هذه السورة مكية. ومناسبتها لما قبلها : أنه تعالى لما أقسم على أن يبدل خيراً منهم، وكانوا قد سخروا من المؤمنين وكذبوا بما وعدوا به من العذاب، ذكر قصة نوح وقومه معه، وكانوا أشد تمرّداً من المشركين، فأخذهم الله أخذ استئصال حتى أنه لم يبق لهم نسلاً على وجه الأرض، وكانوا عباد أصنام كمشركي مكة، فحذر تعالى قريشاً أن يصيبهم عذاب يستأصلهم إن لم يؤمنوا.
ﰡ
[سورة نوح (٧١) : الآيات ١ الى ٢٨]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١) قالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (٣) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤)قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً (٥) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلاَّ فِراراً (٦) وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً (٧) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً (٨) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً (٩)
فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً (١٠) يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً (١١) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً (١٢) مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (١٣) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً (١٤)
أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً (١٥) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً (١٦) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (١٧) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً (١٨) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً (١٩)
لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً (٢٠) قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَساراً (٢١) وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (٢٢) وَقالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً (٢٣) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلالاً (٢٤)
مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً (٢٥) وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (٢٦) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فاجِراً كَفَّاراً (٢٧) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَباراً (٢٨)
فَإِنً أَفَاقَ فَقَدْ طَارَتْ عَمَايَتُهُ | وَالْمَرْءُ يُخْلَقُ طَوْرًا بَعْدَ أَطْوَارِ |
إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ، قالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ، أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ، يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهاراً، فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً، وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً، ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً، ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً، فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً، يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً، وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً، مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً، وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً.
هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ. وَمُنَاسَبَتُهَا لِمَا قَبْلَهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لما أَقْسَمَ عَلَى أَنْ يُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ، وَكَانُوا قَدْ سَخِرُوا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَكَذَّبُوا بِمَا وُعِدُوا بِهِ مِنَ الْعَذَابِ، ذَكَرَ قِصَّةَ نُوحٍ وَقَوْمِهِ مَعَهُ، وَكَانُوا أَشَدَّ تَمَرُّدًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ أَخْذَ اسْتِئْصَالٍ حَتَّى أَنَّهُ لَمْ يُبْقِ لَهُمْ نَسْلًا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، وَكَانُوا عُبَّادَ أَصْنَامٍ كَمُشْرِكِي مَكَّةَ، فَحَذَّرَ تَعَالَى قُرَيْشًا أَنْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ يَسْتَأْصِلُهُمْ إن لم يؤمنوا. وَنُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوَّلَ نَبِيٍّ أُرْسِلَ، وَيُقَالُ لَهُ شَيْخُ المرسلين، وآدم الثَّانِي، وَهُوَ نُوحُ بْنُ لَامَكَ بْنِ مَتُّوشَلَخَ بْنِ خَنُوخَ، وَهُوَ إِدْرِيسُ بْنُ بُرْدِ بْنِ مَهَلَايِيلَ بْنِ أَنُوشِ بْنِ قَيْنَانَ بْنِ شِيثِ بْنِ آدَمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ أَنْ مَصْدَرِيَّةً وَأَنْ تَكُونَ تَفْسِيرِيَّةً. عَذابٌ أَلِيمٌ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَذَابُ النَّارِ فِي الْآخِرَةِ.
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: مَا حَلَّ بِهِمْ مِنَ الطُّوفَانِ. مِنْ ذُنُوبِكُمْ: مِنْ لِلتَّبْعِيضِ، لِأَنَّ الْإِيمَانَ إِنَّمَا
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ قَالَ: وَيُؤَخِّرْكُمْ مَعَ إِخْبَارِهِ بِامْتِنَاعِ تَأْخِيرِ الْأَجَلِ؟ وَهَلْ هذا إلا تنافض؟ قُلْتُ: قَضَى اللَّهُ مَثَلًا أَنَّ قَوْمَ نُوحٍ إِنْ آمَنُوا عَمَّرَهُمْ أَلْفَ سَنَةٍ، وَإِنْ بَقُوا عَلَى كُفْرِهِمْ أَهْلَكَهُمْ عَلَى رَأْسِ تِسْعِمِائَةِ سَنَةٍ، فَقِيلَ لَهُمْ: آمِنُوا يُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى: أَيْ إِلَى وَقْتٍ سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى وَضَرَبَهُ أَمَدًا تَنْتَهُونَ إِلَيْهِ لَا تَتَجَاوَزُونَهُ، وَهُوَ الْوَقْتُ الْأَطْوَلُ تَمَامُ الْأَلْفِ. ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ إِذَا جَاءَ ذَلِكَ الْأَجَلُ الْأَمَدُ، لَا يُؤَخَّرُ كَمَا يُؤَخَّرُ هَذَا الْوَقْتُ، وَلَمْ تَكُنْ لَكُمْ حِيلَةٌ، فَبَادِرُوا فِي أَوْقَاتِ الْإِمْهَالِ وَالتَّأْخِيرِ. انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى مِمَّا تَعَلَّقَتِ الْمُعْتَزِلَةُ بِهِ فِي قَوْلِهِمْ أَنَّ لِلْإِنْسَانِ أَجَلَيْنِ، قَالُوا:
لَوْ كَانَ وَاحِدًا مُحَدَّدًا لَمَا صَحَّ التَّأْخِيرُ، إِنْ كَانَ الْحَدُّ قَدْ بَلَغَ، وَلَا الْمُعَاجَلَةُ إِنْ كَانَ لَمْ يَبْلُغْ، قَالَ: وَلَيْسَ لَهُمْ فِي الْآيَةِ تَعَلُّقٌ، لِأَنَّ الْمَعْنَى: أَنَّ نُوحًا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يَعْلَمْ هَلْ هُمْ مِمَّنْ يُؤَخَّرُ أَوْ مِمَّنْ يُعَاجَلُ، وَلَا قَالَ لَهُمْ إِنَّكُمْ تُؤَخَّرُونَ عَنْ أَجْلٍ قَدْ حَانَ لَكُمْ، لَكِنْ قَدْ سَبَقَ فِي الْأَزَلِ أَنَّهُمْ، إِمَّا مِمَّنْ قَضَى لَهُ بِالْإِيمَانِ وَالتَّأْخِيرِ، وَإِمَّا مِمَّنْ قَضَى لَهُ بِالْكُفْرِ وَالْمُعَاجَلَةِ. ثُمَّ تَشَدَّدَ هَذَا الْمَعْنَى وَلَاحَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لَا يُؤَخَّرُ، وَجَوَابُ لَوْ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، لَبَادَرْتُمْ إِلَى عِبَادَتِهِ وَتَقْوَاهُ وَطَاعَتِي فِيمَا جِئْتُكُمْ بِهِ مِنْهُ تَعَالَى. وَلَمَّا لَمْ يُجِيبُوهُ وَآذَوْهُ، شَكَا إِلَى رَبِّهِ شَكْوَى مَنْ يَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَالِمٌ بِحَالِهِ مَعَ قَوْمِهِ لَمَّا أُمِرَ بِالْإِنْذَارِ فَلَمْ يَجِدْ فِيهِمْ.
قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهاراً: أَيْ جَمِيعَ الْأَوْقَاتِ مِنْ غَيْرِ فُتُورٍ وَلَا تَعْطِيلٍ فِي وَقْتٍ. وَلَمَّا ازْدَادُوا إِعْرَاضًا وَنِفَارًا عَنِ الْحَقِّ، جَعَلَ الدُّعَاءَ هُوَ الَّذِي زَادَهُمْ، إِذْ كَانَ سَبَبَ الزِّيَادَةِ، وَمِثْلُهُ: فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ «١». وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ: أَيْ لِيَتُوبُوا فَتَغْفِرَ لَهُمْ، ذَكَرَ الْمُسَبِّبَ الَّذِي هُوَ حَظُّهُمْ خَالِصًا لِيَكُونَ أَقْبَحَ فِي إِعْرَاضِهِمْ عَنْهُ، جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ
: الظَّاهِرُ أَنَّهُ حَقِيقَةٌ، سَدُّوا مَسَامِعَهُمْ حَتَّى لَا يَسْمَعُوا مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ، وَتَغَطَّوْا بِثِيَابِهِمْ حَتَّى لَا يَنْظُرُوا إِلَيْهِ كَرَاهَةً وَبُغْضًا مِنْ سَمَاعِ النُّصْحِ وَرُؤْيَةِ النَّاصِحِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كِنَايَةٌ عَنِ الْمُبَالَغَةِ فِي إِعْرَاضِهِمْ عَنْ مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ، فهم بمنزلة
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوْ لِأَنَّهُ أَرَادَ بِدَعْوَتِهِمْ: جَاهِرَتَهُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِمَصْدَرِ دَعَا بِمَعْنَى دُعَاءً جِهَارًا: أَيْ مُجَاهَرًا بِهِ، أَوْ مَصْدَرًا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ مُجَاهِرًا. ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِالِاسْتِغْفَارِ، وَأَنَّهُمْ إِذَا اسْتَغْفَرُوا دُرَّ لَهُمُ الرِّزْقُ فِي الدُّنْيَا، فَقَدَّمَ مَا يَسُرُّهُمْ وَمَا هُوَ أَحَبُّ إِلَيْهِمْ، إِذِ النَّفْسُ مُتَشَوِّفَةٌ إِلَى الْحُصُولِ عَلَى الْعَاجِلِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَأُخْرى تُحِبُّونَها، نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ «١»، وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ «٢»، وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ «٣» الْآيَةِ، وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ «٤». قَالَ قَتَادَةُ: كَانُوا أَهْلَ حُبٍّ لِلدُّنْيَا، فَاسْتَدْعَاهُمْ إِلَى الْآخِرَةِ مِنَ الطَّرِيقِ الَّتِي يُحِبُّونَهَا. وَقِيلَ: لَمَّا كَذَّبُوهُ بَعْدَ طُولِ تَكْرَارِ الدُّعَاءِ قَحَطُوا وَأَعْقَمَ نِسَاؤُهُمْ، فَبَدَأَهُمْ فِي وَعْدِهِ بِالْمَطَرِ، ثُمَّ ثنى بالأموال والبنين. ومِدْراراً: مِنَ الدَّرِّ، وَهُوَ صِفَةٌ يَسْتَوِي فِيهَا الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ، وَمِفْعَالٌ لَا تَلْحَقُهُ التَّاءُ إِلَّا نَادِرًا، فَيَشْتَرِكُ فِيهِ الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ. تَقُولُ: رَجُلٌ مِحْدَامَةٌ وَمِطْرَابَةٌ، وَامْرَأَةٌ مِحْدَابَةٌ وَمِطْرَابَةٌ، وَالسَّمَاءُ الْمُطِلَّةُ، قِيلَ:
لِأَنَّ الْمَطَرَ يَنْزِلُ مِنْهَا إِلَى السَّحَابُ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ السَّحَابُ وَالْمَطَرُ كَقَوْلِهِ:
إِذَا نَزَلَ السَّمَاءُ بِأَرْضِ قَوْمٍ الْبَيْتَ، الرَّجَاءُ بِمَعْنَى الْخَوْفِ، وَبِمَعْنَى الْأَمَلِ. فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَغَيْرُهُ:
لَا تَرْجُونَ: لَا تَخَافُونَ، قَالُوا: وَالْوَقَارُ بِمَعْنَى الْعَظَمَةِ وَالسُّلْطَانِ، وَالْكَلَامُ عَلَى هَذَا وَعِيدٌ وَتَخْوِيفٌ. وَقِيلَ: لَا تَأْمُلُونَ لَهُ تَوْقِيرًا: أَيْ تَعْظِيمًا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْمَعْنَى: مَا
(٢) سورة الأعراف: ٧/ ٩٦.
(٣) سورة المائدة: ٥/ ٦٦.
(٤) سورة الجن: ٧٢/ ١٦.
هَذِهِ لُغَةٌ حجازية، وهذيل وخزاعة ومضر يَقُولُونَ: لَمْ أَرْجُ: لَمْ أُبَالِ. انْتَهَى.
لَا تَرْجُونَ: حَالٌ، وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً: جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ تُحْمَلُ عَلَى الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَإِفْرَادُهُ بِالْعِبَادَةِ، إِذْ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ الْحَالِيَّةِ التَّنْبِيهُ عَلَى تَدْرِيجِ الْإِنْسَانِ فِي أَطْوَارٍ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ إِلَّا مِنْ خَلْقِهِ تَعَالَى. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ مِنَ: النُّطْفَةِ وَالْعَلَقَةِ وَالْمُضْغَةِ.
وَقِيلَ: فِي اخْتِلَافِ أَلْوَانِ النَّاسِ وَخَلْقِهِمْ وَخُلُقِهِمْ وَمِلَلِهِمْ. وَقِيلَ: صِبْيَانًا ثُمَّ شَبَابًا ثُمَّ شُيُوخًا وَضُعَفَاءَ ثُمَّ أَقْوِيَاءَ. وَقِيلَ: مَعْنَى أَطْواراً: أَنْوَاعًا صَحِيحًا وَسَقِيمًا وَبَصِيرًا وَضَرِيرًا وَغَنِيًّا وَفَقِيرًا.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً، وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً، وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً، ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً، وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً، لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلًا فِجاجاً، قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً، وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً، وَقالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً، وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالًا، مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً، وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً، إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً، رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً.
لَمَّا نَبَّهَهُمْ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى الْفِكْرِ فِي أَنْفُسِهِمْ، وَكَيْفَ انْتَقَلُوا مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، وَكَانَتِ الْأَنْفُسُ أَقْرَبَ مَا يُفَكِّرُونَ فِيهِ مِنْهُمْ، أَرْشَدَهُمْ إِلَى الْفِكْرِ فِي الْعَالَمِ عُلْوِهِ وَسُفْلِهِ، وَمَا أَوْدَعَ تَعَالَى فِيهِ، أَيْ فِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ مِنْ هَذَيْنِ النَّيِّرَيْنِ اللَّذَيْنِ بِهِمَا قِوَامُ الْوُجُودِ. وَتَقَدَّمَ
هِيَ فِي الرَّابِعَةِ، وَقِيلَ: فِي الْخَامِسَةِ، وَقِيلَ: فِي الشِّتَاءِ فِي الرَّابِعَةِ، وَفِي الصَّيْفِ فِي السَّابِعَةِ، وَهَذَا شَيْءٌ لَا يُوقَفُ عَلَى مَعْرِفَتِهِ إِلَّا مِنْ عِلْمِ الْهَيْئَةِ. وَيَذْكُرُ أَصْحَابُ هَذَا الْعِلْمِ أَنَّهُ يَقُومُ عِنْدَهُمُ الْبَرَاهِينُ الْقَاطِعَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا يَدَّعُونَهُ، وَأَنَّ فِي مَعْرِفَةِ ذَلِكَ دَلَالَةً وَاضِحَةً عَلَى عَظَمَةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ وَبَاهِرِ مَصْنُوعَاتِهِ. سِراجاً يَسْتَضِيءُ بِهِ أَهْلُ الدُّنْيَا، كَمَا يَسْتَضِيءُ النَّاسُ بِالسِّرَاجِ فِي بُيُوتِهِمْ، وَلَمْ يَبْلُغِ الْقَمَرُ مَبْلَغَ الشَّمْسِ فِي الْإِضَاءَةِ، وَلِذَلِكَ جَاءَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً»
، وَالضِّيَاءُ أَقْوَى مِنَ النُّورِ. وَالْإِنْبَاتُ اسْتِعَارَةٌ فِي الْإِنْشَاءِ، أَنْشَأَ آدَمَ مِنَ الْأَرْضِ وَصَارَتْ ذُرِّيَّتُهُ مِنْهُ، فَصَحَّ نِسْبَتُهُمْ كُلُّهُمْ إِلَى أَنَّهُمْ أُنْبِتُوا مِنْهَا.
وَانْتِصَابُ نَبَاتًا بأنبتكم مَصْدَرًا عَلَى حَذْفِ الزَّائِدِ، أَيْ إِنْبَاتًا، أَوْ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ، أَيْ فَنَبَتُمْ نَبَاتًا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْمَعْنَى أَنْبَتَكُمْ فَنَبَتُمْ، أَوْ نُصِبَ بأنبتكم لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى نَبَتُمْ.
انْتَهَى. وَلَا أَعْقِلُ مَعْنَى هَذَا الْوَجْهُ الثَّانِي الَّذِي ذَكَرَهُ. ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها: أَيْ يُصَيِّرُكُمْ فِيهَا مَقْبُورِينَ، وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً: أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَكَّدَهُ بِالْمَصْدَرِ، أَيْ ذَلِكَ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ. بِساطاً تَتَقَلَّبُونَ عَلَيْهَا كَمَا يَتَقَلَّبُ الرَّجُلُ عَلَى بِسَاطِهِ. وَظَاهِرُهُ أَنَّ الْأَرْضَ لَيْسَتْ كُرَوِيَّةً بَلْ هِيَ مَبْسُوطَةٌ، سُبُلًا: ظرفا، فِجاجاً: مُتَّسِعَةً، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْفَجِّ فِي سُورَةِ الْحَجِّ.
وَلَمَّا أَصَرُّوا عَلَى الْعِصْيَانِ وَعَامَلُوهُ بِأَقْبَحِ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ، قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي: الضَّمِيرُ لِلْجَمِيعِ، وَكَانَ قَدْ قَالَ لَهُمْ: وَأَطِيعُونِ، وَكَانَ قَدْ أَقَامَ فِيهِمْ مَا نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا «٢»، وَكَانُوا قَدْ وَسَّعَ عَلَيْهِمْ فِي الرِّزْقِ بِحَيْثُ كَانُوا يَزْرَعُونَ فِي الشَّهْرِ مَرَّتَيْنِ. وَاتَّبَعُوا: أَيْ عَامَّتُهُمْ وَسَفَلَتُهُمْ، إِذْ لَا يَصِحُّ عَوْدُهُ عَلَى الْجَمِيعِ فِي عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ. مَنْ لَمْ يَزِدْهُ: أَيْ رُؤَسَاؤُهُمْ وَكُبَرَاؤُهُمْ، وَهُمُ الَّذِينَ كَانَ مَا تَأَثَّلُوهُ مِنَ الْمَالِ وَمَا تَكَثَّرُوا بِهِ مِنَ الْوَلَدِ سَبَبًا فِي خَسَارَتِهِمْ فِي الْآخِرَةِ، وَكَانَ سَبَبُ هَلَاكِهِمْ فِي الدُّنْيَا. وَقَرَأَ ابْنُ الزُّبَيْرِ وَالْحَسَنُ وَالنَّخَعِيُّ وَالْأَعْرَجُ وَمُجَاهِدٌ وَالْأَخَوَانِ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَنَافِعٌ، فِي رِوَايَةٍ خَارِجَةٍ: وَوَلْدُهُ بِضَمِّ الْوَاوِ وَسُكُونِ اللَّامِ وَالسُّلَمِيُّ وَالْحَسَنُ أَيْضًا وَأَبُو رَجَاءٍ وَابْنُ وَثَّابٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ وَنَافِعٌ وَعَاصِمٌ وَابْنُ عَامِرٍ: بِفَتْحِهِمَا، وهما لغتان،
(٢) سورة العنكبوت: ٢٩/ ١٤. [.....]
يَا بَكْرَ آمِنَةَ الْمُبَارَكَ بِكْرُهَا | مِنْ وَلَدِ مُحْصَنَةٍ بِسَعْدِ الْأَسْعَدِ |
والمرء يلحقه بقنان النَّدَى | خُلُقُ الْكَرِيمِ وَلَيْسَ بِالْوُضَّاءِ |
بَيْضَاءُ تَصْطَادُ الْقُلُوبَ وَتَسْتَبِي | بِالْحُسْنِ قَلْبَ الْمُسْلِمِ الْقُرَّاءِ |
أَيْ أَصْنَامَكُمْ، وَهُوَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ أَصْنَامِهِمْ، ثُمَّ خُصُّوا بَعْدَ أَكَابِرِ أَصْنَامِهِمْ، وَهُوَ وَدٌّ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ وَرُوِيَ أَنَّهَا أَسْمَاءُ رِجَالٍ صَالِحِينَ كَانُوا فِي صَدْرِ الزَّمَانِ. قَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ:
كَانُوا بَنِي آدَمَ، وَكَانَ ودّا أَكْبَرَهُمْ وَأَبَرَّهُمْ بِهِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ قَيْسٍ: كَانُوا بَنِي آدم ونوح عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، مَاتُوا فَصُوِّرَتْ أَشْكَالُهُمْ لِتُذَكِّرَ أَفْعَالَهُمُ الصَّالِحَةَ، ثُمَّ هَلَكَ مَنْ صَوَّرَهُمْ وَخَلَفَ مَنْ يُعَظِّمُهَا، ثُمَّ كَذَلِكَ حَتَّى عُبِدَتْ. قِيلَ: ثُمَّ انْتَقَلَتْ تِلْكَ الْأَصْنَامُ بِأَعْيَانِهَا. وَقِيلَ: بَلِ الْأَسْمَاءُ فَقَطْ إِلَى قَبَائِلَ مِنَ الْعَرَبِ. فَكَانَ وَدٌّ لِكَلْبٍ بِدُومَةِ الْجَنْدَلِ وَسُوَاعٌ لِهُذَيْلٍ، وَقِيلَ: لِهَمْدَانَ وَيَغُوثُ لِمُرَادٍ، وَقِيلَ: لِمَذْحِجٍ وَيَعُوقُ لِهَمْدَانَ، وَقِيلَ:
لِمُرَادٍ وَنَسْرٌ لِحِمْيَرَ، وَقِيلَ: لِذِي الْكُلَاعِ مِنْ حِمْيَرَ وَلِذَلِكَ سَمَّتِ الْعَرَبُ بِعَبْدِ وَدٍّ وَعَبْدِ يَغُوثَ وَمَا وَقَعَ مِنْ هَذَا الْخِلَافِ فِي سُوَاعٍ وَيَغُوثَ وَيَعُوقَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَنَمٌ يُسَمَّى بِهَذَا الِاسْمِ، إِذْ يَبْعُدُ بَقَاءُ أَعْيَانِ تِلْكَ الْأَصْنَامِ، فَإِنَّمَا بَقِيَتِ الْأَسْمَاءُ فَسَمُّوا
يَرِيشُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَيَبْرِي | وَلَا يَبْرِي يَغُوثُ وَلَا يَرِيشُ |
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ، بِخِلَافٍ عَنْهُمْ: وُدًّا، بِضَمِّ الْوَاوِ وَالْحَسَنُ وَالْأَعْمَشُ وَطَلْحَةُ وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِفَتْحِهَا، قَالَ الشَّاعِرُ:
حَيَّاكَ وَدٌّ فَإِنَّا لَا يَحِلُّ لَنَا | لَهْوُ النِّسَاءِ وَأَنَّ الدِّينَ قَدْ عَزَمَا |
فَحَيَّاكِ وَدٌّ مِنْ هداك لعسه | وخوص باعلا ذي فضالة هجه |
(٢) سورة الإنسان: ٧٦/ ١٥- ١٦.
وَقَدْ أَضَلُّوا: أَيِ الرُّؤَسَاءُ الْمَتْبُوعُونَ، كَثِيراً: مِنْ أَتْبَاعِهِمْ وَعَامَّتِهِمْ، وَهَذَا إِخْبَارٌ مِنْ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْهُمْ بِمَا جَرَى عَلَى أَيْدِيهِمْ مِنَ الضَّلَالِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: وَقَدْ أَضَلُّوا: أَيِ الْأَصْنَامُ، عَادَ الضَّمِيرُ عَلَيْهَا كَمَا يَعُودُ عَلَى الْعُقَلَاءِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ «٢» وَيُحَسِّنُهُ عَوْدُهُ عَلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ، وَلَكِنْ عَوْدُهُ عَلَى الرُّؤَسَاءِ أَظْهَرُ، إِذْ هُمُ الْمُحَدَّثُ عَنْهُمْ وَالْمَعْنَى فِيهِمْ أَمْكَنُ. وَلَمَّا أَخْبَرَ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا كَثِيرًا، دَعَا عَلَيْهِمْ بِالضَّلَالِ، فَقَالَ: وَلا تَزِدِ: وَهِيَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى وَقَدْ أَضَلُّوا، إِذْ تَقْدِيرُهُ:
وَقَالَ وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا، فهي معمولة لقال الْمُضْمَرَةُ الْمَحْكِيُّ بِهَا قَوْلُهُ: وَقَدْ أَضَلُّوا، وَلَا يُشْتَرَطُ التَّنَاسُبُ فِي عَطْفِ الْجُمَلِ، بَلْ قَدْ يَعْطِفُ، جُمْلَةَ الْإِنْشَاءِ عَلَى جُمْلَةِ الْخَبَرِ وَالْعَكْسُ، خِلَافًا لِمَنْ يَدَّعِي التَّنَاسُبَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ مَا مُلَخَّصُهُ: عَطَفَ وَلا تَزِدِ عَلَى رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي، أَيْ قَالَ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ. إِلَّا ضَلالًا، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ جَازَ أَنْ يُرِيدَ لَهُمُ الضَّلَالَ وَيَدْعُوَ اللَّهُ بِزِيَادَتِهِ؟ قُلْتُ: الْمُرَادُ بِالضَّلَالِ أَنْ يُخْذَلُوا وَيُمْنَعُوا الْأَلْطَافَ لِتَصْمِيمِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ وَوُقُوعِ الْيَأْسِ مِنْ إِيمَانِهِمْ، وَذَلِكَ حَسَنٌ جَمِيلٌ يَجُوزُ الدُّعَاءُ بِهِ، بَلْ لَا يَحْسُنُ الدُّعَاءُ بِخِلَافِهِ. انْتَهَى، وَذَلِكَ عَلَى مَذْهَبِ الِاعْتِزَالِ. قَالَ:
وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالضَّلَالِ الضَّيَاعُ وَالْهَلَاكُ، كَمَا قَالَ: وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً. وَقَالَ ابْنُ بَحْرٍ: إِلَّا ضَلالًا: إِلَّا عَذَابًا، قَالَ كَقَوْلِهِ: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ.
وَقِيلَ: إِلَّا خُسْرَانًا. وَقِيلَ: إِلَّا ضَلَالًا فِي أَمْرِ دُنْيَاهُمْ وَتَرْوِيجِ مَكْرِهِمْ وَحِيَلِهِمْ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ جَمْعًا بِالْأَلِفِ وَالتَّاءِ مَهْمُوزَا وَأَبُو رَجَاءٍ كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ أَبْدَلَ الْهَمْزَةَ يَاءً وَأَدْغَمَ فِيهَا يَاءَ المد والجحدري وَعُبَيْدٌ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو: عَلَى الْإِفْرَادِ مَهْمُوزًا وَالْحَسَنُ وَعِيسَى وَالْأَعْرَجُ: بِخِلَافٍ عَنْهُمْ وَأَبُو عَمْرٍو: خَطَايَاهُمْ جَمْعُ تَكْسِيرٍ، وَهَذَا إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِأَنَّ دَعْوَةَ نوح عليه السلام
(٢) سورة إبراهيم: ١٤/ ٣٦.
فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً: تَعْرِيضٌ بِانْتِفَاءِ قُدْرَةِ آلِهَتِهِمْ عَنْ نَصْرِهِمْ، وَدُعَاءُ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَعْدَ أَنْ أُوحِيَ إِلَيْهِ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ «٢»، قَالَهُ قَتَادَةُ. وَعَنْهُ أَيْضًا: مَا دَعَا عَلَيْهِمْ إِلَّا بَعْدَ أَنْ أَخْرَجَ اللَّهُ كُلَّ مُؤْمِنٍ مِنَ الْأَصْلَابِ، وَأَعْقَمَ أَرْحَامَ نِسَائِهِمْ، وَهَذَا لَا يَظْهَرُ لِأَنَّهُ قَالَ: إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ الْآيَةِ، فَقَوْلُهُ:
وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُعْقِمْ أَرْحَامَ نِسَائِهِمْ، وَقَالَهُ أَيْضًا مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ وَالرَّبِيعُ وَابْنُ زَيْدٍ، وَلَا يَظْهَرُ كَمَا قُلْنَا، وَقَدْ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ طَامِعًا فِي إِيمَانِهِمْ عَاطِفًا عَلَيْهِمْ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «أَنَّهُ رُبَّمَا ضَرَبَهُ نَاسٌ مِنْهُمْ أَحْيَانًا حَتَّى يُغْشَى عَلَيْهِ، فَإِذَا أَفَاقَ قَالَ:
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ».
وَدَيَّارًا: مِنْ أَلْفَاظِ الْعُمُومِ الَّتِي تُسْتَعْمَلُ فِي النَّفْيِ وَمَا أَشْبَهَهُ، وَوَزْنُهُ فَيْعَالٌ، أَصْلُهُ دِيوَارٌ، اجْتَمَعَتِ الْيَاءُ وَالْوَاوُ وَسَبَقَتْ إِحْدَاهُمَا بِالسُّكُونِ فَأُدْغِمَتْ وَيُقَالُ: مِنْهُ دَوَّارٌ وَوَزْنُهُ فَعَّالٌ، وَكِلَاهُمَا مِنَ الدَّوَرَانِ، كَمَا قَالُوا: قِيَامٌ وَقِوَامٌ، وَالْمَعْنَى مَعْنَى أَحَدٍ. وَعَنِ السُّدِّيِّ: مِنْ سَكَنَ دَارًا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهُوَ فَيْعَالٌ مِنَ الدَّوْرِ أَوْ مِنَ الدَّارِ. انْتَهَى. وَالدَّارُ أَيْضًا مِنَ الدَّوْرِ، وَأَلِفُهَا مُنْقَلِبَةٌ عَنْ وَاوٍ. وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً: وَصَفَهُمْ وَهُمْ حَالَةَ الْوِلَادَةِ بِمَا يَصِيرُونَ إِلَيْهِ مِنَ الْفُجُورِ وَالْكُفْرِ.
وَلَمَّا دَعَا عَلَى الْكُفَّارِ، اسْتَغْفَرَ لِلْمُؤْمِنِينَ، فَبَدَأَ بِنَفَسِهِ ثُمَّ بِمَنْ وَجَبَ بِرُّهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ لِلْمُؤْمِنِينَ، فكأن هو ووالده انْدَرَجُوا فِي الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ:
وَلِوالِدَيَّ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمَا أَبُوهُ لَمَكُ بْنُ مَتُّوشَلَخَ وَأُمُّهُ شَمْخَاءُ بِنْتُ أَنُوشٍ. وَقِيلَ: هُمَا آدَمُ وَحَوَّاءُ. وَقَرَأَ ابْنُ جُبَيْرٍ وَالْجَحْدَرِيُّ: وَلِوَالِدِي بِكَسْرِ الدَّالِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ خَصَّ أباه
(٢) سورة هود: ١١/ ٣٦.
وَقَرَأَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ وَيَحْيَى بْنُ يَعْمُرَ وَالنَّخَعِيُّ وَالزُّهْرِيُّ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: وَلِوَلَدَايَ تَثْنِيَةُ وَلَدٍ
، يَعْنِي سَامًا وَحَامًا. وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْجُمْهُورُ: مَسْجِدِي وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: شَرِيعَتِي، اسْتَعَارَ لَهَا بَيْتًا، كَمَا قَالُوا: قُبَّةُ الْإِسْلَامِ وَفِسْطَاطُهُ. وَقِيلَ: سَفِينَتُهُ. وَقِيلَ: دَارُهُ. وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ: دَعَا لِكُلِّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ فِي كُلِّ أُمَّةٍ. وَالتَّبَارُ: الْهَلَاكُ.