تفسير سورة البينة

مختصر تفسير ابن كثير
تفسير سورة سورة البينة من كتاب تيسير العلي القدير لاختصار تفسير ابن كثير المعروف بـمختصر تفسير ابن كثير .
لمؤلفه محمد نسيب الرفاعي . المتوفي سنة 1412 هـ

أما أهل الكتاب فهم اليهود والنصارى، والمشركون عبدة الأوثان والنيران من العرب ومن العجم، قال مجاهد : لم يكونوا ﴿ مُنفَكِّينَ ﴾ يعني منتهين حتى يتبين لهم الحق ﴿ حتى تَأْتِيَهُمُ البينة ﴾ أي هذا القرآن، ولهذا قال تعالى :﴿ لَمْ يَكُنِ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب والمشركين مُنفَكِّينَ حتى تَأْتِيَهُمُ البينة ﴾ ثم فسر البينة بقوله :﴿ رَسُولٌ مِّنَ الله يَتْلُواْ صُحُفاً مُّطَهَّرَةً ﴾ يعني محمداً ﷺ وما يتلوه من القرآن العظيم الذي هو مكتتب في الملأ الأعلى في صحف مطهرة. كقوله تعالى :﴿ فَي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ * مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ ﴾ [ عبس : ١٣-١٦ ]، وقوله تعالى :﴿ فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ ﴾ قال انب جرير : أي في الصحف المطهرة كتب من الله قيمة عادلة مستقيمة، ليس فها خطأ لأنها من عند الله عزَّ وجلَّ، قال قتادة ﴿ رَسُولٌ مِّنَ الله يَتْلُواْ صُحُفاً مُّطَهَّرَةً ﴾ يذكر القرآن بأحسن الذكر. ويثني عليه بأحسن الثناء، وق ابن زيد :﴿ فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ ﴾ مستقيمة معتدلة، وقوله تعالى :﴿ وَمَا تَفَرَّقَ الذين أُوتُواْ الكتاب إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ البينة ﴾ كقوله تعالى :﴿ وَلاَ تَكُونُواْ كالذين تَفَرَّقُواْ واختلفوا مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ البينات وأولئك لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [ آل عمران : ١٠٥ ]، يعني بذلك أهل الكتب المنزلة على الأمم قبلنا، وبعد ما أقام الله عليهم الحجج والبينات تفرقوا، واختلفوا في الذي أراده الله من كتبهم، واختلفوا اختلافاً كبيراً، كما جاء في الحديث المروي من طرق :« » إن اليهود اختلفوا على إحدى وسبعين فرقة وإن النصارى اختلفوا على اثنين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاثة وسبعين فرقة، كلها في النار إلاّ واحدة «، قالوا : من هم يا رسول الله؟ قال :» ما أنا عليه وأصحابي « »، وقوله تعالى :﴿ وَمَآ أمروا إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين ﴾ كقوله :﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نوحي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ أَنَاْ فاعبدون ﴾ [ الأنبياء : ٢٥ ]، ولهذا قال :﴿ حُنَفَآءَ ﴾ أي متحنفين من الشرك إلى التوحيد، كقوله :﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ﴾ [ النحل : ٣٦ ]، وقد تقدم تقرير الحنيف في سورة الأنعام بما أغنى عن إعادته ها هنا، ﴿ وَيُقِيمُواْ الصلاة ﴾ وهي أشرف عبادات البدن، ﴿ وَيُؤْتُواْ الزكاة ﴾ وهي الإحسان إلى الفقراء والمحاويج ﴿ وَذَلِكَ دِينُ القيمة ﴾ أي الملة القائمة العادلة، أو الأمة المستقيمة المعتدلة.
يخبر تعالى عن مآل الفجار من كفرة أهل الكتاب والمشركين، المخالفين لكتب الله المنزلة وأنبياء الله المرسلة، أنهم يوم القيامة في نار جهنم ﴿ خَالِدِينَ فِيهَآ ﴾ أي ماكثين فيها لا يحولون عنها ولا يزولون، ﴿ أولئك هُمْ شَرُّ البرية ﴾ أي شر الخليقة التي برأها الله وذرأها، ثم أخبر تعالى عن حال الأبرار الذين آمنوا بقلوبهم وعملوا الصالحات بأبدانهم بأنهم خير البرية، و قد استدل بهذه الآية أبو هريرة وطائفة من العلماء على تفضيل المؤمنين من البرية على الملائكة لقوله :﴿ أولئك هُمْ خَيْرُ البرية ﴾، ثم قال تعالى :﴿ جَزَآؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ ﴾ أي يوم القيامة ﴿ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً ﴾ أي بلا انفصال ولا انقضاء ولا فراغ ﴿ رِّضِىَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ﴾ ومقام رضاه عنهم أعلى مما أوتوه من النعيم القيم ﴿ وَرَضُواْ عَنْهُ ﴾ فيما منحهم من الفضل العميم. وقوله تعالى :﴿ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ ﴾ أي هذا الجزاء حاصل لمن خشي الله واتقاه حق تقواه، وعبده كأنه يراه، عن أبي هريرة قال، « قال رسول الله ﷺ :» ألا أخبركم بخير البرية؟ « قالوا : بلى يا رسول الله، قال :» رجل أخذ بعنان فرسه في سبيل الله كلما كانت هيعة استوى عليه، ألا أخبركم بخير البرية؟ قالوا : بلى يا رسول الله، قال :« رجل في ثلة من غنمه يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة، » ألا أخبركم بخير البرية «؟ قالوا : بلى، قال :» الذي يسأل بالله ولا يعطي به « ».
Icon