلفين قد أهم المسلمين بعض الشيء وجعلهم يتحدثون فيه في أثناء سفرهم، فاقتضت حكمة التنزيل أن تتضمن ما تضمنته من تنديد بالمتخلفين وتطمين وتسلية للمسلمين.
والوصف الذي وصف به المتخلفون يدل على أنهم إنما كانوا من المنافقين وذوي القلوب المريضة وإن لم يرد هذا بصراحة في هذه الآيات. وقد احتوت الآيات التالية من السلسلة ذلك صراحة على ما سوف يأتي بعد.
ومضمون الآيات قد يدل على أن فريق المنافقين قد خضدت شوكته وخفتت نأمته كثيرا بعد ما تطور موقف النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقوي أمره وتم ما تم من الفتح وانتشار الدعوة. وأن هذا الفريق صار يفعل ما يفعله ويقول ما يقول من أفعال وأقوال تنم عن نفاقه مواربا متماشيا أكثر من ذي قبل ويكثر الاعتذار وتوكيد حسن النية والطاعة. ولكن أمره لم يكن ليخفى فكانت تفضحه آثار النية الخبيثة والقلب المرتاب بالأقوال والأفعال.
ومع أن الآية الثالثة أي الآية ( ٤٤ ) قد وردت على سبيل بيان مظهر المؤمن المخلص ومقايسة الموقف الذي لا يمكن أن يقف غيره مع موقف المنافق فإنها احتوت على ما يتبادر لنا إشارة أو دلالة على أن المخلصين قد استجابوا إلى دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بدون تردد فكان موضع تنويه الآية بإخلاصهم وقوة إيمانهم وتفانيهم في طاعة الله ورسوله والجهاد في سبيله بالمال والنفس. وهذا يدعم من جهة الروايات التي تذكر أن عدد الجيش بلغ ثلاثين ألفا، ويدل من جهة أخرى على سعة انتشار الإسلام وكون أغلبية الذين انضووا إليه من المخلصين.
ولقد روى الطبري وغيره عن مجاهد أن الآية ( ٤٣ ) نزلت في جماعة قالوا : استأذنوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم فإن أذن لكم فاقعدوا وإن لم يأذن فاقعدوا كما رووا أن في جملة :﴿ عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ ﴾ قد انطوت على عتاب رباني للنبي صلى الله عليه وآله وسلم. وروى الطبري بعد إيراد ذلك أن الله رخص للنبي صلى الله عليه وآله وسلم الإذن لمن شاء في آية سورة النور هذه :﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ٦٢ ) ﴾. هذا في حين أن سورة النور نزلت قبل سورة التوبة وأن آية سورة النور هذه ليست في صدد الاستئذان والإذن بالقعود عن الجهاد. وهي فضلا عن ذلك تثني على المستأذنين وتنوه بإيمانهم بالله ورسوله. وأن آيات سورة التوبة التي نحن في صددها تنطوي على تنديد بالمستأذنين. ولقد قال البغوي الذي أورد رواية كون الآية تنطوي على عتاب رباني ( وقيل إن الله عز وجل وقر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ورفع محله بافتتاح الكلام بالدعاء له، كما يقول الرجل لمن يخاطبه إذا كان كريما عنده عفا الله عنك ما صنعت في حاجتي ورضي الله عنك ألا زرتني ) ويتبادر لنا أن هذا التوجيه هو الأوجه الأكثر اتساقا مع مقام الجملة.
ولقد حاول الطبرسي والزمخشري أن يوفقا بين ما ظنا أنه متناقض بين التنديد بالمتخلفين من جهة وتقرير كون تخلفهم بإلهام من الله تعالى من جهة أخرى. وقد قال الطبرسي في صدد ذلك :( لا ينبغي أن يقال كره الله انبعاثهم بعد ما أمرهم به ؛ حيث يقال : إنما أمر به على وجه الذب عن الدين ونية الجهاد وكرهه منهم على نية التخريب والفساد أو أمرهم به لأنه طاعة وثبطهم عنه لأنه علم بضرره منهم. والآيات كما قلنا قبل جاءت على سبيل التطمين والتسلية ولا نرى محلا للإشكال ولا ضرورة للتكلف فيه.
ولقد روى البغوي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن يعرف المنافقين يومئذ فأذن لمن استأذنه على اعتبار أنه صادق في اعتذاره. ومع أن في هذه السورة آية تفيد أنه كان منافقون في المدينة وفي من حولهم من الأعراب لا يعلمهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهي الآية ( ١٠١ ) فإن هناك آيات عديدة في سور عديدة تصف المنافقين وتذكر أقوالهم وأفعالهم وتدمغهم بها دمغا يدل على دلالة لا ريب فيها أن كثيرا منهم كانوا معروفين بأعيانهم وأسمائهم عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه. ولقد روى المفسرون أسماء عدد من المستأذنين منهم : عبد الله بن نبتل ورفاعة بن تابوت وعبد الله بن أبي وأوس بن قيظي والجد بن قيس وجميع هؤلاء ممن عرف عنهم النفاق والمخامرة. والاحتمال الوارد هو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يرد أن يتشدد في أمر السفر لما يعرفه من شدة ظروف الغزوة للضرر المادي والمعنوي الذي يترتب على المكرهين عليه فأذن لمن استأذنه سواء أكانوا من المعروفين بنفاقهم أم لا. وفي الآيات :( ٤٥ – ٤٧ ) قرائن قوية على ذلك. ولقد قال بعض المفسرين إن في الآية :( ٤٣ ) دليلا على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يجتهد وينفذ اجتهاده. وهذا طبعا فيما لم يكن فيه وحي قرآني وقد تكررت هذه الظاهرة في مناسبات آيات عديدة نبهنا عليها ؛ حيث كان الوحي إما يقر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في اجتهاده أو يسكت سكوت إقرار أو ينبه على ما هو الأولى على ما شرحناه في تلك المناسبات.
هذا، ومع خصوصية الآيات الزمنية والموضوعية فالواضح أن الصورة التي احتوتها من الصور التي يمكن أن تظهر في ظروف النضال والأزمات والأخطار في مختلف الأزمنة والأمكنة وهي من أجل ذلك يمكن أن تكون مستمد إلهام وتلقين دائم المدى والأثر في الموقف الذي يجب أن يوقف إزاء أصحاب هذه الصورة والحذر منهم وعدم الاعتماد عليهم وعدم فسح المجال لهم للتدخل في الأمور العامة والجولان بين الصفوف المخلصة لتأمين المنافع الخاصة عن طريق تضحيات وجهود المخلصين.
﴿ لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا ( ١ ) وَسَفَرًا قَاصِدًا( ٢ ) لا اَّتَّبَعُوكَ وَلَـكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ ( ٣ ) وَسَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ( ٤٢ ) عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ ( ٤٣ ) لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ ( ٤٤ ) إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ ( ٤٥ ) وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَـكِن كَرِهَ اللّهُ انبِعَاثَهُمْ ( ٤ ) فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ ( ٤٦ ) لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ( ٥ ) ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ ( ٦ ) يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ( ٤٧ ) لَقَدِ ابْتَغَوُاْ الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُواْ لَكَ الأُمُورَ ( ٧ )حَتَّى جَاء الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ ( ٤٨ ) ﴾ ( ٤٢ – ٤٨ ).
في هذه الآيات : تنديد بالمتثاقلين عن استجابة دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى النفرة في سبيل الله والمستأذنين المتخلفين عنها. وبيان لحقيقة أمرهم من جهة، وتطمين وتسلية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين من جهة أخرى بالتقريرات التالية :
( ١ ) لو كان ما دعوا إليه غنيمة قريبة المنال أو رحلة قصيرة المسافة قليلة العناء لاتبعوه حرصا على المنفعة الدنيوية، ولكنهم رأوا المسافة بعيدة والرحلة شاقة فبدا منهم ما بدا من الاستثقال.
( ٢ ) ولسوف يحاولون الاعتذار ويحلفون أن لو استطاعوا لخرجوا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، في حين أن الله تعالى يعلم أنهم كاذبون. وليست أيمانهم إلا لتزيد في إثمهم ووسيلة جديدة لهلاكهم وعذابهم.
( ٣ ) وأذن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم بالتخلف حينما استأذنوه بذلك خطأ عفا الله عنه. وكان الأحرى به أن لا يأذن حتى تظهر له حقيقة أمرهم، ويتبين بذلك الصادق من الكاذب. فإنه لا يمكن لمؤمن مخلص بالله واليوم الآخر أن يستأذن بالتخلف وبأعذار كاذبة عن الجهاد بماله ونفسه. والله يعلم حقيقة المتقين المخلصين ولا يتقاعد عن الجهاد ويستأذن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالتخلف إلا الذين لا يؤمنون إيمانا صادقا بالله واليوم الآخر والذين ارتكسوا في الشكوك والتردد.
( ٤ ) ولو أرادوا الخروج حقا وكانت معذرتهم التي أدلوا بها للتخلف طارئة حقا لكنوا أعدوا عدة الخروج. ولكنهم لم يفعلوا شيئا من هذا فدل ذلك على تصميمهم من البدء على التخلف وعدم الاستجابة وحق عليهم أن يقال لهم اقعدوا مع القاعدين العاجزين كالصبيان والنساء والطاعنين في السن والمرضى والزمنى والعميان...
( ٥ ) ومع ذلك فإن الله قد أراد الخير للمسلمين فيما كان منهم ؛ لأنه يعلم نواياهم. ويعلم أنهم لو خرجوا معهم لما كان منهم إلا الفساد والسعي بالنميمة وإيقاع الاضطراب في صفوف المسلمين وإثارة الفتنة بينهم. ولا سيما أن في المسلمين من له صلات بهم، يسمع كلامهم ويتأثر به ( ١ )١. ولذلك لم يشأ الله تعالى أن يخرجوا وثبط عزيمتهم وألهمهم التخلف والقعود.
( ٦ ) ولقد كان هذا الخلق فيهم منذ البداية. فحاولوا إثارة الفتن والفساد والكيد في مختلف المناسبات وبمختلف الصور والوسائل. وإذا كان ظهر منهم شيء من المسايرة والملاينة بعد ذلك فإنما كان لأن الحق قد قوي وأمر الله قد ظهر برغم عنهم فلم يعد يسعهم إلا إظهار ما أظهروه من التزلف وحسن القصد كذبا.

تعليق على الآية :

﴿ لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاَّتَّبَعُوكَ............................... ﴾
والآيات الست التي بعدها
وما فيها من صور وتلقين وما روي في صددها من روايات
ولم يذكر المفسرون أسماء ولا أحداثا معينة في سياق هذه الآيات. وهي كما هو المتبادر استمرار للآيات السابقة أو تعقيب عليها. والصلة بينها وبينها وثيقة وفي الآية الأولى قرينة على صحة ما اتفق عليه الرواة من أن هذه الآيات قد نزلت في مناسبة وصدد غزوة تبوك البعيدة المسافة الشاقة السفر التي لم يكن يؤمل فيها غنائم ويسر وكبير سلامة وعافية بل التي كان الخطر فيها متوقعا أكثر.
وفي صيغة :﴿ وَسَيَحْلِفُونَ ﴾ وفي جملة :﴿ عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ ﴾ وجملة :﴿ لو خرجوا فيكم ﴾ قرائن على أن هذه الآيات قد نزلت في أثناء الرحلة. والآيات تلهم أن تخلف المتخلفين قد أهم المسلمين بعض الشيء وجعلهم يتحدثون فيه في أثناء سفرهم، فاقتضت حكمة التنزيل أن تتضمن ما تضمنته من تنديد بالمتخلفين وتطمين وتسلية للمسلمين.
والوصف الذي وصف به المتخلفون يدل على أنهم إنما كانوا من المنافقين وذوي القلوب المريضة وإن لم يرد هذا بصراحة في هذه الآيات. وقد احتوت الآيات التالية من السلسلة ذلك صراحة على ما سوف يأتي بعد.
ومضمون الآيات قد يدل على أن فريق المنافقين قد خضدت شوكته وخفتت نأمته كثيرا بعد ما تطور موقف النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقوي أمره وتم ما تم من الفتح وانتشار الدعوة. وأن هذا الفريق صار يفعل ما يفعله ويقول ما يقول من أفعال وأقوال تنم عن نفاقه مواربا متماشيا أكثر من ذي قبل ويكثر الاعتذار وتوكيد حسن النية والطاعة. ولكن أمره لم يكن ليخفى فكانت تفضحه آثار النية الخبيثة والقلب المرتاب بالأقوال والأفعال.
ومع أن الآية الثالثة أي الآية ( ٤٤ ) قد وردت على سبيل بيان مظهر المؤمن المخلص ومقايسة الموقف الذي لا يمكن أن يقف غيره مع موقف المنافق فإنها احتوت على ما يتبادر لنا إشارة أو دلالة على أن المخلصين قد استجابوا إلى دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بدون تردد فكان موضع تنويه الآية بإخلاصهم وقوة إيمانهم وتفانيهم في طاعة الله ورسوله والجهاد في سبيله بالمال والنفس. وهذا يدعم من جهة الروايات التي تذكر أن عدد الجيش بلغ ثلاثين ألفا، ويدل من جهة أخرى على سعة انتشار الإسلام وكون أغلبية الذين انضووا إليه من المخلصين.
ولقد روى الطبري وغيره عن مجاهد أن الآية ( ٤٣ ) نزلت في جماعة قالوا : استأذنوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم فإن أذن لكم فاقعدوا وإن لم يأذن فاقعدوا كما رووا أن في جملة :﴿ عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ ﴾ قد انطوت على عتاب رباني للنبي صلى الله عليه وآله وسلم. وروى الطبري بعد إيراد ذلك أن الله رخص للنبي صلى الله عليه وآله وسلم الإذن لمن شاء في آية سورة النور هذه :﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ٦٢ ) ﴾. هذا في حين أن سورة النور نزلت قبل سورة التوبة وأن آية سورة النور هذه ليست في صدد الاستئذان والإذن بالقعود عن الجهاد. وهي فضلا عن ذلك تثني على المستأذنين وتنوه بإيمانهم بالله ورسوله. وأن آيات سورة التوبة التي نحن في صددها تنطوي على تنديد بالمستأذنين. ولقد قال البغوي الذي أورد رواية كون الآية تنطوي على عتاب رباني ( وقيل إن الله عز وجل وقر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ورفع محله بافتتاح الكلام بالدعاء له، كما يقول الرجل لمن يخاطبه إذا كان كريما عنده عفا الله عنك ما صنعت في حاجتي ورضي الله عنك ألا زرتني ) ويتبادر لنا أن هذا التوجيه هو الأوجه الأكثر اتساقا مع مقام الجملة.
ولقد حاول الطبرسي والزمخشري أن يوفقا بين ما ظنا أنه متناقض بين التنديد بالمتخلفين من جهة وتقرير كون تخلفهم بإلهام من الله تعالى من جهة أخرى. وقد قال الطبرسي في صدد ذلك :( لا ينبغي أن يقال كره الله انبعاثهم بعد ما أمرهم به ؛ حيث يقال : إنما أمر به على وجه الذب عن الدين ونية الجهاد وكرهه منهم على نية التخريب والفساد أو أمرهم به لأنه طاعة وثبطهم عنه لأنه علم بضرره منهم. والآيات كما قلنا قبل جاءت على سبيل التطمين والتسلية ولا نرى محلا للإشكال ولا ضرورة للتكلف فيه.
ولقد روى البغوي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن يعرف المنافقين يومئذ فأذن لمن استأذنه على اعتبار أنه صادق في اعتذاره. ومع أن في هذه السورة آية تفيد أنه كان منافقون في المدينة وفي من حولهم من الأعراب لا يعلمهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهي الآية ( ١٠١ ) فإن هناك آيات عديدة في سور عديدة تصف المنافقين وتذكر أقوالهم وأفعالهم وتدمغهم بها دمغا يدل على دلالة لا ريب فيها أن كثيرا منهم كانوا معروفين بأعيانهم وأسمائهم عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه. ولقد روى المفسرون أسماء عدد من المستأذنين منهم : عبد الله بن نبتل ورفاعة بن تابوت وعبد الله بن أبي وأوس بن قيظي والجد بن قيس وجميع هؤلاء ممن عرف عنهم النفاق والمخامرة. والاحتمال الوارد هو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يرد أن يتشدد في أمر السفر لما يعرفه من شدة ظروف الغزوة للضرر المادي والمعنوي الذي يترتب على المكرهين عليه فأذن لمن استأذنه سواء أكانوا من المعروفين بنفاقهم أم لا. وفي الآيات :( ٤٥ – ٤٧ ) قرائن قوية على ذلك. ولقد قال بعض المفسرين إن في الآية :( ٤٣ ) دليلا على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يجتهد وينفذ اجتهاده. وهذا طبعا فيما لم يكن فيه وحي قرآني وقد تكررت هذه الظاهرة في مناسبات آيات عديدة نبهنا عليها ؛ حيث كان الوحي إما يقر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في اجتهاده أو يسكت سكوت إقرار أو ينبه على ما هو الأولى على ما شرحناه في تلك المناسبات.
هذا، ومع خصوصية الآيات الزمنية والموضوعية فالواضح أن الصورة التي احتوتها من الصور التي يمكن أن تظهر في ظروف النضال والأزمات والأخطار في مختلف الأزمنة والأمكنة وهي من أجل ذلك يمكن أن تكون مستمد إلهام وتلقين دائم المدى والأثر في الموقف الذي يجب أن يوقف إزاء أصحاب هذه الصورة والحذر منهم وعدم الاعتماد عليهم وعدم فسح المجال لهم للتدخل في الأمور العامة والجولان بين الصفوف المخلصة لتأمين المنافع الخاصة عن طريق تضحيات وجهود المخلصين.
( ٤ ) انبعاثهم : خروجهم.
﴿ لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا ( ١ ) وَسَفَرًا قَاصِدًا( ٢ ) لا اَّتَّبَعُوكَ وَلَـكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ ( ٣ ) وَسَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ( ٤٢ ) عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ ( ٤٣ ) لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ ( ٤٤ ) إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ ( ٤٥ ) وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَـكِن كَرِهَ اللّهُ انبِعَاثَهُمْ ( ٤ ) فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ ( ٤٦ ) لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ( ٥ ) ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ ( ٦ ) يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ( ٤٧ ) لَقَدِ ابْتَغَوُاْ الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُواْ لَكَ الأُمُورَ ( ٧ )حَتَّى جَاء الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ ( ٤٨ ) ﴾ ( ٤٢ – ٤٨ ).
في هذه الآيات : تنديد بالمتثاقلين عن استجابة دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى النفرة في سبيل الله والمستأذنين المتخلفين عنها. وبيان لحقيقة أمرهم من جهة، وتطمين وتسلية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين من جهة أخرى بالتقريرات التالية :
( ١ ) لو كان ما دعوا إليه غنيمة قريبة المنال أو رحلة قصيرة المسافة قليلة العناء لاتبعوه حرصا على المنفعة الدنيوية، ولكنهم رأوا المسافة بعيدة والرحلة شاقة فبدا منهم ما بدا من الاستثقال.
( ٢ ) ولسوف يحاولون الاعتذار ويحلفون أن لو استطاعوا لخرجوا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، في حين أن الله تعالى يعلم أنهم كاذبون. وليست أيمانهم إلا لتزيد في إثمهم ووسيلة جديدة لهلاكهم وعذابهم.
( ٣ ) وأذن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم بالتخلف حينما استأذنوه بذلك خطأ عفا الله عنه. وكان الأحرى به أن لا يأذن حتى تظهر له حقيقة أمرهم، ويتبين بذلك الصادق من الكاذب. فإنه لا يمكن لمؤمن مخلص بالله واليوم الآخر أن يستأذن بالتخلف وبأعذار كاذبة عن الجهاد بماله ونفسه. والله يعلم حقيقة المتقين المخلصين ولا يتقاعد عن الجهاد ويستأذن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالتخلف إلا الذين لا يؤمنون إيمانا صادقا بالله واليوم الآخر والذين ارتكسوا في الشكوك والتردد.
( ٤ ) ولو أرادوا الخروج حقا وكانت معذرتهم التي أدلوا بها للتخلف طارئة حقا لكنوا أعدوا عدة الخروج. ولكنهم لم يفعلوا شيئا من هذا فدل ذلك على تصميمهم من البدء على التخلف وعدم الاستجابة وحق عليهم أن يقال لهم اقعدوا مع القاعدين العاجزين كالصبيان والنساء والطاعنين في السن والمرضى والزمنى والعميان...
( ٥ ) ومع ذلك فإن الله قد أراد الخير للمسلمين فيما كان منهم ؛ لأنه يعلم نواياهم. ويعلم أنهم لو خرجوا معهم لما كان منهم إلا الفساد والسعي بالنميمة وإيقاع الاضطراب في صفوف المسلمين وإثارة الفتنة بينهم. ولا سيما أن في المسلمين من له صلات بهم، يسمع كلامهم ويتأثر به ( ١ )١. ولذلك لم يشأ الله تعالى أن يخرجوا وثبط عزيمتهم وألهمهم التخلف والقعود.
( ٦ ) ولقد كان هذا الخلق فيهم منذ البداية. فحاولوا إثارة الفتن والفساد والكيد في مختلف المناسبات وبمختلف الصور والوسائل. وإذا كان ظهر منهم شيء من المسايرة والملاينة بعد ذلك فإنما كان لأن الحق قد قوي وأمر الله قد ظهر برغم عنهم فلم يعد يسعهم إلا إظهار ما أظهروه من التزلف وحسن القصد كذبا.

تعليق على الآية :

﴿ لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاَّتَّبَعُوكَ............................... ﴾
والآيات الست التي بعدها
وما فيها من صور وتلقين وما روي في صددها من روايات
ولم يذكر المفسرون أسماء ولا أحداثا معينة في سياق هذه الآيات. وهي كما هو المتبادر استمرار للآيات السابقة أو تعقيب عليها. والصلة بينها وبينها وثيقة وفي الآية الأولى قرينة على صحة ما اتفق عليه الرواة من أن هذه الآيات قد نزلت في مناسبة وصدد غزوة تبوك البعيدة المسافة الشاقة السفر التي لم يكن يؤمل فيها غنائم ويسر وكبير سلامة وعافية بل التي كان الخطر فيها متوقعا أكثر.
وفي صيغة :﴿ وَسَيَحْلِفُونَ ﴾ وفي جملة :﴿ عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ ﴾ وجملة :﴿ لو خرجوا فيكم ﴾ قرائن على أن هذه الآيات قد نزلت في أثناء الرحلة. والآيات تلهم أن تخلف المتخلفين قد أهم المسلمين بعض الشيء وجعلهم يتحدثون فيه في أثناء سفرهم، فاقتضت حكمة التنزيل أن تتضمن ما تضمنته من تنديد بالمتخلفين وتطمين وتسلية للمسلمين.
والوصف الذي وصف به المتخلفون يدل على أنهم إنما كانوا من المنافقين وذوي القلوب المريضة وإن لم يرد هذا بصراحة في هذه الآيات. وقد احتوت الآيات التالية من السلسلة ذلك صراحة على ما سوف يأتي بعد.
ومضمون الآيات قد يدل على أن فريق المنافقين قد خضدت شوكته وخفتت نأمته كثيرا بعد ما تطور موقف النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقوي أمره وتم ما تم من الفتح وانتشار الدعوة. وأن هذا الفريق صار يفعل ما يفعله ويقول ما يقول من أفعال وأقوال تنم عن نفاقه مواربا متماشيا أكثر من ذي قبل ويكثر الاعتذار وتوكيد حسن النية والطاعة. ولكن أمره لم يكن ليخفى فكانت تفضحه آثار النية الخبيثة والقلب المرتاب بالأقوال والأفعال.
ومع أن الآية الثالثة أي الآية ( ٤٤ ) قد وردت على سبيل بيان مظهر المؤمن المخلص ومقايسة الموقف الذي لا يمكن أن يقف غيره مع موقف المنافق فإنها احتوت على ما يتبادر لنا إشارة أو دلالة على أن المخلصين قد استجابوا إلى دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بدون تردد فكان موضع تنويه الآية بإخلاصهم وقوة إيمانهم وتفانيهم في طاعة الله ورسوله والجهاد في سبيله بالمال والنفس. وهذا يدعم من جهة الروايات التي تذكر أن عدد الجيش بلغ ثلاثين ألفا، ويدل من جهة أخرى على سعة انتشار الإسلام وكون أغلبية الذين انضووا إليه من المخلصين.
ولقد روى الطبري وغيره عن مجاهد أن الآية ( ٤٣ ) نزلت في جماعة قالوا : استأذنوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم فإن أذن لكم فاقعدوا وإن لم يأذن فاقعدوا كما رووا أن في جملة :﴿ عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ ﴾ قد انطوت على عتاب رباني للنبي صلى الله عليه وآله وسلم. وروى الطبري بعد إيراد ذلك أن الله رخص للنبي صلى الله عليه وآله وسلم الإذن لمن شاء في آية سورة النور هذه :﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ٦٢ ) ﴾. هذا في حين أن سورة النور نزلت قبل سورة التوبة وأن آية سورة النور هذه ليست في صدد الاستئذان والإذن بالقعود عن الجهاد. وهي فضلا عن ذلك تثني على المستأذنين وتنوه بإيمانهم بالله ورسوله. وأن آيات سورة التوبة التي نحن في صددها تنطوي على تنديد بالمستأذنين. ولقد قال البغوي الذي أورد رواية كون الآية تنطوي على عتاب رباني ( وقيل إن الله عز وجل وقر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ورفع محله بافتتاح الكلام بالدعاء له، كما يقول الرجل لمن يخاطبه إذا كان كريما عنده عفا الله عنك ما صنعت في حاجتي ورضي الله عنك ألا زرتني ) ويتبادر لنا أن هذا التوجيه هو الأوجه الأكثر اتساقا مع مقام الجملة.
ولقد حاول الطبرسي والزمخشري أن يوفقا بين ما ظنا أنه متناقض بين التنديد بالمتخلفين من جهة وتقرير كون تخلفهم بإلهام من الله تعالى من جهة أخرى. وقد قال الطبرسي في صدد ذلك :( لا ينبغي أن يقال كره الله انبعاثهم بعد ما أمرهم به ؛ حيث يقال : إنما أمر به على وجه الذب عن الدين ونية الجهاد وكرهه منهم على نية التخريب والفساد أو أمرهم به لأنه طاعة وثبطهم عنه لأنه علم بضرره منهم. والآيات كما قلنا قبل جاءت على سبيل التطمين والتسلية ولا نرى محلا للإشكال ولا ضرورة للتكلف فيه.
ولقد روى البغوي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن يعرف المنافقين يومئذ فأذن لمن استأذنه على اعتبار أنه صادق في اعتذاره. ومع أن في هذه السورة آية تفيد أنه كان منافقون في المدينة وفي من حولهم من الأعراب لا يعلمهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهي الآية ( ١٠١ ) فإن هناك آيات عديدة في سور عديدة تصف المنافقين وتذكر أقوالهم وأفعالهم وتدمغهم بها دمغا يدل على دلالة لا ريب فيها أن كثيرا منهم كانوا معروفين بأعيانهم وأسمائهم عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه. ولقد روى المفسرون أسماء عدد من المستأذنين منهم : عبد الله بن نبتل ورفاعة بن تابوت وعبد الله بن أبي وأوس بن قيظي والجد بن قيس وجميع هؤلاء ممن عرف عنهم النفاق والمخامرة. والاحتمال الوارد هو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يرد أن يتشدد في أمر السفر لما يعرفه من شدة ظروف الغزوة للضرر المادي والمعنوي الذي يترتب على المكرهين عليه فأذن لمن استأذنه سواء أكانوا من المعروفين بنفاقهم أم لا. وفي الآيات :( ٤٥ – ٤٧ ) قرائن قوية على ذلك. ولقد قال بعض المفسرين إن في الآية :( ٤٣ ) دليلا على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يجتهد وينفذ اجتهاده. وهذا طبعا فيما لم يكن فيه وحي قرآني وقد تكررت هذه الظاهرة في مناسبات آيات عديدة نبهنا عليها ؛ حيث كان الوحي إما يقر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في اجتهاده أو يسكت سكوت إقرار أو ينبه على ما هو الأولى على ما شرحناه في تلك المناسبات.
هذا، ومع خصوصية الآيات الزمنية والموضوعية فالواضح أن الصورة التي احتوتها من الصور التي يمكن أن تظهر في ظروف النضال والأزمات والأخطار في مختلف الأزمنة والأمكنة وهي من أجل ذلك يمكن أن تكون مستمد إلهام وتلقين دائم المدى والأثر في الموقف الذي يجب أن يوقف إزاء أصحاب هذه الصورة والحذر منهم وعدم الاعتماد عليهم وعدم فسح المجال لهم للتدخل في الأمور العامة والجولان بين الصفوف المخلصة لتأمين المنافع الخاصة عن طريق تضحيات وجهود المخلصين.
( ٥ ) خبالا : اضطرابا وفسادا.
( ٦ ) ولأوضعوا خلالكم : لسعوا بينكم بالنميمة والفساد. وأصل الإيضاع : الإسراع في السعي والسير.
﴿ لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا ( ١ ) وَسَفَرًا قَاصِدًا( ٢ ) لا اَّتَّبَعُوكَ وَلَـكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ ( ٣ ) وَسَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ( ٤٢ ) عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ ( ٤٣ ) لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ ( ٤٤ ) إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ ( ٤٥ ) وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَـكِن كَرِهَ اللّهُ انبِعَاثَهُمْ ( ٤ ) فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ ( ٤٦ ) لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ( ٥ ) ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ ( ٦ ) يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ( ٤٧ ) لَقَدِ ابْتَغَوُاْ الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُواْ لَكَ الأُمُورَ ( ٧ )حَتَّى جَاء الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ ( ٤٨ ) ﴾ ( ٤٢ – ٤٨ ).
في هذه الآيات : تنديد بالمتثاقلين عن استجابة دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى النفرة في سبيل الله والمستأذنين المتخلفين عنها. وبيان لحقيقة أمرهم من جهة، وتطمين وتسلية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين من جهة أخرى بالتقريرات التالية :
( ١ ) لو كان ما دعوا إليه غنيمة قريبة المنال أو رحلة قصيرة المسافة قليلة العناء لاتبعوه حرصا على المنفعة الدنيوية، ولكنهم رأوا المسافة بعيدة والرحلة شاقة فبدا منهم ما بدا من الاستثقال.
( ٢ ) ولسوف يحاولون الاعتذار ويحلفون أن لو استطاعوا لخرجوا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، في حين أن الله تعالى يعلم أنهم كاذبون. وليست أيمانهم إلا لتزيد في إثمهم ووسيلة جديدة لهلاكهم وعذابهم.
( ٣ ) وأذن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم بالتخلف حينما استأذنوه بذلك خطأ عفا الله عنه. وكان الأحرى به أن لا يأذن حتى تظهر له حقيقة أمرهم، ويتبين بذلك الصادق من الكاذب. فإنه لا يمكن لمؤمن مخلص بالله واليوم الآخر أن يستأذن بالتخلف وبأعذار كاذبة عن الجهاد بماله ونفسه. والله يعلم حقيقة المتقين المخلصين ولا يتقاعد عن الجهاد ويستأذن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالتخلف إلا الذين لا يؤمنون إيمانا صادقا بالله واليوم الآخر والذين ارتكسوا في الشكوك والتردد.
( ٤ ) ولو أرادوا الخروج حقا وكانت معذرتهم التي أدلوا بها للتخلف طارئة حقا لكنوا أعدوا عدة الخروج. ولكنهم لم يفعلوا شيئا من هذا فدل ذلك على تصميمهم من البدء على التخلف وعدم الاستجابة وحق عليهم أن يقال لهم اقعدوا مع القاعدين العاجزين كالصبيان والنساء والطاعنين في السن والمرضى والزمنى والعميان...
( ٥ ) ومع ذلك فإن الله قد أراد الخير للمسلمين فيما كان منهم ؛ لأنه يعلم نواياهم. ويعلم أنهم لو خرجوا معهم لما كان منهم إلا الفساد والسعي بالنميمة وإيقاع الاضطراب في صفوف المسلمين وإثارة الفتنة بينهم. ولا سيما أن في المسلمين من له صلات بهم، يسمع كلامهم ويتأثر به ( ١ )١. ولذلك لم يشأ الله تعالى أن يخرجوا وثبط عزيمتهم وألهمهم التخلف والقعود.
( ٦ ) ولقد كان هذا الخلق فيهم منذ البداية. فحاولوا إثارة الفتن والفساد والكيد في مختلف المناسبات وبمختلف الصور والوسائل. وإذا كان ظهر منهم شيء من المسايرة والملاينة بعد ذلك فإنما كان لأن الحق قد قوي وأمر الله قد ظهر برغم عنهم فلم يعد يسعهم إلا إظهار ما أظهروه من التزلف وحسن القصد كذبا.

تعليق على الآية :

﴿ لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاَّتَّبَعُوكَ............................... ﴾
والآيات الست التي بعدها
وما فيها من صور وتلقين وما روي في صددها من روايات
ولم يذكر المفسرون أسماء ولا أحداثا معينة في سياق هذه الآيات. وهي كما هو المتبادر استمرار للآيات السابقة أو تعقيب عليها. والصلة بينها وبينها وثيقة وفي الآية الأولى قرينة على صحة ما اتفق عليه الرواة من أن هذه الآيات قد نزلت في مناسبة وصدد غزوة تبوك البعيدة المسافة الشاقة السفر التي لم يكن يؤمل فيها غنائم ويسر وكبير سلامة وعافية بل التي كان الخطر فيها متوقعا أكثر.
وفي صيغة :﴿ وَسَيَحْلِفُونَ ﴾ وفي جملة :﴿ عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ ﴾ وجملة :﴿ لو خرجوا فيكم ﴾ قرائن على أن هذه الآيات قد نزلت في أثناء الرحلة. والآيات تلهم أن تخلف المتخلفين قد أهم المسلمين بعض الشيء وجعلهم يتحدثون فيه في أثناء سفرهم، فاقتضت حكمة التنزيل أن تتضمن ما تضمنته من تنديد بالمتخلفين وتطمين وتسلية للمسلمين.
والوصف الذي وصف به المتخلفون يدل على أنهم إنما كانوا من المنافقين وذوي القلوب المريضة وإن لم يرد هذا بصراحة في هذه الآيات. وقد احتوت الآيات التالية من السلسلة ذلك صراحة على ما سوف يأتي بعد.
ومضمون الآيات قد يدل على أن فريق المنافقين قد خضدت شوكته وخفتت نأمته كثيرا بعد ما تطور موقف النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقوي أمره وتم ما تم من الفتح وانتشار الدعوة. وأن هذا الفريق صار يفعل ما يفعله ويقول ما يقول من أفعال وأقوال تنم عن نفاقه مواربا متماشيا أكثر من ذي قبل ويكثر الاعتذار وتوكيد حسن النية والطاعة. ولكن أمره لم يكن ليخفى فكانت تفضحه آثار النية الخبيثة والقلب المرتاب بالأقوال والأفعال.
ومع أن الآية الثالثة أي الآية ( ٤٤ ) قد وردت على سبيل بيان مظهر المؤمن المخلص ومقايسة الموقف الذي لا يمكن أن يقف غيره مع موقف المنافق فإنها احتوت على ما يتبادر لنا إشارة أو دلالة على أن المخلصين قد استجابوا إلى دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بدون تردد فكان موضع تنويه الآية بإخلاصهم وقوة إيمانهم وتفانيهم في طاعة الله ورسوله والجهاد في سبيله بالمال والنفس. وهذا يدعم من جهة الروايات التي تذكر أن عدد الجيش بلغ ثلاثين ألفا، ويدل من جهة أخرى على سعة انتشار الإسلام وكون أغلبية الذين انضووا إليه من المخلصين.
ولقد روى الطبري وغيره عن مجاهد أن الآية ( ٤٣ ) نزلت في جماعة قالوا : استأذنوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم فإن أذن لكم فاقعدوا وإن لم يأذن فاقعدوا كما رووا أن في جملة :﴿ عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ ﴾ قد انطوت على عتاب رباني للنبي صلى الله عليه وآله وسلم. وروى الطبري بعد إيراد ذلك أن الله رخص للنبي صلى الله عليه وآله وسلم الإذن لمن شاء في آية سورة النور هذه :﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ٦٢ ) ﴾. هذا في حين أن سورة النور نزلت قبل سورة التوبة وأن آية سورة النور هذه ليست في صدد الاستئذان والإذن بالقعود عن الجهاد. وهي فضلا عن ذلك تثني على المستأذنين وتنوه بإيمانهم بالله ورسوله. وأن آيات سورة التوبة التي نحن في صددها تنطوي على تنديد بالمستأذنين. ولقد قال البغوي الذي أورد رواية كون الآية تنطوي على عتاب رباني ( وقيل إن الله عز وجل وقر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ورفع محله بافتتاح الكلام بالدعاء له، كما يقول الرجل لمن يخاطبه إذا كان كريما عنده عفا الله عنك ما صنعت في حاجتي ورضي الله عنك ألا زرتني ) ويتبادر لنا أن هذا التوجيه هو الأوجه الأكثر اتساقا مع مقام الجملة.
ولقد حاول الطبرسي والزمخشري أن يوفقا بين ما ظنا أنه متناقض بين التنديد بالمتخلفين من جهة وتقرير كون تخلفهم بإلهام من الله تعالى من جهة أخرى. وقد قال الطبرسي في صدد ذلك :( لا ينبغي أن يقال كره الله انبعاثهم بعد ما أمرهم به ؛ حيث يقال : إنما أمر به على وجه الذب عن الدين ونية الجهاد وكرهه منهم على نية التخريب والفساد أو أمرهم به لأنه طاعة وثبطهم عنه لأنه علم بضرره منهم. والآيات كما قلنا قبل جاءت على سبيل التطمين والتسلية ولا نرى محلا للإشكال ولا ضرورة للتكلف فيه.
ولقد روى البغوي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن يعرف المنافقين يومئذ فأذن لمن استأذنه على اعتبار أنه صادق في اعتذاره. ومع أن في هذه السورة آية تفيد أنه كان منافقون في المدينة وفي من حولهم من الأعراب لا يعلمهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهي الآية ( ١٠١ ) فإن هناك آيات عديدة في سور عديدة تصف المنافقين وتذكر أقوالهم وأفعالهم وتدمغهم بها دمغا يدل على دلالة لا ريب فيها أن كثيرا منهم كانوا معروفين بأعيانهم وأسمائهم عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه. ولقد روى المفسرون أسماء عدد من المستأذنين منهم : عبد الله بن نبتل ورفاعة بن تابوت وعبد الله بن أبي وأوس بن قيظي والجد بن قيس وجميع هؤلاء ممن عرف عنهم النفاق والمخامرة. والاحتمال الوارد هو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يرد أن يتشدد في أمر السفر لما يعرفه من شدة ظروف الغزوة للضرر المادي والمعنوي الذي يترتب على المكرهين عليه فأذن لمن استأذنه سواء أكانوا من المعروفين بنفاقهم أم لا. وفي الآيات :( ٤٥ – ٤٧ ) قرائن قوية على ذلك. ولقد قال بعض المفسرين إن في الآية :( ٤٣ ) دليلا على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يجتهد وينفذ اجتهاده. وهذا طبعا فيما لم يكن فيه وحي قرآني وقد تكررت هذه الظاهرة في مناسبات آيات عديدة نبهنا عليها ؛ حيث كان الوحي إما يقر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في اجتهاده أو يسكت سكوت إقرار أو ينبه على ما هو الأولى على ما شرحناه في تلك المناسبات.
هذا، ومع خصوصية الآيات الزمنية والموضوعية فالواضح أن الصورة التي احتوتها من الصور التي يمكن أن تظهر في ظروف النضال والأزمات والأخطار في مختلف الأزمنة والأمكنة وهي من أجل ذلك يمكن أن تكون مستمد إلهام وتلقين دائم المدى والأثر في الموقف الذي يجب أن يوقف إزاء أصحاب هذه الصورة والحذر منهم وعدم الاعتماد عليهم وعدم فسح المجال لهم للتدخل في الأمور العامة والجولان بين الصفوف المخلصة لتأمين المنافع الخاصة عن طريق تضحيات وجهود المخلصين.
( ٧ ) قلبوا لك الأمور : بذلوا جهدهم في الكيد لك.
﴿ لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا ( ١ ) وَسَفَرًا قَاصِدًا( ٢ ) لا اَّتَّبَعُوكَ وَلَـكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ ( ٣ ) وَسَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ( ٤٢ ) عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ ( ٤٣ ) لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ ( ٤٤ ) إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ ( ٤٥ ) وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَـكِن كَرِهَ اللّهُ انبِعَاثَهُمْ ( ٤ ) فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ ( ٤٦ ) لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ( ٥ ) ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ ( ٦ ) يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ( ٤٧ ) لَقَدِ ابْتَغَوُاْ الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُواْ لَكَ الأُمُورَ ( ٧ )حَتَّى جَاء الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ ( ٤٨ ) ﴾ ( ٤٢ – ٤٨ ).
في هذه الآيات : تنديد بالمتثاقلين عن استجابة دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى النفرة في سبيل الله والمستأذنين المتخلفين عنها. وبيان لحقيقة أمرهم من جهة، وتطمين وتسلية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين من جهة أخرى بالتقريرات التالية :
( ١ ) لو كان ما دعوا إليه غنيمة قريبة المنال أو رحلة قصيرة المسافة قليلة العناء لاتبعوه حرصا على المنفعة الدنيوية، ولكنهم رأوا المسافة بعيدة والرحلة شاقة فبدا منهم ما بدا من الاستثقال.
( ٢ ) ولسوف يحاولون الاعتذار ويحلفون أن لو استطاعوا لخرجوا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، في حين أن الله تعالى يعلم أنهم كاذبون. وليست أيمانهم إلا لتزيد في إثمهم ووسيلة جديدة لهلاكهم وعذابهم.
( ٣ ) وأذن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم بالتخلف حينما استأذنوه بذلك خطأ عفا الله عنه. وكان الأحرى به أن لا يأذن حتى تظهر له حقيقة أمرهم، ويتبين بذلك الصادق من الكاذب. فإنه لا يمكن لمؤمن مخلص بالله واليوم الآخر أن يستأذن بالتخلف وبأعذار كاذبة عن الجهاد بماله ونفسه. والله يعلم حقيقة المتقين المخلصين ولا يتقاعد عن الجهاد ويستأذن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالتخلف إلا الذين لا يؤمنون إيمانا صادقا بالله واليوم الآخر والذين ارتكسوا في الشكوك والتردد.
( ٤ ) ولو أرادوا الخروج حقا وكانت معذرتهم التي أدلوا بها للتخلف طارئة حقا لكنوا أعدوا عدة الخروج. ولكنهم لم يفعلوا شيئا من هذا فدل ذلك على تصميمهم من البدء على التخلف وعدم الاستجابة وحق عليهم أن يقال لهم اقعدوا مع القاعدين العاجزين كالصبيان والنساء والطاعنين في السن والمرضى والزمنى والعميان...
( ٥ ) ومع ذلك فإن الله قد أراد الخير للمسلمين فيما كان منهم ؛ لأنه يعلم نواياهم. ويعلم أنهم لو خرجوا معهم لما كان منهم إلا الفساد والسعي بالنميمة وإيقاع الاضطراب في صفوف المسلمين وإثارة الفتنة بينهم. ولا سيما أن في المسلمين من له صلات بهم، يسمع كلامهم ويتأثر به ( ١ )١. ولذلك لم يشأ الله تعالى أن يخرجوا وثبط عزيمتهم وألهمهم التخلف والقعود.
( ٦ ) ولقد كان هذا الخلق فيهم منذ البداية. فحاولوا إثارة الفتن والفساد والكيد في مختلف المناسبات وبمختلف الصور والوسائل. وإذا كان ظهر منهم شيء من المسايرة والملاينة بعد ذلك فإنما كان لأن الحق قد قوي وأمر الله قد ظهر برغم عنهم فلم يعد يسعهم إلا إظهار ما أظهروه من التزلف وحسن القصد كذبا.

تعليق على الآية :

﴿ لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاَّتَّبَعُوكَ............................... ﴾
والآيات الست التي بعدها
وما فيها من صور وتلقين وما روي في صددها من روايات
ولم يذكر المفسرون أسماء ولا أحداثا معينة في سياق هذه الآيات. وهي كما هو المتبادر استمرار للآيات السابقة أو تعقيب عليها. والصلة بينها وبينها وثيقة وفي الآية الأولى قرينة على صحة ما اتفق عليه الرواة من أن هذه الآيات قد نزلت في مناسبة وصدد غزوة تبوك البعيدة المسافة الشاقة السفر التي لم يكن يؤمل فيها غنائم ويسر وكبير سلامة وعافية بل التي كان الخطر فيها متوقعا أكثر.
وفي صيغة :﴿ وَسَيَحْلِفُونَ ﴾ وفي جملة :﴿ عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ ﴾ وجملة :﴿ لو خرجوا فيكم ﴾ قرائن على أن هذه الآيات قد نزلت في أثناء الرحلة. والآيات تلهم أن تخلف المتخلفين قد أهم المسلمين بعض الشيء وجعلهم يتحدثون فيه في أثناء سفرهم، فاقتضت حكمة التنزيل أن تتضمن ما تضمنته من تنديد بالمتخلفين وتطمين وتسلية للمسلمين.
والوصف الذي وصف به المتخلفون يدل على أنهم إنما كانوا من المنافقين وذوي القلوب المريضة وإن لم يرد هذا بصراحة في هذه الآيات. وقد احتوت الآيات التالية من السلسلة ذلك صراحة على ما سوف يأتي بعد.
ومضمون الآيات قد يدل على أن فريق المنافقين قد خضدت شوكته وخفتت نأمته كثيرا بعد ما تطور موقف النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقوي أمره وتم ما تم من الفتح وانتشار الدعوة. وأن هذا الفريق صار يفعل ما يفعله ويقول ما يقول من أفعال وأقوال تنم عن نفاقه مواربا متماشيا أكثر من ذي قبل ويكثر الاعتذار وتوكيد حسن النية والطاعة. ولكن أمره لم يكن ليخفى فكانت تفضحه آثار النية الخبيثة والقلب المرتاب بالأقوال والأفعال.
ومع أن الآية الثالثة أي الآية ( ٤٤ ) قد وردت على سبيل بيان مظهر المؤمن المخلص ومقايسة الموقف الذي لا يمكن أن يقف غيره مع موقف المنافق فإنها احتوت على ما يتبادر لنا إشارة أو دلالة على أن المخلصين قد استجابوا إلى دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بدون تردد فكان موضع تنويه الآية بإخلاصهم وقوة إيمانهم وتفانيهم في طاعة الله ورسوله والجهاد في سبيله بالمال والنفس. وهذا يدعم من جهة الروايات التي تذكر أن عدد الجيش بلغ ثلاثين ألفا، ويدل من جهة أخرى على سعة انتشار الإسلام وكون أغلبية الذين انضووا إليه من المخلصين.
ولقد روى الطبري وغيره عن مجاهد أن الآية ( ٤٣ ) نزلت في جماعة قالوا : استأذنوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم فإن أذن لكم فاقعدوا وإن لم يأذن فاقعدوا كما رووا أن في جملة :﴿ عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ ﴾ قد انطوت على عتاب رباني للنبي صلى الله عليه وآله وسلم. وروى الطبري بعد إيراد ذلك أن الله رخص للنبي صلى الله عليه وآله وسلم الإذن لمن شاء في آية سورة النور هذه :﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ٦٢ ) ﴾. هذا في حين أن سورة النور نزلت قبل سورة التوبة وأن آية سورة النور هذه ليست في صدد الاستئذان والإذن بالقعود عن الجهاد. وهي فضلا عن ذلك تثني على المستأذنين وتنوه بإيمانهم بالله ورسوله. وأن آيات سورة التوبة التي نحن في صددها تنطوي على تنديد بالمستأذنين. ولقد قال البغوي الذي أورد رواية كون الآية تنطوي على عتاب رباني ( وقيل إن الله عز وجل وقر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ورفع محله بافتتاح الكلام بالدعاء له، كما يقول الرجل لمن يخاطبه إذا كان كريما عنده عفا الله عنك ما صنعت في حاجتي ورضي الله عنك ألا زرتني ) ويتبادر لنا أن هذا التوجيه هو الأوجه الأكثر اتساقا مع مقام الجملة.
ولقد حاول الطبرسي والزمخشري أن يوفقا بين ما ظنا أنه متناقض بين التنديد بالمتخلفين من جهة وتقرير كون تخلفهم بإلهام من الله تعالى من جهة أخرى. وقد قال الطبرسي في صدد ذلك :( لا ينبغي أن يقال كره الله انبعاثهم بعد ما أمرهم به ؛ حيث يقال : إنما أمر به على وجه الذب عن الدين ونية الجهاد وكرهه منهم على نية التخريب والفساد أو أمرهم به لأنه طاعة وثبطهم عنه لأنه علم بضرره منهم. والآيات كما قلنا قبل جاءت على سبيل التطمين والتسلية ولا نرى محلا للإشكال ولا ضرورة للتكلف فيه.
ولقد روى البغوي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن يعرف المنافقين يومئذ فأذن لمن استأذنه على اعتبار أنه صادق في اعتذاره. ومع أن في هذه السورة آية تفيد أنه كان منافقون في المدينة وفي من حولهم من الأعراب لا يعلمهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهي الآية ( ١٠١ ) فإن هناك آيات عديدة في سور عديدة تصف المنافقين وتذكر أقوالهم وأفعالهم وتدمغهم بها دمغا يدل على دلالة لا ريب فيها أن كثيرا منهم كانوا معروفين بأعيانهم وأسمائهم عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه. ولقد روى المفسرون أسماء عدد من المستأذنين منهم : عبد الله بن نبتل ورفاعة بن تابوت وعبد الله بن أبي وأوس بن قيظي والجد بن قيس وجميع هؤلاء ممن عرف عنهم النفاق والمخامرة. والاحتمال الوارد هو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يرد أن يتشدد في أمر السفر لما يعرفه من شدة ظروف الغزوة للضرر المادي والمعنوي الذي يترتب على المكرهين عليه فأذن لمن استأذنه سواء أكانوا من المعروفين بنفاقهم أم لا. وفي الآيات :( ٤٥ – ٤٧ ) قرائن قوية على ذلك. ولقد قال بعض المفسرين إن في الآية :( ٤٣ ) دليلا على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يجتهد وينفذ اجتهاده. وهذا طبعا فيما لم يكن فيه وحي قرآني وقد تكررت هذه الظاهرة في مناسبات آيات عديدة نبهنا عليها ؛ حيث كان الوحي إما يقر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في اجتهاده أو يسكت سكوت إقرار أو ينبه على ما هو الأولى على ما شرحناه في تلك المناسبات.
هذا، ومع خصوصية الآيات الزمنية والموضوعية فالواضح أن الصورة التي احتوتها من الصور التي يمكن أن تظهر في ظروف النضال والأزمات والأخطار في مختلف الأزمنة والأمكنة وهي من أجل ذلك يمكن أن تكون مستمد إلهام وتلقين دائم المدى والأثر في الموقف الذي يجب أن يوقف إزاء أصحاب هذه الصورة والحذر منهم وعدم الاعتماد عليهم وعدم فسح المجال لهم للتدخل في الأمور العامة والجولان بين الصفوف المخلصة لتأمين المنافع الخاصة عن طريق تضحيات وجهود المخلصين.
﴿ وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ ( ٤٩ ) ﴾ ( ٤٩ ).
في هذه الآية :
( ١ ) صورة خاصة لموقف بعض المنافقين من الدعوة إلى حملة تبوك ؛ حيث جاء بعضهم يستأذن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالتخلف ويرجو عدم تعريضه للفتنة والإثم.
( ٢ ) ورد عليه بأنه هو وأمثاله قد تورطوا بمواقفهم التي يقفونها في الإثم والفتنة فعلا كأنما تريد أن تقول لهم : إن خوفهم من الفتنة عجيب منهم لأنهم تورطوا فيها بتلك المواقف.
( ٣ ) وإنذار لهم بأن جهنم محيطة بالكافرين في كل حال ومآل.
ولقد روى الطبري روايات عديدة في صدد هذه الآية. منها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان في استنفاره الناس يقول : انفروا تغنموا بنات بني الأصفر أو بنات الروم. ومنها أن هذا كان لمنافق اسمه الجد كان مغرما بالنساء حيث قال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك أو قال له هل لك بجلاد بني الأصفر فتتخذ منهم سراري ووصفاء فقال له : ائذن لي بالقعود ولا تعرضني للفتنة وأنا أعينك بمالي دون نفسي.
وقد تكون الروايات أو رواية الجد صحيحة في الإجمال. فإنه لا يستبعد أن يكلم النبي صلى الله عليه وآله وسلم كل إنسان بما يعرفه فيه من ميول. ومع ذلك فإنه يتبادر لنا سبب آخر للاعتذار، وهو أن يكون المعتذر قد اعتذر بشدة رغبته الجنسية وعدم إطاقته الصبر عنها طويلا. فالاستمتاع بالسبي ليس في حد ذاته فتنة وإثما يخشى المنافق على نفسه منه.
ومهما يكن من أمر فالآية لم تنزل لحدتها كما هو المتبادر من عطفها على ما قبلها وصلتها بالسياق السابق واللاحق. وإنما هي جزء من السلسلة تضمنت صورة من صور اعتذارات المنافقين على سبيل التنديد بهم.
وفي الآية دلالة مؤيدة لما قلناه قبل من أن المنافقين كانوا أو كان كثير منهم معروفين بأسمائهم كما هو المتبادر.
( ١ ) حسنة ومصيبة : الكلمة الأولى في مقامها كناية عن النصر والثانية كناية عن الانكسار والهزيمة.
( ٢ ) قد أخذنا أمرنا من قبل : قد احتطنا لأنفسنا حتى لا نقع فيما وقعوا فيه.
﴿ إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ ( ١ ) تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ ( ١ ) يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ ( ٢ ) وَيَتَوَلَّواْ وَّهُمْ فَرِحُونَ ( ٥٠ ) قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ( ٥١ ) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ ( ٣ ) بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ ( ٥٢ ) ﴾ ( ٥٠ – ٥٢ ).

في الآيات :

( ١ ) بيان لما في نفوس المنافقين نحو النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين المخلصين من نيات وعواطف أو لما هو مفروض أن يكون فيهم إزاء هذه الغزوة بحيث لو أصابهم خير ونصر استاءوا واغتاظوا ولو أصابتهم مصيبة وهزيمة حمدوا ما كان منهم من الحذر والاحتياط والتخلف وفرحوا.
( ٢ ) وأمر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن يهتف قائلا لهم بلسان الحال : إنه لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا وإنه هو مولانا وإن على المتوكلين أن يتوكلوا عليه وحده. وإنكم مهما تربصتم بنا وانتظرتم نتائج فلن يصيبنا منها إلا إحدى الحسنيين : حسنى الشهادة والثواب في حالة الموت، وحسنى الفوز والغنيمة في حالة النصر. في حين أن أمركم إلى عذاب لا معدى لكم عنه في حال. فإما أن يكون عقوبة مباشرة من الله تعالى، وإما أن يكون على أيد منا فلننتظر معا والأيام بيننا.
وما حكي عن المنافقين من نيات هو لسان حالهم ؛ ولهذا قلنا إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر بأن يهتف بهم بلسان الحال بالمقابلة. ونرجو إن شاء الله أن يكون فيه الصواب.

تعليق على الآية :

﴿ إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ.......................... ﴾
والآيتين التاليتين لها وما فيها من تلقين
وصور لم يرو المفسرون شيئا خاصا في صدد الآيات.
والمتبادر أنها استمرار للسياق وجزء من السلسلة
ومع خصوصيتها الزمنية والموضوعية فإن الصورة التي ترسمها الآية الأولى من الصور التي تقع من بعض الناس دائما إزاء الآخرين. وفيها تلقين بوجوب الحذر من أصحابها. والآيتان الثانية والثالثة مستمد إلهام قوي للمؤمنين المخلصين يمدهم دائما بالطمأنينة والسكينة. ويبث فيهم الاعتماد على الله وحده. ويحفزهم على الإقدام على عظائم الأمور والتضحيات في سبيل الله ومصلحة المسلمين العامة بنوع خاص برباطة جأش وسكون نفس وقوة قلب وجميل صبر وشدة تحمل. ويجعلهم على يقين بأنهم فائزون غانمون على كل حال إن لم يكن بنصر دنيوي فبثواب الله ورحمته ورضوانه.
ولقد أورد البغوي في سياق هذه الآية حديثا عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم روى صيغة له البخاري ومسلم مع زيادة مهمة فرأينا أن نوردها بدلا من صيغة البغوي وهي :( تضمن الله لمن يخرج في سبيله لا يخرجه إلا جهادا في سبيلي وإيمانا وتصديقا برسلي، فهو علي ضامن أن أدخله الجنة أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلا ما نال من أجر أو غنيمة، والذي نفس محمد بيده لوددت أني أغزو في سبيله فأقتل ثم أغزو فأقتل ثم أغزو فأقتل ) ( ١ )١. وينطوي في الحديث تساوق مع ما في الآيات من تلقين جليل مستمر المدى مع التنويه بفضل الجهاد والمجاهدين والحث عليه على أن يكون خالصا لوجه الله تعالى.
﴿ إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ ( ١ ) تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ ( ١ ) يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ ( ٢ ) وَيَتَوَلَّواْ وَّهُمْ فَرِحُونَ ( ٥٠ ) قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ( ٥١ ) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ ( ٣ ) بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ ( ٥٢ ) ﴾ ( ٥٠ – ٥٢ ).

في الآيات :

( ١ ) بيان لما في نفوس المنافقين نحو النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين المخلصين من نيات وعواطف أو لما هو مفروض أن يكون فيهم إزاء هذه الغزوة بحيث لو أصابهم خير ونصر استاءوا واغتاظوا ولو أصابتهم مصيبة وهزيمة حمدوا ما كان منهم من الحذر والاحتياط والتخلف وفرحوا.
( ٢ ) وأمر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن يهتف قائلا لهم بلسان الحال : إنه لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا وإنه هو مولانا وإن على المتوكلين أن يتوكلوا عليه وحده. وإنكم مهما تربصتم بنا وانتظرتم نتائج فلن يصيبنا منها إلا إحدى الحسنيين : حسنى الشهادة والثواب في حالة الموت، وحسنى الفوز والغنيمة في حالة النصر. في حين أن أمركم إلى عذاب لا معدى لكم عنه في حال. فإما أن يكون عقوبة مباشرة من الله تعالى، وإما أن يكون على أيد منا فلننتظر معا والأيام بيننا.
وما حكي عن المنافقين من نيات هو لسان حالهم ؛ ولهذا قلنا إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر بأن يهتف بهم بلسان الحال بالمقابلة. ونرجو إن شاء الله أن يكون فيه الصواب.

تعليق على الآية :

﴿ إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ.......................... ﴾
والآيتين التاليتين لها وما فيها من تلقين
وصور لم يرو المفسرون شيئا خاصا في صدد الآيات.
والمتبادر أنها استمرار للسياق وجزء من السلسلة
ومع خصوصيتها الزمنية والموضوعية فإن الصورة التي ترسمها الآية الأولى من الصور التي تقع من بعض الناس دائما إزاء الآخرين. وفيها تلقين بوجوب الحذر من أصحابها. والآيتان الثانية والثالثة مستمد إلهام قوي للمؤمنين المخلصين يمدهم دائما بالطمأنينة والسكينة. ويبث فيهم الاعتماد على الله وحده. ويحفزهم على الإقدام على عظائم الأمور والتضحيات في سبيل الله ومصلحة المسلمين العامة بنوع خاص برباطة جأش وسكون نفس وقوة قلب وجميل صبر وشدة تحمل. ويجعلهم على يقين بأنهم فائزون غانمون على كل حال إن لم يكن بنصر دنيوي فبثواب الله ورحمته ورضوانه.
ولقد أورد البغوي في سياق هذه الآية حديثا عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم روى صيغة له البخاري ومسلم مع زيادة مهمة فرأينا أن نوردها بدلا من صيغة البغوي وهي :( تضمن الله لمن يخرج في سبيله لا يخرجه إلا جهادا في سبيلي وإيمانا وتصديقا برسلي، فهو علي ضامن أن أدخله الجنة أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلا ما نال من أجر أو غنيمة، والذي نفس محمد بيده لوددت أني أغزو في سبيله فأقتل ثم أغزو فأقتل ثم أغزو فأقتل ) ( ١ )١. وينطوي في الحديث تساوق مع ما في الآيات من تلقين جليل مستمر المدى مع التنويه بفضل الجهاد والمجاهدين والحث عليه على أن يكون خالصا لوجه الله تعالى.
( ٣ ) تربصون : تتربصون أي تنتظرون وتتوقعون.
سورة التوبة :
في هذه السورة فصول عديدة ومتنوعة إلا أنها يجمعها طابع عام واحد هو الحث على الجهاد والحملة على المنافقين والكافرين والمشركين. والثناء على المؤمنين المخلصين.

وتنطوي فصولها على :

( ١ ) التبرؤ من المشركين الناقضين للعهد والحث على قتالهم إلى أن يتوبوا ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، مع احترام عهد المعاهدين الأوفياء لعهودهم.
( ٢ ) والتنبيه على أن المشركين نجس لا يجوز أن يدخلوا منطقة البيت الحرام بعد أن صار في حوزة الإسلام، ولا أن يتولوا مسجدا ويعمروه أو يعمروا المسجد الحرام، وليس لهم في ذلك حق وميزة.
( ٣ ) وحظر تولي الآباء والأقارب الكفار ومناصرتهم والتحالف معهم وإيجاب إيثار الله ورسوله والجهاد في سبيله عليهم وعلى جميع أعراض الدنيا إذا تعارض هذا مع ذاك.
( ٤ ) وحث على قتال أهل الكتاب الذين لا يؤمنون بالله ورسوله ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق حتى يعطوا الجزية ويخضعوا لسلطان الإسلام فيكون لهم ذلك مانعا.
( ٥ ) وإقرار حرمة الأشهر الحرم الأربعة بأعيانها وتحريم النسيء والتلاعب في أوقاتها بسبيل التقديم والتأخير فيها، وإخراج بعضها من الحرمة وجعل غيرها بديلا عنها.
( ٦ ) وحث واستنفار إلى غزوة أجمعت الروايات على أنها غزوة تبوك وتنديد بالمتثاقلين والمتخلفين عنها بأعذار كاذبة ووصمهم بالنفاق.
( ٧ ) وصور من مواقف المنافقين وأقوالهم ومكائدهم وسخريتهم وتثبيطهم وإخلافهم لوعودهم وعهودهم وتنديد باعتذاراتهم وأيمانهم الكاذبة وإنذارات قارعة لهم وإيجاب الوقوف منهم موقف الشدة والحزم.
( ٨ ) وبيان لطبيعة الأعراب وشدة كفر الكافرين ونفاق المنافقين منهم بسببها مع التنويه بطبقة أخلصت في إيمانها وإسلامها وأعمالها منهم.
( ٩ ) وتصنيف المنتسبين إلى الإسلام إلى مخلصين سابقين وتابعيهم بإحسان، ومنافقين متسترين، وخالطي عمل صالح بعمل سيء، وأناس غير معروفة حقيقتهم على اليقين موكولين إلى الله، ومنافقين مجاهرين بالضرر والفساد.
( ١٠ ) وحظر الاستغفار للمشركين والصلاة عليهم.
( ١١ ) ومشاهد عن إخلاص بعض فقراء المسلمين إزاء الدعوة إلى الجهاد وشدة ندم بعض المخلصين المتخلفين وتوبة الله عليهم.
( ١٢ ) ومشاهد عن مواقف المنافقين عند نزول القرآن.
( ١٣ ) وتشريع في صدد التناوب في الجهاد.
( ١٤ ) وختام وصفي رائع لأخلاق النبي صلى الله عليه وآله وسلم وشدة حرصه على المسلمين ورأفته ورحمته بهم.
وأكثر فصول السورة معقودة على غزوة تبوك وظروفها وأحداثها. وهناك رواية غريبة تذكر أنها نزلت دفعة واحدة ( ١ )١. في حين أن مضامين فصولها تلهم بكل قوة أن منها ما نزل قبل غزوة تبوك بمدة ما. ومنها ما نزل أثناء هذه الغزوة، ومنها ما نزل بعد العودة من هذه الغزوة ؛ حيث يسوغ القول : إن الرواية المذكورة غير معقولة وغير صحيحة، وإن فصول السورة قد رتبت في وقت متأخر من عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن تم نزول الفصول التي اقتضت حكمة الله ورسوله أن تحتويها. والمصحف الذي اعتمدناه يروي أن آيتيها الأخيرتين مكيتان. وهذه الرواية مروية في تفسير المنار وفي الإتقان للسيوطي ( ١ )٢عن ابن الفرس. وصاحب تفسير المنار يسوغ الرواية ويقول : إن معنى الآيتين لا يظهر إلا في دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الإسلام في مكة في أول زمن البعثة، وهناك رواية أوردها ابن كثير تفيد أن الآيتين كانتا منسيتين فألحقتا بآخر السورة ارتجالا. وكانت هذه الرواية مما قوى تسويغ صاحب المنار. هذا في حين أن هناك روايات تذكر أن الآيتين هما آخر القرآن نزولا. وقد رجحنا أنهما جاءتا معقبتين على الآيات السابقة لهما استلهاما من فحواهما. وسنزيد الأمر بيانا في سياق تفسير الآيات.
والمتواتر اليقيني أن مصحف عثمان هو أصل المصاحف لم يفصل بين سورتي الأنفال وهذه السورة بالبسملة أسوة بسائر السور. وقد روى الترمذي ( ٢ )٣ حديثا عن ابن عباس جاء فيه :( قلت لعثمان رضي الله عنه : ما حملكم أن عمدتم إلى الأنفال وهي في المثاني وإلى براءة وهي من المئين ( ٣ )٤ فقرنتم بينهما، ولم تكتبوا بينهما بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتموها في السبع الطوال. فقال عثمان : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يأتي عليه الزمان وهو تنزل عليه السور ذوات العدد، فكان إذا نزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب فيقول : ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا، وكانت الأنفال من أوائل ما أنزل بالمدينة، وكانت براءة من آخر القرآن، وكانت قصتها شبيهة بقصتها ( ٤ )٥ فظننت أنها منها فقبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يبين لنا أنها منها ؛ فلذلك قرنت بينهما ولم أكتب بينهما بسم الله الرحمن الرحيم فوضعتها في السبعة الطوال ). وهناك روايات أخرى في صدد ذلك. منها رواية عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه جوابا على سؤال سأله ابنه محمد مفادها : أن هذه السورة نزلت بالسيف، وأن البسملة أمان. ورواية عن أبي بن كعب أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يأمر في كل سورة بكتابة بسم الله الرحمن الرحيم، ولم يأمر بذلك في سورة التوبة وكانت نزلت في آخر القرآن فضمت إلى الأنفال لشبهها بها. ورواية – جاءت بصيغة قيل – تذكر أن الصحابة اختلفوا فيما إذا كانت سورتا الأنفال وبراءة واحدة أم سورتين ؟ ولم يتغلب رأي فتركوا بينهما فرجة تنبيها على قول من يقول : إنهما سورتان. ولم يكتبوا البسملة تنبيها على قول من يقول : إنهما سورة واحدة. وهناك رواية تذكر أن السورتين كانتا تسميان القرينتين لهذا السبب ( ١ )٦.
وباستثناء حديث الترمذي عن ابن عباس ليس شيء من هذه الروايات واردا في الصحاح. والمتبادر أن رواية عدم وضع البسملة بسبب كونها نزلت في القتال غير سائغة ؛ لأن هناك سورا أخرى احتوت الأمر بالقتال. وتبقى الروايات الأخرى وهي محتملة. وقد يكون فيها إزالة لإشكال ورود سورة الأنفال التي تقل آياتها عن المائة بين السور الطوال في حين أن ترتيب سور القرآن سار على وضع الأطول فالأطول إجمالا. ولم يؤثر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر بوضع البسملة بينهما. وآياتهما معا تجعل سلكهما في سلك السور الطوال سائغا.
وهذه الروايات مع حديث ابن عباس الذي رواه الترمذي تفيدنا مسألتين مهمتين في صدد تأليف وترتيب سور القرآن والمصحف والآيات، الأولى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يأمر بأن تكون كل سورة في قراطيس لحدتها مفتوحة للزيادة عليها. وكان وضع الآيات في السور بأمره. والثانية أن ترتيب السور واحدة وراء أخرى كما جاء في المصحف هو بأمره. ونرجح أن المسألة الأولى كانت بنوع خاص بالنسبة للسور المدنية. وأن السور المكية كان قد تم ترتيبها إما في مكة وإما بعد الهجرة بقليل. وكل ما هنالك أن بعض آيات مدنية أضيفت إلى بعض هذه السور مثل الآية الأخيرة من كل من سورتي المزمل والشعراء والآيات ( ١٦٣ – ١٧٠ ) من سورة الأعراف للتناسب الموضوعي. ومن المحتمل كثيرا أن تكون هذه الآيات نزلت في أوائل الهجرة. والله أعلم.
والمصحف الذي اعتمدناه يروي ترتيب هذه السورة قبل سورة النصر التي يجعلها آخر السور المدنية نزولا. وبعض روايات الترتيب يجعلها بعد سورة النصر. وبعضها يجعلها ثانية عشرة سورة مدنية نزولا وبعضها سادسة عشرة بل وبعضها سادسة ( ١ )٧، ومضامينها تلهم أن الروايات الثلاث الأخيرة لا يمكن أن تكون صحيحة. وقد أخذنا برواية المصحف الذي اعتمدناه لأن فحوى وروح سورة النصر يسوغان صحة رواية هذا المصحف بكونها آخر السور المدنية نزولا كما أن هناك أحاديث تؤيد ذلك على ما سوف نورده في سياقها.
وللسورة أسماء عديدة. المشهور منها اثنان وهما ( التوبة ) و( براءة ). وهما مقتبسان من ألفاظ فيها كما هو شأن معظم السور. والباقي أطلق عليها بسبب ما فيها من دلالات فهي الفاضحة لأنها فضحت المنافقين، وهي المبعثرة ؛ لأنها بعثرة أسرارهم، وهي المقشقشة ؛ لأنها تقشقش أن تبرئ المسلمين من الكفر والنفاق، وهي المدمدمة أي المهلكة، وهي الحافرة ؛ لأنها حفرت قلوب المنافقين وكشفت ما يسترونه، وهي المثيرة لأنها أثارت مخازيهم، وهي العذاب ؛ لأنها نزلت بعذاب الكفار. وهذه الأسماء التي بلغت العشيرة معزوة إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتابعيهم ( ٢ )٨.
١ انظر تفسير الزمخشري والطبرسي والمنار..
٢ الإتقان ص ١٦..
٣ التاج ج ٤ ص ١١٢، ١١٣..
٤ يسمى ما قلت آياته عن المائة من السور ولم تكن من القصار بالمثاني، وما زادت آياته على المائة بالمئين..
٥ أي فصول مثلها من جهاد وعهد..
٦ انظر تفسير البغوي والزمخشري والطبرسي والخازن والنسفي وابن كثير والنيسابوري ومن الغريب أن الطبري لم يتعرض لهذا البحث ورواياته!.
٧ انظر روايات ترتيب نزول السور في كتابتنا سيرة الرسول. ج ٢ ص ٩..
٨ انظر كتب التفسير السابقة. وأجمعها للأسماء تفسير الطبرسي..
﴿ قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ ( ٥٣ ) وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ ( ٥٤ ) فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ( ٥٥ ) ﴾ ( ٥٣ – ٥٥ ).
الخطاب في الآيات موجه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وفيها :
( ١ ) أمر بأن يعلن للمنافقين بأن الله لن يتقبل منهم ما يريدون أن ينفقوه طوعا من تلقاء أنفسهم أو رغما عنهم وكرها بضغط الظروف والموقف لأنهم قوم فاسقون، كفرا بالله ورسوله، ولا يقومون إلى الصلاة إلا مع الكسل وعدم الرغبة الصادقة، ولا ينفقون ما يريدون إنفاقه إلا مع الكراهية والاستثقال.
( ٢ ) وتسلية وتطمين له : فلا ينبغي أن يأخذ العجب من كثرة أموالهم وأولادهم. فإنما هي وسائل عذاب لهم في الدنيا حتى تزهق أنفسهم وهم كافرون جاهدون.
تعليق على الآية :
﴿ قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ..... ﴾
والآيتين التاليتين لها وما فيها من تلقين
وقد روى الطبري وغيره ( ١ )١، أن الآية الأولى نزلت بمناسبة ما وعد به المنافق الجد من مساعدة مالية حينما استأذن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالقعود والتخلف عن الحملة.
ويلحظ أن الأمر في الآية بسبيل إعلان لأكثر من شخص من المنافقين ؛ حيث يفيد هذا أن أكثر من واحد من المنافقين المستأذنين بالتخلف أرادوا أن يجاملوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالاشتراك في نفقات الحملة. ومهما يكن من أمر فالذي نرجحه أن الآيات لم تنزل لحدتها وأنها استمرار للسياق وجزء من السلسلة.
ومع أن صيغة الآيات تفيد في ظاهرها أنها أمر بتوجيه الخطاب إلى المنافقين السامعين له فالذي يتبادر لنا استلهاما من روح الآيات وفحواها وبخاصة الآية الثانية والثالثة منها، ثم من نزول السلسلة في أثناء السفر على ما تلهمه بعض آياتها أن هذه الصيغة أسلوبية. وأن الآيات بسبيل التنديد والتقريع وإعلان حالة المنافقين على حقيقتها من كفر وكسل واستثقال وكره أولا، ثم بسبيل التهوين مما عندهم من كثرة مال وأولاد.
وفي الآيات ما يدل على أن طبقة المنافقين كانت أو كان أكثرها من ذوي اليسار والجاه. ولعل هذا من أسباب ما كان منها من مخامرة ونفاق. وكان هذا من أسباب ما لقيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مكة من مناوأة على ما شرحناه في مناسبات عديدة في السور المكية.
والخطاب وإن كان موجها إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فإنه موجه إلى المسلمين من جهة وإلى المنافقين من جهة أخرى على ما يلهمه روحها وهدفها. للأولين على سبيل التعليم والتعليل والتهوين والتسلية، وللآخرين على سبيل التنديد والإنذار والزراية
ولقد تعددت تخريجات المؤولين على ما يرويه المفسرون لما ظنوه إشكالا في جملة :﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ من حيث إن الأموال والأولاد في الدنيا يسببون السرور لا العذاب.. من ذلك أن في الجملة تقديما وتأخيرا وأن تقديرها :﴿ فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ ﴾ فيصبح معناها إن الله سوف يعذبهم بها في الآخرة بسبب حبسهم أموالهم عن سبيل الله وتفاخرهم بأموالهم وأولادهم وفسادهم في الأرض. ومنها أن عذابهم بها في الدنيا هو وعيد رباني بأنه سوف يسلط عليهم بسبب مواقفهم الصادة عن سبيل الله وتفاخرهم بأموالهم وأولادهم المصائب والضرائب والحسرات. ومنها أن جملة تنطوي على معنى كون أموالهم وأولادهم هي من قبيل الاستدراج والابتلاء وليست من قبيل الحظوة من الله على ما جاء في آيات عديدة في سور سبق تفسيرها مثل باب سورة القلم ( ٤٤ و ٤٥ ) وطه ( ١٣١ ) والمؤمنون ( ٥٤ – ٥٦ ) وآل عمران ( ١١٨ ) فلا ينبغي أن يثير ذلك عجب النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين.
والتأويلان الثاني والثالث هما أوجه من التأويل الأول فيما نرى مع القول : إنه يصح مزج التأويلين معا. وقد يصح أن يقال أيضا : إن حكمة التنزيل هدفت إلى تهوين شأن أموال المنافقين وأولادهم وبث روح القوة والتعالي في نفوس المؤمنين المخلصين. وهو ما انطوى أيضا في الآيات المشار إلى سورها وأرقامها آنفا.
وعلى كل حال إن الآيات موضوعيا هي في صدد منافقين مخامرين في إيمانهم وصلواتهم وصدقاتهم. وقد احتوت الآية ( ٥٤ ) تعليلا قويا للوعيد الرباني الذي تضمنته الآية ( ٥٥ ) ويجب أن يبقى ويؤخذ مدى الآيتين في هذا النطاق.
وفي الآيات كما في سابقاتها تلقين مستمر المدى والأثر. فلا ينبغي أن يكون لأموال ذوي القلوب المريضة ومظاهر قوتهم تأثير في الموقف الذي يجب أن يوقف منهم إزاء ما يبدو منهم من تثاقل في أداء الواجبات ورغبة في التفلت منها.
ولا ينبغي أن يكون ما يقدمونه أحيانا مساعدات بضغط ظروف المجتمع وسيلة إلى الإغضاء عن المواقف التخريبية والمخامرات الضارة التي تبدر منهم.
١ انظر أيضا البغوي والخازن وابن كثير والطبرسي..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٥٣:﴿ قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ ( ٥٣ ) وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ ( ٥٤ ) فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ( ٥٥ ) ﴾ ( ٥٣ – ٥٥ ).
الخطاب في الآيات موجه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وفيها :
( ١ ) أمر بأن يعلن للمنافقين بأن الله لن يتقبل منهم ما يريدون أن ينفقوه طوعا من تلقاء أنفسهم أو رغما عنهم وكرها بضغط الظروف والموقف لأنهم قوم فاسقون، كفرا بالله ورسوله، ولا يقومون إلى الصلاة إلا مع الكسل وعدم الرغبة الصادقة، ولا ينفقون ما يريدون إنفاقه إلا مع الكراهية والاستثقال.
( ٢ ) وتسلية وتطمين له : فلا ينبغي أن يأخذ العجب من كثرة أموالهم وأولادهم. فإنما هي وسائل عذاب لهم في الدنيا حتى تزهق أنفسهم وهم كافرون جاهدون.

تعليق على الآية :

﴿ قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ..... ﴾
والآيتين التاليتين لها وما فيها من تلقين
وقد روى الطبري وغيره ( ١ )١، أن الآية الأولى نزلت بمناسبة ما وعد به المنافق الجد من مساعدة مالية حينما استأذن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالقعود والتخلف عن الحملة.
ويلحظ أن الأمر في الآية بسبيل إعلان لأكثر من شخص من المنافقين ؛ حيث يفيد هذا أن أكثر من واحد من المنافقين المستأذنين بالتخلف أرادوا أن يجاملوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالاشتراك في نفقات الحملة. ومهما يكن من أمر فالذي نرجحه أن الآيات لم تنزل لحدتها وأنها استمرار للسياق وجزء من السلسلة.
ومع أن صيغة الآيات تفيد في ظاهرها أنها أمر بتوجيه الخطاب إلى المنافقين السامعين له فالذي يتبادر لنا استلهاما من روح الآيات وفحواها وبخاصة الآية الثانية والثالثة منها، ثم من نزول السلسلة في أثناء السفر على ما تلهمه بعض آياتها أن هذه الصيغة أسلوبية. وأن الآيات بسبيل التنديد والتقريع وإعلان حالة المنافقين على حقيقتها من كفر وكسل واستثقال وكره أولا، ثم بسبيل التهوين مما عندهم من كثرة مال وأولاد.
وفي الآيات ما يدل على أن طبقة المنافقين كانت أو كان أكثرها من ذوي اليسار والجاه. ولعل هذا من أسباب ما كان منها من مخامرة ونفاق. وكان هذا من أسباب ما لقيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مكة من مناوأة على ما شرحناه في مناسبات عديدة في السور المكية.
والخطاب وإن كان موجها إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فإنه موجه إلى المسلمين من جهة وإلى المنافقين من جهة أخرى على ما يلهمه روحها وهدفها. للأولين على سبيل التعليم والتعليل والتهوين والتسلية، وللآخرين على سبيل التنديد والإنذار والزراية
ولقد تعددت تخريجات المؤولين على ما يرويه المفسرون لما ظنوه إشكالا في جملة :﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ من حيث إن الأموال والأولاد في الدنيا يسببون السرور لا العذاب.. من ذلك أن في الجملة تقديما وتأخيرا وأن تقديرها :﴿ فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ ﴾ فيصبح معناها إن الله سوف يعذبهم بها في الآخرة بسبب حبسهم أموالهم عن سبيل الله وتفاخرهم بأموالهم وأولادهم وفسادهم في الأرض. ومنها أن عذابهم بها في الدنيا هو وعيد رباني بأنه سوف يسلط عليهم بسبب مواقفهم الصادة عن سبيل الله وتفاخرهم بأموالهم وأولادهم المصائب والضرائب والحسرات. ومنها أن جملة تنطوي على معنى كون أموالهم وأولادهم هي من قبيل الاستدراج والابتلاء وليست من قبيل الحظوة من الله على ما جاء في آيات عديدة في سور سبق تفسيرها مثل باب سورة القلم ( ٤٤ و ٤٥ ) وطه ( ١٣١ ) والمؤمنون ( ٥٤ – ٥٦ ) وآل عمران ( ١١٨ ) فلا ينبغي أن يثير ذلك عجب النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين.
والتأويلان الثاني والثالث هما أوجه من التأويل الأول فيما نرى مع القول : إنه يصح مزج التأويلين معا. وقد يصح أن يقال أيضا : إن حكمة التنزيل هدفت إلى تهوين شأن أموال المنافقين وأولادهم وبث روح القوة والتعالي في نفوس المؤمنين المخلصين. وهو ما انطوى أيضا في الآيات المشار إلى سورها وأرقامها آنفا.
وعلى كل حال إن الآيات موضوعيا هي في صدد منافقين مخامرين في إيمانهم وصلواتهم وصدقاتهم. وقد احتوت الآية ( ٥٤ ) تعليلا قويا للوعيد الرباني الذي تضمنته الآية ( ٥٥ ) ويجب أن يبقى ويؤخذ مدى الآيتين في هذا النطاق.
وفي الآيات كما في سابقاتها تلقين مستمر المدى والأثر. فلا ينبغي أن يكون لأموال ذوي القلوب المريضة ومظاهر قوتهم تأثير في الموقف الذي يجب أن يوقف منهم إزاء ما يبدو منهم من تثاقل في أداء الواجبات ورغبة في التفلت منها.
ولا ينبغي أن يكون ما يقدمونه أحيانا مساعدات بضغط ظروف المجتمع وسيلة إلى الإغضاء عن المواقف التخريبية والمخامرات الضارة التي تبدر منهم.
١ انظر أيضا البغوي والخازن وابن كثير والطبرسي..

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٥٣:﴿ قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ ( ٥٣ ) وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ ( ٥٤ ) فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ( ٥٥ ) ﴾ ( ٥٣ – ٥٥ ).
الخطاب في الآيات موجه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وفيها :
( ١ ) أمر بأن يعلن للمنافقين بأن الله لن يتقبل منهم ما يريدون أن ينفقوه طوعا من تلقاء أنفسهم أو رغما عنهم وكرها بضغط الظروف والموقف لأنهم قوم فاسقون، كفرا بالله ورسوله، ولا يقومون إلى الصلاة إلا مع الكسل وعدم الرغبة الصادقة، ولا ينفقون ما يريدون إنفاقه إلا مع الكراهية والاستثقال.
( ٢ ) وتسلية وتطمين له : فلا ينبغي أن يأخذ العجب من كثرة أموالهم وأولادهم. فإنما هي وسائل عذاب لهم في الدنيا حتى تزهق أنفسهم وهم كافرون جاهدون.

تعليق على الآية :

﴿ قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ..... ﴾
والآيتين التاليتين لها وما فيها من تلقين
وقد روى الطبري وغيره ( ١ )١، أن الآية الأولى نزلت بمناسبة ما وعد به المنافق الجد من مساعدة مالية حينما استأذن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالقعود والتخلف عن الحملة.
ويلحظ أن الأمر في الآية بسبيل إعلان لأكثر من شخص من المنافقين ؛ حيث يفيد هذا أن أكثر من واحد من المنافقين المستأذنين بالتخلف أرادوا أن يجاملوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالاشتراك في نفقات الحملة. ومهما يكن من أمر فالذي نرجحه أن الآيات لم تنزل لحدتها وأنها استمرار للسياق وجزء من السلسلة.
ومع أن صيغة الآيات تفيد في ظاهرها أنها أمر بتوجيه الخطاب إلى المنافقين السامعين له فالذي يتبادر لنا استلهاما من روح الآيات وفحواها وبخاصة الآية الثانية والثالثة منها، ثم من نزول السلسلة في أثناء السفر على ما تلهمه بعض آياتها أن هذه الصيغة أسلوبية. وأن الآيات بسبيل التنديد والتقريع وإعلان حالة المنافقين على حقيقتها من كفر وكسل واستثقال وكره أولا، ثم بسبيل التهوين مما عندهم من كثرة مال وأولاد.
وفي الآيات ما يدل على أن طبقة المنافقين كانت أو كان أكثرها من ذوي اليسار والجاه. ولعل هذا من أسباب ما كان منها من مخامرة ونفاق. وكان هذا من أسباب ما لقيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مكة من مناوأة على ما شرحناه في مناسبات عديدة في السور المكية.
والخطاب وإن كان موجها إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فإنه موجه إلى المسلمين من جهة وإلى المنافقين من جهة أخرى على ما يلهمه روحها وهدفها. للأولين على سبيل التعليم والتعليل والتهوين والتسلية، وللآخرين على سبيل التنديد والإنذار والزراية
ولقد تعددت تخريجات المؤولين على ما يرويه المفسرون لما ظنوه إشكالا في جملة :﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ من حيث إن الأموال والأولاد في الدنيا يسببون السرور لا العذاب.. من ذلك أن في الجملة تقديما وتأخيرا وأن تقديرها :﴿ فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ ﴾ فيصبح معناها إن الله سوف يعذبهم بها في الآخرة بسبب حبسهم أموالهم عن سبيل الله وتفاخرهم بأموالهم وأولادهم وفسادهم في الأرض. ومنها أن عذابهم بها في الدنيا هو وعيد رباني بأنه سوف يسلط عليهم بسبب مواقفهم الصادة عن سبيل الله وتفاخرهم بأموالهم وأولادهم المصائب والضرائب والحسرات. ومنها أن جملة تنطوي على معنى كون أموالهم وأولادهم هي من قبيل الاستدراج والابتلاء وليست من قبيل الحظوة من الله على ما جاء في آيات عديدة في سور سبق تفسيرها مثل باب سورة القلم ( ٤٤ و ٤٥ ) وطه ( ١٣١ ) والمؤمنون ( ٥٤ – ٥٦ ) وآل عمران ( ١١٨ ) فلا ينبغي أن يثير ذلك عجب النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين.
والتأويلان الثاني والثالث هما أوجه من التأويل الأول فيما نرى مع القول : إنه يصح مزج التأويلين معا. وقد يصح أن يقال أيضا : إن حكمة التنزيل هدفت إلى تهوين شأن أموال المنافقين وأولادهم وبث روح القوة والتعالي في نفوس المؤمنين المخلصين. وهو ما انطوى أيضا في الآيات المشار إلى سورها وأرقامها آنفا.
وعلى كل حال إن الآيات موضوعيا هي في صدد منافقين مخامرين في إيمانهم وصلواتهم وصدقاتهم. وقد احتوت الآية ( ٥٤ ) تعليلا قويا للوعيد الرباني الذي تضمنته الآية ( ٥٥ ) ويجب أن يبقى ويؤخذ مدى الآيتين في هذا النطاق.
وفي الآيات كما في سابقاتها تلقين مستمر المدى والأثر. فلا ينبغي أن يكون لأموال ذوي القلوب المريضة ومظاهر قوتهم تأثير في الموقف الذي يجب أن يوقف منهم إزاء ما يبدو منهم من تثاقل في أداء الواجبات ورغبة في التفلت منها.
ولا ينبغي أن يكون ما يقدمونه أحيانا مساعدات بضغط ظروف المجتمع وسيلة إلى الإغضاء عن المواقف التخريبية والمخامرات الضارة التي تبدر منهم.
١ انظر أيضا البغوي والخازن وابن كثير والطبرسي..

( ١ ) يفرقون : يخافون.
﴿ وَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَـكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ ( ١ ) ( ٥٦ ) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً ( ٢ ) لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ ( ٣ ) ( ٥٧ ) ﴾ ( ٥٦ – ٥٧ ).
الخطاب في الآيتين موجه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين يقرر به :
( ١ ) أن المنافقين يحلفون لهم بالله إنهم منهم وعلى ملتهم وهم في الحقيقة ليسوا كذلك.
( ٢ ) وإنما يحملهم على ذلك فزعهم وخوفهم، وأنهم لو وجدوا ملجأ يعتصمون به أو مغارات يختفون فيها أو مدخلا ما يجعلهم في أمان لسارعوا إلى ذلك تخلصا من الموقف الثقيل عليهم. والخطر الذي يهددهم ويحملهم على النفاق والمراءاة.

تعليق على الآية :

﴿ وَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَـكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ ﴾
والآية التالية لها وما فيها من صور وتلقين
ولا يروي المفسرون رواية خاصة في صدد الآيتين. والمتبادر أنهما استمرار في السياق والموضوع وجزء من السلسلة. وفيهما توكيد آخر وأقوى لما قلناه قبل من تطور موقف المنافقين وخضد شوكتهم وتناقص عددهم واضطرارهم إلى المجاملة والتوكيد بإخلاصهم أكثر من ذي قبل. كما أن فيهما تقريرا لحقيقة حالهم وعدم تبدلها برغم ما يظهرونه من مجاملة وتوكيد بسبيل فضيحتهم وتقريعهم والتحذير منهم.
والصورة التي ترسمها الآيتان قوية رائعة حقا. وهي من الصور التي تشاهد خاصة حينما يستعلي المخلصون في ظروف النضال. وفيهما تلقين مستمر المدى والأثر بوجوب الانتباه لهذه الفئة وعد الانخداع بما تظهره من ضروب الرياء والمداهنة.
( ٢ ) مدخلا : مكانا يدخلون إليه ليستخفوا فيه.
( ٣ ) يجمحون : يسرعون.
﴿ وَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَـكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ ( ١ ) ( ٥٦ ) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً ( ٢ ) لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ ( ٣ ) ( ٥٧ ) ﴾ ( ٥٦ – ٥٧ ).
الخطاب في الآيتين موجه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين يقرر به :
( ١ ) أن المنافقين يحلفون لهم بالله إنهم منهم وعلى ملتهم وهم في الحقيقة ليسوا كذلك.
( ٢ ) وإنما يحملهم على ذلك فزعهم وخوفهم، وأنهم لو وجدوا ملجأ يعتصمون به أو مغارات يختفون فيها أو مدخلا ما يجعلهم في أمان لسارعوا إلى ذلك تخلصا من الموقف الثقيل عليهم. والخطر الذي يهددهم ويحملهم على النفاق والمراءاة.

تعليق على الآية :

﴿ وَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَـكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ ﴾
والآية التالية لها وما فيها من صور وتلقين
ولا يروي المفسرون رواية خاصة في صدد الآيتين. والمتبادر أنهما استمرار في السياق والموضوع وجزء من السلسلة. وفيهما توكيد آخر وأقوى لما قلناه قبل من تطور موقف المنافقين وخضد شوكتهم وتناقص عددهم واضطرارهم إلى المجاملة والتوكيد بإخلاصهم أكثر من ذي قبل. كما أن فيهما تقريرا لحقيقة حالهم وعدم تبدلها برغم ما يظهرونه من مجاملة وتوكيد بسبيل فضيحتهم وتقريعهم والتحذير منهم.
والصورة التي ترسمها الآيتان قوية رائعة حقا. وهي من الصور التي تشاهد خاصة حينما يستعلي المخلصون في ظروف النضال. وفيهما تلقين مستمر المدى والأثر بوجوب الانتباه لهذه الفئة وعد الانخداع بما تظهره من ضروب الرياء والمداهنة.
( ١ ) يلمزك : يطعن فيك أو يعيب عليك. ومعنى الكلمة هنا : ينسب إليك المحاباة.
( ٢ ) الصدقات : هنا كناية عن الزكاة.
﴿ وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ ( ١ ) فِي الصَّدَقَاتِ ( ٢ ) فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ ( ٥٨ ) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا آتَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ ( ٥٩ ) إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا ( ٣ ) وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ ( ٤ ) وَفِي الرِّقَابِ ( ٥ ) وَالْغَارِمِينَ ( ٦ ) وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( ٦٠ ) ﴾ ( ٥٨ – ٦٠ ).

في الآيات :

( ١ ) إشارة إلى صورة أخرى من صور المنافقين ومواقفهم : فإن منهم من كان ينسب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم المحاباة في توزيع الصدقات ويعيب عليه ذلك. وكان هذا منهم لمنافعهم الخاصة ومآربهم الشخصية حيث كانوا يسخطون إذا لم يعطهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم منها ويرضون إذا أعطاهم.
( ٢ ) وتنديد بهم فقد كان الأولى بهم أن يرضوا بما آتاهم الله ورسوله وأن يعلنوا ثقتهم واكتفاءهم بفضل الله ورسوله ورغبتهم بما عند الله.
( ٣ ) وتقرير لأصناف المصارف التي لا يجوز أن تصرف الصدقات إلى غيرها لتعطى لمن لا يستحقها وهي الفقراء والمساكين والموظفون القائمون بأمرها والمؤلفة قلوبهم وعتق العبيد والغارمون وفي سبيل الله وابن السبيل حيث كان هذا فرض الله الواجب الوقوف عنده وهو العليم بمقتضيات الأمور الحكيم الذي لا يأمر إلا بما فيه الحكمة.

تعليق على الآية :

﴿ وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ......................... ﴾
والآيتين التاليتين لها وما فيها من صور وتلقين.
وما روي في صددها من روايات، وما روي من أحاديث
وأقوال ومذاهب متنوعة في مصارف الزكاة وتوزيعها
ونصاب الزكاة في مختلف الأنواع وجبايتها
ولقد روى البخاري حديثا عن أبي سعيد في سياق هذه الآية قال :( إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعث إليه بشيء فقسمه بين أربعة وقال : أتألفهم فقال رجل : ما عدلت. فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : يخرج من ضئضئ هذا قوم يمرقون من الدين ) ( ١ )١. وروى الطبري هذا الحديث بزيادة كبيرة عن أبي سعيد قال :( إن رسول الله كان يقسم إذا جاءه ذو الخويصرة التميمي فقال : اعدل يا رسول الله. فقال : ويلك ومن يعدل إن لم أعدل. فقال عمر بن الخطاب : ائذن لي فأضرب عنقه، فقال : دعه فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فينظر في قدحه فلا ينظر شيئا، ثم ينظر في نصله فلا يجد شيئا، ثم ينظر في رصافه فلا يجد شيئا قد سبق الفرث الدم، آيتهم رجل أسود إحدى يديه مثل ثدي المرأة أو مثل البضعة. يخرجون على حين فترة من الناس. قال أبو سعيد : أشهد أني سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأشهد أن عليا حين قتلهم – يعني الخوارج – جيء بالرجل على النعت الذي نعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ) ( ١ )٢. وروى الطبري أيضا أن رجلا من أهل البادية حديث عهد بالإسلام أتى نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقسم ذهبا وفضة فقال : يا محمد والله لئن كان الله أمرك أن تعدل ما عدلت. فقال له : ويلك فمن ذا يعدل ؟ ثم قال : احذروا هذا وأشباهه. فإن من أمتي أشباه هذا، يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم فإذا خرجوا فاقتلوهم ثم إذا خرجوا فاقتلوهم ثم إذا خرجوا فاقتلوهم. وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول : والذي نفسي بيده ما أعطيكم شيئا ولا أمنعكموه إنما أنا خازن. وروي أيضا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أتى بصدقة فقسمها ها هنا وها هنا حتى ذهبت، ورآه رجل من الأنصار فقال : ما هذا بالعدل فنزلت الآية. وننبه على أن الطبري لم يذكر أن الآية نزلت إلا في مناسبة الرواية الأخيرة دون الروايتين السابقتين وكذلك البخاري فإنه لم يذكر في حديثه أن الرواية التي تضمنها الحديث كانت سبب نزول الآية ( ٢ )٣.
وذو الخويصرة هو حرقوص بن زهير الذي يذكر شراح الأحاديث أنه المعني في الحديث الأول كان على رأس الجماعات التي خرجت من البصرة إلى المدينة واشتركت في الفتنة التي أدت إلى قتل عثمان رضي الله عنه. وبايع عليا رضي الله عنه وكان في جيشه مع قومه، وحارب معه في وقعة الجمل التي كانت بينه وبين الجموع التي تجمعت حول عائشة والزبير وطلحة رضي عنهم للمطالبة بدم عثمان والثأر من قاتليه ثم في وقعة صفين بين علي ومعاوية رضي الله عنهما. ثم كان من الذين خرجوا على علي لقبوله التحكيم وقتل من قتل في وقعة النهروان التي كانت بين علي وأتباعه وبين الخوارج ( ١ )٤. ولقد روى الطبري أن علي بن أبي طالب قال لأتباعه حين انتهت وقعة النهروان : إنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : إن قوما يخرجون من الإسلام يمرقون من الدين كان يمرق السهم من الرمية علامتهم رجل مخدج اليد، وأمر أتباعه أن يلتمسوه بين القتلى وأن يقطعوا يده ويأتوه بها إذا وجدوه. وقد وجدوا فعلا رجلا مخدج اليد بين القتلى فقطعوا يده وأتوه بها فلما رآها قال : ما كذبت ولا كذبت ( ٢ )٥.
والمشهور أن الخوارج كانوا من أشد المسلمين تعبدا بالصلاة والصيام وقراءة القرآن وتقشفا في الحياة ؛ حيث ينطبق كل ذلك على الوصف الذي احتوته الأحاديث. وإذا صح حديث علي الذي يرويه الطبري فيكون فيه، وعلى ضوء الأحاديث الأخرى فيكون فيها معجزة نبوية بإخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم بغيب وقع بعد موته. هذا مع التنبيه إلى أن قولنا يصح إذا كانت الوقائع المماثلة أكثر من واحدة ؛ لأن الأشخاص المحكية عنهم متنوعون كما هو واضح من الأحاديث ومع التنبيه كذلك إلى أن روح الآية الثانية قد تلهم أن الذي صدر منه القول أو أحد من صدر منهم القول – إذا كانت الوقائع متعددة – من منافقي المدينة. وهذا ما ينطبق على الرواية الأخيرة. والله أعلم.
ومهما يكن من أمر فالذي يتبادر لنا من عطف الآيات على سابقتها. ومن ضمير الجمع الغائب الذي يعبر عن فريق كان موضوع الحديث في الآيات السابقة أن الآيات لم تنزل لمناسبة من المناسبات المروية لحدتها وأنها ليست منفصلة عن السياق. وكل ما في الأمر أنها احتوت إشارة إلى موقف كان وقفه بعض المنافقين من نوع ما ذكرته الأحاديث في معرض التذكير بأقوال ومواقف المنافقين وتقريعهم والتنديد بهم بمناسبة تثاقلهم عن غزوة تبوك.
والموقف الذي حكته الآية الأولى يدل على ما كان من جرأة المنافقين على الطعن في ذمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعدله والتهويش عليه في سبيل منافعهم الخاصة. ويدل على ما كانوا عليه من خبث طوية وفراغ إيمان وقلة ثقة بالله ورسوله. ثم على ما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يلقاه من هذه الفئة الخبيثة. والذي نرجحه أن ذلك الموقف مما كان يبدر منهم حينما كانوا أكثر قوة أو حينما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون أقل قوة واستعلاء مما صاروا إليه حين نزول الآيات. وقد أشير إليه هنا على سبيل التذكير والتنديد كما قلنا.
والموقف المحكي هي في الآية الأولى فقط. أما الآيتان الأخريان فقد جاءتا على سبيل التعقيب والاستطراد حيث احتوت الثانية تنديدا بالمنافقين وتنبيها إلى ما كان الأولى بهم لو كانوا مخلصين حقا، وحيث احتوت الثالثة تحديدا للمصارف التي لا يجوز أن تعطى الصدقات لغيرها.
ومع أن الآية الثالثة قد جاءت مع الآية الثانية كما قلنا على سبيل التعقيب والاستطراد فإنها هي الوحيدة التي وردت في القرآن عن أصناف مستحقي الصدقات جميعها وكانت من أجل ذلك هي المستند التشريعي في هذا الأمر.
والمجمع عليه أن الصدقات المقصودة في الآية هي الزكاة المفروضة خاصة. ولعل ورود جملة :﴿ فريضة من الله ﴾ في الآية قرينة على ذلك. هذا مع القول : إن هذه الجملة قد تكون في نفس الوقت بسبيل التشديد على واجب إبقاء الزكاة في نطاق مصارفها المعينة.
والمفروض في الآية الثالثة هو مصارف الزكاة وليست الزكاة ؛ لأن فريضة الزكاة قد فرضت كما استلهمنا من آيات مكية منذ أواسط العهد المكي أو قبل ذلك. وقد استلهمنا من آيات مكية أخرى أن مقاديرها أيضا كانت معينة في العهد المكي على ما نبهنا عليه في سياق سور الأنعام والذاريات والمعارج والمزمل.
وبناء على ذلك نعتقد أن القول بأن في الآية فرضا للزكاة هو تحميل لها غير ما تحمله نصا وروحا. وغير متسق مع الأوامر القرآنية العديدة المكية ثم المدنية التي نزلت قبل هذه الآية بمدة غير قصيرة بوجوب إيتاء الزكاة وقرنها بالصلاة واعتبارهما الركنين المتلازمين اللذين لا بد منهما لصحة دعوى الإسلام.
ولقد قال بعضهم : إن هذه الآية نسخت ما جاء في القرآن من أوامر الصدقة حيث قامت فريضة الزكاة مقام ذلك. وهذا القول منبثق من اعتبار الآية فرضا للزكاة. قد نبهنا على ما في هذا الاعتبار من تجوز قبل قليل. وهذا فضلا عن أن روح الآيات القرآنية الكثيرة المكية والمدنية تلهم بكل قوة أنها أوسع من أن تحصر الصدقة بالقدر المحدود المستوجب بالزكاة المفروضة. فمهما كثر مقدار هذه الزكاة فإن مجال الإنفاق في سبيل الله في معناها الشامل وفي وجوه البر ومساعدة المحتاجين يظل أوسع من أن يملأ ذلك القدر المحدود، وتظل حكمة التنزيل مستمرة المفعول بالنسبة للصدقات التطوعية. وفي الآية ( ١٠٣ ) من هذه السورة التي نزلت بعد الآيات التي نحن في صددها دلالة قوية على ذلك ؛ حيث تأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأخذ صدقة من أموال الذين يخلطون عملا صالحا وآخر سيئا ليزكيهم ويطهرهم بها. والمتبادر أن هذه الصدقة هي غير الزكاة المفروضة. وهناك حديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيه دليل على ذلك رواه الترمذي عن فاطمة بنت قيس قالت :( سألت النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو سئل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الزكاة فقال : إن في المال لحقا سوى الزكاة. ثم تلا :﴿ ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ﴾ إلى آخر آية سورة البقرة ( ١٧٧ ) ( ١ )٦. وفيها أمر بإيتاء المال بالإضافة إلى ذكر الزكاة..... وفي الآية الأخيرة من سورة المزمل جملة لها مغزى عظيم في هذا الباب وهي :﴿ وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأقرضوا الله قرضا حسنا وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خير وأعظم أجر......... ﴾.
وكل هذا يسوغ القول : إن الزكاة المفروضة المحددة المقدار بالسنة النبوية هي الحد الأدنى لما يجب على صاحب المال أن يؤديه تطهيرا لماله.
والزكاة واجبة على جميع الأموال التي تبلغ النصاب الأدنى المعين بالسنة النبوية. وتشمل الغلات الزراعية شجرا أو حبا والماشية والنقود والعروض التجارية المتنوعة الأخرى كما هو المجمع عليه أيضا. والقرآن لم يعين إلا مصارفها. أما المقادير الواجبة فقد عينتها السنة النبوية. وإذا لاحظنا أن الآية الثالثة إنما جاءت على سبيل الاستطراد والتعقيب والرد على اللامزين ظهرت لنا حكمة عدم ذكر المقادير فيها. ويصح أن يقال : إن هذا الأمر ترك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم يتصرف فيه بإلهام الله وفقا لما تمليه الظروف و
﴿ وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ ( ١ ) فِي الصَّدَقَاتِ ( ٢ ) فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ ( ٥٨ ) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا آتَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ ( ٥٩ ) إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا ( ٣ ) وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ ( ٤ ) وَفِي الرِّقَابِ ( ٥ ) وَالْغَارِمِينَ ( ٦ ) وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( ٦٠ ) ﴾ ( ٥٨ – ٦٠ ).

في الآيات :

( ١ ) إشارة إلى صورة أخرى من صور المنافقين ومواقفهم : فإن منهم من كان ينسب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم المحاباة في توزيع الصدقات ويعيب عليه ذلك. وكان هذا منهم لمنافعهم الخاصة ومآربهم الشخصية حيث كانوا يسخطون إذا لم يعطهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم منها ويرضون إذا أعطاهم.
( ٢ ) وتنديد بهم فقد كان الأولى بهم أن يرضوا بما آتاهم الله ورسوله وأن يعلنوا ثقتهم واكتفاءهم بفضل الله ورسوله ورغبتهم بما عند الله.
( ٣ ) وتقرير لأصناف المصارف التي لا يجوز أن تصرف الصدقات إلى غيرها لتعطى لمن لا يستحقها وهي الفقراء والمساكين والموظفون القائمون بأمرها والمؤلفة قلوبهم وعتق العبيد والغارمون وفي سبيل الله وابن السبيل حيث كان هذا فرض الله الواجب الوقوف عنده وهو العليم بمقتضيات الأمور الحكيم الذي لا يأمر إلا بما فيه الحكمة.

تعليق على الآية :

﴿ وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ......................... ﴾
والآيتين التاليتين لها وما فيها من صور وتلقين.
وما روي في صددها من روايات، وما روي من أحاديث
وأقوال ومذاهب متنوعة في مصارف الزكاة وتوزيعها
ونصاب الزكاة في مختلف الأنواع وجبايتها
ولقد روى البخاري حديثا عن أبي سعيد في سياق هذه الآية قال :( إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعث إليه بشيء فقسمه بين أربعة وقال : أتألفهم فقال رجل : ما عدلت. فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : يخرج من ضئضئ هذا قوم يمرقون من الدين ) ( ١ )١. وروى الطبري هذا الحديث بزيادة كبيرة عن أبي سعيد قال :( إن رسول الله كان يقسم إذا جاءه ذو الخويصرة التميمي فقال : اعدل يا رسول الله. فقال : ويلك ومن يعدل إن لم أعدل. فقال عمر بن الخطاب : ائذن لي فأضرب عنقه، فقال : دعه فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فينظر في قدحه فلا ينظر شيئا، ثم ينظر في نصله فلا يجد شيئا، ثم ينظر في رصافه فلا يجد شيئا قد سبق الفرث الدم، آيتهم رجل أسود إحدى يديه مثل ثدي المرأة أو مثل البضعة. يخرجون على حين فترة من الناس. قال أبو سعيد : أشهد أني سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأشهد أن عليا حين قتلهم – يعني الخوارج – جيء بالرجل على النعت الذي نعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ) ( ١ )٢. وروى الطبري أيضا أن رجلا من أهل البادية حديث عهد بالإسلام أتى نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقسم ذهبا وفضة فقال : يا محمد والله لئن كان الله أمرك أن تعدل ما عدلت. فقال له : ويلك فمن ذا يعدل ؟ ثم قال : احذروا هذا وأشباهه. فإن من أمتي أشباه هذا، يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم فإذا خرجوا فاقتلوهم ثم إذا خرجوا فاقتلوهم ثم إذا خرجوا فاقتلوهم. وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول : والذي نفسي بيده ما أعطيكم شيئا ولا أمنعكموه إنما أنا خازن. وروي أيضا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أتى بصدقة فقسمها ها هنا وها هنا حتى ذهبت، ورآه رجل من الأنصار فقال : ما هذا بالعدل فنزلت الآية. وننبه على أن الطبري لم يذكر أن الآية نزلت إلا في مناسبة الرواية الأخيرة دون الروايتين السابقتين وكذلك البخاري فإنه لم يذكر في حديثه أن الرواية التي تضمنها الحديث كانت سبب نزول الآية ( ٢ )٣.
وذو الخويصرة هو حرقوص بن زهير الذي يذكر شراح الأحاديث أنه المعني في الحديث الأول كان على رأس الجماعات التي خرجت من البصرة إلى المدينة واشتركت في الفتنة التي أدت إلى قتل عثمان رضي الله عنه. وبايع عليا رضي الله عنه وكان في جيشه مع قومه، وحارب معه في وقعة الجمل التي كانت بينه وبين الجموع التي تجمعت حول عائشة والزبير وطلحة رضي عنهم للمطالبة بدم عثمان والثأر من قاتليه ثم في وقعة صفين بين علي ومعاوية رضي الله عنهما. ثم كان من الذين خرجوا على علي لقبوله التحكيم وقتل من قتل في وقعة النهروان التي كانت بين علي وأتباعه وبين الخوارج ( ١ )٤. ولقد روى الطبري أن علي بن أبي طالب قال لأتباعه حين انتهت وقعة النهروان : إنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : إن قوما يخرجون من الإسلام يمرقون من الدين كان يمرق السهم من الرمية علامتهم رجل مخدج اليد، وأمر أتباعه أن يلتمسوه بين القتلى وأن يقطعوا يده ويأتوه بها إذا وجدوه. وقد وجدوا فعلا رجلا مخدج اليد بين القتلى فقطعوا يده وأتوه بها فلما رآها قال : ما كذبت ولا كذبت ( ٢ )٥.
والمشهور أن الخوارج كانوا من أشد المسلمين تعبدا بالصلاة والصيام وقراءة القرآن وتقشفا في الحياة ؛ حيث ينطبق كل ذلك على الوصف الذي احتوته الأحاديث. وإذا صح حديث علي الذي يرويه الطبري فيكون فيه، وعلى ضوء الأحاديث الأخرى فيكون فيها معجزة نبوية بإخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم بغيب وقع بعد موته. هذا مع التنبيه إلى أن قولنا يصح إذا كانت الوقائع المماثلة أكثر من واحدة ؛ لأن الأشخاص المحكية عنهم متنوعون كما هو واضح من الأحاديث ومع التنبيه كذلك إلى أن روح الآية الثانية قد تلهم أن الذي صدر منه القول أو أحد من صدر منهم القول – إذا كانت الوقائع متعددة – من منافقي المدينة. وهذا ما ينطبق على الرواية الأخيرة. والله أعلم.
ومهما يكن من أمر فالذي يتبادر لنا من عطف الآيات على سابقتها. ومن ضمير الجمع الغائب الذي يعبر عن فريق كان موضوع الحديث في الآيات السابقة أن الآيات لم تنزل لمناسبة من المناسبات المروية لحدتها وأنها ليست منفصلة عن السياق. وكل ما في الأمر أنها احتوت إشارة إلى موقف كان وقفه بعض المنافقين من نوع ما ذكرته الأحاديث في معرض التذكير بأقوال ومواقف المنافقين وتقريعهم والتنديد بهم بمناسبة تثاقلهم عن غزوة تبوك.
والموقف الذي حكته الآية الأولى يدل على ما كان من جرأة المنافقين على الطعن في ذمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعدله والتهويش عليه في سبيل منافعهم الخاصة. ويدل على ما كانوا عليه من خبث طوية وفراغ إيمان وقلة ثقة بالله ورسوله. ثم على ما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يلقاه من هذه الفئة الخبيثة. والذي نرجحه أن ذلك الموقف مما كان يبدر منهم حينما كانوا أكثر قوة أو حينما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون أقل قوة واستعلاء مما صاروا إليه حين نزول الآيات. وقد أشير إليه هنا على سبيل التذكير والتنديد كما قلنا.
والموقف المحكي هي في الآية الأولى فقط. أما الآيتان الأخريان فقد جاءتا على سبيل التعقيب والاستطراد حيث احتوت الثانية تنديدا بالمنافقين وتنبيها إلى ما كان الأولى بهم لو كانوا مخلصين حقا، وحيث احتوت الثالثة تحديدا للمصارف التي لا يجوز أن تعطى الصدقات لغيرها.
ومع أن الآية الثالثة قد جاءت مع الآية الثانية كما قلنا على سبيل التعقيب والاستطراد فإنها هي الوحيدة التي وردت في القرآن عن أصناف مستحقي الصدقات جميعها وكانت من أجل ذلك هي المستند التشريعي في هذا الأمر.
والمجمع عليه أن الصدقات المقصودة في الآية هي الزكاة المفروضة خاصة. ولعل ورود جملة :﴿ فريضة من الله ﴾ في الآية قرينة على ذلك. هذا مع القول : إن هذه الجملة قد تكون في نفس الوقت بسبيل التشديد على واجب إبقاء الزكاة في نطاق مصارفها المعينة.
والمفروض في الآية الثالثة هو مصارف الزكاة وليست الزكاة ؛ لأن فريضة الزكاة قد فرضت كما استلهمنا من آيات مكية منذ أواسط العهد المكي أو قبل ذلك. وقد استلهمنا من آيات مكية أخرى أن مقاديرها أيضا كانت معينة في العهد المكي على ما نبهنا عليه في سياق سور الأنعام والذاريات والمعارج والمزمل.
وبناء على ذلك نعتقد أن القول بأن في الآية فرضا للزكاة هو تحميل لها غير ما تحمله نصا وروحا. وغير متسق مع الأوامر القرآنية العديدة المكية ثم المدنية التي نزلت قبل هذه الآية بمدة غير قصيرة بوجوب إيتاء الزكاة وقرنها بالصلاة واعتبارهما الركنين المتلازمين اللذين لا بد منهما لصحة دعوى الإسلام.
ولقد قال بعضهم : إن هذه الآية نسخت ما جاء في القرآن من أوامر الصدقة حيث قامت فريضة الزكاة مقام ذلك. وهذا القول منبثق من اعتبار الآية فرضا للزكاة. قد نبهنا على ما في هذا الاعتبار من تجوز قبل قليل. وهذا فضلا عن أن روح الآيات القرآنية الكثيرة المكية والمدنية تلهم بكل قوة أنها أوسع من أن تحصر الصدقة بالقدر المحدود المستوجب بالزكاة المفروضة. فمهما كثر مقدار هذه الزكاة فإن مجال الإنفاق في سبيل الله في معناها الشامل وفي وجوه البر ومساعدة المحتاجين يظل أوسع من أن يملأ ذلك القدر المحدود، وتظل حكمة التنزيل مستمرة المفعول بالنسبة للصدقات التطوعية. وفي الآية ( ١٠٣ ) من هذه السورة التي نزلت بعد الآيات التي نحن في صددها دلالة قوية على ذلك ؛ حيث تأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأخذ صدقة من أموال الذين يخلطون عملا صالحا وآخر سيئا ليزكيهم ويطهرهم بها. والمتبادر أن هذه الصدقة هي غير الزكاة المفروضة. وهناك حديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيه دليل على ذلك رواه الترمذي عن فاطمة بنت قيس قالت :( سألت النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو سئل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الزكاة فقال : إن في المال لحقا سوى الزكاة. ثم تلا :﴿ ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ﴾ إلى آخر آية سورة البقرة ( ١٧٧ ) ( ١ )٦. وفيها أمر بإيتاء المال بالإضافة إلى ذكر الزكاة..... وفي الآية الأخيرة من سورة المزمل جملة لها مغزى عظيم في هذا الباب وهي :﴿ وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأقرضوا الله قرضا حسنا وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خير وأعظم أجر......... ﴾.
وكل هذا يسوغ القول : إن الزكاة المفروضة المحددة المقدار بالسنة النبوية هي الحد الأدنى لما يجب على صاحب المال أن يؤديه تطهيرا لماله.
والزكاة واجبة على جميع الأموال التي تبلغ النصاب الأدنى المعين بالسنة النبوية. وتشمل الغلات الزراعية شجرا أو حبا والماشية والنقود والعروض التجارية المتنوعة الأخرى كما هو المجمع عليه أيضا. والقرآن لم يعين إلا مصارفها. أما المقادير الواجبة فقد عينتها السنة النبوية. وإذا لاحظنا أن الآية الثالثة إنما جاءت على سبيل الاستطراد والتعقيب والرد على اللامزين ظهرت لنا حكمة عدم ذكر المقادير فيها. ويصح أن يقال : إن هذا الأمر ترك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم يتصرف فيه بإلهام الله وفقا لما تمليه الظروف و
( ٣ ) العاملين عليها : الموظفين لجبايتها.
( ٤ ) المؤلفة قلوبهم : الطبقة التي يراد تأليف قلوبهم وتقوية ارتباطهم بالإسلام ومصلحته.
( ٥ ) وفي الرقاب : وفي عتق العبيد والمماليك وفك رقباتهم من العبودية.
( ٦ ) الغارمين : المدينين المعسرين أو الذين يتحملون المغارم.
﴿ وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ ( ١ ) فِي الصَّدَقَاتِ ( ٢ ) فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ ( ٥٨ ) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا آتَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ ( ٥٩ ) إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا ( ٣ ) وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ ( ٤ ) وَفِي الرِّقَابِ ( ٥ ) وَالْغَارِمِينَ ( ٦ ) وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( ٦٠ ) ﴾ ( ٥٨ – ٦٠ ).

في الآيات :

( ١ ) إشارة إلى صورة أخرى من صور المنافقين ومواقفهم : فإن منهم من كان ينسب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم المحاباة في توزيع الصدقات ويعيب عليه ذلك. وكان هذا منهم لمنافعهم الخاصة ومآربهم الشخصية حيث كانوا يسخطون إذا لم يعطهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم منها ويرضون إذا أعطاهم.
( ٢ ) وتنديد بهم فقد كان الأولى بهم أن يرضوا بما آتاهم الله ورسوله وأن يعلنوا ثقتهم واكتفاءهم بفضل الله ورسوله ورغبتهم بما عند الله.
( ٣ ) وتقرير لأصناف المصارف التي لا يجوز أن تصرف الصدقات إلى غيرها لتعطى لمن لا يستحقها وهي الفقراء والمساكين والموظفون القائمون بأمرها والمؤلفة قلوبهم وعتق العبيد والغارمون وفي سبيل الله وابن السبيل حيث كان هذا فرض الله الواجب الوقوف عنده وهو العليم بمقتضيات الأمور الحكيم الذي لا يأمر إلا بما فيه الحكمة.

تعليق على الآية :

﴿ وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ......................... ﴾
والآيتين التاليتين لها وما فيها من صور وتلقين.
وما روي في صددها من روايات، وما روي من أحاديث
وأقوال ومذاهب متنوعة في مصارف الزكاة وتوزيعها
ونصاب الزكاة في مختلف الأنواع وجبايتها
ولقد روى البخاري حديثا عن أبي سعيد في سياق هذه الآية قال :( إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعث إليه بشيء فقسمه بين أربعة وقال : أتألفهم فقال رجل : ما عدلت. فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : يخرج من ضئضئ هذا قوم يمرقون من الدين ) ( ١ )١. وروى الطبري هذا الحديث بزيادة كبيرة عن أبي سعيد قال :( إن رسول الله كان يقسم إذا جاءه ذو الخويصرة التميمي فقال : اعدل يا رسول الله. فقال : ويلك ومن يعدل إن لم أعدل. فقال عمر بن الخطاب : ائذن لي فأضرب عنقه، فقال : دعه فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فينظر في قدحه فلا ينظر شيئا، ثم ينظر في نصله فلا يجد شيئا، ثم ينظر في رصافه فلا يجد شيئا قد سبق الفرث الدم، آيتهم رجل أسود إحدى يديه مثل ثدي المرأة أو مثل البضعة. يخرجون على حين فترة من الناس. قال أبو سعيد : أشهد أني سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأشهد أن عليا حين قتلهم – يعني الخوارج – جيء بالرجل على النعت الذي نعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ) ( ١ )٢. وروى الطبري أيضا أن رجلا من أهل البادية حديث عهد بالإسلام أتى نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقسم ذهبا وفضة فقال : يا محمد والله لئن كان الله أمرك أن تعدل ما عدلت. فقال له : ويلك فمن ذا يعدل ؟ ثم قال : احذروا هذا وأشباهه. فإن من أمتي أشباه هذا، يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم فإذا خرجوا فاقتلوهم ثم إذا خرجوا فاقتلوهم ثم إذا خرجوا فاقتلوهم. وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول : والذي نفسي بيده ما أعطيكم شيئا ولا أمنعكموه إنما أنا خازن. وروي أيضا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أتى بصدقة فقسمها ها هنا وها هنا حتى ذهبت، ورآه رجل من الأنصار فقال : ما هذا بالعدل فنزلت الآية. وننبه على أن الطبري لم يذكر أن الآية نزلت إلا في مناسبة الرواية الأخيرة دون الروايتين السابقتين وكذلك البخاري فإنه لم يذكر في حديثه أن الرواية التي تضمنها الحديث كانت سبب نزول الآية ( ٢ )٣.
وذو الخويصرة هو حرقوص بن زهير الذي يذكر شراح الأحاديث أنه المعني في الحديث الأول كان على رأس الجماعات التي خرجت من البصرة إلى المدينة واشتركت في الفتنة التي أدت إلى قتل عثمان رضي الله عنه. وبايع عليا رضي الله عنه وكان في جيشه مع قومه، وحارب معه في وقعة الجمل التي كانت بينه وبين الجموع التي تجمعت حول عائشة والزبير وطلحة رضي عنهم للمطالبة بدم عثمان والثأر من قاتليه ثم في وقعة صفين بين علي ومعاوية رضي الله عنهما. ثم كان من الذين خرجوا على علي لقبوله التحكيم وقتل من قتل في وقعة النهروان التي كانت بين علي وأتباعه وبين الخوارج ( ١ )٤. ولقد روى الطبري أن علي بن أبي طالب قال لأتباعه حين انتهت وقعة النهروان : إنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : إن قوما يخرجون من الإسلام يمرقون من الدين كان يمرق السهم من الرمية علامتهم رجل مخدج اليد، وأمر أتباعه أن يلتمسوه بين القتلى وأن يقطعوا يده ويأتوه بها إذا وجدوه. وقد وجدوا فعلا رجلا مخدج اليد بين القتلى فقطعوا يده وأتوه بها فلما رآها قال : ما كذبت ولا كذبت ( ٢ )٥.
والمشهور أن الخوارج كانوا من أشد المسلمين تعبدا بالصلاة والصيام وقراءة القرآن وتقشفا في الحياة ؛ حيث ينطبق كل ذلك على الوصف الذي احتوته الأحاديث. وإذا صح حديث علي الذي يرويه الطبري فيكون فيه، وعلى ضوء الأحاديث الأخرى فيكون فيها معجزة نبوية بإخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم بغيب وقع بعد موته. هذا مع التنبيه إلى أن قولنا يصح إذا كانت الوقائع المماثلة أكثر من واحدة ؛ لأن الأشخاص المحكية عنهم متنوعون كما هو واضح من الأحاديث ومع التنبيه كذلك إلى أن روح الآية الثانية قد تلهم أن الذي صدر منه القول أو أحد من صدر منهم القول – إذا كانت الوقائع متعددة – من منافقي المدينة. وهذا ما ينطبق على الرواية الأخيرة. والله أعلم.
ومهما يكن من أمر فالذي يتبادر لنا من عطف الآيات على سابقتها. ومن ضمير الجمع الغائب الذي يعبر عن فريق كان موضوع الحديث في الآيات السابقة أن الآيات لم تنزل لمناسبة من المناسبات المروية لحدتها وأنها ليست منفصلة عن السياق. وكل ما في الأمر أنها احتوت إشارة إلى موقف كان وقفه بعض المنافقين من نوع ما ذكرته الأحاديث في معرض التذكير بأقوال ومواقف المنافقين وتقريعهم والتنديد بهم بمناسبة تثاقلهم عن غزوة تبوك.
والموقف الذي حكته الآية الأولى يدل على ما كان من جرأة المنافقين على الطعن في ذمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعدله والتهويش عليه في سبيل منافعهم الخاصة. ويدل على ما كانوا عليه من خبث طوية وفراغ إيمان وقلة ثقة بالله ورسوله. ثم على ما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يلقاه من هذه الفئة الخبيثة. والذي نرجحه أن ذلك الموقف مما كان يبدر منهم حينما كانوا أكثر قوة أو حينما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون أقل قوة واستعلاء مما صاروا إليه حين نزول الآيات. وقد أشير إليه هنا على سبيل التذكير والتنديد كما قلنا.
والموقف المحكي هي في الآية الأولى فقط. أما الآيتان الأخريان فقد جاءتا على سبيل التعقيب والاستطراد حيث احتوت الثانية تنديدا بالمنافقين وتنبيها إلى ما كان الأولى بهم لو كانوا مخلصين حقا، وحيث احتوت الثالثة تحديدا للمصارف التي لا يجوز أن تعطى الصدقات لغيرها.
ومع أن الآية الثالثة قد جاءت مع الآية الثانية كما قلنا على سبيل التعقيب والاستطراد فإنها هي الوحيدة التي وردت في القرآن عن أصناف مستحقي الصدقات جميعها وكانت من أجل ذلك هي المستند التشريعي في هذا الأمر.
والمجمع عليه أن الصدقات المقصودة في الآية هي الزكاة المفروضة خاصة. ولعل ورود جملة :﴿ فريضة من الله ﴾ في الآية قرينة على ذلك. هذا مع القول : إن هذه الجملة قد تكون في نفس الوقت بسبيل التشديد على واجب إبقاء الزكاة في نطاق مصارفها المعينة.
والمفروض في الآية الثالثة هو مصارف الزكاة وليست الزكاة ؛ لأن فريضة الزكاة قد فرضت كما استلهمنا من آيات مكية منذ أواسط العهد المكي أو قبل ذلك. وقد استلهمنا من آيات مكية أخرى أن مقاديرها أيضا كانت معينة في العهد المكي على ما نبهنا عليه في سياق سور الأنعام والذاريات والمعارج والمزمل.
وبناء على ذلك نعتقد أن القول بأن في الآية فرضا للزكاة هو تحميل لها غير ما تحمله نصا وروحا. وغير متسق مع الأوامر القرآنية العديدة المكية ثم المدنية التي نزلت قبل هذه الآية بمدة غير قصيرة بوجوب إيتاء الزكاة وقرنها بالصلاة واعتبارهما الركنين المتلازمين اللذين لا بد منهما لصحة دعوى الإسلام.
ولقد قال بعضهم : إن هذه الآية نسخت ما جاء في القرآن من أوامر الصدقة حيث قامت فريضة الزكاة مقام ذلك. وهذا القول منبثق من اعتبار الآية فرضا للزكاة. قد نبهنا على ما في هذا الاعتبار من تجوز قبل قليل. وهذا فضلا عن أن روح الآيات القرآنية الكثيرة المكية والمدنية تلهم بكل قوة أنها أوسع من أن تحصر الصدقة بالقدر المحدود المستوجب بالزكاة المفروضة. فمهما كثر مقدار هذه الزكاة فإن مجال الإنفاق في سبيل الله في معناها الشامل وفي وجوه البر ومساعدة المحتاجين يظل أوسع من أن يملأ ذلك القدر المحدود، وتظل حكمة التنزيل مستمرة المفعول بالنسبة للصدقات التطوعية. وفي الآية ( ١٠٣ ) من هذه السورة التي نزلت بعد الآيات التي نحن في صددها دلالة قوية على ذلك ؛ حيث تأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأخذ صدقة من أموال الذين يخلطون عملا صالحا وآخر سيئا ليزكيهم ويطهرهم بها. والمتبادر أن هذه الصدقة هي غير الزكاة المفروضة. وهناك حديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيه دليل على ذلك رواه الترمذي عن فاطمة بنت قيس قالت :( سألت النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو سئل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الزكاة فقال : إن في المال لحقا سوى الزكاة. ثم تلا :﴿ ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ﴾ إلى آخر آية سورة البقرة ( ١٧٧ ) ( ١ )٦. وفيها أمر بإيتاء المال بالإضافة إلى ذكر الزكاة..... وفي الآية الأخيرة من سورة المزمل جملة لها مغزى عظيم في هذا الباب وهي :﴿ وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأقرضوا الله قرضا حسنا وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خير وأعظم أجر......... ﴾.
وكل هذا يسوغ القول : إن الزكاة المفروضة المحددة المقدار بالسنة النبوية هي الحد الأدنى لما يجب على صاحب المال أن يؤديه تطهيرا لماله.
والزكاة واجبة على جميع الأموال التي تبلغ النصاب الأدنى المعين بالسنة النبوية. وتشمل الغلات الزراعية شجرا أو حبا والماشية والنقود والعروض التجارية المتنوعة الأخرى كما هو المجمع عليه أيضا. والقرآن لم يعين إلا مصارفها. أما المقادير الواجبة فقد عينتها السنة النبوية. وإذا لاحظنا أن الآية الثالثة إنما جاءت على سبيل الاستطراد والتعقيب والرد على اللامزين ظهرت لنا حكمة عدم ذكر المقادير فيها. ويصح أن يقال : إن هذا الأمر ترك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم يتصرف فيه بإلهام الله وفقا لما تمليه الظروف و
﴿ وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ ( ١ ) قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( ٦١ ) ﴾ ( ٦١ ).
( ١ ) هو أذن : كناية عن وصف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأنه يصغي ويسمع لكل ما يقال له ويصدقه.
في هذه الآية :
( ١ ) صورة أخرى للمنافقين حيث إنهم كانوا يؤذون النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأقوالهم ويصفونه بأنه يصغي لكل ما يقال له ويصدقه.
( ٢ ) وأمر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بالرد عليهم وإنذارهم. فإذا كان هو أذنا كما قالوا، فإنه أذن خير للمسلمين المخلصين وليس أذن شر. وإنه لمؤمن بالله ومعتمد عليه وحده. وإنه لمؤمن للمسلمين المخلصين وراكن إليهم وحسن الظن فيهم. وإنه في خلقه هذا لرحمة للمسلمين المخلصين في إيمانهم ونياتهم. وإن الذين يؤذون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأي نوع من الأذى قولا وفعلا وجهرا وسرا مستحقون لعذاب الله الأليم.
تعليق على الآية :
﴿ وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ....................... ﴾
وما فيها من تلقين وصور
وقد روى الطبري وغيره١، أن بعض المنافقين كانوا في مجالسهم الخاصة يقدحون النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإذا حذر بعضهم بعضا من وصول خبر هذه المجالس إليه قالوا، إنه سهل الإقناع فننكر ونحلف فيصدق ويقنع. وإلى هذه الرواية قال البغوي : إن الآية نزلت في نبتل بن الحارث من المنافقين وكان مشوه الخلقة حتى أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال عنه على ما جاء في رواية البغوي :( من أحب أن ينظر إلى الشيطان فلينظر إلى نبتل ) وكان ينم حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المنافقين فقيل له : لا تفعل فقال :( إنما محمد أذن، فمن حدثه صدقه فنقول ما شئنا ثم نأتيه ونحلف بالله فيصدقنا ). وكل من الروايتين محتملة ومتسقة مع الآية إجمالا. وإن كان مما يتبادر لنا أن الآية يمكن أن تفيد أن المنافقين إنما كانوا يعيبون على النبي صلى الله عليه وآله وسلم كونه سريع الاستماع والتصديق لكل ما ينقل إليه مع تقريرها حقيقة أمرهم في تعمد القدح به وإيذائه.
على أن الذي نرجحه أن الآية لم تنزل لحدتها ولمناسبة ما ورد في إحدى الروايتين، وأنها جزء من السلسلة واستمرار في السياق. وعطفها على ما سبقها واستعمال ضمير الجمع الغائب والعائد إلى من هم موضوع الكلام في الآيات السابقة قرائن على ذلك. ويسوغ القول والحالة هذه أن الصورة كانت قديمة معروفة عن المنافقين فذكرت في سلسلة التنديد والتقريع والتذكير بأخلاقهم ومواقفهم التي اقتضت حكمة التنزيل وحيها أثناء غزوة تبوك للتنديد بتثاقلهم وتخلفهم عن الغزوة. والله أعلم.
والرد الذي احتوته الآية انطوى على ثناء رباني بليغ على أخلاق النبي صلى الله عليه وآله وسلم وما تحلى به من صفات كريمة محببة. وجاء الرد بسبب ذلك قويا محكما في الوقت نفسه : فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم أذن خير لهم. وليس ظنان سوء بالمؤمنين المخلصين. وإنه ليراهم خليقين بالاعتماد والثقة والتصديق، ولا سيما أنه يؤمن بالله ويجعل اعتماده عليه ولا يبالي ما وراء ذلك. وقد صار بهذا رحمة للمؤمنين. لأن إساءة الظن وكثرة الشك بدون موجب وخاصة في المخلصين من مفسدات الأمور ومعقدات النفوس. وقد نهى الله المؤمنين عن ذلك في سورة الحجرات على ما مر تفسيره. ومما لا ريب فيه أن في هذه الصفة على هذا البيان مستمد إلهام قوي لمن يتولى قيادة الأمة.
١ انظر أيضا البغوي والخازن وابن كثير..
﴿ يَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ ( ٦٢ ) أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ ( ٦٣ ) ﴾ ( ٦٢ – ٦٣ ).
عبارة الآيتين واضحة. وقد تضمنتا حكاية حلف المنافقين ليرضوا المؤمنين وردا عليهم بأنهم لو كانوا صادقين لكان الأوجب عليهم أن يرضوا الله ورسوله، وإنذارا لمن يحادد الله ورسوله بالخزي العظيم والعذاب المخلد.
تعليق على الآية :
﴿ يَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ......... ﴾
والآية التالية لها وما فيهما من صور وتلقين
روى المفسرون ( ١ )١، عن قتادة أن جماعة من المنافقين منهم الجلاس بن سويد ووديعة بن ثابت وقعوا في النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقالوا : إن كان ما يقول محمد حقا فنحن شر من الحمير. وكان عندهم غلام من الأنصار يقال له عامر بن قيس فغضب الغلام وقال : والله إن ما يقوله محمد حق وأنتم شر من الحمير، ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره. فدعا لهم فسألهم فحلفوا له أن عامرا كاذب وحلف عامر أنهم هم الكاذبون. وصدقهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم فجعل عامر يدعو ويقول : اللهم صدق الصادق وكذب الكاذب فأنزل الله الآيتين. وهناك رواية أخرى عن مقاتل يرويها المفسرون ( ٢ )٢، أيضا تذكر أن الآيتين نزلتا في رهط من المنافقين تخلفوا عن غزوة تبوك فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أتوه يعتذرون ويحلفون فأنزلهما الله.
وفي السياق ما يفيد أن هذه السلسلة نزلت أثناء غزوة تبوك بحيث تكون الرواية الثانية غير محتملة الصحة. والرواية الأولى متسقة مع الآيتين ومحتملة الصحة. غير أن الذي يتبادر لنا على ضوء السياق أن الآيتين متصلتان بالصورة التي احتوتها الآية السابقة وبمشهد من المشاهد كان فيه بعض المؤمنين والمنافقين وجرى فيه أخذ ورد وعتاب ونقاش حول ما كان يقع من المنافقين من القدح والعيب في حق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مجالسهم الخاصة حاول المنافقون فيه التنصل والتبرؤ مما عوتبوا عليه إرضاء للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والغاضبين لكرامته من المؤمنين المخلصين.
ومع ما قلناه فإننا نرجح أن الآيتين لم تنزلا لمناسبة جديدة وليستا منفصلتين عن السياق. والمشهد الذي احتوتاه كان قديما فذكر في سياق سلسلة التنديد والتقريع والتذكير بأخلاق المنافقين ومواقفهم. وعطف الآيتين على ما قبلهما وضمير الجمع الغائب من القرائن على ذلك.
وفي المشهد المحكي صورة أخرى لما صار إليه موقف المنافقين من تطور إلى الخوف والرياء والرغبة في كسب رضاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين المخلصين. وفيه صورة تتكرر في ظروف استعلاء أصحاب الحق والمجاهدين في سبيله. وفي هذا وذاك تلقين مستمر المدى بالتحذير من الانخداع بالمنافقين الذين لم يثبتوا إخلاصهم وصدق دعواهم في المواقف والظروف الهامة.
١ انظر تفسير الطبري والبغوي وابن كثير..
٢ المصدر نفسه..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٦٢:﴿ يَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ ( ٦٢ ) أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ ( ٦٣ ) ﴾ ( ٦٢ – ٦٣ ).
عبارة الآيتين واضحة. وقد تضمنتا حكاية حلف المنافقين ليرضوا المؤمنين وردا عليهم بأنهم لو كانوا صادقين لكان الأوجب عليهم أن يرضوا الله ورسوله، وإنذارا لمن يحادد الله ورسوله بالخزي العظيم والعذاب المخلد.

تعليق على الآية :

﴿ يَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ......... ﴾
والآية التالية لها وما فيهما من صور وتلقين
روى المفسرون ( ١ )١، عن قتادة أن جماعة من المنافقين منهم الجلاس بن سويد ووديعة بن ثابت وقعوا في النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقالوا : إن كان ما يقول محمد حقا فنحن شر من الحمير. وكان عندهم غلام من الأنصار يقال له عامر بن قيس فغضب الغلام وقال : والله إن ما يقوله محمد حق وأنتم شر من الحمير، ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره. فدعا لهم فسألهم فحلفوا له أن عامرا كاذب وحلف عامر أنهم هم الكاذبون. وصدقهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم فجعل عامر يدعو ويقول : اللهم صدق الصادق وكذب الكاذب فأنزل الله الآيتين. وهناك رواية أخرى عن مقاتل يرويها المفسرون ( ٢ )٢، أيضا تذكر أن الآيتين نزلتا في رهط من المنافقين تخلفوا عن غزوة تبوك فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أتوه يعتذرون ويحلفون فأنزلهما الله.
وفي السياق ما يفيد أن هذه السلسلة نزلت أثناء غزوة تبوك بحيث تكون الرواية الثانية غير محتملة الصحة. والرواية الأولى متسقة مع الآيتين ومحتملة الصحة. غير أن الذي يتبادر لنا على ضوء السياق أن الآيتين متصلتان بالصورة التي احتوتها الآية السابقة وبمشهد من المشاهد كان فيه بعض المؤمنين والمنافقين وجرى فيه أخذ ورد وعتاب ونقاش حول ما كان يقع من المنافقين من القدح والعيب في حق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مجالسهم الخاصة حاول المنافقون فيه التنصل والتبرؤ مما عوتبوا عليه إرضاء للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والغاضبين لكرامته من المؤمنين المخلصين.
ومع ما قلناه فإننا نرجح أن الآيتين لم تنزلا لمناسبة جديدة وليستا منفصلتين عن السياق. والمشهد الذي احتوتاه كان قديما فذكر في سياق سلسلة التنديد والتقريع والتذكير بأخلاق المنافقين ومواقفهم. وعطف الآيتين على ما قبلهما وضمير الجمع الغائب من القرائن على ذلك.
وفي المشهد المحكي صورة أخرى لما صار إليه موقف المنافقين من تطور إلى الخوف والرياء والرغبة في كسب رضاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين المخلصين. وفيه صورة تتكرر في ظروف استعلاء أصحاب الحق والمجاهدين في سبيله. وفي هذا وذاك تلقين مستمر المدى بالتحذير من الانخداع بالمنافقين الذين لم يثبتوا إخلاصهم وصدق دعواهم في المواقف والظروف الهامة.
١ انظر تفسير الطبري والبغوي وابن كثير..
٢ المصدر نفسه..

﴿ يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِؤُواْ إِنَّ اللّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ ( ٦٤ ) وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ ( ٦٥ ) لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ ( ٦٦ ) ﴾ ( ٦٤ – ٦٦ ).
في الآيات :
( ١ ) إشارة إلى ما كان يحذر منه المنافقون من نزول قرآن فيهم يفضح حقائق قلوبهم وأسرار مجالسهم.
( ٢ ) وأمر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بتوعدهم بأن الله محقق ما يتوقعون ويحذرون رغما عما يبدو في طي كلامهم من استخفاف واستهزاء.
( ٣ ) وإشارة أخرى إلى ما كانوا يعتذرون به حينما يعاتبون على ما يقع في مجالسهم حيث كانوا يقولون إنما كنا نلهو ونمزح.
( ٤ ) وسؤال استنكاري على سبيل التنديد عما إذا كان يصح لمؤمن مخلص أن يلهو ويخوض ويمزح ويستهزئ بالله وآياته ورسوله.
( ٥ ) وإيذان لهم على سبيل الإنذار بأن اعتذارهم غير مجد لهم. فقد كفروا بعد إيمان. وإذا كان من الجائز أن يعفو الله عن بعضهم لاحتمال توبته فإنه معذب بعضهم حتما لأنهم مجرمون ومصرون على إجرامهم.
تعليق على الآية :
﴿ يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ....................... ﴾
والآيتين التاليتين لها وما فيها من صور وتلقين
وقد روى المفسرون ( ١ )١، روايات عديدة في صدد نزول هذه الآيات. منها أنها نزلت في جماعة من المنافقين كمنوا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في طريق عودته من تبوك ليوقعوه عن دابته في هاوية. فعلم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأمرهم وعاتبهم فأنكروا واعتذروا. ومنها أن بعض المنافقين كانوا في أثناء السفر إلى تبوك يقدحون في النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويستهزئون بما كان يعد من نصر الله له على الروم ويقولون : أيحسب أن جلاد بني الأصفر كقتال العرب بعضهم بعضا. والله كأننا بهم غدا مقرنين بالجبال فعلم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأقوالهم، فأوقف الركب وعاتبهم فأنكروا واعتذروا، ومنهم من تاب وحسن إيمانه. ومنها أن رجلا من المنافقين استغاب القراء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أثناء غزوة تبوك وقال : إنهم أرغبنا بطونا وأكذبنا ألسنة وأجبننا عند اللقاء، فكذبه أحد المخلصين، ثم ذهب ليخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم به فوجد القرآن قد سبقه. ومما رواه المفسرون أن المنافقين كانوا يقولون حينما يجتمعون لاستغابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمخلصين لعل الله لا يفشي سرنا. ومما رواه المفسرون في سياق الرواية الأولى أن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اقترحوا قتل الجماعة المتآمرة فقال :( أكره أن تقول العرب لما ظفر محمد وأصحابه أقبل يقتلهم ) بل يكفيناهم الله بالدبيلة ( ١ )٢. وهناك رواية تذكر أن الاستهزاء كان من ابن أبي بن سلول في المدينة وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عاتبه فأخذ يعتذر له ويقول إنما كنا نخوض ونمزح يا رسول الله. وقد ذكر هذا المفسر اسم الشخص الذي تاب وكان مظهر عفو الله وهو مخشي بن حمير الأشجعي وروي أنه كان يقول :( اللهم إني لا أزال أسمع آية تقرأ أعنى بها، تقشعر الجلود وتجب القلوب منها، اللهم اجعل وفاتي قتلا في سبيلك، لا يقول أحد أنا غسلتن أنا كفنت، أنا دفنت ) وأنه أصيب يوم اليمامة.
وليس شيء من الروايات واردا في كتب الأحاديث المعتبرة، والذي يتبادر لنا أن فحوى الآية الأولى وروحها تلهم أن الآيات في صدد مجلس من مجالس المنافقين استغابوا فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وقالوا ما حكته الآية الأولى من حذرهم على سبيل الهزء والتفكه. وعلم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأمرهم فعاتبهم فاعتذروا. ومنهم من تاب وحسن إيمانه ومنهم من ظل مرتكسا في الكفر والنفاق. وقد يكون هذا المجلس أثناء غزوة تبوك، فجاءت الآيات منسجمة مع السلسلة السابقة واللاحقة. وإن كنا نرجح أنها لم تنزل مستقلة عن ما سبقها، وأنها جزء من السلسلة، وأن المجلس كان سابقا فتضمنت الآيات حكايته والتذكير به في جملة ما حكى وذكر به من مواقفهم وأخلاقهم في سياق التنديد بهم على تثاقلهم عن الغزوة. وتكون الآيات والحالة هذه قد نزلت أثناء الغزوة وإن صح هذا الترجيح وهو ما نرجوه، تكون الرواية التي ذكر فيها اسم ابن أبي سلول هي المحتملة وكان هذا من المتخلفين والله أعلم.
والمشهد الذي حكته الآيات مما يمكن أن يكون من ذوي القلوب المريضة في كل ظرف. وبخاصة في الظروف العصبية. والآيات والحالة هذه تنطوي على تلقين لذوي الشأن بوجوب الوقوف من هذه الفئة موقف اليقظة والشدة وعدم الانخداع بما يبدونه من أعذار كاذبة إلا إذا تحقق صدق اعتذارهم وتوبتهم.
ونقف عند رواية البغوي التي تضمنت جواب النبي صلى الله عليه وآله وسلم على اقتراح قتل المتآمرين من المنافقين لنقول : إن مثل هذا الجواب صدر أيضا من النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حق عبد الله بن أبي بن سلول كبير منافقي المدينة أيضا على ما شرحناه في تفسير سورة ( المنافقون ) حيث يتأكد في هذا ما نبهنا عليه من الحكمة التي انطوت في سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في موقفه من المنافقين وعدم البطش والتنكيل فيهم.
١ انظر كتب التفسير السابقة الذكر أيضا..
٢ فسر البغوي الدبيلة بأنها سراج من نار يظهر في أكتافهم حتى ينجم من صدورهم..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٦٤:﴿ يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِؤُواْ إِنَّ اللّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ ( ٦٤ ) وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ ( ٦٥ ) لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ ( ٦٦ ) ﴾ ( ٦٤ – ٦٦ ).

في الآيات :

( ١ ) إشارة إلى ما كان يحذر منه المنافقون من نزول قرآن فيهم يفضح حقائق قلوبهم وأسرار مجالسهم.
( ٢ ) وأمر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بتوعدهم بأن الله محقق ما يتوقعون ويحذرون رغما عما يبدو في طي كلامهم من استخفاف واستهزاء.
( ٣ ) وإشارة أخرى إلى ما كانوا يعتذرون به حينما يعاتبون على ما يقع في مجالسهم حيث كانوا يقولون إنما كنا نلهو ونمزح.
( ٤ ) وسؤال استنكاري على سبيل التنديد عما إذا كان يصح لمؤمن مخلص أن يلهو ويخوض ويمزح ويستهزئ بالله وآياته ورسوله.
( ٥ ) وإيذان لهم على سبيل الإنذار بأن اعتذارهم غير مجد لهم. فقد كفروا بعد إيمان. وإذا كان من الجائز أن يعفو الله عن بعضهم لاحتمال توبته فإنه معذب بعضهم حتما لأنهم مجرمون ومصرون على إجرامهم.

تعليق على الآية :

﴿ يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ....................... ﴾
والآيتين التاليتين لها وما فيها من صور وتلقين
وقد روى المفسرون ( ١ )١، روايات عديدة في صدد نزول هذه الآيات. منها أنها نزلت في جماعة من المنافقين كمنوا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في طريق عودته من تبوك ليوقعوه عن دابته في هاوية. فعلم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأمرهم وعاتبهم فأنكروا واعتذروا. ومنها أن بعض المنافقين كانوا في أثناء السفر إلى تبوك يقدحون في النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويستهزئون بما كان يعد من نصر الله له على الروم ويقولون : أيحسب أن جلاد بني الأصفر كقتال العرب بعضهم بعضا. والله كأننا بهم غدا مقرنين بالجبال فعلم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأقوالهم، فأوقف الركب وعاتبهم فأنكروا واعتذروا، ومنهم من تاب وحسن إيمانه. ومنها أن رجلا من المنافقين استغاب القراء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أثناء غزوة تبوك وقال : إنهم أرغبنا بطونا وأكذبنا ألسنة وأجبننا عند اللقاء، فكذبه أحد المخلصين، ثم ذهب ليخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم به فوجد القرآن قد سبقه. ومما رواه المفسرون أن المنافقين كانوا يقولون حينما يجتمعون لاستغابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمخلصين لعل الله لا يفشي سرنا. ومما رواه المفسرون في سياق الرواية الأولى أن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اقترحوا قتل الجماعة المتآمرة فقال :( أكره أن تقول العرب لما ظفر محمد وأصحابه أقبل يقتلهم ) بل يكفيناهم الله بالدبيلة ( ١ )٢. وهناك رواية تذكر أن الاستهزاء كان من ابن أبي بن سلول في المدينة وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عاتبه فأخذ يعتذر له ويقول إنما كنا نخوض ونمزح يا رسول الله. وقد ذكر هذا المفسر اسم الشخص الذي تاب وكان مظهر عفو الله وهو مخشي بن حمير الأشجعي وروي أنه كان يقول :( اللهم إني لا أزال أسمع آية تقرأ أعنى بها، تقشعر الجلود وتجب القلوب منها، اللهم اجعل وفاتي قتلا في سبيلك، لا يقول أحد أنا غسلتن أنا كفنت، أنا دفنت ) وأنه أصيب يوم اليمامة.
وليس شيء من الروايات واردا في كتب الأحاديث المعتبرة، والذي يتبادر لنا أن فحوى الآية الأولى وروحها تلهم أن الآيات في صدد مجلس من مجالس المنافقين استغابوا فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وقالوا ما حكته الآية الأولى من حذرهم على سبيل الهزء والتفكه. وعلم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأمرهم فعاتبهم فاعتذروا. ومنهم من تاب وحسن إيمانه ومنهم من ظل مرتكسا في الكفر والنفاق. وقد يكون هذا المجلس أثناء غزوة تبوك، فجاءت الآيات منسجمة مع السلسلة السابقة واللاحقة. وإن كنا نرجح أنها لم تنزل مستقلة عن ما سبقها، وأنها جزء من السلسلة، وأن المجلس كان سابقا فتضمنت الآيات حكايته والتذكير به في جملة ما حكى وذكر به من مواقفهم وأخلاقهم في سياق التنديد بهم على تثاقلهم عن الغزوة. وتكون الآيات والحالة هذه قد نزلت أثناء الغزوة وإن صح هذا الترجيح وهو ما نرجوه، تكون الرواية التي ذكر فيها اسم ابن أبي سلول هي المحتملة وكان هذا من المتخلفين والله أعلم.
والمشهد الذي حكته الآيات مما يمكن أن يكون من ذوي القلوب المريضة في كل ظرف. وبخاصة في الظروف العصبية. والآيات والحالة هذه تنطوي على تلقين لذوي الشأن بوجوب الوقوف من هذه الفئة موقف اليقظة والشدة وعدم الانخداع بما يبدونه من أعذار كاذبة إلا إذا تحقق صدق اعتذارهم وتوبتهم.
ونقف عند رواية البغوي التي تضمنت جواب النبي صلى الله عليه وآله وسلم على اقتراح قتل المتآمرين من المنافقين لنقول : إن مثل هذا الجواب صدر أيضا من النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حق عبد الله بن أبي بن سلول كبير منافقي المدينة أيضا على ما شرحناه في تفسير سورة ( المنافقون ) حيث يتأكد في هذا ما نبهنا عليه من الحكمة التي انطوت في سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في موقفه من المنافقين وعدم البطش والتنكيل فيهم.
١ انظر كتب التفسير السابقة الذكر أيضا..
٢ فسر البغوي الدبيلة بأنها سراج من نار يظهر في أكتافهم حتى ينجم من صدورهم..

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٦٤:﴿ يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِؤُواْ إِنَّ اللّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ ( ٦٤ ) وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ ( ٦٥ ) لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ ( ٦٦ ) ﴾ ( ٦٤ – ٦٦ ).

في الآيات :

( ١ ) إشارة إلى ما كان يحذر منه المنافقون من نزول قرآن فيهم يفضح حقائق قلوبهم وأسرار مجالسهم.
( ٢ ) وأمر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بتوعدهم بأن الله محقق ما يتوقعون ويحذرون رغما عما يبدو في طي كلامهم من استخفاف واستهزاء.
( ٣ ) وإشارة أخرى إلى ما كانوا يعتذرون به حينما يعاتبون على ما يقع في مجالسهم حيث كانوا يقولون إنما كنا نلهو ونمزح.
( ٤ ) وسؤال استنكاري على سبيل التنديد عما إذا كان يصح لمؤمن مخلص أن يلهو ويخوض ويمزح ويستهزئ بالله وآياته ورسوله.
( ٥ ) وإيذان لهم على سبيل الإنذار بأن اعتذارهم غير مجد لهم. فقد كفروا بعد إيمان. وإذا كان من الجائز أن يعفو الله عن بعضهم لاحتمال توبته فإنه معذب بعضهم حتما لأنهم مجرمون ومصرون على إجرامهم.

تعليق على الآية :

﴿ يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ....................... ﴾
والآيتين التاليتين لها وما فيها من صور وتلقين
وقد روى المفسرون ( ١ )١، روايات عديدة في صدد نزول هذه الآيات. منها أنها نزلت في جماعة من المنافقين كمنوا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في طريق عودته من تبوك ليوقعوه عن دابته في هاوية. فعلم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأمرهم وعاتبهم فأنكروا واعتذروا. ومنها أن بعض المنافقين كانوا في أثناء السفر إلى تبوك يقدحون في النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويستهزئون بما كان يعد من نصر الله له على الروم ويقولون : أيحسب أن جلاد بني الأصفر كقتال العرب بعضهم بعضا. والله كأننا بهم غدا مقرنين بالجبال فعلم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأقوالهم، فأوقف الركب وعاتبهم فأنكروا واعتذروا، ومنهم من تاب وحسن إيمانه. ومنها أن رجلا من المنافقين استغاب القراء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أثناء غزوة تبوك وقال : إنهم أرغبنا بطونا وأكذبنا ألسنة وأجبننا عند اللقاء، فكذبه أحد المخلصين، ثم ذهب ليخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم به فوجد القرآن قد سبقه. ومما رواه المفسرون أن المنافقين كانوا يقولون حينما يجتمعون لاستغابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمخلصين لعل الله لا يفشي سرنا. ومما رواه المفسرون في سياق الرواية الأولى أن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اقترحوا قتل الجماعة المتآمرة فقال :( أكره أن تقول العرب لما ظفر محمد وأصحابه أقبل يقتلهم ) بل يكفيناهم الله بالدبيلة ( ١ )٢. وهناك رواية تذكر أن الاستهزاء كان من ابن أبي بن سلول في المدينة وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عاتبه فأخذ يعتذر له ويقول إنما كنا نخوض ونمزح يا رسول الله. وقد ذكر هذا المفسر اسم الشخص الذي تاب وكان مظهر عفو الله وهو مخشي بن حمير الأشجعي وروي أنه كان يقول :( اللهم إني لا أزال أسمع آية تقرأ أعنى بها، تقشعر الجلود وتجب القلوب منها، اللهم اجعل وفاتي قتلا في سبيلك، لا يقول أحد أنا غسلتن أنا كفنت، أنا دفنت ) وأنه أصيب يوم اليمامة.
وليس شيء من الروايات واردا في كتب الأحاديث المعتبرة، والذي يتبادر لنا أن فحوى الآية الأولى وروحها تلهم أن الآيات في صدد مجلس من مجالس المنافقين استغابوا فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وقالوا ما حكته الآية الأولى من حذرهم على سبيل الهزء والتفكه. وعلم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأمرهم فعاتبهم فاعتذروا. ومنهم من تاب وحسن إيمانه ومنهم من ظل مرتكسا في الكفر والنفاق. وقد يكون هذا المجلس أثناء غزوة تبوك، فجاءت الآيات منسجمة مع السلسلة السابقة واللاحقة. وإن كنا نرجح أنها لم تنزل مستقلة عن ما سبقها، وأنها جزء من السلسلة، وأن المجلس كان سابقا فتضمنت الآيات حكايته والتذكير به في جملة ما حكى وذكر به من مواقفهم وأخلاقهم في سياق التنديد بهم على تثاقلهم عن الغزوة. وتكون الآيات والحالة هذه قد نزلت أثناء الغزوة وإن صح هذا الترجيح وهو ما نرجوه، تكون الرواية التي ذكر فيها اسم ابن أبي سلول هي المحتملة وكان هذا من المتخلفين والله أعلم.
والمشهد الذي حكته الآيات مما يمكن أن يكون من ذوي القلوب المريضة في كل ظرف. وبخاصة في الظروف العصبية. والآيات والحالة هذه تنطوي على تلقين لذوي الشأن بوجوب الوقوف من هذه الفئة موقف اليقظة والشدة وعدم الانخداع بما يبدونه من أعذار كاذبة إلا إذا تحقق صدق اعتذارهم وتوبتهم.
ونقف عند رواية البغوي التي تضمنت جواب النبي صلى الله عليه وآله وسلم على اقتراح قتل المتآمرين من المنافقين لنقول : إن مثل هذا الجواب صدر أيضا من النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حق عبد الله بن أبي بن سلول كبير منافقي المدينة أيضا على ما شرحناه في تفسير سورة ( المنافقون ) حيث يتأكد في هذا ما نبهنا عليه من الحكمة التي انطوت في سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في موقفه من المنافقين وعدم البطش والتنكيل فيهم.
١ انظر كتب التفسير السابقة الذكر أيضا..
٢ فسر البغوي الدبيلة بأنها سراج من نار يظهر في أكتافهم حتى ينجم من صدورهم..

﴿ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ( ٦٧ ) وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ ( ٦٨ ) كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاَدًا فَاسْتَمْتَعُواْ بِخَلاقِهِمْ ( ١ ) فَاسْتَمْتَعْتُم بِخَلاَقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُواْ ( ٢ ) أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الُّدنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ( ٦٩ ) أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وِأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ( ٧٠ ) ﴾ ( ٦٧ – ٧٠ ).
تعليق على الآية :
﴿ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ........................ ﴾
والآيات الثلاث التي بعدها وما فيها من صور ودلالات
عبارة الآيات واضحة. ولم يرو المفسرون رواية ما في صددها. والمتبادر أنها استمرار في السياق وجزء من السلسلة. وقد جاءت معقبة على الآيات السابقة التي احتوت ما احتوته من مشاهد مواقف المنافقين ومكائدهم وسوء أدبهم ونواياهم بسبيل تقرير أخلاقهم بصورة عامة وكونهم عصبة واحدة متضامنة نساء ورجالا في الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف والبخل بما في أيديهم ونسيانهم الله وحسابه، وإنذارهم مع تهوين أمرهم وتقرير كونهم ليسوا بدعا في الأمم لا في كثرة المال والولد. ولا في متاع الدنيا والتمكين منها. ولا في ما كان منهم من كيد وخبث ومكر وكفر وخوض وتكذيب. ولقد حل بسابقيهم من أمثالهم الذين كانوا أشد منهم قوة وأكثر أموالا وأولادا غضب الله وليسوا ليعجزوه. قد حبطت أعمالهم وخسروا في الدنيا والآخرة ولهم النار مع الكفار خالدين فيها. وعليهم اللعنة.
وأسلوب الآيات قوي حاسم في كل ما جاءت بسبيله من جهة وموثق من جهة أخرى لكون الآيات جميعها منذ الآية :( ٤٢ ) بل منذ الآية :( ٣٧ ) سلسلة متصلة الأجزاء للتنديد بالمنافقين وتقريعهم والتذكير بأخلاقهم ومكائدهم ومواقفهم التي كانت تبدر منهم قبل غزوة بدر في مناسبة الموقف الذي وقفوه من الدعوة إلى غزوة تبوك وتهربهم منها. ولعل ذكر المنافقات في الآيات تدعيم لما قررناه من حيث إنه لم يرو أحد من المنافقات من كان خرج مع من خرج من المنافقين في غزوة تبوك. وإنما أشركن بالذكر ؛ لأنهن كن يشاركن المنافقين في الدور الخبيث الذي كانوا يقومون به في المدينة. ولقد تكرر ذكر المنافقات مع المنافقين في أكثر من موضع ؛ حيث يدعم هذا ما قلناه في المناسبات السابقة من الدلالة على شخصية المرأة العربية وبروزها في بيئة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو على الأقل على وجود شخصيات نسائية بارزة. وهذه الدلالة منطوية في ما تكرر ذكره من المؤمنات المخلصات في مواضع عديدة أيضا.
ويحسن أن ننبه في مناسبة الآية ( ٧٠ ) إلى أسلوب من أساليب النظم القرآني. فأخبار الأمم السابقة ورسلهم في السور المكية كانت تقص بشيء من التفصيل. وإذا اقتضت حكمة التنزيل أن تذكر اقتضابا كانت العبارة القرآنية تتضمن مع ذلك شيئا ما عنها وعنهم. أما في السور المدنية فاكتفى بالتذكير الخاطف كما جاء في هذه الآية وفي بعض سور أخرى مثل الحديد والتغابن.
ولقد أورد المفسرون في سياق هذه الآية حديثا عن أبي هريرة رواه بشيء من الخلاف في الألفاظ والترتيب الشيخان عن أبي سعيد رأينا الأفضل إيراده جاء فيه قال :( قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لتتبعن سنن الذين من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع، حتى لو دخلوا في جحر ضب لاتبعتموهم. قلنا يا رسول الله اليهود والنصارى ؟ قال : فمن ؟ وفي رواية قيل : يا رسول الله كفارس والروم. قال : ومن الناس إلا أولئك ) ( ١ )١. وأورد المفسرون الذين أوردوا صيغة أبي هريرة قوله :( اقرءوا إذا شئتم ﴿ كالذين من قبلكم ﴾ إلى آخر الآية ). ويلحظ أن الآيات هي في صدد المنافقين السامعين والتذكير بأن في الأمم السابقة من كان على شاكلتهم فأحبط الله أعمالهم وجعل النار دار خلود لهم، وأن هذا ما سوف يكون شأن هؤلاء المنافقين بحيث يكون إيراد الحديث الذي فيه خطاب للمسلمين عامة يتحمل التوقف. ومع ذلك ففي الحديث على كل حكمة ومعجزة ؛ حيث انطوى على تحذير المسلمين وتنبيههم حتى لا يسيروا في كل طريق سار فيه اليهود والنصارى أو الروم والفرس مما ليس فيه فائدة أو فيه مخالفة لمبادئ الإسلام وآدابه وحيث تحقق تنبيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما كان من فئات كثيرة من مثل ذلك.
١ انظر التاج ج ١ ص ٣٦ – ٣٧..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٦٧:﴿ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ( ٦٧ ) وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ ( ٦٨ ) كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاَدًا فَاسْتَمْتَعُواْ بِخَلاقِهِمْ ( ١ ) فَاسْتَمْتَعْتُم بِخَلاَقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُواْ ( ٢ ) أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الُّدنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ( ٦٩ ) أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وِأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ( ٧٠ ) ﴾ ( ٦٧ – ٧٠ ).

تعليق على الآية :

﴿ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ........................ ﴾
والآيات الثلاث التي بعدها وما فيها من صور ودلالات
عبارة الآيات واضحة. ولم يرو المفسرون رواية ما في صددها. والمتبادر أنها استمرار في السياق وجزء من السلسلة. وقد جاءت معقبة على الآيات السابقة التي احتوت ما احتوته من مشاهد مواقف المنافقين ومكائدهم وسوء أدبهم ونواياهم بسبيل تقرير أخلاقهم بصورة عامة وكونهم عصبة واحدة متضامنة نساء ورجالا في الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف والبخل بما في أيديهم ونسيانهم الله وحسابه، وإنذارهم مع تهوين أمرهم وتقرير كونهم ليسوا بدعا في الأمم لا في كثرة المال والولد. ولا في متاع الدنيا والتمكين منها. ولا في ما كان منهم من كيد وخبث ومكر وكفر وخوض وتكذيب. ولقد حل بسابقيهم من أمثالهم الذين كانوا أشد منهم قوة وأكثر أموالا وأولادا غضب الله وليسوا ليعجزوه. قد حبطت أعمالهم وخسروا في الدنيا والآخرة ولهم النار مع الكفار خالدين فيها. وعليهم اللعنة.
وأسلوب الآيات قوي حاسم في كل ما جاءت بسبيله من جهة وموثق من جهة أخرى لكون الآيات جميعها منذ الآية :( ٤٢ ) بل منذ الآية :( ٣٧ ) سلسلة متصلة الأجزاء للتنديد بالمنافقين وتقريعهم والتذكير بأخلاقهم ومكائدهم ومواقفهم التي كانت تبدر منهم قبل غزوة بدر في مناسبة الموقف الذي وقفوه من الدعوة إلى غزوة تبوك وتهربهم منها. ولعل ذكر المنافقات في الآيات تدعيم لما قررناه من حيث إنه لم يرو أحد من المنافقات من كان خرج مع من خرج من المنافقين في غزوة تبوك. وإنما أشركن بالذكر ؛ لأنهن كن يشاركن المنافقين في الدور الخبيث الذي كانوا يقومون به في المدينة. ولقد تكرر ذكر المنافقات مع المنافقين في أكثر من موضع ؛ حيث يدعم هذا ما قلناه في المناسبات السابقة من الدلالة على شخصية المرأة العربية وبروزها في بيئة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو على الأقل على وجود شخصيات نسائية بارزة. وهذه الدلالة منطوية في ما تكرر ذكره من المؤمنات المخلصات في مواضع عديدة أيضا.
ويحسن أن ننبه في مناسبة الآية ( ٧٠ ) إلى أسلوب من أساليب النظم القرآني. فأخبار الأمم السابقة ورسلهم في السور المكية كانت تقص بشيء من التفصيل. وإذا اقتضت حكمة التنزيل أن تذكر اقتضابا كانت العبارة القرآنية تتضمن مع ذلك شيئا ما عنها وعنهم. أما في السور المدنية فاكتفى بالتذكير الخاطف كما جاء في هذه الآية وفي بعض سور أخرى مثل الحديد والتغابن.
ولقد أورد المفسرون في سياق هذه الآية حديثا عن أبي هريرة رواه بشيء من الخلاف في الألفاظ والترتيب الشيخان عن أبي سعيد رأينا الأفضل إيراده جاء فيه قال :( قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لتتبعن سنن الذين من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع، حتى لو دخلوا في جحر ضب لاتبعتموهم. قلنا يا رسول الله اليهود والنصارى ؟ قال : فمن ؟ وفي رواية قيل : يا رسول الله كفارس والروم. قال : ومن الناس إلا أولئك ) ( ١ )١. وأورد المفسرون الذين أوردوا صيغة أبي هريرة قوله :( اقرءوا إذا شئتم ﴿ كالذين من قبلكم ﴾ إلى آخر الآية ). ويلحظ أن الآيات هي في صدد المنافقين السامعين والتذكير بأن في الأمم السابقة من كان على شاكلتهم فأحبط الله أعمالهم وجعل النار دار خلود لهم، وأن هذا ما سوف يكون شأن هؤلاء المنافقين بحيث يكون إيراد الحديث الذي فيه خطاب للمسلمين عامة يتحمل التوقف. ومع ذلك ففي الحديث على كل حكمة ومعجزة ؛ حيث انطوى على تحذير المسلمين وتنبيههم حتى لا يسيروا في كل طريق سار فيه اليهود والنصارى أو الروم والفرس مما ليس فيه فائدة أو فيه مخالفة لمبادئ الإسلام وآدابه وحيث تحقق تنبيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما كان من فئات كثيرة من مثل ذلك.
١ انظر التاج ج ١ ص ٣٦ – ٣٧..

( ١ ) بخلاقهم : بنصيبهم.
( ٢ ) وخضتم كالذي خاضوا : بمعنى وفعلتم ما فعلوه من خوض وسعي في الباطل والفساد.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٦٧:﴿ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ( ٦٧ ) وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ ( ٦٨ ) كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاَدًا فَاسْتَمْتَعُواْ بِخَلاقِهِمْ ( ١ ) فَاسْتَمْتَعْتُم بِخَلاَقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُواْ ( ٢ ) أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الُّدنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ( ٦٩ ) أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وِأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ( ٧٠ ) ﴾ ( ٦٧ – ٧٠ ).

تعليق على الآية :

﴿ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ........................ ﴾
والآيات الثلاث التي بعدها وما فيها من صور ودلالات
عبارة الآيات واضحة. ولم يرو المفسرون رواية ما في صددها. والمتبادر أنها استمرار في السياق وجزء من السلسلة. وقد جاءت معقبة على الآيات السابقة التي احتوت ما احتوته من مشاهد مواقف المنافقين ومكائدهم وسوء أدبهم ونواياهم بسبيل تقرير أخلاقهم بصورة عامة وكونهم عصبة واحدة متضامنة نساء ورجالا في الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف والبخل بما في أيديهم ونسيانهم الله وحسابه، وإنذارهم مع تهوين أمرهم وتقرير كونهم ليسوا بدعا في الأمم لا في كثرة المال والولد. ولا في متاع الدنيا والتمكين منها. ولا في ما كان منهم من كيد وخبث ومكر وكفر وخوض وتكذيب. ولقد حل بسابقيهم من أمثالهم الذين كانوا أشد منهم قوة وأكثر أموالا وأولادا غضب الله وليسوا ليعجزوه. قد حبطت أعمالهم وخسروا في الدنيا والآخرة ولهم النار مع الكفار خالدين فيها. وعليهم اللعنة.
وأسلوب الآيات قوي حاسم في كل ما جاءت بسبيله من جهة وموثق من جهة أخرى لكون الآيات جميعها منذ الآية :( ٤٢ ) بل منذ الآية :( ٣٧ ) سلسلة متصلة الأجزاء للتنديد بالمنافقين وتقريعهم والتذكير بأخلاقهم ومكائدهم ومواقفهم التي كانت تبدر منهم قبل غزوة بدر في مناسبة الموقف الذي وقفوه من الدعوة إلى غزوة تبوك وتهربهم منها. ولعل ذكر المنافقات في الآيات تدعيم لما قررناه من حيث إنه لم يرو أحد من المنافقات من كان خرج مع من خرج من المنافقين في غزوة تبوك. وإنما أشركن بالذكر ؛ لأنهن كن يشاركن المنافقين في الدور الخبيث الذي كانوا يقومون به في المدينة. ولقد تكرر ذكر المنافقات مع المنافقين في أكثر من موضع ؛ حيث يدعم هذا ما قلناه في المناسبات السابقة من الدلالة على شخصية المرأة العربية وبروزها في بيئة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو على الأقل على وجود شخصيات نسائية بارزة. وهذه الدلالة منطوية في ما تكرر ذكره من المؤمنات المخلصات في مواضع عديدة أيضا.
ويحسن أن ننبه في مناسبة الآية ( ٧٠ ) إلى أسلوب من أساليب النظم القرآني. فأخبار الأمم السابقة ورسلهم في السور المكية كانت تقص بشيء من التفصيل. وإذا اقتضت حكمة التنزيل أن تذكر اقتضابا كانت العبارة القرآنية تتضمن مع ذلك شيئا ما عنها وعنهم. أما في السور المدنية فاكتفى بالتذكير الخاطف كما جاء في هذه الآية وفي بعض سور أخرى مثل الحديد والتغابن.
ولقد أورد المفسرون في سياق هذه الآية حديثا عن أبي هريرة رواه بشيء من الخلاف في الألفاظ والترتيب الشيخان عن أبي سعيد رأينا الأفضل إيراده جاء فيه قال :( قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لتتبعن سنن الذين من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع، حتى لو دخلوا في جحر ضب لاتبعتموهم. قلنا يا رسول الله اليهود والنصارى ؟ قال : فمن ؟ وفي رواية قيل : يا رسول الله كفارس والروم. قال : ومن الناس إلا أولئك ) ( ١ )١. وأورد المفسرون الذين أوردوا صيغة أبي هريرة قوله :( اقرءوا إذا شئتم ﴿ كالذين من قبلكم ﴾ إلى آخر الآية ). ويلحظ أن الآيات هي في صدد المنافقين السامعين والتذكير بأن في الأمم السابقة من كان على شاكلتهم فأحبط الله أعمالهم وجعل النار دار خلود لهم، وأن هذا ما سوف يكون شأن هؤلاء المنافقين بحيث يكون إيراد الحديث الذي فيه خطاب للمسلمين عامة يتحمل التوقف. ومع ذلك ففي الحديث على كل حكمة ومعجزة ؛ حيث انطوى على تحذير المسلمين وتنبيههم حتى لا يسيروا في كل طريق سار فيه اليهود والنصارى أو الروم والفرس مما ليس فيه فائدة أو فيه مخالفة لمبادئ الإسلام وآدابه وحيث تحقق تنبيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما كان من فئات كثيرة من مثل ذلك.
١ انظر التاج ج ١ ص ٣٦ – ٣٧..

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٦٧:﴿ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ( ٦٧ ) وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ ( ٦٨ ) كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاَدًا فَاسْتَمْتَعُواْ بِخَلاقِهِمْ ( ١ ) فَاسْتَمْتَعْتُم بِخَلاَقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُواْ ( ٢ ) أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الُّدنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ( ٦٩ ) أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وِأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ( ٧٠ ) ﴾ ( ٦٧ – ٧٠ ).

تعليق على الآية :

﴿ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ........................ ﴾
والآيات الثلاث التي بعدها وما فيها من صور ودلالات
عبارة الآيات واضحة. ولم يرو المفسرون رواية ما في صددها. والمتبادر أنها استمرار في السياق وجزء من السلسلة. وقد جاءت معقبة على الآيات السابقة التي احتوت ما احتوته من مشاهد مواقف المنافقين ومكائدهم وسوء أدبهم ونواياهم بسبيل تقرير أخلاقهم بصورة عامة وكونهم عصبة واحدة متضامنة نساء ورجالا في الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف والبخل بما في أيديهم ونسيانهم الله وحسابه، وإنذارهم مع تهوين أمرهم وتقرير كونهم ليسوا بدعا في الأمم لا في كثرة المال والولد. ولا في متاع الدنيا والتمكين منها. ولا في ما كان منهم من كيد وخبث ومكر وكفر وخوض وتكذيب. ولقد حل بسابقيهم من أمثالهم الذين كانوا أشد منهم قوة وأكثر أموالا وأولادا غضب الله وليسوا ليعجزوه. قد حبطت أعمالهم وخسروا في الدنيا والآخرة ولهم النار مع الكفار خالدين فيها. وعليهم اللعنة.
وأسلوب الآيات قوي حاسم في كل ما جاءت بسبيله من جهة وموثق من جهة أخرى لكون الآيات جميعها منذ الآية :( ٤٢ ) بل منذ الآية :( ٣٧ ) سلسلة متصلة الأجزاء للتنديد بالمنافقين وتقريعهم والتذكير بأخلاقهم ومكائدهم ومواقفهم التي كانت تبدر منهم قبل غزوة بدر في مناسبة الموقف الذي وقفوه من الدعوة إلى غزوة تبوك وتهربهم منها. ولعل ذكر المنافقات في الآيات تدعيم لما قررناه من حيث إنه لم يرو أحد من المنافقات من كان خرج مع من خرج من المنافقين في غزوة تبوك. وإنما أشركن بالذكر ؛ لأنهن كن يشاركن المنافقين في الدور الخبيث الذي كانوا يقومون به في المدينة. ولقد تكرر ذكر المنافقات مع المنافقين في أكثر من موضع ؛ حيث يدعم هذا ما قلناه في المناسبات السابقة من الدلالة على شخصية المرأة العربية وبروزها في بيئة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو على الأقل على وجود شخصيات نسائية بارزة. وهذه الدلالة منطوية في ما تكرر ذكره من المؤمنات المخلصات في مواضع عديدة أيضا.
ويحسن أن ننبه في مناسبة الآية ( ٧٠ ) إلى أسلوب من أساليب النظم القرآني. فأخبار الأمم السابقة ورسلهم في السور المكية كانت تقص بشيء من التفصيل. وإذا اقتضت حكمة التنزيل أن تذكر اقتضابا كانت العبارة القرآنية تتضمن مع ذلك شيئا ما عنها وعنهم. أما في السور المدنية فاكتفى بالتذكير الخاطف كما جاء في هذه الآية وفي بعض سور أخرى مثل الحديد والتغابن.
ولقد أورد المفسرون في سياق هذه الآية حديثا عن أبي هريرة رواه بشيء من الخلاف في الألفاظ والترتيب الشيخان عن أبي سعيد رأينا الأفضل إيراده جاء فيه قال :( قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لتتبعن سنن الذين من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع، حتى لو دخلوا في جحر ضب لاتبعتموهم. قلنا يا رسول الله اليهود والنصارى ؟ قال : فمن ؟ وفي رواية قيل : يا رسول الله كفارس والروم. قال : ومن الناس إلا أولئك ) ( ١ )١. وأورد المفسرون الذين أوردوا صيغة أبي هريرة قوله :( اقرءوا إذا شئتم ﴿ كالذين من قبلكم ﴾ إلى آخر الآية ). ويلحظ أن الآيات هي في صدد المنافقين السامعين والتذكير بأن في الأمم السابقة من كان على شاكلتهم فأحبط الله أعمالهم وجعل النار دار خلود لهم، وأن هذا ما سوف يكون شأن هؤلاء المنافقين بحيث يكون إيراد الحديث الذي فيه خطاب للمسلمين عامة يتحمل التوقف. ومع ذلك ففي الحديث على كل حكمة ومعجزة ؛ حيث انطوى على تحذير المسلمين وتنبيههم حتى لا يسيروا في كل طريق سار فيه اليهود والنصارى أو الروم والفرس مما ليس فيه فائدة أو فيه مخالفة لمبادئ الإسلام وآدابه وحيث تحقق تنبيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما كان من فئات كثيرة من مثل ذلك.
١ انظر التاج ج ١ ص ٣٦ – ٣٧..

﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( ٧١ ) وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( ٧٢ ) ﴾ ( ٧١ – ٧٢ ).
تعليق على الآية :
﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ ﴾
والآية التالية لها. وما فيهما من دلالة وتلقين، وبخاصة
في صدد توطيد شخصية المرأة إزاء الرجل في المجتمع الإسلامي.
وبعض ما ورد في سياقهما من أحاديث نبوية عن الجنة ورضوان الله
عبارة الآيتين واضحة أيضا، ولم يرو المفسرون رواية خاصة في صددهما. والمتبادر أنهما جاءتا استطراديتين للتنويه بالمؤمنين المخلصين وتبشيرهم مقابل ما سبقهما من التنديد بالمنافقين وإنذارهم : فالمؤمنون المخلصون من الرجال والنساء متضامنون متناصرون على كل ما فيه الخير والحق فيأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله وسيكونون بسبب ذلك موضع رحمة الله القوي الحكيم. وقد وعدهم بالخلود في مساكن طيبة من جنات عدن فضلا عن رضوان الله الذي يفوق في مداه ومعناه نعيم الجنات.
وعلى هذا فالآيتان ليستا منفصلتين عن السياق والسلسلة. ومثل هذا الاستطراد للمقابلة مألوف في النظم القرآني مما مر منه أمثلة عديدة. وورود الآيتين في مقامهما يوثق ما قلناه من وحدة السلسلة وانسجام آياتها وترابطها.
وذكر المؤمنات في هذا المقام يؤكد الدلالة التي نبهنا عليها قبل قليل في صدد بروز المرأة العربية ونشاطها في بيئة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومشاركتها في ما كان من أحداث متنوعة في مجال الدعوة الإسلامية العظيم.
وفي ذكر المؤمنات مع المؤمنين في الآيات معنى آخر نوهنا به في مناسبات عديدة سابقة وجاءت الآيتان لتدعمه وتؤكده بقوة. وهو توطيد القرآن الكريم لشخصية المرأة إزاء الرجل في المجتمع الإسلامي. ومساواتها معه في المكانة الاجتماعية والسياسية والأهلية للتكاليف الإسلامية على أنواعها، وبخاصة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتضامن والتناصر مع الرجل في كل ما يعود على المجتمع بالصلاح والخير مما هو ذو خطورة عظمى امتاز به القرآن وترشحت به الشريعة الإسلامية للشمول والخلود. وهذه السورة من أواخر ما نزل من القرآن على ما نبهنا عليه في مقدمتها. ويتبادر لنا أن حكمة التنزيل قد شاءت بذكر المؤمنات بهذا الأسلوب القوي في أواخر سور القرآن توكيد توطيد مركز المرأة وشخصيتها في المجتمع الإسلامي سياسيا واجتماعيا على قدم المساواة مع الرجل ليكون هذا الأمر محكما وحاسما. وفي هذا ما فيه من روعة وجلال.
ولقد أورد المفسرون في سياق هاتين الآيتين أحاديث نبوية عديدة في وصف الجنة والمساكن الطيبة ورضوان الله، وفي بعضها حث على الأعمال الصالحة وترغيب فيها. من ذلك حديث رواه ابن ماجة عن أسامة بن زيد قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ألا هل مشمر إلى الجنة. فإن الجنة لا حظر لها، هي ورب الكعبة نور يتلألأ، وريحانة تهتز، وقصر مشيد ونهر مطرد، وثمرة نضيجة، وزوجة حسناء جميلة، وحلل كثيرة، ومقام في أبد في دار سليمة وفاكهة وخضرة، وحبرة ونعمة في محلة عالية بهية. قالوا : نعم يا رسول الله نحن المشمرون لها. قال : قولوا إن شاء الله. فقال القوم إن شاء الله ) ( ١ )١. ومنها حديث رواه الترمذي عن علي رضي الله عنه قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن في الجنة لغرفا يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها. فقام أعرابي فقال : يا رسول الله لمن هي ؟ فقال : لمن طيب الكلام وأطعم الطعام، وأدام الصيام، وصلى بالليل والناس نيام ) ( ٢ )٢.
ومنها حديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي سعيد قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن الله تعالى يقول لأهل الجنة : يا أهل الجنة. فيقولون : لبيك ربنا وسعديك والخير في يديك. فيقول : هل رضيتم ؟ فيقولون : وما لنا لا نرضى يا رب وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك. فيقول : ألا أعطيكم أفضل من ذلك ؟ فيقولون : يا رب وأي شيء أفضل من ذلك فيقول : أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا ) ( ٣ )٣. ومنها حديث رواه الشيخان والترمذي أيضا عن عبد الله بن قيس قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن ) ( ١ )٤. ومنها حديث عن أبي هريرة رواه الإمام أحمد قال :( قلنا : يا رسول الله حدثنا عن الجنة ما بناؤها قال : لبنة ذهب ولبنة فضة وملاطها المسك، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، وترابها الزعفران. من يدخلها ينعم لا ييأس، ويخلد لا يموت، ولا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه ) ( ٢ )٥.
وليست هذه الأحاديث كل ما ورد في هذا الباب، فهناك أحاديث كثيرة من بابها أوردها المفسرون أو وردت في كتب الحديث فاكتفينا بما أوردناه. ونكرر هنا ما قلناه في مناسبات سابقة مماثلة من أن الإيمان بما جاء في القرآن وثبت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من المشاهد الأخروية ونعيمها واجب. وأنه في نطاق قدرة الله وأنه لا بد من حكمة من ذكره بالأسلوب الذي ورد به. وفحوى الآيات والأحاديث يلهم أن من تلك الحكمة التبشير والتطمين، والترغيب والحث على صالح الأعمال ابتغاء رضا الله ورضوانه.
١ من تفسير ابن كثير في سياق الآيات..
٢ المصدر نفسه..
٣ من ابن كثير وقد ورد نصه في التاج ج ٥ ص ٣٨٤..
٤ من ابن كثير وقد ورد نصه في التاج ج ٥ ص ٣٨٣..
٥ من ابن كثير، وهناك أحاديث عديدة أخرى فاكتفينا بما أوردناه. انظر تفسير الطبري وانظر التاج ج ٥ ص ٣٦٤ وما بعدها..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٧١:﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( ٧١ ) وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( ٧٢ ) ﴾ ( ٧١ – ٧٢ ).

تعليق على الآية :

﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ ﴾
والآية التالية لها. وما فيهما من دلالة وتلقين، وبخاصة
في صدد توطيد شخصية المرأة إزاء الرجل في المجتمع الإسلامي.
وبعض ما ورد في سياقهما من أحاديث نبوية عن الجنة ورضوان الله
عبارة الآيتين واضحة أيضا، ولم يرو المفسرون رواية خاصة في صددهما. والمتبادر أنهما جاءتا استطراديتين للتنويه بالمؤمنين المخلصين وتبشيرهم مقابل ما سبقهما من التنديد بالمنافقين وإنذارهم : فالمؤمنون المخلصون من الرجال والنساء متضامنون متناصرون على كل ما فيه الخير والحق فيأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله وسيكونون بسبب ذلك موضع رحمة الله القوي الحكيم. وقد وعدهم بالخلود في مساكن طيبة من جنات عدن فضلا عن رضوان الله الذي يفوق في مداه ومعناه نعيم الجنات.
وعلى هذا فالآيتان ليستا منفصلتين عن السياق والسلسلة. ومثل هذا الاستطراد للمقابلة مألوف في النظم القرآني مما مر منه أمثلة عديدة. وورود الآيتين في مقامهما يوثق ما قلناه من وحدة السلسلة وانسجام آياتها وترابطها.
وذكر المؤمنات في هذا المقام يؤكد الدلالة التي نبهنا عليها قبل قليل في صدد بروز المرأة العربية ونشاطها في بيئة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومشاركتها في ما كان من أحداث متنوعة في مجال الدعوة الإسلامية العظيم.
وفي ذكر المؤمنات مع المؤمنين في الآيات معنى آخر نوهنا به في مناسبات عديدة سابقة وجاءت الآيتان لتدعمه وتؤكده بقوة. وهو توطيد القرآن الكريم لشخصية المرأة إزاء الرجل في المجتمع الإسلامي. ومساواتها معه في المكانة الاجتماعية والسياسية والأهلية للتكاليف الإسلامية على أنواعها، وبخاصة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتضامن والتناصر مع الرجل في كل ما يعود على المجتمع بالصلاح والخير مما هو ذو خطورة عظمى امتاز به القرآن وترشحت به الشريعة الإسلامية للشمول والخلود. وهذه السورة من أواخر ما نزل من القرآن على ما نبهنا عليه في مقدمتها. ويتبادر لنا أن حكمة التنزيل قد شاءت بذكر المؤمنات بهذا الأسلوب القوي في أواخر سور القرآن توكيد توطيد مركز المرأة وشخصيتها في المجتمع الإسلامي سياسيا واجتماعيا على قدم المساواة مع الرجل ليكون هذا الأمر محكما وحاسما. وفي هذا ما فيه من روعة وجلال.
ولقد أورد المفسرون في سياق هاتين الآيتين أحاديث نبوية عديدة في وصف الجنة والمساكن الطيبة ورضوان الله، وفي بعضها حث على الأعمال الصالحة وترغيب فيها. من ذلك حديث رواه ابن ماجة عن أسامة بن زيد قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ألا هل مشمر إلى الجنة. فإن الجنة لا حظر لها، هي ورب الكعبة نور يتلألأ، وريحانة تهتز، وقصر مشيد ونهر مطرد، وثمرة نضيجة، وزوجة حسناء جميلة، وحلل كثيرة، ومقام في أبد في دار سليمة وفاكهة وخضرة، وحبرة ونعمة في محلة عالية بهية. قالوا : نعم يا رسول الله نحن المشمرون لها. قال : قولوا إن شاء الله. فقال القوم إن شاء الله ) ( ١ )١. ومنها حديث رواه الترمذي عن علي رضي الله عنه قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن في الجنة لغرفا يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها. فقام أعرابي فقال : يا رسول الله لمن هي ؟ فقال : لمن طيب الكلام وأطعم الطعام، وأدام الصيام، وصلى بالليل والناس نيام ) ( ٢ )٢.
ومنها حديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي سعيد قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن الله تعالى يقول لأهل الجنة : يا أهل الجنة. فيقولون : لبيك ربنا وسعديك والخير في يديك. فيقول : هل رضيتم ؟ فيقولون : وما لنا لا نرضى يا رب وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك. فيقول : ألا أعطيكم أفضل من ذلك ؟ فيقولون : يا رب وأي شيء أفضل من ذلك فيقول : أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا ) ( ٣ )٣. ومنها حديث رواه الشيخان والترمذي أيضا عن عبد الله بن قيس قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن ) ( ١ )٤. ومنها حديث عن أبي هريرة رواه الإمام أحمد قال :( قلنا : يا رسول الله حدثنا عن الجنة ما بناؤها قال : لبنة ذهب ولبنة فضة وملاطها المسك، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، وترابها الزعفران. من يدخلها ينعم لا ييأس، ويخلد لا يموت، ولا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه ) ( ٢ )٥.
وليست هذه الأحاديث كل ما ورد في هذا الباب، فهناك أحاديث كثيرة من بابها أوردها المفسرون أو وردت في كتب الحديث فاكتفينا بما أوردناه. ونكرر هنا ما قلناه في مناسبات سابقة مماثلة من أن الإيمان بما جاء في القرآن وثبت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من المشاهد الأخروية ونعيمها واجب. وأنه في نطاق قدرة الله وأنه لا بد من حكمة من ذكره بالأسلوب الذي ورد به. وفحوى الآيات والأحاديث يلهم أن من تلك الحكمة التبشير والتطمين، والترغيب والحث على صالح الأعمال ابتغاء رضا الله ورضوانه.
١ من تفسير ابن كثير في سياق الآيات..
٢ المصدر نفسه..
٣ من ابن كثير وقد ورد نصه في التاج ج ٥ ص ٣٨٤..
٤ من ابن كثير وقد ورد نصه في التاج ج ٥ ص ٣٨٣..
٥ من ابن كثير، وهناك أحاديث عديدة أخرى فاكتفينا بما أوردناه. انظر تفسير الطبري وانظر التاج ج ٥ ص ٣٦٤ وما بعدها..

﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ( ٧٣ ) ﴾ ( ٧٣ ).
عبارة الآية واضحة، ولم يرو المفسرون رواية خاصة في صددها. والمتبادر أنها بمثابة وصل بين أجزاء وموضوع السلسلة بعد الآيتين السابقتين اللتين جاءتا للاستطراد والمقابلة.
والمتبادر كذلك أن هدف الآية المباشر هو تلقين الموقف الذي يجب أن يقفه النبي صلى الله عليه وآله وسلم من المنافقين بعد سرد مواقفهم ومكائدهم وأخلاقهم، ولا سيما أن السلسلة في صددهم. أما ذكر الكافرين معهم فالمتبادر أنه من قبيل التعميم. ولقد ذكرت الآية ( ٦٧ ) من السورة التي مرت قبل قليل مصير الفريقين معا فيكون في ذكرهما معا في هذه الآية توكيد الآخر. ولقد ورد نص هذه الآية في سورة التحريم التي سبق تفسيرها. ويظهر أن مناسبة السياق والكلام اقتضت إيحاءها ثانية هنا.
ولقد روى الطبري في سياق الآية روايتين متعارضتين واحدة عن ابن مسعود جاء فيها أن في الآية أمرا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بمجاهدة المنافقين بنحو ما يجاهد به المشركين والكفار، وأخرى عن ابن عباس والضحاك والحسن تفيد التفريق في المعاملة فتكون مجاهدة الكفار بالقتال والسيف والمنافقين بالإغلاظ لهم بالكلام والحدود. وقال الطبري : إن أولى الأقوال بالصواب هو ما قاله ابن مسعود، فإن قاله قائل فكيف تركهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مقيمين بين أظهر أصحابه مع علمه بهم قيل : إن الله تعالى إنما أمر بقتال من أظهر كلمة الكفر منهم ثم أقام على إظهاره. وأما من إذا اطلع عليه منهم أن تكلم بكلمة الكفر وأخذ بها فأنكرها ورجع عنها وقال : إني مسلم فإن حكم الله في كل من أظهر الإسلام بلسانه أن يحقن بذلك دمه وماله وإن كان معتقدا غير ذلك.
ولقد جاء نص هذه الآية في سورة التحريم وهي الآية ( ٩ ) وقد علقنا عليها بما يغني عن تعليق جديد آخر. والمتبادر أن حكمة التنزيل اقتضت تكرارها لتجدد المناسبة. ولقد علقنا على موقف النبي صلى الله عليه وآله وسلم من المنافقين في سياق تفسير بعض آيات سورة البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأحزاب والمنافقون بما يغني عن تعليق جديد آخر أيضا.... وإن كان من شيء نزيده على ما قلنا سابقا هو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ظل إلى آخر حياته لا يعتبر المنافقين أعداء محاربين ولم يقاتلهم ولم يأمر بقتلهم ؛ حيث يلهم هذا أنه اعتبر الآيات الواردة بذلك من قبيل الإذن وليس من قبيل الإلزام، وأن ما كان من موقفه منهم هو ما رأى فيه الخير والمصلحة للإسلام والمسلمين.
ومهما يكن من أمر فهذه الآية كمثيلاتها وعلى ضوء موقف النبي صلى الله عليه وآله وسلم تنطوي على تلقين قوي مستمر المدى بوجوب الوقوف من المنافقين وذوي القلوب المريضة في تصرفاتهم الدينية والاجتماعية والوطنية الشاذة المنحرفة عن الحق القويم موقف الشدة والتنكيل في حدود مصلحة الإسلام والمسلمين.
﴿ يَحْلِفُونَ بِاللّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ وَمَا نَقَمُواْ إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ ( ٧٤ ) ﴾ ( ٧٤ ).
في الآية :
( ١ ) حكاية لما كان المنافقون يحلفون عليه بالله من كونهم لم يقولوا ما نسب إليهم من الأقوال الخبيثة الدالة على كفرهم وعدم إخلاصهم.
( ٢ ) وتكذيب رباني لهم بتوكيد كونهم قد قالوا ما به الكفر وكفروا بعد إيمانهم. وزادوا على ذلك فحاولوا محاولات عدوان أحبطها الله فلم ينالوا منها مأربا.
( ٣ ) وتقرير كون مواقفهم الخبيثة الجاحدة ناشئة من طبيعة نكران الجميل والحسد المجبولة عليها نفوسهم ؛ إذ لم يكن موجب لنقمتهم وغيظهم إلا ما عاد عليهم من الخير والنفع والفضل من الله ورسوله مما يستوجب الشكر بدل النقمة والكفر.
( ٤ ) وإنذار رادع ودعوة جديدة لهم : فباب التوبة مفتوح لهم فإن يتوبوا يكن خيرا لهم وإن يصروا على موقفهم ويعرضوا فقد استحقوا عذاب الله الشديد في الدنيا والآخرة معا، ولن يجدوا لهم في الأرض وليا ولا نصيرا يدفع عنهم العذاب.
تعليق على الآية :
﴿ يحلفون بالله ما قالوا............. ﴾
وما فيها من صور وتلقين
ولقد روى الطبري وغيره روايات عديدة في مناسبة نزول الآيات. منها أن شخصا اسمه الجلاس قال : إن كان ما يقول محمد حقا فنحن شر من الحمير. فنقلها ابن زوجته إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فعاتبه، فحلف بأنه ما قال، فنزلت الآية مكذبة له. ومنها أن الذي نقلها إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم شخص آخر، وكان صديقا للجلاس فقال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم : خفت إن كتمتها أن تصيبني قارعة أو ينزل في قرآن، وإن الجلاس تاب بعد نزول الآية وحسن إيمانه. ومنها أن قائل ذلك القول رجل غير الجلاس فانبرى له رجل مؤمن فقال له : إن ما قاله حق ولأنت شر من حمار، فهم المنافق مع بعض أصحابه بقتله، فلما عاتبهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم حلفوا له ما قالوا وما فعلوا وأن الرجل القائل كان فقيرا فأغناه الله حيث قتل له مولى فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ديته. ومنها أنها نزلت في عبد الله بن أبي بن سلول كبير المنافقين حيث قال : ما مثلنا ومثل محمد إلا كما قاتل القائل : سمن كلبك يأكلك. ولئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. وكان ذلك في أثناء غزوة من غزوات النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ومنها أنها نزلت في حق الذين استغابوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم أثناء غزوة تبوك وتآمروا على قتله. ومنها أن جملة :﴿ وهموا بما لم ينالوا ﴾ عنت تفكير بعضهم بقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ففشلوا أو عنت ما قاله ابن أبي بن سلول. وليس شيء من هذه الروايات واردا في كتب الأحاديث المعتبرة.
وبعض هذه الروايات روي في مناسبة سابقة في هذه السورة وفي سورة ( المنافقون ) وعلى كل حال ففي الآية صورة من صور المنافقين ومواقفهم وأقوالهم ومسارعتهم إلى التنصل وحلف الأيمان من جهة. وقد استهدفت التنديد بهم وفضحهم وإنذارهم وتلقين وجوب الوقوف منهم موقف الشدة من جهة أخرى. ويتبادر لنا إلى هذا أن الآية غير منفصلة عن السياق والتسلسل. وكل ما في الأمر أنها احتوت هذه الصورة على سبيل التذكير بأخلاقهم ومواقفهم في معرض التنديد. ومن المحتمل أن يكون الحادث وقع في أثناء غزوة تبوك فكانت المناسبة قائمة لذكره في السلسلة كما أن من المحتمل أن يكون وقع قبله فذكر على سبيل التذكير.
ولقد تكررت حكاية مواقف مماثلة من المنافقين مما يدل على أن هذا المواقف كانت تتكرر منهم فاستحقوا ما احتوته هذه الآية وأمثالها من التنديد والإنذار.
والفقرة الأخيرة قد تلهم أن المنافقين أخذوا في التناقض وعزلوا عن المجتمع الإسلامي حتى أصبحوا لا يجدون وليا ولا نصيرا. وهذا تطور واضح في مركزهم وفي استعلاء كلمة الله ورسوله.
والدعوة إلى التوبة ونصيحتهم بها حتى في مثل الظرف التطوري الذي صاروا فيه مما هو متسق مع الدعوة والنصيحة القرآنيتين المتكررتين في كل مناسبة وبالنسبة للمنافقين والكفار على السواء، ومؤكد لما نبهنا عليه في المناسبات العديدة السابقة بكون الهدف الجوهري للتنزيل القرآني والشريعة الإسلامية إنما هو إصلاح البشرية وإنقاذ الناس من الضلال والفساد والأخلاق المنكرة.
ولقد ذكرنا قبل أن المفسرين رووا أن جملة :﴿ وَمَا نَقَمُواْ إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ ﴾ عنت شخصا كان فقيرا فصار غنيا بسبب دية حصل عليها بحكم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ويتبادر لنا أنها أشمل مدى وقصد من حادثة شخص واحد، وإن ما تلهمه هو أن عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة قد صار إلى جانب بركته الروحية الفياضة سببا من أسباب الغنى والثروة للناس عامة ومن الجملة المنافقين. وهذا مما يتسق مع الروايات وبخاصة بعد أن أخذ سلطان الإسلام يتوطد ودعوته تنتشر وعاصمته المدينة المنورة – يثرب تزدحم بالناس من كل صوب لمختلف البواعث، والحركة الاقتصادية تقوى نتيجة لذلك.
والتقريع فيها قوي يكشف عن ناحية من نواحي نفوس المنافقين ومقابلتهم الفضل بالجحود، ويكشف في الوقت نفسه عن طبيعة خبثاء الطوية لؤماء الطبع. وهي الحسد للمنعم والكيد للمتفضل والنقمة على مغدق الخير وسببه. وفي ذلك تلقين مستمر المدى بتقبيح هذه الطبيعة ووجوب الاحتراز منها. وتقرير كونها من صفات المنافقين وذوي القلوب المريضة.
ويلحظ أن الآية أكدت أن المنافقين قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إيمانهم. ومع ذلك فحكمة الله اقتضت أن يظل باب التوبة مفتوحا لهم. وليس هناك أي خبر صحيح يذكر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قاتلهم أو قتلهم مما فيه تدعيم لما قلناه في سياق تفسير الآية السابقة لهذه الآيات. وتوافق مع الذي علق به الطبري وأوردناه في سياق آية سورة التحريم ( ٩ ) من أن القتل والقتال لمن كفر بعد إيمانه علانية وأصر على ذلك دون من يكون قال ذلك خفية وعلم الله به، ولكنه أنكره وقال : إني مسلم إذ يكون بذلك قد حقن دمه وحسابه على الله.
﴿ وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ ( ٧٥ ) فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ ( ٧٦ ) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ ( ٧٧ ) أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ ( ٧٨ ) ﴾ ( ٧٥ – ٧٨ ).
في هذه الآيات :
( ١ ) صورة أخرى من مواقف المنافقين ؛ حيث كان بعضهم يعاهد الله وينذر على نفسه إن آتاه الله من فضله ووسع عليه الدنيا بأن يتصدق ويخلص فلما حقق الله له أمنيته بخل وأخلف وعده.
( ٢ ) وتعقيب على هذه الصورة يتضمن تقرير كون هذا الموقف قد أدى إلى اندماغ المخلف بالنفاق اندماغا مستمرا إلى يوم يلقى الله ؛ لأنه أخلف فيما وعد وكذب على الله تعالى فعاقبه الله على ذلك.
( ٣ ) وسؤال استنكاري فيه إنذار ووعيد عما إذا كان المنافقون وهم يقفون مثل هذه المواقف الغادرة الكاذبة لا يعلمون أن الله يعلم سرهم ونجواهم، وأنه علام الغيوب لا تفوته هاجسة ولا يغرب عن علمه شيء مما يدور في خلدهم ؟
تعليق على الآية :
﴿ وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ...... ﴾ الخ
والآية التالية لها وما فيهما من صور وتلقين
ولقد روى المفسرون١، أن شخصا اسمه ثعلبة بن حاطب طلب من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يدعو الله ليرزقه مالا فقال له : ويحك يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه، فأعاد عليه السؤال فقال له : أما ترضى أن تكون مثل نبي الله، والذي نفسي بيده لو شئت أن تسير معي الجبال ذهبا وفضة لسارت. فقال له : والذي بعثك بالحق لئن دعوت الله فرزقني مالا لأعطين كل ذي حق حقه. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : اللهم ارزق ثعلبة مالا. فاتخذ غنما فنمت كما ينمو الدود حتى ضاقت عليه المدينة فتنحى عنها، فنزل واديا وصار يقصر في واجبات الصلاة. وظل ماله ينمو وعلم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأمره فأرسل من يأخذ صدقة ماله منه فأبى وقال : ما هذه إلا جزية أو أختها، فأنزل الله فيه الآيات. ورووا إلى هذه الرواية روايات أخرى منها أن ثعلبة نذر بما نذر أمام ملأ من قومه ثم ورث مالا فلم يف بما وعد. ومنها أن هذا النذر كان من جماعة من بني عوف فآتاهم الله من فضله فبخلوا. ومنها أنها نزلت في حاطب بن بلتعة. كان له مال في الشام فأبطأ عليه وجهد لذلك جهدا شديدا فحلف لئن أتاه ذلك المال ليصدقن فأتاه فلم يفعل.
وليس شيء من هذه الروايات واردا في كتب أحاديث معتبرة. ولقد روينا قصة لحاطب بن بلتعة في سياق سورة الممتحنة تفيد أنه كان مخلصا وممن شهدوا بدرا ؛ لذلك نستبعد صحة الرواية عنه. وفي الرواية التي ذكر فيها ثعلبة أن بعض أقاربه قال له : ويحك قد أنزل الله فيك قرآنا حتى أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فسأله أن يقبل صدقته فقال له : إن الله منعني من ذلك فجعل يحثو التراب على رأسه فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : هذا عملك فقد أمرتك فلم تطعني. وقبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يقبض صدقته. فأتى أبا بكر فعرض عليه صدقته فقال له : لم يقبلها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا أقبلها مستنكرا. وقبض أبو بكر ولم يقبضها، فجاء إلى عمر فرفضها، ثم جاء بعده إلى عثمان فرفضها. ومات في زمن عثمان. وهذا التفصيل عجيب. فالروايات لا تذكر أنه كان من المنافقين. والآية السابقة تشجع المنافقين على التوبة وتعدهم بالخير إذا فعلوا. والآية الثانية إلى كل هذا تلهم أن الذين عاهدوا الله وأخلفوه أكثر من واحد وأنهم كانوا من المنافقين.
وعلى كل حال فالآيات تضمنت حكاية مشهد أو صورة خبيثة من مشاهد المنافقين ومواقفهم. والذي نرجحه أن ذلك كان مما وقع قبل غزوة تبوك فاحتوت الآيات تذكيرا بذلك في معرض سرد أخلاق المنافقين كما هو الحال في الآيات السابقة، وأن الآيات والحكمة هذه جزء من السلسلة ولم تنزل لحدتها في مناسبة إحدى الروايات المروية. والله تعالى أعلم.
وواضح أن الآيات تنطوي كسابقاتها على تلقين مستمر المدى بتقبيح هذه الصورة وتقرير كونها من أخلاق المنافقين.
ولقد أورد الطبري في سياقها بعض الأحاديث من ذلك حديث مرفوع رواه قتادة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( تكفلوا لي بست أتكفل لكم بالجنة. قالوا : ما هي يا رسول الله قال : إذا حدثتم فلا تكذبوا، وإذا وعدتم فلا تخلفوا، وإذا اؤتمنتم فلا تخونوا، وكفوا أبصاركم وأيديكم وفروجكم : أبصاركم عن الخيانة، وأيديكم عن السرقة، وفروجكم عن الزنا ) وحديث مرفوع آخر رواه الحسن عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال :( ثلاث من كن فيه صار منافقا وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم : إذا حدث كذب وإذا اؤتمن خان وإذا وعد أخلف ). وهناك حديثان من باب الثاني رواهما الشيخان والترمذي وأبو داود جاء في أحدهما : عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم :( آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان ) ( ١ )٢. وثانيهما عن عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خلة منهن كانت فيه خلة من نفاق حتى يدعها : إذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا وعد أخلف وإذا خاصم فجر ) ( ٢ )٣.
وفي الأحاديث مقاييس بليغة لمنافقين، ومن الحكمة المنطوية فيها كما هو المتبادر تقبيح هذه الصفات والتحذير منها وتقرير كونها لا يمكن أن تكون في مؤمن مخلص.
١ انظر الطبري والبغوي والطبرسي..
٢ التاج ج ٥ ص ٤١..
٣ المصدر نفسه..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٧٥:﴿ وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ ( ٧٥ ) فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ ( ٧٦ ) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ ( ٧٧ ) أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ ( ٧٨ ) ﴾ ( ٧٥ – ٧٨ ).

في هذه الآيات :

( ١ ) صورة أخرى من مواقف المنافقين ؛ حيث كان بعضهم يعاهد الله وينذر على نفسه إن آتاه الله من فضله ووسع عليه الدنيا بأن يتصدق ويخلص فلما حقق الله له أمنيته بخل وأخلف وعده.
( ٢ ) وتعقيب على هذه الصورة يتضمن تقرير كون هذا الموقف قد أدى إلى اندماغ المخلف بالنفاق اندماغا مستمرا إلى يوم يلقى الله ؛ لأنه أخلف فيما وعد وكذب على الله تعالى فعاقبه الله على ذلك.
( ٣ ) وسؤال استنكاري فيه إنذار ووعيد عما إذا كان المنافقون وهم يقفون مثل هذه المواقف الغادرة الكاذبة لا يعلمون أن الله يعلم سرهم ونجواهم، وأنه علام الغيوب لا تفوته هاجسة ولا يغرب عن علمه شيء مما يدور في خلدهم ؟

تعليق على الآية :

﴿ وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ...... ﴾ الخ
والآية التالية لها وما فيهما من صور وتلقين
ولقد روى المفسرون١، أن شخصا اسمه ثعلبة بن حاطب طلب من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يدعو الله ليرزقه مالا فقال له : ويحك يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه، فأعاد عليه السؤال فقال له : أما ترضى أن تكون مثل نبي الله، والذي نفسي بيده لو شئت أن تسير معي الجبال ذهبا وفضة لسارت. فقال له : والذي بعثك بالحق لئن دعوت الله فرزقني مالا لأعطين كل ذي حق حقه. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : اللهم ارزق ثعلبة مالا. فاتخذ غنما فنمت كما ينمو الدود حتى ضاقت عليه المدينة فتنحى عنها، فنزل واديا وصار يقصر في واجبات الصلاة. وظل ماله ينمو وعلم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأمره فأرسل من يأخذ صدقة ماله منه فأبى وقال : ما هذه إلا جزية أو أختها، فأنزل الله فيه الآيات. ورووا إلى هذه الرواية روايات أخرى منها أن ثعلبة نذر بما نذر أمام ملأ من قومه ثم ورث مالا فلم يف بما وعد. ومنها أن هذا النذر كان من جماعة من بني عوف فآتاهم الله من فضله فبخلوا. ومنها أنها نزلت في حاطب بن بلتعة. كان له مال في الشام فأبطأ عليه وجهد لذلك جهدا شديدا فحلف لئن أتاه ذلك المال ليصدقن فأتاه فلم يفعل.
وليس شيء من هذه الروايات واردا في كتب أحاديث معتبرة. ولقد روينا قصة لحاطب بن بلتعة في سياق سورة الممتحنة تفيد أنه كان مخلصا وممن شهدوا بدرا ؛ لذلك نستبعد صحة الرواية عنه. وفي الرواية التي ذكر فيها ثعلبة أن بعض أقاربه قال له : ويحك قد أنزل الله فيك قرآنا حتى أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فسأله أن يقبل صدقته فقال له : إن الله منعني من ذلك فجعل يحثو التراب على رأسه فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : هذا عملك فقد أمرتك فلم تطعني. وقبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يقبض صدقته. فأتى أبا بكر فعرض عليه صدقته فقال له : لم يقبلها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا أقبلها مستنكرا. وقبض أبو بكر ولم يقبضها، فجاء إلى عمر فرفضها، ثم جاء بعده إلى عثمان فرفضها. ومات في زمن عثمان. وهذا التفصيل عجيب. فالروايات لا تذكر أنه كان من المنافقين. والآية السابقة تشجع المنافقين على التوبة وتعدهم بالخير إذا فعلوا. والآية الثانية إلى كل هذا تلهم أن الذين عاهدوا الله وأخلفوه أكثر من واحد وأنهم كانوا من المنافقين.
وعلى كل حال فالآيات تضمنت حكاية مشهد أو صورة خبيثة من مشاهد المنافقين ومواقفهم. والذي نرجحه أن ذلك كان مما وقع قبل غزوة تبوك فاحتوت الآيات تذكيرا بذلك في معرض سرد أخلاق المنافقين كما هو الحال في الآيات السابقة، وأن الآيات والحكمة هذه جزء من السلسلة ولم تنزل لحدتها في مناسبة إحدى الروايات المروية. والله تعالى أعلم.
وواضح أن الآيات تنطوي كسابقاتها على تلقين مستمر المدى بتقبيح هذه الصورة وتقرير كونها من أخلاق المنافقين.
ولقد أورد الطبري في سياقها بعض الأحاديث من ذلك حديث مرفوع رواه قتادة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( تكفلوا لي بست أتكفل لكم بالجنة. قالوا : ما هي يا رسول الله قال : إذا حدثتم فلا تكذبوا، وإذا وعدتم فلا تخلفوا، وإذا اؤتمنتم فلا تخونوا، وكفوا أبصاركم وأيديكم وفروجكم : أبصاركم عن الخيانة، وأيديكم عن السرقة، وفروجكم عن الزنا ) وحديث مرفوع آخر رواه الحسن عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال :( ثلاث من كن فيه صار منافقا وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم : إذا حدث كذب وإذا اؤتمن خان وإذا وعد أخلف ). وهناك حديثان من باب الثاني رواهما الشيخان والترمذي وأبو داود جاء في أحدهما : عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم :( آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان ) ( ١ )٢. وثانيهما عن عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خلة منهن كانت فيه خلة من نفاق حتى يدعها : إذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا وعد أخلف وإذا خاصم فجر ) ( ٢ )٣.
وفي الأحاديث مقاييس بليغة لمنافقين، ومن الحكمة المنطوية فيها كما هو المتبادر تقبيح هذه الصفات والتحذير منها وتقرير كونها لا يمكن أن تكون في مؤمن مخلص.
١ انظر الطبري والبغوي والطبرسي..
٢ التاج ج ٥ ص ٤١..
٣ المصدر نفسه..

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٧٥:﴿ وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ ( ٧٥ ) فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ ( ٧٦ ) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ ( ٧٧ ) أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ ( ٧٨ ) ﴾ ( ٧٥ – ٧٨ ).

في هذه الآيات :

( ١ ) صورة أخرى من مواقف المنافقين ؛ حيث كان بعضهم يعاهد الله وينذر على نفسه إن آتاه الله من فضله ووسع عليه الدنيا بأن يتصدق ويخلص فلما حقق الله له أمنيته بخل وأخلف وعده.
( ٢ ) وتعقيب على هذه الصورة يتضمن تقرير كون هذا الموقف قد أدى إلى اندماغ المخلف بالنفاق اندماغا مستمرا إلى يوم يلقى الله ؛ لأنه أخلف فيما وعد وكذب على الله تعالى فعاقبه الله على ذلك.
( ٣ ) وسؤال استنكاري فيه إنذار ووعيد عما إذا كان المنافقون وهم يقفون مثل هذه المواقف الغادرة الكاذبة لا يعلمون أن الله يعلم سرهم ونجواهم، وأنه علام الغيوب لا تفوته هاجسة ولا يغرب عن علمه شيء مما يدور في خلدهم ؟

تعليق على الآية :

﴿ وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ...... ﴾ الخ
والآية التالية لها وما فيهما من صور وتلقين
ولقد روى المفسرون١، أن شخصا اسمه ثعلبة بن حاطب طلب من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يدعو الله ليرزقه مالا فقال له : ويحك يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه، فأعاد عليه السؤال فقال له : أما ترضى أن تكون مثل نبي الله، والذي نفسي بيده لو شئت أن تسير معي الجبال ذهبا وفضة لسارت. فقال له : والذي بعثك بالحق لئن دعوت الله فرزقني مالا لأعطين كل ذي حق حقه. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : اللهم ارزق ثعلبة مالا. فاتخذ غنما فنمت كما ينمو الدود حتى ضاقت عليه المدينة فتنحى عنها، فنزل واديا وصار يقصر في واجبات الصلاة. وظل ماله ينمو وعلم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأمره فأرسل من يأخذ صدقة ماله منه فأبى وقال : ما هذه إلا جزية أو أختها، فأنزل الله فيه الآيات. ورووا إلى هذه الرواية روايات أخرى منها أن ثعلبة نذر بما نذر أمام ملأ من قومه ثم ورث مالا فلم يف بما وعد. ومنها أن هذا النذر كان من جماعة من بني عوف فآتاهم الله من فضله فبخلوا. ومنها أنها نزلت في حاطب بن بلتعة. كان له مال في الشام فأبطأ عليه وجهد لذلك جهدا شديدا فحلف لئن أتاه ذلك المال ليصدقن فأتاه فلم يفعل.
وليس شيء من هذه الروايات واردا في كتب أحاديث معتبرة. ولقد روينا قصة لحاطب بن بلتعة في سياق سورة الممتحنة تفيد أنه كان مخلصا وممن شهدوا بدرا ؛ لذلك نستبعد صحة الرواية عنه. وفي الرواية التي ذكر فيها ثعلبة أن بعض أقاربه قال له : ويحك قد أنزل الله فيك قرآنا حتى أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فسأله أن يقبل صدقته فقال له : إن الله منعني من ذلك فجعل يحثو التراب على رأسه فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : هذا عملك فقد أمرتك فلم تطعني. وقبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يقبض صدقته. فأتى أبا بكر فعرض عليه صدقته فقال له : لم يقبلها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا أقبلها مستنكرا. وقبض أبو بكر ولم يقبضها، فجاء إلى عمر فرفضها، ثم جاء بعده إلى عثمان فرفضها. ومات في زمن عثمان. وهذا التفصيل عجيب. فالروايات لا تذكر أنه كان من المنافقين. والآية السابقة تشجع المنافقين على التوبة وتعدهم بالخير إذا فعلوا. والآية الثانية إلى كل هذا تلهم أن الذين عاهدوا الله وأخلفوه أكثر من واحد وأنهم كانوا من المنافقين.
وعلى كل حال فالآيات تضمنت حكاية مشهد أو صورة خبيثة من مشاهد المنافقين ومواقفهم. والذي نرجحه أن ذلك كان مما وقع قبل غزوة تبوك فاحتوت الآيات تذكيرا بذلك في معرض سرد أخلاق المنافقين كما هو الحال في الآيات السابقة، وأن الآيات والحكمة هذه جزء من السلسلة ولم تنزل لحدتها في مناسبة إحدى الروايات المروية. والله تعالى أعلم.
وواضح أن الآيات تنطوي كسابقاتها على تلقين مستمر المدى بتقبيح هذه الصورة وتقرير كونها من أخلاق المنافقين.
ولقد أورد الطبري في سياقها بعض الأحاديث من ذلك حديث مرفوع رواه قتادة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( تكفلوا لي بست أتكفل لكم بالجنة. قالوا : ما هي يا رسول الله قال : إذا حدثتم فلا تكذبوا، وإذا وعدتم فلا تخلفوا، وإذا اؤتمنتم فلا تخونوا، وكفوا أبصاركم وأيديكم وفروجكم : أبصاركم عن الخيانة، وأيديكم عن السرقة، وفروجكم عن الزنا ) وحديث مرفوع آخر رواه الحسن عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال :( ثلاث من كن فيه صار منافقا وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم : إذا حدث كذب وإذا اؤتمن خان وإذا وعد أخلف ). وهناك حديثان من باب الثاني رواهما الشيخان والترمذي وأبو داود جاء في أحدهما : عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم :( آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان ) ( ١ )٢. وثانيهما عن عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خلة منهن كانت فيه خلة من نفاق حتى يدعها : إذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا وعد أخلف وإذا خاصم فجر ) ( ٢ )٣.
وفي الأحاديث مقاييس بليغة لمنافقين، ومن الحكمة المنطوية فيها كما هو المتبادر تقبيح هذه الصفات والتحذير منها وتقرير كونها لا يمكن أن تكون في مؤمن مخلص.
١ انظر الطبري والبغوي والطبرسي..
٢ التاج ج ٥ ص ٤١..
٣ المصدر نفسه..

﴿ الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ ( ١ )مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( ٧٩ ) ﴾ ( ٧٩ ).
( ١ ) المطوعين : المتطوعين. وروح الآية تلهم أنها هنا في معنى المتبرعين في الصدقات.
في الآية :
( ١ ) صورة خبيثة أخرى للمنافقين ؛ حيث كانوا يعيبون المتبرعين من المؤمنين بالصدقات ويسخرون منهم وبخاصة من الذين يتصدقون بالقليل الذي يبلغ إليه جهدهم وطاقتهم.
( ٢ ) وتعقيب تنديدي على ذلك : فهم أحق بالسخرية، وليسخرن الله منهم وليكونن لهم عنده العذاب الأليم.
تعليق على الآية :
﴿ الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ....... ﴾ الخ
وما فيها من صور وتلقين
روى البخاري عن ابن مسعود حديثا جاء فيه :( لما أمرنا بالصدقة كنا نتحامل فجاء أبو عقيل بنصف صاع وجاء إنسان بأكثر منه فقال المنافقون : إن الله لغني عن صدقة أبي عقيل، وإن الآخر ما فعل إلا رئاء فأنزل الله الآية ) ( ١ )١. ولقد أورد الطبري وغيره هذا الحديث وأوردوا معه روايات أخرى ( ٢ )٢. مفادها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دعا المسلمين إلى التصدق فأقبلوا أغنياء وفقراء كل بحسبه. فكان من الأغنياء عبد الرحمن بن عوف الذي تصدق بنصف ماله البالغ أربعة آلاف دينار أو بأربعمائة أوقية من فضة أو بأربعين أو بمائة أوقية من ذهب. وعاصم بن عدي الذي تبرع بمائة وسق من تمر. وعمر بن الخطاب الذي تبرع بمال كثير، وكان من الفقراء أبو عقيل وفي رواية أخرى أبو خيثمة جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال له : لقد أجرت نفسي ونلت صاعين من تمر فأمسكت بأحدهما وأتيتك بالآخر، فأخذ المنافقون يلمزون الأغنياء بالرياء ويسخرون بأبي عقيل أو أبي خيثمة ويقولون : إن الله ورسوله لغنيان عنه، وأنه لم يأت بصاعه إلا ليذكر بين الناس. ومما رووه أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هتف يوما قائلا : من يتصدق اليوم بصدقة أشهد له بها عند الله يوم القيامة، فجاء رجل ليس في البقيع رجلا أقصر منه قامة ولا أشد سوادا ولا أذم لعين منه يقود ناقة ليس في البقيع أحسن ولا أجمل منها فقال : أصدقة يا رسول الله ؟ قال : نعم قال : فدونكها فألقى إليه بخطامها. فقال : والله إنه ليتصدق بها ولهي خير منه. فنظر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : بل هو خير منك ومنها. وليس ما يمنع أن المواقف كانت تتكرر فتعددت الروايات، وإن كان من الصحيح أن يؤخذ بحديث البخاري على أنه سبب نزول الآية مباشرة، ونرجح أن الوقائع المروية وقعت قبل السفر إلى تبوك، ولعلها وقعت في مناسبة الإعداد لغزوة تبوك، وأن الآية لم تنزل حين وقعت، وأنها جزء من السلسلة في معرض ذكر أخلاق ومواقف المنافقين والتنديد بهم.
والصورة من الصور الخبيثة المألوفة من ذوي القلوب المريضة في مختلف الظروف ؛ حيث يبخلون بما آتاهم الله، ثم يقدحون في ذوي النفوس السمحة من قبيل التعطيل والتغطية على بخلهم. وواضح أن في الآيات تلقينا مستمر المدى في تقبيح هذه الصورة وتقرير كونها من أخلاق المنافقين.
١ التاج ج ٤ ص ١١٨..
٢ انظر أيضا البغوي وابن كثير والطبرسي..
﴿ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ( ٨٠ ) ﴾ ( ٨٠ ).
تعليق على الآية :
﴿ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ.... ﴾
ومداها وما ورد في صددها من أقوال وروايات وأحاديث
عبارة الآية واضحة. والخطاب فيها موجه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وضمير الجمع الغائب عائد إلى المنافقين الذين هم موضوع الحديث في الآيات السابقة. وهي بسبيل تسجيل كفرهم وفسقهم وعدم إمكان شمولهم بغفران الله تعالى سواء أستغفر لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو لم يستغفر لهم حتى ولو استغفر لهم سبعين مرة. فإن الله لا يمكن أن يوفق ويهدي الفاسقين عن أوامره.
وقد روى المفسرون ( ١ )١، أن المنافقين لما نزلت الآيات السابقة التي تحكي مواقفهم وتفضحهم وتندد بهم لجأوا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعتذرون ويطلبون منه الاستغفار لهم، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : إن الله خيرني أن أستغفر لهم أو لا أستغفر لهم فاستغفر لهم أو هم بذلك فأنزل الله الآية. فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعدها :( لأزيدن على السبعين أو سأستغفر لهم سبعين وسبعين وسبعين...................... ).
ولقد روى الشيخان والترمذي حديثا عن ابن عمر قال :( لما توفي عبد الله بن أبي بن سلول جاء ابنه عبد الله إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسأله أن يعطيه قميصه يكفن به أباه، فأعطاه ثم سأله أن يصلي عليه فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليصلي عليه، فقام عمر فأخذ بثوب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : يا رسول الله تصلي عليه. وقد نهاك ربك فقال : إنما خيرني الله فقال :﴿ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ ﴾ وسأزيده على السبعين. قال عمر : إنه منافق. قال : فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأنزل الله :﴿ وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ ﴾ ) ( ٢ )٢. وبقطع النظر عما يتحمله هذا الحديث من ملاحظات سوف نوردها في سياق تفسير الآية :﴿ وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم................. ﴾ التي ستأتي بعد قليل، فإن خبر مسارعة المنافقين إلى الاعتذار للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وطلب الاستغفار منه لهم بعد نزول الآيات القارعة فيهم محتمل الصحة. وبخاصة بالنسبة للمنافقين الذين كانوا معه في غزوة تبوك ؛ لأننا نعتقد أن هذه السلسلة نزلت أثناء هذه الغزوة على ما تلهمه القرائن العديدة في آياتها السابقة واللاحقة. غير أننا في حيرة من تتمة الروايات، وبخاصة من حديث ابن عمر الذي يرويه الشيخان. فليست هذه أولى مرة يؤذن القرآن ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأن الله لن يغفر لهم سواء استغفر لهم أم لم يستغفر حيث ورد في هذه الآية( ٦ ) من سورة المنافقون ويصعب علينا أن نسلم بأن رسول الله استغفر لهم أو هم بذلك، أو حدث نفسه، بعد هذا التوكيد الحاسم الذي جاء في الآية التي نحن في صددها بعد آية المنافقون. أو أن يكون قد فهم عبارة آية التوبة فهما عدديا، ولا سيما أنها تلهم بقوة أنها على سبيل التغليظ والتشديد، ومع ذلك فليس لنا إذا صح الحديث إلا أن نقول : إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد اجتهد في الأمر، ورأى أن التأييد القرآني بعدم مغفرة الله للمنافقين هو في حق أناس علم الله أنهم لا يصدقون في الندم وطلب الغفران، وأن عفو الله تعالى ورحمته تتسعان لقبول استغفاره لمن يرى أن يستغفر له منهم إذا ما استغفر لهم أكثر من سبعين مرة، أو لمن يرى أنه صادق في ندمه وتوبته وطلب الغفران. ولعله استند في اجتهاده إلى الآية ( ٧٤ ) التي شجعت المنافقين بعد أن قررت أنهم قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إيمانهم وهموا بما لم ينالوا على التوبة والندم ودعتهما إليهما وقالت : إن ذلك خير لهم تساوقا مع الهدف الإصلاحي الذي استهدفته حكمة التنزيل من جعل باب التوبة مفتوحا لكل الناس مهما فعلوا على ما شرحناه في سورة البروج. وسيأتي في سياق آيات تجيء بعد قليل حديث بأن بعض المنافقين ممن لم يكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعلم نفاقهم جاءوه نادمين وطلبوا أن يستغفر لهم فاستغفر لهم ودعا لهم مما قد يكون فيه تدعيم. والله تعالى أعلم.
١ انظر تفسير الخازن مثلا وانظر أيضا تفسير الطبري وابن كثير والبغوي..
٢ التاج ج ٤ ص ١١٨..
( ١ ) المخلفون : المخلفون وراءك أو المتخلفون.
( ٢ ) خلاف رسول الله : إما أنها خلف أو بعد أو وراء وإما أنها بمعنى مخالفة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
﴿ فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ ( ١ ) بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللّهِ ( ٢ ) وَكَرِهُواْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ ( ٨١ ) فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ( ٨٢ ) فَإِن رَّجَعَكَ اللّهُ إِلَى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُل لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَدًا وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُم بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُواْ مَعَ الْخَالِفِينَ ( ٣ ) ( ٨٣ ) وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ ( ٨٤ ) وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ( ٨٥ ) ﴾ ( ٨١ -٨٥ ).

عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت :

( ١ ) إشارة تنديدية إلى ما كان من فرح المتخلفين عن غزوة تبوك واغتباطهم بسبب نجاحهم في الاعتذار والتخلف كراهة منهم للجهاد بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله. وما كان من تثبيطهم غيرهم عنها بحجة شدة الحر.
( ٢ ) وردا عليهم مع الإنذار والإغلاظ. فعلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يهتف جوابا على هذا بأن نار جهنم التي استحقوها بسبب مواقفهم أشد حرا لو علموا، وأنهم إذا فرحوا وضحكوا الآن فليس إلا لوقت قصير يعقبه البكاء الكثير والندم الشديد على ما اقترفوا. وعلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا ما أعاده الله إلى المدينة سالما واستأذنه المتخلفون ليخرجوا في غزوة أخرى أن يرفض السماح لهم، وأن يعلنهم أنهم لن يكون لهم ذلك ولن يقاتلوا معه عدوا ؛ لأنهم رضوا بالقعود أول مرة وابتهجوا فليبقوا حيث هم مع الخالفين بعيدين عن المكرمات. ثم عليه أن لا يصلي على أحد يموت بعد الآن منهم قط. ولا يقف على قبره داعيا له. فقد كفروا بالله ورسوله وماتوا على كفرهم وفسقهم فلم يبق محل للأمل فيهم والإشفاق عليهم والاستغفار والدعاء لهم. وعليه أن لا يغتر ويعجب بما لهم من مال وولد مهما كثر وأن لا يظن أنها نعمة من الله رآهم جديرين بها، وإنما هي ابتلاء واختبار. وستكون سببا لعذابهم في الدنيا وخروجهم منها كافرين نتيجة لما هم عليه من خبث نية وسوء طوية ومنكر أفعال ومواقف.

تعليق على الآية :

﴿ فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللّهِ......... ﴾
والآيات الثلاث التي بعدها
وما فيها من دلالات وتلقينات وتمحيص، وما روي من روايات
عن صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم على كبير المنافقين ابن أبي بن سلول
روى الطبري أن رجلا من بني سلمة قال : لا تنفروا في الحر حينما خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حر شديد إلى تبوك فأنزل الله :﴿ قل نار جهنم أشد حرا ﴾. والرواية لم ترو في كتب حديث معتبرة. والجملة من آية والآية جزء من آيات تامة الانسجام، وفيها إشارة صريحة إلى أنها نزلت في غزوة تبوك. فالذي يستقيم مع هذا أن يكون في الجملة رد على قول المنافق أو المنافقين الذين قالوا ذلك القول في سياق الحملة عليهم لتخلفهم.
ولقد روى الطبري أيضا أن ابن أبي بن سلول أرسل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو مريض ليأتيه فنهاه عمر، ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أتاه، فلما دخل عليه قال له : أهلكك حب اليهود فقال : يا نبي الله إني لم أبعث إليك لتؤنبني ولكن لتستغفر لي، وسأله قميصه أن يكفن به فأعطاه إياه فكفن به حين مات ونفث في جلده وولاه في قبره. وفي رواية أخرى يرويها الطبري أن عبد الله بن أبي سلول وهو مؤمن مخلص هو الذي طلب من النبي صلى الله عليه وآله وسلم حينما مات أبوه أن يعطيه قميصه ليكفنه به وأن يصلي عليه. وروى الشيخان والترمذي حديثا عن ابن عمر أوردناه في سياق تفسير الآيات السابقة فيه توافق مع ما ورد في هذه الروايات. وقد جاء فيه أن الآية :﴿ وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا............. ﴾ نزلت في هذه المناسبة.
ونحن في حيرة من هذه الروايات وبخاصة من هذا الحديث. فالآيات جملة منسجمة وفي إحداها كما قلنا آنفا صراحة بأنها نزلت أثناء غزوة تبوك. والآية التي يروي الحديث نزولها في مناسبة صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم على عبد الله بن أبي جزء من السياق والكلام. وتتبعه تتمة للكلام وتتمة للسياق. ويلحظ أن الحديث والرواية يذكران أن عمر قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم : كيف تصلي عليه وقد نهاك ربك ؟ في حين أن الحديث يذكر أن الله أنزل الآية بعد صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليه. ويلحظ كذلك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لعمر : إنما خيرني الله أستغفر لهم أو لا تستغفر لهم وسأزيده على السبعين. والفرق ظاهر بين الاستغفار والصلاة على كل حال مهما كان معنى الصلاة هو الاستغفار. وهذا فضلا عما نبهنا عليه قبل من بعد احتمال أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد فهم النهي عن الاستغفار على هذا الوجه الذي جاء في الحديث وأن يكون قد استغفر له أو لغيره بعد نزول الآيات.
والحديث يذكر أن الآية :﴿ وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا............. ﴾ نزلت بعد أن صلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ابن أبي بن سلول. وروايات الحديث المعتبرة تذكر أن هذا كان حيا حينما توجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى تبوك، وأنه ضرب معسكره إلى جانب معسكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم تخلص واعتذر عن السفر على ما شرحناه قبل في سياق موجز قصة غزوة تبوك ( ١ )١. وهذا يعني إذا صح الحديث أنه مات بعد رجوع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الغزوة. والآية جزء منسجم كل الانسجام كما هو واضح من آيات نزلت أثناء هذه الغزوة. ومن الصعب التوفيق بين كل هذا وبين الروايات المتناقضة معه وبخاصة بينه وبين الحديث الذي يرويه الشيخان والترمذي. ونميل إلى القول : إن في الحديث والروايات شيئا من الالتباس والتداخل، وأن كل ما يمكن أن يكون هو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أجاب التماس عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول المؤمن المخلص فأعطاه قميصه ليكفن به أباه الذي مات بعد العودة من تبوك تطييبا له على إخلاصه وتألفا للمترددين من قومه دون أن يكون ذلك مناسبة لنزول الآية. وفي الحديث أن عمر قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم : كيف تصلي عليه وقد نهاك ربك. وهذا يعني إذا صح أن عمر استند إلى الآية التي نزلت أثناء الغزوة في حق جميع المنافقين. ولقد ذكر الطبرسي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يصل على ابن أبي بن سلول، ولكنه لم يسند قوله إلى سند معين. ولقد روى الطبري عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أراد أن يصلي عليه فأخذ جبريل بثوبه فقال : ولا تصل على أحد منهم مات أبدا، ولا تقم على قبره. وهذه الرواية تؤيد رواية الطبرسي من جهة وتنطوي على تصحيح لما التبس من رواية نزول الآية في هذه المناسبة ؛ حيث تفيد إذا صحت أن جبريل إنما ذكر بالآية تذكيرا. ونحن نميل إلى ترجيح رواية عدم الصلاة ؛ لأنها المعقولة أكثر بعد أن نهي النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الصلاة عن أي منافق في آية سابقة النزول بأسلوب حاسم. والله تعالى أعلم.
ولقد روى المفسرون فيما رووا خبر إسلام ألف من قوم ابن أبي بن سلول نتيجة لما كان من تصرف النبي صلى الله عليه وآله وسلم الكريم إزاءه. وروح آيات عديدة من هذه السورة تلهم بقوة كما نبهنا عليه في مناسبتها أن المنافقين قبل غزوة تبوك قد تضاءلوا عددا وشأنا. وهذا ينقض الرواية كما هو المتبادر، فألف رجل في المدينة رقم عظيم. ولا يعقل أن يكون صحيحا. والروايات التي ذكرت المعسكر الذي ضربه المنافقون وتظاهروا به أنهم خارجون إلى الغزوة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن فيه إلا نحو ثمانين شخصا.....................
ويلحظ أن الآية ( ٨٥ ) جاءت تكرارا للآية ( ٥٥ ) من هذه السورة بفرق يسير. وقد يلمح في هذا التكرار أن كثرة الأموال والأولاد التي كانت للمنافقين كانت تشغل حيزا يسيرا في أذهان المؤمنين فاقتضت حكمة التنزيل تكرار بث القوة والعلو والتهوين في نفوسهم وتوكيد المدى الذي في الآية وأمثالها على ما شرحناه في سياق الآية ( ٥٥ ).
وتعبير :﴿ فإن رجعك الله ﴾ يدل بصراحة كما قلنا : إن هذه الآيات والسلسلة التي قبلها قد نزلت أثناء سفرة تبوك مستهدفة التنديد والتقريع بالمعتذرين والمتخلفين المنافقين وفضح أخلاقهم والتذكير بمواقفهم على سبيل التوكيد والتدعيم من جهة وتثبيت المؤمنين المخلصين الذين اشتركوا في الغزوة من جهة أخرى. وتعبير :﴿ لا تنفروا في الحر ﴾ يؤيد ما روي من أن هذه الغزوة كانت في موسم الصيف. وفي تعبير :﴿ ولا تقم على قبره ﴾ صورة لما كان يجري من تشييع الجنائز والدعاء على قبور الأموات بعد مواراتهم والجلوس عندها لتأنيسهم. والمتبادر أن هذا مما كان قبل الإسلام عند العرب أيضا.
والآيات قوية التلقين كسابقاتها بالموقف الحاسم الذي يجب على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين أن يقفوه من المنافقين. بل فيها ما هو أشد مما احتوته الآيات السابقة ؛ حيث توجب اعتبارهم خارج صف المسلمين فلا يدعونهم ليشتركوا معهم في حرب ولا يجوز أن يصلوا على أحد منهم حينما يموت ولا يقوموا على قبره ؛ لأنهم آثروا القعود مع الضعفاء والعجزة والصبيان فيجب أن يبقوا في النطاق الذي وضعوا أنفسهم فيه، ولأن من مات منهم على حالته فقد مات كافرا فاسقا. وهذا من دون ريب متناسب مع موقفهم النفاقي وتخلفهم عن الجهاد بالمال والنفس والتثبيط عنهما مع شدة صلة ذلك بالدعوة الإسلامية ومصلحة المسلمين العامة. وفي كل هذا تلقين جليل مستمر المدى لما يجب أن يكون موقف المخلصين من أمثال هؤلاء وبخاصة حينما يتهربون من التضامن مع الناس وأداء واجباتهم في الأزمات والشدائد معتذرين بالأعذار الكاذبة ومنطلقين بمختلف أساليب المكر والحيل، والبخل والتثبيط والتعطيل والفرح بالعافية مما قد يلم بالناس من محن وبلاء في سبيل الله.
﴿ فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ ( ١ ) بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللّهِ ( ٢ ) وَكَرِهُواْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ ( ٨١ ) فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ( ٨٢ ) فَإِن رَّجَعَكَ اللّهُ إِلَى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُل لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَدًا وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُم بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُواْ مَعَ الْخَالِفِينَ ( ٣ ) ( ٨٣ ) وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ ( ٨٤ ) وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ( ٨٥ ) ﴾ ( ٨١ -٨٥ ).

عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت :

( ١ ) إشارة تنديدية إلى ما كان من فرح المتخلفين عن غزوة تبوك واغتباطهم بسبب نجاحهم في الاعتذار والتخلف كراهة منهم للجهاد بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله. وما كان من تثبيطهم غيرهم عنها بحجة شدة الحر.
( ٢ ) وردا عليهم مع الإنذار والإغلاظ. فعلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يهتف جوابا على هذا بأن نار جهنم التي استحقوها بسبب مواقفهم أشد حرا لو علموا، وأنهم إذا فرحوا وضحكوا الآن فليس إلا لوقت قصير يعقبه البكاء الكثير والندم الشديد على ما اقترفوا. وعلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا ما أعاده الله إلى المدينة سالما واستأذنه المتخلفون ليخرجوا في غزوة أخرى أن يرفض السماح لهم، وأن يعلنهم أنهم لن يكون لهم ذلك ولن يقاتلوا معه عدوا ؛ لأنهم رضوا بالقعود أول مرة وابتهجوا فليبقوا حيث هم مع الخالفين بعيدين عن المكرمات. ثم عليه أن لا يصلي على أحد يموت بعد الآن منهم قط. ولا يقف على قبره داعيا له. فقد كفروا بالله ورسوله وماتوا على كفرهم وفسقهم فلم يبق محل للأمل فيهم والإشفاق عليهم والاستغفار والدعاء لهم. وعليه أن لا يغتر ويعجب بما لهم من مال وولد مهما كثر وأن لا يظن أنها نعمة من الله رآهم جديرين بها، وإنما هي ابتلاء واختبار. وستكون سببا لعذابهم في الدنيا وخروجهم منها كافرين نتيجة لما هم عليه من خبث نية وسوء طوية ومنكر أفعال ومواقف.

تعليق على الآية :

﴿ فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللّهِ......... ﴾
والآيات الثلاث التي بعدها
وما فيها من دلالات وتلقينات وتمحيص، وما روي من روايات
عن صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم على كبير المنافقين ابن أبي بن سلول
روى الطبري أن رجلا من بني سلمة قال : لا تنفروا في الحر حينما خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حر شديد إلى تبوك فأنزل الله :﴿ قل نار جهنم أشد حرا ﴾. والرواية لم ترو في كتب حديث معتبرة. والجملة من آية والآية جزء من آيات تامة الانسجام، وفيها إشارة صريحة إلى أنها نزلت في غزوة تبوك. فالذي يستقيم مع هذا أن يكون في الجملة رد على قول المنافق أو المنافقين الذين قالوا ذلك القول في سياق الحملة عليهم لتخلفهم.
ولقد روى الطبري أيضا أن ابن أبي بن سلول أرسل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو مريض ليأتيه فنهاه عمر، ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أتاه، فلما دخل عليه قال له : أهلكك حب اليهود فقال : يا نبي الله إني لم أبعث إليك لتؤنبني ولكن لتستغفر لي، وسأله قميصه أن يكفن به فأعطاه إياه فكفن به حين مات ونفث في جلده وولاه في قبره. وفي رواية أخرى يرويها الطبري أن عبد الله بن أبي سلول وهو مؤمن مخلص هو الذي طلب من النبي صلى الله عليه وآله وسلم حينما مات أبوه أن يعطيه قميصه ليكفنه به وأن يصلي عليه. وروى الشيخان والترمذي حديثا عن ابن عمر أوردناه في سياق تفسير الآيات السابقة فيه توافق مع ما ورد في هذه الروايات. وقد جاء فيه أن الآية :﴿ وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا............. ﴾ نزلت في هذه المناسبة.
ونحن في حيرة من هذه الروايات وبخاصة من هذا الحديث. فالآيات جملة منسجمة وفي إحداها كما قلنا آنفا صراحة بأنها نزلت أثناء غزوة تبوك. والآية التي يروي الحديث نزولها في مناسبة صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم على عبد الله بن أبي جزء من السياق والكلام. وتتبعه تتمة للكلام وتتمة للسياق. ويلحظ أن الحديث والرواية يذكران أن عمر قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم : كيف تصلي عليه وقد نهاك ربك ؟ في حين أن الحديث يذكر أن الله أنزل الآية بعد صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليه. ويلحظ كذلك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لعمر : إنما خيرني الله أستغفر لهم أو لا تستغفر لهم وسأزيده على السبعين. والفرق ظاهر بين الاستغفار والصلاة على كل حال مهما كان معنى الصلاة هو الاستغفار. وهذا فضلا عما نبهنا عليه قبل من بعد احتمال أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد فهم النهي عن الاستغفار على هذا الوجه الذي جاء في الحديث وأن يكون قد استغفر له أو لغيره بعد نزول الآيات.
والحديث يذكر أن الآية :﴿ وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا............. ﴾ نزلت بعد أن صلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ابن أبي بن سلول. وروايات الحديث المعتبرة تذكر أن هذا كان حيا حينما توجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى تبوك، وأنه ضرب معسكره إلى جانب معسكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم تخلص واعتذر عن السفر على ما شرحناه قبل في سياق موجز قصة غزوة تبوك ( ١ )١. وهذا يعني إذا صح الحديث أنه مات بعد رجوع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الغزوة. والآية جزء منسجم كل الانسجام كما هو واضح من آيات نزلت أثناء هذه الغزوة. ومن الصعب التوفيق بين كل هذا وبين الروايات المتناقضة معه وبخاصة بينه وبين الحديث الذي يرويه الشيخان والترمذي. ونميل إلى القول : إن في الحديث والروايات شيئا من الالتباس والتداخل، وأن كل ما يمكن أن يكون هو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أجاب التماس عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول المؤمن المخلص فأعطاه قميصه ليكفن به أباه الذي مات بعد العودة من تبوك تطييبا له على إخلاصه وتألفا للمترددين من قومه دون أن يكون ذلك مناسبة لنزول الآية. وفي الحديث أن عمر قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم : كيف تصلي عليه وقد نهاك ربك. وهذا يعني إذا صح أن عمر استند إلى الآية التي نزلت أثناء الغزوة في حق جميع المنافقين. ولقد ذكر الطبرسي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يصل على ابن أبي بن سلول، ولكنه لم يسند قوله إلى سند معين. ولقد روى الطبري عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أراد أن يصلي عليه فأخذ جبريل بثوبه فقال : ولا تصل على أحد منهم مات أبدا، ولا تقم على قبره. وهذه الرواية تؤيد رواية الطبرسي من جهة وتنطوي على تصحيح لما التبس من رواية نزول الآية في هذه المناسبة ؛ حيث تفيد إذا صحت أن جبريل إنما ذكر بالآية تذكيرا. ونحن نميل إلى ترجيح رواية عدم الصلاة ؛ لأنها المعقولة أكثر بعد أن نهي النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الصلاة عن أي منافق في آية سابقة النزول بأسلوب حاسم. والله تعالى أعلم.
ولقد روى المفسرون فيما رووا خبر إسلام ألف من قوم ابن أبي بن سلول نتيجة لما كان من تصرف النبي صلى الله عليه وآله وسلم الكريم إزاءه. وروح آيات عديدة من هذه السورة تلهم بقوة كما نبهنا عليه في مناسبتها أن المنافقين قبل غزوة تبوك قد تضاءلوا عددا وشأنا. وهذا ينقض الرواية كما هو المتبادر، فألف رجل في المدينة رقم عظيم. ولا يعقل أن يكون صحيحا. والروايات التي ذكرت المعسكر الذي ضربه المنافقون وتظاهروا به أنهم خارجون إلى الغزوة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن فيه إلا نحو ثمانين شخصا.....................
ويلحظ أن الآية ( ٨٥ ) جاءت تكرارا للآية ( ٥٥ ) من هذه السورة بفرق يسير. وقد يلمح في هذا التكرار أن كثرة الأموال والأولاد التي كانت للمنافقين كانت تشغل حيزا يسيرا في أذهان المؤمنين فاقتضت حكمة التنزيل تكرار بث القوة والعلو والتهوين في نفوسهم وتوكيد المدى الذي في الآية وأمثالها على ما شرحناه في سياق الآية ( ٥٥ ).
وتعبير :﴿ فإن رجعك الله ﴾ يدل بصراحة كما قلنا : إن هذه الآيات والسلسلة التي قبلها قد نزلت أثناء سفرة تبوك مستهدفة التنديد والتقريع بالمعتذرين والمتخلفين المنافقين وفضح أخلاقهم والتذكير بمواقفهم على سبيل التوكيد والتدعيم من جهة وتثبيت المؤمنين المخلصين الذين اشتركوا في الغزوة من جهة أخرى. وتعبير :﴿ لا تنفروا في الحر ﴾ يؤيد ما روي من أن هذه الغزوة كانت في موسم الصيف. وفي تعبير :﴿ ولا تقم على قبره ﴾ صورة لما كان يجري من تشييع الجنائز والدعاء على قبور الأموات بعد مواراتهم والجلوس عندها لتأنيسهم. والمتبادر أن هذا مما كان قبل الإسلام عند العرب أيضا.
والآيات قوية التلقين كسابقاتها بالموقف الحاسم الذي يجب على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين أن يقفوه من المنافقين. بل فيها ما هو أشد مما احتوته الآيات السابقة ؛ حيث توجب اعتبارهم خارج صف المسلمين فلا يدعونهم ليشتركوا معهم في حرب ولا يجوز أن يصلوا على أحد منهم حينما يموت ولا يقوموا على قبره ؛ لأنهم آثروا القعود مع الضعفاء والعجزة والصبيان فيجب أن يبقوا في النطاق الذي وضعوا أنفسهم فيه، ولأن من مات منهم على حالته فقد مات كافرا فاسقا. وهذا من دون ريب متناسب مع موقفهم النفاقي وتخلفهم عن الجهاد بالمال والنفس والتثبيط عنهما مع شدة صلة ذلك بالدعوة الإسلامية ومصلحة المسلمين العامة. وفي كل هذا تلقين جليل مستمر المدى لما يجب أن يكون موقف المخلصين من أمثال هؤلاء وبخاصة حينما يتهربون من التضامن مع الناس وأداء واجباتهم في الأزمات والشدائد معتذرين بالأعذار الكاذبة ومنطلقين بمختلف أساليب المكر والحيل، والبخل والتثبيط والتعطيل والفرح بالعافية مما قد يلم بالناس من محن وبلاء في سبيل الله.
( ٣ ) مع المخالفين : قيل إنها بمعنى المخالفين. وهناك من قرأها كذلك. وقيل إنها بمعنى المتخلفين الذين تجعلهم طبيعة حالتهم يتخلفون كالنساء والصبيان والزمنى والمرضى والعميان. وهذا هو الأوجه كما هو المتبادر.
﴿ فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ ( ١ ) بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللّهِ ( ٢ ) وَكَرِهُواْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ ( ٨١ ) فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ( ٨٢ ) فَإِن رَّجَعَكَ اللّهُ إِلَى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُل لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَدًا وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُم بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُواْ مَعَ الْخَالِفِينَ ( ٣ ) ( ٨٣ ) وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ ( ٨٤ ) وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ( ٨٥ ) ﴾ ( ٨١ -٨٥ ).

عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت :

( ١ ) إشارة تنديدية إلى ما كان من فرح المتخلفين عن غزوة تبوك واغتباطهم بسبب نجاحهم في الاعتذار والتخلف كراهة منهم للجهاد بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله. وما كان من تثبيطهم غيرهم عنها بحجة شدة الحر.
( ٢ ) وردا عليهم مع الإنذار والإغلاظ. فعلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يهتف جوابا على هذا بأن نار جهنم التي استحقوها بسبب مواقفهم أشد حرا لو علموا، وأنهم إذا فرحوا وضحكوا الآن فليس إلا لوقت قصير يعقبه البكاء الكثير والندم الشديد على ما اقترفوا. وعلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا ما أعاده الله إلى المدينة سالما واستأذنه المتخلفون ليخرجوا في غزوة أخرى أن يرفض السماح لهم، وأن يعلنهم أنهم لن يكون لهم ذلك ولن يقاتلوا معه عدوا ؛ لأنهم رضوا بالقعود أول مرة وابتهجوا فليبقوا حيث هم مع الخالفين بعيدين عن المكرمات. ثم عليه أن لا يصلي على أحد يموت بعد الآن منهم قط. ولا يقف على قبره داعيا له. فقد كفروا بالله ورسوله وماتوا على كفرهم وفسقهم فلم يبق محل للأمل فيهم والإشفاق عليهم والاستغفار والدعاء لهم. وعليه أن لا يغتر ويعجب بما لهم من مال وولد مهما كثر وأن لا يظن أنها نعمة من الله رآهم جديرين بها، وإنما هي ابتلاء واختبار. وستكون سببا لعذابهم في الدنيا وخروجهم منها كافرين نتيجة لما هم عليه من خبث نية وسوء طوية ومنكر أفعال ومواقف.

تعليق على الآية :

﴿ فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللّهِ......... ﴾
والآيات الثلاث التي بعدها
وما فيها من دلالات وتلقينات وتمحيص، وما روي من روايات
عن صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم على كبير المنافقين ابن أبي بن سلول
روى الطبري أن رجلا من بني سلمة قال : لا تنفروا في الحر حينما خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حر شديد إلى تبوك فأنزل الله :﴿ قل نار جهنم أشد حرا ﴾. والرواية لم ترو في كتب حديث معتبرة. والجملة من آية والآية جزء من آيات تامة الانسجام، وفيها إشارة صريحة إلى أنها نزلت في غزوة تبوك. فالذي يستقيم مع هذا أن يكون في الجملة رد على قول المنافق أو المنافقين الذين قالوا ذلك القول في سياق الحملة عليهم لتخلفهم.
ولقد روى الطبري أيضا أن ابن أبي بن سلول أرسل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو مريض ليأتيه فنهاه عمر، ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أتاه، فلما دخل عليه قال له : أهلكك حب اليهود فقال : يا نبي الله إني لم أبعث إليك لتؤنبني ولكن لتستغفر لي، وسأله قميصه أن يكفن به فأعطاه إياه فكفن به حين مات ونفث في جلده وولاه في قبره. وفي رواية أخرى يرويها الطبري أن عبد الله بن أبي سلول وهو مؤمن مخلص هو الذي طلب من النبي صلى الله عليه وآله وسلم حينما مات أبوه أن يعطيه قميصه ليكفنه به وأن يصلي عليه. وروى الشيخان والترمذي حديثا عن ابن عمر أوردناه في سياق تفسير الآيات السابقة فيه توافق مع ما ورد في هذه الروايات. وقد جاء فيه أن الآية :﴿ وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا............. ﴾ نزلت في هذه المناسبة.
ونحن في حيرة من هذه الروايات وبخاصة من هذا الحديث. فالآيات جملة منسجمة وفي إحداها كما قلنا آنفا صراحة بأنها نزلت أثناء غزوة تبوك. والآية التي يروي الحديث نزولها في مناسبة صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم على عبد الله بن أبي جزء من السياق والكلام. وتتبعه تتمة للكلام وتتمة للسياق. ويلحظ أن الحديث والرواية يذكران أن عمر قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم : كيف تصلي عليه وقد نهاك ربك ؟ في حين أن الحديث يذكر أن الله أنزل الآية بعد صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليه. ويلحظ كذلك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لعمر : إنما خيرني الله أستغفر لهم أو لا تستغفر لهم وسأزيده على السبعين. والفرق ظاهر بين الاستغفار والصلاة على كل حال مهما كان معنى الصلاة هو الاستغفار. وهذا فضلا عما نبهنا عليه قبل من بعد احتمال أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد فهم النهي عن الاستغفار على هذا الوجه الذي جاء في الحديث وأن يكون قد استغفر له أو لغيره بعد نزول الآيات.
والحديث يذكر أن الآية :﴿ وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا............. ﴾ نزلت بعد أن صلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ابن أبي بن سلول. وروايات الحديث المعتبرة تذكر أن هذا كان حيا حينما توجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى تبوك، وأنه ضرب معسكره إلى جانب معسكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم تخلص واعتذر عن السفر على ما شرحناه قبل في سياق موجز قصة غزوة تبوك ( ١ )١. وهذا يعني إذا صح الحديث أنه مات بعد رجوع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الغزوة. والآية جزء منسجم كل الانسجام كما هو واضح من آيات نزلت أثناء هذه الغزوة. ومن الصعب التوفيق بين كل هذا وبين الروايات المتناقضة معه وبخاصة بينه وبين الحديث الذي يرويه الشيخان والترمذي. ونميل إلى القول : إن في الحديث والروايات شيئا من الالتباس والتداخل، وأن كل ما يمكن أن يكون هو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أجاب التماس عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول المؤمن المخلص فأعطاه قميصه ليكفن به أباه الذي مات بعد العودة من تبوك تطييبا له على إخلاصه وتألفا للمترددين من قومه دون أن يكون ذلك مناسبة لنزول الآية. وفي الحديث أن عمر قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم : كيف تصلي عليه وقد نهاك ربك. وهذا يعني إذا صح أن عمر استند إلى الآية التي نزلت أثناء الغزوة في حق جميع المنافقين. ولقد ذكر الطبرسي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يصل على ابن أبي بن سلول، ولكنه لم يسند قوله إلى سند معين. ولقد روى الطبري عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أراد أن يصلي عليه فأخذ جبريل بثوبه فقال : ولا تصل على أحد منهم مات أبدا، ولا تقم على قبره. وهذه الرواية تؤيد رواية الطبرسي من جهة وتنطوي على تصحيح لما التبس من رواية نزول الآية في هذه المناسبة ؛ حيث تفيد إذا صحت أن جبريل إنما ذكر بالآية تذكيرا. ونحن نميل إلى ترجيح رواية عدم الصلاة ؛ لأنها المعقولة أكثر بعد أن نهي النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الصلاة عن أي منافق في آية سابقة النزول بأسلوب حاسم. والله تعالى أعلم.
ولقد روى المفسرون فيما رووا خبر إسلام ألف من قوم ابن أبي بن سلول نتيجة لما كان من تصرف النبي صلى الله عليه وآله وسلم الكريم إزاءه. وروح آيات عديدة من هذه السورة تلهم بقوة كما نبهنا عليه في مناسبتها أن المنافقين قبل غزوة تبوك قد تضاءلوا عددا وشأنا. وهذا ينقض الرواية كما هو المتبادر، فألف رجل في المدينة رقم عظيم. ولا يعقل أن يكون صحيحا. والروايات التي ذكرت المعسكر الذي ضربه المنافقون وتظاهروا به أنهم خارجون إلى الغزوة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن فيه إلا نحو ثمانين شخصا.....................
ويلحظ أن الآية ( ٨٥ ) جاءت تكرارا للآية ( ٥٥ ) من هذه السورة بفرق يسير. وقد يلمح في هذا التكرار أن كثرة الأموال والأولاد التي كانت للمنافقين كانت تشغل حيزا يسيرا في أذهان المؤمنين فاقتضت حكمة التنزيل تكرار بث القوة والعلو والتهوين في نفوسهم وتوكيد المدى الذي في الآية وأمثالها على ما شرحناه في سياق الآية ( ٥٥ ).
وتعبير :﴿ فإن رجعك الله ﴾ يدل بصراحة كما قلنا : إن هذه الآيات والسلسلة التي قبلها قد نزلت أثناء سفرة تبوك مستهدفة التنديد والتقريع بالمعتذرين والمتخلفين المنافقين وفضح أخلاقهم والتذكير بمواقفهم على سبيل التوكيد والتدعيم من جهة وتثبيت المؤمنين المخلصين الذين اشتركوا في الغزوة من جهة أخرى. وتعبير :﴿ لا تنفروا في الحر ﴾ يؤيد ما روي من أن هذه الغزوة كانت في موسم الصيف. وفي تعبير :﴿ ولا تقم على قبره ﴾ صورة لما كان يجري من تشييع الجنائز والدعاء على قبور الأموات بعد مواراتهم والجلوس عندها لتأنيسهم. والمتبادر أن هذا مما كان قبل الإسلام عند العرب أيضا.
والآيات قوية التلقين كسابقاتها بالموقف الحاسم الذي يجب على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين أن يقفوه من المنافقين. بل فيها ما هو أشد مما احتوته الآيات السابقة ؛ حيث توجب اعتبارهم خارج صف المسلمين فلا يدعونهم ليشتركوا معهم في حرب ولا يجوز أن يصلوا على أحد منهم حينما يموت ولا يقوموا على قبره ؛ لأنهم آثروا القعود مع الضعفاء والعجزة والصبيان فيجب أن يبقوا في النطاق الذي وضعوا أنفسهم فيه، ولأن من مات منهم على حالته فقد مات كافرا فاسقا. وهذا من دون ريب متناسب مع موقفهم النفاقي وتخلفهم عن الجهاد بالمال والنفس والتثبيط عنهما مع شدة صلة ذلك بالدعوة الإسلامية ومصلحة المسلمين العامة. وفي كل هذا تلقين جليل مستمر المدى لما يجب أن يكون موقف المخلصين من أمثال هؤلاء وبخاصة حينما يتهربون من التضامن مع الناس وأداء واجباتهم في الأزمات والشدائد معتذرين بالأعذار الكاذبة ومنطلقين بمختلف أساليب المكر والحيل، والبخل والتثبيط والتعطيل والفرح بالعافية مما قد يلم بالناس من محن وبلاء في سبيل الله.
﴿ فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ ( ١ ) بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللّهِ ( ٢ ) وَكَرِهُواْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ ( ٨١ ) فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ( ٨٢ ) فَإِن رَّجَعَكَ اللّهُ إِلَى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُل لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَدًا وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُم بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُواْ مَعَ الْخَالِفِينَ ( ٣ ) ( ٨٣ ) وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ ( ٨٤ ) وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ( ٨٥ ) ﴾ ( ٨١ -٨٥ ).

عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت :

( ١ ) إشارة تنديدية إلى ما كان من فرح المتخلفين عن غزوة تبوك واغتباطهم بسبب نجاحهم في الاعتذار والتخلف كراهة منهم للجهاد بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله. وما كان من تثبيطهم غيرهم عنها بحجة شدة الحر.
( ٢ ) وردا عليهم مع الإنذار والإغلاظ. فعلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يهتف جوابا على هذا بأن نار جهنم التي استحقوها بسبب مواقفهم أشد حرا لو علموا، وأنهم إذا فرحوا وضحكوا الآن فليس إلا لوقت قصير يعقبه البكاء الكثير والندم الشديد على ما اقترفوا. وعلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا ما أعاده الله إلى المدينة سالما واستأذنه المتخلفون ليخرجوا في غزوة أخرى أن يرفض السماح لهم، وأن يعلنهم أنهم لن يكون لهم ذلك ولن يقاتلوا معه عدوا ؛ لأنهم رضوا بالقعود أول مرة وابتهجوا فليبقوا حيث هم مع الخالفين بعيدين عن المكرمات. ثم عليه أن لا يصلي على أحد يموت بعد الآن منهم قط. ولا يقف على قبره داعيا له. فقد كفروا بالله ورسوله وماتوا على كفرهم وفسقهم فلم يبق محل للأمل فيهم والإشفاق عليهم والاستغفار والدعاء لهم. وعليه أن لا يغتر ويعجب بما لهم من مال وولد مهما كثر وأن لا يظن أنها نعمة من الله رآهم جديرين بها، وإنما هي ابتلاء واختبار. وستكون سببا لعذابهم في الدنيا وخروجهم منها كافرين نتيجة لما هم عليه من خبث نية وسوء طوية ومنكر أفعال ومواقف.

تعليق على الآية :

﴿ فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللّهِ......... ﴾
والآيات الثلاث التي بعدها
وما فيها من دلالات وتلقينات وتمحيص، وما روي من روايات
عن صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم على كبير المنافقين ابن أبي بن سلول
روى الطبري أن رجلا من بني سلمة قال : لا تنفروا في الحر حينما خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حر شديد إلى تبوك فأنزل الله :﴿ قل نار جهنم أشد حرا ﴾. والرواية لم ترو في كتب حديث معتبرة. والجملة من آية والآية جزء من آيات تامة الانسجام، وفيها إشارة صريحة إلى أنها نزلت في غزوة تبوك. فالذي يستقيم مع هذا أن يكون في الجملة رد على قول المنافق أو المنافقين الذين قالوا ذلك القول في سياق الحملة عليهم لتخلفهم.
ولقد روى الطبري أيضا أن ابن أبي بن سلول أرسل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو مريض ليأتيه فنهاه عمر، ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أتاه، فلما دخل عليه قال له : أهلكك حب اليهود فقال : يا نبي الله إني لم أبعث إليك لتؤنبني ولكن لتستغفر لي، وسأله قميصه أن يكفن به فأعطاه إياه فكفن به حين مات ونفث في جلده وولاه في قبره. وفي رواية أخرى يرويها الطبري أن عبد الله بن أبي سلول وهو مؤمن مخلص هو الذي طلب من النبي صلى الله عليه وآله وسلم حينما مات أبوه أن يعطيه قميصه ليكفنه به وأن يصلي عليه. وروى الشيخان والترمذي حديثا عن ابن عمر أوردناه في سياق تفسير الآيات السابقة فيه توافق مع ما ورد في هذه الروايات. وقد جاء فيه أن الآية :﴿ وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا............. ﴾ نزلت في هذه المناسبة.
ونحن في حيرة من هذه الروايات وبخاصة من هذا الحديث. فالآيات جملة منسجمة وفي إحداها كما قلنا آنفا صراحة بأنها نزلت أثناء غزوة تبوك. والآية التي يروي الحديث نزولها في مناسبة صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم على عبد الله بن أبي جزء من السياق والكلام. وتتبعه تتمة للكلام وتتمة للسياق. ويلحظ أن الحديث والرواية يذكران أن عمر قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم : كيف تصلي عليه وقد نهاك ربك ؟ في حين أن الحديث يذكر أن الله أنزل الآية بعد صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليه. ويلحظ كذلك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لعمر : إنما خيرني الله أستغفر لهم أو لا تستغفر لهم وسأزيده على السبعين. والفرق ظاهر بين الاستغفار والصلاة على كل حال مهما كان معنى الصلاة هو الاستغفار. وهذا فضلا عما نبهنا عليه قبل من بعد احتمال أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد فهم النهي عن الاستغفار على هذا الوجه الذي جاء في الحديث وأن يكون قد استغفر له أو لغيره بعد نزول الآيات.
والحديث يذكر أن الآية :﴿ وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا............. ﴾ نزلت بعد أن صلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ابن أبي بن سلول. وروايات الحديث المعتبرة تذكر أن هذا كان حيا حينما توجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى تبوك، وأنه ضرب معسكره إلى جانب معسكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم تخلص واعتذر عن السفر على ما شرحناه قبل في سياق موجز قصة غزوة تبوك ( ١ )١. وهذا يعني إذا صح الحديث أنه مات بعد رجوع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الغزوة. والآية جزء منسجم كل الانسجام كما هو واضح من آيات نزلت أثناء هذه الغزوة. ومن الصعب التوفيق بين كل هذا وبين الروايات المتناقضة معه وبخاصة بينه وبين الحديث الذي يرويه الشيخان والترمذي. ونميل إلى القول : إن في الحديث والروايات شيئا من الالتباس والتداخل، وأن كل ما يمكن أن يكون هو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أجاب التماس عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول المؤمن المخلص فأعطاه قميصه ليكفن به أباه الذي مات بعد العودة من تبوك تطييبا له على إخلاصه وتألفا للمترددين من قومه دون أن يكون ذلك مناسبة لنزول الآية. وفي الحديث أن عمر قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم : كيف تصلي عليه وقد نهاك ربك. وهذا يعني إذا صح أن عمر استند إلى الآية التي نزلت أثناء الغزوة في حق جميع المنافقين. ولقد ذكر الطبرسي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يصل على ابن أبي بن سلول، ولكنه لم يسند قوله إلى سند معين. ولقد روى الطبري عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أراد أن يصلي عليه فأخذ جبريل بثوبه فقال : ولا تصل على أحد منهم مات أبدا، ولا تقم على قبره. وهذه الرواية تؤيد رواية الطبرسي من جهة وتنطوي على تصحيح لما التبس من رواية نزول الآية في هذه المناسبة ؛ حيث تفيد إذا صحت أن جبريل إنما ذكر بالآية تذكيرا. ونحن نميل إلى ترجيح رواية عدم الصلاة ؛ لأنها المعقولة أكثر بعد أن نهي النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الصلاة عن أي منافق في آية سابقة النزول بأسلوب حاسم. والله تعالى أعلم.
ولقد روى المفسرون فيما رووا خبر إسلام ألف من قوم ابن أبي بن سلول نتيجة لما كان من تصرف النبي صلى الله عليه وآله وسلم الكريم إزاءه. وروح آيات عديدة من هذه السورة تلهم بقوة كما نبهنا عليه في مناسبتها أن المنافقين قبل غزوة تبوك قد تضاءلوا عددا وشأنا. وهذا ينقض الرواية كما هو المتبادر، فألف رجل في المدينة رقم عظيم. ولا يعقل أن يكون صحيحا. والروايات التي ذكرت المعسكر الذي ضربه المنافقون وتظاهروا به أنهم خارجون إلى الغزوة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن فيه إلا نحو ثمانين شخصا.....................
ويلحظ أن الآية ( ٨٥ ) جاءت تكرارا للآية ( ٥٥ ) من هذه السورة بفرق يسير. وقد يلمح في هذا التكرار أن كثرة الأموال والأولاد التي كانت للمنافقين كانت تشغل حيزا يسيرا في أذهان المؤمنين فاقتضت حكمة التنزيل تكرار بث القوة والعلو والتهوين في نفوسهم وتوكيد المدى الذي في الآية وأمثالها على ما شرحناه في سياق الآية ( ٥٥ ).
وتعبير :﴿ فإن رجعك الله ﴾ يدل بصراحة كما قلنا : إن هذه الآيات والسلسلة التي قبلها قد نزلت أثناء سفرة تبوك مستهدفة التنديد والتقريع بالمعتذرين والمتخلفين المنافقين وفضح أخلاقهم والتذكير بمواقفهم على سبيل التوكيد والتدعيم من جهة وتثبيت المؤمنين المخلصين الذين اشتركوا في الغزوة من جهة أخرى. وتعبير :﴿ لا تنفروا في الحر ﴾ يؤيد ما روي من أن هذه الغزوة كانت في موسم الصيف. وفي تعبير :﴿ ولا تقم على قبره ﴾ صورة لما كان يجري من تشييع الجنائز والدعاء على قبور الأموات بعد مواراتهم والجلوس عندها لتأنيسهم. والمتبادر أن هذا مما كان قبل الإسلام عند العرب أيضا.
والآيات قوية التلقين كسابقاتها بالموقف الحاسم الذي يجب على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين أن يقفوه من المنافقين. بل فيها ما هو أشد مما احتوته الآيات السابقة ؛ حيث توجب اعتبارهم خارج صف المسلمين فلا يدعونهم ليشتركوا معهم في حرب ولا يجوز أن يصلوا على أحد منهم حينما يموت ولا يقوموا على قبره ؛ لأنهم آثروا القعود مع الضعفاء والعجزة والصبيان فيجب أن يبقوا في النطاق الذي وضعوا أنفسهم فيه، ولأن من مات منهم على حالته فقد مات كافرا فاسقا. وهذا من دون ريب متناسب مع موقفهم النفاقي وتخلفهم عن الجهاد بالمال والنفس والتثبيط عنهما مع شدة صلة ذلك بالدعوة الإسلامية ومصلحة المسلمين العامة. وفي كل هذا تلقين جليل مستمر المدى لما يجب أن يكون موقف المخلصين من أمثال هؤلاء وبخاصة حينما يتهربون من التضامن مع الناس وأداء واجباتهم في الأزمات والشدائد معتذرين بالأعذار الكاذبة ومنطلقين بمختلف أساليب المكر والحيل، والبخل والتثبيط والتعطيل والفرح بالعافية مما قد يلم بالناس من محن وبلاء في سبيل الله.
﴿ فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ ( ١ ) بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللّهِ ( ٢ ) وَكَرِهُواْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ ( ٨١ ) فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ( ٨٢ ) فَإِن رَّجَعَكَ اللّهُ إِلَى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُل لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَدًا وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُم بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُواْ مَعَ الْخَالِفِينَ ( ٣ ) ( ٨٣ ) وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ ( ٨٤ ) وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ( ٨٥ ) ﴾ ( ٨١ -٨٥ ).

عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت :

( ١ ) إشارة تنديدية إلى ما كان من فرح المتخلفين عن غزوة تبوك واغتباطهم بسبب نجاحهم في الاعتذار والتخلف كراهة منهم للجهاد بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله. وما كان من تثبيطهم غيرهم عنها بحجة شدة الحر.
( ٢ ) وردا عليهم مع الإنذار والإغلاظ. فعلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يهتف جوابا على هذا بأن نار جهنم التي استحقوها بسبب مواقفهم أشد حرا لو علموا، وأنهم إذا فرحوا وضحكوا الآن فليس إلا لوقت قصير يعقبه البكاء الكثير والندم الشديد على ما اقترفوا. وعلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا ما أعاده الله إلى المدينة سالما واستأذنه المتخلفون ليخرجوا في غزوة أخرى أن يرفض السماح لهم، وأن يعلنهم أنهم لن يكون لهم ذلك ولن يقاتلوا معه عدوا ؛ لأنهم رضوا بالقعود أول مرة وابتهجوا فليبقوا حيث هم مع الخالفين بعيدين عن المكرمات. ثم عليه أن لا يصلي على أحد يموت بعد الآن منهم قط. ولا يقف على قبره داعيا له. فقد كفروا بالله ورسوله وماتوا على كفرهم وفسقهم فلم يبق محل للأمل فيهم والإشفاق عليهم والاستغفار والدعاء لهم. وعليه أن لا يغتر ويعجب بما لهم من مال وولد مهما كثر وأن لا يظن أنها نعمة من الله رآهم جديرين بها، وإنما هي ابتلاء واختبار. وستكون سببا لعذابهم في الدنيا وخروجهم منها كافرين نتيجة لما هم عليه من خبث نية وسوء طوية ومنكر أفعال ومواقف.

تعليق على الآية :

﴿ فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللّهِ......... ﴾
والآيات الثلاث التي بعدها
وما فيها من دلالات وتلقينات وتمحيص، وما روي من روايات
عن صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم على كبير المنافقين ابن أبي بن سلول
روى الطبري أن رجلا من بني سلمة قال : لا تنفروا في الحر حينما خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حر شديد إلى تبوك فأنزل الله :﴿ قل نار جهنم أشد حرا ﴾. والرواية لم ترو في كتب حديث معتبرة. والجملة من آية والآية جزء من آيات تامة الانسجام، وفيها إشارة صريحة إلى أنها نزلت في غزوة تبوك. فالذي يستقيم مع هذا أن يكون في الجملة رد على قول المنافق أو المنافقين الذين قالوا ذلك القول في سياق الحملة عليهم لتخلفهم.
ولقد روى الطبري أيضا أن ابن أبي بن سلول أرسل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو مريض ليأتيه فنهاه عمر، ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أتاه، فلما دخل عليه قال له : أهلكك حب اليهود فقال : يا نبي الله إني لم أبعث إليك لتؤنبني ولكن لتستغفر لي، وسأله قميصه أن يكفن به فأعطاه إياه فكفن به حين مات ونفث في جلده وولاه في قبره. وفي رواية أخرى يرويها الطبري أن عبد الله بن أبي سلول وهو مؤمن مخلص هو الذي طلب من النبي صلى الله عليه وآله وسلم حينما مات أبوه أن يعطيه قميصه ليكفنه به وأن يصلي عليه. وروى الشيخان والترمذي حديثا عن ابن عمر أوردناه في سياق تفسير الآيات السابقة فيه توافق مع ما ورد في هذه الروايات. وقد جاء فيه أن الآية :﴿ وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا............. ﴾ نزلت في هذه المناسبة.
ونحن في حيرة من هذه الروايات وبخاصة من هذا الحديث. فالآيات جملة منسجمة وفي إحداها كما قلنا آنفا صراحة بأنها نزلت أثناء غزوة تبوك. والآية التي يروي الحديث نزولها في مناسبة صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم على عبد الله بن أبي جزء من السياق والكلام. وتتبعه تتمة للكلام وتتمة للسياق. ويلحظ أن الحديث والرواية يذكران أن عمر قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم : كيف تصلي عليه وقد نهاك ربك ؟ في حين أن الحديث يذكر أن الله أنزل الآية بعد صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليه. ويلحظ كذلك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لعمر : إنما خيرني الله أستغفر لهم أو لا تستغفر لهم وسأزيده على السبعين. والفرق ظاهر بين الاستغفار والصلاة على كل حال مهما كان معنى الصلاة هو الاستغفار. وهذا فضلا عما نبهنا عليه قبل من بعد احتمال أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد فهم النهي عن الاستغفار على هذا الوجه الذي جاء في الحديث وأن يكون قد استغفر له أو لغيره بعد نزول الآيات.
والحديث يذكر أن الآية :﴿ وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا............. ﴾ نزلت بعد أن صلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ابن أبي بن سلول. وروايات الحديث المعتبرة تذكر أن هذا كان حيا حينما توجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى تبوك، وأنه ضرب معسكره إلى جانب معسكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم تخلص واعتذر عن السفر على ما شرحناه قبل في سياق موجز قصة غزوة تبوك ( ١ )١. وهذا يعني إذا صح الحديث أنه مات بعد رجوع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الغزوة. والآية جزء منسجم كل الانسجام كما هو واضح من آيات نزلت أثناء هذه الغزوة. ومن الصعب التوفيق بين كل هذا وبين الروايات المتناقضة معه وبخاصة بينه وبين الحديث الذي يرويه الشيخان والترمذي. ونميل إلى القول : إن في الحديث والروايات شيئا من الالتباس والتداخل، وأن كل ما يمكن أن يكون هو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أجاب التماس عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول المؤمن المخلص فأعطاه قميصه ليكفن به أباه الذي مات بعد العودة من تبوك تطييبا له على إخلاصه وتألفا للمترددين من قومه دون أن يكون ذلك مناسبة لنزول الآية. وفي الحديث أن عمر قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم : كيف تصلي عليه وقد نهاك ربك. وهذا يعني إذا صح أن عمر استند إلى الآية التي نزلت أثناء الغزوة في حق جميع المنافقين. ولقد ذكر الطبرسي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يصل على ابن أبي بن سلول، ولكنه لم يسند قوله إلى سند معين. ولقد روى الطبري عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أراد أن يصلي عليه فأخذ جبريل بثوبه فقال : ولا تصل على أحد منهم مات أبدا، ولا تقم على قبره. وهذه الرواية تؤيد رواية الطبرسي من جهة وتنطوي على تصحيح لما التبس من رواية نزول الآية في هذه المناسبة ؛ حيث تفيد إذا صحت أن جبريل إنما ذكر بالآية تذكيرا. ونحن نميل إلى ترجيح رواية عدم الصلاة ؛ لأنها المعقولة أكثر بعد أن نهي النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الصلاة عن أي منافق في آية سابقة النزول بأسلوب حاسم. والله تعالى أعلم.
ولقد روى المفسرون فيما رووا خبر إسلام ألف من قوم ابن أبي بن سلول نتيجة لما كان من تصرف النبي صلى الله عليه وآله وسلم الكريم إزاءه. وروح آيات عديدة من هذه السورة تلهم بقوة كما نبهنا عليه في مناسبتها أن المنافقين قبل غزوة تبوك قد تضاءلوا عددا وشأنا. وهذا ينقض الرواية كما هو المتبادر، فألف رجل في المدينة رقم عظيم. ولا يعقل أن يكون صحيحا. والروايات التي ذكرت المعسكر الذي ضربه المنافقون وتظاهروا به أنهم خارجون إلى الغزوة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن فيه إلا نحو ثمانين شخصا.....................
ويلحظ أن الآية ( ٨٥ ) جاءت تكرارا للآية ( ٥٥ ) من هذه السورة بفرق يسير. وقد يلمح في هذا التكرار أن كثرة الأموال والأولاد التي كانت للمنافقين كانت تشغل حيزا يسيرا في أذهان المؤمنين فاقتضت حكمة التنزيل تكرار بث القوة والعلو والتهوين في نفوسهم وتوكيد المدى الذي في الآية وأمثالها على ما شرحناه في سياق الآية ( ٥٥ ).
وتعبير :﴿ فإن رجعك الله ﴾ يدل بصراحة كما قلنا : إن هذه الآيات والسلسلة التي قبلها قد نزلت أثناء سفرة تبوك مستهدفة التنديد والتقريع بالمعتذرين والمتخلفين المنافقين وفضح أخلاقهم والتذكير بمواقفهم على سبيل التوكيد والتدعيم من جهة وتثبيت المؤمنين المخلصين الذين اشتركوا في الغزوة من جهة أخرى. وتعبير :﴿ لا تنفروا في الحر ﴾ يؤيد ما روي من أن هذه الغزوة كانت في موسم الصيف. وفي تعبير :﴿ ولا تقم على قبره ﴾ صورة لما كان يجري من تشييع الجنائز والدعاء على قبور الأموات بعد مواراتهم والجلوس عندها لتأنيسهم. والمتبادر أن هذا مما كان قبل الإسلام عند العرب أيضا.
والآيات قوية التلقين كسابقاتها بالموقف الحاسم الذي يجب على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين أن يقفوه من المنافقين. بل فيها ما هو أشد مما احتوته الآيات السابقة ؛ حيث توجب اعتبارهم خارج صف المسلمين فلا يدعونهم ليشتركوا معهم في حرب ولا يجوز أن يصلوا على أحد منهم حينما يموت ولا يقوموا على قبره ؛ لأنهم آثروا القعود مع الضعفاء والعجزة والصبيان فيجب أن يبقوا في النطاق الذي وضعوا أنفسهم فيه، ولأن من مات منهم على حالته فقد مات كافرا فاسقا. وهذا من دون ريب متناسب مع موقفهم النفاقي وتخلفهم عن الجهاد بالمال والنفس والتثبيط عنهما مع شدة صلة ذلك بالدعوة الإسلامية ومصلحة المسلمين العامة. وفي كل هذا تلقين جليل مستمر المدى لما يجب أن يكون موقف المخلصين من أمثال هؤلاء وبخاصة حينما يتهربون من التضامن مع الناس وأداء واجباتهم في الأزمات والشدائد معتذرين بالأعذار الكاذبة ومنطلقين بمختلف أساليب المكر والحيل، والبخل والتثبيط والتعطيل والفرح بالعافية مما قد يلم بالناس من محن وبلاء في سبيل الله.
( ١ ) أولوا الطول : ذوو القدرة والاستطاعة واليسار.
﴿ وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَجَاهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُواْ الطَّوْلِ ( ١ ) مِنْهُمْ وَقَالُواْ ذَرْنَا نَكُن مَّعَ الْقَاعِدِينَ ( ٨٦ ) رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ ( ٢ ) وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ ( ٨٧ ) ﴾ ( ٨٦ – ٨٧ ).
( ٢ ) عبارة الآيتين واضحة. ولم يرو المفسرون رواية خاصة في نزولهما. والمتبادر أنهما استمرار في الحملة على المنافقين المتخلفين التي وردت في السياق السابق، فهم كلما أنزل الله أمرا قرآنيا بالإيمان به والجهاد في سبيله بادر ذوو القدر واليسار منهم إلى الالتماس من النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن يدعهم يبقون مع القاعدين عن الحرب. راضين بذلك مهانة البقاء مع الخوالف العجزة، فكان ذلك مظهرا من مظاهر انغلاق قلوبهم وأفهامهم عن إدارك مغبة موقفهم ومهانته.
( ٢ ) الخوالف : يصح أن يكون المقصود بالكلمة الإشارة إلى النساء اللاتي كن بطبيعتهن يتخلفن عن الحرب في البيوت دون الرجال. ويصح أن يكون المقصود من يتخلف عادة من نساء ومرضى وصبيان وشيوخ بصورة عامة. وقد عبر عن ذلك في آية سابقة بكلمة :﴿ الخالفين ﴾.
﴿ وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَجَاهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُواْ الطَّوْلِ ( ١ ) مِنْهُمْ وَقَالُواْ ذَرْنَا نَكُن مَّعَ الْقَاعِدِينَ ( ٨٦ ) رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ ( ٢ ) وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ ( ٨٧ ) ﴾ ( ٨٦ – ٨٧ ).
( ٢ ) عبارة الآيتين واضحة. ولم يرو المفسرون رواية خاصة في نزولهما. والمتبادر أنهما استمرار في الحملة على المنافقين المتخلفين التي وردت في السياق السابق، فهم كلما أنزل الله أمرا قرآنيا بالإيمان به والجهاد في سبيله بادر ذوو القدر واليسار منهم إلى الالتماس من النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن يدعهم يبقون مع القاعدين عن الحرب. راضين بذلك مهانة البقاء مع الخوالف العجزة، فكان ذلك مظهرا من مظاهر انغلاق قلوبهم وأفهامهم عن إدارك مغبة موقفهم ومهانته.
﴿ لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ جَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( ٨٨ ) أَعَدَّ اللّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( ٨٩ ) ﴾ ( ٨٨ – ٨٩ ).
وعبارة الآيتين كذلك واضحة. وصلتهما بالسياق قائمة من حيث ورودهما على سبيل التنويه والإشادة بموقف المخلصين الذين كانوا يلبون دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتنفيذ أمر الله فيسارعون معه إلى الجهاد بأموالهم وأنفسهم، والبشرى لهم. وتقرير فلاحهم وسعادتهم ورضاء الله عنهم والمقابلة لما ذكر من مواقف المنافقين وأخلاقهم، والتنديد بهم وإنذارهم في الآيات السابقة مما جرى عليه النظم القرآني في المناسبات المماثلة التي مرت أمثلة عديدة منها.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٨٨:﴿ لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ جَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( ٨٨ ) أَعَدَّ اللّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( ٨٩ ) ﴾ ( ٨٨ – ٨٩ ).
وعبارة الآيتين كذلك واضحة. وصلتهما بالسياق قائمة من حيث ورودهما على سبيل التنويه والإشادة بموقف المخلصين الذين كانوا يلبون دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتنفيذ أمر الله فيسارعون معه إلى الجهاد بأموالهم وأنفسهم، والبشرى لهم. وتقرير فلاحهم وسعادتهم ورضاء الله عنهم والمقابلة لما ذكر من مواقف المنافقين وأخلاقهم، والتنديد بهم وإنذارهم في الآيات السابقة مما جرى عليه النظم القرآني في المناسبات المماثلة التي مرت أمثلة عديدة منها.

﴿ وَجَاء الْمُعَذِّرُونَ ( ١ ) مِنَ الأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( ٩٠ ) ﴾ ( ٩٠ ).
( ١ ) المعذرون : قيل إنها بمعنى :( المعتذرون ) أي الذين اعتذروا عن الاشتراك في غزوة تبوك. وقيل : إن المعذر هو الذي يتوسل بعذر غير قوي وغير وجيه وغير معقول. أو المقصر في الأمر المتواني فيه.
تعليق على الآية :
﴿ وَجَاء الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ.................. ﴾
وما روي في صددها من روايات وما انطوى فيها من صور
يستفاد مما أورده المفسرون ( ١ )١، في تأويل هذه الآية أنها تحتمل أن تكون بسبيل الإشارة إلى فريقين من الأعراب. فريق جاء معتذرا طالبا الإذن له بالتخلف عن غزوة تبوك، وكانت أعذاره كاذبة وغير وجيهة. وفريق قعد وتخلف بدون اعتذار واستئذان. ويحتمل أن يكون بسبيل الإشارة إلى فريق واحد فقط من الأعراب جاء معتذرا طالبا الإذن بالتخلف وقعد عن الجهاد في سبيل الله، وكان في اعتذاره وقعوده كاذبا فيما عاهد الله ورسوله عليه من الصدق في الإسلام والجهاد في سبيل الله. أما فقرة :﴿ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ فهناك من جعلها عائدة إلى الفريق أو الفريقين واعتبر اعتذارهم الكاذب وقعودهم كفرا. وهناك من جعلها عائدة إلى الذين يصرون على الكفر من الفريق أو الفريقين.
وقد رووا ثلاث روايات في صدد المعتذرين، منها أنهم جماعة من بني غفار. ومنها أنهم جماعة من أسد وغطفان. ومنها أنهم رهط عامر بن الطفيل. ولم يذكر الذين قالوا إن الآية تحتوي إشارة إلى فريقين أي اسم للفريق الذي قعد بدون اعتذار واستئذان. وإنما قالوا : إنهم منافقو الأعراب.
وقد تلهم روح الآية وفحواها أن القول بأنها تحتوي إشارة إلى فريقين، وأن الفقرة المذكورة عائدة إلى الذين يصرون على الكفر منهم هو الأوجه. والله أعلم.
وعلى كل ففي الآية صورة لموقف بعض الأعراب المنضوين إلى الإسلام إزاء غزوة تبوك وكان موقفا فيه نفاق وكذب ونكث عهد فاستحق أصحابه ما احتوته الآيات التالية من تنديد وتوبيخ شديدين.
والآية صريحة على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد استنفر الذين أعلنوا له إسلامهم من قبائل البدو أيضا إلى غزوة تبوك. وذكر الآية اعتذار فريق وقعود فريق منهم لا يفيد بالطبع أن جميع من استنفروا تخلفوا. والروايات تروي أن كثيرا من البدو أجابوا واشتركوا في الحملة. والعدد العظيم المروي البالغ ثلاثين ألفا يؤيد ذلك فيما هو المتبادر.
١ انظر تفسيرها في الطبري والبغوي والزمخشري وابن كثير والخازن والطبرسي..
﴿ لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ٩١ ) وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ ( ٩٢ ) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاء رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ( ٩٣ ) يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ( ٩٤ ) سَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ( ٩٥ ) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ( ٩٦ ) ﴾ ( ٩١ – ٩٦ ).
في الآيات :
( ١ ) تنبيه استدراكي بأن الله تعالى لا يؤاخذ الضعفاء ولا المرضى ولا الذين لا يجدون ما ينفقون فيمنعهم عجزهم عن الاشتراك الفعلي في الجهاد ويقعدون عنه إذا ما كانوا مخلصين حسني النية مجتهدين في النصح لله ورسوله، ولا يؤاخذ كذلك الذين راجعوا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وطلبوا منه تدبير الوسائل التي تساعدهم على الاشتراك فلم يستطع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إجابتهم، فانصرفوا باكين حزنا على فقرهم وحرمانهم من ثواب الجهاد ؛ لأنه ليس على من أدى واجبه على أحسن ما يقدر عليه أو أراد من كل قلبه أن يؤديه فعجز سبيل ولا حرج ولا إثم وإنما هذا على الذين يستأذنون في القعود ويتخلفون وهم أغنياء قادرون مفضلين البقاء مع الخوالف مهما كان في ذلك من ضعة وهوان.
( ٢ ) ووصف لهؤلاء : فهم غلاظ القلوب كأنما طبع عليها فلم يدركوا ما في موقفهم من إثم وهوان.
( ٣ ) وحكاية لما سوف يكون من الأعراب المعتذرين والقاعدين حينما يعود النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون ؛ حيث يسارعون إلى الاعتذار واليمين بالله لتوكيد أعذارهم ويطلبون الإغضاء والإعراض عن تعنيفهم وتقريعهم والرضاء عنهم.
( ٤ ) وأوامر تقريرية لما يجب أن يقابلوا به : فعلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمخلصين أن يعلنوهم بأنهم لن يركنوا إليهم ولن يصدقوهم بعد الآن، وأن الله قد كشف لهم عن حقيقة أمرهم وكذب أحبارهم، وأنه هو ورسوله مراقبوهم وشاهدون عليهم، وأن الله سيحاسبهم حينما يقفون بين يديه ويردون إليه بما يستحقون وهو عالم الشهادة والغيب والعلن والسر. وعلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمخلصين أن يعرضوا عنهم إعراض تحقير ومقاطعة ونبذ فإنهم رجس ومأواهم النار. ولا يجوز لمؤمن أن يرضى عنهم. فإن فعلوا فإنما يفعلون خلاف ما يرضي الله ؛ لأن الله لا يمكن أن يرضى عن القوم الفاسقين.
تعليق على الآية :
﴿ لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ.......................... ﴾
والآيات الخمس التي بعدها وما فيها من صور وتلقين
روى المفسرون أن قسما من الآية ( ٩١ ) في حق ابن أم كلثوم الضرير. وقسما آخر نزل في حق فقير اسمه أبو معقل لم يجد ما يساعده على الاشتراك في غزوة تبوك. وأن الآية ( ٩٢ ) نزلت في جماعة التمسوا من النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يدبر لهم ما يحملهم حتى يشتركوا في الغزو. فقال لهم : لا أستطيع فحزنوا وبكوا حتى سموا البكائين لحرمانهم من الجهاد.
والآيتان منسجمتان مع السياق. وروحهما ونصهما ونص الآيات التي تأتي بعدهما يلهم بقوة أنهما جاءتا بمثابة تمهيد للتنديد بالقادرين بدنا ومالا على الاشتراك في الغزوة. ثم استأذنوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالقعود معتذرين بالأعذار الكاذبة. وهذا لا يمنع أن يكون ما انطوى فيهما من صور ومشاهد هي واقعية لبعض المخلصين من فقراء ومرضى ذوي عاهات، فالتبس الأمر على الرواة وحسبوا أنهما نزلتا في شأنهم خصيصا.
ومعظم الروايات التي يرويها المفسرون عن أهل التأويل ( ١ )١، تصرف ما جاء في الآيات :( ٩٣ – ٩٦ ) إلى المنافقين المتخلفين في المدينة الذين يروون أن عددهم كان بضعة وثمانين. وبعضها يصرفها إلى المتخلفين بأعذار كاذبة أو بغير أعذار من أهل المدينة والأعراب عامة. ويأتي بعد هذه الآيات آيات فيها عدوة إلى ذكر الأعراب ؛ حيث يلهم أن هذا الفصل جميعه من الآية :( ٩٠ ) إلى الآية ( ٩٩ ) في صدد المعتذرين والقاعدين من الأعراب خاصة وأن الآيات :( ٩٣ – ٩٦ ) هي بالتبعية في صددهم أيضا.
على أن الإطلاق في هذه الآيات يجعل اعتبارها شاملة لجميع المتخلفين بأعذار كاذبة أو بدون أعذار سائغا أيضا. وعلى كل حال فالآيات :( ٩١ – ٩٦ ) مع الآية السابقة لها ليست منفصلة عن السياق والكلام على المتخلفين والقاعدين.
وتعبير :﴿ إذا رجعتم إليهم ﴾ وتعبير :﴿ إذا انقلبتم إليهم ﴾ صريحا للدلالة على أن هذه الآيات نزلت أثناء سفرة تبوك. وهذه الصراحة منطوية في الآية ( ٨٣ ) من الآيات السابقة حيث تتلاحق الدلالة على أن السلسلة جميعها قد نزلت في أثناء السفرة دفعة واحدة أو متلاحقة.
والآية الثالثة احتوت مشهدا رائعا من مشاهد إخلاص الفئة المخلصة وشدة رغبتها في الجهاد في سبيل الله. وإذا لوحظ بعد شقة الغزوة وضعف الأمل في الغنيمة ورجحان الخطر وشدة الحر تضاعفت روعة المشهد. ولقد روى الطبري وغيره روايات عديدة في أصحاب هذا المشهد منها أنهم نفر من بني مقرن من مزينة. ومنها أنهم سبعة من قبائل شتى. ومنها أنهم خليط من أعراب وأنصار. وقد أورد المفسرون سبعة أسماء ورووا أنهم أسماؤهم. وقد عر فوا في روايات السيرة بالبكائين ( ١ )٢. ولما كان الفصل في الأعراب فالاحتمال الأقوى أنهم أيضا من الأعراب. وإذا صح هذا كانت روعة المشهد أشد. وعلى كل حال فالمشهد مستمد إلهام بليغ دائم المدى.
كذلك فإن في الآيات الأخرى أحكاما وتلقينات قوية من شأنها أن تكون بدورها مستمد إلهام مستمر المدى : فالضعيف والمريض والفقير لا يؤاخذ إذا لم يشترك فعلا في النضال ؛ لأنه عاجز عن وسائله أو عاجز ببنيته. ولكن إسلامه والإخلاص له يحملانه مسؤولية بذل جهده في النصيحة وفعل كل ما يقدر عليه في سبيل نفع المناضلين. فإن لم يفعل يكن مقصرا في واجبه. والمتخلف المتقاعس عن الجهاد مع القدرة عليه هو اللئيم والملوم الذي لا يجوز أن يكون محل تساهل وإغضاء ورضاء، ويجب أن يكون موضع احتقار وزراية ونبذ. وظروف الشدة والنضال هي الظروف التي يمتاز فيها المخلص من المخامر. والمخامرة في هذه الظروف هي أشد أنواع المخامرات ضررا وخطرا. وتستحق من أجل ذلك أشد أنواع التنكيل والاحتقار والنبذ.
١ انظر كتب تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والطبرسي..................... الخ..
٢ هذه هي الأسماء التي رواها الطبري نسجلها نحن أيضا؛ لأن من حق أصحابها أن يذكروا بالتكريم على مدى الأجيال. سالم بن عمير وحرملة بن عمرو وعبد الرحمن بن كعب وسلمان بن صخر وعبد الرحمن بن يزيد وعمرو بن غنيمة وعبد الله بن عمرو المزني رضي الله عنهم..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٩١:﴿ لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ٩١ ) وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ ( ٩٢ ) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاء رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ( ٩٣ ) يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ( ٩٤ ) سَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ( ٩٥ ) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ( ٩٦ ) ﴾ ( ٩١ – ٩٦ ).

في الآيات :

( ١ ) تنبيه استدراكي بأن الله تعالى لا يؤاخذ الضعفاء ولا المرضى ولا الذين لا يجدون ما ينفقون فيمنعهم عجزهم عن الاشتراك الفعلي في الجهاد ويقعدون عنه إذا ما كانوا مخلصين حسني النية مجتهدين في النصح لله ورسوله، ولا يؤاخذ كذلك الذين راجعوا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وطلبوا منه تدبير الوسائل التي تساعدهم على الاشتراك فلم يستطع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إجابتهم، فانصرفوا باكين حزنا على فقرهم وحرمانهم من ثواب الجهاد ؛ لأنه ليس على من أدى واجبه على أحسن ما يقدر عليه أو أراد من كل قلبه أن يؤديه فعجز سبيل ولا حرج ولا إثم وإنما هذا على الذين يستأذنون في القعود ويتخلفون وهم أغنياء قادرون مفضلين البقاء مع الخوالف مهما كان في ذلك من ضعة وهوان.
( ٢ ) ووصف لهؤلاء : فهم غلاظ القلوب كأنما طبع عليها فلم يدركوا ما في موقفهم من إثم وهوان.
( ٣ ) وحكاية لما سوف يكون من الأعراب المعتذرين والقاعدين حينما يعود النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون ؛ حيث يسارعون إلى الاعتذار واليمين بالله لتوكيد أعذارهم ويطلبون الإغضاء والإعراض عن تعنيفهم وتقريعهم والرضاء عنهم.
( ٤ ) وأوامر تقريرية لما يجب أن يقابلوا به : فعلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمخلصين أن يعلنوهم بأنهم لن يركنوا إليهم ولن يصدقوهم بعد الآن، وأن الله قد كشف لهم عن حقيقة أمرهم وكذب أحبارهم، وأنه هو ورسوله مراقبوهم وشاهدون عليهم، وأن الله سيحاسبهم حينما يقفون بين يديه ويردون إليه بما يستحقون وهو عالم الشهادة والغيب والعلن والسر. وعلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمخلصين أن يعرضوا عنهم إعراض تحقير ومقاطعة ونبذ فإنهم رجس ومأواهم النار. ولا يجوز لمؤمن أن يرضى عنهم. فإن فعلوا فإنما يفعلون خلاف ما يرضي الله ؛ لأن الله لا يمكن أن يرضى عن القوم الفاسقين.

تعليق على الآية :

﴿ لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ.......................... ﴾
والآيات الخمس التي بعدها وما فيها من صور وتلقين
روى المفسرون أن قسما من الآية ( ٩١ ) في حق ابن أم كلثوم الضرير. وقسما آخر نزل في حق فقير اسمه أبو معقل لم يجد ما يساعده على الاشتراك في غزوة تبوك. وأن الآية ( ٩٢ ) نزلت في جماعة التمسوا من النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يدبر لهم ما يحملهم حتى يشتركوا في الغزو. فقال لهم : لا أستطيع فحزنوا وبكوا حتى سموا البكائين لحرمانهم من الجهاد.
والآيتان منسجمتان مع السياق. وروحهما ونصهما ونص الآيات التي تأتي بعدهما يلهم بقوة أنهما جاءتا بمثابة تمهيد للتنديد بالقادرين بدنا ومالا على الاشتراك في الغزوة. ثم استأذنوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالقعود معتذرين بالأعذار الكاذبة. وهذا لا يمنع أن يكون ما انطوى فيهما من صور ومشاهد هي واقعية لبعض المخلصين من فقراء ومرضى ذوي عاهات، فالتبس الأمر على الرواة وحسبوا أنهما نزلتا في شأنهم خصيصا.
ومعظم الروايات التي يرويها المفسرون عن أهل التأويل ( ١ )١، تصرف ما جاء في الآيات :( ٩٣ – ٩٦ ) إلى المنافقين المتخلفين في المدينة الذين يروون أن عددهم كان بضعة وثمانين. وبعضها يصرفها إلى المتخلفين بأعذار كاذبة أو بغير أعذار من أهل المدينة والأعراب عامة. ويأتي بعد هذه الآيات آيات فيها عدوة إلى ذكر الأعراب ؛ حيث يلهم أن هذا الفصل جميعه من الآية :( ٩٠ ) إلى الآية ( ٩٩ ) في صدد المعتذرين والقاعدين من الأعراب خاصة وأن الآيات :( ٩٣ – ٩٦ ) هي بالتبعية في صددهم أيضا.
على أن الإطلاق في هذه الآيات يجعل اعتبارها شاملة لجميع المتخلفين بأعذار كاذبة أو بدون أعذار سائغا أيضا. وعلى كل حال فالآيات :( ٩١ – ٩٦ ) مع الآية السابقة لها ليست منفصلة عن السياق والكلام على المتخلفين والقاعدين.
وتعبير :﴿ إذا رجعتم إليهم ﴾ وتعبير :﴿ إذا انقلبتم إليهم ﴾ صريحا للدلالة على أن هذه الآيات نزلت أثناء سفرة تبوك. وهذه الصراحة منطوية في الآية ( ٨٣ ) من الآيات السابقة حيث تتلاحق الدلالة على أن السلسلة جميعها قد نزلت في أثناء السفرة دفعة واحدة أو متلاحقة.
والآية الثالثة احتوت مشهدا رائعا من مشاهد إخلاص الفئة المخلصة وشدة رغبتها في الجهاد في سبيل الله. وإذا لوحظ بعد شقة الغزوة وضعف الأمل في الغنيمة ورجحان الخطر وشدة الحر تضاعفت روعة المشهد. ولقد روى الطبري وغيره روايات عديدة في أصحاب هذا المشهد منها أنهم نفر من بني مقرن من مزينة. ومنها أنهم سبعة من قبائل شتى. ومنها أنهم خليط من أعراب وأنصار. وقد أورد المفسرون سبعة أسماء ورووا أنهم أسماؤهم. وقد عر فوا في روايات السيرة بالبكائين ( ١ )٢. ولما كان الفصل في الأعراب فالاحتمال الأقوى أنهم أيضا من الأعراب. وإذا صح هذا كانت روعة المشهد أشد. وعلى كل حال فالمشهد مستمد إلهام بليغ دائم المدى.
كذلك فإن في الآيات الأخرى أحكاما وتلقينات قوية من شأنها أن تكون بدورها مستمد إلهام مستمر المدى : فالضعيف والمريض والفقير لا يؤاخذ إذا لم يشترك فعلا في النضال ؛ لأنه عاجز عن وسائله أو عاجز ببنيته. ولكن إسلامه والإخلاص له يحملانه مسؤولية بذل جهده في النصيحة وفعل كل ما يقدر عليه في سبيل نفع المناضلين. فإن لم يفعل يكن مقصرا في واجبه. والمتخلف المتقاعس عن الجهاد مع القدرة عليه هو اللئيم والملوم الذي لا يجوز أن يكون محل تساهل وإغضاء ورضاء، ويجب أن يكون موضع احتقار وزراية ونبذ. وظروف الشدة والنضال هي الظروف التي يمتاز فيها المخلص من المخامر. والمخامرة في هذه الظروف هي أشد أنواع المخامرات ضررا وخطرا. وتستحق من أجل ذلك أشد أنواع التنكيل والاحتقار والنبذ.
١ انظر كتب تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والطبرسي..................... الخ..
٢ هذه هي الأسماء التي رواها الطبري نسجلها نحن أيضا؛ لأن من حق أصحابها أن يذكروا بالتكريم على مدى الأجيال. سالم بن عمير وحرملة بن عمرو وعبد الرحمن بن كعب وسلمان بن صخر وعبد الرحمن بن يزيد وعمرو بن غنيمة وعبد الله بن عمرو المزني رضي الله عنهم..

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٩١:﴿ لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ٩١ ) وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ ( ٩٢ ) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاء رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ( ٩٣ ) يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ( ٩٤ ) سَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ( ٩٥ ) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ( ٩٦ ) ﴾ ( ٩١ – ٩٦ ).

في الآيات :

( ١ ) تنبيه استدراكي بأن الله تعالى لا يؤاخذ الضعفاء ولا المرضى ولا الذين لا يجدون ما ينفقون فيمنعهم عجزهم عن الاشتراك الفعلي في الجهاد ويقعدون عنه إذا ما كانوا مخلصين حسني النية مجتهدين في النصح لله ورسوله، ولا يؤاخذ كذلك الذين راجعوا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وطلبوا منه تدبير الوسائل التي تساعدهم على الاشتراك فلم يستطع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إجابتهم، فانصرفوا باكين حزنا على فقرهم وحرمانهم من ثواب الجهاد ؛ لأنه ليس على من أدى واجبه على أحسن ما يقدر عليه أو أراد من كل قلبه أن يؤديه فعجز سبيل ولا حرج ولا إثم وإنما هذا على الذين يستأذنون في القعود ويتخلفون وهم أغنياء قادرون مفضلين البقاء مع الخوالف مهما كان في ذلك من ضعة وهوان.
( ٢ ) ووصف لهؤلاء : فهم غلاظ القلوب كأنما طبع عليها فلم يدركوا ما في موقفهم من إثم وهوان.
( ٣ ) وحكاية لما سوف يكون من الأعراب المعتذرين والقاعدين حينما يعود النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون ؛ حيث يسارعون إلى الاعتذار واليمين بالله لتوكيد أعذارهم ويطلبون الإغضاء والإعراض عن تعنيفهم وتقريعهم والرضاء عنهم.
( ٤ ) وأوامر تقريرية لما يجب أن يقابلوا به : فعلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمخلصين أن يعلنوهم بأنهم لن يركنوا إليهم ولن يصدقوهم بعد الآن، وأن الله قد كشف لهم عن حقيقة أمرهم وكذب أحبارهم، وأنه هو ورسوله مراقبوهم وشاهدون عليهم، وأن الله سيحاسبهم حينما يقفون بين يديه ويردون إليه بما يستحقون وهو عالم الشهادة والغيب والعلن والسر. وعلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمخلصين أن يعرضوا عنهم إعراض تحقير ومقاطعة ونبذ فإنهم رجس ومأواهم النار. ولا يجوز لمؤمن أن يرضى عنهم. فإن فعلوا فإنما يفعلون خلاف ما يرضي الله ؛ لأن الله لا يمكن أن يرضى عن القوم الفاسقين.

تعليق على الآية :

﴿ لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ.......................... ﴾
والآيات الخمس التي بعدها وما فيها من صور وتلقين
روى المفسرون أن قسما من الآية ( ٩١ ) في حق ابن أم كلثوم الضرير. وقسما آخر نزل في حق فقير اسمه أبو معقل لم يجد ما يساعده على الاشتراك في غزوة تبوك. وأن الآية ( ٩٢ ) نزلت في جماعة التمسوا من النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يدبر لهم ما يحملهم حتى يشتركوا في الغزو. فقال لهم : لا أستطيع فحزنوا وبكوا حتى سموا البكائين لحرمانهم من الجهاد.
والآيتان منسجمتان مع السياق. وروحهما ونصهما ونص الآيات التي تأتي بعدهما يلهم بقوة أنهما جاءتا بمثابة تمهيد للتنديد بالقادرين بدنا ومالا على الاشتراك في الغزوة. ثم استأذنوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالقعود معتذرين بالأعذار الكاذبة. وهذا لا يمنع أن يكون ما انطوى فيهما من صور ومشاهد هي واقعية لبعض المخلصين من فقراء ومرضى ذوي عاهات، فالتبس الأمر على الرواة وحسبوا أنهما نزلتا في شأنهم خصيصا.
ومعظم الروايات التي يرويها المفسرون عن أهل التأويل ( ١ )١، تصرف ما جاء في الآيات :( ٩٣ – ٩٦ ) إلى المنافقين المتخلفين في المدينة الذين يروون أن عددهم كان بضعة وثمانين. وبعضها يصرفها إلى المتخلفين بأعذار كاذبة أو بغير أعذار من أهل المدينة والأعراب عامة. ويأتي بعد هذه الآيات آيات فيها عدوة إلى ذكر الأعراب ؛ حيث يلهم أن هذا الفصل جميعه من الآية :( ٩٠ ) إلى الآية ( ٩٩ ) في صدد المعتذرين والقاعدين من الأعراب خاصة وأن الآيات :( ٩٣ – ٩٦ ) هي بالتبعية في صددهم أيضا.
على أن الإطلاق في هذه الآيات يجعل اعتبارها شاملة لجميع المتخلفين بأعذار كاذبة أو بدون أعذار سائغا أيضا. وعلى كل حال فالآيات :( ٩١ – ٩٦ ) مع الآية السابقة لها ليست منفصلة عن السياق والكلام على المتخلفين والقاعدين.
وتعبير :﴿ إذا رجعتم إليهم ﴾ وتعبير :﴿ إذا انقلبتم إليهم ﴾ صريحا للدلالة على أن هذه الآيات نزلت أثناء سفرة تبوك. وهذه الصراحة منطوية في الآية ( ٨٣ ) من الآيات السابقة حيث تتلاحق الدلالة على أن السلسلة جميعها قد نزلت في أثناء السفرة دفعة واحدة أو متلاحقة.
والآية الثالثة احتوت مشهدا رائعا من مشاهد إخلاص الفئة المخلصة وشدة رغبتها في الجهاد في سبيل الله. وإذا لوحظ بعد شقة الغزوة وضعف الأمل في الغنيمة ورجحان الخطر وشدة الحر تضاعفت روعة المشهد. ولقد روى الطبري وغيره روايات عديدة في أصحاب هذا المشهد منها أنهم نفر من بني مقرن من مزينة. ومنها أنهم سبعة من قبائل شتى. ومنها أنهم خليط من أعراب وأنصار. وقد أورد المفسرون سبعة أسماء ورووا أنهم أسماؤهم. وقد عر فوا في روايات السيرة بالبكائين ( ١ )٢. ولما كان الفصل في الأعراب فالاحتمال الأقوى أنهم أيضا من الأعراب. وإذا صح هذا كانت روعة المشهد أشد. وعلى كل حال فالمشهد مستمد إلهام بليغ دائم المدى.
كذلك فإن في الآيات الأخرى أحكاما وتلقينات قوية من شأنها أن تكون بدورها مستمد إلهام مستمر المدى : فالضعيف والمريض والفقير لا يؤاخذ إذا لم يشترك فعلا في النضال ؛ لأنه عاجز عن وسائله أو عاجز ببنيته. ولكن إسلامه والإخلاص له يحملانه مسؤولية بذل جهده في النصيحة وفعل كل ما يقدر عليه في سبيل نفع المناضلين. فإن لم يفعل يكن مقصرا في واجبه. والمتخلف المتقاعس عن الجهاد مع القدرة عليه هو اللئيم والملوم الذي لا يجوز أن يكون محل تساهل وإغضاء ورضاء، ويجب أن يكون موضع احتقار وزراية ونبذ. وظروف الشدة والنضال هي الظروف التي يمتاز فيها المخلص من المخامر. والمخامرة في هذه الظروف هي أشد أنواع المخامرات ضررا وخطرا. وتستحق من أجل ذلك أشد أنواع التنكيل والاحتقار والنبذ.
١ انظر كتب تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والطبرسي..................... الخ..
٢ هذه هي الأسماء التي رواها الطبري نسجلها نحن أيضا؛ لأن من حق أصحابها أن يذكروا بالتكريم على مدى الأجيال. سالم بن عمير وحرملة بن عمرو وعبد الرحمن بن كعب وسلمان بن صخر وعبد الرحمن بن يزيد وعمرو بن غنيمة وعبد الله بن عمرو المزني رضي الله عنهم..

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٩١:﴿ لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ٩١ ) وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ ( ٩٢ ) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاء رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ( ٩٣ ) يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ( ٩٤ ) سَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ( ٩٥ ) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ( ٩٦ ) ﴾ ( ٩١ – ٩٦ ).

في الآيات :

( ١ ) تنبيه استدراكي بأن الله تعالى لا يؤاخذ الضعفاء ولا المرضى ولا الذين لا يجدون ما ينفقون فيمنعهم عجزهم عن الاشتراك الفعلي في الجهاد ويقعدون عنه إذا ما كانوا مخلصين حسني النية مجتهدين في النصح لله ورسوله، ولا يؤاخذ كذلك الذين راجعوا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وطلبوا منه تدبير الوسائل التي تساعدهم على الاشتراك فلم يستطع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إجابتهم، فانصرفوا باكين حزنا على فقرهم وحرمانهم من ثواب الجهاد ؛ لأنه ليس على من أدى واجبه على أحسن ما يقدر عليه أو أراد من كل قلبه أن يؤديه فعجز سبيل ولا حرج ولا إثم وإنما هذا على الذين يستأذنون في القعود ويتخلفون وهم أغنياء قادرون مفضلين البقاء مع الخوالف مهما كان في ذلك من ضعة وهوان.
( ٢ ) ووصف لهؤلاء : فهم غلاظ القلوب كأنما طبع عليها فلم يدركوا ما في موقفهم من إثم وهوان.
( ٣ ) وحكاية لما سوف يكون من الأعراب المعتذرين والقاعدين حينما يعود النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون ؛ حيث يسارعون إلى الاعتذار واليمين بالله لتوكيد أعذارهم ويطلبون الإغضاء والإعراض عن تعنيفهم وتقريعهم والرضاء عنهم.
( ٤ ) وأوامر تقريرية لما يجب أن يقابلوا به : فعلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمخلصين أن يعلنوهم بأنهم لن يركنوا إليهم ولن يصدقوهم بعد الآن، وأن الله قد كشف لهم عن حقيقة أمرهم وكذب أحبارهم، وأنه هو ورسوله مراقبوهم وشاهدون عليهم، وأن الله سيحاسبهم حينما يقفون بين يديه ويردون إليه بما يستحقون وهو عالم الشهادة والغيب والعلن والسر. وعلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمخلصين أن يعرضوا عنهم إعراض تحقير ومقاطعة ونبذ فإنهم رجس ومأواهم النار. ولا يجوز لمؤمن أن يرضى عنهم. فإن فعلوا فإنما يفعلون خلاف ما يرضي الله ؛ لأن الله لا يمكن أن يرضى عن القوم الفاسقين.

تعليق على الآية :

﴿ لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ.......................... ﴾
والآيات الخمس التي بعدها وما فيها من صور وتلقين
روى المفسرون أن قسما من الآية ( ٩١ ) في حق ابن أم كلثوم الضرير. وقسما آخر نزل في حق فقير اسمه أبو معقل لم يجد ما يساعده على الاشتراك في غزوة تبوك. وأن الآية ( ٩٢ ) نزلت في جماعة التمسوا من النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يدبر لهم ما يحملهم حتى يشتركوا في الغزو. فقال لهم : لا أستطيع فحزنوا وبكوا حتى سموا البكائين لحرمانهم من الجهاد.
والآيتان منسجمتان مع السياق. وروحهما ونصهما ونص الآيات التي تأتي بعدهما يلهم بقوة أنهما جاءتا بمثابة تمهيد للتنديد بالقادرين بدنا ومالا على الاشتراك في الغزوة. ثم استأذنوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالقعود معتذرين بالأعذار الكاذبة. وهذا لا يمنع أن يكون ما انطوى فيهما من صور ومشاهد هي واقعية لبعض المخلصين من فقراء ومرضى ذوي عاهات، فالتبس الأمر على الرواة وحسبوا أنهما نزلتا في شأنهم خصيصا.
ومعظم الروايات التي يرويها المفسرون عن أهل التأويل ( ١ )١، تصرف ما جاء في الآيات :( ٩٣ – ٩٦ ) إلى المنافقين المتخلفين في المدينة الذين يروون أن عددهم كان بضعة وثمانين. وبعضها يصرفها إلى المتخلفين بأعذار كاذبة أو بغير أعذار من أهل المدينة والأعراب عامة. ويأتي بعد هذه الآيات آيات فيها عدوة إلى ذكر الأعراب ؛ حيث يلهم أن هذا الفصل جميعه من الآية :( ٩٠ ) إلى الآية ( ٩٩ ) في صدد المعتذرين والقاعدين من الأعراب خاصة وأن الآيات :( ٩٣ – ٩٦ ) هي بالتبعية في صددهم أيضا.
على أن الإطلاق في هذه الآيات يجعل اعتبارها شاملة لجميع المتخلفين بأعذار كاذبة أو بدون أعذار سائغا أيضا. وعلى كل حال فالآيات :( ٩١ – ٩٦ ) مع الآية السابقة لها ليست منفصلة عن السياق والكلام على المتخلفين والقاعدين.
وتعبير :﴿ إذا رجعتم إليهم ﴾ وتعبير :﴿ إذا انقلبتم إليهم ﴾ صريحا للدلالة على أن هذه الآيات نزلت أثناء سفرة تبوك. وهذه الصراحة منطوية في الآية ( ٨٣ ) من الآيات السابقة حيث تتلاحق الدلالة على أن السلسلة جميعها قد نزلت في أثناء السفرة دفعة واحدة أو متلاحقة.
والآية الثالثة احتوت مشهدا رائعا من مشاهد إخلاص الفئة المخلصة وشدة رغبتها في الجهاد في سبيل الله. وإذا لوحظ بعد شقة الغزوة وضعف الأمل في الغنيمة ورجحان الخطر وشدة الحر تضاعفت روعة المشهد. ولقد روى الطبري وغيره روايات عديدة في أصحاب هذا المشهد منها أنهم نفر من بني مقرن من مزينة. ومنها أنهم سبعة من قبائل شتى. ومنها أنهم خليط من أعراب وأنصار. وقد أورد المفسرون سبعة أسماء ورووا أنهم أسماؤهم. وقد عر فوا في روايات السيرة بالبكائين ( ١ )٢. ولما كان الفصل في الأعراب فالاحتمال الأقوى أنهم أيضا من الأعراب. وإذا صح هذا كانت روعة المشهد أشد. وعلى كل حال فالمشهد مستمد إلهام بليغ دائم المدى.
كذلك فإن في الآيات الأخرى أحكاما وتلقينات قوية من شأنها أن تكون بدورها مستمد إلهام مستمر المدى : فالضعيف والمريض والفقير لا يؤاخذ إذا لم يشترك فعلا في النضال ؛ لأنه عاجز عن وسائله أو عاجز ببنيته. ولكن إسلامه والإخلاص له يحملانه مسؤولية بذل جهده في النصيحة وفعل كل ما يقدر عليه في سبيل نفع المناضلين. فإن لم يفعل يكن مقصرا في واجبه. والمتخلف المتقاعس عن الجهاد مع القدرة عليه هو اللئيم والملوم الذي لا يجوز أن يكون محل تساهل وإغضاء ورضاء، ويجب أن يكون موضع احتقار وزراية ونبذ. وظروف الشدة والنضال هي الظروف التي يمتاز فيها المخلص من المخامر. والمخامرة في هذه الظروف هي أشد أنواع المخامرات ضررا وخطرا. وتستحق من أجل ذلك أشد أنواع التنكيل والاحتقار والنبذ.
١ انظر كتب تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والطبرسي..................... الخ..
٢ هذه هي الأسماء التي رواها الطبري نسجلها نحن أيضا؛ لأن من حق أصحابها أن يذكروا بالتكريم على مدى الأجيال. سالم بن عمير وحرملة بن عمرو وعبد الرحمن بن كعب وسلمان بن صخر وعبد الرحمن بن يزيد وعمرو بن غنيمة وعبد الله بن عمرو المزني رضي الله عنهم..

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٩١:﴿ لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ٩١ ) وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ ( ٩٢ ) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاء رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ( ٩٣ ) يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ( ٩٤ ) سَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ( ٩٥ ) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ( ٩٦ ) ﴾ ( ٩١ – ٩٦ ).

في الآيات :

( ١ ) تنبيه استدراكي بأن الله تعالى لا يؤاخذ الضعفاء ولا المرضى ولا الذين لا يجدون ما ينفقون فيمنعهم عجزهم عن الاشتراك الفعلي في الجهاد ويقعدون عنه إذا ما كانوا مخلصين حسني النية مجتهدين في النصح لله ورسوله، ولا يؤاخذ كذلك الذين راجعوا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وطلبوا منه تدبير الوسائل التي تساعدهم على الاشتراك فلم يستطع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إجابتهم، فانصرفوا باكين حزنا على فقرهم وحرمانهم من ثواب الجهاد ؛ لأنه ليس على من أدى واجبه على أحسن ما يقدر عليه أو أراد من كل قلبه أن يؤديه فعجز سبيل ولا حرج ولا إثم وإنما هذا على الذين يستأذنون في القعود ويتخلفون وهم أغنياء قادرون مفضلين البقاء مع الخوالف مهما كان في ذلك من ضعة وهوان.
( ٢ ) ووصف لهؤلاء : فهم غلاظ القلوب كأنما طبع عليها فلم يدركوا ما في موقفهم من إثم وهوان.
( ٣ ) وحكاية لما سوف يكون من الأعراب المعتذرين والقاعدين حينما يعود النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون ؛ حيث يسارعون إلى الاعتذار واليمين بالله لتوكيد أعذارهم ويطلبون الإغضاء والإعراض عن تعنيفهم وتقريعهم والرضاء عنهم.
( ٤ ) وأوامر تقريرية لما يجب أن يقابلوا به : فعلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمخلصين أن يعلنوهم بأنهم لن يركنوا إليهم ولن يصدقوهم بعد الآن، وأن الله قد كشف لهم عن حقيقة أمرهم وكذب أحبارهم، وأنه هو ورسوله مراقبوهم وشاهدون عليهم، وأن الله سيحاسبهم حينما يقفون بين يديه ويردون إليه بما يستحقون وهو عالم الشهادة والغيب والعلن والسر. وعلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمخلصين أن يعرضوا عنهم إعراض تحقير ومقاطعة ونبذ فإنهم رجس ومأواهم النار. ولا يجوز لمؤمن أن يرضى عنهم. فإن فعلوا فإنما يفعلون خلاف ما يرضي الله ؛ لأن الله لا يمكن أن يرضى عن القوم الفاسقين.

تعليق على الآية :

﴿ لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ.......................... ﴾
والآيات الخمس التي بعدها وما فيها من صور وتلقين
روى المفسرون أن قسما من الآية ( ٩١ ) في حق ابن أم كلثوم الضرير. وقسما آخر نزل في حق فقير اسمه أبو معقل لم يجد ما يساعده على الاشتراك في غزوة تبوك. وأن الآية ( ٩٢ ) نزلت في جماعة التمسوا من النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يدبر لهم ما يحملهم حتى يشتركوا في الغزو. فقال لهم : لا أستطيع فحزنوا وبكوا حتى سموا البكائين لحرمانهم من الجهاد.
والآيتان منسجمتان مع السياق. وروحهما ونصهما ونص الآيات التي تأتي بعدهما يلهم بقوة أنهما جاءتا بمثابة تمهيد للتنديد بالقادرين بدنا ومالا على الاشتراك في الغزوة. ثم استأذنوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالقعود معتذرين بالأعذار الكاذبة. وهذا لا يمنع أن يكون ما انطوى فيهما من صور ومشاهد هي واقعية لبعض المخلصين من فقراء ومرضى ذوي عاهات، فالتبس الأمر على الرواة وحسبوا أنهما نزلتا في شأنهم خصيصا.
ومعظم الروايات التي يرويها المفسرون عن أهل التأويل ( ١ )١، تصرف ما جاء في الآيات :( ٩٣ – ٩٦ ) إلى المنافقين المتخلفين في المدينة الذين يروون أن عددهم كان بضعة وثمانين. وبعضها يصرفها إلى المتخلفين بأعذار كاذبة أو بغير أعذار من أهل المدينة والأعراب عامة. ويأتي بعد هذه الآيات آيات فيها عدوة إلى ذكر الأعراب ؛ حيث يلهم أن هذا الفصل جميعه من الآية :( ٩٠ ) إلى الآية ( ٩٩ ) في صدد المعتذرين والقاعدين من الأعراب خاصة وأن الآيات :( ٩٣ – ٩٦ ) هي بالتبعية في صددهم أيضا.
على أن الإطلاق في هذه الآيات يجعل اعتبارها شاملة لجميع المتخلفين بأعذار كاذبة أو بدون أعذار سائغا أيضا. وعلى كل حال فالآيات :( ٩١ – ٩٦ ) مع الآية السابقة لها ليست منفصلة عن السياق والكلام على المتخلفين والقاعدين.
وتعبير :﴿ إذا رجعتم إليهم ﴾ وتعبير :﴿ إذا انقلبتم إليهم ﴾ صريحا للدلالة على أن هذه الآيات نزلت أثناء سفرة تبوك. وهذه الصراحة منطوية في الآية ( ٨٣ ) من الآيات السابقة حيث تتلاحق الدلالة على أن السلسلة جميعها قد نزلت في أثناء السفرة دفعة واحدة أو متلاحقة.
والآية الثالثة احتوت مشهدا رائعا من مشاهد إخلاص الفئة المخلصة وشدة رغبتها في الجهاد في سبيل الله. وإذا لوحظ بعد شقة الغزوة وضعف الأمل في الغنيمة ورجحان الخطر وشدة الحر تضاعفت روعة المشهد. ولقد روى الطبري وغيره روايات عديدة في أصحاب هذا المشهد منها أنهم نفر من بني مقرن من مزينة. ومنها أنهم سبعة من قبائل شتى. ومنها أنهم خليط من أعراب وأنصار. وقد أورد المفسرون سبعة أسماء ورووا أنهم أسماؤهم. وقد عر فوا في روايات السيرة بالبكائين ( ١ )٢. ولما كان الفصل في الأعراب فالاحتمال الأقوى أنهم أيضا من الأعراب. وإذا صح هذا كانت روعة المشهد أشد. وعلى كل حال فالمشهد مستمد إلهام بليغ دائم المدى.
كذلك فإن في الآيات الأخرى أحكاما وتلقينات قوية من شأنها أن تكون بدورها مستمد إلهام مستمر المدى : فالضعيف والمريض والفقير لا يؤاخذ إذا لم يشترك فعلا في النضال ؛ لأنه عاجز عن وسائله أو عاجز ببنيته. ولكن إسلامه والإخلاص له يحملانه مسؤولية بذل جهده في النصيحة وفعل كل ما يقدر عليه في سبيل نفع المناضلين. فإن لم يفعل يكن مقصرا في واجبه. والمتخلف المتقاعس عن الجهاد مع القدرة عليه هو اللئيم والملوم الذي لا يجوز أن يكون محل تساهل وإغضاء ورضاء، ويجب أن يكون موضع احتقار وزراية ونبذ. وظروف الشدة والنضال هي الظروف التي يمتاز فيها المخلص من المخامر. والمخامرة في هذه الظروف هي أشد أنواع المخامرات ضررا وخطرا. وتستحق من أجل ذلك أشد أنواع التنكيل والاحتقار والنبذ.
١ انظر كتب تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والطبرسي..................... الخ..
٢ هذه هي الأسماء التي رواها الطبري نسجلها نحن أيضا؛ لأن من حق أصحابها أن يذكروا بالتكريم على مدى الأجيال. سالم بن عمير وحرملة بن عمرو وعبد الرحمن بن كعب وسلمان بن صخر وعبد الرحمن بن يزيد وعمرو بن غنيمة وعبد الله بن عمرو المزني رضي الله عنهم..

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٩١:﴿ لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ٩١ ) وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ ( ٩٢ ) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاء رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ( ٩٣ ) يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ( ٩٤ ) سَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ( ٩٥ ) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ( ٩٦ ) ﴾ ( ٩١ – ٩٦ ).

في الآيات :

( ١ ) تنبيه استدراكي بأن الله تعالى لا يؤاخذ الضعفاء ولا المرضى ولا الذين لا يجدون ما ينفقون فيمنعهم عجزهم عن الاشتراك الفعلي في الجهاد ويقعدون عنه إذا ما كانوا مخلصين حسني النية مجتهدين في النصح لله ورسوله، ولا يؤاخذ كذلك الذين راجعوا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وطلبوا منه تدبير الوسائل التي تساعدهم على الاشتراك فلم يستطع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إجابتهم، فانصرفوا باكين حزنا على فقرهم وحرمانهم من ثواب الجهاد ؛ لأنه ليس على من أدى واجبه على أحسن ما يقدر عليه أو أراد من كل قلبه أن يؤديه فعجز سبيل ولا حرج ولا إثم وإنما هذا على الذين يستأذنون في القعود ويتخلفون وهم أغنياء قادرون مفضلين البقاء مع الخوالف مهما كان في ذلك من ضعة وهوان.
( ٢ ) ووصف لهؤلاء : فهم غلاظ القلوب كأنما طبع عليها فلم يدركوا ما في موقفهم من إثم وهوان.
( ٣ ) وحكاية لما سوف يكون من الأعراب المعتذرين والقاعدين حينما يعود النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون ؛ حيث يسارعون إلى الاعتذار واليمين بالله لتوكيد أعذارهم ويطلبون الإغضاء والإعراض عن تعنيفهم وتقريعهم والرضاء عنهم.
( ٤ ) وأوامر تقريرية لما يجب أن يقابلوا به : فعلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمخلصين أن يعلنوهم بأنهم لن يركنوا إليهم ولن يصدقوهم بعد الآن، وأن الله قد كشف لهم عن حقيقة أمرهم وكذب أحبارهم، وأنه هو ورسوله مراقبوهم وشاهدون عليهم، وأن الله سيحاسبهم حينما يقفون بين يديه ويردون إليه بما يستحقون وهو عالم الشهادة والغيب والعلن والسر. وعلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمخلصين أن يعرضوا عنهم إعراض تحقير ومقاطعة ونبذ فإنهم رجس ومأواهم النار. ولا يجوز لمؤمن أن يرضى عنهم. فإن فعلوا فإنما يفعلون خلاف ما يرضي الله ؛ لأن الله لا يمكن أن يرضى عن القوم الفاسقين.

تعليق على الآية :

﴿ لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ.......................... ﴾
والآيات الخمس التي بعدها وما فيها من صور وتلقين
روى المفسرون أن قسما من الآية ( ٩١ ) في حق ابن أم كلثوم الضرير. وقسما آخر نزل في حق فقير اسمه أبو معقل لم يجد ما يساعده على الاشتراك في غزوة تبوك. وأن الآية ( ٩٢ ) نزلت في جماعة التمسوا من النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يدبر لهم ما يحملهم حتى يشتركوا في الغزو. فقال لهم : لا أستطيع فحزنوا وبكوا حتى سموا البكائين لحرمانهم من الجهاد.
والآيتان منسجمتان مع السياق. وروحهما ونصهما ونص الآيات التي تأتي بعدهما يلهم بقوة أنهما جاءتا بمثابة تمهيد للتنديد بالقادرين بدنا ومالا على الاشتراك في الغزوة. ثم استأذنوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالقعود معتذرين بالأعذار الكاذبة. وهذا لا يمنع أن يكون ما انطوى فيهما من صور ومشاهد هي واقعية لبعض المخلصين من فقراء ومرضى ذوي عاهات، فالتبس الأمر على الرواة وحسبوا أنهما نزلتا في شأنهم خصيصا.
ومعظم الروايات التي يرويها المفسرون عن أهل التأويل ( ١ )١، تصرف ما جاء في الآيات :( ٩٣ – ٩٦ ) إلى المنافقين المتخلفين في المدينة الذين يروون أن عددهم كان بضعة وثمانين. وبعضها يصرفها إلى المتخلفين بأعذار كاذبة أو بغير أعذار من أهل المدينة والأعراب عامة. ويأتي بعد هذه الآيات آيات فيها عدوة إلى ذكر الأعراب ؛ حيث يلهم أن هذا الفصل جميعه من الآية :( ٩٠ ) إلى الآية ( ٩٩ ) في صدد المعتذرين والقاعدين من الأعراب خاصة وأن الآيات :( ٩٣ – ٩٦ ) هي بالتبعية في صددهم أيضا.
على أن الإطلاق في هذه الآيات يجعل اعتبارها شاملة لجميع المتخلفين بأعذار كاذبة أو بدون أعذار سائغا أيضا. وعلى كل حال فالآيات :( ٩١ – ٩٦ ) مع الآية السابقة لها ليست منفصلة عن السياق والكلام على المتخلفين والقاعدين.
وتعبير :﴿ إذا رجعتم إليهم ﴾ وتعبير :﴿ إذا انقلبتم إليهم ﴾ صريحا للدلالة على أن هذه الآيات نزلت أثناء سفرة تبوك. وهذه الصراحة منطوية في الآية ( ٨٣ ) من الآيات السابقة حيث تتلاحق الدلالة على أن السلسلة جميعها قد نزلت في أثناء السفرة دفعة واحدة أو متلاحقة.
والآية الثالثة احتوت مشهدا رائعا من مشاهد إخلاص الفئة المخلصة وشدة رغبتها في الجهاد في سبيل الله. وإذا لوحظ بعد شقة الغزوة وضعف الأمل في الغنيمة ورجحان الخطر وشدة الحر تضاعفت روعة المشهد. ولقد روى الطبري وغيره روايات عديدة في أصحاب هذا المشهد منها أنهم نفر من بني مقرن من مزينة. ومنها أنهم سبعة من قبائل شتى. ومنها أنهم خليط من أعراب وأنصار. وقد أورد المفسرون سبعة أسماء ورووا أنهم أسماؤهم. وقد عر فوا في روايات السيرة بالبكائين ( ١ )٢. ولما كان الفصل في الأعراب فالاحتمال الأقوى أنهم أيضا من الأعراب. وإذا صح هذا كانت روعة المشهد أشد. وعلى كل حال فالمشهد مستمد إلهام بليغ دائم المدى.
كذلك فإن في الآيات الأخرى أحكاما وتلقينات قوية من شأنها أن تكون بدورها مستمد إلهام مستمر المدى : فالضعيف والمريض والفقير لا يؤاخذ إذا لم يشترك فعلا في النضال ؛ لأنه عاجز عن وسائله أو عاجز ببنيته. ولكن إسلامه والإخلاص له يحملانه مسؤولية بذل جهده في النصيحة وفعل كل ما يقدر عليه في سبيل نفع المناضلين. فإن لم يفعل يكن مقصرا في واجبه. والمتخلف المتقاعس عن الجهاد مع القدرة عليه هو اللئيم والملوم الذي لا يجوز أن يكون محل تساهل وإغضاء ورضاء، ويجب أن يكون موضع احتقار وزراية ونبذ. وظروف الشدة والنضال هي الظروف التي يمتاز فيها المخلص من المخامر. والمخامرة في هذه الظروف هي أشد أنواع المخامرات ضررا وخطرا. وتستحق من أجل ذلك أشد أنواع التنكيل والاحتقار والنبذ.
١ انظر كتب تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والطبرسي..................... الخ..
٢ هذه هي الأسماء التي رواها الطبري نسجلها نحن أيضا؛ لأن من حق أصحابها أن يذكروا بالتكريم على مدى الأجيال. سالم بن عمير وحرملة بن عمرو وعبد الرحمن بن كعب وسلمان بن صخر وعبد الرحمن بن يزيد وعمرو بن غنيمة وعبد الله بن عمرو المزني رضي الله عنهم..

﴿ الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( ٩٧ ) ﴾ ( ٩٧ ).
تعليق على الآية :
﴿ الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا........................... ﴾
واستطراد إلى نقد ما كان من استعمال ابن خلدون
كلمة العرب محل كلمة الأعراب
عبارة الآية واضحة، وهي كما يبدو تعقيب على الآيات السابقة التي احتوت تنديدا بالأعراب المعذرين والقاعدين. وعلى سبيل الاستطراد لبيان طبيعة الأعراب أكثر منها لقصد التشديد والتغليظ على ما هو المتبادر. فكافرهم يكون أشد كفرا ومنافقهم أشد نفاقا. وهم أكثر بعدا عن تقدير وإدراك وفهم حدود ما أنزل الله.
وواضح أن هذا مظهر من مظاهر الاجتماع البشري وتفاوت درجاته. فالأعرابي أقسى طبعا وأجفى خلقا وأقل تقليدا بالواجبات وإدراكا للحدود من الحضري. وكلما تقدم الإنسان في سلم الحضارة لطف طبعه ودمث خلقه ولان قلبه واتسع علمه وتجربته وأفقه، وأقام صلاته بالناس على أسس الواجبات والحقوق المتبادلة.
ولقد استعمل ابن خلدون لفظ العرب خطأ في مقام الأعراب أو استعمله استعمالا عاميا كما كان شائع المفهوم في حياته وأدى هذا إلى فهم تقريراته عن البدو وطبائعهم وحياتهم وآثارهم فهما خاطئا، في حين أن ما ذكره عن نفور العرب من الحضارة وتدمير المعالم الحضرية إنما ينطبق على الأعراب لا على العرب. وهو ما يدخل في مفهومه جميع أعراب الدنيا لا أعراب العرب خاصة. ومن الغريب أن يكون هذا الفهم الخاطئ وأن يستمر إيراده في معرض وصف طبائع العرب وأخلاقهم مع ما في الأمر من بداهة ومع ما في كلام ابن خلدون من دلالات على أنه إنما قصد البدو والأعراب.
ولقد أورد ابن كثير في سياق هذه الآية حديثا رواه أبو داود والترمذي والنسائي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جاء فيه فيما جاء :( من سكن البادية جفا ) ( ١ )١. حيث ينطوي فيه المعنى المراد في الآية. والله أعلم.
١ أورد هذا الحديث عزوا إلى أبي داود والترمذي والنسائي المفسر ابن كثير في سياق تفسير الآية. وللحديث تتمة هي: (ومن اتبع الصيد غفل، ومن أتى السلطان افتتن)..
( ١ ) مغرما : خسارة لا عوض عنها.
( ٢ ) يتربص بكم الدوائر : يتوقع أن تدور عليكم الدوائر السيئة لينقلبوا عليكم.
﴿ وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا ( ١ ) وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ ( ٢ ) عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( ٩٨ ) وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ اللّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ٩٩ ) ﴾ ( ٩٨ – ٩٩ ).
في الآيتين تقسيم للأعراب الذين أعلنوا إسلامهم إلى فريقين : فريق كان لا يعتبر ما ينفق في سبيل الله أو يؤديه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم من صدقات واجبا دينيا له ثوابه عند الله، وإنما هو ضريبة أو خسارة لا عوض لها يتحملها خوفا ورياء، ثم يتربص أن تدور الدائرة على المسلمين فيتخلص منها أو ينقلب عليهم. وفريق مخلص في إيمانه بالله واليوم الآخر ويعتبر ما ينفق في سبيل الله أو يؤديه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم من صدقات وسيلة إلى التقرب إلى الله ونيل رضاء رسوله ودعائه.
وقد تضمنت الآيتان تعقيبا مناسبا على صفات وحالة كل من الفريقين. فالأول هو الذي تدور عليه دائرة السوء. وإن الله لسميع لما يقوله عليم بخبث نياته وإنه لمجزيه عليها بما يستحق. وللثاني البشرى. فاعتبارهم أن ما ينفقونه وسيلة قربى إلى الله ورسوله صادق وإنها لقربة لهم حقا. وإن الله سيشملهم برحمته وهو الغفور الرحيم.

تعليق على الآية :

﴿ وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا........................ ﴾ الخ
والآية التالية لها وما فيهما من صور وتلقين
ولم يرو المفسرون رواية خاصة في سبب نزول الآيتين. وإنما روى الطبري أن الآية الأولى عنت منافقي الأعراب والثانية عنت بني مقرن من مزينة الذين عنتهم الآية ( ٩٢ ). وقد روى البغوي أن الآية الأولى نزلت في أعراب أسد وغطفان وتميم، والثانية في بني مقرن من مزينة في رواية وفي قبائل أسلم وغفار وجهينة في رواية أخرى. وروى بطرقه حديثا عن أبي هريرة قال :( قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم أسلم وغفار وشيء من جهينة ومزينة خير عند الله يوم القيامة من تميم وأسد بن خزيمة وهوازن وغطفان ).
ومهما يكن من أمر فالمتبادر أن الآيتين استطرادا إلى ذكر حالات الأعراب الذين انضووا إلى الإسلام بمناسبة ذكر المعذرين والمتخلفين منهم من غزوة تبوك ووصف طبيعة الأعراب عامة. فهما والحالة هذه متصلتان بالسياق وجزء من السلسلة.
وفي الآية الثانية صراحة حاسمة بأنه كان من الأعراب من آمن وأخلص في إيمانه وتأييده للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والجهاد بماله ونفسه خلافا لما يحلو لبعض المستشرقين أن يقرروه ويعمموه على البدو بدون استثناء. ومن المتواتر أن عددا غير يسير من القبائل قد ثبت على إسلامه بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم واندمج في حروب الردة تأييدا للإسلام وخليفة الرسول ( ١ )١. ولا بد من أن يكون المذكورون في الآية الثانية منهم أو هم إياهم.
والآية الثانية إلى هذا تنطوي على مشهد تطوري لإسلام الأعراب. فمن المحتمل أن يكون إسلامهم أو إسلام معظمهم في بدء الأمر غير عميق، وتأثرا بالظروف وخوفا وطمعا. ولقد قررت آية سورة الحجرات هذه :﴿ قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا إن الله غفور رحيم ( ١٤ ) ﴾ ذلك عنهم وقررت قبول الله ذلك منهم إذا ما قاموا بالواجبات الدينية والمادية التي يفرضها الله ورسوله عليهم. ثم أخذ إسلامهم يقوى حتى صار إيمانا مخلصا في فريق منهم دون فريق. وهو ما احتوت الآيتان تقريره. وقد يصح القول استلهاما من روح الآيتين والآية ( ٩٧ ) أن الكثرة الغالبة من الأعراب كانت من الفريق الأول. والله تعالى أعلم.
﴿ وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا ( ١ ) وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ ( ٢ ) عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( ٩٨ ) وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ اللّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ٩٩ ) ﴾ ( ٩٨ – ٩٩ ).
في الآيتين تقسيم للأعراب الذين أعلنوا إسلامهم إلى فريقين : فريق كان لا يعتبر ما ينفق في سبيل الله أو يؤديه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم من صدقات واجبا دينيا له ثوابه عند الله، وإنما هو ضريبة أو خسارة لا عوض لها يتحملها خوفا ورياء، ثم يتربص أن تدور الدائرة على المسلمين فيتخلص منها أو ينقلب عليهم. وفريق مخلص في إيمانه بالله واليوم الآخر ويعتبر ما ينفق في سبيل الله أو يؤديه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم من صدقات وسيلة إلى التقرب إلى الله ونيل رضاء رسوله ودعائه.
وقد تضمنت الآيتان تعقيبا مناسبا على صفات وحالة كل من الفريقين. فالأول هو الذي تدور عليه دائرة السوء. وإن الله لسميع لما يقوله عليم بخبث نياته وإنه لمجزيه عليها بما يستحق. وللثاني البشرى. فاعتبارهم أن ما ينفقونه وسيلة قربى إلى الله ورسوله صادق وإنها لقربة لهم حقا. وإن الله سيشملهم برحمته وهو الغفور الرحيم.

تعليق على الآية :

﴿ وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا........................ ﴾ الخ
والآية التالية لها وما فيهما من صور وتلقين
ولم يرو المفسرون رواية خاصة في سبب نزول الآيتين. وإنما روى الطبري أن الآية الأولى عنت منافقي الأعراب والثانية عنت بني مقرن من مزينة الذين عنتهم الآية ( ٩٢ ). وقد روى البغوي أن الآية الأولى نزلت في أعراب أسد وغطفان وتميم، والثانية في بني مقرن من مزينة في رواية وفي قبائل أسلم وغفار وجهينة في رواية أخرى. وروى بطرقه حديثا عن أبي هريرة قال :( قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم أسلم وغفار وشيء من جهينة ومزينة خير عند الله يوم القيامة من تميم وأسد بن خزيمة وهوازن وغطفان ).
ومهما يكن من أمر فالمتبادر أن الآيتين استطرادا إلى ذكر حالات الأعراب الذين انضووا إلى الإسلام بمناسبة ذكر المعذرين والمتخلفين منهم من غزوة تبوك ووصف طبيعة الأعراب عامة. فهما والحالة هذه متصلتان بالسياق وجزء من السلسلة.
وفي الآية الثانية صراحة حاسمة بأنه كان من الأعراب من آمن وأخلص في إيمانه وتأييده للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والجهاد بماله ونفسه خلافا لما يحلو لبعض المستشرقين أن يقرروه ويعمموه على البدو بدون استثناء. ومن المتواتر أن عددا غير يسير من القبائل قد ثبت على إسلامه بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم واندمج في حروب الردة تأييدا للإسلام وخليفة الرسول ( ١ )١. ولا بد من أن يكون المذكورون في الآية الثانية منهم أو هم إياهم.
والآية الثانية إلى هذا تنطوي على مشهد تطوري لإسلام الأعراب. فمن المحتمل أن يكون إسلامهم أو إسلام معظمهم في بدء الأمر غير عميق، وتأثرا بالظروف وخوفا وطمعا. ولقد قررت آية سورة الحجرات هذه :﴿ قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا إن الله غفور رحيم ( ١٤ ) ﴾ ذلك عنهم وقررت قبول الله ذلك منهم إذا ما قاموا بالواجبات الدينية والمادية التي يفرضها الله ورسوله عليهم. ثم أخذ إسلامهم يقوى حتى صار إيمانا مخلصا في فريق منهم دون فريق. وهو ما احتوت الآيتان تقريره. وقد يصح القول استلهاما من روح الآيتين والآية ( ٩٧ ) أن الكثرة الغالبة من الأعراب كانت من الفريق الأول. والله تعالى أعلم.
﴿ وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( ١٠٠ ) ﴾ ( ١٠٠ ).
تعليق على الآية :
﴿ وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ....................... ﴾
وما فيها من صور وتلقين
عبارة الآية واضحة. ولم يرو المفسرون رواية ما في سبب نزولها. ويتبادر لنا من روحها وروح الآيات المتلاحقة التي بعدها ومضمونها معا أنها استمرار في ذكر صنوف المسلمين المخلصين بعد ذكر صنوف الأعراب في الآيتين السابقتين الاستطراديتين. وأنها والحالة هذه استمرار للسياق، وجزء من السلسلة.
وقد احتوت ثناء محببا وبشرى للطبقات الثلاث التي ذكرتها الآية. وأعظم برضاء الله عنهم ورضائهم عنه بشرى وثناء. وهي التي أخلصت في إيمانها وتفانت في واجبها وطاعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتأييده في كل المواقف والتي قام الإسلام عليها وانتصر بها بعد الله ورسوله. والتي أشير إليها بأساليب ومواضع عديدة في القرآن المكي والمدني معا. وإن كان ذكرها هنا جاء أوضح بيانا.
ولقد روى الطبري بعض الروايات في من عناه تعبير :﴿ وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ ﴾ منها أنهم المهاجرون والأنصار الذين بايعوا بيعة الرضوان تحت الشجرة يوم الحديبية. ومنها أنهم الذين صلوا للقبلتين مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. أما تعبير :﴿ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ ﴾ فهم على ما رواه الذين أسلموا لله إسلام السابقين وسلكوا مناهجهم في الهجرة والنصرة وأعمال الخير.
وعلى كل حال فالآية اعتبرت الرعيل المخلص الأول من المؤمنين فئتين. الأولى : السابقون الأولون من المهاجرين وهم الذين آمنوا في مكة وثبتوا وتحملوا الأذى وهاجروا من مكة مفضلين الله ورسوله على الأهل والوطن والمال والراحة.
والثانية : السابقون الأولون من الأنصار، وهو الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وعاهدوه على النصرة من أهل المدينة ورحبوا بهجرته مع أصحابه إليهم وأيدوه ونصروه فعلا في أوقات الشدة. وأضافت الآية إليهما فئة ثالثة، وهم الذين اتبعوا سبيل الفئتين بإحسان أي الذين أسلموا إسلام السابقين الأولين وسلكوا منهاجهم في الهجرة والنصرة وأعمال الخير كما عرفهم الطبري.
وروح الآية من جهة وروح آيات عديدة أخرى من جهة ثانية تلهم – وهذا مما نبهنا عليه في مناسبات سابقة أيضا – أن عدد هذه الفئات الثلاث كان غير يسير وأن موقفها كان خالصا لله ورسوله ومنبعثا عن إيمان وعقيدة راسختين لا يشوبهما قصد المنفعة والمسايرة خلافا لما يحلو لبعض المستشرقين أن يقرروه ويعمموه ويوسعوا نطاقه. والراجح أن هذه الطبقة وبخاصة الفئتين الأوليين منهما هما المقصودتان في الأحاديث النبوية في فضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإيجاب احترامهم التي روينا طائفة منها في مناسبات سابقة ؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حينما كان يخاطب السامعين بقوله :( لا تسبوا أحدا من أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه ) أو :( الله الله في أصحابي، لا تتخذهم غرضا من بعدي فمن أحبهم فبحبي أحبهم ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله ومن آذى الله فيوشوك أن يأخذه ) و :( أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم ). لا يعقل أن يكون قصد جميع الناس الذين رأوه وبايعوه على الإسلام ؛ لأنه لا يكون حينئذ محلا لتوجيه هذا النهي والتنبيه.
وهذه الدلالة منطوية في آية في هذه السورة تأتي بعد قليل أمرت المؤمنين بأن يكونوا مع الصادقين حيث يفيد أن الأمر لعموم المسلمين ليكونوا مع الصفوة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ومما لا شك فيه أن هذه الطبقة أهل لكل تعظيم وتوقير واقتداء واتباع. فهذا الثناء الرباني والنبوي عليهم لا بد من أنه بسبب إيمانهم العميق وإخلاصهم الشديد وتفانيهم في خدمة دين الله ورسوله وتعاونهم على البر والتقوى وورعهم.
وفي السور المكية والمدنية صور كثيرة من ذلك نبهنا عليها في مناسباتها وفي روايات السيرة صور كثيرة أيضا فيها الروائع التي تملأ النفس إجلالا وإعظاما.
والآية من أواخر ما نزل من القرآن ؛ ولهذا دلالة هامة من حيث اقتضاء حكمة الله تسجيل رضائه عن هذه الفئة في أواخر ما اقتضت حكمته إيحاءه.. ومن هنا يظهر ما في الانتقاص من قدر هذه الفئة أو معظمها وبغضها وسمها وتكفيرها وهو ما دأب وما يزال يدأب عليه طوائف الشيعة، بزعم أنهم خالفوا أوامر الله ونبيه صلى الله عليه وآله وسلم ووصاياهما وهو زعم كاذب كل الكذب من جرأة على الله ورسوله وأصحابه بل ومن كفر صريح.
وجملة :﴿ وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ ﴾ صريحة بأنها عنت الذين سبقوا غيرهم إلى الإيمان من أهل مكة والمدينة. وفي كتب التفسير تعريفات عنهم مروية عن أهل التأويل. منها أنهم أوائل الذين آمنوا من المهاجرين وأوائل الذين آمنوا من الأنصار. ومنها أنهم جميع الذين هاجروا إلى المدينة وصلوا إلى القبلتين. وجميع الذين آمنوا في المدينة وصلوا إلى القبلتين. ومنها أنهم الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيعة الرضوان تحت الشجرة يوم الحديبية. ولعل الأوجه أنهم الذين آمنوا قبل الهجرة ثم قبل الفتح المكي من غير أهل المدينة وأنهم الذين آمنوا قبل هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة وفي ظروفها الأولى من أهل المدينة. وفي سورة الحديد آية يمكن أن تكون ضابطا ما وهي :﴿ لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى ﴾. وهناك حديث نبوي رواه الخمسة يمكن أن يكون فيه ضابط ما أيضا وهو :( لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية. وإذا استنفرتم فانفروا ) ( ١ )١. والله تعالى أعلم.
ولقد ذكر الخازن في جملة ما ذكره أن تعبير :﴿ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ ﴾ يشمل جميع المسلمين في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم سوى السابقين الأولين. وذكر الطبرسي أن هذا التعبير يشمل كل مسلم سار على طريقة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى يوم القيامة.
ونقول في صدد القول الأول : إن في الآيات التالية لهذه الآيات ما لا يتسق معه ؛ لأن فيها تقريرا بأن من المسلمين الذين كانوا على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم من خلط عملا صالحا وآخر سيئا والمرجى لأمر الله فضلا عن المنافقين غير المعروفين. أما القول الثاني فإن الآية وإن كان من الممكن أن تلهم أن التعبير هو في صدد أناس موجودين فعلا حين نزولها. وهذا ما يلهمه كذلك تعبير :﴿ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ﴾ الذي يشملهم فإن فيه وجاهة حيث يمكن أن ينطوي في الآية تلقين مستمر المدى يوجب على المسلمين في كل ظرف ومكان أن يجعلوا السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار قدوة وإماما بعد الله ورسوله. ويجعل الذين يلتزمون ذلك محل رضاء الله سبحانه وتعالى. ويلفت النظر في هذا المقام إلى تعبير :﴿ بإحسان ﴾ فكأنما جاء ليكون شرطا للحوق الآخرين بالأولين أو لدخولهم في ساحة رضاء الله وبشراه.
١ التاج ج ٣ ص ٣٠٤..
﴿ وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ ( ١ ) عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ ( ١٠١ ) ﴾ ( ١٠١ ).
( ١ ) مردوا : مارسوا النفاق حتى مرنوا وبرعوا فيه أو صار لهم جرأة عليه وعتو فيه.
تعليق على الآية :
﴿ وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ ﴾
وما فيها من صور وتلقين
في الآية تنبيه وإنذار وتقرير لواقع حال : فإنه يوجد إلى جانب من كان يعرف النبي صلى الله عليه وآله وسلم نفاقهم أناس آخرون من أهل المدينة ومن الأعراب الذين هم حولها منافقون لا يعلمهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ؛ لأنهم مرنوا على النفاق وأتقنوا دورهم فيه حتى استطاعوا أن يخفوا حقيقتهم. وإن الله تعالى يعلمهم. ولسوف يعذبهم الله مرتين قبل يوم القيامة ثم يردون إلى عذاب عظيم في ذلك اليوم جزاء خبثهم ومكرهم.
ولم يرو المفسرون رواية خاصة في سبب نزول الآية. والمتبادر من أسلوبها وعطفها على ما سبقها أنها استمرار في الاستطراد وجزء من السياق السابق فيها ذكر صنف من صنوف المجتمع الإسلامي في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وقد احتوت صورة طريفة لفريق من المنافقين استطاعوا أن يخفوا نفاقهم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين. ومن الممكن أن يستلهم من أسلوب الآية قصد الإيقاظ والتحذير من جهة وقصد التهديد بالفضيحة من جهة أخرى بالإضافة إلى بيان واقع أصحاب هذه الصورة وتقرير استحقاقهم لعذاب مضاعف.
والآية تحتوي صورة من صور النفاق والمخامرة تكون في مختلف الظروف وبخاصة في ظروف النضال واستعلاء أهله. وتحتوي بالتالي إيقاظا وتلقينا مستمر المدى نحو أصحاب هذه الصورة وخطرهم وضررهم اللذين يفوقان خطر وضرر المعروفين من المنافقين.
ولقد روى ابن كثير في سياق هذه الآية عن قتادة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أسر إلى حذيفة باثني عشر رجلا من المنافقين المجهولين للناس فقال ستة منهم تكفيهم الدبيلة : سراج من نار يأخذ في كتف أحدهم حتى يفضي إلى صدره. وستة يموتون موتا. وأن عمر بن الخطاب كان إذا مات رجل ممن يظن أنه منافق نظر إلى حذيفة فإن صلى عليه صلى عليه وإلا تركه. وأن عمر نفسه ناشد حذيفة ( هل هو نفسه منهم فقال له : لا ). والحديث مرفوع ولم يرد في كتب حديث معتبرة. ونص الآية صريح بأن من ذكر في الآية لا يعلمهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهذا ما يوجب التوقف فيه. ويوجب التوقف فيه مناشدة عمر لحذيفة عما إذا كان هو نفسه منهم فإنه من المتواتر تواتر اليقين أن عمر كان من أخلص الرجال المؤمنين وكان له عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكانة عظمى، وأثرت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحاديث كثيرة صحيحة في التنويه به. منها حديث رواه الترمذي عن عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( لو كان بعدي نبي لكان عمر بن الخطاب ) ( ١ )١. وحديث رواه الترمذي جاء فيه :( أن أبا بكر قال لعمر : لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : ما طلعت الشمس على رجل خير من عمر ) ( ٢ )٢. وحديث رواه الترمذي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه ) ( ٣ )٣. وحديث رواه الترمذي عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( ما من نبي إلا وله وزيران من أهل السماء ووزيران من أهل الأرض ووزيراي من أهل الأرض أبو بكر وعمر ) ( ٤ )٤. وليس من ريب عندنا أن عمر كان متيقنا من عمق إيمانه ومنزلته من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلا يمكن أن يطرأ شك ما على قلبه من نفسه. ونخشى أن يكون للشيعة أثر في هذا الخبر لفش غلهم ولبغضهم له.
ولقد تعددت الروايات التي أوردها الطبري وغيره عن أهل التأويل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتابعيهم في تأويل جملة :﴿ سنعذبهم مرتين ﴾ منها أنهما عذاب الحسرة والغيظ لانتصار الإسلام والمسلمين أولا. ثم عذاب القبر ثانيا. قبل عذاب يوم القيامة العظيم. ومنها أنهما عذاب الفضيحة أولا ثم عذاب القبر ثانيا. ورووا عن ابن عباس في سياق الآية أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خطب يوم الجمعة فقال : اخرج يا فلان فإنك منافق اخرج يا فلان فإنك منافق. فأخرج من المسجد أناسا منهم فضحهم فهذا هو العذاب الأول. ومهما يكن من أمر فالتعبير استهدف تقرير استحقاقهم العذاب مضاعفا، ليتناسب مع شدة خطرهم وبشاعة دورهم ويكون قوي الردع والزجر في الوقت نفسه.
ولقد أورد ابن كثير في سياق تفسير هذه الآية حديثا من تخريج ابن عساكر عن أبي الدرداء أن رجلا يقال له : حرملة أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال :( الإيمان ها هنا وأشار إلى لسانه ) و ( النفاق ها هنا وأشار إلى قلبه ) ولم يذكر الله إلا قليلا. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : اللهم اجعل له لسانا ذاكرا وقلبا شاكرا وارزقه حبي وحب من يحبني وصير أمره إلى خير ) فقال : يا رسول الله إنه كان لي أصحاب من المنافقين وكنت رأسا فيهم. أفلا آتيك بهم قال :( من أتانا استغفرنا له. ومن أصر فالله أولى به ولا تخرقن على أحد سترا ). ومن المحتمل أن يكون هذا الرجل قد جاء نادما مستغفرا لنفسه ولرفاقه على أثر نزول الآية. وإذا صح الحديث ففيه تدعيم لما ذكرناه في سياق الآية ( ٨٠ ) من أن استغفار النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان لمن يرى أن توبته صادقة. ونفي الغفران الرباني هو لمن علم الله إصراره على النفاق والطوية الخبيثة. وفي الحديث تلقين جليل بإيكال من لم ينكشف نفاقه إلى الله وعدم خرق الأستار عن الناس إذا لم يكن خطرهم وضررهم مؤكدين. والله أعلم.
١ التاج ج ٣ ص ٢٧٩..
٢ المصدر نفسه ص ٢٨٠ – ٢٨٢..
٣ المصدر نفسه..
٤ المصدر نفسه..
﴿ وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ١٠٢ ) خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( ١٠٣ ) أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ( ١٠٤ ) وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ( ١٠٥ ) ﴾ ( ١٠٢ – ١٠٥ ).
في الآيات :
( ١ ) إشارة إلى فريق آخر أذنبوا واعترفوا بذنوبهم، وكان لهم أعمال صالحة إلى جانب هذه الذنوب.
( ٢ ) وبشارة وتعليم بما يجب بالنسبة إليهم : فمن الممكن أن يتوب الله عليهم إذا تابوا وهو الغفور الرحيم. وعلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يأخذ من أموالهم صدقة لتكون كفارة عما اقترفوه من ذنوب وتطهيرا لهم. وأن يدعو لهم ففي دعائه لهم تسكين لهم وتطمين لقلوبهم. والله سميع لكل ما يقال عليم بالنيات والمقتضيات. وعليهم هم أن يطمئنوا ويعلموا أن الله يقبل التوبة من عباده ويتقبل صدقاتهم إذا ما كانت عن إخلاص وصدق نية وعلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يشجعهم على العمل الصالح ليثبتوا به إخلاصهم وصدق نيتهم وتوبتهم ويقول لهم : اعملوا فسيرى الله ورسوله والمؤمنون أعمالكم وستردون إلى عالم الغيب والشهادة والسر والعلن فينبئكم بما عملتم ويجزيكم عليه بما تستحقون.
تعليق على الآية :
﴿ وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا............ ﴾
والآيات الثلاث التي بعدها وما فيها من صور وتلقين
روى الطبري وغيره روايات عديدة في نزول الآيات وفي من عنته. منها أنها بشأن أبي لبابة من الأوس وحليف بني قريظة الذي أشار لهم حينما استشاروه بعد حصار النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم وطلبه النزول على حكمه بإشارة تفيد أن مصيرهم الذبح. ثم شعر أنه خان الله ورسوله فربط نفسه بعمود مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال : لا أبرح حتى يتوب الله علي فقبل الله توبته وأطلقه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بيده. ومنها أنها في صدد الجماعة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك بدون عذر وجيه وكانوا مخلصين في إيمانهم ؛ حيث عمدوا حين قفل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الغزوة إلى سواري مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فربطوا أنفسهم بها ندما وتوبة وقالوا : لن نبرح حتى يقبل الله توبتنا ويطلقنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ولم ير النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يطلقهم حين عودته وقال : لا أعذرهم حتى يعذرهم الله فظلوا حتى نزلت الآية :﴿ وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ..................... ﴾ فآذنهم بقبول توبتهم وأنهم جاءوه بعد ذلك فقالوا : خذ من أموالنا ما تشاء وتصدق به وصل علينا فقال : لا أفعل حتى أؤمر فنزلت الآية :﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً........ ﴾ الخ. ومنها أن هذا كان قاصرا على أبي لبابة. وأنه لما أطلقه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جاء إلى رسول الله فقال له : إن من توبتي أنخلع من مالي كله صدقة. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( يجزيك الثلث ). ومن الروايات أنها نزلت بشأن جماعة من منافقي الأعراب والمدينة تابوا عن نفاقهم. وليس شيء من الروايات واردا في كتب أحاديث معتبرة. ويلحظ في صدد رواية إشارة أبي لبابة لليهود أنها بعيدة المناسبة من جهة وقد أوردت في سياق آيات سورة الأحزاب ( ٢٦ – ٢٧ ) من جهة أخرى على ما شرحناه سابقا. ونستبعد أن تكون في صور المتخلفين عن غزوة تبوك من المخلصين ؛ لأن الآية جزء من السياق الذي رجحنا أنه نزل أثناء غزوة تبوك. وقد ذكر أمر هؤلاء في آية أخرى تجيء بعد قليل. وبعد العودة من تبوك. ونستبعد أن تكون في حق منافقين ؛ لأن نص الآية قد يلهم أنها بحق مؤمنين غير منافقين.
والذي يتبادر لنا من عطف الآيات على ما سبقها ومن عطف ما لحقها عليها في سياق منسجم أو أنها استمرار في السياق الاستطرادي السابق، وأنها احتوت صورة أخرى من صور الناس في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وفي الآيات تلقين مستمر المدى ومعالجة روحية رائعة. فالصورة أيضا من الصور التي تظهر في مختلف الظروف فإذا ما استشعر بعض المذنبين والمقصرين بخطئهم عن حسن نية ورغبوا في إصلاح أنفسهم فيكونون ممن يرجى إخلاصهم وصلاحهم. ومثل هؤلاء يجب أن يشجعوا وتطمئن قلوبهم ويفسح لهم بين صفوف الصالحين. ويحسن بهم أن يقدموا بين يديهم صدقات تنفق في سبيل الله ووجوه البر تكفيرا عن ما أسلفوه من الذنوب ووسيلة قربى إلى الله تعالى.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٠٢:﴿ وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ١٠٢ ) خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( ١٠٣ ) أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ( ١٠٤ ) وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ( ١٠٥ ) ﴾ ( ١٠٢ – ١٠٥ ).

في الآيات :

( ١ ) إشارة إلى فريق آخر أذنبوا واعترفوا بذنوبهم، وكان لهم أعمال صالحة إلى جانب هذه الذنوب.
( ٢ ) وبشارة وتعليم بما يجب بالنسبة إليهم : فمن الممكن أن يتوب الله عليهم إذا تابوا وهو الغفور الرحيم. وعلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يأخذ من أموالهم صدقة لتكون كفارة عما اقترفوه من ذنوب وتطهيرا لهم. وأن يدعو لهم ففي دعائه لهم تسكين لهم وتطمين لقلوبهم. والله سميع لكل ما يقال عليم بالنيات والمقتضيات. وعليهم هم أن يطمئنوا ويعلموا أن الله يقبل التوبة من عباده ويتقبل صدقاتهم إذا ما كانت عن إخلاص وصدق نية وعلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يشجعهم على العمل الصالح ليثبتوا به إخلاصهم وصدق نيتهم وتوبتهم ويقول لهم : اعملوا فسيرى الله ورسوله والمؤمنون أعمالكم وستردون إلى عالم الغيب والشهادة والسر والعلن فينبئكم بما عملتم ويجزيكم عليه بما تستحقون.

تعليق على الآية :

﴿ وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا............ ﴾
والآيات الثلاث التي بعدها وما فيها من صور وتلقين
روى الطبري وغيره روايات عديدة في نزول الآيات وفي من عنته. منها أنها بشأن أبي لبابة من الأوس وحليف بني قريظة الذي أشار لهم حينما استشاروه بعد حصار النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم وطلبه النزول على حكمه بإشارة تفيد أن مصيرهم الذبح. ثم شعر أنه خان الله ورسوله فربط نفسه بعمود مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال : لا أبرح حتى يتوب الله علي فقبل الله توبته وأطلقه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بيده. ومنها أنها في صدد الجماعة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك بدون عذر وجيه وكانوا مخلصين في إيمانهم ؛ حيث عمدوا حين قفل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الغزوة إلى سواري مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فربطوا أنفسهم بها ندما وتوبة وقالوا : لن نبرح حتى يقبل الله توبتنا ويطلقنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ولم ير النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يطلقهم حين عودته وقال : لا أعذرهم حتى يعذرهم الله فظلوا حتى نزلت الآية :﴿ وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ..................... ﴾ فآذنهم بقبول توبتهم وأنهم جاءوه بعد ذلك فقالوا : خذ من أموالنا ما تشاء وتصدق به وصل علينا فقال : لا أفعل حتى أؤمر فنزلت الآية :﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً........ ﴾ الخ. ومنها أن هذا كان قاصرا على أبي لبابة. وأنه لما أطلقه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جاء إلى رسول الله فقال له : إن من توبتي أنخلع من مالي كله صدقة. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( يجزيك الثلث ). ومن الروايات أنها نزلت بشأن جماعة من منافقي الأعراب والمدينة تابوا عن نفاقهم. وليس شيء من الروايات واردا في كتب أحاديث معتبرة. ويلحظ في صدد رواية إشارة أبي لبابة لليهود أنها بعيدة المناسبة من جهة وقد أوردت في سياق آيات سورة الأحزاب ( ٢٦ – ٢٧ ) من جهة أخرى على ما شرحناه سابقا. ونستبعد أن تكون في صور المتخلفين عن غزوة تبوك من المخلصين ؛ لأن الآية جزء من السياق الذي رجحنا أنه نزل أثناء غزوة تبوك. وقد ذكر أمر هؤلاء في آية أخرى تجيء بعد قليل. وبعد العودة من تبوك. ونستبعد أن تكون في حق منافقين ؛ لأن نص الآية قد يلهم أنها بحق مؤمنين غير منافقين.
والذي يتبادر لنا من عطف الآيات على ما سبقها ومن عطف ما لحقها عليها في سياق منسجم أو أنها استمرار في السياق الاستطرادي السابق، وأنها احتوت صورة أخرى من صور الناس في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وفي الآيات تلقين مستمر المدى ومعالجة روحية رائعة. فالصورة أيضا من الصور التي تظهر في مختلف الظروف فإذا ما استشعر بعض المذنبين والمقصرين بخطئهم عن حسن نية ورغبوا في إصلاح أنفسهم فيكونون ممن يرجى إخلاصهم وصلاحهم. ومثل هؤلاء يجب أن يشجعوا وتطمئن قلوبهم ويفسح لهم بين صفوف الصالحين. ويحسن بهم أن يقدموا بين يديهم صدقات تنفق في سبيل الله ووجوه البر تكفيرا عن ما أسلفوه من الذنوب ووسيلة قربى إلى الله تعالى.

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٠٢:﴿ وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ١٠٢ ) خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( ١٠٣ ) أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ( ١٠٤ ) وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ( ١٠٥ ) ﴾ ( ١٠٢ – ١٠٥ ).

في الآيات :

( ١ ) إشارة إلى فريق آخر أذنبوا واعترفوا بذنوبهم، وكان لهم أعمال صالحة إلى جانب هذه الذنوب.
( ٢ ) وبشارة وتعليم بما يجب بالنسبة إليهم : فمن الممكن أن يتوب الله عليهم إذا تابوا وهو الغفور الرحيم. وعلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يأخذ من أموالهم صدقة لتكون كفارة عما اقترفوه من ذنوب وتطهيرا لهم. وأن يدعو لهم ففي دعائه لهم تسكين لهم وتطمين لقلوبهم. والله سميع لكل ما يقال عليم بالنيات والمقتضيات. وعليهم هم أن يطمئنوا ويعلموا أن الله يقبل التوبة من عباده ويتقبل صدقاتهم إذا ما كانت عن إخلاص وصدق نية وعلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يشجعهم على العمل الصالح ليثبتوا به إخلاصهم وصدق نيتهم وتوبتهم ويقول لهم : اعملوا فسيرى الله ورسوله والمؤمنون أعمالكم وستردون إلى عالم الغيب والشهادة والسر والعلن فينبئكم بما عملتم ويجزيكم عليه بما تستحقون.

تعليق على الآية :

﴿ وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا............ ﴾
والآيات الثلاث التي بعدها وما فيها من صور وتلقين
روى الطبري وغيره روايات عديدة في نزول الآيات وفي من عنته. منها أنها بشأن أبي لبابة من الأوس وحليف بني قريظة الذي أشار لهم حينما استشاروه بعد حصار النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم وطلبه النزول على حكمه بإشارة تفيد أن مصيرهم الذبح. ثم شعر أنه خان الله ورسوله فربط نفسه بعمود مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال : لا أبرح حتى يتوب الله علي فقبل الله توبته وأطلقه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بيده. ومنها أنها في صدد الجماعة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك بدون عذر وجيه وكانوا مخلصين في إيمانهم ؛ حيث عمدوا حين قفل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الغزوة إلى سواري مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فربطوا أنفسهم بها ندما وتوبة وقالوا : لن نبرح حتى يقبل الله توبتنا ويطلقنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ولم ير النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يطلقهم حين عودته وقال : لا أعذرهم حتى يعذرهم الله فظلوا حتى نزلت الآية :﴿ وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ..................... ﴾ فآذنهم بقبول توبتهم وأنهم جاءوه بعد ذلك فقالوا : خذ من أموالنا ما تشاء وتصدق به وصل علينا فقال : لا أفعل حتى أؤمر فنزلت الآية :﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً........ ﴾ الخ. ومنها أن هذا كان قاصرا على أبي لبابة. وأنه لما أطلقه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جاء إلى رسول الله فقال له : إن من توبتي أنخلع من مالي كله صدقة. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( يجزيك الثلث ). ومن الروايات أنها نزلت بشأن جماعة من منافقي الأعراب والمدينة تابوا عن نفاقهم. وليس شيء من الروايات واردا في كتب أحاديث معتبرة. ويلحظ في صدد رواية إشارة أبي لبابة لليهود أنها بعيدة المناسبة من جهة وقد أوردت في سياق آيات سورة الأحزاب ( ٢٦ – ٢٧ ) من جهة أخرى على ما شرحناه سابقا. ونستبعد أن تكون في صور المتخلفين عن غزوة تبوك من المخلصين ؛ لأن الآية جزء من السياق الذي رجحنا أنه نزل أثناء غزوة تبوك. وقد ذكر أمر هؤلاء في آية أخرى تجيء بعد قليل. وبعد العودة من تبوك. ونستبعد أن تكون في حق منافقين ؛ لأن نص الآية قد يلهم أنها بحق مؤمنين غير منافقين.
والذي يتبادر لنا من عطف الآيات على ما سبقها ومن عطف ما لحقها عليها في سياق منسجم أو أنها استمرار في السياق الاستطرادي السابق، وأنها احتوت صورة أخرى من صور الناس في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وفي الآيات تلقين مستمر المدى ومعالجة روحية رائعة. فالصورة أيضا من الصور التي تظهر في مختلف الظروف فإذا ما استشعر بعض المذنبين والمقصرين بخطئهم عن حسن نية ورغبوا في إصلاح أنفسهم فيكونون ممن يرجى إخلاصهم وصلاحهم. ومثل هؤلاء يجب أن يشجعوا وتطمئن قلوبهم ويفسح لهم بين صفوف الصالحين. ويحسن بهم أن يقدموا بين يديهم صدقات تنفق في سبيل الله ووجوه البر تكفيرا عن ما أسلفوه من الذنوب ووسيلة قربى إلى الله تعالى.

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٠٢:﴿ وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ١٠٢ ) خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( ١٠٣ ) أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ( ١٠٤ ) وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ( ١٠٥ ) ﴾ ( ١٠٢ – ١٠٥ ).

في الآيات :

( ١ ) إشارة إلى فريق آخر أذنبوا واعترفوا بذنوبهم، وكان لهم أعمال صالحة إلى جانب هذه الذنوب.
( ٢ ) وبشارة وتعليم بما يجب بالنسبة إليهم : فمن الممكن أن يتوب الله عليهم إذا تابوا وهو الغفور الرحيم. وعلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يأخذ من أموالهم صدقة لتكون كفارة عما اقترفوه من ذنوب وتطهيرا لهم. وأن يدعو لهم ففي دعائه لهم تسكين لهم وتطمين لقلوبهم. والله سميع لكل ما يقال عليم بالنيات والمقتضيات. وعليهم هم أن يطمئنوا ويعلموا أن الله يقبل التوبة من عباده ويتقبل صدقاتهم إذا ما كانت عن إخلاص وصدق نية وعلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يشجعهم على العمل الصالح ليثبتوا به إخلاصهم وصدق نيتهم وتوبتهم ويقول لهم : اعملوا فسيرى الله ورسوله والمؤمنون أعمالكم وستردون إلى عالم الغيب والشهادة والسر والعلن فينبئكم بما عملتم ويجزيكم عليه بما تستحقون.

تعليق على الآية :

﴿ وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا............ ﴾
والآيات الثلاث التي بعدها وما فيها من صور وتلقين
روى الطبري وغيره روايات عديدة في نزول الآيات وفي من عنته. منها أنها بشأن أبي لبابة من الأوس وحليف بني قريظة الذي أشار لهم حينما استشاروه بعد حصار النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم وطلبه النزول على حكمه بإشارة تفيد أن مصيرهم الذبح. ثم شعر أنه خان الله ورسوله فربط نفسه بعمود مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال : لا أبرح حتى يتوب الله علي فقبل الله توبته وأطلقه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بيده. ومنها أنها في صدد الجماعة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك بدون عذر وجيه وكانوا مخلصين في إيمانهم ؛ حيث عمدوا حين قفل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الغزوة إلى سواري مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فربطوا أنفسهم بها ندما وتوبة وقالوا : لن نبرح حتى يقبل الله توبتنا ويطلقنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ولم ير النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يطلقهم حين عودته وقال : لا أعذرهم حتى يعذرهم الله فظلوا حتى نزلت الآية :﴿ وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ..................... ﴾ فآذنهم بقبول توبتهم وأنهم جاءوه بعد ذلك فقالوا : خذ من أموالنا ما تشاء وتصدق به وصل علينا فقال : لا أفعل حتى أؤمر فنزلت الآية :﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً........ ﴾ الخ. ومنها أن هذا كان قاصرا على أبي لبابة. وأنه لما أطلقه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جاء إلى رسول الله فقال له : إن من توبتي أنخلع من مالي كله صدقة. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( يجزيك الثلث ). ومن الروايات أنها نزلت بشأن جماعة من منافقي الأعراب والمدينة تابوا عن نفاقهم. وليس شيء من الروايات واردا في كتب أحاديث معتبرة. ويلحظ في صدد رواية إشارة أبي لبابة لليهود أنها بعيدة المناسبة من جهة وقد أوردت في سياق آيات سورة الأحزاب ( ٢٦ – ٢٧ ) من جهة أخرى على ما شرحناه سابقا. ونستبعد أن تكون في صور المتخلفين عن غزوة تبوك من المخلصين ؛ لأن الآية جزء من السياق الذي رجحنا أنه نزل أثناء غزوة تبوك. وقد ذكر أمر هؤلاء في آية أخرى تجيء بعد قليل. وبعد العودة من تبوك. ونستبعد أن تكون في حق منافقين ؛ لأن نص الآية قد يلهم أنها بحق مؤمنين غير منافقين.
والذي يتبادر لنا من عطف الآيات على ما سبقها ومن عطف ما لحقها عليها في سياق منسجم أو أنها استمرار في السياق الاستطرادي السابق، وأنها احتوت صورة أخرى من صور الناس في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وفي الآيات تلقين مستمر المدى ومعالجة روحية رائعة. فالصورة أيضا من الصور التي تظهر في مختلف الظروف فإذا ما استشعر بعض المذنبين والمقصرين بخطئهم عن حسن نية ورغبوا في إصلاح أنفسهم فيكونون ممن يرجى إخلاصهم وصلاحهم. ومثل هؤلاء يجب أن يشجعوا وتطمئن قلوبهم ويفسح لهم بين صفوف الصالحين. ويحسن بهم أن يقدموا بين يديهم صدقات تنفق في سبيل الله ووجوه البر تكفيرا عن ما أسلفوه من الذنوب ووسيلة قربى إلى الله تعالى.

﴿ وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ ( ١ ) لِأَمْرِ اللّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( ١٠٦ ) ﴾ ( ١٠٦ ).
( ١ ) مرجون : مرجئون. أي مؤخرون وموكولون.
وفي هذه الآية إشارة إلى فريق آخر من المسلمين موكولين لتقدير الله وأمره. فهو العليم بكل شيء والحكيم في كل ما يقدر ويأمر فيعاملهم بمقتضى علمه وحكمته، فإما أن يراهم مستحقين للعذاب فيعذبهم، أو مستحقين للرحمة والمغفرة فيرحمهم ويتوب عليهم.
تعليق على الآية :
﴿ وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللّهِ..................... ﴾
وما فيها من صور وتلقين
روى المفسرون أن الآية نزلت في حق فريق من المسلمين المخلصين تخلفوا عن غزوة تبوك ولم يسارعوا إلى الاعتذار والتوبة. فأرجأ الله أمرهم ثم شملهم بتوبته وعفوه في الآية ( ١١٧ ) التي تأتي بعدها بعد قليل. وأوردوا ثلاثة أسماء قالوا إن الآية التي نحن في صددها فيهم. وهم هلال بن أمية ومرارة بن الربيع وكعب بن مالك.
والآية ( ١١٧ ) هي في شأن الذين اشتركوا في الغزوة. وهناك أحاديث صحيحة تذكر أن كعب بن مالك ورفيقه هم الذين نزلت في توبتهم آية أخرى هي الآية ( ١١٨ ) بحيث لا يبقى محل للقول إن الآية التي نحن في صددها نزلت فيهم ؛ ولذلك فنحن نتوقف في بعض الروايات التي لم ترد في كتب حديث صحيحة أيضا، والذي يتبادر لنا من روح الآية وعطفها على ما سبقها أنها هي الأخرى استمرار للسياق الاستطرادي لتشير كما قلنا إلى صنف آخر من صنوف المسلمين لم يكن أمرهم جليا من حيث النفاق أو الإخلاص. وهذه صورة مألوفة كذلك في المجتمعات البشرية. ولعل الآية قد تضمنت تلقينا بعدم التسرع في حق أصحاب هذه الصورة ما داموا لا يهاجرون بذنب ولا يقفون موقفا منكرا وضارا ولو لم يكن أمرهم جليا كل الجلاء. وفي هذا ما فيه من الصواب والحكمة ثم التلقين المستمر المدى إزاء أصحاب هذه الصورة المألوفة في كل ظرف.
( ١ ) ضرارا : بقصد الضرر والمضارة.
( ٢ ) إرصادا : مكان انتظار وترصد أو ارتقابا.
﴿ وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا ( ١ ) وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا( ٢ ) لِّمَنْ حَارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ( ١٠٧ ) لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ( ١٠٨ ) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا ( ٣ ) جُرُفٍ ( ٤ ) هَارٍ ( ٥ ) فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ( ١٠٩ ) لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ ( ٦ ) قُلُوبُهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( ١١٠ ) ﴾ ( ١٠٧ – ١١٠ ).

في هذه الآيات :

( ١ ) إشارة إلى فريق أنشأوا لهم مسجدا خاصا.
( ٢ ) وتقرير للدافع الحقيقي لذلك. فهو لم يكن عن إخلاص وحسن نية. وإنما كان بقصد المضارة والتعطيل والتفريق بين المؤمنين. ومظهرا من مظاهر الكفر والنفاق. ومرصدا وارتقابا لأناس حاربوا الله ورسوله من قبل إنشائه بالرغم من توكيد المنشئين له بالأيمان بأنهم إنما أرادوا الخير وأنهم حسنوا النية، فإن الله يشهد أنهم كاذبون.
( ٣ ) وأمر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بعدم الصلاة والقيام فيه. وتنبيه بأن المسجد الذي أسس على التقوى والإخلاص من أول يوم تأسيسه هو الأحق بذلك ؛ لأن أصحابه مخلصون. يحبون التطهر والله يحب المتطهرين.
( ٤ ) وسؤال إنكاري ينطوي على التنديد بالمسجد الجديد وأصحابه. والتنويه بالمسجد الأول وأصحابه عن خير المسجدين وأصحابهما. وهل هو ذلك المسجد الذي أقامه أصحابه بقصد التقرب إلى الله وابتغاء رضوانه أم ذلك الذي أقيم على أساس فاسد ومقصد باطل.
( ٥ ) وتعقيب على السؤال بمثابة الجواب فإن هذا البنيان كمثل بنيان أقيم على حافة جرف متداع للسقوط فلا يلبث أن ينهار. وإنه قد انهار فعلا بأصحابه في نار جهنم، وإنهم لظالمون. وإن الله لا يمكن أن يهدي ويوفق الظالمين. إن بنيانهم الذي أقاموه سيظل مظهرا للشك والنفاق الذي تمكن في قلوبهم إلى أن تنقطع هذه القلوب بالموت. وإن الله عليم بكل شيء ظاهر وخفي. حكيم يأمر بما فيه الصواب والحكمة.

تعليق على الآية :

﴿ وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا...................... ﴾
والآيات الثلاث التي بعدها وما فيها من صور وتلقين وما ورد
في صددها من روايات، وما احتواه الفصل الاستطرادي
من الصنوف الستة للمجتمع الإسلامي في أواخر العهد النبوي
ولقد روى الطبري ( ١ )١، وغيره من المفسرين بيانات كثيرة عن ابن وغيره من أهل التأويل من التابعين في صدد هذه الآيات يستفاد منها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حينما قدم مكة إلى المدينة قضى أياما في ضاحية تعرف بقباء. فأنشأ أهلها مسجدا محل صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبإذن منه ليقيموا فيه صلاتهم العادية وبخاصة في الليالي وفي أوقات اشتداد البرد والحر وقد صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ( ٢ )٢. وكان في الضاحية فريق من المنافقين روت بعض الروايات أنهم اثنا عشر شخصا وذكرت أسماءهم وذكر في بعضها أنهم من بني غنم بدون ذك الأسماء والعدد. وكان يتردد عليهم شخص عرف بكرهه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والإسلام وبمحاربته لهما اسمه أبو عامر من أهل المدينة أيضا. كان نبذ الشرك ووحد ثم تنصر وترهب ولبس المسوح فعرف بالراهب كما عرف بالفاسق، فلما قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة قال له : ما الذي جئت به ؟ قال له : جئت بالحنيفية السمحة دين إبراهيم فقال : أنا عليها فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم : إنك لست عليها فقال : بلى ولكنك أنت أدخلت عليها ما ليس فيها، فقال له : ما فعلت وقد جئت بها بيضاء نقية فقال أبو عامر : أمات الله الكاذب منا طريدا شريدا وحيدا فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم آمين فقال أبو عامر : لا أجد قوما يقاتلونك إلا قاتلتك معهم، فلم يزل يقاتله إلى يوم حنين، فلما انهزمت هوازن يئس وخرج هاربا إلى الشام وأرسل إلى المنافقين في قباء أن استعدوا ما استطعتم وابنوا مسجدا ليكون مجمعا لكم وانتظروني فإني ذاهب إلى قيصر الروم لآتي بجند نخرج به محمدا وأصحابه من المدينة. فأنشأوا مسجدا فسألهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا له : إن المسجد الأول بعيد عنهم وإن شيوخهم ومرضاهم لا يستطيعون الذهاب إليه، وأكدوا له حسن نيتهم وطلبوا منه أن يأتي فيصلي فيه للبركة. فصدقهم وقال لهم : إنا على سفر وحين أعود من تبوك أفعل. فلما قرب في عودته إلى المدينة جاءه بعضهم يذكرونه بوعده لهم، فأنزل الله الآيات ففضحهم وأرسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بضعة أشخاص فهدموا لمسجد وأحرقوه.
والآيات إجمالا متطابقة مع هذا الموجز. وهكذا تكون قد انطوت على صورة من أخبث صور النفاق وأشدها خطرا وبعد مدى. ولا سيما باتخاذ مسجد الله وسيلة ودريئة. ثم على موقف من مواقف الكيد التي كان المنافقون وذوو القلوب المريضة الحاقدة يقدمون عليها ضد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ودعوته وسلطانه. فجاءت الحملة فيها قاصمة لتتناسب مع شدة خبثهم وسوء مقاصدهم التي تضمنتها العبارة القرآنية.
ومع أن الآيات احتوت موضوعا خاصا روي فيه وقائع معينة فإن عطفها على ما قبلها وأسلوبها يلهمان أنها غير منفصلة عن السياق السابق وبسبيل وصف صنف من صنوف المسلمين في الوقت نفسه. ويمكن أن يستأنس على ذلك برواية نزولها في طريق عودة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة ؛ لأن هذا مما يفيده بعض الآيات الواردة في السياق.
وهكذا يكون هذا الفصل الاستطرادي الذي يبدأ بالآية ( ٩٨ ) والذي نزل في طريق عودة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من تبوك إلى المدينة قد احتوى بيان الصنوف التي كان يتكون منها المجتمع الإسلامي في أواخر حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ؛ لأنه مات بعد سنة من غزوة تبوك وهي :
( ١ ) أعراب مخامرون متربصون.
( ٢ ) أعراب مخلصون في أيمانهم.
( ٣ ) سابقون أولون من المهاجرين.
( ٤ ) سابقون أولون من الأنصار.
( ٥ ) مخلصون من غير السابقين سائرون على خطى وهدى السابقين.
( ٦ ) منافقون من الأعراب وأهل المدينة غير مكشوف نفاقهم للناس والنبي صلى الله عليه وآله وسلم.
( ٧ ) مخلصون في أيمانهم وإنما يخلطون بين العمل الصالح والسيء.
( ٨ ) فريق غامض الموقف مرجى لأمر الله وعلمه.
( ٩ ) فريق منافق مكشوف شديد الخبث والأذى.
وهذه الصنوف هي مما يتألف منه المجتمعات البشرية عامة على الأغلب الأعم وإن كان الأعراب اليوم لا يؤلفون غالبية هذه المجتمعات. فلم يخرج المجتمع الإسلامي في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن نطاق ذلك. والراجح الذي تفيده الروايات والمشاهد المتواترة أن الأعراب كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم يؤلفون الغالبية. ومن الحق أن يقال استئناسا بالآية ( ٩٧ ) من هذه السورة ثم بآيات سورة الفتح ( ١١ و ١٢ و ١٥ ) وسورة الحجرات ( ١٤ – ١٧ ) : إن غالبية هذه الغالبية لم يكونوا مخلصين في إسلامهم وطاعتهم لله ورسوله إيمانا واحتسابا. ومن الحق أن نذكر أن الصنوف الثلاثة التي نوه بها في الآية ( ١٠٠ ) كانوا قاعدة المجتمع الإسلامي القوية الذين ضربوا أروع الأمثلة في الإخلاص لدين الله ورسوله والتفاني في خدمتها ابتغاء رضوان الله وفضله فرضي الله عنهم ورضوا عنه، وكانوا عماد الدعوة الإسلامية بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
ولقد تعددت روايات الطبري عن أهل التأويل في المسجد المنوه به في الآيات ؛ حيث روي عن ابن عباس والحسن وابن زيد أنه مسجد قباء الأول الذي بناه بنو عوف. وحيث روي بطرق عديدة حديثا جاء فيه أنه امترى أحد بني عوف مع أبي سعيد الخدري أو غيره على اختلاف الروايات ؛ حيث قال العوفي : إنه مسجد قباء وقال صاحبه : إنه مسجد النبي فأتيا النبي صلى الله عليه وآله وسلم فسألاه فقال : هو مسجدي هذا وفي كل خير. ولقد روى الترمذي ومسلم حديثا مقاربا لهذا الحديث، صيغته :( قال أبو سعيد الخدري تمارى رجلان في المسجد الذي أسس على التقوى فقال رجل : هو مسجد قباء، وقال الآخر : هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو مسجدي هذا ) ( ١ )٣. ومع ذلك فهناك حديث آخر رواه الترمذي والبزار عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : إن الآية :﴿ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ.................... ﴾ نزلت في أهل قباء كانوا يستنجون بالماء ) ( ٢ )٤. والضمير في ( فيه ) عائد إلى المسجد. ويظهر أن هذا الحديث ثبت عند الذين قالوا : إن المسجد هو مسجد قباء دون الحديث الأول فاستندوا إليه في قولهم. ونحن نرى هذا هو الأوجه ؛ لأن الكلام هو في المفاضلة بين مسجدين متناظرين. وهذا إنما يصح في مسجدي قباء اللذين بنى أحدهما المخلصون، وثانيهما المنافقون. وهناك حديث ثان رواه الإمام أحمد وأبو داود والطبراني وأورده القاسمي في تفسيره فيه تأييد لذلك جاء فيه :( أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الأنصار في مسجد قباء فقال : إن الله تعالى قد أحسن عليكم الثناء في الطهور في قصة مسجدكم فما هو هذا الطهور الذي تطهرون به. قالوا : يا رسول الله ما خرج منا رجل ولا امرأة من الغائط إلا غسل فرجه أو مقعدته بالماء ). وروى الطبري هذا بهذه الصيغة :( إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لأصحاب المسجد أو الأنصار : قد أحسن الله عليكم الثناء في الطهور. فماذا تصنعون ؟ قالوا : نغسل أثر الغائط والبول. وفي رواية كنا نستنجي بالماء في الجاهلية فلما جاء الإسلام لم ندعه فقال لهم : لا تدعوه ).
وفي هذه الأحاديث بالإضافة إلى ما فيها من تأييد لكون المسجد المراد هو مسجد قباء، فإن فيها وفي الجملة القرآنية معا توجيها قرآنيا ونبويا شاملا لكل مسلم في كل ظرف بوجوب التزام الطهارة في كل شيء وبخاصة الطهارة البدنية. وفي ذلك توكيد لهدف تشريع الوضوء والاغتسال على ما شرحناه في مناسبات سابقة.
وواضح أن الآيات تحتوي أيضا تلقينا قويا يظل مستمد إلهام مستمر المدى في تشنيع أعمال الدس والمخامرة والتآمر التي يبيتها ويقدم عليها ذوو القلوب المريضة الذين قلما يخلو منهم مجتمع في أي ظرف وفي وجوب الوقوف منهم موقف الشدة والحسم، والانتباه لهم. وعدم الانخداع بمظاهرهم وأيمانهم الكاذبة. وفي وجوب تكريم ذوي المقاصد الحسنة والمظاهر الفاضلة. وفي وجوب مراعاة جانب الله ومراقبته وتقواه وابتغاء وجهة في ما يباشره المسلمون من أعمال ومنشئات بر وخير فهذا هو الدائم المستوجب لرضاء الله في الدنيا والآخرة والآية ( ١٠٩ ) بخاصة قوية رائعة في صدد هذا التلقين وشموله لكل عمل وموقف.
﴿ وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا ( ١ ) وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا( ٢ ) لِّمَنْ حَارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ( ١٠٧ ) لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ( ١٠٨ ) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا ( ٣ ) جُرُفٍ ( ٤ ) هَارٍ ( ٥ ) فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ( ١٠٩ ) لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ ( ٦ ) قُلُوبُهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( ١١٠ ) ﴾ ( ١٠٧ – ١١٠ ).

في هذه الآيات :

( ١ ) إشارة إلى فريق أنشأوا لهم مسجدا خاصا.
( ٢ ) وتقرير للدافع الحقيقي لذلك. فهو لم يكن عن إخلاص وحسن نية. وإنما كان بقصد المضارة والتعطيل والتفريق بين المؤمنين. ومظهرا من مظاهر الكفر والنفاق. ومرصدا وارتقابا لأناس حاربوا الله ورسوله من قبل إنشائه بالرغم من توكيد المنشئين له بالأيمان بأنهم إنما أرادوا الخير وأنهم حسنوا النية، فإن الله يشهد أنهم كاذبون.
( ٣ ) وأمر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بعدم الصلاة والقيام فيه. وتنبيه بأن المسجد الذي أسس على التقوى والإخلاص من أول يوم تأسيسه هو الأحق بذلك ؛ لأن أصحابه مخلصون. يحبون التطهر والله يحب المتطهرين.
( ٤ ) وسؤال إنكاري ينطوي على التنديد بالمسجد الجديد وأصحابه. والتنويه بالمسجد الأول وأصحابه عن خير المسجدين وأصحابهما. وهل هو ذلك المسجد الذي أقامه أصحابه بقصد التقرب إلى الله وابتغاء رضوانه أم ذلك الذي أقيم على أساس فاسد ومقصد باطل.
( ٥ ) وتعقيب على السؤال بمثابة الجواب فإن هذا البنيان كمثل بنيان أقيم على حافة جرف متداع للسقوط فلا يلبث أن ينهار. وإنه قد انهار فعلا بأصحابه في نار جهنم، وإنهم لظالمون. وإن الله لا يمكن أن يهدي ويوفق الظالمين. إن بنيانهم الذي أقاموه سيظل مظهرا للشك والنفاق الذي تمكن في قلوبهم إلى أن تنقطع هذه القلوب بالموت. وإن الله عليم بكل شيء ظاهر وخفي. حكيم يأمر بما فيه الصواب والحكمة.

تعليق على الآية :

﴿ وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا...................... ﴾
والآيات الثلاث التي بعدها وما فيها من صور وتلقين وما ورد
في صددها من روايات، وما احتواه الفصل الاستطرادي
من الصنوف الستة للمجتمع الإسلامي في أواخر العهد النبوي
ولقد روى الطبري ( ١ )١، وغيره من المفسرين بيانات كثيرة عن ابن وغيره من أهل التأويل من التابعين في صدد هذه الآيات يستفاد منها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حينما قدم مكة إلى المدينة قضى أياما في ضاحية تعرف بقباء. فأنشأ أهلها مسجدا محل صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبإذن منه ليقيموا فيه صلاتهم العادية وبخاصة في الليالي وفي أوقات اشتداد البرد والحر وقد صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ( ٢ )٢. وكان في الضاحية فريق من المنافقين روت بعض الروايات أنهم اثنا عشر شخصا وذكرت أسماءهم وذكر في بعضها أنهم من بني غنم بدون ذك الأسماء والعدد. وكان يتردد عليهم شخص عرف بكرهه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والإسلام وبمحاربته لهما اسمه أبو عامر من أهل المدينة أيضا. كان نبذ الشرك ووحد ثم تنصر وترهب ولبس المسوح فعرف بالراهب كما عرف بالفاسق، فلما قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة قال له : ما الذي جئت به ؟ قال له : جئت بالحنيفية السمحة دين إبراهيم فقال : أنا عليها فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم : إنك لست عليها فقال : بلى ولكنك أنت أدخلت عليها ما ليس فيها، فقال له : ما فعلت وقد جئت بها بيضاء نقية فقال أبو عامر : أمات الله الكاذب منا طريدا شريدا وحيدا فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم آمين فقال أبو عامر : لا أجد قوما يقاتلونك إلا قاتلتك معهم، فلم يزل يقاتله إلى يوم حنين، فلما انهزمت هوازن يئس وخرج هاربا إلى الشام وأرسل إلى المنافقين في قباء أن استعدوا ما استطعتم وابنوا مسجدا ليكون مجمعا لكم وانتظروني فإني ذاهب إلى قيصر الروم لآتي بجند نخرج به محمدا وأصحابه من المدينة. فأنشأوا مسجدا فسألهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا له : إن المسجد الأول بعيد عنهم وإن شيوخهم ومرضاهم لا يستطيعون الذهاب إليه، وأكدوا له حسن نيتهم وطلبوا منه أن يأتي فيصلي فيه للبركة. فصدقهم وقال لهم : إنا على سفر وحين أعود من تبوك أفعل. فلما قرب في عودته إلى المدينة جاءه بعضهم يذكرونه بوعده لهم، فأنزل الله الآيات ففضحهم وأرسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بضعة أشخاص فهدموا لمسجد وأحرقوه.
والآيات إجمالا متطابقة مع هذا الموجز. وهكذا تكون قد انطوت على صورة من أخبث صور النفاق وأشدها خطرا وبعد مدى. ولا سيما باتخاذ مسجد الله وسيلة ودريئة. ثم على موقف من مواقف الكيد التي كان المنافقون وذوو القلوب المريضة الحاقدة يقدمون عليها ضد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ودعوته وسلطانه. فجاءت الحملة فيها قاصمة لتتناسب مع شدة خبثهم وسوء مقاصدهم التي تضمنتها العبارة القرآنية.
ومع أن الآيات احتوت موضوعا خاصا روي فيه وقائع معينة فإن عطفها على ما قبلها وأسلوبها يلهمان أنها غير منفصلة عن السياق السابق وبسبيل وصف صنف من صنوف المسلمين في الوقت نفسه. ويمكن أن يستأنس على ذلك برواية نزولها في طريق عودة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة ؛ لأن هذا مما يفيده بعض الآيات الواردة في السياق.
وهكذا يكون هذا الفصل الاستطرادي الذي يبدأ بالآية ( ٩٨ ) والذي نزل في طريق عودة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من تبوك إلى المدينة قد احتوى بيان الصنوف التي كان يتكون منها المجتمع الإسلامي في أواخر حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ؛ لأنه مات بعد سنة من غزوة تبوك وهي :
( ١ ) أعراب مخامرون متربصون.
( ٢ ) أعراب مخلصون في أيمانهم.
( ٣ ) سابقون أولون من المهاجرين.
( ٤ ) سابقون أولون من الأنصار.
( ٥ ) مخلصون من غير السابقين سائرون على خطى وهدى السابقين.
( ٦ ) منافقون من الأعراب وأهل المدينة غير مكشوف نفاقهم للناس والنبي صلى الله عليه وآله وسلم.
( ٧ ) مخلصون في أيمانهم وإنما يخلطون بين العمل الصالح والسيء.
( ٨ ) فريق غامض الموقف مرجى لأمر الله وعلمه.
( ٩ ) فريق منافق مكشوف شديد الخبث والأذى.
وهذه الصنوف هي مما يتألف منه المجتمعات البشرية عامة على الأغلب الأعم وإن كان الأعراب اليوم لا يؤلفون غالبية هذه المجتمعات. فلم يخرج المجتمع الإسلامي في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن نطاق ذلك. والراجح الذي تفيده الروايات والمشاهد المتواترة أن الأعراب كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم يؤلفون الغالبية. ومن الحق أن يقال استئناسا بالآية ( ٩٧ ) من هذه السورة ثم بآيات سورة الفتح ( ١١ و ١٢ و ١٥ ) وسورة الحجرات ( ١٤ – ١٧ ) : إن غالبية هذه الغالبية لم يكونوا مخلصين في إسلامهم وطاعتهم لله ورسوله إيمانا واحتسابا. ومن الحق أن نذكر أن الصنوف الثلاثة التي نوه بها في الآية ( ١٠٠ ) كانوا قاعدة المجتمع الإسلامي القوية الذين ضربوا أروع الأمثلة في الإخلاص لدين الله ورسوله والتفاني في خدمتها ابتغاء رضوان الله وفضله فرضي الله عنهم ورضوا عنه، وكانوا عماد الدعوة الإسلامية بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
ولقد تعددت روايات الطبري عن أهل التأويل في المسجد المنوه به في الآيات ؛ حيث روي عن ابن عباس والحسن وابن زيد أنه مسجد قباء الأول الذي بناه بنو عوف. وحيث روي بطرق عديدة حديثا جاء فيه أنه امترى أحد بني عوف مع أبي سعيد الخدري أو غيره على اختلاف الروايات ؛ حيث قال العوفي : إنه مسجد قباء وقال صاحبه : إنه مسجد النبي فأتيا النبي صلى الله عليه وآله وسلم فسألاه فقال : هو مسجدي هذا وفي كل خير. ولقد روى الترمذي ومسلم حديثا مقاربا لهذا الحديث، صيغته :( قال أبو سعيد الخدري تمارى رجلان في المسجد الذي أسس على التقوى فقال رجل : هو مسجد قباء، وقال الآخر : هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو مسجدي هذا ) ( ١ )٣. ومع ذلك فهناك حديث آخر رواه الترمذي والبزار عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : إن الآية :﴿ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ.................... ﴾ نزلت في أهل قباء كانوا يستنجون بالماء ) ( ٢ )٤. والضمير في ( فيه ) عائد إلى المسجد. ويظهر أن هذا الحديث ثبت عند الذين قالوا : إن المسجد هو مسجد قباء دون الحديث الأول فاستندوا إليه في قولهم. ونحن نرى هذا هو الأوجه ؛ لأن الكلام هو في المفاضلة بين مسجدين متناظرين. وهذا إنما يصح في مسجدي قباء اللذين بنى أحدهما المخلصون، وثانيهما المنافقون. وهناك حديث ثان رواه الإمام أحمد وأبو داود والطبراني وأورده القاسمي في تفسيره فيه تأييد لذلك جاء فيه :( أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الأنصار في مسجد قباء فقال : إن الله تعالى قد أحسن عليكم الثناء في الطهور في قصة مسجدكم فما هو هذا الطهور الذي تطهرون به. قالوا : يا رسول الله ما خرج منا رجل ولا امرأة من الغائط إلا غسل فرجه أو مقعدته بالماء ). وروى الطبري هذا بهذه الصيغة :( إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لأصحاب المسجد أو الأنصار : قد أحسن الله عليكم الثناء في الطهور. فماذا تصنعون ؟ قالوا : نغسل أثر الغائط والبول. وفي رواية كنا نستنجي بالماء في الجاهلية فلما جاء الإسلام لم ندعه فقال لهم : لا تدعوه ).
وفي هذه الأحاديث بالإضافة إلى ما فيها من تأييد لكون المسجد المراد هو مسجد قباء، فإن فيها وفي الجملة القرآنية معا توجيها قرآنيا ونبويا شاملا لكل مسلم في كل ظرف بوجوب التزام الطهارة في كل شيء وبخاصة الطهارة البدنية. وفي ذلك توكيد لهدف تشريع الوضوء والاغتسال على ما شرحناه في مناسبات سابقة.
وواضح أن الآيات تحتوي أيضا تلقينا قويا يظل مستمد إلهام مستمر المدى في تشنيع أعمال الدس والمخامرة والتآمر التي يبيتها ويقدم عليها ذوو القلوب المريضة الذين قلما يخلو منهم مجتمع في أي ظرف وفي وجوب الوقوف منهم موقف الشدة والحسم، والانتباه لهم. وعدم الانخداع بمظاهرهم وأيمانهم الكاذبة. وفي وجوب تكريم ذوي المقاصد الحسنة والمظاهر الفاضلة. وفي وجوب مراعاة جانب الله ومراقبته وتقواه وابتغاء وجهة في ما يباشره المسلمون من أعمال ومنشئات بر وخير فهذا هو الدائم المستوجب لرضاء الله في الدنيا والآخرة والآية ( ١٠٩ ) بخاصة قوية رائعة في صدد هذا التلقين وشموله لكل عمل وموقف.
( ٣ ) شفا : الظرف الدقيق وراء الهاوية أو الحافة.
( ٤ ) جرف : المكان المرتفع الرخو من تآكل السيول.
( ٥ ) هار : مائل للسقوط والانهيار.
﴿ وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا ( ١ ) وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا( ٢ ) لِّمَنْ حَارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ( ١٠٧ ) لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ( ١٠٨ ) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا ( ٣ ) جُرُفٍ ( ٤ ) هَارٍ ( ٥ ) فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ( ١٠٩ ) لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ ( ٦ ) قُلُوبُهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( ١١٠ ) ﴾ ( ١٠٧ – ١١٠ ).

في هذه الآيات :

( ١ ) إشارة إلى فريق أنشأوا لهم مسجدا خاصا.
( ٢ ) وتقرير للدافع الحقيقي لذلك. فهو لم يكن عن إخلاص وحسن نية. وإنما كان بقصد المضارة والتعطيل والتفريق بين المؤمنين. ومظهرا من مظاهر الكفر والنفاق. ومرصدا وارتقابا لأناس حاربوا الله ورسوله من قبل إنشائه بالرغم من توكيد المنشئين له بالأيمان بأنهم إنما أرادوا الخير وأنهم حسنوا النية، فإن الله يشهد أنهم كاذبون.
( ٣ ) وأمر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بعدم الصلاة والقيام فيه. وتنبيه بأن المسجد الذي أسس على التقوى والإخلاص من أول يوم تأسيسه هو الأحق بذلك ؛ لأن أصحابه مخلصون. يحبون التطهر والله يحب المتطهرين.
( ٤ ) وسؤال إنكاري ينطوي على التنديد بالمسجد الجديد وأصحابه. والتنويه بالمسجد الأول وأصحابه عن خير المسجدين وأصحابهما. وهل هو ذلك المسجد الذي أقامه أصحابه بقصد التقرب إلى الله وابتغاء رضوانه أم ذلك الذي أقيم على أساس فاسد ومقصد باطل.
( ٥ ) وتعقيب على السؤال بمثابة الجواب فإن هذا البنيان كمثل بنيان أقيم على حافة جرف متداع للسقوط فلا يلبث أن ينهار. وإنه قد انهار فعلا بأصحابه في نار جهنم، وإنهم لظالمون. وإن الله لا يمكن أن يهدي ويوفق الظالمين. إن بنيانهم الذي أقاموه سيظل مظهرا للشك والنفاق الذي تمكن في قلوبهم إلى أن تنقطع هذه القلوب بالموت. وإن الله عليم بكل شيء ظاهر وخفي. حكيم يأمر بما فيه الصواب والحكمة.

تعليق على الآية :

﴿ وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا...................... ﴾
والآيات الثلاث التي بعدها وما فيها من صور وتلقين وما ورد
في صددها من روايات، وما احتواه الفصل الاستطرادي
من الصنوف الستة للمجتمع الإسلامي في أواخر العهد النبوي
ولقد روى الطبري ( ١ )١، وغيره من المفسرين بيانات كثيرة عن ابن وغيره من أهل التأويل من التابعين في صدد هذه الآيات يستفاد منها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حينما قدم مكة إلى المدينة قضى أياما في ضاحية تعرف بقباء. فأنشأ أهلها مسجدا محل صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبإذن منه ليقيموا فيه صلاتهم العادية وبخاصة في الليالي وفي أوقات اشتداد البرد والحر وقد صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ( ٢ )٢. وكان في الضاحية فريق من المنافقين روت بعض الروايات أنهم اثنا عشر شخصا وذكرت أسماءهم وذكر في بعضها أنهم من بني غنم بدون ذك الأسماء والعدد. وكان يتردد عليهم شخص عرف بكرهه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والإسلام وبمحاربته لهما اسمه أبو عامر من أهل المدينة أيضا. كان نبذ الشرك ووحد ثم تنصر وترهب ولبس المسوح فعرف بالراهب كما عرف بالفاسق، فلما قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة قال له : ما الذي جئت به ؟ قال له : جئت بالحنيفية السمحة دين إبراهيم فقال : أنا عليها فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم : إنك لست عليها فقال : بلى ولكنك أنت أدخلت عليها ما ليس فيها، فقال له : ما فعلت وقد جئت بها بيضاء نقية فقال أبو عامر : أمات الله الكاذب منا طريدا شريدا وحيدا فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم آمين فقال أبو عامر : لا أجد قوما يقاتلونك إلا قاتلتك معهم، فلم يزل يقاتله إلى يوم حنين، فلما انهزمت هوازن يئس وخرج هاربا إلى الشام وأرسل إلى المنافقين في قباء أن استعدوا ما استطعتم وابنوا مسجدا ليكون مجمعا لكم وانتظروني فإني ذاهب إلى قيصر الروم لآتي بجند نخرج به محمدا وأصحابه من المدينة. فأنشأوا مسجدا فسألهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا له : إن المسجد الأول بعيد عنهم وإن شيوخهم ومرضاهم لا يستطيعون الذهاب إليه، وأكدوا له حسن نيتهم وطلبوا منه أن يأتي فيصلي فيه للبركة. فصدقهم وقال لهم : إنا على سفر وحين أعود من تبوك أفعل. فلما قرب في عودته إلى المدينة جاءه بعضهم يذكرونه بوعده لهم، فأنزل الله الآيات ففضحهم وأرسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بضعة أشخاص فهدموا لمسجد وأحرقوه.
والآيات إجمالا متطابقة مع هذا الموجز. وهكذا تكون قد انطوت على صورة من أخبث صور النفاق وأشدها خطرا وبعد مدى. ولا سيما باتخاذ مسجد الله وسيلة ودريئة. ثم على موقف من مواقف الكيد التي كان المنافقون وذوو القلوب المريضة الحاقدة يقدمون عليها ضد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ودعوته وسلطانه. فجاءت الحملة فيها قاصمة لتتناسب مع شدة خبثهم وسوء مقاصدهم التي تضمنتها العبارة القرآنية.
ومع أن الآيات احتوت موضوعا خاصا روي فيه وقائع معينة فإن عطفها على ما قبلها وأسلوبها يلهمان أنها غير منفصلة عن السياق السابق وبسبيل وصف صنف من صنوف المسلمين في الوقت نفسه. ويمكن أن يستأنس على ذلك برواية نزولها في طريق عودة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة ؛ لأن هذا مما يفيده بعض الآيات الواردة في السياق.
وهكذا يكون هذا الفصل الاستطرادي الذي يبدأ بالآية ( ٩٨ ) والذي نزل في طريق عودة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من تبوك إلى المدينة قد احتوى بيان الصنوف التي كان يتكون منها المجتمع الإسلامي في أواخر حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ؛ لأنه مات بعد سنة من غزوة تبوك وهي :
( ١ ) أعراب مخامرون متربصون.
( ٢ ) أعراب مخلصون في أيمانهم.
( ٣ ) سابقون أولون من المهاجرين.
( ٤ ) سابقون أولون من الأنصار.
( ٥ ) مخلصون من غير السابقين سائرون على خطى وهدى السابقين.
( ٦ ) منافقون من الأعراب وأهل المدينة غير مكشوف نفاقهم للناس والنبي صلى الله عليه وآله وسلم.
( ٧ ) مخلصون في أيمانهم وإنما يخلطون بين العمل الصالح والسيء.
( ٨ ) فريق غامض الموقف مرجى لأمر الله وعلمه.
( ٩ ) فريق منافق مكشوف شديد الخبث والأذى.
وهذه الصنوف هي مما يتألف منه المجتمعات البشرية عامة على الأغلب الأعم وإن كان الأعراب اليوم لا يؤلفون غالبية هذه المجتمعات. فلم يخرج المجتمع الإسلامي في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن نطاق ذلك. والراجح الذي تفيده الروايات والمشاهد المتواترة أن الأعراب كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم يؤلفون الغالبية. ومن الحق أن يقال استئناسا بالآية ( ٩٧ ) من هذه السورة ثم بآيات سورة الفتح ( ١١ و ١٢ و ١٥ ) وسورة الحجرات ( ١٤ – ١٧ ) : إن غالبية هذه الغالبية لم يكونوا مخلصين في إسلامهم وطاعتهم لله ورسوله إيمانا واحتسابا. ومن الحق أن نذكر أن الصنوف الثلاثة التي نوه بها في الآية ( ١٠٠ ) كانوا قاعدة المجتمع الإسلامي القوية الذين ضربوا أروع الأمثلة في الإخلاص لدين الله ورسوله والتفاني في خدمتها ابتغاء رضوان الله وفضله فرضي الله عنهم ورضوا عنه، وكانوا عماد الدعوة الإسلامية بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
ولقد تعددت روايات الطبري عن أهل التأويل في المسجد المنوه به في الآيات ؛ حيث روي عن ابن عباس والحسن وابن زيد أنه مسجد قباء الأول الذي بناه بنو عوف. وحيث روي بطرق عديدة حديثا جاء فيه أنه امترى أحد بني عوف مع أبي سعيد الخدري أو غيره على اختلاف الروايات ؛ حيث قال العوفي : إنه مسجد قباء وقال صاحبه : إنه مسجد النبي فأتيا النبي صلى الله عليه وآله وسلم فسألاه فقال : هو مسجدي هذا وفي كل خير. ولقد روى الترمذي ومسلم حديثا مقاربا لهذا الحديث، صيغته :( قال أبو سعيد الخدري تمارى رجلان في المسجد الذي أسس على التقوى فقال رجل : هو مسجد قباء، وقال الآخر : هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو مسجدي هذا ) ( ١ )٣. ومع ذلك فهناك حديث آخر رواه الترمذي والبزار عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : إن الآية :﴿ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ.................... ﴾ نزلت في أهل قباء كانوا يستنجون بالماء ) ( ٢ )٤. والضمير في ( فيه ) عائد إلى المسجد. ويظهر أن هذا الحديث ثبت عند الذين قالوا : إن المسجد هو مسجد قباء دون الحديث الأول فاستندوا إليه في قولهم. ونحن نرى هذا هو الأوجه ؛ لأن الكلام هو في المفاضلة بين مسجدين متناظرين. وهذا إنما يصح في مسجدي قباء اللذين بنى أحدهما المخلصون، وثانيهما المنافقون. وهناك حديث ثان رواه الإمام أحمد وأبو داود والطبراني وأورده القاسمي في تفسيره فيه تأييد لذلك جاء فيه :( أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الأنصار في مسجد قباء فقال : إن الله تعالى قد أحسن عليكم الثناء في الطهور في قصة مسجدكم فما هو هذا الطهور الذي تطهرون به. قالوا : يا رسول الله ما خرج منا رجل ولا امرأة من الغائط إلا غسل فرجه أو مقعدته بالماء ). وروى الطبري هذا بهذه الصيغة :( إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لأصحاب المسجد أو الأنصار : قد أحسن الله عليكم الثناء في الطهور. فماذا تصنعون ؟ قالوا : نغسل أثر الغائط والبول. وفي رواية كنا نستنجي بالماء في الجاهلية فلما جاء الإسلام لم ندعه فقال لهم : لا تدعوه ).
وفي هذه الأحاديث بالإضافة إلى ما فيها من تأييد لكون المسجد المراد هو مسجد قباء، فإن فيها وفي الجملة القرآنية معا توجيها قرآنيا ونبويا شاملا لكل مسلم في كل ظرف بوجوب التزام الطهارة في كل شيء وبخاصة الطهارة البدنية. وفي ذلك توكيد لهدف تشريع الوضوء والاغتسال على ما شرحناه في مناسبات سابقة.
وواضح أن الآيات تحتوي أيضا تلقينا قويا يظل مستمد إلهام مستمر المدى في تشنيع أعمال الدس والمخامرة والتآمر التي يبيتها ويقدم عليها ذوو القلوب المريضة الذين قلما يخلو منهم مجتمع في أي ظرف وفي وجوب الوقوف منهم موقف الشدة والحسم، والانتباه لهم. وعدم الانخداع بمظاهرهم وأيمانهم الكاذبة. وفي وجوب تكريم ذوي المقاصد الحسنة والمظاهر الفاضلة. وفي وجوب مراعاة جانب الله ومراقبته وتقواه وابتغاء وجهة في ما يباشره المسلمون من أعمال ومنشئات بر وخير فهذا هو الدائم المستوجب لرضاء الله في الدنيا والآخرة والآية ( ١٠٩ ) بخاصة قوية رائعة في صدد هذا التلقين وشموله لكل عمل وموقف.
( ٦ ) إلا أن تقطع : قرئت ( إلا أن ) بصيغة ( إلى أن ) وقرئت ( تقطع ) بفتح التاء وبضمها، وعلى كل حال فالجمهور على أن معنى الجملة إلى أن تقطع قلوبهم بالموت.
﴿ وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا ( ١ ) وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا( ٢ ) لِّمَنْ حَارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ( ١٠٧ ) لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ( ١٠٨ ) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا ( ٣ ) جُرُفٍ ( ٤ ) هَارٍ ( ٥ ) فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ( ١٠٩ ) لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ ( ٦ ) قُلُوبُهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( ١١٠ ) ﴾ ( ١٠٧ – ١١٠ ).

في هذه الآيات :

( ١ ) إشارة إلى فريق أنشأوا لهم مسجدا خاصا.
( ٢ ) وتقرير للدافع الحقيقي لذلك. فهو لم يكن عن إخلاص وحسن نية. وإنما كان بقصد المضارة والتعطيل والتفريق بين المؤمنين. ومظهرا من مظاهر الكفر والنفاق. ومرصدا وارتقابا لأناس حاربوا الله ورسوله من قبل إنشائه بالرغم من توكيد المنشئين له بالأيمان بأنهم إنما أرادوا الخير وأنهم حسنوا النية، فإن الله يشهد أنهم كاذبون.
( ٣ ) وأمر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بعدم الصلاة والقيام فيه. وتنبيه بأن المسجد الذي أسس على التقوى والإخلاص من أول يوم تأسيسه هو الأحق بذلك ؛ لأن أصحابه مخلصون. يحبون التطهر والله يحب المتطهرين.
( ٤ ) وسؤال إنكاري ينطوي على التنديد بالمسجد الجديد وأصحابه. والتنويه بالمسجد الأول وأصحابه عن خير المسجدين وأصحابهما. وهل هو ذلك المسجد الذي أقامه أصحابه بقصد التقرب إلى الله وابتغاء رضوانه أم ذلك الذي أقيم على أساس فاسد ومقصد باطل.
( ٥ ) وتعقيب على السؤال بمثابة الجواب فإن هذا البنيان كمثل بنيان أقيم على حافة جرف متداع للسقوط فلا يلبث أن ينهار. وإنه قد انهار فعلا بأصحابه في نار جهنم، وإنهم لظالمون. وإن الله لا يمكن أن يهدي ويوفق الظالمين. إن بنيانهم الذي أقاموه سيظل مظهرا للشك والنفاق الذي تمكن في قلوبهم إلى أن تنقطع هذه القلوب بالموت. وإن الله عليم بكل شيء ظاهر وخفي. حكيم يأمر بما فيه الصواب والحكمة.

تعليق على الآية :

﴿ وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا...................... ﴾
والآيات الثلاث التي بعدها وما فيها من صور وتلقين وما ورد
في صددها من روايات، وما احتواه الفصل الاستطرادي
من الصنوف الستة للمجتمع الإسلامي في أواخر العهد النبوي
ولقد روى الطبري ( ١ )١، وغيره من المفسرين بيانات كثيرة عن ابن وغيره من أهل التأويل من التابعين في صدد هذه الآيات يستفاد منها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حينما قدم مكة إلى المدينة قضى أياما في ضاحية تعرف بقباء. فأنشأ أهلها مسجدا محل صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبإذن منه ليقيموا فيه صلاتهم العادية وبخاصة في الليالي وفي أوقات اشتداد البرد والحر وقد صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ( ٢ )٢. وكان في الضاحية فريق من المنافقين روت بعض الروايات أنهم اثنا عشر شخصا وذكرت أسماءهم وذكر في بعضها أنهم من بني غنم بدون ذك الأسماء والعدد. وكان يتردد عليهم شخص عرف بكرهه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والإسلام وبمحاربته لهما اسمه أبو عامر من أهل المدينة أيضا. كان نبذ الشرك ووحد ثم تنصر وترهب ولبس المسوح فعرف بالراهب كما عرف بالفاسق، فلما قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة قال له : ما الذي جئت به ؟ قال له : جئت بالحنيفية السمحة دين إبراهيم فقال : أنا عليها فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم : إنك لست عليها فقال : بلى ولكنك أنت أدخلت عليها ما ليس فيها، فقال له : ما فعلت وقد جئت بها بيضاء نقية فقال أبو عامر : أمات الله الكاذب منا طريدا شريدا وحيدا فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم آمين فقال أبو عامر : لا أجد قوما يقاتلونك إلا قاتلتك معهم، فلم يزل يقاتله إلى يوم حنين، فلما انهزمت هوازن يئس وخرج هاربا إلى الشام وأرسل إلى المنافقين في قباء أن استعدوا ما استطعتم وابنوا مسجدا ليكون مجمعا لكم وانتظروني فإني ذاهب إلى قيصر الروم لآتي بجند نخرج به محمدا وأصحابه من المدينة. فأنشأوا مسجدا فسألهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا له : إن المسجد الأول بعيد عنهم وإن شيوخهم ومرضاهم لا يستطيعون الذهاب إليه، وأكدوا له حسن نيتهم وطلبوا منه أن يأتي فيصلي فيه للبركة. فصدقهم وقال لهم : إنا على سفر وحين أعود من تبوك أفعل. فلما قرب في عودته إلى المدينة جاءه بعضهم يذكرونه بوعده لهم، فأنزل الله الآيات ففضحهم وأرسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بضعة أشخاص فهدموا لمسجد وأحرقوه.
والآيات إجمالا متطابقة مع هذا الموجز. وهكذا تكون قد انطوت على صورة من أخبث صور النفاق وأشدها خطرا وبعد مدى. ولا سيما باتخاذ مسجد الله وسيلة ودريئة. ثم على موقف من مواقف الكيد التي كان المنافقون وذوو القلوب المريضة الحاقدة يقدمون عليها ضد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ودعوته وسلطانه. فجاءت الحملة فيها قاصمة لتتناسب مع شدة خبثهم وسوء مقاصدهم التي تضمنتها العبارة القرآنية.
ومع أن الآيات احتوت موضوعا خاصا روي فيه وقائع معينة فإن عطفها على ما قبلها وأسلوبها يلهمان أنها غير منفصلة عن السياق السابق وبسبيل وصف صنف من صنوف المسلمين في الوقت نفسه. ويمكن أن يستأنس على ذلك برواية نزولها في طريق عودة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة ؛ لأن هذا مما يفيده بعض الآيات الواردة في السياق.
وهكذا يكون هذا الفصل الاستطرادي الذي يبدأ بالآية ( ٩٨ ) والذي نزل في طريق عودة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من تبوك إلى المدينة قد احتوى بيان الصنوف التي كان يتكون منها المجتمع الإسلامي في أواخر حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ؛ لأنه مات بعد سنة من غزوة تبوك وهي :
( ١ ) أعراب مخامرون متربصون.
( ٢ ) أعراب مخلصون في أيمانهم.
( ٣ ) سابقون أولون من المهاجرين.
( ٤ ) سابقون أولون من الأنصار.
( ٥ ) مخلصون من غير السابقين سائرون على خطى وهدى السابقين.
( ٦ ) منافقون من الأعراب وأهل المدينة غير مكشوف نفاقهم للناس والنبي صلى الله عليه وآله وسلم.
( ٧ ) مخلصون في أيمانهم وإنما يخلطون بين العمل الصالح والسيء.
( ٨ ) فريق غامض الموقف مرجى لأمر الله وعلمه.
( ٩ ) فريق منافق مكشوف شديد الخبث والأذى.
وهذه الصنوف هي مما يتألف منه المجتمعات البشرية عامة على الأغلب الأعم وإن كان الأعراب اليوم لا يؤلفون غالبية هذه المجتمعات. فلم يخرج المجتمع الإسلامي في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن نطاق ذلك. والراجح الذي تفيده الروايات والمشاهد المتواترة أن الأعراب كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم يؤلفون الغالبية. ومن الحق أن يقال استئناسا بالآية ( ٩٧ ) من هذه السورة ثم بآيات سورة الفتح ( ١١ و ١٢ و ١٥ ) وسورة الحجرات ( ١٤ – ١٧ ) : إن غالبية هذه الغالبية لم يكونوا مخلصين في إسلامهم وطاعتهم لله ورسوله إيمانا واحتسابا. ومن الحق أن نذكر أن الصنوف الثلاثة التي نوه بها في الآية ( ١٠٠ ) كانوا قاعدة المجتمع الإسلامي القوية الذين ضربوا أروع الأمثلة في الإخلاص لدين الله ورسوله والتفاني في خدمتها ابتغاء رضوان الله وفضله فرضي الله عنهم ورضوا عنه، وكانوا عماد الدعوة الإسلامية بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
ولقد تعددت روايات الطبري عن أهل التأويل في المسجد المنوه به في الآيات ؛ حيث روي عن ابن عباس والحسن وابن زيد أنه مسجد قباء الأول الذي بناه بنو عوف. وحيث روي بطرق عديدة حديثا جاء فيه أنه امترى أحد بني عوف مع أبي سعيد الخدري أو غيره على اختلاف الروايات ؛ حيث قال العوفي : إنه مسجد قباء وقال صاحبه : إنه مسجد النبي فأتيا النبي صلى الله عليه وآله وسلم فسألاه فقال : هو مسجدي هذا وفي كل خير. ولقد روى الترمذي ومسلم حديثا مقاربا لهذا الحديث، صيغته :( قال أبو سعيد الخدري تمارى رجلان في المسجد الذي أسس على التقوى فقال رجل : هو مسجد قباء، وقال الآخر : هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو مسجدي هذا ) ( ١ )٣. ومع ذلك فهناك حديث آخر رواه الترمذي والبزار عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : إن الآية :﴿ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ.................... ﴾ نزلت في أهل قباء كانوا يستنجون بالماء ) ( ٢ )٤. والضمير في ( فيه ) عائد إلى المسجد. ويظهر أن هذا الحديث ثبت عند الذين قالوا : إن المسجد هو مسجد قباء دون الحديث الأول فاستندوا إليه في قولهم. ونحن نرى هذا هو الأوجه ؛ لأن الكلام هو في المفاضلة بين مسجدين متناظرين. وهذا إنما يصح في مسجدي قباء اللذين بنى أحدهما المخلصون، وثانيهما المنافقون. وهناك حديث ثان رواه الإمام أحمد وأبو داود والطبراني وأورده القاسمي في تفسيره فيه تأييد لذلك جاء فيه :( أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الأنصار في مسجد قباء فقال : إن الله تعالى قد أحسن عليكم الثناء في الطهور في قصة مسجدكم فما هو هذا الطهور الذي تطهرون به. قالوا : يا رسول الله ما خرج منا رجل ولا امرأة من الغائط إلا غسل فرجه أو مقعدته بالماء ). وروى الطبري هذا بهذه الصيغة :( إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لأصحاب المسجد أو الأنصار : قد أحسن الله عليكم الثناء في الطهور. فماذا تصنعون ؟ قالوا : نغسل أثر الغائط والبول. وفي رواية كنا نستنجي بالماء في الجاهلية فلما جاء الإسلام لم ندعه فقال لهم : لا تدعوه ).
وفي هذه الأحاديث بالإضافة إلى ما فيها من تأييد لكون المسجد المراد هو مسجد قباء، فإن فيها وفي الجملة القرآنية معا توجيها قرآنيا ونبويا شاملا لكل مسلم في كل ظرف بوجوب التزام الطهارة في كل شيء وبخاصة الطهارة البدنية. وفي ذلك توكيد لهدف تشريع الوضوء والاغتسال على ما شرحناه في مناسبات سابقة.
وواضح أن الآيات تحتوي أيضا تلقينا قويا يظل مستمد إلهام مستمر المدى في تشنيع أعمال الدس والمخامرة والتآمر التي يبيتها ويقدم عليها ذوو القلوب المريضة الذين قلما يخلو منهم مجتمع في أي ظرف وفي وجوب الوقوف منهم موقف الشدة والحسم، والانتباه لهم. وعدم الانخداع بمظاهرهم وأيمانهم الكاذبة. وفي وجوب تكريم ذوي المقاصد الحسنة والمظاهر الفاضلة. وفي وجوب مراعاة جانب الله ومراقبته وتقواه وابتغاء وجهة في ما يباشره المسلمون من أعمال ومنشئات بر وخير فهذا هو الدائم المستوجب لرضاء الله في الدنيا والآخرة والآية ( ١٠٩ ) بخاصة قوية رائعة في صدد هذا التلقين وشموله لكل عمل وموقف.
﴿ إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( ١١١ ) التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ ( ١ ) الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ( ١١٢ ) ﴾ ( ١١١ – ١١٢ ).
عبارة الآيتين واضحة. وقد احتوتا بشرى ربانية للمؤمنين الذين يجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم وحثا على ذلك. وتعدادا لصفات المؤمنين المخلصين واستغراقهم في دين الله وواجباته على سبيل التنويه والتثبيت.
تعليق على الآية :
﴿ إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ..................... ﴾
والآية التالية لها وما فيهما من تلقين
روى الطبري أن الآية الأولى عند بيعة العقبة الكبرى التي بايع فيها وفد الأوس والخزرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبيل هجرته وهجرة أصحابه إلى المدينة ؛ حيث قال أحدهم عبد الله بن رواحة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم اشترط لربك ولنفسك فقال : أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا. وأشترط لنفسي أن تمنعوني ما تمنعون به أنفسكم فقالوا : وما لنا إذا فعلنا ذلك ؟ فقال : الجنة. فقالوا : ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل. فأنزل الله الآية.
ومع احتمال صحة المحاورة المروية عند بيعة العقبة فإن أسلوب الآية ومضمونها يسوغان الشك في صحة رواية نزولها في ظروف بيعة العقبة. بل إن الرواية نفسها تسوغ هذا الشك لأن كل ما طلبه النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الوفد هو المنع والحماية بينما الآية واسعة المدى في الجهاد. ولقد ذكرنا في سياق شرح قصة وقعة بدر في تفسير سورة الأنفال أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن يرى له على الأنصار إلا الدفاع والحماية فقط. ولذلك لم يقدم على الاشتباك مع قريش إلا بعد أن استشارهم وأظهروا استعدادهم للحرب مما فيه تأييد لذلك. ولقد ربط الطبري وغيره بين الآية الأولى والثانية وقالوا : إن الله قد بين في الثانية صفات المؤمنين الذين اشترى منهم أنفسهم ؛ حيث يفيد هذا أن الآيتين نزلتا معا. وهو ما لم تروه الرواية. والانسجام بين الآيتين تام يؤيد ذلك. فضلا عن أن ما في الآية الثانية من صفات لم يكن بعد متحققا في الذين بايعوا بيعة العقبة.
وبالإضافة إلى هذا فإننا نرى التناسب قائما بين الآيتين والسياق السابق بحيث يسوغ ترجيح نزولهما معه أو عقبه وأن تكونا قد جاءتا على سبيل التعقيب على السياق من جهة وخاتمة للسلسلة التي استدللنا من مضامينها أنها نزلت أثناء غزوة تبوك من جهة أخرى والتي دار أساسها وفصولها على التنديد بالمتخلفين عن الجهاد بأموالهم وأنفسهم أولا بالمخامرين المنافقين ثانيا، والتنويه بالمؤمنين المخلصين الذين يجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم ثالثا.
ولقد جاءت الآيتان بأسلوب قوي نافذ. وجمعت الثانية منهما بخاصة كل صفات المؤمن المخلص فكانتا ختاما رائعا لهذه السلسلة وللغزوة التي نزلت فيها والتي كانت آخر غزوات النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأعظمها عددا وعدة ومن أبعدها خطورة وأشدها شقة وأطولها مسافة وأمدا. وقد تلهم روحهما أنهما في صدد التنويه بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذين اشتركوا في غزوة تبوك أيضا.
ومع ذلك فإن إطلاق عبارتهما يجعلهما تقريرا عاما موجها إلى كل مسلم في كل ظرف ومكان ليستمد منهما إلهاما فياضا في الإقدام على الجهاد بماله ونفسه وتحمل التضحيات مهما عظمت في سبيل الله ويجد فيهما مقياسا للإخلاص الذي يستحق المتحقق به لرضاء الله ويجد فيهما جماع صفات الصلاح وأسباب الفوز والفلاح في الدنيا والآخرة التي يجب عليه أن يتحقق بها.
ويلفت النظر بخاصة إلى ما في الآية الأولى من مغزى عظيم ؛ حيث تتضمن تقرير أن المسلم المخلص بمجرد انتسابه للإسلام يكون قد باع نفسه لله ليجاهد في سبيله بماله ونفسه وكون الله قد اشترى ذلك بالجنة. ففي هذا ما فيه من قوة الحث على الجهاد والدعوة إليه. وقوة عنصر الاستجابة فيه واعتباره أقوى أركان الإسلام ودعائمه. وطبيعي أن هذا الجهاد يدور في نطاق المبادئ التي قررها القرآن وشرحناها في مناسبات عديدة سابقة.
ولقد روى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمر حديثا جاء فيه :( إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا رجع من سفر يقول آئبون تائبون إن شاء الله عابدون لربنا حامدون ) ( ١ )١.
وروى ابن سعد في طبقاته عن جابر بن عبد الله أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول حين رجوعه من غزوة عسفان أولى غزواته :( آئبون تائبون عابدون لربنا حامدون ) ( ١ )٢. وروى ابن سعد أيضا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حينما قرر العودة من غزوة الطائف بعد وقعة حنين قال للمسلمين :( قولوا لا إله إلا الله وحده صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده. فلما ارتحلوا قال : قولوا آئبون تائبون عابدون لربنا حامدون ) ( ٢ )٣.
والفرق بين ما جاء في هذه الأحاديث والآية هو : أن الصيغة في الأحاديث إعلان من النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين بالتوبة والإنابة إلى الله وحمده. في حين أن صيغة الآية أشمل وأوسع. وفيها تثبيت للصفات العظيمة التي تتحقق في المؤمنين من إنابة إلى الله وتوبة وجهاد وعبادة وسجود وركوع وسياحة وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر وحفظ لحدود الله حينما يوفون ما أوجبه عليهم تعاقدهم على شراء الله منهم أنفسهم وأموالهم بالجنة من قتال في سبيله. وتنويها بهم وتبشيرا لهم ؛ حيث تكون حكمة التنزيل شاءت أن توحي قرآنا بصيغة أوسع وأشمل لما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يهتف به ويأمر المسلمين بالهتاف به كلما عاد وعادوا معه من سفر وجهاد في أعقاب غزوة تبوك آخر غزوات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأعظمها عدد جيوش وبعد مدى وأهداف ومشقة.
وهذا لا ينقض ما قلناه استئناسا بإطلاق العبارة القرآنية من شمول مدى الآية لكل مسلم حينما يقوم بواجبه من القتال في سبيل الله نتيجة لتعاقده مع الله ببيع نفسه وماله بالجنة.
وفي صدد جملة :﴿ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ ﴾ نقول : إن القرآن احتوى آيات عديدة فيها دعوة للجهاد بالمال والنفس وحث عليه ووعد رباني بالنصر والجنة للمجاهدين. ومن آخرها الآيات :( ٨٨ – ٨٩ ) من هذه السورة وإذا لم يكن في أسفار العهد القديم والعهد الجديد المتداولة اليوم بين أيدي اليهود والنصارى شيء صريح من ذلك فلا يعني هذا نفي ما جاء في الجملة القرآنية.
فالتوراة والإنجيل اللذان أوحى بهما الله لموسى وعيسى عليه السلام واللذان كانا موجودين في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مفقودان على ما شرحناه في التعليق على التوراة والإنجيل في سياق تفسير الآية ( ١٥٨ ) من سورة الأعراف. وأسفار العهد القديم التي يمكن أن يكون فيها شيء مما بلغه الله عز وجل لموسى عليه السلام أو بلغه موسى لبني إسرائيل قد دونت بعد موسى بمدة طويلة. وفيها متناقضات كثيرة تدل على طروء تحريف فضلا عن أنه ليس هناك أي دليل على أن فيها جميع ما بلغه الله عز وجل لموسى أو بلغه موسى لبني إسرائيل. والأناجيل المتداولة هي ترجمة حياة عيسى عليه السلام وليس هناك أي دليل على أن فيها جميع ما بلغه الله عز وجل لعيسى وبلغه عيسى لبني إسرائيل وغيرهم. ولقد جعل الله القرآن مهيمنا على الكتب السابقة المنسوبة إلى الله عز وجل. ومقتضى هذا من وجهة العقيدة الإسلامية أن كل ما ورد في القرآن مما لم يرد في الأسفار المتداولة اليوم من المبادئ والأسس هو الحق على ما شرحناه في سياق تفسير الآية ( ٤٨ ) من سورة المائدة.
ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية حديثا روى الشيخان صيغة متقاربة لأوله مع زيادة مهمة، فرأينا أن نورد صيغة الشيخين لما في الزيادة من روعة وتلقين وهذه هي :( تضمن الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا جهادا في سبيلي وإيمانا بي وتصديقا برسلي فهو علي ضامن أن أدخله الجنة أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلا ما نال من أجر أو غنيمة. والذي نفس محمد بيده ما من كلم يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة كهيئته حين كلم. لونه لون دم وريحه ريح مسك. والذي نفس محمد بيده لولا أن يشق على المسلمين ما قعدت خلاف سرية تغزو في سبيل الله أبدا. ولكني لا أجد سعة فأحملهم ولا يجدون سعة ويشق عليهم أن يتخلفوا عني. والذي نفس محمد بيده لوددت أني أغزو في سبيل الله فأقتل ثم أحيا ثم أغزو فأقتل ثم أحيا ثم أغزو فأقتل.............. ) ( ١ )٤.
هذا، ولقد رأينا المفسر يقف عند كلمة :﴿ السائحون ﴾ ويروي ما قاله بعض العلماء من أنها بمعنى السياحة في الأرض مطلقا وينقل عنهم ما ذكروه من فوائد السياحة المتنوعة ؛ حيث يبدو أنهم يرون في الكلمة إيعازا قرآنيا للمسلمين بالسياحة في الأرض واجتناء فوائدها. وشيء من هذا في تفسير رشيد رضا أيضا. ومع أن فيما قالوه من فوائد السياحة وكونها مستحسنة للمسلمين وجاهة، فإن في الاستدلال على ذلك من الكلمة في مقامها تكلفا. ولا سيما أنها تصف المؤمنين الذين اشترى الله منهم أنفسهم وأموالهم بالجنة إذا ما قاتلوا في سبيله بأوصاف تدخل في نطاق عبادة الله والإنابة إليه. ولم تكن السياحة بمعناها هذا قد تحققت في المسلمين المخاطبين الأولين في الآية. والله تعالى أعلم.
١ النص من ابن كثير جاء في سياق تفسير آيات الزخرف (١٢ – ١٤) وقال المفسر: إن الحديث رواه مسلم وأبو داود والترمذي..
٢ طبقات ابن سعد ج ٣ ص ١٢٢ – ١٢٣ و ٢١١..
٣ المصدر نفسه..
٤ التاج ج ص ٤ ٢٩١ – ٢٩٢..
( ١ ) السائحون : يروي المفسرون ( ١ )١، عن أهل التأويل قولين في معنى الكلمة. أحدهما : الذين يسيحون في الأرض للجهاد. وثانيهما : أنها بمعنى الصائمين. ويروون حديثين عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحدهما يؤيد القول الأول وثانيهما يؤيد القول الثاني. وقد جاء في أولهما :( سياحة أمتي الجهاد ). وجاء في ثانيهما :( سياحة هذه الأمة الصيام ) والحديثان لم يردا في كتب الأحاديث المعتبرة. وهناك قول ثالث يرويه القاسمي عن الرازي وأبي مسلم وبعض المحققين، وهو أنها بمعناها اللغوي المتبادر وهو السياحة في الأرض مطلقا. وسياق الكلام يسوغ ترجيح أحد المعنيين الأولين. والله أعلم.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١١١:﴿ إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( ١١١ ) التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ ( ١ ) الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ( ١١٢ ) ﴾ ( ١١١ – ١١٢ ).
عبارة الآيتين واضحة. وقد احتوتا بشرى ربانية للمؤمنين الذين يجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم وحثا على ذلك. وتعدادا لصفات المؤمنين المخلصين واستغراقهم في دين الله وواجباته على سبيل التنويه والتثبيت.

تعليق على الآية :

﴿ إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ..................... ﴾
والآية التالية لها وما فيهما من تلقين
روى الطبري أن الآية الأولى عند بيعة العقبة الكبرى التي بايع فيها وفد الأوس والخزرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبيل هجرته وهجرة أصحابه إلى المدينة ؛ حيث قال أحدهم عبد الله بن رواحة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم اشترط لربك ولنفسك فقال : أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا. وأشترط لنفسي أن تمنعوني ما تمنعون به أنفسكم فقالوا : وما لنا إذا فعلنا ذلك ؟ فقال : الجنة. فقالوا : ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل. فأنزل الله الآية.
ومع احتمال صحة المحاورة المروية عند بيعة العقبة فإن أسلوب الآية ومضمونها يسوغان الشك في صحة رواية نزولها في ظروف بيعة العقبة. بل إن الرواية نفسها تسوغ هذا الشك لأن كل ما طلبه النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الوفد هو المنع والحماية بينما الآية واسعة المدى في الجهاد. ولقد ذكرنا في سياق شرح قصة وقعة بدر في تفسير سورة الأنفال أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن يرى له على الأنصار إلا الدفاع والحماية فقط. ولذلك لم يقدم على الاشتباك مع قريش إلا بعد أن استشارهم وأظهروا استعدادهم للحرب مما فيه تأييد لذلك. ولقد ربط الطبري وغيره بين الآية الأولى والثانية وقالوا : إن الله قد بين في الثانية صفات المؤمنين الذين اشترى منهم أنفسهم ؛ حيث يفيد هذا أن الآيتين نزلتا معا. وهو ما لم تروه الرواية. والانسجام بين الآيتين تام يؤيد ذلك. فضلا عن أن ما في الآية الثانية من صفات لم يكن بعد متحققا في الذين بايعوا بيعة العقبة.
وبالإضافة إلى هذا فإننا نرى التناسب قائما بين الآيتين والسياق السابق بحيث يسوغ ترجيح نزولهما معه أو عقبه وأن تكونا قد جاءتا على سبيل التعقيب على السياق من جهة وخاتمة للسلسلة التي استدللنا من مضامينها أنها نزلت أثناء غزوة تبوك من جهة أخرى والتي دار أساسها وفصولها على التنديد بالمتخلفين عن الجهاد بأموالهم وأنفسهم أولا بالمخامرين المنافقين ثانيا، والتنويه بالمؤمنين المخلصين الذين يجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم ثالثا.
ولقد جاءت الآيتان بأسلوب قوي نافذ. وجمعت الثانية منهما بخاصة كل صفات المؤمن المخلص فكانتا ختاما رائعا لهذه السلسلة وللغزوة التي نزلت فيها والتي كانت آخر غزوات النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأعظمها عددا وعدة ومن أبعدها خطورة وأشدها شقة وأطولها مسافة وأمدا. وقد تلهم روحهما أنهما في صدد التنويه بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذين اشتركوا في غزوة تبوك أيضا.
ومع ذلك فإن إطلاق عبارتهما يجعلهما تقريرا عاما موجها إلى كل مسلم في كل ظرف ومكان ليستمد منهما إلهاما فياضا في الإقدام على الجهاد بماله ونفسه وتحمل التضحيات مهما عظمت في سبيل الله ويجد فيهما مقياسا للإخلاص الذي يستحق المتحقق به لرضاء الله ويجد فيهما جماع صفات الصلاح وأسباب الفوز والفلاح في الدنيا والآخرة التي يجب عليه أن يتحقق بها.
ويلفت النظر بخاصة إلى ما في الآية الأولى من مغزى عظيم ؛ حيث تتضمن تقرير أن المسلم المخلص بمجرد انتسابه للإسلام يكون قد باع نفسه لله ليجاهد في سبيله بماله ونفسه وكون الله قد اشترى ذلك بالجنة. ففي هذا ما فيه من قوة الحث على الجهاد والدعوة إليه. وقوة عنصر الاستجابة فيه واعتباره أقوى أركان الإسلام ودعائمه. وطبيعي أن هذا الجهاد يدور في نطاق المبادئ التي قررها القرآن وشرحناها في مناسبات عديدة سابقة.
ولقد روى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمر حديثا جاء فيه :( إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا رجع من سفر يقول آئبون تائبون إن شاء الله عابدون لربنا حامدون ) ( ١ )١.
وروى ابن سعد في طبقاته عن جابر بن عبد الله أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول حين رجوعه من غزوة عسفان أولى غزواته :( آئبون تائبون عابدون لربنا حامدون ) ( ١ )٢. وروى ابن سعد أيضا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حينما قرر العودة من غزوة الطائف بعد وقعة حنين قال للمسلمين :( قولوا لا إله إلا الله وحده صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده. فلما ارتحلوا قال : قولوا آئبون تائبون عابدون لربنا حامدون ) ( ٢ )٣.
والفرق بين ما جاء في هذه الأحاديث والآية هو : أن الصيغة في الأحاديث إعلان من النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين بالتوبة والإنابة إلى الله وحمده. في حين أن صيغة الآية أشمل وأوسع. وفيها تثبيت للصفات العظيمة التي تتحقق في المؤمنين من إنابة إلى الله وتوبة وجهاد وعبادة وسجود وركوع وسياحة وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر وحفظ لحدود الله حينما يوفون ما أوجبه عليهم تعاقدهم على شراء الله منهم أنفسهم وأموالهم بالجنة من قتال في سبيله. وتنويها بهم وتبشيرا لهم ؛ حيث تكون حكمة التنزيل شاءت أن توحي قرآنا بصيغة أوسع وأشمل لما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يهتف به ويأمر المسلمين بالهتاف به كلما عاد وعادوا معه من سفر وجهاد في أعقاب غزوة تبوك آخر غزوات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأعظمها عدد جيوش وبعد مدى وأهداف ومشقة.
وهذا لا ينقض ما قلناه استئناسا بإطلاق العبارة القرآنية من شمول مدى الآية لكل مسلم حينما يقوم بواجبه من القتال في سبيل الله نتيجة لتعاقده مع الله ببيع نفسه وماله بالجنة.
وفي صدد جملة :﴿ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ ﴾ نقول : إن القرآن احتوى آيات عديدة فيها دعوة للجهاد بالمال والنفس وحث عليه ووعد رباني بالنصر والجنة للمجاهدين. ومن آخرها الآيات :( ٨٨ – ٨٩ ) من هذه السورة وإذا لم يكن في أسفار العهد القديم والعهد الجديد المتداولة اليوم بين أيدي اليهود والنصارى شيء صريح من ذلك فلا يعني هذا نفي ما جاء في الجملة القرآنية.
فالتوراة والإنجيل اللذان أوحى بهما الله لموسى وعيسى عليه السلام واللذان كانا موجودين في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مفقودان على ما شرحناه في التعليق على التوراة والإنجيل في سياق تفسير الآية ( ١٥٨ ) من سورة الأعراف. وأسفار العهد القديم التي يمكن أن يكون فيها شيء مما بلغه الله عز وجل لموسى عليه السلام أو بلغه موسى لبني إسرائيل قد دونت بعد موسى بمدة طويلة. وفيها متناقضات كثيرة تدل على طروء تحريف فضلا عن أنه ليس هناك أي دليل على أن فيها جميع ما بلغه الله عز وجل لموسى أو بلغه موسى لبني إسرائيل. والأناجيل المتداولة هي ترجمة حياة عيسى عليه السلام وليس هناك أي دليل على أن فيها جميع ما بلغه الله عز وجل لعيسى وبلغه عيسى لبني إسرائيل وغيرهم. ولقد جعل الله القرآن مهيمنا على الكتب السابقة المنسوبة إلى الله عز وجل. ومقتضى هذا من وجهة العقيدة الإسلامية أن كل ما ورد في القرآن مما لم يرد في الأسفار المتداولة اليوم من المبادئ والأسس هو الحق على ما شرحناه في سياق تفسير الآية ( ٤٨ ) من سورة المائدة.
ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية حديثا روى الشيخان صيغة متقاربة لأوله مع زيادة مهمة، فرأينا أن نورد صيغة الشيخين لما في الزيادة من روعة وتلقين وهذه هي :( تضمن الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا جهادا في سبيلي وإيمانا بي وتصديقا برسلي فهو علي ضامن أن أدخله الجنة أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلا ما نال من أجر أو غنيمة. والذي نفس محمد بيده ما من كلم يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة كهيئته حين كلم. لونه لون دم وريحه ريح مسك. والذي نفس محمد بيده لولا أن يشق على المسلمين ما قعدت خلاف سرية تغزو في سبيل الله أبدا. ولكني لا أجد سعة فأحملهم ولا يجدون سعة ويشق عليهم أن يتخلفوا عني. والذي نفس محمد بيده لوددت أني أغزو في سبيل الله فأقتل ثم أحيا ثم أغزو فأقتل ثم أحيا ثم أغزو فأقتل.............. ) ( ١ )٤.
هذا، ولقد رأينا المفسر يقف عند كلمة :﴿ السائحون ﴾ ويروي ما قاله بعض العلماء من أنها بمعنى السياحة في الأرض مطلقا وينقل عنهم ما ذكروه من فوائد السياحة المتنوعة ؛ حيث يبدو أنهم يرون في الكلمة إيعازا قرآنيا للمسلمين بالسياحة في الأرض واجتناء فوائدها. وشيء من هذا في تفسير رشيد رضا أيضا. ومع أن فيما قالوه من فوائد السياحة وكونها مستحسنة للمسلمين وجاهة، فإن في الاستدلال على ذلك من الكلمة في مقامها تكلفا. ولا سيما أنها تصف المؤمنين الذين اشترى الله منهم أنفسهم وأموالهم بالجنة إذا ما قاتلوا في سبيله بأوصاف تدخل في نطاق عبادة الله والإنابة إليه. ولم تكن السياحة بمعناها هذا قد تحققت في المسلمين المخاطبين الأولين في الآية. والله تعالى أعلم.
١ النص من ابن كثير جاء في سياق تفسير آيات الزخرف (١٢ – ١٤) وقال المفسر: إن الحديث رواه مسلم وأبو داود والترمذي..
٢ طبقات ابن سعد ج ٣ ص ١٢٢ – ١٢٣ و ٢١١..
٣ المصدر نفسه..
٤ التاج ج ص ٤ ٢٩١ – ٢٩٢..


١ انظر تفسير الطبري والبغوي..
﴿ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ( ١١٣ ) وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ ( ١ ) حَلِيمٌ ( ١١٤ ) وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( ١١٥ ) ﴾ ( ١١٣ – ١١٥ ).
تعليق على الآية :
﴿ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ.................. ﴾
والآيتين اللتين بعدها
وما فيها من تلقين وما روي في صددها من روايات
عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت الأولى والثانية منها تنبيها على أنه لا ينبغي للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين أن يستغفروا للمشركين الذين ماتوا على شركهم وغدت الجحيم مصيرا حتميا لهم في الآخرة. وبيانا بأن استغفار إبراهيم لأبيه لا يصح أن يكون مثالا مبررا لذلك ؛ لأنه إنما استغفر له بناء على وعد وعده به، وقبل أن يتيقن من عدائه لله فلما تيقن من ذلك تبرأ منه ؛ لأنه يخاف الله ولا يفعل ما لا ينبغي. أما الآية الثالثة فقد احتوت تنبيها بأن الله سبحانه اقتضت حكمته أن يبين للناس الذين هداهم بهداه الأعمال التي يجب عليهم أن يتقوها ويتجنبوها ولا يدعهم في عماية وضلال حتى يكونوا على بينة وهو العليم بكل شيء ومقتضيات الأمور.
لقد روى الطبري روايات عديدة في سياق نزول الآية. منها رواية أنها في صدد وعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعمه بالاستغفار له حينما حضرته الوفاة وأصر على دين آبائه بتحريض من زعماء قريش الكفار. وهذا الخبر ورد في حديث رواه الشيخان عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال :( لما حضرت أبا طالب الوفاة جاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فوجد عنده أبا جهل وعبد الله بن أبي أمية فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أشهد لك بها عند الله فقال أبو جهل وعبد الله : يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب. فلم يزل النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعرضها عليه ويعيد الاثنان عليه قولهما حتى كان آخر كلامه هو على ملة إبراهيم وأبى أن يقول لا إله إلا الله فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لأستغفرن لك ما لم أنه عنك فأنزل الله :﴿ ما كان للنبي ﴾ الآية ) ( ١ )١. ومنها أنه لما قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم على مكة من الفتح وقف على قبر أمه حتى سخنت عليه الشمس رجاء أن يؤذن له فيستغفر لها حتى نزلت :﴿ ما كان للنبي ﴾ الآية. وروى الطبري صيغة أخرى لهذا الخبر ولا يذكر أن الآية نزلت في هذا الموقف.
وقد روى هذا مسلم وأبو داود والنسائي أيضا عن أبي هريرة بهذه الصيغة :( زار النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبر أمه فبكى وأبكى من حوله فقال : استأذنت ربي في أن أستغفر لها فلم يؤذن لي واستأذنته في أن أزور قبرها، فأذن لي فزوروا القبور فإنها تذكر الموت ) ( ٢ )٢. ومن الروايات التي يرويها الطبري أن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قالوا له : يا نبي الله إن من آبائنا من كان يحسن الجوار ويصل الأرحام ويفك العاني ويوفي الذمم أفلا نستغفر لهم ؟ قال : بلى. والله لأستغفرن لأبي كما استغفر إبراهيم لأبيه فأنزل الله الآيتين الأوليين. فيهما نهي وبيان بسبب استغفار إبراهيم لأبيه وكفه عن ذلك. ومنها أن شخصا سمع آخر يستغفر لوالديه، وهما مشركان فقال له : أيستغفر الرجل لوالديه وهما مشركان ؟ فقال : أو لم يستغفر إبراهيم لأبيه ؟ فأتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فذكر له ذلك فنزلت الآيتان. وروى الطبري أن الذين استغفروا لآبائهم ظنوا أنهم اقترفوا إثما بعد نزول الآيتين فأنزل الله الآية الثالثة.
وروى البغوي رواية أخرى في صدد نزول الآية الثالثة، وهي أن قوما قدموا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأسلموا ولم تكن الخمر محرمة ولا القبلة مصروفة إلى الكعبة، ثم قدموا عليه بعد مدة فوجدوا الخمر محرمة والقبلة مصروفة إلى الكعبة فقال : يا رسول الله قد كنت على دين ونحن على غيره فنحن على ضلال فأنزل الله الآية الثالثة.
ويلحظ أن المناسبة بعيدة بين وفاة أبي طالب والآيات. وكذلك بينها وبين زيارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لقبر أمه. فضلا عن أن الآيات تشرك المؤمنين مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وليست قاصرة عليه. وهذا ما يجعلنا نتوقف في روايتي أبي طالب وأم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونزول الآيات في صددهما. وحديث أبي طالب الذي يرويه الشيخان عن سعيد بن المسيب : والذي فيه أن الآية نزلت في صدد ذلك هو قول شخص وليس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مباشرة. ولا يكون حجة قاطعة على أن الآية نزلت في صدد ذلك. والحديث الذي يذكر أن الآية نزلت في صدد استغفار النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأمه ليس من الصحاح. والحديث الصحيح الذي يرويه مسلم وأبو داود والنسائي في ذلك ليس فيه أن الآية نزلت في ذلك.
وقد تكون الرواية التي تذكر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لمن سأله عن صواب الاستغفار للآباء ذوي الأعمال الحسنة : بلى. ثم قال : لأستغفرن لأبي أيضا هي أكثر الروايات اتساقا مع نص الآيتين، وإن لم ترد في الصحاح ؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين معا اشتركوا فيها. وهذا يقال بالنسبة للرواية التي يرويها البغوي كمناسبة لنزول الآية الثالثة ؛ حيث ظن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والسائلون أنهم أثموا بالاستغفار لآبائهم بعد نزول الآيتين فنزلت الآية الثالثة بعدهما. والله تعالى أعلم.
ومع أن الآيات الثلاث تبدو كما قلنا فصلا جديدا، فإن وضعها بعد سلسلة الآيات التي نزلت عقب غزوة تبوك قد يسوغ القول : إن الحوادث التي نبهت ونهت عنها الآيات كانت بعد العودة من هذه الغزوة.
والمتبادر أن وصف إبراهيم عليه السلام بالأواه الحليم هدف إلى التنبيه على أنه لا يمكن أن يفعل شيئا لا يرضاه الله تعالى ؛ لأنه شديد الخوف منه وإن ما كان من وعده لأبيه قبل أن يصبح عداؤه لله يقينيا إنما جاء من رأفته وحمله وإشفاقه، ولكن ذلك لم يحل دون تبرئه منه حالما تيقن من ذلك العداء، وفي هذا تلقين جليل مستمر المدى كما هو ظاهر.
ولقد احتوت الآية الثالثة أساسا إيمانيا وتشريعا جليلا. وهو أن الله عز وجل لا يؤاخذ مسلما على عمل لم ينه عنه. وأن كل ما لم يؤمر المسلمون باجتنابه بنص قرآني أو نبوي صحيح مما ليس فيه منكر وإثم وفاحشة بينة هو مباح لهم. وهذا متسق مع ما قرره القرآن في مواضع عديدة وأساليب متنوعة نبهنا عليها في مناسبات سابقة. وهناك حديث يرويه الشيخان والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصح أن يورد كضابط عظيم في هذا الصدد ونصه :( ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم، فإنما أهلك الذين قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم ) ( ١ )٣.
وجملة :﴿ ما كان للنبي ﴾ قرينة قرآنية أخرى على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد يجتهد في أمر يكون غيره الأولى في غيب الله فينزل قرآن بالعتاب أو التنبيه أو النهي مع بيان ما هو الأولى. وهذا لا يتناقض مع العصمة الواجب الإيمان بها فيه لأن هذه العصمة هي في صدد تبليغ جميع ما أوحاه الله إليه وعدم مخالفته وعدم اقتراف أي إثم ومعصية على ما شرحناه في المناسبات السابقة.
١ التاج ج ٤ ص ١٢٠..
٢ التاج ج ١ ص ٣٤٥..
٣ التاج ج ١ ص ٣٧..
( ١ ) أواه : قيل إنها بمعنى الخاشع المتضرع إلى الله الموقن به. وقيل إنها بمعنى كثير التأوه والخوف من الله.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١١٣:﴿ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ( ١١٣ ) وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ ( ١ ) حَلِيمٌ ( ١١٤ ) وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( ١١٥ ) ﴾ ( ١١٣ – ١١٥ ).

تعليق على الآية :

﴿ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ.................. ﴾
والآيتين اللتين بعدها
وما فيها من تلقين وما روي في صددها من روايات
عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت الأولى والثانية منها تنبيها على أنه لا ينبغي للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين أن يستغفروا للمشركين الذين ماتوا على شركهم وغدت الجحيم مصيرا حتميا لهم في الآخرة. وبيانا بأن استغفار إبراهيم لأبيه لا يصح أن يكون مثالا مبررا لذلك ؛ لأنه إنما استغفر له بناء على وعد وعده به، وقبل أن يتيقن من عدائه لله فلما تيقن من ذلك تبرأ منه ؛ لأنه يخاف الله ولا يفعل ما لا ينبغي. أما الآية الثالثة فقد احتوت تنبيها بأن الله سبحانه اقتضت حكمته أن يبين للناس الذين هداهم بهداه الأعمال التي يجب عليهم أن يتقوها ويتجنبوها ولا يدعهم في عماية وضلال حتى يكونوا على بينة وهو العليم بكل شيء ومقتضيات الأمور.
لقد روى الطبري روايات عديدة في سياق نزول الآية. منها رواية أنها في صدد وعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعمه بالاستغفار له حينما حضرته الوفاة وأصر على دين آبائه بتحريض من زعماء قريش الكفار. وهذا الخبر ورد في حديث رواه الشيخان عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال :( لما حضرت أبا طالب الوفاة جاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فوجد عنده أبا جهل وعبد الله بن أبي أمية فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أشهد لك بها عند الله فقال أبو جهل وعبد الله : يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب. فلم يزل النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعرضها عليه ويعيد الاثنان عليه قولهما حتى كان آخر كلامه هو على ملة إبراهيم وأبى أن يقول لا إله إلا الله فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لأستغفرن لك ما لم أنه عنك فأنزل الله :﴿ ما كان للنبي ﴾ الآية ) ( ١ )١. ومنها أنه لما قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم على مكة من الفتح وقف على قبر أمه حتى سخنت عليه الشمس رجاء أن يؤذن له فيستغفر لها حتى نزلت :﴿ ما كان للنبي ﴾ الآية. وروى الطبري صيغة أخرى لهذا الخبر ولا يذكر أن الآية نزلت في هذا الموقف.
وقد روى هذا مسلم وأبو داود والنسائي أيضا عن أبي هريرة بهذه الصيغة :( زار النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبر أمه فبكى وأبكى من حوله فقال : استأذنت ربي في أن أستغفر لها فلم يؤذن لي واستأذنته في أن أزور قبرها، فأذن لي فزوروا القبور فإنها تذكر الموت ) ( ٢ )٢. ومن الروايات التي يرويها الطبري أن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قالوا له : يا نبي الله إن من آبائنا من كان يحسن الجوار ويصل الأرحام ويفك العاني ويوفي الذمم أفلا نستغفر لهم ؟ قال : بلى. والله لأستغفرن لأبي كما استغفر إبراهيم لأبيه فأنزل الله الآيتين الأوليين. فيهما نهي وبيان بسبب استغفار إبراهيم لأبيه وكفه عن ذلك. ومنها أن شخصا سمع آخر يستغفر لوالديه، وهما مشركان فقال له : أيستغفر الرجل لوالديه وهما مشركان ؟ فقال : أو لم يستغفر إبراهيم لأبيه ؟ فأتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فذكر له ذلك فنزلت الآيتان. وروى الطبري أن الذين استغفروا لآبائهم ظنوا أنهم اقترفوا إثما بعد نزول الآيتين فأنزل الله الآية الثالثة.
وروى البغوي رواية أخرى في صدد نزول الآية الثالثة، وهي أن قوما قدموا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأسلموا ولم تكن الخمر محرمة ولا القبلة مصروفة إلى الكعبة، ثم قدموا عليه بعد مدة فوجدوا الخمر محرمة والقبلة مصروفة إلى الكعبة فقال : يا رسول الله قد كنت على دين ونحن على غيره فنحن على ضلال فأنزل الله الآية الثالثة.
ويلحظ أن المناسبة بعيدة بين وفاة أبي طالب والآيات. وكذلك بينها وبين زيارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لقبر أمه. فضلا عن أن الآيات تشرك المؤمنين مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وليست قاصرة عليه. وهذا ما يجعلنا نتوقف في روايتي أبي طالب وأم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونزول الآيات في صددهما. وحديث أبي طالب الذي يرويه الشيخان عن سعيد بن المسيب : والذي فيه أن الآية نزلت في صدد ذلك هو قول شخص وليس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مباشرة. ولا يكون حجة قاطعة على أن الآية نزلت في صدد ذلك. والحديث الذي يذكر أن الآية نزلت في صدد استغفار النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأمه ليس من الصحاح. والحديث الصحيح الذي يرويه مسلم وأبو داود والنسائي في ذلك ليس فيه أن الآية نزلت في ذلك.
وقد تكون الرواية التي تذكر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لمن سأله عن صواب الاستغفار للآباء ذوي الأعمال الحسنة : بلى. ثم قال : لأستغفرن لأبي أيضا هي أكثر الروايات اتساقا مع نص الآيتين، وإن لم ترد في الصحاح ؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين معا اشتركوا فيها. وهذا يقال بالنسبة للرواية التي يرويها البغوي كمناسبة لنزول الآية الثالثة ؛ حيث ظن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والسائلون أنهم أثموا بالاستغفار لآبائهم بعد نزول الآيتين فنزلت الآية الثالثة بعدهما. والله تعالى أعلم.
ومع أن الآيات الثلاث تبدو كما قلنا فصلا جديدا، فإن وضعها بعد سلسلة الآيات التي نزلت عقب غزوة تبوك قد يسوغ القول : إن الحوادث التي نبهت ونهت عنها الآيات كانت بعد العودة من هذه الغزوة.
والمتبادر أن وصف إبراهيم عليه السلام بالأواه الحليم هدف إلى التنبيه على أنه لا يمكن أن يفعل شيئا لا يرضاه الله تعالى ؛ لأنه شديد الخوف منه وإن ما كان من وعده لأبيه قبل أن يصبح عداؤه لله يقينيا إنما جاء من رأفته وحمله وإشفاقه، ولكن ذلك لم يحل دون تبرئه منه حالما تيقن من ذلك العداء، وفي هذا تلقين جليل مستمر المدى كما هو ظاهر.
ولقد احتوت الآية الثالثة أساسا إيمانيا وتشريعا جليلا. وهو أن الله عز وجل لا يؤاخذ مسلما على عمل لم ينه عنه. وأن كل ما لم يؤمر المسلمون باجتنابه بنص قرآني أو نبوي صحيح مما ليس فيه منكر وإثم وفاحشة بينة هو مباح لهم. وهذا متسق مع ما قرره القرآن في مواضع عديدة وأساليب متنوعة نبهنا عليها في مناسبات سابقة. وهناك حديث يرويه الشيخان والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصح أن يورد كضابط عظيم في هذا الصدد ونصه :( ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم، فإنما أهلك الذين قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم ) ( ١ )٣.
وجملة :﴿ ما كان للنبي ﴾ قرينة قرآنية أخرى على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد يجتهد في أمر يكون غيره الأولى في غيب الله فينزل قرآن بالعتاب أو التنبيه أو النهي مع بيان ما هو الأولى. وهذا لا يتناقض مع العصمة الواجب الإيمان بها فيه لأن هذه العصمة هي في صدد تبليغ جميع ما أوحاه الله إليه وعدم مخالفته وعدم اقتراف أي إثم ومعصية على ما شرحناه في المناسبات السابقة.
١ التاج ج ٤ ص ١٢٠..
٢ التاج ج ١ ص ٣٤٥..
٣ التاج ج ١ ص ٣٧..

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١١٣:﴿ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ( ١١٣ ) وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ ( ١ ) حَلِيمٌ ( ١١٤ ) وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( ١١٥ ) ﴾ ( ١١٣ – ١١٥ ).

تعليق على الآية :

﴿ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ.................. ﴾
والآيتين اللتين بعدها
وما فيها من تلقين وما روي في صددها من روايات
عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت الأولى والثانية منها تنبيها على أنه لا ينبغي للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين أن يستغفروا للمشركين الذين ماتوا على شركهم وغدت الجحيم مصيرا حتميا لهم في الآخرة. وبيانا بأن استغفار إبراهيم لأبيه لا يصح أن يكون مثالا مبررا لذلك ؛ لأنه إنما استغفر له بناء على وعد وعده به، وقبل أن يتيقن من عدائه لله فلما تيقن من ذلك تبرأ منه ؛ لأنه يخاف الله ولا يفعل ما لا ينبغي. أما الآية الثالثة فقد احتوت تنبيها بأن الله سبحانه اقتضت حكمته أن يبين للناس الذين هداهم بهداه الأعمال التي يجب عليهم أن يتقوها ويتجنبوها ولا يدعهم في عماية وضلال حتى يكونوا على بينة وهو العليم بكل شيء ومقتضيات الأمور.
لقد روى الطبري روايات عديدة في سياق نزول الآية. منها رواية أنها في صدد وعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعمه بالاستغفار له حينما حضرته الوفاة وأصر على دين آبائه بتحريض من زعماء قريش الكفار. وهذا الخبر ورد في حديث رواه الشيخان عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال :( لما حضرت أبا طالب الوفاة جاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فوجد عنده أبا جهل وعبد الله بن أبي أمية فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أشهد لك بها عند الله فقال أبو جهل وعبد الله : يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب. فلم يزل النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعرضها عليه ويعيد الاثنان عليه قولهما حتى كان آخر كلامه هو على ملة إبراهيم وأبى أن يقول لا إله إلا الله فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لأستغفرن لك ما لم أنه عنك فأنزل الله :﴿ ما كان للنبي ﴾ الآية ) ( ١ )١. ومنها أنه لما قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم على مكة من الفتح وقف على قبر أمه حتى سخنت عليه الشمس رجاء أن يؤذن له فيستغفر لها حتى نزلت :﴿ ما كان للنبي ﴾ الآية. وروى الطبري صيغة أخرى لهذا الخبر ولا يذكر أن الآية نزلت في هذا الموقف.
وقد روى هذا مسلم وأبو داود والنسائي أيضا عن أبي هريرة بهذه الصيغة :( زار النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبر أمه فبكى وأبكى من حوله فقال : استأذنت ربي في أن أستغفر لها فلم يؤذن لي واستأذنته في أن أزور قبرها، فأذن لي فزوروا القبور فإنها تذكر الموت ) ( ٢ )٢. ومن الروايات التي يرويها الطبري أن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قالوا له : يا نبي الله إن من آبائنا من كان يحسن الجوار ويصل الأرحام ويفك العاني ويوفي الذمم أفلا نستغفر لهم ؟ قال : بلى. والله لأستغفرن لأبي كما استغفر إبراهيم لأبيه فأنزل الله الآيتين الأوليين. فيهما نهي وبيان بسبب استغفار إبراهيم لأبيه وكفه عن ذلك. ومنها أن شخصا سمع آخر يستغفر لوالديه، وهما مشركان فقال له : أيستغفر الرجل لوالديه وهما مشركان ؟ فقال : أو لم يستغفر إبراهيم لأبيه ؟ فأتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فذكر له ذلك فنزلت الآيتان. وروى الطبري أن الذين استغفروا لآبائهم ظنوا أنهم اقترفوا إثما بعد نزول الآيتين فأنزل الله الآية الثالثة.
وروى البغوي رواية أخرى في صدد نزول الآية الثالثة، وهي أن قوما قدموا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأسلموا ولم تكن الخمر محرمة ولا القبلة مصروفة إلى الكعبة، ثم قدموا عليه بعد مدة فوجدوا الخمر محرمة والقبلة مصروفة إلى الكعبة فقال : يا رسول الله قد كنت على دين ونحن على غيره فنحن على ضلال فأنزل الله الآية الثالثة.
ويلحظ أن المناسبة بعيدة بين وفاة أبي طالب والآيات. وكذلك بينها وبين زيارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لقبر أمه. فضلا عن أن الآيات تشرك المؤمنين مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وليست قاصرة عليه. وهذا ما يجعلنا نتوقف في روايتي أبي طالب وأم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونزول الآيات في صددهما. وحديث أبي طالب الذي يرويه الشيخان عن سعيد بن المسيب : والذي فيه أن الآية نزلت في صدد ذلك هو قول شخص وليس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مباشرة. ولا يكون حجة قاطعة على أن الآية نزلت في صدد ذلك. والحديث الذي يذكر أن الآية نزلت في صدد استغفار النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأمه ليس من الصحاح. والحديث الصحيح الذي يرويه مسلم وأبو داود والنسائي في ذلك ليس فيه أن الآية نزلت في ذلك.
وقد تكون الرواية التي تذكر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لمن سأله عن صواب الاستغفار للآباء ذوي الأعمال الحسنة : بلى. ثم قال : لأستغفرن لأبي أيضا هي أكثر الروايات اتساقا مع نص الآيتين، وإن لم ترد في الصحاح ؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين معا اشتركوا فيها. وهذا يقال بالنسبة للرواية التي يرويها البغوي كمناسبة لنزول الآية الثالثة ؛ حيث ظن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والسائلون أنهم أثموا بالاستغفار لآبائهم بعد نزول الآيتين فنزلت الآية الثالثة بعدهما. والله تعالى أعلم.
ومع أن الآيات الثلاث تبدو كما قلنا فصلا جديدا، فإن وضعها بعد سلسلة الآيات التي نزلت عقب غزوة تبوك قد يسوغ القول : إن الحوادث التي نبهت ونهت عنها الآيات كانت بعد العودة من هذه الغزوة.
والمتبادر أن وصف إبراهيم عليه السلام بالأواه الحليم هدف إلى التنبيه على أنه لا يمكن أن يفعل شيئا لا يرضاه الله تعالى ؛ لأنه شديد الخوف منه وإن ما كان من وعده لأبيه قبل أن يصبح عداؤه لله يقينيا إنما جاء من رأفته وحمله وإشفاقه، ولكن ذلك لم يحل دون تبرئه منه حالما تيقن من ذلك العداء، وفي هذا تلقين جليل مستمر المدى كما هو ظاهر.
ولقد احتوت الآية الثالثة أساسا إيمانيا وتشريعا جليلا. وهو أن الله عز وجل لا يؤاخذ مسلما على عمل لم ينه عنه. وأن كل ما لم يؤمر المسلمون باجتنابه بنص قرآني أو نبوي صحيح مما ليس فيه منكر وإثم وفاحشة بينة هو مباح لهم. وهذا متسق مع ما قرره القرآن في مواضع عديدة وأساليب متنوعة نبهنا عليها في مناسبات سابقة. وهناك حديث يرويه الشيخان والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصح أن يورد كضابط عظيم في هذا الصدد ونصه :( ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم، فإنما أهلك الذين قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم ) ( ١ )٣.
وجملة :﴿ ما كان للنبي ﴾ قرينة قرآنية أخرى على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد يجتهد في أمر يكون غيره الأولى في غيب الله فينزل قرآن بالعتاب أو التنبيه أو النهي مع بيان ما هو الأولى. وهذا لا يتناقض مع العصمة الواجب الإيمان بها فيه لأن هذه العصمة هي في صدد تبليغ جميع ما أوحاه الله إليه وعدم مخالفته وعدم اقتراف أي إثم ومعصية على ما شرحناه في المناسبات السابقة.
١ التاج ج ٤ ص ١٢٠..
٢ التاج ج ١ ص ٣٤٥..
٣ التاج ج ١ ص ٣٧..

﴿ إِنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ ( ١١٦ ) ﴾ ( ١١٦ ).
عبارة الآية واضحة. وقد أفردناه لأن من المحتمل أن تكون معقبة على الآيات السابقة فيكون معناها إيجاب عدم تعلق المسلمين بذوي قرباهم المشركين واستغفارهم لهم نتيجة لهذا التعلق ؛ لأنهم ليس لأحد منهم نصير ولا ولي غير الله.
ومن المحتمل أن تكون مقدمة وتمهيدا للآيات التالية لها التي قررت إعلان توبة الله على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين فيكون معناها أن الله وحده هو ناصرهم ووليهم. وعليهم أن يجعلوا اعتمادهم عليه وحده. وفيها على كل حال توكيد لما تكرر كثيرا في القرآن من إيذان الناس عامة والمؤمنين خاصة أن السماوات والأرض تلك لله وحده، وأنه ليس لأحد من دونه ولي ولا نصير فهو وحده المرتجى. وبه وحده يتحقق النصر ولا يصح لأحد أن يتعلق بغيره.
﴿ لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ( ١١٧ ) وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ ( ١ ) أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ( ١١٨ ) ﴾ ( ١١٧ – ١١٨ ).
في الآيتين :
( ١ ) تطمين رباني بتوبة الله تعالى ورضائه عن النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ظرف عسير شاق حتى كاد يزيغ بعضهم فيه ويتورطون في موقف لا يرضاه الله. فثبتهم وتاب عليهم ؛ لأنه رؤوف رحيم بهم.
( ٢ ) وتطمين رباني آخر بشمول توبة الله تعالى ورحمته أيضا للثلاثة المتخلفين عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذين استشعروا بخطئهم استشعارا جعل الأرض تضيق بهم على رحبها، بل وجعل أنفسهم تضيق عليهم فلجأوا إلى الله ليعفو عنهم ؛ لأنهم تيقنوا أن لا ملجأ لهم ولا مفر منه إلا إليه فتاب عليهم. وهو التواب الرحيم.
تعليق على الآية :
﴿ لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ................... ﴾
والآية التالية لها.
وما روي في صددهما من روايات
وما انطوى فيهما من صور وتلقين
الآيتان تبدوان فصلا جديدا مع اتصالهما بموضوع غزوة تبوك. وفحواهما يلهم أنهما نزلتا بعد عودة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين من تبوك وهو ما تفيده الروايات المروية في صددهما. والمتبادر أنهما نزلتا بعد الفصل السابق الذي رجحنا أنه نزل بعد العودة من تبوك فوضعتا بعده.
ولم يرو المفسرون حادثا معينا في صدد نزول الآية الأولى، وإنما رووا وصفا لظروف غزوة تبوك، وما كان فيها من شدة كادت قلوب فريق من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تزيغ منها على حد التعبير القرآني. والمتبادر أن توبة الله المعلنة في هذه الآية هي متصلة بذلك ( ١ )١. ووصف القرآن لها بيوم العسرة مؤيد لذلك ؛ حيث كانت عسرة من شدة الحر وعسرة من قلة الظهر والزاد والماء حتى كان الثلاثة والأربعة بل والعشرة منهم يتناوبون على بعير واحد. وحتى وصل العطش بهم أحيانا إلى نحر الإبل واعتصار كروشها. وحتى وصلت قلة الطعام مع بعضهم إلى الاكتفاء أحيانا بالتمرات القليلة في اليوم بل إلى المناوبة في لوك التمرة الواحدة. وقد برح ببعضهم التعب حتى كان بعضهم يتخلف عن الركب فيخبرون النبي صلى الله عليه وآله وسلم به فيقول : دعوه فإن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم، وإن يكن غير ذلك فقد أراحكم منه. وكان من المتخلفين ثم اللاحقين أبو ذر رضي الله عنه. وتخلف من المخلصين بضعة نفر أحدهم أبو خيثمة الأنصاري الذي ندم بعد رحيل الجيش والتحق به في خبر شائق يرويه ابن هشام ؛ حيث قال ( ١ )٢ : إنه جاء أهله في يوم حار فوجد زوجتيه في عريشين لهما في حائطه – بستانه – كل منهما قد رشت عريشها وبردت له فيه ماء وهيأت له فيه طعاما، فلما دخل قام على باب العريش فنظر إلى امرأتيه وما صنعتا له فقال : رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الضح – في الشمس – والريح والحر وأبو خيثمة في ظل بارد وطعام مهيأ وامرأة حسناء في ماله مقيم. ما هذا بالنصف. ثم قال : والله لا أدخل عريش واحدة منكما حتى ألحق برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فهيأ لي زادا ففعلتا ثم قدم ناضحه فارتحله، ثم خرج في طلب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى أدركه حين نزل تبوك. ولقي في طريقه واحدا مثله خرج للالتحاق برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو عمير بن وهب الجمحي فترافقا، حتى إذا دنوا من تبوك قال أبو خيثمة لعمير : إن لي ذنبا فلا عليك أن تتخلف عني حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبلك، ففعل حتى إذا دنا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال الناس : هذا راكب على الطريق مقبل فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( كن أبا خيثمة ) فقالوا : يا رسول الله هو والله أبو خيثمة فلما أناخ أقبل فسلم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأخبره فدعا له بخير. وقد أورد ابن هشام أبياتا منسوبة إليه جاء فيها :
لما رأيت الناس في الدين نافقوا أتيت التي كانت أعف وأكرما
وبايعت باليمنى يدي لمحمد فلم أكتسب إثما ولم أغش محرما
تركت خضيبا في العريش وصرمة صفايا كراما بسرها قد تحمما
وكنت إذا شك المنافق أسمحت إلى الدين نفسي شطره حيث يمما
ومما يلفت النظر اختصاص المهاجرين والأنصار بالذكر في الآية الأولى، في حين أن الروايات تذكر أن من القبائل البدوية من اشتراك في الحملة إلى جانبهم. ومما يؤيده ذكر حادث اعتذار بعض الأعراب ذوي القدرة والثروة في الآية ( ٩٠ ) وبعدها.
ويتبادر لنا أن هذا هو بسبب كون هذه الطبقة هي التي كانت العمود الحقيقي القوي الذي قامت عليه الدعوة والمجتمع الإسلامي في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعقب وفاته. والتي كانت تسارع إلى تأييد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والاستجابة إليه قلبا وقالبا في كل ظرف وبخاصة في الملمات فيقتدي بها سائر الناس. فالمتبادر أن حكمة التنزيل اختصتهم بالذكر استعظاما لما حكته الآية عن بعضهم :﴿ كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ﴾ لأنه لم يكن يصح أن يصدر مثل هذا من أي فرد من هذه الطبقة. أما ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم معهم وشموله بالتوبة، فقد روى بعض المفسرين عن ابن عباس وغيره أن ذلك إما بسبب موقف التساهل الذي وقفه من المستأذنين بالتخلف والإذن لهم مما حكته بعض الآيات وإما بقصد تشريف المهاجرين والأنصار وتطمينهم. وكلا القولين وجيه وإن كنا نرجح الثاني ؛ لأن موضوع الإذن قد ذكر في آية بأسلوب تحببي عتابي مع ذكر عفو الله عنه وهي الآية ( ٤٣ ) فلم يبق محل لتوبة أخرى والله أعلم.
أما الآية الثانية فهي في حق ثلاثة من المخلصين تكاسلوا وتخلفوا في المدينة بدون عذر، وقد روى المفسرون خبرهم، وقد روى خبرهم الشيخان والترمذي في سياق تفسير الآية في حديث طويل عن كعب بن مالك أحد الثلاثة رأينا إيراده لما فيه من فوائد وصور رائعة عن أخلاق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ( ١ )٣. قال :( لم أتخلف عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في غزوة غزاها قط إلا في غزوة تبوك. غير أني قد تخلفت في غزوة بدر ولم يعاتب النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحدا تخلف عنه إنما خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون يريدون عير قريش حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد. ولقد شهدت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام، وما أحب أن لي بها مشهد بدر، وإن كانت بدر أذكر في الناس منها. وكان من خبري حين تخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في غزوة تبوك أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزوة. والله ما جمعت قبلها راحلتين قط حتى جمعتهما في تلك الغزوة فغزاها النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حر شديد واستقبل سفرا بعيدا ومفازا، واستقبل عددا كثيرا فجلا للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة غزوهم فأخبرهم بوجههم الذي يريد والمسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كثير ولا يجمعهم كتاب حافظ. فقلَّ يريد أن يتغيب يظن أن ذلك سيخفى ما لم ينزل فيه وحي من الله. وكانت تلك الغزوة حين طابت الثمار والظلال فأنا إليها أصعر. فتجهز النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون معه وطفقت أغدو لكي أتجهز معهم فأرجع ولم أقض شيئا فأقول في نفسي : أنا قادر على ذلك إذا أردت فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى استمر بالناس الجد فأصبح النبي صلى الله عليه وآله وسلم غاديا والمسلمون معه. ولم أقض من جهازي شيئا ثم غدوت فرجعت ولم أقض شيئا فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو، فهممت أن أرتحل فأدركهم، ويا ليتني فعلت، ثم لم يقدر ذلك لي فطفقت إذا خرجت في الناس بعد خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحزنني أني لا أرى لي أسوة إلا رجلا مغموصا عليه في النفاق أو رجلا ممن عذر الله من الضعفاء ولم يذكرني النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى بلغ تبوك فقال وهو جالس في القوم : ما فعل كعب بن مالك ؟ فقال رجل من بني سلمة : يا رسول الله حبسه براده والنظر في عطفيه. فقال له معاذ بن جبل : بئس ما قلت، والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيرا. فسكت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فبينما هو على ذلك رأى رجلا مبيضا يزول به السراب فقال صلى الله عليه وآله وسلم : كن أبا خيثمة فإذا هو أبو خيثمة الأنصاري الذي تصدق بصاع التمر حين لمزه المنافقون. فلما بلغني أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد توجه قافلا من تبوك حضرني بثي، فطفقت أتذكر الكذب وأقول بم أخرج من سخطه غدا، وأستعين على ذلك كل ذي رأي من أهلي. فلما قيل لي : إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد أظل قادما زاح عني الباطل، حتى عرفت أني لن أنجو منه بشيء أبدا، فأجمعت صدقه، وصبح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قادما، وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين ثم جلس للناس فجاء المخلفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له وكانوا بضعة وثمانين رجلا فقبل منهم علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم ووكل سرائرهم إلى الله حتى جئت، فلما سلمت تبسم تبسم المغضب ثم قال : تعال فجئت أمشي حتى جلست بين يديه. فقال لي : ما خلفك. ألم تكن قد ابتعت ظهرك ؟ فقلت : يا رسول الله إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر، ولقد أعطيت جدلا. ولكني الله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله أن يسخطك علي. ولئن حدثتك حديث صدق تجد علي فيه إني لأرجو فيه عقبى الله. والله ما كان لي عذر، والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك. فقمت وثار رجال من بني سلمة فاتبعوني فقالوا : والله ما علمناك أذنبت ذنبا قبل هذا. لقد عجزت في أن لا تكون اعتذرت إلى النبي بما اعتذر به إليه المخلفون، فقد كان كافيك ذنبك استغفارا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لك قال : فوالله ما زالوا يؤنبونني حتى أردت أن أرجع إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأكذب نفسي ثم قلت لهم : هل لقي هذا معي من أحد. قالوا : نعم لقيه معك رجلان قالا مثل ما قلت، فقيل لهما مثل قيل لك، قلت : من هما قالوا : مرارة بن الربيع العامري وهلال بن أمية الواقفي فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدرا فيهما أسوة، فمضيت حين ذكروهما لي. ونهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين عن كلامنا : أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا حتى تنكرت لي نفسي في الأرض فما هي بالأرض التي أعرف فلبثنا على ذلك خمسين ليلة. فأما صاحباي فاستكنا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم فكنت أخرج فأشهد الصلاة وأطوف في الأسو
١ انظر تفسير الآيات في الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي..
٢ انظر ابن هشام ج ٤ ص ١٧٤ – ١٨٦..
٣ التاج ج ٤ ص ١٢٢ – ١٢٨..
( ١ ) وظنوا : الراجح أن الكلمة هنا بمعنى تيقنوا ؛ لأن الظن من الأضداد أحيانا، تعني الشك وتعني اليقين. وفي القرآن أمثلة من هذا الباب مثل ما جاء في آية سورة يوسف ( ١٠٩ ) وآية سورة الكهف ( ٥٤ ).
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١١٧:﴿ لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ( ١١٧ ) وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ ( ١ ) أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ( ١١٨ ) ﴾ ( ١١٧ – ١١٨ ).

في الآيتين :

( ١ ) تطمين رباني بتوبة الله تعالى ورضائه عن النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ظرف عسير شاق حتى كاد يزيغ بعضهم فيه ويتورطون في موقف لا يرضاه الله. فثبتهم وتاب عليهم ؛ لأنه رؤوف رحيم بهم.
( ٢ ) وتطمين رباني آخر بشمول توبة الله تعالى ورحمته أيضا للثلاثة المتخلفين عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذين استشعروا بخطئهم استشعارا جعل الأرض تضيق بهم على رحبها، بل وجعل أنفسهم تضيق عليهم فلجأوا إلى الله ليعفو عنهم ؛ لأنهم تيقنوا أن لا ملجأ لهم ولا مفر منه إلا إليه فتاب عليهم. وهو التواب الرحيم.

تعليق على الآية :

﴿ لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ................... ﴾
والآية التالية لها.
وما روي في صددهما من روايات
وما انطوى فيهما من صور وتلقين
الآيتان تبدوان فصلا جديدا مع اتصالهما بموضوع غزوة تبوك. وفحواهما يلهم أنهما نزلتا بعد عودة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين من تبوك وهو ما تفيده الروايات المروية في صددهما. والمتبادر أنهما نزلتا بعد الفصل السابق الذي رجحنا أنه نزل بعد العودة من تبوك فوضعتا بعده.
ولم يرو المفسرون حادثا معينا في صدد نزول الآية الأولى، وإنما رووا وصفا لظروف غزوة تبوك، وما كان فيها من شدة كادت قلوب فريق من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تزيغ منها على حد التعبير القرآني. والمتبادر أن توبة الله المعلنة في هذه الآية هي متصلة بذلك ( ١ )١. ووصف القرآن لها بيوم العسرة مؤيد لذلك ؛ حيث كانت عسرة من شدة الحر وعسرة من قلة الظهر والزاد والماء حتى كان الثلاثة والأربعة بل والعشرة منهم يتناوبون على بعير واحد. وحتى وصل العطش بهم أحيانا إلى نحر الإبل واعتصار كروشها. وحتى وصلت قلة الطعام مع بعضهم إلى الاكتفاء أحيانا بالتمرات القليلة في اليوم بل إلى المناوبة في لوك التمرة الواحدة. وقد برح ببعضهم التعب حتى كان بعضهم يتخلف عن الركب فيخبرون النبي صلى الله عليه وآله وسلم به فيقول : دعوه فإن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم، وإن يكن غير ذلك فقد أراحكم منه. وكان من المتخلفين ثم اللاحقين أبو ذر رضي الله عنه. وتخلف من المخلصين بضعة نفر أحدهم أبو خيثمة الأنصاري الذي ندم بعد رحيل الجيش والتحق به في خبر شائق يرويه ابن هشام ؛ حيث قال ( ١ )٢ : إنه جاء أهله في يوم حار فوجد زوجتيه في عريشين لهما في حائطه – بستانه – كل منهما قد رشت عريشها وبردت له فيه ماء وهيأت له فيه طعاما، فلما دخل قام على باب العريش فنظر إلى امرأتيه وما صنعتا له فقال : رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الضح – في الشمس – والريح والحر وأبو خيثمة في ظل بارد وطعام مهيأ وامرأة حسناء في ماله مقيم. ما هذا بالنصف. ثم قال : والله لا أدخل عريش واحدة منكما حتى ألحق برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فهيأ لي زادا ففعلتا ثم قدم ناضحه فارتحله، ثم خرج في طلب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى أدركه حين نزل تبوك. ولقي في طريقه واحدا مثله خرج للالتحاق برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو عمير بن وهب الجمحي فترافقا، حتى إذا دنوا من تبوك قال أبو خيثمة لعمير : إن لي ذنبا فلا عليك أن تتخلف عني حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبلك، ففعل حتى إذا دنا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال الناس : هذا راكب على الطريق مقبل فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( كن أبا خيثمة ) فقالوا : يا رسول الله هو والله أبو خيثمة فلما أناخ أقبل فسلم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأخبره فدعا له بخير. وقد أورد ابن هشام أبياتا منسوبة إليه جاء فيها :
لما رأيت الناس في الدين نافقوا أتيت التي كانت أعف وأكرما
وبايعت باليمنى يدي لمحمد فلم أكتسب إثما ولم أغش محرما
تركت خضيبا في العريش وصرمة صفايا كراما بسرها قد تحمما
وكنت إذا شك المنافق أسمحت إلى الدين نفسي شطره حيث يمما
ومما يلفت النظر اختصاص المهاجرين والأنصار بالذكر في الآية الأولى، في حين أن الروايات تذكر أن من القبائل البدوية من اشتراك في الحملة إلى جانبهم. ومما يؤيده ذكر حادث اعتذار بعض الأعراب ذوي القدرة والثروة في الآية ( ٩٠ ) وبعدها.
ويتبادر لنا أن هذا هو بسبب كون هذه الطبقة هي التي كانت العمود الحقيقي القوي الذي قامت عليه الدعوة والمجتمع الإسلامي في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعقب وفاته. والتي كانت تسارع إلى تأييد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والاستجابة إليه قلبا وقالبا في كل ظرف وبخاصة في الملمات فيقتدي بها سائر الناس. فالمتبادر أن حكمة التنزيل اختصتهم بالذكر استعظاما لما حكته الآية عن بعضهم :﴿ كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ﴾ لأنه لم يكن يصح أن يصدر مثل هذا من أي فرد من هذه الطبقة. أما ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم معهم وشموله بالتوبة، فقد روى بعض المفسرين عن ابن عباس وغيره أن ذلك إما بسبب موقف التساهل الذي وقفه من المستأذنين بالتخلف والإذن لهم مما حكته بعض الآيات وإما بقصد تشريف المهاجرين والأنصار وتطمينهم. وكلا القولين وجيه وإن كنا نرجح الثاني ؛ لأن موضوع الإذن قد ذكر في آية بأسلوب تحببي عتابي مع ذكر عفو الله عنه وهي الآية ( ٤٣ ) فلم يبق محل لتوبة أخرى والله أعلم.
أما الآية الثانية فهي في حق ثلاثة من المخلصين تكاسلوا وتخلفوا في المدينة بدون عذر، وقد روى المفسرون خبرهم، وقد روى خبرهم الشيخان والترمذي في سياق تفسير الآية في حديث طويل عن كعب بن مالك أحد الثلاثة رأينا إيراده لما فيه من فوائد وصور رائعة عن أخلاق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ( ١ )٣. قال :( لم أتخلف عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في غزوة غزاها قط إلا في غزوة تبوك. غير أني قد تخلفت في غزوة بدر ولم يعاتب النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحدا تخلف عنه إنما خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون يريدون عير قريش حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد. ولقد شهدت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام، وما أحب أن لي بها مشهد بدر، وإن كانت بدر أذكر في الناس منها. وكان من خبري حين تخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في غزوة تبوك أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزوة. والله ما جمعت قبلها راحلتين قط حتى جمعتهما في تلك الغزوة فغزاها النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حر شديد واستقبل سفرا بعيدا ومفازا، واستقبل عددا كثيرا فجلا للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة غزوهم فأخبرهم بوجههم الذي يريد والمسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كثير ولا يجمعهم كتاب حافظ. فقلَّ يريد أن يتغيب يظن أن ذلك سيخفى ما لم ينزل فيه وحي من الله. وكانت تلك الغزوة حين طابت الثمار والظلال فأنا إليها أصعر. فتجهز النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون معه وطفقت أغدو لكي أتجهز معهم فأرجع ولم أقض شيئا فأقول في نفسي : أنا قادر على ذلك إذا أردت فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى استمر بالناس الجد فأصبح النبي صلى الله عليه وآله وسلم غاديا والمسلمون معه. ولم أقض من جهازي شيئا ثم غدوت فرجعت ولم أقض شيئا فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو، فهممت أن أرتحل فأدركهم، ويا ليتني فعلت، ثم لم يقدر ذلك لي فطفقت إذا خرجت في الناس بعد خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحزنني أني لا أرى لي أسوة إلا رجلا مغموصا عليه في النفاق أو رجلا ممن عذر الله من الضعفاء ولم يذكرني النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى بلغ تبوك فقال وهو جالس في القوم : ما فعل كعب بن مالك ؟ فقال رجل من بني سلمة : يا رسول الله حبسه براده والنظر في عطفيه. فقال له معاذ بن جبل : بئس ما قلت، والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيرا. فسكت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فبينما هو على ذلك رأى رجلا مبيضا يزول به السراب فقال صلى الله عليه وآله وسلم : كن أبا خيثمة فإذا هو أبو خيثمة الأنصاري الذي تصدق بصاع التمر حين لمزه المنافقون. فلما بلغني أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد توجه قافلا من تبوك حضرني بثي، فطفقت أتذكر الكذب وأقول بم أخرج من سخطه غدا، وأستعين على ذلك كل ذي رأي من أهلي. فلما قيل لي : إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد أظل قادما زاح عني الباطل، حتى عرفت أني لن أنجو منه بشيء أبدا، فأجمعت صدقه، وصبح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قادما، وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين ثم جلس للناس فجاء المخلفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له وكانوا بضعة وثمانين رجلا فقبل منهم علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم ووكل سرائرهم إلى الله حتى جئت، فلما سلمت تبسم تبسم المغضب ثم قال : تعال فجئت أمشي حتى جلست بين يديه. فقال لي : ما خلفك. ألم تكن قد ابتعت ظهرك ؟ فقلت : يا رسول الله إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر، ولقد أعطيت جدلا. ولكني الله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله أن يسخطك علي. ولئن حدثتك حديث صدق تجد علي فيه إني لأرجو فيه عقبى الله. والله ما كان لي عذر، والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك. فقمت وثار رجال من بني سلمة فاتبعوني فقالوا : والله ما علمناك أذنبت ذنبا قبل هذا. لقد عجزت في أن لا تكون اعتذرت إلى النبي بما اعتذر به إليه المخلفون، فقد كان كافيك ذنبك استغفارا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لك قال : فوالله ما زالوا يؤنبونني حتى أردت أن أرجع إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأكذب نفسي ثم قلت لهم : هل لقي هذا معي من أحد. قالوا : نعم لقيه معك رجلان قالا مثل ما قلت، فقيل لهما مثل قيل لك، قلت : من هما قالوا : مرارة بن الربيع العامري وهلال بن أمية الواقفي فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدرا فيهما أسوة، فمضيت حين ذكروهما لي. ونهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين عن كلامنا : أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا حتى تنكرت لي نفسي في الأرض فما هي بالأرض التي أعرف فلبثنا على ذلك خمسين ليلة. فأما صاحباي فاستكنا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم فكنت أخرج فأشهد الصلاة وأطوف في الأسو
١ انظر تفسير الآيات في الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي..
٢ انظر ابن هشام ج ٤ ص ١٧٤ – ١٨٦..
٣ التاج ج ٤ ص ١٢٢ – ١٢٨..

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ ( ١١٩ ) ﴾ ( ١١٩ ).
تعليق على الآية :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ ( ١١٩ ) ﴾
وما فيها من تلقين
عبارة الآية واضحة. ولم نطلع على رواية خاصة في سبب نزولها. وقد روى المفسرون عن أهل التأويل مثل نافع والضحاك وسعيد بن جبير أن المقصود بالصادقين في الآية هم الذين صدقوا في الاعتراف بذنبهم ولم يعتذروا بأعذار كاذبة ممن تخلفوا عن غزوة تبوك. كما رووا أنهم محمد وأصحابه الخلص وأبو بكر وعمر وأمثالهما. ونرى القول الثاني هو الأوجه وهو مستلهم من فحوى الآية. فالخطاب فيها موجه للمؤمنين على سبيل حثهم على مراقبة الله وتقواه وعلى أن يكونوا مع السابقين الأولين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذين كانوا صادقين في القول والعمل والجهاد والطاعة لله ورسوله. وهذا يسوغ القول : إن الآية جاءت معقبة على الآيتين السابقتين اللتين أشير فيهما إلى ما كان من تخلف بعض المخلصين وإلى ما كاد أن يقع فيه بعض الأنصار والمهاجرين من زيغان القلب بسبب عسرة ظروف غزوة تبوك لتهيب في هذه المناسبة بجمهور المؤمنين بتقوى الله والاقتداء بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم السابقين الصادقين ويسلكوا مسلكهم. وتسوغ القول أيضا بأن هذه الطبقة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يكونوا من المعنيين بجملة :﴿ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ﴾ في الآية ( ١١٧ ).
وإطلاق الخطاب في الآية يجعلها مستمرة التلقين بوجوب اتخاذ المخلصين في الإيمان والجهاد والإقدام والتضحية والصدق في القول والعمل قدوة وأسوة وإماما في كل ظرف ومكان.
ولقد روى الطبري والبغوي : أن ابن مسعود رضي الله عنه كان يقرأها ( كونوا من الصادقين ) ويقول :( إن الكذب لا يصلح في جد ولا هزل ولا أن يعد أحدكم صبيه شيئا ثم لا ينجزه له، اقرأوا، إن شئتم :( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا من الصادقين ) ومع ما في هذا من وجاهة وتلقين فإن الجمهور على أن المعني بالصادقين هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم السابقون.
﴿ مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ( ١٢٠ ) وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( ١٢١ ) ﴾ ( ١٢٠ – ١٢١ ).
عبارة الآيتين واضحة وما فيهما :
( ١ ) تنبيه إلى أنه ما كان يصح ولا ينبغي لأحد من أهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حينما يخرج إلى الجهاد. ولا أن يفضلوا أنفسهم عن نفسه ويضنوا بها عن التعرض لما يمكن أن يتعرض له من الأخطار والمشاق.
( ٢ ) وتنبيه آخر فيه بشرى بما للذين يشتركون في حملات الجهاد في سبيل الله من عظيم الأجر والمنزلة مهما كان نصيبهم فيها : فإنهم لا يصيبهم في هذا السبيل ظمأ ولا نصب ولا جوع ولا يقفون موقفا يغيظ الكفار ولو لم يقع الحرب بينهم. ولا ينالون من أعدائهم نيلا ما ولا ينالهم من عدوهم نيل ما. ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة. ولا يقطعون واديا أو يسيرون مسيرة إلا كتب الله لهم به عملا صالحا وجازاهم عليه بما هو أحسن منه. ولا يضيع عند الله أجر المحسنين قط.
تعليق على الآية :
﴿ مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللّهِ............................ ﴾
والآية التالية لها وما فيها من تلقين
لم نطلع على رواية خاصة في سبب نزول الآيتين كذلك. والمتبادر أنهما معقبتان أيضا على الآيات السابقة وعلى سبيل الحث والتنبيه والتحذير بمناسبة ما ورد في الآيات السابقة من خبر تخلف المتخلفين واعتذار المعتذرين من أهل المدينة والأعراب. وهما والحالة هذه متصلتان بالسياق. والراجح أنهما نزلتا بعد الآيات السابقة لهما فوضعتا مكانهما للتناسب الزمني والموضوعي.
وقد قلنا في شرح الفقرة الأولى من الآية الأولى : ما كان ينبغي لأحد من أهل المدينة ومن حولها من الأعراب أنها في معنى : أنه ما كان يصح ولا ينبغي لأحد ما أن يتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين يدعو إلى الجهاد أو أن يفضل لنفسه العافية دونه ؛ لأن روح الفقرة قصدت ذلك كما يتبادر منها، ولأن الوقائع اليقينية ذكرت أن الجمهور الأعظم من أهل المدينة وكثيرا من أعرابها لم يتخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
واختصاص أهل المدينة ومن حولها من الأعراب بالذكر قد يكون هدف إلى التنبيه على أن واجب هؤلاء في عدم التخلف هو ألزم وأشد ؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين ظهرانيهم، ولأنه إذا كان للبعيدين ما يمكن أن يكون عذر ما يسبب بعدهم وغيابهم وظروفهم فهذا ليس واردا بالنسبة للقريبين إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم المتصلين به مباشرة. ولا سيما أن الدعوة تصل إليهم بيسر. ويفرض أن يكونوا ملمين بالظروف والبواعث. والنبي صلى الله عليه وآله وسلم عمود الدعوة والقريبون إليه هم أولى الناس بالالتفاف حوله. وهذا الاختصاص بهذا البيان لا يعني كما هو المتبادر تخفيف واجب المسلمين البعيدين.
ومع خصوصية الآيتين الزمنية فإنها فيما عدا ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، محكمة الأمر عامة التوجيه مستمرة التلقين فيما هو المتبادر. فجمهور المسلمين مدعو إلى التضامن مع أولياء أمره ودعاته المخلصين في الجهاد في سبيل الله في كل مناسبة ملزمة. وواجب القريبين لمجالات الجهاد وظروفه وأسبابه واجب ألزم لا يصح فيه تكاسل ولا تثاقل. وكل ما يقوم به المسلمون في سبيل هذا الواجب مهما كان شأنه بدنيا أو ماليا أو استعدادا أو مرابطة هو داخل في مشمول هذا الواجب ومستحق لأجر الله الموعود.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٢٠:﴿ مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ( ١٢٠ ) وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( ١٢١ ) ﴾ ( ١٢٠ – ١٢١ ).

عبارة الآيتين واضحة وما فيهما :

( ١ ) تنبيه إلى أنه ما كان يصح ولا ينبغي لأحد من أهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حينما يخرج إلى الجهاد. ولا أن يفضلوا أنفسهم عن نفسه ويضنوا بها عن التعرض لما يمكن أن يتعرض له من الأخطار والمشاق.
( ٢ ) وتنبيه آخر فيه بشرى بما للذين يشتركون في حملات الجهاد في سبيل الله من عظيم الأجر والمنزلة مهما كان نصيبهم فيها : فإنهم لا يصيبهم في هذا السبيل ظمأ ولا نصب ولا جوع ولا يقفون موقفا يغيظ الكفار ولو لم يقع الحرب بينهم. ولا ينالون من أعدائهم نيلا ما ولا ينالهم من عدوهم نيل ما. ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة. ولا يقطعون واديا أو يسيرون مسيرة إلا كتب الله لهم به عملا صالحا وجازاهم عليه بما هو أحسن منه. ولا يضيع عند الله أجر المحسنين قط.

تعليق على الآية :

﴿ مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللّهِ............................ ﴾
والآية التالية لها وما فيها من تلقين
لم نطلع على رواية خاصة في سبب نزول الآيتين كذلك. والمتبادر أنهما معقبتان أيضا على الآيات السابقة وعلى سبيل الحث والتنبيه والتحذير بمناسبة ما ورد في الآيات السابقة من خبر تخلف المتخلفين واعتذار المعتذرين من أهل المدينة والأعراب. وهما والحالة هذه متصلتان بالسياق. والراجح أنهما نزلتا بعد الآيات السابقة لهما فوضعتا مكانهما للتناسب الزمني والموضوعي.
وقد قلنا في شرح الفقرة الأولى من الآية الأولى : ما كان ينبغي لأحد من أهل المدينة ومن حولها من الأعراب أنها في معنى : أنه ما كان يصح ولا ينبغي لأحد ما أن يتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين يدعو إلى الجهاد أو أن يفضل لنفسه العافية دونه ؛ لأن روح الفقرة قصدت ذلك كما يتبادر منها، ولأن الوقائع اليقينية ذكرت أن الجمهور الأعظم من أهل المدينة وكثيرا من أعرابها لم يتخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
واختصاص أهل المدينة ومن حولها من الأعراب بالذكر قد يكون هدف إلى التنبيه على أن واجب هؤلاء في عدم التخلف هو ألزم وأشد ؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين ظهرانيهم، ولأنه إذا كان للبعيدين ما يمكن أن يكون عذر ما يسبب بعدهم وغيابهم وظروفهم فهذا ليس واردا بالنسبة للقريبين إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم المتصلين به مباشرة. ولا سيما أن الدعوة تصل إليهم بيسر. ويفرض أن يكونوا ملمين بالظروف والبواعث. والنبي صلى الله عليه وآله وسلم عمود الدعوة والقريبون إليه هم أولى الناس بالالتفاف حوله. وهذا الاختصاص بهذا البيان لا يعني كما هو المتبادر تخفيف واجب المسلمين البعيدين.
ومع خصوصية الآيتين الزمنية فإنها فيما عدا ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، محكمة الأمر عامة التوجيه مستمرة التلقين فيما هو المتبادر. فجمهور المسلمين مدعو إلى التضامن مع أولياء أمره ودعاته المخلصين في الجهاد في سبيل الله في كل مناسبة ملزمة. وواجب القريبين لمجالات الجهاد وظروفه وأسبابه واجب ألزم لا يصح فيه تكاسل ولا تثاقل. وكل ما يقوم به المسلمون في سبيل هذا الواجب مهما كان شأنه بدنيا أو ماليا أو استعدادا أو مرابطة هو داخل في مشمول هذا الواجب ومستحق لأجر الله الموعود.

﴿ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ ( ١ ) نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ ( ٢ ) لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ( ١٢٢ ) ﴾ ( ١٢٢ ).
( ١ ) فلولا : هنا في معنى الحض أو الاستدراك.
( ٢ ) طائفة : هنا بمعنى جماعة قليلة من جماعة أكثر.
في الآية :
تقرير تنبيهي بأنه ليس من الضروري أن ينفر جميع المؤمنين إلى الجهاد، وأنه يكفي أن ينفر من كل فريق منهم قسم، وأن من شأن ذلك أن يتيح لبعضهم التفقه في الدين وإنذار قومهم حينما يعودون إليهم حتى يحذروا مما يجب الحذر منه.
تعليق على الآية :
﴿ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً............ ﴾
وما ينطوي فيها من صور وتلقين
ولقد تعددت الروايات التي يرويها الطبري وغيره ( ١ )١، في سبب نزول هذه الآية. منها أنه لما نزلت الآيات السابقة في التنديد بالمتخلفين قال الناس : هلك المتخلفون بعد الآن فصاروا إذا دعا النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الجهاد يسارعون إلى النفرة بقضهم وقضيضهم ولو لم يكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الخارجين إلى الغزوة ولو لم تكن الحاجة ماسة. ومنها أن من قبائل البدو التي أسلمت من أخذ ينتقل إلى المدينة بقضه وقضيضه ويقيم فيها أو حولها بحجة الرغبة في الجهاد والاستعداد له وحجة مصاحبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والاستماع منه والتفقه بالدين. وكان هذا مما يضيق على أهل المدينة. ومنها أن فريقا من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم خرجوا إلى البادية وأصابوا خيرا فأقاموا، ثم أخذوا يدعون الناس إلى الإسلام فقيل عنهم : إنهم تركوا صاحبهم فوجدوا في أنفسهم وعادوا جميعا، فنزلت فيهم بعذرهم وإيذانهم بكفاية وجود جماعة من كل فريق منهم عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليتعلموا منه ويعلموا قومهم إذا رجعوا إليهم. وليس شيء من هذه الروايات واردا في كتب أحاديث معتبرة.
والرواية الثالثة لا تتسق مع مفهوم الآية ولا مع روحها وسياقها كما هو المتبادر، من حيث إن الآية في صدد جميع المؤمنين أو غالبيتهم العظمى على الأقل. والرواية الثانية ليست بعيدة الاحتمال. فإن المدينة بعد فتح مكة أخذت تعج بوفود قبائل العرب. وتدخل في دين الله أفواجا. فلا يبعد أن يكون منهم من حاول الإقامة في المدينة وحولها بحجة الرغبة في الجهاد والاستعداد له ومصاحبة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والتفقه بالدين فسبب هذا ضيقا على أهل المدينة.
وقد صوب الطبري الرواية الأولى. وقد يكون التصويب في محله مع شيء من التعديل تقتضيه الوقائع المعروفة. فلم يرو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم غزا بنفسه غزوة ما بعد تبوك. كما أنه لم يرو خبر سرايا عديدة سيرها إلى ما كان من خبر سرية سيرها إلى اليمن بقيادة علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وإعداد جيش إلى البلقاء بقيادة أسامة بن زيد. ويتبادر لنا أن المسلمين خارج المدينة قد فزعوا وتحسبوا من عواقب الآيات السابقة فصاروا يقبلون على المدينة للاشتراك في الجهاد ومصاحبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والاستماع له والتفقه بالدين. وكان في ذلك حرج عليهم وعلى أهل المدينة معا فاقتضت حكمة التنزيل الإيحاء بالآية على سبيل التخفيف والتطمين والتعليم. وعلى كل حال فالآية متصلة بالآيات السابقة موضوعا وسياقا مع رجحان نزولها لحدتها بعدها من حيث إنها مترتبة عليها. والله أعلم.
ولقد تعددت التأويلات التي يرويها الطبري وغيره في المقصود بالجملة الثانية من الآية. منها أنهم الذين ينفرون إلى الجهاد ؛ حيث يعاينون نصر الله لأهل دينه فيكون ذلك لهم فقه في الدين ويرون مكائد الأعداء فيكون ذلك موضوع إنذار وتحذير لقومهم حين رجوعهم إليهم. ومنها أنهم الذين يبقون حول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؛ حيث يتفقهون بما يسمعون منه من قرآن وحكم وينذرون بذلك قوم الذين نفروا إلى الجهاد حين رجوعهم.
ويتبادر لنا على ضوء الشرح المعدل الذي نقدم والذي نرجو أن يكون فيه الصواب أن الجملة عائدة للطوائف التي أذن لها أن تنفر من كل فرقة وتفد إلى المدينة لتكون مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مقيما أو مجاهدا فتتفقه بما تسمعه من قرآن وحكم وتنذر قومها بما تعلمته حين تعود إليهم. والله أعلم.
والآية في حد ذاتها وبإطلاق عبارتها شاملة التعليم والتلقين لجميع المسلمين في مختلف ظروفهم. وفيها تعليم أسلوب من أساليب الاشتراك في الجهاد أو السعي للتفقه في الدين والوقوف على مقتضيات الأمور – حسب احتمال مضمون الآية – حيث أوجبت اشتراك جميع الفئات، دون اشتراك جميع الأفراد. ولعل فيها إلهاما بالمناوبة في الاشتراك بين أفراد كل فئة فلا يتعطل الجهاد والسعي للتفقه ولا تتعطل مصالح الناس معا. وقد اعتبر بعضهم الآية مستندا لوصف فرض الجهاد بأنه فرض كفاية إذا قام به فريق سقط عن الباقين ( ١ )٢. وقد يكون هذا في محله إذا كان قيام فريق من المسلمين كافيا للحاجة وسادا لها. أما في حالة الضرورة فإن هذا الفرض يكون فرض عين على كل قادر. وقد كتب على المؤمنين جميعا على ما انطوى في الآية ( ٢١٦ ) من سورة البقرة. فإذا لم يقم به حينما تدعو دواعيه من الفئات ما يسد الحاجة أثم القاعدون.
ولقد أورد البغوي وهو إمام محدث أيضا بعد الأحاديث النبوية في سياق تفسير هذه الآية وفي صدد ما احتوته من التفقه بالدين رأينا من المفيد نقلها عنه ؛ لأن فيها تعليما وتوجيها نبويين عظيمين في هذا الصدد لكل المسلمين في كل ظرف. منها حديث عن ابن عباس قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين ) ( ١ )٣. وحديث عن أبي هريرة قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تجدون الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، فخيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا ) وعلق البغوي على هذا الحديث تعليقا لا يخلو من الوجاهة حيث قال :( والفقه هو معرفة أحكام الدين وهو ينقسم إلى فرض عين وفرض كفاية. ففرض العين مثل علم الطهارة والصلاة والصوم فعلى كل مكلف معرفته. وكذلك كل عبادة أوجبها الشرع على واحد يجب عليه معرفتها ومعرفة علمها مثل الزكاة إن كان له مال وعلم الحج إن وجب عليه. وأما فرض الكفاية فهو أن يتعلم حتى يبلغ درجة الاجتهاد ورتبة الفتيا، فإذا قعد أهل بلد عن تعلمه عصوا جميعا. وإذا قام من كل بلد واحد بتعلمه سقط الفرض عن الآخرين وعليهم تقليده فيما يقع لهم من الحوادث ). ومما ساقه في صدد ذلك حديث نبوي جاء فيه :( طلب العلم فريضة على كل مسلم ) وحديث عن أبي أمامة قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم ) ( ٢ )٤. وحديث عن ابن عباس قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : فقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد ) ( ٣ )٥. وأردف هذا بقول للشافعي وهو :( طلب العلم أفضل من صلاة النافلة ) ( ٤ )٦.
١ انظر البغوي وابن كثير والخازن والطبرسي أيضا..
٢ انظر تفسير الآية في تفسير القاسمي عزوا للسيوطي..
٣ هذا الحديث رواه الأربعة أيضا عن معاوية. وله تتمة وهي: (وإنما أنا قاسم والله يعطي، ولن تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله) التاج ج ١ ص ٥٣..
٤ روى هذا الحديث الترمذي وفي روايته هذه الزيادة ثم قال: (إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرض حتى النملة في جحرها وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير) التاج ج ١ ص ٥٦..
٥ روى هذا أيضا الترمذي انظر المصدر نفسه..
٦ ومن هذا الباب حديث رواه الترمذي وأبو داود عن أبي الدراء جاء فيه: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: من سلك طريقا يبتغي فيه علما سلك الله له طريقا إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضاء لطالب العلم. وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء. وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، إن العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما. إنما ورثوا العلم فمن أخذ به أخذ بحظ وافر) التاج ج ١ ص ٥٤ و ٥٥ وعن أبي هريرة رواية الترمذي: (قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: الحكمة ضالة المؤمن فحيث وجدها فهو أحق بها) وفي رواية: (من طلب العلم كان كفارة لما مضى) المصدر نفسه ص ٥٥، ٥٦ وروى أبو داود وابن ماجة عن أبي هريرة قال: (قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: من أفتى بغير علم كان إثمه على من أفتاه. ومن أشار على أخيه بأمر يعلم أن الرشد في غيره فقد خانه) المصدر نفسه ص ٦٤ وروى مسلم والنسائي وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة قال: (قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له) المصدر نفسه ص ٦٦..
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ( ١٢٣ ) ﴾ ( ١٢٣ ).
عبارة الآية واضحة. وفيها حث للمسلمين على قتال الأقرب إليهم من الكفار والإغلاظ والشدة في معاملتهم وقتالهم. مع التطمين بأن الله مع الذين يتقونه ويلتزمون حدوده.
تعليق على الآية :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ......................... ﴾
وما روي فيها من أقوال وما تضمنته من تلقين وتعليم
ولقد قال الطبري في صدد هذه الآية : إن الله أمر المسلمين بقتال من وليهم من الكفار دون من بعد منهم. وكان الذين يلون المخاطبين في الآية يومئذ الروم ؛ لأنهم كانوا سكان الشام والشام أقرب إلى المدينة من العراق. أما بعد الفتوح فالمسلمون مأمورون أن يقاتل أهل كل ناحية من وليهم من الأعداء دون الأبعد ما لم يضطر إليهم أهل ناحية أخرى من نواحي بلاد الإسلام، فإن اضطروا لزم عونهم ونصرهم. ولهذا تأول كل من تأول هذه الآية أن معناها إيجاب الفرض على أهل كل ناحية قتال من وليهم من الأعداء. وروى بعد هذا عن ابن عمر أنه أجاب على سؤال عن قتال الديلم فقال : عليك بالروم. وروي عن الحسن أنه أجاب على سؤال عن قتال الروم والديلم فقال الديلم ( ١ )١. وروى عن ابن زيد في تأويل الآية قوله :( إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قاتل كفار العرب حتى فرغ منهم، فلما فرغ أمر بقتال أهل الكتاب ). وقال الخازن عزوا إلى بعض العلماء – بدون تسمية – إن الآية نزلت قبل نزول :﴿ وقاتلوا المشركين كافة ﴾ فلما نزلت هذه صارت ناسخة للآية :﴿ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ ﴾ ومضى الخازن قائلا :( إن المحققين من العلماء لا يرون وجها للنسخ ؛ لأن الله لما أمر المسلمين بقتال المشركين كافة أرشدهم إلى الطريق الأصوب والأصلح، وهو أن يبدأوا بقتال الأقرب فالأقرب حتى يصلوا إلى الأبعد فالأبعد، وبهذا يحصل الغرض من قتال المشركين كافة ؛ لأن قتالهم دفعة واحدة لا يتصور، ولذلك قاتل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أولا قومه، ثم انتقل إلى قتال سائر العرب، ثم إلى قتال أهل الكتاب الأقربين قريظة والنضير وخيبر وفدك. ثم انتقل إلى غزو الروم في الشام، ثم كان فتح الشام في زمن الصحابة، ثم انتقلوا إلى العراق، ثم إلى سائر الأمصار ).
وليس في كتب التفسير الأخرى التي بين أيدينا زيادة هامة يحسن نقلها. ويلوح لنا أن معظم هذه الأقوال اجتهادي من جهة ومتأثر بالوقائع التي وقعت في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبعده من جهة أخرى فضلا عن ما فيها من ثغرات ؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قاتل بني قريظة وبني النضير ومن قبلهم بني قينقاع ومن بعدهم خيبر وما حولها قبل أن يفرغ من قتال قومه فضلا عن فراغه من قتال سائر كفار العرب. وسار بنفسه إلى دومة الجندل، وأرسل سرايا عديدة إلى مشارف الشام لقتال نصارى العرب في السنين الخامسة والسادسة والسابعة، ثم سير جيشا بقيادة زيد بن حارثة لقتال الروم في أقصى بلاد الشام في السنة الثامنة قبل أن يفرغ من هذا وذاك على ما شرحناه في سياق تفسير الآية ( ٢٩ ) من هذه السورة.
وواضح من هذا أن المؤولين والمفسرين تلقوا الآية مستقلة، وأرادوا الكلام على مداها بصورة عامة متأثرين ببعض الوقائع. ولم يلتفتوا أو يلمحوا ما بينها وبين مدى سابقتها من صلة. مع أن الصلة بينهما وثيقة فيما نرى. وبها يمكن تأويلها تأويلا متسقا مع السياق والواقع الذي نزلت الآية في ظروفه. فالمسلمون خارج المدينة أخذوا يتوافدون إليها بقصد الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومصاحبته. فاقتضت حكمة التنزيل الإيحاء بالآية السابقة لتنبيههم إلى أنه لا حاجة إلى قدومهم جميعهم، ويكفي أن يأتي من كل فرقة منهم طائفة ثم اقتضت هذه الحكمة الإيحاء بالآية التي نحن في صددها لتؤذن المسلمين من غير أهل المدينة بأن مما يكفيهم ويجب عليهم أن يقاتلوا من يليهم من الأعداء الكفار دون حاجة إلى مجيئهم جميعا إلى المدينة. ومع أن معظم جزيرة العرب قد أرسلت وفودها بعد غزوة تبوك وقبيلها إلى المدينة وبايعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الإسلام على ما جاء في كتب السيرة القديمة ( ١ )٢. فإنه بقي شراذم متفرقة مناوئة. مثل بني حنيفة بقيادة زعيمهم مسيلمة في اليمامة الذي ادعى النبوة في آخر عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومثل بني أسد بقيادة زعيمهم طلحة في نجد وجماعة الأسود العنسي في اليمن الذين ادعيا النبوة كذلك في آخر عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وكانت حالة الحرب قائمة في الوقت نفسه بين المسلمين ونصارى الشام والروم والغساسنة أصحاب السلطان والحكم فيها. ومن المحتمل أن يكون قد وفد على المدينة جماعات من هذه الأنحاء فنزلت الآية للإيعاز لهم بما هو الأولى والألزم. والله تعالى أعلم.
وظروف نزول الآية وهدفها من جهة والمبادئ القرآنية الجهادية المحكمة من جهة أخرى تسوغ القول : إن الكفار المقصودين في الآية هم الكفار الأعداء فحسب، وليس كل الكفار إطلاقا وبدءا، ولو لم يكونوا أعداء محاربين ومعتدين على الإسلام والمسلمين. وهذا متسق مع قول الطبري :( أن كل من تأول هذه الآية يرى أن معناها إيجاب الفرض على أهل كل ناحية قتال من وليهم من الأعداء ). والفرق واضح بين الكفار إطلاقا وبين الأعداء منهم.
والآية في حد ذاتها مطلقة العبارة والتوجيه وعليها طابع التعليم والتشريع للمسلمين في جميع ظروفهم أيضا. ولعل مما تعلمه هو السير على ما هو الأولى من قواعد الحرب وهو عدم توزيع القوى وفائدة حشدها وتوجيهها إلى الأقرب فالأقرب من الأعداء. مع التنبيه على أن ذلك يجب أن يكون متمشيا مع مقتضيات المصلحة الإسلامية التي يقررها ولي أمر المسلمين، وعلى وجاهة ما قاله الطبري من أن هذا يكون ما لم يضطر إليه أهل ناحية أخرى من نواحي بلاد الإسلام. فإن اضطروا لزم عونهم ونصرهم، أي ولو كان ذلك في ناحية غير قريبة. والله أعلم.
وجملة :﴿ وليجدوا فيكم غلظة ﴾ لا تفسر فيما يتبادر لنا بالقسوة في القتل والإبادة أو بذلك وحسب، بل بمعنى إظهار العزيمة والحمية والتصميم والشدة التي ترهب الأعداء أيضا، ولعل الجملة التي انتهت بها الآية التي فيها الجملة مما يبرز هذا التنبيه. وفي تفسير البغوي ورشيد رضا والقاسمي ما يتساوق مع هذا القول، وفيه والحالة هذه تلقين مستمر المدى.
١ الراجح أن المقصود هم أهل بلاد فارس..
٢ انظر سيرة ابن هشام وطبقات ابن سعد..
( ١ ) سورة : نرجح أن معنى الكلمة في مقامها هو اللغوي الذي هو جملة :( جملة من آيات القرآن ) وليس ( السورة ) التي صارت تطلق على سور القرآن الكاملة من بدء إلى نهاية.
﴿ وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ ( ١ ) فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَـذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ( ١٢٤ ) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ ( ١٢٥ ) أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ ( ١٢٦ ) ﴾ ( ١٢٤ – ١٢٦ ).

في هذه الآيات :

( ١ ) إشارة إلى موقف من مواقف المنافقين ؛ حيث كان بعضهم إذا ما أوحى الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم بسورة قرآنية سألوا سؤال المستهزئ الجاحد عن من استفاد منها زيادة إيمان وهدى وعلم.
( ٢ ) ورد منطو على التنديد والإنذار للمنافقين والتنويه بالمخلصين : فالذين أخلصوا في إيمانهم يزيدهم ما ينزل من القرآن يقينا واستبشارا لأنهم يرون فيه تعليما وإرشادا وهدى. وأما المنافقون ذوو القلوب المريضة فيزدادون رجسا إلى رجسهم بما يزدادون من شك وتصميم على عدم الإخلاص والتصديق حتى يموتوا كفارا جاحدين.
( ٣ ) وتساؤل على سبيل التنديد من جهة والتدليل على ازديادهم رجسا إلى رجس من جهة أخرى عما إذا كانوا لا يرون أنهم يختبرون ويبتلون في كل عام مرة أو مرتين فتظهر أمارات نفاقهم وجحودهم بالمواقف التي يقفونها والأقوال التي يقولونها ويفتضح أمرهم ويتعرضون نتيجة لذلك للتقريع والخزي ثم هم لا يرعوون ولا يتوبون عن مواقفهم ولا يتذكرون ما وقع لهم، فيعودون إلى الارتكاس فيها والتعرض للفضيحة والخزي والتقريع مرة بعد أخرى.

تعليق على الآية :

﴿ وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَـذِهِ إِيمَانًا.............. ﴾
الآيات فصل جديد ولم نطلع على رواية خاصة في سبب نزولها. وعبارتها مطلقة تلهم أن المقصدين بالتنديد هم المنافقون، وأن الموقف الذي يندد بهم من أجله هو موقف متكرر دائم منهم عند نزول السور والجمل القرآنية. ومن المحتمل أن تكون نزلت بعد الآية السابقة فوضعت مكانها للتناسب الظرفي. ولعل بعض المنافقين تساءلوا تسائلهم المستهزئ الجاحد عقب نزول بعض الآيات السابقة فنزلت الآيات تفضحهم وتندد بهم وتنذرهم. ولا يبعد أن تكون الآية ( ١٢٢ ) التي احتوت تخفيفا بعد التشديد الذي سبقها كانت موضوع التساؤل. وورود الآيات عقبها قد يكون قرينة على ذلك. وإذا صح هذا فتكون للآيات صلة موضوعية بما سبقها أيضا. وعلى كل حال فالشدة التي جاءت في الآيات تلهم أن الموقف الذي وقفه المنافقون كان شديد الخبث والأثر.
والآيات من حيث هي تحتوي تقرير مبدأ من مبادئ الإيمان والتهذيب الديني. فعلى المؤمن المخلص أن يتلقى كل ما أتى ويأتي من الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم باستبشار وتصديق واعتقاد بأن فيه حكمة وهدى حتى لو قصر ذهنه عن إدراك ما فيه من حكمة أو غلق فهمه عن استكناه مداه، وأن لا يرتاب فيما لا يدركه ويفهمه فيزداد بذلك يقينا وتسليما لله ورسوله. وكل شك أو تردد في ذلك متناقض مع صدق الإيمان بالله ورسوله. وهو ما لا يصدر إلا من كافر أو منافق.
والآيات والحالة هذه مستمرة الحكم والتلقين لكل مسلم في كل ظرف بالنسبة لما احتواه كتاب الله عز وجل ولما ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من سنة قولية وفعلية.
ولقد تعددت تأويلات أهل التأويل التي أوردها الطبري عن ماهية افتتان المنافقين في السنة مرة أو مرتين. فمنهما أن ذلك بالجوع والقحط والجدب، ومنها أن ذلك بالغزو والجهاد، ومنها أن ذلك بما يشيعه المشركون عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أكاذيب فيستبشرون بها ويظهر كذبها فيكون في ذلك فضيحة لهم.
ونرجو أن يكون الصواب في التأويل الذي أوردناه في شرح الآيات إن شاء الله.
﴿ وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ ( ١ ) فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَـذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ( ١٢٤ ) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ ( ١٢٥ ) أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ ( ١٢٦ ) ﴾ ( ١٢٤ – ١٢٦ ).

في هذه الآيات :

( ١ ) إشارة إلى موقف من مواقف المنافقين ؛ حيث كان بعضهم إذا ما أوحى الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم بسورة قرآنية سألوا سؤال المستهزئ الجاحد عن من استفاد منها زيادة إيمان وهدى وعلم.
( ٢ ) ورد منطو على التنديد والإنذار للمنافقين والتنويه بالمخلصين : فالذين أخلصوا في إيمانهم يزيدهم ما ينزل من القرآن يقينا واستبشارا لأنهم يرون فيه تعليما وإرشادا وهدى. وأما المنافقون ذوو القلوب المريضة فيزدادون رجسا إلى رجسهم بما يزدادون من شك وتصميم على عدم الإخلاص والتصديق حتى يموتوا كفارا جاحدين.
( ٣ ) وتساؤل على سبيل التنديد من جهة والتدليل على ازديادهم رجسا إلى رجس من جهة أخرى عما إذا كانوا لا يرون أنهم يختبرون ويبتلون في كل عام مرة أو مرتين فتظهر أمارات نفاقهم وجحودهم بالمواقف التي يقفونها والأقوال التي يقولونها ويفتضح أمرهم ويتعرضون نتيجة لذلك للتقريع والخزي ثم هم لا يرعوون ولا يتوبون عن مواقفهم ولا يتذكرون ما وقع لهم، فيعودون إلى الارتكاس فيها والتعرض للفضيحة والخزي والتقريع مرة بعد أخرى.

تعليق على الآية :

﴿ وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَـذِهِ إِيمَانًا.............. ﴾
الآيات فصل جديد ولم نطلع على رواية خاصة في سبب نزولها. وعبارتها مطلقة تلهم أن المقصدين بالتنديد هم المنافقون، وأن الموقف الذي يندد بهم من أجله هو موقف متكرر دائم منهم عند نزول السور والجمل القرآنية. ومن المحتمل أن تكون نزلت بعد الآية السابقة فوضعت مكانها للتناسب الظرفي. ولعل بعض المنافقين تساءلوا تسائلهم المستهزئ الجاحد عقب نزول بعض الآيات السابقة فنزلت الآيات تفضحهم وتندد بهم وتنذرهم. ولا يبعد أن تكون الآية ( ١٢٢ ) التي احتوت تخفيفا بعد التشديد الذي سبقها كانت موضوع التساؤل. وورود الآيات عقبها قد يكون قرينة على ذلك. وإذا صح هذا فتكون للآيات صلة موضوعية بما سبقها أيضا. وعلى كل حال فالشدة التي جاءت في الآيات تلهم أن الموقف الذي وقفه المنافقون كان شديد الخبث والأثر.
والآيات من حيث هي تحتوي تقرير مبدأ من مبادئ الإيمان والتهذيب الديني. فعلى المؤمن المخلص أن يتلقى كل ما أتى ويأتي من الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم باستبشار وتصديق واعتقاد بأن فيه حكمة وهدى حتى لو قصر ذهنه عن إدراك ما فيه من حكمة أو غلق فهمه عن استكناه مداه، وأن لا يرتاب فيما لا يدركه ويفهمه فيزداد بذلك يقينا وتسليما لله ورسوله. وكل شك أو تردد في ذلك متناقض مع صدق الإيمان بالله ورسوله. وهو ما لا يصدر إلا من كافر أو منافق.
والآيات والحالة هذه مستمرة الحكم والتلقين لكل مسلم في كل ظرف بالنسبة لما احتواه كتاب الله عز وجل ولما ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من سنة قولية وفعلية.
ولقد تعددت تأويلات أهل التأويل التي أوردها الطبري عن ماهية افتتان المنافقين في السنة مرة أو مرتين. فمنهما أن ذلك بالجوع والقحط والجدب، ومنها أن ذلك بالغزو والجهاد، ومنها أن ذلك بما يشيعه المشركون عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أكاذيب فيستبشرون بها ويظهر كذبها فيكون في ذلك فضيحة لهم.
ونرجو أن يكون الصواب في التأويل الذي أوردناه في شرح الآيات إن شاء الله.
﴿ وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ ( ١ ) فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَـذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ( ١٢٤ ) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ ( ١٢٥ ) أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ ( ١٢٦ ) ﴾ ( ١٢٤ – ١٢٦ ).

في هذه الآيات :

( ١ ) إشارة إلى موقف من مواقف المنافقين ؛ حيث كان بعضهم إذا ما أوحى الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم بسورة قرآنية سألوا سؤال المستهزئ الجاحد عن من استفاد منها زيادة إيمان وهدى وعلم.
( ٢ ) ورد منطو على التنديد والإنذار للمنافقين والتنويه بالمخلصين : فالذين أخلصوا في إيمانهم يزيدهم ما ينزل من القرآن يقينا واستبشارا لأنهم يرون فيه تعليما وإرشادا وهدى. وأما المنافقون ذوو القلوب المريضة فيزدادون رجسا إلى رجسهم بما يزدادون من شك وتصميم على عدم الإخلاص والتصديق حتى يموتوا كفارا جاحدين.
( ٣ ) وتساؤل على سبيل التنديد من جهة والتدليل على ازديادهم رجسا إلى رجس من جهة أخرى عما إذا كانوا لا يرون أنهم يختبرون ويبتلون في كل عام مرة أو مرتين فتظهر أمارات نفاقهم وجحودهم بالمواقف التي يقفونها والأقوال التي يقولونها ويفتضح أمرهم ويتعرضون نتيجة لذلك للتقريع والخزي ثم هم لا يرعوون ولا يتوبون عن مواقفهم ولا يتذكرون ما وقع لهم، فيعودون إلى الارتكاس فيها والتعرض للفضيحة والخزي والتقريع مرة بعد أخرى.

تعليق على الآية :

﴿ وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَـذِهِ إِيمَانًا.............. ﴾
الآيات فصل جديد ولم نطلع على رواية خاصة في سبب نزولها. وعبارتها مطلقة تلهم أن المقصدين بالتنديد هم المنافقون، وأن الموقف الذي يندد بهم من أجله هو موقف متكرر دائم منهم عند نزول السور والجمل القرآنية. ومن المحتمل أن تكون نزلت بعد الآية السابقة فوضعت مكانها للتناسب الظرفي. ولعل بعض المنافقين تساءلوا تسائلهم المستهزئ الجاحد عقب نزول بعض الآيات السابقة فنزلت الآيات تفضحهم وتندد بهم وتنذرهم. ولا يبعد أن تكون الآية ( ١٢٢ ) التي احتوت تخفيفا بعد التشديد الذي سبقها كانت موضوع التساؤل. وورود الآيات عقبها قد يكون قرينة على ذلك. وإذا صح هذا فتكون للآيات صلة موضوعية بما سبقها أيضا. وعلى كل حال فالشدة التي جاءت في الآيات تلهم أن الموقف الذي وقفه المنافقون كان شديد الخبث والأثر.
والآيات من حيث هي تحتوي تقرير مبدأ من مبادئ الإيمان والتهذيب الديني. فعلى المؤمن المخلص أن يتلقى كل ما أتى ويأتي من الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم باستبشار وتصديق واعتقاد بأن فيه حكمة وهدى حتى لو قصر ذهنه عن إدراك ما فيه من حكمة أو غلق فهمه عن استكناه مداه، وأن لا يرتاب فيما لا يدركه ويفهمه فيزداد بذلك يقينا وتسليما لله ورسوله. وكل شك أو تردد في ذلك متناقض مع صدق الإيمان بالله ورسوله. وهو ما لا يصدر إلا من كافر أو منافق.
والآيات والحالة هذه مستمرة الحكم والتلقين لكل مسلم في كل ظرف بالنسبة لما احتواه كتاب الله عز وجل ولما ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من سنة قولية وفعلية.
ولقد تعددت تأويلات أهل التأويل التي أوردها الطبري عن ماهية افتتان المنافقين في السنة مرة أو مرتين. فمنهما أن ذلك بالجوع والقحط والجدب، ومنها أن ذلك بالغزو والجهاد، ومنها أن ذلك بما يشيعه المشركون عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أكاذيب فيستبشرون بها ويظهر كذبها فيكون في ذلك فضيحة لهم.
ونرجو أن يكون الصواب في التأويل الذي أوردناه في شرح الآيات إن شاء الله.
﴿ وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُم مِّنْ أَحَدٍ ثُمَّ انصَرَفُواْ صَرَفَ اللّهُ قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُون ( ١٢٧ ) ﴾ ( ١٢٧ ).
تعليق على الآية :
﴿ وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُم مِّنْ أَحَدٍ................ ﴾
وما فيها من صور وتلقين
في الآية صور أخرى للمنافقين ؛ حيث كانوا حينما يسمعون النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتلو سورة قرآنية نزلت عليه من جديد ينظر بعضهم إلى بعض نظر المستهزئ ويتغامزون على الانصراف من مجلسه خلسة دون أن يراهم أحد ثم انصرفوا. وقد انتهت الآية بالدعاء عليهم. فليزد الله قلوبهم عمى وضلالا. فهم قوم لا يفقهون مدى الجمل القرآنية وما فيها من هدى وحكمة.
ولم نطلع على رواية خاصة في نزول هذه الآية أيضا. والمتبادر أنها استمرار للآيات السابقة في حكاية مواقف المنافقين حين نزول السور القرآنية. وهي متصلة بها سياقا وموضوعا وربما مناسبة أيضا.
والصورة التي تحتويها الآية خبيثة كالأولى. وفيها وفي سابقتها دليل على عمق شك هذا الفريق وجحوده ونفاقه. ولما كان احتمال نزول هذه الآيات بعد غزوة تبوك قويا، وهو ما قد يلهمه ترتيبها واحتمال صدور الصور التي انطوت فيها قويا كذلك بعد هذه الغزوة ففيها دلالة على أن هذه الفئة الفاسقة ظلت مستمرة في نفاقها وخبثها ومواقفها الجحودية والتشكيكية والتشويشية والاستهزائية إلى أواخر حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإن كانت أخذت تبالغ في الحذر والرياء والتظاهر في المسايرة والملاينة والتوكيد بإخلاصها بسبب ما صار إليه موقف النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين من القوة والإسلام من الانتشار والتوطيد.
( ١ ) عزيز عليه : يصعب ويشق على نفسه.
( ٢ ) ما عنتم : ما شق عليكم وسبب لكم العنت. أو ضلالكم على رأي بعض المفسرين.
﴿ لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ( ١ ) مَا عَنِتُّمْ ( ٢ ) حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ( ١٢٨ ) فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ اللّهُ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ( ١٢٩ ) ﴾ ( ١٢٨ – ١٢٩ ).
وجه الخطاب في الآية الأولى إلى السامعين والعرب عامة بأن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الذي جاءهم هو منهم يشق عليه ضلالهم وما يصيبهم من أذى وعنت ويحرص كل الحرص على خيرهم وصالحهم، وهو شديد الرأفة والرحمة بالمؤمنين المخلصين منهم.
ووجه الخطاب في الآية الثانية إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم على سبيل التطمين والتثبيت والاستدراك : فإذا أعرض بعض الناس عنه وعما يدعوهم إليه بعد ما بان لهم من شدة إشفاقه عليهم وحرصه على صالحهم وخيرهم وهدايتهم فليهتف بأن حسبي الله الذي لا إله إلا هو فهو كافيني وكاف عني وإني متوكل عليه وحده. فهو رب العرش العظيم والملك المتصرف في الأكوان مطلق التصرف.
ومع اختلاف التوجيه في الخطاب فالآيتان وحدة تامة كما هو المتبادر.

تعليق على الآية :

﴿ لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ....................... ﴾
والآية التالية لها وما فيها من صور وتلقين
وما روي في صددهما من روايات، وتمحيص
رواية مكيتهما ومدنيتهما ومسألة كونهما آخر القرآن نزولا
لقد كثرت الروايات والأقوال في صدد هاتين الآيتين ومداهما. فالمصحف الذي اعتمدنا عليه يذكر أنهما مكيتان. ولم نر في كتب التفسير تأييدا لهذه الرواية إلا في تفسير المنار عزوا إلى ابن أبي الفرس. وهذا ورد أيضا في كتب الإتقان عزوا إلى ابن الغرس ( ١ )١.
ولعل أحد الاسمين مصحف عن الثاني. ولا يذكر رشيد رضا ولا مؤلف الإتقان قبله صفة كلام ابن أبي الفرس وسنده إن كان لغيره. وقد رجح رشيد رضا مكية الآيتين معللا ذلك : بأن معناهما لا يظهر في دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الإسلام في مكة في أول البعثة. ومعنى كلام ابن أبي الفرس وترجيح رشيد رضا أن الآيتين وضعتا في آخر سورة براءة دون أن تكونا منها.
وهناك حديث يرويه المفسرون في صدد وضع الآيتين في موضعهما عن عبد الله بن الزبير قال ( ٢ )٢ : أتى الحارث بن خزيمة الأنصاري بهاتين الآيتين إلى عمر بن الخطاب فقال :( من معك على هذا ( ٣ )٣، قال : لا أدري والله إني لأشهد أني سمعتهما من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ووعيتهما وحفظتهما فقال عمر : إني لأشهد أني سمعتهما من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ثم قال : لو كانت ثلاث آيات لجعلتها سورة على حدتها. فانظروا سورة من القرآن فضعوها فيها فوضعوها في آخر براءة ). وهذا الحديث ليس من الصحاح. ولا يفيد أن الآيتين مكيتان أم مدنيتان. ويفيد أنهما كانتا منفردتين لم يكن معروفا وقت نزولهما ولا السياق والسورة التي كانتا فيها.
مقابل هذا هناك حديث عن أبي بن كعب أحد علماء وقراء القرآن من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يرويه المفسرون من طرق عديدة وبصيغ متقاربة. جاء في إحداها التي رواها عبد الله ابن الإمام أحمد عن عبد الله بن الزبير تفيد أن الآيتين مدنيتان وآخر ما نزل من القرآن، بل وقد تفيد بقوة أنهما كانتا في آخر سورة براءة وتقرآن بعد الآية التي قبلها وهذا نصها ( ١ )٤ :( إنهم جمعوا القرآن في مصاحف في خلافة أبي بكر رضي الله عنه فكان رجال يكتبون وأبي يملي عليهم فلما انتهوا إلى الآية :﴿ ثُمَّ انصَرَفُواْ صَرَفَ اللّهُ قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُون ( ١٢٧ ) ﴾، ظنوا أن هذا آخر ما نزل من القرآن فقال لهم : إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أقرأني بعدها آيتين – هما الآيتان اللتان نحن في صددهما – ثم قال : هذا آخر ما نزل من القرآن )، وهذا الحديث لم يرد في الصحاح. وهناك حديث رواه البخاري فيه حكاية لتكليف أبي بكر وعمر إياه بجمع القرآن وتتبعه ؛ حيث جاء فيه :( فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال حتى وجدت آخر سورة براءة مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدها مع أحد غيره ) ( ٢ )٥. والمهم في بحثنا هو العبارة الأخيرة التي قد تفيد أن زيدا كان يعرف أن الآيتين هما آخر سورة براءة.

وتعقيبا على ما تقدم نقول :

أولا : إنه ليس من الضروري أن لا يظهر معنى الآيتين إلا في أوائل عهد مكة كما قال رشيد رضا. فإنه كان في العهد المدني مواقف من المنافقين والمشركين تتحمل معناهما.
وثانيا : إننا نلمح بكل قوة أن الآيتين متصلتان بالسياق السابق لهما الذي احتوى صورا لمواقف خبيثة للمنافقين فأوحى الله بهما معقبتين على هذه المواقف لتذكر أولاهما الناس بالصفات العظيمة التي اتصف بها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الذي جاءهم. ولتسلي ثانيتهما النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى لا يغتم ولا يعبأ بمواقف المنافقين والمشركين، وأن يقول إذا أصروا عليها وتولوا ( حسبي الله وعليه توكلت ).
وما روي عن أبي من أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أقرأه إياهما بعد الآيتين السابقتين لهما. وما روي عن زيد قوله : إنهما آخر سورة براءة يدعمان ذلك. وإذا كان حديث أبي لم يرد في الصحاح فإنه يلتقي مع حديث زيد الذي رواه البخاري. وهذا يسوغ التوقف في الحديث المروي عن عبد الله بن الزبير في صدد وضعهما في آخر سورة براءة ارتجالا. وهناك دلائل قرآنية وأحاديث نبوية وصحابية كثيرة تفيد أن القرآن كان يدون أولا بأول ثم يسجل في قراطيس وتوضع آياته وفصوله التي كانت تنزل لحدة في السور بأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأن سوره رتبت حسب ما هي الآن في المصحف في أواخر حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبأمره. وأنه كان لبعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مصاحف مرتبة حسب المصحف وأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كانوا يحفظون ويقرأون والقرآن حسب ترتيب المصحف أيضا بحيث يقال في صدد ما جاء في حديث البخاري عن زيد إنما أريد تدوين مصحف إمام بعد انقطاع الوحي بموت النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليكون محفوظا عند الخليفة ومرجعا، وأنه تتبع ما عند الناس في القراع وفي الصدور من قرآن زيادة في الحرص على ضبط هذا المصحف وقد لا يكون أحد غير أبي خيثمة كتب الآيتين في رقعة لحدتهما فكان ذلك مما عني في الحديث. والله تعالى أعلم.
ولما كنا نميل إلى اعتبار حديث أبي وصحته لاتساقه مع سياق الآيات ودعم حديث زيد الذي رواه البخاري له فإننا نميل إلى فهم قوله : إن الآيتين هما آخر ما نزل من القرآن بكون سورة براءة من آخر ما نزل من القرآن فيكون آخرها كذلك ؛ لأن هناك أحاديث عديدة منها ما ورد في الصحاح نذكر آيات أخرى كآخر ما نزل من القرآن، ومن ذلك آيات الربا والدين في سورة البقرة على ما ذكرناه في سياق تفسيرها. والله تعالى أعلم.
والآية الأولى من روائع آيات القرآن في الثناء على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتقرير ما اتصف به من كريم الصفات وعظيم الأخلاق وكبر القلب الذي امتلأ برا وخيرا وحلما وإشفاقا ورأفة ورحمة وحرصا بالعرب والمؤمنين. ولعلها من هذه الناحية أروع ما في القرآن وأدل ما فيه على عظمة خلق النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكمال صفاته وكبر قلبه وعمق إخلاصه وشدة رغبته في هداية العرب وخيرهم وإنقاذهم. ولما كانت هذه الآية على الأرجح من آخر ما نزل من القرآن أو آخره فهي خاتمة رائعة بعيدة المدى والمغزى لكتاب الله المجيد الذي أنزله الله تعالى على رسوله العظيم صلى الله عليه وآله وسلم.
ومع أن كمال هذه الصفات الكريمة مما يمكن أن يكون مختصا بمن علم الله أنه أهل لرسالته العظمى، فإن في الآية تلقينا لما يجب أن يكون عليه أولياء أمور المسلمين من صفات وأخلاق وحثا على الاقتداء بها ما داموا قد تولوا زمام هذه الأمور وقاموا مقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيها كما أن من شأنها أن تكون مقياسا لأهلية وصلاح وإخلاص أولياء أمور المسلمين ودعاتهم وقادتهم ودليلا عليها.
هذا، ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية الثانية حديثا عن أبي الدرداء رواه أبو داود أيضا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( من قال إذا أصبح وإذا أمسى حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم سبع مرات كفاه الله ما أهمه ) ( ١ )٦. والصيغة بمثابة دعاء والتماس من الله عز وجل. وقد قال الله :﴿ ادعوني أستجب لكم ﴾. وفيها على كل حال بعث لطمأنينة النفس وسكونها.
ولقد وقف المفسرون عند جملة :﴿ من أنفسكم ﴾ وأوردوا بعض الأحاديث والروايات في صدد شمول الصلات الرحمية والقبلية بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومختلف قبائل العرب أو بطون قريش. وما ينطوي في ذلك من شدة الباعث على حرص النبي صلى الله عليه وآله وسلم على هداية قومه. ولقد كتبنا تعليقا على هذا في سياق الآية ( ١١٣ ) من سورة النحل وأوردنا طائفة مما روي من أحاديث وروايات فنكتفي بهذا التنبيه.
﴿ لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ( ١ ) مَا عَنِتُّمْ ( ٢ ) حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ( ١٢٨ ) فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ اللّهُ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ( ١٢٩ ) ﴾ ( ١٢٨ – ١٢٩ ).
وجه الخطاب في الآية الأولى إلى السامعين والعرب عامة بأن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الذي جاءهم هو منهم يشق عليه ضلالهم وما يصيبهم من أذى وعنت ويحرص كل الحرص على خيرهم وصالحهم، وهو شديد الرأفة والرحمة بالمؤمنين المخلصين منهم.
ووجه الخطاب في الآية الثانية إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم على سبيل التطمين والتثبيت والاستدراك : فإذا أعرض بعض الناس عنه وعما يدعوهم إليه بعد ما بان لهم من شدة إشفاقه عليهم وحرصه على صالحهم وخيرهم وهدايتهم فليهتف بأن حسبي الله الذي لا إله إلا هو فهو كافيني وكاف عني وإني متوكل عليه وحده. فهو رب العرش العظيم والملك المتصرف في الأكوان مطلق التصرف.
ومع اختلاف التوجيه في الخطاب فالآيتان وحدة تامة كما هو المتبادر.

تعليق على الآية :

﴿ لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ....................... ﴾
والآية التالية لها وما فيها من صور وتلقين
وما روي في صددهما من روايات، وتمحيص
رواية مكيتهما ومدنيتهما ومسألة كونهما آخر القرآن نزولا
لقد كثرت الروايات والأقوال في صدد هاتين الآيتين ومداهما. فالمصحف الذي اعتمدنا عليه يذكر أنهما مكيتان. ولم نر في كتب التفسير تأييدا لهذه الرواية إلا في تفسير المنار عزوا إلى ابن أبي الفرس. وهذا ورد أيضا في كتب الإتقان عزوا إلى ابن الغرس ( ١ )١.
ولعل أحد الاسمين مصحف عن الثاني. ولا يذكر رشيد رضا ولا مؤلف الإتقان قبله صفة كلام ابن أبي الفرس وسنده إن كان لغيره. وقد رجح رشيد رضا مكية الآيتين معللا ذلك : بأن معناهما لا يظهر في دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الإسلام في مكة في أول البعثة. ومعنى كلام ابن أبي الفرس وترجيح رشيد رضا أن الآيتين وضعتا في آخر سورة براءة دون أن تكونا منها.
وهناك حديث يرويه المفسرون في صدد وضع الآيتين في موضعهما عن عبد الله بن الزبير قال ( ٢ )٢ : أتى الحارث بن خزيمة الأنصاري بهاتين الآيتين إلى عمر بن الخطاب فقال :( من معك على هذا ( ٣ )٣، قال : لا أدري والله إني لأشهد أني سمعتهما من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ووعيتهما وحفظتهما فقال عمر : إني لأشهد أني سمعتهما من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ثم قال : لو كانت ثلاث آيات لجعلتها سورة على حدتها. فانظروا سورة من القرآن فضعوها فيها فوضعوها في آخر براءة ). وهذا الحديث ليس من الصحاح. ولا يفيد أن الآيتين مكيتان أم مدنيتان. ويفيد أنهما كانتا منفردتين لم يكن معروفا وقت نزولهما ولا السياق والسورة التي كانتا فيها.
مقابل هذا هناك حديث عن أبي بن كعب أحد علماء وقراء القرآن من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يرويه المفسرون من طرق عديدة وبصيغ متقاربة. جاء في إحداها التي رواها عبد الله ابن الإمام أحمد عن عبد الله بن الزبير تفيد أن الآيتين مدنيتان وآخر ما نزل من القرآن، بل وقد تفيد بقوة أنهما كانتا في آخر سورة براءة وتقرآن بعد الآية التي قبلها وهذا نصها ( ١ )٤ :( إنهم جمعوا القرآن في مصاحف في خلافة أبي بكر رضي الله عنه فكان رجال يكتبون وأبي يملي عليهم فلما انتهوا إلى الآية :﴿ ثُمَّ انصَرَفُواْ صَرَفَ اللّهُ قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُون ( ١٢٧ ) ﴾، ظنوا أن هذا آخر ما نزل من القرآن فقال لهم : إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أقرأني بعدها آيتين – هما الآيتان اللتان نحن في صددهما – ثم قال : هذا آخر ما نزل من القرآن )، وهذا الحديث لم يرد في الصحاح. وهناك حديث رواه البخاري فيه حكاية لتكليف أبي بكر وعمر إياه بجمع القرآن وتتبعه ؛ حيث جاء فيه :( فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال حتى وجدت آخر سورة براءة مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدها مع أحد غيره ) ( ٢ )٥. والمهم في بحثنا هو العبارة الأخيرة التي قد تفيد أن زيدا كان يعرف أن الآيتين هما آخر سورة براءة.

وتعقيبا على ما تقدم نقول :

أولا : إنه ليس من الضروري أن لا يظهر معنى الآيتين إلا في أوائل عهد مكة كما قال رشيد رضا. فإنه كان في العهد المدني مواقف من المنافقين والمشركين تتحمل معناهما.
وثانيا : إننا نلمح بكل قوة أن الآيتين متصلتان بالسياق السابق لهما الذي احتوى صورا لمواقف خبيثة للمنافقين فأوحى الله بهما معقبتين على هذه المواقف لتذكر أولاهما الناس بالصفات العظيمة التي اتصف بها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الذي جاءهم. ولتسلي ثانيتهما النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى لا يغتم ولا يعبأ بمواقف المنافقين والمشركين، وأن يقول إذا أصروا عليها وتولوا ( حسبي الله وعليه توكلت ).
وما روي عن أبي من أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أقرأه إياهما بعد الآيتين السابقتين لهما. وما روي عن زيد قوله : إنهما آخر سورة براءة يدعمان ذلك. وإذا كان حديث أبي لم يرد في الصحاح فإنه يلتقي مع حديث زيد الذي رواه البخاري. وهذا يسوغ التوقف في الحديث المروي عن عبد الله بن الزبير في صدد وضعهما في آخر سورة براءة ارتجالا. وهناك دلائل قرآنية وأحاديث نبوية وصحابية كثيرة تفيد أن القرآن كان يدون أولا بأول ثم يسجل في قراطيس وتوضع آياته وفصوله التي كانت تنزل لحدة في السور بأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأن سوره رتبت حسب ما هي الآن في المصحف في أواخر حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبأمره. وأنه كان لبعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مصاحف مرتبة حسب المصحف وأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كانوا يحفظون ويقرأون والقرآن حسب ترتيب المصحف أيضا بحيث يقال في صدد ما جاء في حديث البخاري عن زيد إنما أريد تدوين مصحف إمام بعد انقطاع الوحي بموت النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليكون محفوظا عند الخليفة ومرجعا، وأنه تتبع ما عند الناس في القراع وفي الصدور من قرآن زيادة في الحرص على ضبط هذا المصحف وقد لا يكون أحد غير أبي خيثمة كتب الآيتين في رقعة لحدتهما فكان ذلك مما عني في الحديث. والله تعالى أعلم.
ولما كنا نميل إلى اعتبار حديث أبي وصحته لاتساقه مع سياق الآيات ودعم حديث زيد الذي رواه البخاري له فإننا نميل إلى فهم قوله : إن الآيتين هما آخر ما نزل من القرآن بكون سورة براءة من آخر ما نزل من القرآن فيكون آخرها كذلك ؛ لأن هناك أحاديث عديدة منها ما ورد في الصحاح نذكر آيات أخرى كآخر ما نزل من القرآن، ومن ذلك آيات الربا والدين في سورة البقرة على ما ذكرناه في سياق تفسيرها. والله تعالى أعلم.
والآية الأولى من روائع آيات القرآن في الثناء على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتقرير ما اتصف به من كريم الصفات وعظيم الأخلاق وكبر القلب الذي امتلأ برا وخيرا وحلما وإشفاقا ورأفة ورحمة وحرصا بالعرب والمؤمنين. ولعلها من هذه الناحية أروع ما في القرآن وأدل ما فيه على عظمة خلق النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكمال صفاته وكبر قلبه وعمق إخلاصه وشدة رغبته في هداية العرب وخيرهم وإنقاذهم. ولما كانت هذه الآية على الأرجح من آخر ما نزل من القرآن أو آخره فهي خاتمة رائعة بعيدة المدى والمغزى لكتاب الله المجيد الذي أنزله الله تعالى على رسوله العظيم صلى الله عليه وآله وسلم.
ومع أن كمال هذه الصفات الكريمة مما يمكن أن يكون مختصا بمن علم الله أنه أهل لرسالته العظمى، فإن في الآية تلقينا لما يجب أن يكون عليه أولياء أمور المسلمين من صفات وأخلاق وحثا على الاقتداء بها ما داموا قد تولوا زمام هذه الأمور وقاموا مقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيها كما أن من شأنها أن تكون مقياسا لأهلية وصلاح وإخلاص أولياء أمور المسلمين ودعاتهم وقادتهم ودليلا عليها.
هذا، ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية الثانية حديثا عن أبي الدرداء رواه أبو داود أيضا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( من قال إذا أصبح وإذا أمسى حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم سبع مرات كفاه الله ما أهمه ) ( ١ )٦. والصيغة بمثابة دعاء والتماس من الله عز وجل. وقد قال الله :﴿ ادعوني أستجب لكم ﴾. وفيها على كل حال بعث لطمأنينة النفس وسكونها.
ولقد وقف المفسرون عند جملة :﴿ من أنفسكم ﴾ وأوردوا بعض الأحاديث والروايات في صدد شمول الصلات الرحمية والقبلية بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومختلف قبائل العرب أو بطون قريش. وما ينطوي في ذلك من شدة الباعث على حرص النبي صلى الله عليه وآله وسلم على هداية قومه. ولقد كتبنا تعليقا على هذا في سياق الآية ( ١١٣ ) من سورة النحل وأوردنا طائفة مما روي من أحاديث وروايات فنكتفي بهذا التنبيه.
Icon