تفسير سورة نوح

كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل
تفسير سورة سورة نوح من كتاب كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل .
لمؤلفه أبو بكر الحداد اليمني . المتوفي سنة 800 هـ

﴿ إِنَّآ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ ﴾ ؛ أي خوِّفهُم من السُّخطِ والعذاب إنْ لم يُؤمِنوا باللهِ، ﴿ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ ؛ وهو الغرقُ بالطُّوفانِ، فأتَاهُم ؛ ﴿ قَالَ ياقَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ﴾ ؛ أي رسولٌ مُخَوِّفٌ بلُغةٍ تعرفونَها.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَنِ اعبُدُواْ اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ﴾ ؛ أي أُرسِلتُ إليكم لتعبدُوا اللهَ وتوَحِّدوهُ وتأْتَمِروا بجميعِ ما آمرُكم به، وتتَّقُوا سُخطَهُ وعذابَهُ، ﴿ وَأَطِيعُونِ ﴾ فيما أُبيِّنهُ لكم عن اللهِ تعالى :﴿ يَغْفِرْ لَكُمْ ﴾ ؛ جوابُ الأمرِ ؛ أي افعَلُوا ما أمَرتُكم به يغفِرْ لكُم، ﴿ مِّن ذُنُوبِكُمْ ﴾ ؛ ويزيلُ عقابَهُ عنكم.
ودخول (مِنْ) في الآيةِ لتخصيصِ الذُّنوب من سائرِ الأشياءِ، لا لتبعيضِ الذُّنوب كما في قولهِ تعالى :﴿ فَاجْتَنِبُواْ الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ ﴾[الحج : ٣٠]. ويقالُ : معناهُ : نَغفِرْ لكم من الذُّنوب ما لا تَبعَةَ لأحدٍ فيه ولا مظلمةَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ﴾ ؛ أي يؤخِّرْكُم بلا عذابٍ إلى منتهَى آجالِكم، فلا يصيبُكم غرقٌ ولا شيءٌ من عذاب الاستئصالِ إنْ آمَنتُم. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَآءَ لاَ يُؤَخَّرُ ﴾ ؛ معناهُ : آمِنُوا قبلَ الموتِ تسلَمُوا من العقوباتِ والشَّدائدِ، فإنَّ أجلَ الموتِ إذا جاءَ لا يمكِنُكم الإيمانُ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ ؛ أي لو كُنتم تصدِّقُون ما أقولُ لكم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً ﴾ ؛ يعني لَمَّا آيَسَ نوحُ من إيمانِ قومه قال : رب إنِّي دعوتُ قَومِي إلى التوحيدِ والطاعةِ لَيلاً سِرّاً ونَهاراً علانيةً، ﴿ فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَآئِي إِلاَّ فِرَاراً ﴾ ؛ فلم يزدَادُوا عندَ دُعائِي إيَّاهم إلاَّ تَباعُداً عن الإيمانِ بالجهلِ الغالب عليهم، ﴿ وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ ﴾ ؛ إلى طاعتِكَ والإيمانِ بكَ، ﴿ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُواْ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ ﴾ ؛ لئَلاَّ يسمَعُوا صَوتِي، ﴿ وَاسْتَغْشَوْاْ ثِيَابَهُمْ ﴾ ؛ أي غَطَّوا بها وُجوهَهم ؛ لئَلاَّ يرَونِي، ﴿ وَأَصَرُّواْ ﴾ ؛ على كُفرِهم، ﴿ وَاسْتَكْبَرُواْ ﴾ ؛ عن قبولِ الحقِّ والإيمان بكَ، ﴿ اسْتِكْبَاراً ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً ﴾ ؛ أي مُعلِناً لهم بالدُّعاء وعلاَ صَوتِي، ﴿ ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ ﴾ ؛ أي كرَّرتُ الدُّعاءَ مُعلِناً و، ﴿ إِسْرَاراً ﴾، وسلَكتُ معهم في الدَّعوةِ كُلَّ مَسلَكٍ ومذهبٍ، وتلطَّفتُ لهم كُلُّ تلَطُّفٍ، ﴿ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً ﴾ ؛ للذُّنوب يَجمَعُ لكم من الحظِّ الوافرِ في الآخرةِ، الخصيب في الدُّنيا والغِنَى، ﴿ يُرْسِلِ السَّمَآءَ عَلَيْكُمْ ﴾ ؛ بالمطرِ، ﴿ مِّدْرَاراً ﴾ ؛ كثيرَ الدُّرُور، كلَّما احتَجتُم إليه، ﴿ وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ ﴾ ؛ في الدُّنيا بساتين، ﴿ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً ﴾ ؛ تجرِي على وجهِ الأرض لمنَافِعكم.
وذلكَ أنَّ اللهَ تعالى كان قد حبسَ المطرَ حتى لم يُبقِ لهم دابَّةً ولا نَباتاً أخضرَ، وأعقمَ أرحامَ النِّساء وأصلابَ الرِّجال حتى لم يكن لَهم ولدٌ في مدة سَبع سنين، فوعدَهم نوحُ عليه السلام بردِّ ذلك كلِّه عليهم إنْ آمَنُوا.
والسُّنة في الاستسقاءِ تقديمُ القُرَب والطاعاتِ، والاستكثارُ من الاستغفار كما رُوي عن عمرَ رضي الله عنه :(أنَّهُ خَرَجَ لِلاسْتِسْقَاءِ، فَجَعَلَ يَسْتَكْثِرُ مِنَ الاسْتِغْفَار، فَقِيلَ لَهُ : مَا سَمِعْنَاكَ اسْتَسْقَيْتَ وَمَا رَدَّدْتَ عَنِ الاسْتِغْفَار ؟ فَقَالَ : لَقَدِ اسْتَسْقَيْتُ بمَجَادِيحِ السَّمَاءِ الَّتِي يَسْتَنْزِلُ بهَا الْقَطْرُ، ثُمَّ قَرَأ :﴿ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَآءَ عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً ﴾ ).
وكان بكرُ بن عبدِالله يقولُ :(إنَّ أكْثَرَ النَّاسِ ذُنُوباً أقَلَّهُمُ اسْتِغْفَاراً، وَأكْثَرُهُمْ اسْتِغْفَاراً أقَلُّهُمْ ذُنُوباً). وعن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أنَّهَا قَالَتْ :(طُوبَى لِمَنْ وَجَدَ فِي صَحِيفَتِهِ اسْتِغْفَاراً كَثِيراً).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً ﴾ ؛ أي مَا لكم لا تخَافُونَ للهِ عظَمةً، وتفعَلُون ما أمَركم به تعظيماً له، وترجُون منه بذلك الثوابَ، والمعنى : ما لَكم لا تعلَمُون حقَّ عظَمتهِ فتوَحِّدوهُ وتطيعوهُ، وقد جعلَ لكم في أنفُسكم آيةً تدلُّ على توحيدهِ من خَلقهِ إيَّاكم، فقال تعالى :﴿ وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً ﴾ ؛ يعني نطفةً ثم علقةً ثم مُضغَةً ثم صَبيّاً ثم شَابّاً ثم شَيخاً، وقلَّبَكم في ذلك حالاً بعدَ حالٍ، قال ابنُ الأنباريِّ :(الطَّوْرُ : الْحَالُ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَلَمْ تَرَوْاْ كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً ﴾ ؛ أي مُطبَقَةً بعضُها فوقَ بعضٍ، ﴿ وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً ﴾ ؛ قال ابنُ عبَّاس :(وَجْهُهُ فِي السَّمَاءِ وَقَفَاهُ فِي الأَرْضِ)، فالقمرُ وإنْ كان في السَّماء الدُّنيا، فإنَّما يلِي السَّمواتِ منه يُضِيءُ لهم، وما يلِي الأرضَ منه يضيءُ لأهلِ الأرض.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً ﴾ ؛ أي سِرَاجاً للعالَم يُبصِرُون بها منافعَ دُنياهم، كما أنَّ المصباحَ سراجٌ الإنسانِ في البيت الْمُظلِمِ، قال عبدُالله بن عمرَ :(وَجْهُ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ إلَى السَّمَوَاتِ، وَقَفَاهُمَا إلَى الأَرْضِ، يُضِيئَانِ فِي السَّمَاءِ، كَمَا يُضِيئَانِ فِي الأَرْضِ).
وقيل لعبدِالله بن عمرَ : مَا بَالُ الشَّمْسِ تَعْلُونَا أيَّاماً وَتَبْرُدُ أيَّاماً ؟ قَالَ :(إنَّهَا فِي الصَّيْفِ فِي السَّمَاء الرَّابعَةِ، وَفِي الشِّتَاءِ فِي السَّمَاءِ السَّابعَةِ، وَلَوْ كَانَتُ فِي سَمَاءِ الدُّنْيَا لَمَا قَامَ لَهَا شَيْءٌ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَاللَّهُ أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأَرْضِ نَبَاتاً ﴾ ؛ يعني مبتدأ خلقِ آدمَ، فهو خُلِقَ من الأرضِ والناسُ أولادهُ، ونباتهُ في هذا الموضعِ أبلغُ من إنباتهِ، كأنه قالَ : أنبَتُّكم فنبتُّم نَباتاً، والنباتُ ما يخرجُ حالاً بعد حالٍ. وقولهُ تعالى :﴿ ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا ﴾ ؛ أي في الأرضِ بعدَ الموتِ، يعني يُقبَرون فيها، ﴿ وَيُخْرِجُكُمْ ﴾ ؛ منها، ﴿ إِخْرَاجاً ﴾ ؛ عند النفخةِ الأخيرةِ للبعث.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ بِسَاطاً ﴾ ؛ أي فَرَشَها وبسَطَها لكم كَهَيئَةِ البساطِ، تستقرُّون عليها وتنصَرِفون فيها، جعلَها الله لكم كذلك ؛ ﴿ لِّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً ﴾ ؛ طُرقاً بيِّنةً واسعةً، قال ابنُ عبَّاس :(أرَادَ بالْفِجَاجِ الطُّرُقَ الْمُخْتَلِفَةَ) والفَجُّ : الطريقُ بين الجبَلين.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ قَالَ نُوحٌ رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي ﴾ ؛ أي لم يُجيبوا دعوَتِي، ﴿ وَاتَّبَعُواْ مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَاراً ﴾ ؛ أي واتَّبعُوا السفهاءَ والفقراء والرؤساءَ والكُبراءَ الذين لم تَزِدهُم كثرةُ الأموالِ والأولاد إلاّ ضَلالاً في الدينِ وعقوبةً في الآخرةِ. والمعنى : أنَّ نوحاً عليه السلام قالَ : يا رب إنَّهم عصَونِي فيما أمرتُهم به ودعوتُهم إليه، واتَّبعوا رُؤسَاءَهم وكُبراءَهم، بسبب الكثرة والثروةِ، وكانوا يصرِفون سفَلَتَهم عن دينِ الإسلامِ. وَالْوُلْدُ وَالْوَلَدُ مِثْلُ الْقُرْبُ وَالْقَرَبُ وَالْعُجْمُ وَالْعَجَمُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَكَرُواْ مَكْراً كُبَّاراً ﴾ ؛ أي مَكْراً عَظيماً، والكَبيرُ والكُبَّارُ بمعنىً واحدٍ، ومَكرُهم الكبيرُ إعظامُ القُربَةِ على الله تعالى، وتوصيةُ بعضِهم بقولهم :﴿ وَقَالُواْ لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ ﴾ ؛ أي لا تدَعُوا عبادةَ أصنامِكم. وَقِيْلَ : مكرُهم الكبيرُ : أنَّهم جَرُّوا سفلتَهم على قتلِ نوح عليه السلام، قرأ ابنُ مُحَيْصِن وعيسى (كُبَاراً) بالتخفيف.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً ﴾، أي لا تدَعُنَّ عبادةَ أصنامكم، ولا تدَعُنَّ عبادةَ وُدّاً ولا سُوَاعاً ويغوثَ ويعوقَ ونَسْراً، هذه خمسةُ أصنامٍ لَهم كانوا يَعبُدونَها ويقدِّمونَها على غيرِها.
فلما جاءَ الغرقُ اندفنَتْ تلك الأصنامُ، وكانت مدفونةً إلى أن أخرجَها الشيطانُ لِمُشرِكي العرب، فوقعَ كلُّ صنمٍ منها في أيدِي قومٍ، فاتَّخذت قُضَاعَةُ وُدّاً يعبدونَها بدَومَةِ الْجَنْدَلِ، ثم توارَثُوها إلى أن جاءَ الإسلامُ، وهي عندَهم. وكان سُوَاعُ لِهُذيلٍ، وكان يغوثُ لِبَنِي غُطَيفٍ من مراد، وكان يعوقُ لكَهْلاَنَ، ونَسْرٌ لخثعم، وأما اللاَّتُ لثَقِيفَ، والعُزَّى لسُلَيم وغطَفَانَ وجَشم وسَعدٍ ونَضِرِ بن بكرٍ. ومناةُ لقديد، وأسافُ ونائلةٌُ وهُبَلُ لأهلِ مكَّة، فكان أسَافُ حيالَ الحجرِ الأسود، ونائلةُ حيالَ الرُّكن اليمانِيِّ، وهُبَلُ في جوفِ الكعبة، ثمانيةَ عشرَ ذِراعاً. قال الواقديُّ :(كَانَ وُدٌّ عَلَى صُورَةِ فَرَسٍ، وَنَسْرُ عَلَى صُورَةِ نَسْرٍ مِنَ الطَّيْرِ). قرأ نافعُ (وُدّاً) بضمِّ الواو، وقرأ الباقون بفتحِها وهما لُغتان.
قوله تعالى :﴿ وَقَدْ أَضَلُّواْ كَثِيراً ﴾ ؛ أي أضَلَّ الأصنامُ كثيراً يعني ضَلُّوا بسببها لقوله تعالى﴿ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ ﴾[إبراهيم : ٣٦]، والمعنى : قد ضَلَّ كثيرٌ من الناسِ بهذه الأصنامِ، وإنما أضافَ إلى الأصنامِ ؛ لأنَّها كانت سببَ ضَلالَتِهم.
وقولهُ تعالى :﴿ وَلاَ تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلاَلاً ﴾ ؛ هذا دعاءٌ عليهم بعذابٍ، أعلمَهُ اللهُ أنَّهم لا يُؤمنون وهو قوله تعالى :﴿ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ ﴾[هود : ٣٦]، والمعنى : لا تُزِدهُم إلاَّ خُسراناً وهلاكاً، وإنما لم يُصْرَفْ (وَيَغُوثَ وَيَعُوقَ) لأنَّهما ضارَعَا الأفعالَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ مِّمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً ﴾ ؛ أي من أجلِ خطَاياهم أُغرِقُوا في الدُّنيا فأُدخلوا بذلك الغرقِ ناراً، وفي هذا دليلٌ على عذاب القبرِ، لأنَّ حرفَ الفاءِ للتعقيب، فاقتضَى أنَّهم نُقِلُوا عقيبَ الغرقِ إلى النار، والكافرُ إنَّما يدخلُ نارَ جهنَّمَ يومَ القيامةِ، وخطايَاهم في هذهِ الآية الكفرُ. و(ما) ها هنا صِلَةٌ، والمعنى : مِن خطايَاهم ؛ أي من أجلِها وسببها. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَلَمْ يَجِدُواْ لَهُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ أَنصَاراً ﴾ ؛ أي فلم يجدُوا لأَنفُسهم من دونِ الله أحَداً فَيَنْصُرَهُمْ ولا يَمنعَهم من عذاب اللهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً ﴾ ؛ روَى قتادةُ أنه قالَ :(مَا دَعَا نُوحُ بهَذِهِ الآيَةِ إلاَّ بَعْدَ أنْ نَزَلَ عَلَيْهِ أنَّهُ﴿ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ ﴾[هود : ٣٦]. والدَّيَّارُ : متَّخِذُ الدار وسَاكنُها، فعَمَّ اللهُ جميعَ أهلِ الأرضِ بالهلاك بدُعائهِ، غيرَ عِلْجٍ فإنه غير عِلْجٍ إلى زمانِ موسَى عليه السلام ؛ لأنه لم يتَّخِذْ دَيراً ولا سكنَ الدارَ، ويقالُ : ما بالدار دَيَّارٌ ؛ أي أحدٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ ﴾ ؛ أي إنَّكَ إن تَترُكَهم على وجهِ الأرض ولا تُهلِكَهم يُضِلُّوا عبادَكَ عن دينِكَ، ﴿ وَلاَ يَلِدُواْ إِلاَّ فَاجِراً ﴾ ؛ أي خَارجاً عن طاعتِكَ، ﴿ كَفَّاراً ﴾ ؛ لنِعَمِكَ، أخبرَ اللهُ تعالى نُوحاً عليه السلام أنَّهم لا يلِدُونَ مُؤمِناً أبَداً.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ رَّبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ ﴾ ؛ يعني أباهُ لاَمِكُ بْنُ متوشلخ، وأمَّهُ شَخْمَاءُ بنت أنُوشَ، وكانَا مُؤمِنَين، ولذلك استغفرَ لهما، وقولهُ تعالى :﴿ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً ﴾ ؛ أرادَ ببيتهِ هنا السَّفينةَ، وَقِيْلَ : مسجدَهُ، وَقِِيْلَ : دارَهُ.
وقوله تعالى :﴿ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ﴾ ؛ عامٌّ في كلِّ مَن آمَنَ وصدَّقَ الرُّسل. وقولهُ تعالى :﴿ وَلاَ تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَبَاراً ﴾ ؛ والتَّبَارُ : الهلاكُ والدَّمَارُ، ولذلك سُمي المكسورُ مُتَبَّراً، وقد جَمَعَ نوحٌ بين دعوَتين، دعوةٌ على الكفار، ودعوةٌ للمؤمنين، فاستجابَ اللهُ دعاءَهُ على الكفَّار فأهلكَهم، ونَرجُو أن يستجيبَ دعاءَهُ في المؤمنين.
Icon