( مدنية، وآياتها تسع وعشرون ومائة )
و تسمى سورة براءة، والفاضحة، لأنها فضحت المنافقين. ولم تكتب في أولها البسملة لعدم أمره صلى الله عليه وسلم بكتابتها، إذ لم ينزل بها جبريل عليه السلام. والأصل في ذلك التوقيف. وقيل : إنها هي والأنفال سورة واحدة، ومجموعهما السورة السابعة من السبع الطول.
﴿ براءة من الله.. ﴾ لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك، جعل المشركين، ينقضون العهود التي كانت بينه صلى الله عليه وسلم وبينهم، فأمره الله بنبذ عهودهم، كما قال تعالى :﴿ وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء ﴾ ففعل صلى الله عليه وسلم ما أمر به. أي هذه براءة واصلة من الله ورسوله إلى المشركين، بسبب خيانتهم بنكث العهود التي كانت بينه وبينهم وأصل البراءة : التباعد والتفصي مما يكره مجاورته. يقال : برئ منه يبرأ براءة، إذا تخلص منه وتباعد عنه، ويقال : برئ، إذا أعذر وأ نذر، أي هذا إعذار وإنذار إلى الذين عاهدتم من المشركين.
﴿ فسيحوا في الأرض أربعة أشهر ﴾ ولكي لا ينسب إلى المسلمين الغدر ونبذ العهد دون إعلام وإنذار، أمهل الناكثون مدة أربعة أشهر، يباح لهم فيها أن يسيروا في الأرض حيث شاءوا آمنين من القتل والقتال، ليتفكروا ويحتاطوا ويستعدوا، ويعلموا أن ليس بعدها إلا الإسلام أو السيف. وبعث الرسول صلى الله عليه وسلم عليا – كرم الله وجه – بالأربعين آية الأولى من هذه السورة، فأعلمهم بها في يوم الحج الأكبر – هو يوم النحر – في السنة التاسعة، وقد كان فيها عاشر ذي القعدة بسبب النسئ الذي ابتدعه المشركون، فيكون آخر مدة الإمهال اليوم العاشر من شهر ربيع الأول من السنة العاشرة. وقيل : إن يوم النحر في السنة التاسعة كان عاشر ذي الحجة، ونهاية المدة العاشر في شهر ربيع الآخر من السنة العاشرة. والسياحة في الأصل : جريان الماء وانبساطه على موجب طبيعته، ثم استعملت في الضرب والاتساع في السير، فيقال : ساح في الأرض سيحا وسياحة، إذا مر فيها مر السائح.
﴿ وأذان من الله ورسوله ﴾ أي إيذان وإعلام من الله ورسوله إلى الناس عامة يوم الحج الأكبر – وهو يوم النحر – بان الله ورسوله قد برئا من عهود المشركين، وأنها قد نبذت : إليهم. يقال : آذنه الأمر وبه، أعلمه.
﴿ إلا الذين عاهدتم ﴾ أي لكن الذين لم ينكثوا العهد من المشركين﴿ ثم لم ينقصوكم شيئا ﴾ كم شروطه ﴿ و لم يظاهروا عليكم أحدا ﴾ لم يعاونوا عليكم أحدا من أعدائكم، كما عاونت قريش بني بكر على خزاعة، وكانت خزاعة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم. ﴿ فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم ﴾ ولا تجروهم مجرى الناكثين إذا بقوا على ما هم عليه من الوفاء بالعهد، وهو بنوا ضمرة وبنوا مدلج من كنانة، وقد بقى منه عهدهم تسعة أشهر فأتم إليهم عهدهم. وسيأتي ذكرهم في الآية السابعة من هذه السورة.
﴿ فإذا انسلخ الأشهر الحرم ﴾ فإذا انقضت، أو خرجت أشهر الأمان الأربعة المذكورة، ﴿ فاقتلوا المشركين ﴾ الناكثين ﴿ حيث وجدتموهم ﴾ وسميت حرما لأنه تعالى جعلها مدة أمان لهم يرحم قتالهم فيها، من السلخ بمعنى الكشط. يقال : سلخ الإهاب عن الشاة يسلخه ويسلخه سلخا، كشطه ونزعه عنها. أو بمعنى الإخراج، من قولهم : سلخت الشاة عن الإيهاب إذا أخرجتها منه، ثم استعير للانقضاء ﴿ و اقعدوا لهم كل مرصد ﴾ أي في كل طريق يجتازون منه في أسفارهم حتى تأخذوهم من أي وجهة توجهوا. والمرصد : الموضع الذي يرقب فيه العدو. يقال : رصدت الشيء أرصده رصدا ورصدا، إذا ترقبته.
﴿ و إن أحد من المشركين ﴾ وإن أستأمنك بعد انقضاء مدة الأمان، وطلب جوارك وحمايتك أحد من المشركين الذين أمرت بقتالهم وقتلهم ليسمع القرآن ويتدبره، ويطلع على حقيقة الإسلام، فأجره وأمنه حتى يسمع كلام الله ولا يبقى له عذر، ثم أبلغه موضع أمنه إن لم يسلم. وهذه الآية – كما قال الحسن – محكمة غير منسوخة بآية :﴿ و قاتلوا المشركين كافة ﴾.
﴿ كيف يكون للمشركين عهد ﴾ استفهام في معنى الإنكار، أي مستنكر أن يكون لهؤلاء المشركين الناكثين عهود عند الله ورسوله فإنهم قوم خيانة وغدر، وليس لمن لم يف بعهد أن يفي الله ورسوله بالعهد. ﴿ إلا الذين عاهدتم ﴾ أي لكن الذين عاهدتم ولم ينكثوا، وهو الذين سبق استثناؤهم في الآية الرابعة، فاستقيموا لهم على العهد مدة استقامتهم لكم عليه. والمراد بالمسجد الحرام : الحرم كله.
﴿ كيف و : إن يظهروا عليكم ﴾ أي كيف يكون لهؤلاء الناكثين عهد عند الله وعند رسوله والحال أنهم ﴿ إن يظهروا عليكم ﴾ يظفروا بكم ويغلبوكم ﴿ لا يرقبوا فيكم ﴾ لا يراعون في أمركم﴿ إلا ﴾ عهدا، أو حلفا أو قرابة ﴿ ولا ذمة ﴾ حقا أو عهدا. يقال : ظهر عليه يظهر، غلبه. وأظهره الله على عدوه : أعانه عليه. والذمة : كل أمر لزمك بحيث إذا ضيعته لزمك مذمة. أو هي : ما يتذمم به، أي يجتنب فيه الذم.
﴿ وإن نكثوا أيمانهم ﴾ نقضوا أيمانهم من بعد عهدهم الموثق. يقال : نكث العهد والحبل ينكثه
وينكثه، نقضه فانتكث. وأصله من النكث، وهو أن تنقض أخلاق الأكسية لتغزل ثانية.
﴿ قاتلوهم... ﴾ قاتلوا هؤلاء الناكثين الذين طعنوا في دينكم وبدءوكم بالقتال، حيث هموا بإخراج الرسول من مكة، وقاتلوا خزاعة حلفاءكم، فليس لهؤلاء عهد ولا ذمة، إلا من تاب منهم ورجع إلى الله فكفوا عن قتاله.
﴿ أم حسبتم أن تتركوا... ﴾ خطاب لمن شق عليهم القتال من المؤمنين أو المنافقين، وبيان للحكمة في الأمر به، وأنها الامتحان والتمحيص. أي بل أظننتم أن تتركوا دون أن تؤمروا بقتال المشركين، ولما يعلم الله المخلصين منكم فيه غير المتخذين بطانة من المشركين، يفشون إليهم أسرارهم ويداخلونهم في أمورهم، أي ولم يظهر الله الذين جاهدوا منكم مع الإخلاص، ممن جاهدوا بدونه، ولم يميز لكم هؤلاء من أولئك. فنفي العلم مجاز عن نفي التبيين والإظهار. فكلمة ﴿ أم ﴾ بمعنى بل التي للإضراب الانتقالي وهمزة الاستفهام الإنكاري. و﴿ لما ﴾ للنفي مع توقع الحصول. و﴿ وليجة ﴾ أي بطانة، من الولوج وهو الدخول. ووليجة الرجل : من يداخله في باطن أموره، وهو صاحب سره. وقوله﴿ ولم يتخذوا ﴾ معطوف على ﴿ جاهدوا ﴾ داخل في حيز صلة الموصول. ونظير هذه الآية قوله تعالى :﴿ أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون. و لقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين ﴾، وقوله تعالى :﴿ ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب ﴾.
﴿ ما كان للمشركين... ﴾ افتخر المشركون بأنهم عمار المسجد الحرام، وحجبة الكعبة، وأنهم يقرون الحجيج ويفكون العاني أي الأسير، فنزلت الآية. أي ما ينبغي للمشركين أن يعمروا المسجد الحرام بدخوله والخدمة فيه، حال كونهم مقرين على أنفسهم بالكفر بسجودهم للأصنام، وهو محبط لكل ما عملوا من بر وخير وافتخروا به، موجب لخلودهم في النار. وذكر المسجد الحرام بلفظ الجمع لأنه قبلة المساجد كلها، فعامره كعامرها.
﴿ إنما يعمر مساجد الله... ﴾ بيان لصفات من هم أهل لعمارة المساجد، وهي الأربعة المذكورة الجامعة لخيري الدنيا والآخرة.
﴿ أجعلتم سقاية ﴾ أي أتسوون أهل سقاية الحجيج وعمارة المسجد الحرام منكم، وأنتم على هذا
الشرك، بمن آمن بالله وأخلص له العبادة، وجاهد في سبيله بالنفس والمال. كلا. وقد بين الله فضلهم وعظم منزلتهم في الآية التالية.
﴿ يا أيها الذين آمنوا..... ﴾ لما أمر المهاجرون بالهجرة شق عليهم هجر أهليهم وأموالهم
وديارهم، فنزلت فهاجروا طائعين ابتغاء رضوان الله، وامتثالا لأمر رسوله صلى الله عليه
وسلم.
﴿ وأموال اقترفتموها ﴾ اكتسبتموها ( آية ١١٣ الأنعام ص ٢٣٨ ).
﴿ كسادها ﴾ بوارها بفوات وقت رواجها بسبب غيابكم من مكة أيام الموسم. مصدر كسد الشيء – من باب نصر وكرم – كسادا وكسودا، لم ينفق، فهو كاسد وكسيد، أي غير رابح.
﴿ فتربصوا ﴾ أي انتظروا ﴿ حتى يأتي الله بأمره ﴾ يأتي بعقوبته. وهو تهديد وتخويف لمن آثر محبة من ذكر على محبة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم. وفي الآية دليل على أنه إذا تعارضت مصلحة الدين مع مهمات الدنيا وجب ترجيح جانب الدين على الدنيا ليبقى الدين سليما.
و هذا موقف تزل فيه الأقدام.
﴿ لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ﴾ امتنان على المؤمنين بالنصر على الأعداء الذي يبذل الغيور في سبيله أحب أشياء إليه. أي لقد نصركم الله على أعدائكم في مواقع حرب كثيرة، هو ممن أعظمها غزوة بدر وقريظة وخيبر ومكة. ﴿ ويوم حنين ﴾ أي ونصركم يوم غزوة حنين، وهو واد معروف بين مكة والطائف. وتسمى غزوة هوازن وثقيف. وكانت في شوال عقب رمضان الذي وقع فيه فتح مكة سنة ثمان من الهجرة. وكان عدد المسلمين أثنى عشر ألفا، وعدد الكفار أربعة آلاف.
﴿ فلم تغن عنك شيئا ﴾ فلم تنفعك تلك الكثرة شيئا من النفع في أمر العدو، من الغناء وهو النفع. تقول : ما يغنى عنك هذا، أي ما يجزئ عنك وما ينفعك. ﴿ و ضاقت عليكم الأرض بما رحبت ﴾ أي برحبها وسعتها.
﴿ ثم أنزل الله سكينته ﴾ رحمته التي تسكن إليها القلوب، وتطمئن اطمئنانا. يستتبع النصر القريب، من السكون، وهو الثبوت بعد التحرك. أو من السكن، وهو زوال الرعب.
﴿ إنما المشركون نجس ﴾ قذر. مصدر نجس الشيء ينجس، إذا كان قذرا غير نظيف. أخبر عنهم بالمصدر مبالغة، كأنهم عين النجاسة. ﴿ فلا يقربوا المسجد الحرام ﴾ أي الحرم كله. والمراد نهى المسلمين عن تمكينهم من قربانه﴿ بعد عامهم هذا ﴾ وهو التاسع من الهجرة ﴿ و إن خفتم عيلة ﴾ فقرا وفاقة بسبب منعهم من دخول أرض الحرم، إذ كانوا يأتون في الموسم للمتاجر. يقال : على يعيل علية وعيولا، إذا افتقر فهو عائل﴿ فسوف يغنيكم الله من فضله ﴾ وقد أغناهم وأفضل عليهم كثيرا.
﴿ قاتلوا الذين لا يؤمنون ﴾ أمر بقتال أهل الكتابيين بعد الأمر بقتال المشركين، بسبب أنهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، وإيمانهم الذي يزعمونه كلا إيمان. ﴿ و لا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق ﴾ وهو دين الإسلام، وهو الدين ارتضاه الله لعباده. ﴿ حتى يعطوا الجزية ﴾ وهو ما قدر على رءوسهم من المال، نظير كفنا عن قتالهم واسترقاقهم وحمايتنا لهم، من الجزاء بمعنى القضاء. أو من المجازاة بمعنى المكافأة، لأنهم يجزونا عن الإحسان إليهم بذلك. ﴿ عن يد ﴾ عن طوع وانقياد. ﴿ ولهم صاغرون ﴾ أذلاء، والذليل من أذلة الله، والعزيز من أعزه الله. وأصل اليد الجارحة، كني بها عما ذكر. يقال : أعطى فلان يده، إذا سلم وانقاد، لأن من أتى لا يعطى يده.
﴿ و قالت اليهود... ﴾ قائل ذلك بعض متقدميهم، أو بعض من كانوا بالمدينة. ونسبة القيبح الصادر من البعض إلى الكل شائع. وكذا القائل ببنوة المسيح له تعالى بعض النصارى.
﴿ يضاهئون قول الذين كفروا من قبل ﴾ أي يشابهون في هذه الأقوال الشنيعة قول المشركين الذين قالوا : الملائكة بنات الله. والمضاهأة والمضاهاة : المشابهة والمشاكلة، أوالموافقة. ﴿ قاتلهم الله ﴾ دعاء عليهم بالإهلاك. ﴿ أنى يؤفكون ﴾ كيف يصرفون عن الحق إلى الباطل، بعد وضوح الدليل على استحالة أن يكون له تعالى ولد ( آية ٧٥ المائدة ص ٢٠٢ ).
﴿ اتخذوا أحبارهم ورهبانهم ﴾ أي اتخذ اليهود علماءهم، والنصارى نساكهم كالأرباب من دون الله، حيث أطاعهم في تحريم ما أحل الله وتحليل ما حرمه ( آية ٤٤، ٨٢ المائدة ص ١٩٣، ٢٠٣ ) ﴿ والمسيح بن مريم ﴾ واتخذوا المسيح ربا معبودا من دون الله. أو ابنا لله تعالى. ﴿ وما أمروا إلا يعبدوا إلاها واحدا ﴾ أي والحال أنهم ما أمروا في الكتب الإلهية وعلى لسان موسى وعيسى عليهما السلام إلا ليخلصوا العبادة لله تعالى وحده
﴿ إن كثير من الأحبار... ﴾ بيان لحال الأحبار والرهبان في إغوائهم لأرذلهم، بعد بيان سوء حال الأتباع باتخاذهم كالأرباب، وانقيادهم لهم فيما يأتون ويذرون.
﴿ و الذين يكنزون الذهب والفضة... ﴾ لما وصف الله أهل الكتاب بالحرص على أكل أموال الناس بالباطل، ذكر بعده وعيد من جمع المال، ومنع الحقوق الواجبة فيه، سواء أكان من أهل الكتاب أم من المسلمين. والمراد بالإنفاق في سبيل الله : أداء الزكاة. وكل شيء مجموع بعضه إلى بعض في بطن الأرض أو على ظهرها : كنز، وجمعه كنوز. وعن أبن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( ما أدى زكاته فليس بكنز ) أي بكنز أوعد عليه.
﴿ إن عدة الشهور.. ﴾ كانت الأشهر الحرم الأربعة : رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم – معظمة في الجاهلية ومحرما فيها القتال، فإذا جاء شهر حرام وهم محاربون أحلوه وحرموا مكانه شهرا آخر، فيستحلون المحرم ويحرمون صفرا، فإذا احتاجوا إليه أحلوه وحرموا ما بعده، وهكذا حتى استدار التحريم على شهور السنة كلها، وقد يجعلون السنة ثلاثة عشر شهرا، أو أربعة عشر ليتسع لهم الوقت، ويحرموا أربعة منها. وكان يختلف وقت حجهم تبعا لذلك وقد أبطل الله هذا النسئ الذي ابتدعوه وحرمه في هذه الآية، و أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع بمنى في أوسط أيام التشريق ب ( أن الزمن قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ثلاثة متواليات ورجب مضر )، وعاد يوم الحج الأكبر إلى ما كان عليه في عهد إبراهيم وإسماعيل وهو العاشر من ذي الحجة كل عام وعظمت الأشهر الحرم في الإسلام، وجعلت المعصية فيها أعظم وزرا منها في غيرها، كارتكابها في الحرم وفي حال الإحرام، ولله تعالى أن يميز بعض الأزمنة عن بعض بالفضل والتعظيم، إلا أن القتال فيها إعلاء لكلمة الله غير محرم في الإسلام، كما كان محرما في الجاهلية، لأن الشرك ظلم وفتنة وفساد، وخطره أشد من خطر القتال فيها، كما قال تعالى.
﴿ و الفتنة أشد من القتل ﴾ ولذا قال تعالى :﴿ و قاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة ﴾ ولم يستتن القتال في الأشهر الحرم، فدل على جوازه فيها كغيرها من الأشهر، وإليه ذهب الجمهور وخالف في ذلك عطاء بن أبي رباح، فذهب إلى أنه لا يحل القتال فيها ولا في الحرم إلا أن يكون دفاعا ويؤيد الجمهور أنه صلى الله عليه وسلم حاصر الطوائف وغزا هوازن بحنين في شوال وذي القعدة سنة ثمان من الهجرة. وقوله :﴿ ذلك الدين القيم ﴾ أي كون العدة كذلك، وتحريم الأربعة منها هو الدين المستقيم دين إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام.
﴿ فلا تظلموا فيهن أنفسكم ﴾ بارتكاب المعاصي، فإنها فيهن أعظم وزرا.
﴿ إنما النسيء ﴾ أي تأخير حرمة شهر إلى شهر آخر، مصدر نسأه أي أخره فهو منسوء كقتيل بمعنى مقتول. ﴿ ليواطئوا ﴾ ليوافقوا بما يصنعون من النسيء عدة الأشهر الحرم بحيث تكون أربعة في العدد، وإن لم تكن عين الأشهر المحرمة في دين إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام.
﴿ يا أيها آمنوا... ﴾ نزلت في غزوة تبوك، وهي على طرف الشام بينها وبين المدينة أربع عشرة مرحلة، وكانت في رجب سنة تسع بعد رجوعه صلى الله عليه وسلم من الطائف، حين بلغه أن هرقل جمع أهل الروم وأهل الشام لمحاربته، فاستنفر الناس في وقت عسرة وشدة من الحر وجدب في البلاد، حتى بلغ الجهد بهم مبلغه، وكان العشرة منهم يعتقبون بعيرا واحدا، وكان زادهم التمر المدود، والشعير المسوس فشق ذلك عليهم. ولكن المخلصين من المؤمنين صبروا على هذه الشدائد، احتسابا لله تعالى، ولم يتخلف منهم إلا القليل. و تخلف عنها المنافقون وكثير من الأعراب. و تسمى غزوة العسرة، ويقال لها : الفاضحة، لأنها أظهرت حال كثير من المنافقين، وهي آخر غزواته صلى الله عليه وسلم. وقد أنفق فيها عثمان رضي الله عنه نفقة عظيمة لم ينفق أحد مثلها. وأول من أنفق فيها أبو بكر رضي الله عنه فجاء بجميع ماله، وعمر رضي الله عنه فجاء بنصف ماله، وعبد الرحمن بن عوف وطلحة والنساء بحليهن. ﴿ انفروا ﴾ اخرجوا للجهاد ﴿ في سبيل الله ﴾ يقال : نفر إلى الحرب ينفر وينفر نفرا ونفورا، خرج إليه بسرعة. واستنفر الإمام الناس : حثهم على الخروج للجهاد. و اسم القوم الذين يخرجون : النفير والنفرة والنفر. ﴿ إثاقلتم إلى الأرض ﴾ تباطأتم في الخروج مائلين إلى الإقامة بأرضيكم ودياركم، من الثقل : ضد الخفة. يقال : نثاقل عنه، أي ثقل وتباطأ. وتثاقل القوم : لم ينهضوا للنجدة وقد استنهضوا لها.
﴿ ثاني اثنين ﴾ أحد اثنين. والثاني هو الصديق رضي الله عنه ﴿ إذ هما في الغار ﴾ بأعلى جبل ثور بمكة ﴿ فأنزل الله سكينته ﴾ طمأنينة على النبي صلى الله عليه وسلم ﴿ وأيده بجنود لم تروها ﴾
وهم الملائكة يحرسونه ويسكنون روعه، ويصرفون أبصار الكفار عنه.
﴿ انفروا خفاقا وثقالا... ﴾ أي على الصفة التي يخف عليكم الجهاد فيها، وعلى الصفة التي يثقل عليكم الجهاد فيها. جمع خفيف وثقيل.
﴿ لو كان عرضا... ﴾ نزلت في المنافقين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك، واستأذنوا في القعود عنها بأعذار كاذبة، فأذن لهم النبي صلى الله عليه وسلم. أي لو كان ما دعوا إليه غنما سهل المأخذ، وسفرا متوسطا بين القرب والبعد لا مشقة فيه، لخرجوا معك طمعا في المنافع التي تصل إليهم. والعرض : ما عرض لك من منافع الدنيا ومتاعها. والسفر القاصد : ما بينا. و كل متوسط بين الإفراط والتفريط فهو قاصد، أي ذو قصد، لأن كل واحد يقصده. والقاصد
والقصد : المعتدل. ﴿ بعدت عليهم الشقة ﴾ أي المسافة التي تقطع بمشقة. وتطلق على الناحية يقصدها المسافر وتلحقه المشقة في الوصول إليها. وعلى السفر البعيد.
﴿ في ريبهم يترددون ﴾ في شكهم الذي حل بقلوبهم يتحيرون، لا مع المؤمنين ولا مع الكفار. وأصل معنى التردد : الذهاب والمجيء، استعمل في التحير مجازا أو كناية، لأن المتحير لا يقر في مكانه.
﴿ فثبطهم ﴾ منعهم وحبسهم. يقال : ثبطه تثبيطا، قعد به عن الأمر، وشغله عنه ومنعه، تخذيلا ونحوه.
﴿ ما زادوكم إلا خبالا ﴾ شرا وفسادا، لأنهم جبناء مخذلون. وأصل الخبال : اضطراب ومرض يؤثر في العقل كالجنون. أو هو الاضطراب في الرأي. ﴿ و لأوضعوا خلالكم.. ﴾ ولسعوا بينكم مسرعين بالنمائم وإفساد ذات البين، من الإيضاع، وهو في الأصل : سرعة سير الإبل. يقال : أوضعت الناقة إذا أسرعت في سيرها. و أضعتها أنا : حملتها على السير بسرعة، فيستعمل لازما ومتعديا. والخلال : جمع خلل وهو الفرجة بين الشيئين، واستعمل ظرفا بمعنى بين ومفعول الإيضاع محذوف، تقديره النمائم.
﴿ يبغونكم الفتنة ﴾ أي باغين لكم ما تفتنون به من الخلف فيما بينكم، وتهويل أمر العدو عليكم،
وإلقاء الرعب في قلوبكم. يقال : أبغني كذا، وابغ لي كذا، أي اطلبه لأجلي.
﴿ ومنهم من يقول.. ﴾ أي من المنافقين من يقول : ائذن لي في التخلف في المدينة ﴿ و لا تفتني ﴾ أي ولا توقعني في المعصية والإثم، إذا لم تأذن لي فتخلفت بغير إذنك. والقائل هو الجد بن قيس وكان رأسا في المنافقين، زعم أنه مغرم بالنساء، ويخشى إذا رأى نساء بني الأصفر أن يفتتن بهن، وقال : أنا أعطيكم مالي.
﴿ هل تربصون بنا... ﴾ أي ما تنتظرون بنا إلا إحدى العاقبتين اللتين كل منهما أحسن من جميع العواقب : إما ظفرنا بالعدو، وفيه الأجر والمغنم والسلامة ؟ وإما قتل العدو لنا، وفيه الشهادة
والفوز بالجنة والنجاة من النار ؟ وكلاهما مما نحب ولا نكره. و الاستفهام للتقريع والتوبيخ.
﴿ لن يتقبل منكم ﴾ ما أنفقتموه أي لن يؤخذ منكم، أو لن تثابوا عليه، لعتوكم وتمردكم على الله
و رسوله، وخروجكم عن الطاعة والاستقامة.
﴿ و هم كسالى ﴾ متثاقلون بها، لأنهم لا يرجون بأدائها ثوابا، ولا يخافون بتركها عقابا، وإنما يقيمونها نفاقا جمع كسلان، من الكسل وهو التثاقل عن الشيء والفتور فيه، وفعله كفرح.
﴿ وتزهق أنفسهم ﴾ ولتخرج أرواحهم وتهلك فيموتوا على الكفر. يقال : زهقت نفسه تزهق، خرجت وزهق الشيء هلك.
﴿ يفرقون ﴾ يخافون أن ينزل بهم ما نزل بالمشركين من القتل والسبي، فيظهرون لكم الإسلام تقية ويؤيدونه بالأيمان الفاجرة، ويبطنون الكفر في قلوبهم، من الفرق، وأصله انزعاج النفس يتوقع الضرر. يقال : فرق فرقا إذا خاف، وأفرقته أي أخفته.
﴿ لو يجدون ملجأ ﴾ أي حصنا ومعقلا يلجئون إليه ﴿ مغارات ﴾ كهوفا في الجبال يستخفون فيها. ﴿ أو مدخلا ﴾ سردابا في الأرض، أو نفقا كنفق اليربوع ينجحرون فيه ﴿ لولوا إليه ﴾ أي لأقبلوا إليه ﴿ وهو يجمحون ﴾ يسرعون أشد الإسراع، لا يردهم شيء كالفرس الجموح، لشدة بغضهم إياكم، وخوفهم من القتل. والجموح : أن يغلب الفرس صاحبه في سيره وجريه. يقال : جمح الفرس براكبه يجمح جمحا وجموحا، استعصى عليه حتى غلبه، فهو جموح وجامح.
﴿ و منهم من يلمزك ﴾ ومن المنافقين من يعيبك ويطعن عليك في قسمة أموال الزكاة، أو فيها وفي قسمه الغنائم، من اللمز وهو العيب. يقال : لمزه وهمزه يلمزه ويهمزه، إذا أعابه.
﴿ ولو أنهم رضوا ﴾ الجواب مقدر، أي لكان خيرا لهم.
﴿ إنما الصدقات للفقراء ﴾ أي الزكاوات المفروضة مقصورة على هذه الأصناف الثمانية.
والفقير : من له أدنى شيء من المال. والمسكين : من لا شيء له، فيحتاج إلى المسألة لقوته
ومداراة بدنه. وقيل : الفقير من لا مال له ولا كسب يقع موقعا من حاجته. والمسكين : من له مال أو كسب لا يكفيه. وأصل الفقير : المكسور فقار الظهر. أو هو من الفقرة أي الحفرة، ثم استعمل فيما ذكر لانكساره بعدمه وحاجته. أو لكونه أدنى حالا من أكثر الناس، كما أن الحفرة، ثم استعمل فيما ذكر لانكساره بعدمه وحاجته. أو لكونه أدنى حلا من أكثر الناس، كما أن الحفرة أدنى من سطح الأرض المستوية. والمسكين مأخوذ من السكون ضد الحركة، لأن العدم أسكنه وأذله.
﴿ و في الرقاب ﴾ أي في فكها، بأن يعان المكاتبون بشيء منها على أداء يدل الكتابة. أو يشترى بها رقاب فتعتق. أو يفدى بها الأسارى ( آية ١٧٧ البقرة ص ٥٨ ). ﴿ و الغرمين ﴾ المديونين الذين لا يجدون قضاء. وفي الفقه تفصيل لهذا الصنف. ﴿ وفي سبيل الله ﴾ فسره الجمهور بالغزاة الفقراء.
وقيل : طلبة العلم الفقراء. وقيل : منقطعوا الحجيج. وفسره في البدائع بجميع القربات. نقل القفال جواز صرف هذا السهم إلى جميع وجوه الخير، من تكفين الموتى وبناء الحصون وعمارة المساجد، لعموم قوله ﴿ في سبيل الله ﴾. ﴿ وابن السبيل ﴾ المسافر المنقطع عن ماله في سفره وإن كان غنيا في بلده، وألحق به كل من غاب عن ماله، وإن كان في بلده. وقيل : هو الحاج المنقطع في سفره، أو هو الضيف.
أما المؤلفة قلوبهم فهم أصناف، وفي حكم سهمهم بعده صلى الله عليه وسلم أقوال مبينة في الفقه.
﴿ هو أذن ﴾ أي يصدق كل ما يقال له. يريدون أنه سريع الاغترار بكل ما يسمع، وحاشاه ذلك، أطلق عليه اسم الجارحة التي هي آلة السمع، كما قيل للربيئة عين.
﴿ قل أذن خير لكم ﴾ أي أذن في الخير والحق، وفيما يجب سماعه وقبوله، وليس بأذن في غير ذلك كما تقصدون. و الإضافة على معنى في، وهذا أبلغ أسلوب في الرد على المنافقين. ﴿ يؤمن بالله ﴾ يصدق بالله، ويسمع للمؤمنين، لكونهم صادقين عنده.
﴿ يحادد الله ورسوله ﴾ يخالف الله ورسوله. و أصل المحادة : المخالفة والمجانية والمعاداة، مشتقة من الحد. يقال : حاد فلان فلانا، إذا صار في غير حده وجهته، وجانبه وخالفه، كالمشاقة.
﴿ مخرج ما تحذرون ﴾ مظهر ما تخافونه من الفضيحة، مأخوذ من الحذر –بالكسر ويحرك – بمعنى التحرر، وفعله كطرب.
﴿ كنا نخوض ونلعب ﴾ كنا نتحدث ونخوض في الكلام، لقصر مسافة السفر بالحديث. أجابوا بذلك حين أطلع الله ورسوله على ما قالوه استهزاء به في مسيره في غزوة تبوك ( راجع آية ١٤٠ النساء ص ١٧٤ ).
﴿ ويقبضون أيديهم ﴾ أي عن الإنفاق في طاعة الله ومرضاته، كناية عن الشح والبخل، كما أن بسطها كناية عن الجود والسخاء، لأن من يعطي يمد يده بالعطاء، بخلاف من يمنع.
﴿ نسوا الله فنسيهم ﴾ تركوا أمر الله حتى صاروا كالناسين له، فجازاهم بأن صيرهم بمنزلة المنسي من ثوابه ورحمته.
﴿ هي حسبهم ﴾ كافيتهم جزاء وعقابا، لا يحتاجون إلى زيادة على عذابها. يقال : حسبك. أي كفاك وشيء حساب : أي كاف.
﴿ فاستمتعوا بخلاقهم ﴾ تمتعوا بنصيبهم الذي قدر لهم من ملا ذ الدنيا. والخلاق : مشتق من الخلق بمعنى التقدير، وأطلق على النصيب لأنه مقدر لصاحبه. ﴿ كالذي خاضوا ﴾ أي كالخوض الذي خاضوه.
﴿ والمؤتفكات ﴾ أي أصحاب قرى قوم لوط – عليه السلام – التي قلبت أعاليها أسافلها، من الإئتفاك، وهو الانقلاب بجعل أعلى الشيء أسفل بالخسف. يقال : أفكه يأفكه، إذا قلبه رأسا على عقب. وذكر الله هذه الطوائف الست، لأن آثارهم باقية، وبلادهم بالشام والعراق واليمين،
وكلها قريبة من أرض العرب، فكانوا يمرون عليها في أسفارهم، ويعرفون الكثير من أخبارهم.
﴿ في جنات عدن ﴾ أي إقامة وخلود. وقيل : هي اسم لمكان مخصوص في الجنة.
﴿ جاهد الكفار ﴾ بالقتال ﴿ و المنافقين ﴾ باللسان بالوعظ وإلزام الحجة. ﴿ و أغلظ عليهم ﴾ وشدد عليهم جميعا في الجهاد بقسمين.
﴿ وما نقموا ﴾ ما كرهوا وما عابوا شيئا ﴿ إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله ﴾ بالغنائم ( آية ٥٩ المائدة ص ١٩٧ ).
﴿ ومنهم من عاهد الله ﴾ أي من المنافقين. نزلت في شان ثعلبة بن حاطب من بني أمية بن زيد.
﴿ يعلم سرهم ونجواهم ﴾ يعلم ما انطوت عليه صدورهم من النفاق، وما تناجوا به بينهم من
المطاعن. و السر : هو الحديث المكتتم في النفس. والنجوى : المسارة بالحديث ( آية ١٤ النساء ص ١٦٨ ).
﴿ جهدهم ﴾ أي طاقتهم وما تبلغه قوتهم، وهم الفقراء.
﴿ استغفر لهم.. ﴾ أمر بمعنى الخير، أي استغفارك لهؤلاء المنافقين وعدمه سيان، ومهما أكثرت منه فلن يغفر الله لهم، لإصرارهم على الكفر والفسوق. وعن ابن عباس في سبب نزول الآية : أنه لما نزل قوله تعالى :﴿ سخر الله منهم ﴾ سأل اللامزون رسول الله صلى الله عليه وسلم الاستغفار لهم، فهم أن يفعل، فنزلت فلم يفعل. وذكر السبعين لإرادة التكثير والمبالغة على ما جرى عليه العرب في أساليبهم عند إرادة ذلك. ونظيره قوله تعالى :﴿ ذرعا سبعون ذراعا ﴾، وقوله صلى الله عليه وسلم :( من صام يوما في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفا ). وليس المراد بها التحديد، فلا مفهوم للعدد هنا. ويؤيد ذلك : التعليل بالكفر والفسق المذكورين بعد، فإنهما قائمان بهم مع الزيادة على السبعين.
﴿ فاقعدوا مع الخالفين ﴾ مع المتخلفين بعد القوم عن الجهاد لعدم لياقتكم له، كالنساء والصبيان ونحوهم وجمع جمع المذكر للتغليب.
﴿ ولا تصل على أحد منهم.. ﴾ نهى صلى الله عليه وسلم عن صلاة الجنازة على من مات منهم وفيها الدعاء والاستغفار، وعن القيام عند قبره للدفن أو للزيارة والدعاء له، لأنهم كفروا بالله
ورسوله، وماتوا على فسقهم. وكانوا من عادته صلى الله عليه وسلم أن يفعل ذلك لمن مات من المسلمين، وكان يعامل المنافقين بحكم الظاهر معاملة المسلمين، حتى نزلت هذه الآية، فما صلى بعدها على منافق، ولا قام على قبره حتى قبض صلى الله عليه وسلم.
﴿ استأذنك أولوا الطول منهم ﴾ أي استأذنك في التخلف عن الجهاد أصحاب الغنى والسعة من المنافقين.
﴿ مع الخوالف ﴾ أي مع النساء اللاتي تخلفن عن أعمال الرجال وقعدن في البيوت. أو مع الرجال العاجزين عن القتال : امرأة خالفة، ورجل خالفة، أي لا خير فيه. والتاء للنقل إلى الأسمية.
﴿ و جاء المعذرون... ﴾ شروع في بيان أحوال منافقي الأعراب، بعد بيان أحوال منافقي أهل
المدينة. وكان منافقو الأعراب قسمين : قسم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم معتذرا بأعذار كاذبة، وهم أسد وغطفان، اعتذروا بالجهد وكثرة العيال. وقيل : هم رهط عامر بن طفيل، اعتذروا بخوف إغارة طيء على أهليهم ومواشيهم، وهؤلاء هم المعذرون، من عذر في الأمر، إذا قصر فيه موهما أن له عذرا ولا عذر له. وقسم لم يجيء ولم يعتذر، وهم الذين ذكرهم الله تعالى بقوله :﴿ وقعد الذين كذبوا الله ورسوله ﴾ أي قعدوا عن المجيء إليه للاعتذار : سكان البادية. والعرب : سكان المدن والقرى.
﴿ ليس على الضعفاء... ﴾ شروع في ذكر أرباب الأعذار الحقيقية، بعد ذكر أرباب الأعذار المختلفة. أي لا إثم في التخلف عن الجهاد على العاجزين عنه وهم : الضعفاء كالشيوخ والنساء والصبيان. والمرضى كالعمي والزمنى والعرج. والفقراء العاجزون عن أهبة السفر والجهاد كجهينة ومزينة وبني عذوة،
﴿ إذا نصحوا لله ورسوله ﴾ بالإيمان والطاعة ظاهرا وباطنا. والنصح في الأصل : الخلاص. يقال : نصحته ونصحته له. واستعمل في إرادة الخير للمنصوح له، وأريد منه ما ذكرنا مجازا.
﴿ وأعينهم تفيض من الدمع ﴾ أي تسيل دمعا من الحزن على فقدان ما ينفقونه على أنفسهم في الجهاد. والفيض : انصباب عن امتلاء، وإسناده إلى العين للمبالغة، كما في جرى النهر.
﴿ إنما السبيل ﴾ أي الطريق للمعاقبة. والمراد بالطريق : الأعمال السيئة المفضية للعقاب.
﴿ يعتذرون إليكم ﴾ يعتذر المنافقون إليكم بعد عودتكم من الجهاد عن تخلفهم أعذارا باطلة. ويروى أنهم كانوا بضعة وثمانين رجلا.
﴿ لتعرضوا عنهم ﴾ لتتركوهم ولا تؤنبوهم، ولتصفحوا عنهم. ﴿ إنهم رجس ﴾ إنهم قذر أو نجس فاجتنبوهم. جعلوا نفس الرجس مبالغة في نجاسة أعمالهم.
﴿ الأعراب أشد كفرا ونفاقا ﴾ نزلت في أسد وغطفان، والعبرة بعموم اللفظ، أي أهل البادية أشد كفرا ونفاقا من أهل الحضر الكفار والمنافقين، لجفائهم وقساوة قلوبهم، وتوحشهم
ونشأتهم في معزل عن مخالطة العلماء بالدين، والتعلم منهم، وجهلهم بالقرآن والسنن.
﴿ و أجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله ﴾ وأخلق بألا يعملوا فرائض الله وأمره ونواهيه. يقال : هو جدير بكذا وأجدر، أي خليق به وأخلق. مشتق من الجدر وهو أصل الشجرة، فكأنه ثابت ثبوت الجدر في قولك : جدير وأجدر. والمراد وصف جنس الأعراب، بدليل قوله تعالى :﴿ ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ﴾.
﴿ مغرما ﴾ غرامة وخسارة، لأنهم لا ينفقونه رجاء لثواب، بل تقية ورياء، من الغرام بمعنى الهلاك لأنه سببه. ﴿ ويتربص بكم الدوائر ﴾ ينتظر بكم صروف الدهر ومصائبه التي يتبدل بها حالكم إلى سوء. والتربص : الانتظار. والدوائر جمع دائرة وهي النائبة ( آية ٥٢ المائدة ص ١٩٢ ).
﴿ عليهم دائرة السوء ﴾ دعاء عليهم بنحو ما يتربصون به. والسوء : مصدر ساءه يسوءه سواءا، إذا فعل به ما يكره فاستاء هو. والسوء – بالضم – اسم منه. وقيل : المفتوح بمعنى الذم، والمضموم بمعنى العذاب والضرر. وإضافة ﴿ دائرة ﴾ إلى ﴿ السوء ﴾ من إضافة الموصوف إلى الصفة، كما في رجل صدق.
﴿ وممن حولكم من الأعراب.. ﴾ شروع في ذكر أنواع المتخلفين عن غزوة تبوك، أي ومن الأعراب الذين حول المدينة كبعض أناس من قبائل سليم وأشجع وغفار ومزينة وجهينة. ومن أهل المدينة منافقون ﴿ مردوا على النفاق ﴾ مرنوا عليه وتمهروا فيه ﴿ لا تعلمهم ﴾ لعراقتهم في النفاق والتقية، مع كمال فطنتك وصدق فراستك﴿ نحن نعلمهم ﴾ لا يخفى علينا ما في سرائرهم ﴿ سنعذبهم مرتين ﴾ في الدنيا بالفضيحة وعذاب القبر ﴿ ثم يردون إلى عذاب عظيم ﴾ في الآخرة.
﴿ و آخرون اعترفوا بذنوبهم ﴾ أي ومن المتخلفين قوم آخرون اعترفوا بذنوبهم، وهي تخلفهم عن الغزو وعن صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه، وإيثارهم الدعة. ﴿ خلطوا عملا صالحا ﴾ وهو جهادهم في سبيل الله قبل هذه الغزوة ﴿ وآخر سيئا ﴾ وهو تخلفهم عن هذه الغزوة، وندموا وتابوا إلى الله منه. وكانوا عشرة أو أقل، ومنهم : أبو لبابة بن عبد المنذر. ولما بلغهم ما نزل في المتخلفين أوثقوا أنفسهم في سوارى المسجد، وحلفوا لا يحلهم إلا النبي صلى الله عليه وسلم، فأعرض عنهم حتى نزلت الآية فحل وثاقهم، إذ قبل الله توبتهم كما يفيده قوله تعالى :﴿ عسى الله أن يتوب عليهم ﴾ فإن الترجى في حقه تعالى إطماع، وهو من أكرم الأكرمين إيجاب. و لما أطلقهم طلبوا منه صلى الله عليه وسلم أن يأخذ أموالهم صدقة طهرة لهم، وكفارة عن ذنوبهم، فنزل ﴿ خذ من أموالهم صدقة.. ﴾.
﴿ و آخرون مرجون لأمر الله ﴾ أي ومن المتخلفين قوم موقوف أمرهم إلى أن يظهر أمر الله فيهم، وهم : مرارة بن الربيع وكعب بن مالك وهلال بن أمية، تخلفوا عن الغزوة كسلا مع الهم باللحاق به عليه الصلاة والسلام فلم يتيسر لهم، فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم وكان قد نزل ما نزل في المتخلفين قالوا : لا عذر لنا إلا الخطيئة، ولم يعتذروا كأصحاب السوارى، فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم باجتنابهم إلى أن نزلت آية ١١٧ :﴿ لقد تاب الله على النبي والمهاجرين ﴾. وكانت مدة وقفهم خمسين ليلة بقدر مدة التخلف، إذ كانت مدة غيبته صلى الله عليه وسلم عن المدينة خمسون ليلة، فلما تمتعوا بالراحة فيها مع تعب إخوانهم في السفر عوقبوا بهجرهم ووقفهم تلك المدة.
﴿ والذين اتخذوا مسجدا ضرارا ﴾ منصوب على الذم. أي وأذم الذين اتخذوا. أو مبتدأ بتقدير مضاف خبره :﴿ لا تقم ﴾ أي ومسجد الذين اتخذوا.... لا تقم فيه. و﴿ ضرارا ﴾ مفعول له، وكذا ما بعده. وهؤلاء الذين اتخذوه اثنا عشر رجلا من كبار النافقين، كانوا يصلون بمسجد قباء فقال لهم أبو عامر الراهب : ابنوا مسجدا واستعدوا بما استطعتم من قوة وسلاح فإني ذاهب إلى قيصر ملك الروم، فآتى يجند من الروم فأخرج محمدا وأصحابه، فلما بنوه رغبوا إليه صلى الله عليه وسلم أن يصلى فيه، فوعدهم أن يصلى فيه إذا عاد من تبوك إن شاء الله تعالى. فأوحى إليه خبرهم وأعلمه بتآمرهم، فلما عاد أمر بحرقه فحرق. والضرار : طلب المضارة ومحاولته، ومن ثم سمي مسجد الضرار. ﴿ وكفرا ﴾ أي وتقوية للكفر الذي يضمرونه ﴿ وتفريقا بين المؤمنين ﴾ وهو أهل قباء، حسدا لهم على اجتماعهم، وطبعا في اختلاف كلمتهم.
﴿ و إرصادا ﴾ أي انتظارا وإعدادا لمن حارب الله ورسوله ﴿ من قبل ﴾ أي من قبل بناء هذا المسجد – وهو أبو عامر الراهب الذي سماه الرسول صلى الله عليه وسلم أبا عامر الفاسق. يقال : أرصدته له أعددته. ورصدته وأرصدته في الخير، وأرصدت له في الشر.
﴿ لمسجد أسس على التقوى ﴾ هو مسجد قباء.
﴿ أفمن أسس بنيانه... ﴾ أي بعد ما علم حالهم، فمن أسس بنيان دينه على تقوى الله وطاعته
وطلبه رضوانه خير، أم من أسس بنيان دينه على ضلال وكفر ونفاق ؟ والشفا : الحرف
والشفير. والجرف – بضمتين - : البئر التي لم تطو. أو الهوة. أو المكان الذي يجرفه الماء
ويذهب به. وهار : أي هائر ساقط. يقال : هار البناء إذا سقط. وهو نعت ل﴿ جرف ﴾. وقد مثل بناء الدين على الباطل بالبناء على شفا جرف هار﴿ فانهار به ﴾ أي فسقط الجرف بالبنيان مع المباني ﴿ في نار جهنم ﴾.
﴿ لا يزال بنيانهم... ﴾ أي لا يزال ما بنوه سبب ريبة وشك في الدين، لأنه حين بني إنما بني لتفريق كلمة المؤمنين وتشتيت وحدتهم، وليتمكنوا فيه من إظهار ما في قلوبهم من كفر
وضلال، وليدبروا فيه الكيد للمسلمين. وحين هدم رسخ ما في قلوبهم من الشر، وتضاعفت آثاره ومفاسده.
﴿ إلا أن تقطع قلوبهم ﴾ أي إلا أن تتمزق قلوبهم، فحينئذ يسألون ذلك. والمراد أنهم لا يزالون كذلك ما داموا أحياء.
﴿ السائحون ﴾ أي الصائمون، سموا سائحون لتركهم الملاذ كالسائحين. وقيل : الغزاة المجاهدين.
﴿ ما كان للنبي والذين آمنوا.. ﴾ نزلت حين أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يستغفر لعمه أبي طالب بعد موته، فنهاه الله عن ذلك.
﴿ إن إبراهيم لأواه حليم ﴾ خاشع متضرع في الدعاء. أو كثير التأوه من خوف الله. قال أبو عبيدة : الأواه : المتأوه فرقا، المتضرع يقينا ولزوما للطاعة. وأصل التأوه : قول الرجل أوه. أو أوه، أي أوجع. و﴿ حليم ﴾ صبور على الأذى، صفوح عن الجناية، يقابلها بالإحسان والعطف.
﴿ لقد تاب الله على النبي.. ﴾ أي غفر الله للمؤمنين بسبب صبرهم على شدائد هذه الغزوة ما عساه قد فرط منهم من الزلات. وضم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذكرهم تنبيها على عظم مرتبتهم في الدين، وأنهم بلغوا الرتبة التي لأجلها ضم ذكره صلى الله عليه وسلم إلى ذكرهم. والعسرة : ضد اليسرة، فهي الشدة والضيق. ﴿ يزيغ قلوب ﴾ تميل عن الخروج مع الرسول صلى الله عليه وسلم لما فيه من الشدة والمشقة. والزيغ الميل. ﴿ ثم تاب الله عليهم ﴾ تأكيد للتوبة والعفو.
﴿ و على الثلاثة الذين خلفوا.. ﴾ أي وتاب على الثلاثة السابق ذكرهم في تفسير آية ١٠٦ الذين تخلفوا عن الغزو. ﴿ بما رحبت ﴾ أي مع رحبها أي سعتها. وأما الرحب – بالفتح - : فهو المكان المتسع. ﴿ ثم تاب عليهم ﴾ تأكيد للتوبة المفهومة مما سبق. ﴿ ليتوبوا ﴾ ليدوموا على التوبة ويثبتوا عليها.
﴿ ما كان لأهل المدينة.. ﴾ المراد بالنفي هنا : النهي. أي ليس لهم أن يتخلفوا عن رسول الله في الجهاد ﴿ و لا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ﴾ أي لا يجعلوا أنفسهم راغبة عما ألقي فيه نفسه،
والباء للتعدية.
أولا يرغبوا عن نفسه بأنفسهم، أي بسبب صوتها، والباء للسببية. وهو متضمن أمرهم بأن يصحبوه على البأساء والضراء، ويكابدوا معه الشدائد والأهوال برغبة ونشاط، وأن يلقوا أنفسهم في الشدائد ما تلقاه نفسه الكريمة ﴿ لا يصيبهم ظما ﴾ عطش﴿ ولا نصب ﴾ تعب ومشقة ﴿ ولا مخمصة ﴾ مجاعة شديدة.
تظهر خمص البطن وضموره، وفعلها كنصر﴿ و لا يطئون موطئا ﴾ ولا يدسون مكانا من أمكنة الكفار بأرجلهم أو حوافر خيلهم وأخفاف رواحلهم أو هو مصدر بمعنى وطأ ودوسا، من وطئ كفهم ﴿ ولا ينالون عن عدو نيلا ﴾ بقتل أو أسر، أو جراحة أو غنيمة، ونحو ذلك.
﴿ وما كان المؤمنين لينفروا كافة ﴾ أي ما ينبغي للمؤمنين ولا يجوز أن ينفروا جميعا للجهاد، ويتركوا النبي صلى الله عليه وسلم وحده في حالة عدم خروجه بنفسه للجهاد وعدم النفير للكافة بل يجب أن ينقسموا قسمين : طائفة تبقى معه لتعلم العلم والفقه في الدين، والتلقي من مشكاة النبوة. وطائفة تنفر للجهاد. فالماكثون يحفظون ما تجدد من الأحكام، فإذا قدم الغزاة علموهم ما تجدد في غيبتهم. فالتفقه والإنذار إنما هو عمل الطائفة الماكثة. وفي هذا التقسيم رعاية المصلحة في الجانبين.
﴿ قاتلوا الذين يلونكم... ﴾ لما أمروا بقتال المشركين كافة، أرشدهم الله إلى الطريق الأصلح، وهو أن يبدءوا بقتال الأقرب، حتى يصلوا إلى الأبعد فالأبعد، لعدم تصور القتال دفعة واحدة، ولهذا قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم أولا قومه، ثم انتقل إلى قتال سائر العرب، ثم إلى قتال أهل الكتاب، وهم قريظة والنضير وخيبر وفدك.. ثم انتقل إلى غزو الروم والشام، وتم فتحه في زمن الصحابة. ثم أنهم انقلبوا إلى العراق، ثم إلى سائر الأمصار، وإذا قاتل الأقرب أولا تقوى بما ينال منه على الأبعد.
﴿ في قلوبهم مرض ﴾ شك ونفاق وكفر. ﴿ فزادتهم رجسا ﴾ شكا ونفاقا وكفرا مضموما ﴿ إلى رجسهم ﴾ لأنهم كلما جحدوا سورة أو آية، أو استهزءوا بها ازدادوا فيما هم فيه. وأصل الرجس الشيء المستقذر. وما هم فيه أقذر شيء.
﴿ يفتنون... ﴾ يبتلون بالشدائد..
﴿ لا يفقهون ﴾ لا يتدبرون، أو لا يفهمون لسوء استعدادهم. يقال : فقه، وفقه يفقه، إذا فهم وعلم.
﴿ عزيز عليه ما عنتم ﴾ شديد وشاق عليه عنتكم ومشتكم، لكونه بعضا منكم. يقال : عز عليه، أي صعب وشق. والعنت المشقة. يقال : أكمة عنوت، أي شاقة، وفعله كفرح. والله أعلم.