يخبر تعالى عن عبده ورسوله ( نوح ) عليه السلام، أنه اشتكى إلى ربه عزَّ وجلَّ، ما لقي من قومه من تلك المدة الطويلة التي هي ألف سنة إلاّ خمسين عاماً، وما بيّن لقومه ووضّح لهم فقال :
﴿ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً ﴾ أي لم أترك دعاؤهم في ليل ولا نهار، وامتثالاً لأمرك وابتغاء لطاعتك،
﴿ فَلَمْ يَزِدْهُمْ دعآئي إِلاَّ فِرَاراً ﴾ أي كلما دعوتهم ليقتربوا من الحق، فروا منه وحادوا عنه،
﴿ وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جعلوا أَصَابِعَهُمْ في آذَانِهِمْ واستغشوا ثِيَابَهُمْ ﴾ أي سدوا آذانهم لئلا يسمعوا ما أدعوهم إليه، كما أخبر تعالى عن كفار قريش
﴿ وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرآن والغوا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ﴾ [ فصلت : ٢٦ ]،
﴿ واستغشوا ثِيَابَهُمْ ﴾ قال ابن عباس : تنكروا له لئلا يعرفهم، وقال السدي : غطوا رؤوسهم لئلا يسمعوا ما يقول،
﴿ وَأَصَرُّواْ ﴾ أي استمروا على ما هم فيه من الشرك، والكفر العظيم الفظيع،
﴿ واستكبروا استكبارا ﴾ أي واستنكفوا عن اتباع الحق والانقياد له،
﴿ ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً ﴾ أي جهرة بين الناس،
﴿ ثُمَّ إني أَعْلَنْتُ لَهُمْ ﴾ أي كلاماً ظاهراً بصوت عال
﴿ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً ﴾ أي فيما بيني وبينهم، فنوّع عليهم الدعوة لتكون أنجع فيهم،
﴿ فَقُلْتُ استغفروا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً ﴾ أي ارجعوا إليه وإرجعوا عما أنتم فيه وتوبوا إليه من قريب، فإنه من تاب إليه تاب الله عليه،
﴿ يُرْسِلِ السمآء عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً ﴾ أي متواصلة الأمطار، قال ابن عباس : يتبع بعضه بعضاً، وقوله تعالى :
﴿ وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً ﴾ أي إذا تبتم إلى الله وأطعتموه، كثر الرزق عليكم وأسقاكم من بركات السماء، وأنبت لكم من بركات الأرض، وأمدّكم
﴿ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ ﴾ أي أعطاكم الأموال والأولاد، وجعل لكم جنات فيها أنواع الثمار وخللها بالأنهار الجارية بينها، هذا مقام الدعوة بالترغيب، ثم عدل بهم إلى دعوتهم بالترهيب، فقال :
﴿ مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً ﴾ ؟ أي عظمة قال ابن عباس : لم لا تعظمون الله حق عظمته، أي لا تخافون من بأسه ونقمته
﴿ وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً ﴾ قيل : معناه من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة قاله ابن عباس وقتادة.
وقوله تعالى :
﴿ أَلَمْ تَرَوْاْ كَيْفَ خَلَقَ الله سَبْعَ سماوات طِبَاقاً ﴾ أي واحدة فوق واحدة، ومعها يدور سائر الكواكب تبعاً، ولكن للسيارة حركة معاكسة لحركة أفلاكها، فإنها تسير من المغرب إلى المشرق، وكل يقطع فلكه بحسبه فالقمر يقطع فلكه في كل شهر مرّة، والشمس في كل سنة مرة، وزحل في كل ثلاثين سنة مرة، وإنما المقصود أن الله سبحانه وتعالى :
﴿ خَلَقَ الله سَبْعَ سماوات طِبَاقاً * وَجَعَلَ القمر فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشمس سِرَاجاً ﴾ أي فاوت بينهما في الاستنارة، فجعل كلاً منهما أنموذجاً على حدة، ليعرف الليل والنهار بمطلع الشمس ومغيبها، وقدّر للقمر منازل وبروجاً، وفاوت نوره، فتارة يزداد حتى يتناهى، ثم يشرع في النقص حتى يستسر، ليدل على مضي الشهور والأعوام، كما قال تعالى :
2614
﴿ هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَآءً والقمر نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب ﴾ [ يونس : ٥ ] الآية، وقوله تعالى :
﴿ والله أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً ﴾ هذا اسم مصدر والإيتان به ههنا أحسن،
﴿ ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا ﴾ إي إذا متم
﴿ وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً ﴾ أي يوم القيامة يعيدكم كما بدأكم أول مرة،
﴿ والله جَعَلَ لَكُمُ الأرض بِسَاطاً ﴾ أي بسطها ومهدها وثبتها بالجبال الراسيات الشم الشامخات،
﴿ لِّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً ﴾ أي خلقها لكم لتستقروا عليها، وتسلكوا فيها أين شئتم من نواحيها وأرجائها، ينبههم نوح عليه السلام على قدرة الله وعظمته في خلق السماوات والأرض، ونعمه عليهم فيما جعل لهم من المنافع السماوية والأرضية، فهو الخالق الرازق جعل السماء بناء، والأرض مهاداً، وأوسع على خلقه من رزقه، فهو الذي يجب أن يعبد ويوحد ولا يشرك به أحد.
2615