تفسير سورة نوح

التفسير الوسيط للزحيلي
تفسير سورة سورة نوح من كتاب التفسير الوسيط المعروف بـالتفسير الوسيط للزحيلي .
لمؤلفه وهبة الزحيلي . المتوفي سنة 1436 هـ

تفسير سورة نوح
دعوة نوح عليه السّلام
لقد لقي نوح عليه السّلام من قومه على مدى قرابة ألف سنة ما لم يلقه أحد من الأنبياء، حيث إنهم كذّبوه وآذوه، وأعرضوا إلا قليلا جدّا عن دعوته إلى توحيد الله، وهجر عبادة الأصنام البدائية، واشتطوا في فرارهم منه، على الرغم من وعدهم بالرّخاء وتوالي النّعم المادية المتنوعة في الأموال والأولاد، ناسين مراحل خلقهم، وتدرج الخلق، حتى صاروا قوما أشداء، كما توضح الآيات الآتية في مطلع سورة نوح المكّية بالإجماع:
[سورة نوح (٧١) : الآيات ١ الى ١٤]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١) قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (٣) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤)
قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً (٥) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلاَّ فِراراً (٦) وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً (٧) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً (٨) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً (٩)
فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً (١٠) يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً (١١) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً (١٢) ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (١٣) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً (١٤)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦» «٧» «٨» [نوح: ٧١/ ١- ١٤].
(١) أجل مقدر محدد. [.....]
(٢) تغطوا بثيابهم الساترة لجميع البدن.
(٣) لازموا الأمر وانكبّوا عليه.
(٤) تكبّروا تكبّرا.
(٥) مجاهرة.
(٦) كثير الدرور.
(٧) يعطكم على فترات.
(٨) عظمة وتوقيرا.
2742
إنا بعثنا بعثة دعوة نوحا بن لامك عليه السّلام أول رسول أرسله الله إلى قومه، وقلنا له: أنذر قومك بأس الله وعذابه، قبل أن يجيئهم عذاب شديد الألم، وهو عذاب النار، أو الإغراق بالطوفان، فإن تابوا ورجعوا، رفع عنهم.
قال نوح: يا قومي، إني لكم منذر من عذاب الله ومخوف إياكم، واضح الإنذار والاعلام. ومضمون دعوتي: أني آمركم بعبادة الله وحده لا شريك له، وأن تؤدّوا حقوقه، وتمتثلوا أوامره، وتجتنبوا نواهيه التي توقعكم في العذاب، وتطيعوني فيما آمركم به وأنهاكم عنه. والتقوى: امتثال الأوامر، واجتناب المحرّمات.
وثمره التكاليف أمران: أنه تعالى يستر لكم بعض ذنوبكم، ويمدّ في أعماركم، ويؤخر موتكم إلى أمد محدد قدره الله لكم، إن آمنتم وأطعتم. وقوله: مِنْ ذُنُوبِكُمْ من للتبعيض، وهذا وعد كريم على الطاعة والعبادة بشيئين: دفع مضارّ الآخرة وهو غفران الذنوب، وتحقيق منافع الدنيا، وهو تأخير الأجل إلى وقت آخر. ولا يعني هذا خلافا للمعتزلة من وجود أجلين للإنسان، وإنما المراد أنه قد سبق في الأزل، أنهم إما ممن قضي له بالإيمان والتأخير، وإما ممن قضي له بالكفر والمعاجلة، بدليل قوله: إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ أي ما قدره لكم إذا جاء، وأنتم كافرون، لا يؤخر بل يقع حتما.
قال نوح بعد أن طال عمره، وتحقّق اليأس من قومه: يا ربّ إني دعوت قومي إلى ما أمرتني به، بأن أدعوهم إلى الإيمان بوجودك ووحدانيتك، دعاء متواصلا دائما في الليل والنهار، من غير تقصير، امتثالا لأمرك وابتغاء لطاعتك، فلم يزدهم دعائي إلى الله الذات الأقدس إلا فرارا مما دعوتهم إليه، وبعدا عنه. وقوله: لَيْلًا وَنَهاراً:
عبارة عن استمرار دعائه، وأنه لم يتوان فيه قط.
وكلما دعوتهم إلى سبب المغفرة، وهو الإيمان بالله والطاعة له، سدّوا آذانهم
2743
برؤوس أصابعهم، لئلا يسمعوا ما أدعوهم إليه، وغطّوا بثيابهم وجوههم لئلا يروني، ولئلا يسمعوا كلامي، واستمروا على الكفر والشّرك ولازموه، وتكبّروا عن قول الحق تكبّرا شديدا، أي استنكفوا عن اتّباع الحق والانقياد له.
ثم إنني نوّعت لهم أساليب الدعوة، فدعوتهم إلى الإيمان والطاعة جهرة بين الناس، أي مجاهرا لهم بها، ثم جمعت في الدعوة بين الإعلان بها والإسرار، أي إن نوحا عليه السّلام سلك في دعوته مراتب ثلاثا: بدأ بالمناصحة في السرّ ليلا ونهارا، ففرّوا منه، ثم جهر بالدعوة، لأن النصح العلني تقريع، ثم جمع بين الأمرين:
الإسرار والإعلان. وتكرار صفة الدعوة بيان وتأكيد، يدلّ على غاية الجدّ.
وقلت لهؤلاء القوم: اطلبوا المغفرة من ربّكم لذنوبكم السابقة، بإخلاص النّية، وتوبوا إلى الله من الكفر والمعاصي، إن ربّكم الذي خلقكم وربّاكم كثير المغفرة للمذنبين.
ثم وعدهم على التوبة من الكفر والعصيان بخمسة أشياء: إرسال المطر المتتابع، الكثير الغزارة ليكثر الخير والخصب، والإمداد بالأموال الكثيرة، وإكثار الذرّية والأولاد بسبب الأمن والرفاه، ومنحهم بساتين نضرة عامرة بالأشجار والثمار، وجعل الأنهار جارية بالماء العذب، ليكثر الزرع والثمر والغلة. والوقار: العظمة والسلطان. فكأن الكلام وعيد وتخويف.
ما لكم لا تخافون من عظمة الله وجلاله، فتوحّدوه وتطيعوه، في حين أنه هو الذي خلقكم على أطوار أو مراحل مختلفة، وهو كما قال ابن عباس إشارة إلى التدرّج الذي للإنسان في بطن أمّه من النطفة والعلقة والمضغة، ثم العظام فاللحم، ثم تمام الخلق، وإنشاؤكم خلقا آخر، تمرّون في دور الطفولة، ثم التمييز، ثم البلوغ والمراهقة، ثم الشباب، ثم الكهولة، ثم الشيخوخة، فكيف تقصرون في توقير من خلقكم على هذه الأطوار البديعة؟
2744
تذكير نوح بأدلة وحدانية الله وموقف القوم منه
لم يدع نوح عليه السّلام دليلا إلا استدلّ به لقومه على وجود الله ووحدانيته وقدرته، من خلق السماوات والأرض، وخلق الناس، وإنبات النبات، ولكنهم قوم أغبياء وحمقى، فأصرّوا على ملازمة عبادة الأصنام والضلال والإضلال، فهدّدهم الله تعالى، وألهم نوحا الدعاء عليهم وعلى ذرّيتهم، وطلب المغفرة له ولوالديه ولأهل الإيمان وإهلاك الظالمين المشركين، وذلك في الآيات الآتية:
[سورة نوح (٧١) : الآيات ١٥ الى ٢٨]
أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً (١٥) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً (١٦) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (١٧) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً (١٨) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً (١٩)
لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً (٢٠) قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَساراً (٢١) وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (٢٢) وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً (٢٣) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلالاً (٢٤)
مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً (٢٥) وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (٢٦) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فاجِراً كَفَّاراً (٢٧) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَباراً (٢٨)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦» «٧» «٨» «٩» «١٠» «١١» [نوح: ٧١/ ١٥- ٢٨].
الآيات الأولى تبيّن أنواع الدلائل على وحدانية الله وقدرته: ألم تنظروا فوقكم كيف خلق الله السماوات المتطابقة بعضها فوق بعض، وجعل القمر في السماوات منوّرا لوجه الأرض، من غير حرارة، وجعل الشمس مصدر الضوء كالسّراج: وهو المصباح المضيء الذي يزيل ظلمة الليل، وينشر الحرارة والدّفء.
(١) متطابقة فوق بعضها.
(٢) مصدر إضاءة كالسّراج.
(٣) أنشأكم.
(٤) ممهدة منبسطة.
(٥) واسعة.
(٦) كبيرا للغاية.
(٧) أسماء أصنامهم، وكانت في الأصل أسماء رجال صالحين في قومهم. [.....]
(٨) من أجل خطاياهم.
(٩) أحدا في دار.
(١٠) شديد الفجور والكفر.
(١١) هلاكا.
2745
- والله تعالى أوجد أباكم آدم من التراب، وجعله ينمو ويكبر كالنبات، وجعل نموكم معتمدا على الغذاء من نتاج الأرض، وتحولها إلى نبات أو حيوان.
وهذه استعارة من حيث أخذ آدم عليه السّلام من الأرض، ثم صار الجميع نابتا منه. وقوله: نَباتاً مصدر جار على غير المصدر، والتقدير: فنبتّم نباتا.
ثم يعيدكم في الأرض بالدّفن فيها الذي هو عرف البشر، بعد موتكم، حتى تعودوا ترابا مندمجا في الأرض، ثم يخرجكم منها بالبعث يوم القيامة، إخراجا دفعة واحدة، لموقف العرض والجزاء، لا إنباتا بالتدرّج كالمرة الأولى.
- ومن نعمه تعالى على الإنسان أنه جعل لكم الأرض ممهدة منبسطة كالبساط، للتمكين من العيش عليها والاستقرار فيها، وثبّتها بالجبال، وجعلكم تبحثون فيها عن الرزق، وأوجد لكم طرقا واسعة بين الجبال والوديان والسهول.
- قال نوح داعيا ربّه: يا ربّ، إن قومي عصوني، ولم يجيبوا دعوتي، واتّبع كبراؤهم وأثرياؤهم الذين لم يزدهم كثرة المال والولد إلا ضلالا في الدنيا، وعقوبة في الآخرة، فخسروا الدنيا والآخرة.
ومكروا بالتدبير الخبيث مكرا عظيما، وهو صدّ الناس عن دعوة نوح إلى الدين الحق وتوحيد الإله، وإغراء السّفلة على إيذاء نوح عليه السّلام وقتله.
- وقال الرؤساء للأتباع لمخالفة نوح وعصيان قوله: لا تتركوا عبادة آلهتكم، وتعبدوا ربّ نوح، ولا تتركوا عبادة هذه الأصنام التي انتقلت عبادتها إلى العرب، وهي ودّ وسواع ويغوث ويعوق ونسر. فكان ودّ لكلب، وسواع لهذيل، ويغوث لغطفان، ويعوق لهمدان، ونسر لحمير آل ذي الكلاع، وهي في الأصل أسماء رجال صالحين، من قوم نوح عليه السّلام.
2746
وقد أضلّ كبراؤهم كثيرا من الناس، فدعا نوح عليهم قائلا: ولا تزد الكافرين إلا حيرة وبعدا عن الصواب، فلا يهتدوا إلى الحقّ والرشاد.
وسبب الجزاء: هو من أجل كثرة سيئاتهم وآثامهم وإصرارهم على الكفر، ثم أدخلوا نار الآخرة، فلم يجدوا لهم من غير الله أنصارا يمنعون عنهم العذاب، ويدفعونه عنهم.
وقال نوح لما أيس من إيمانهم: يا ربّ لا تترك على وجه الأرض منهم أحدا، يسكن الديار. إنك إن أبقيت منهم أحدا، أضلّوا عبادك الذين تخلقهم بعدهم عن طريق الحق، ولا يلدوا إلا كل كافر فاجر في الأعمال، بترك طاعتك، كثير الكفران في القلب لنعمتك، لخبرته بهم.
ثم دعا نوح عليه السّلام لنفسه ولوالديه ولأهل الإيمان قائلا: ربّ استر علي ذنوبي، واستر على والدي المؤمنين برسالتي، واغفر لكل من دخل منزلي وهو مؤمن، ولكل المصدّقين الواثقين بوجودك ووحدانيتك، وكل المصدّقات بذلك من الأمم والأجيال القادمة، ولا تزد الذين ظلموا أنفسهم بالكفر، إلا هلاكا وخسرانا ودمارا.
2747
تفسير سورة الجنّ
[الأخبار العجيبة هذه السورة]
اشتملت سورة الجنّ المكّية بالإجماع على أشياء وأخبار عجيبة عن الجنّ يمكن تصنيفها بخمسة أنواع:
النوع الأول- الإخبار عن ستة أشياء عن الجنّ منها إيمانهم بالقرآن العظيم وبمنزله وهو الله تعالى.
والنوع الثاني- حكاية سبعة أشياء عن الجنّ تتعلّق بأسرار السماء وأحوالهم من الإيمان.
والنوع الثالث- عن مكانة المساجد.
والنوع الرابع- عن أصول دعوة النّبي صلّى الله عليه وسلّم.
والنوع الخامس- عن موعد الساعة أو القيامة.
النوع الأول
ستّة أخبار عن الجنّ
نزلت سورة الجنّ حينما كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ببطن نخلة وهو يريد سوق عكاظ، يصلّي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن استمعوا له، فقالوا: هذا والله الذي حال بينكم وبين خبر السماء، فهنالك رجعوا إلى قومهم، فقالوا: يا قومنا،
2748
Icon