تفسير سورة نوح

صفوة البيان لمعاني القرآن
تفسير سورة سورة نوح من كتاب صفوة البيان لمعاني القرآن .
لمؤلفه حسنين مخلوف . المتوفي سنة 1410 هـ
مكية، وآياتها ثمان وعشرون

بسم الله الرحمان الرحيم
﴿ إنا أرسلنا نوحا ﴾ هو ابن لمك بن متوشلح بن أخنون، وهو إدريس عليه السلام. ﴿ إلى قومه ﴾ قيل : هم سكان جزيرة العرب ومن قرب منهم. والمشهور : أنه كان يسكن أرض الكوفة، وهناك أرسل. ﴿ أن أنذر قومك ﴾ بأن أنذرهم وحذرهم عاقبة كفرهم ؛ من الإنذار، وهو إخبار فيه تخويف. يقال : أنذره ينذره إنذارا ؛ فهو منذر ونذير، وهم منذرون.
﴿ يغفر لكم من ذنوبكم ﴾ أي يغفر لكم ذنوبكم، أو بعض ذنوبكم وهو ما سلف قبل الإيمان مما لا يتعلق بحقوق العباد. ﴿ لو كنتم تعلمون ﴾ أي لو كنتم من أهل العلم لسارعتم إلى ما أمركم به. أو لو علمتم أن أجل الله إذا جاء لا يؤخر – لأنبتم إلى طاعة ربكم.
﴿ فرارا ﴾ تباعدا من الإيمان وإعراضا عنه. والفرار : الزوغان والهرب. يقال : فر يفر فرارا فهو فرور. وأصله الكشف عن سن الدابة ليعرف ؛ واستعمل فيما ذكر فيه من الكشف عن مكونات الصدور.
﴿ جعلوا أصابعهم في آذانهم ﴾ سدوا مسامعهم عن استماع الدعوة ؛ فهو كناية عما ذكر. ﴿ واستغشوا ثيابهم ﴾ بالغوا في التغطي بها. كأنهم طلبوا من ثيابهم أن تغشاهم ؛ لئلا يروه كراهة له من أجل دعوته. أو ليعرفوه إعراضهم عنه. وقيل : هو كناية عن العداوة ؛ كما يقال : لبس فلان ثياب العداوة. ﴿ وأصروا ﴾ أقاموا على كفرهم ؛ من الإصرار، وهو التعقد في الذنب والتشدد فيه، والامتناع من الإقلاع عنه. وأصله من الصرة بمعنى الشدة.
﴿ يرسل السماء عليكم مدرارا ﴾ ينزل المطر عليكم متتابعا غزيرا ؛ وفي ذلك الخصب ورغد العيش [ آية ٦ الأنعام ص ٢١٦ ].
﴿ ما لكم لا ترجون لله وقارا ﴾ أي لا تعتقدون له عظمة. أولا تخافون عظمته تعالى ؛ فتطيعونه وتخشون عقابه. والاستفهام إنكار لوقوع ذلك منهم. والرجاء بمعنى الاعتقاد أو الخوف. والوقار : العظمة.
﴿ وقد خلقكم أطوارا ﴾ أي وأنتم تعلمون أنه تعالى خلقكم مدرجا لكم في أدوار متعاقبة، وحالات مختلفة. والإخلال بتوقير من هذا شأنه مع العلم به مما لا يكاد يصدر عن عاقل ! جمع طور، وهو المرة والتارة. ويطلق على ما كان على حد الشيء وعلى المقدار. وكل ذلك مناسب للمعنى المراد.
﴿ ألم تروا كيف خلق الله ﴾ بيان لآيات آفاقية بعد بيان آيات الأنفس ؛ للاستدلال بها على ما يوجب عليهم توقير الله وتعظيمه عز شأنه. ﴿ سبع سموات طباقا ﴾ مطابقة ؛ بعضها فوق بعض – كالقباب – من غير مماسة [ آية الملك ص ٤٤٦ ].
﴿ وجعل القمر فيهن نورا ﴾ جعله في سماء الدنيا نورا للأرض ومن فيها. وإنما قال " فيهن " لأنها محاطة بسائر السموات، فما فيها يكون كأنه في الكل.
أو لأن كل واحدة منها شفافة ؛ فيرى الكل كأنه سماء واحدة ؛ فساغ أن يقال : " فيهن ". والمرجع الإيجاز والملابسة بالكلية والجزئية، وكونها طباقا شفافة.
﴿ وجعل الشمس سراجا ﴾ يزيل ظلمة الليل، ويبصر أهل الدنيا في ضوئها كل شيء ؛ وهي في السماء الرابعة.
﴿ سبلا فجاجا ﴾ طرقا واسعات. جمع فج، وهو الطريق الواسع. وقيل : هو المسلك.
﴿ إلا خسارا ﴾ ضلالا وذهاب عن محجة الصواب. مصدر خسر – كفرح وضرب – أي ضل. ويطلق على الهلاك.
﴿ مكرا كبارا ﴾ عظيما بالغ الغاية في العظم. يقال : كبير وكبار وكبار ؛ والمشدد أبلغ.
﴿ ولا تذرن ودا ولا سوعا... ﴾ وهذه الخمسة أكبر الأصنام والصور التي كان قوم نوح يعبدونها، ثم عبدتها العرب من بعدهم كما عبدت غيرها ؛ فكان ود لكلب بدومة الجندل. وسواع لهذيل بساحل البحر أو لهمدان. ويغوث لبني غطيف من مراد بالجرف من سبأ. أو لمراد ثم لغطفان. ويعوق لهمدان باليمن، أو لمراد. ونسر لذي الكلاع من حمير.
﴿ وقد أضلوا كثيرا ﴾ أي أضل الرؤساء بهذه الأصنام كثيرا من الناس فعبدوها من دون الله ! ﴿ ولا تزد الظالمين إلا ضلالا ﴾ هلاكا. والجملتان من كلام نوح عيه السلام.
﴿ مما خطيئاتهم أغرقوا ﴾ أي من أجل خطيئاتهم أغرقوا بالطوفان، لا من أجل أمر آخر ؛ و " من " تعليلية و " ما " زائدة.
﴿ ديارا ﴾ من يسكن دارا. أو من يدور ويتحرك في الأرض ذهابا وجيئة ؛ من الدار أو من الدوران، وهو التحرك. والمراد : لا تذر منهم أحدا. والديار من الأسماء التي لا تستعمل إلا في النفي العام. يقال : ما بالدار ديار. والمراد : ما بها أحد.
﴿ تبارا ﴾ هلاكا أو خسارا ودمارا. يقال : تبره يتبره، إذا أهلكه. ويتعدى بالتضعيف فيقال : تبره الله تتبيرا. ومنه : " إن هؤلاء متبر ما هم فيه " ١.
والله أعلم.
١ آية ١٣٩ الأعراف..
Icon