قد تقدم الكلام على الحروف المقطعة، وقوله عزّ وجلّ :﴿ كَذَلِكَ يوحي إِلَيْكَ وَإِلَى الذين مِن قَبْلِكَ الله العزيز الحكيم ﴾ أي كما أنزل إليك هذا القرآن كذلك أنزل على الأنبياء قبلك، وقوله تعالى :﴿ الله العزيز ﴾ أي في انتقامه، ﴿ الحكيم ﴾ في أقواله وأفعاله، عن عائشة رضي الله عنها قالت :« إن ( الحارث بن هشام ) سأل رسول الله ﷺ فقال : يا رسول الله كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول الله ﷺ :» أحياناً يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشده علي فيفصم عني وقد وعيت ما قال، وأحياناً يأتيني المَلك رجلاً، فيكلمني فأعي ما يقول «. قالت عائشة رضي الله عنها : فلقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه، وإن جبينه ﷺ ليتفصد عرقاً » وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال :« سألت رسول الله ﷺ، فقلت : يا رسول الله هل تحس بالوحي؟ فقال رسول الله ﷺ :» اسمع صلاصل، ثم أسكت عند ذلك، فما من مرة يوحى إليَّ إلا ظننت أن نفسي تقبض « » وقوله تبارك وتعالى :﴿ لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض ﴾ أي الجميع عبيد له وملك له تحت قهره وتصريفه ﴿ وَهُوَ العلي العظيم ﴾ كقوله تعالى :﴿ الكبير المتعال ﴾ [ الرعد : ٩ ]، ﴿ وَهُوَ العلي الكبير ﴾ [ سبأ : ٢٣ ]، والآيات في هذا كثيرة. وقوله عزّ وجلّ :﴿ تَكَادُ السماوات يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ ﴾ قال ابن عباس والسدي : أي فَرَقاً من العظمة، ﴿ والملائكة يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الأرض ﴾ كقوله عزّ وجلّ :﴿ الذين يَحْمِلُونَ العرش وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً ﴾ [ غافر : ٧ ]، وقوله جلّ جلاله :﴿ أَلاَ إِنَّ الله هُوَ الغفور الرحيم ﴾ إعلام بذلك وتنويه به، وقوله سبحانه وتعالى :﴿ والذين اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ ﴾ يعني المشركين ﴿ الله حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ ﴾ أي شهيد على أعمالهم يحصيها ويعدها عداً، وسيجزيهم بها أوفر الجزاء، ﴿ وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ ﴾ أي إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل.
يقول تعالى : وكما أوحينا إلى الأنبياء قبلك ﴿ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً ﴾ أي واضحاً جلياً بيِّناً ﴿ لِّتُنذِرَ أُمَّ القرى ﴾ وهي مكة، ﴿ وَمَنْ حَوْلَهَا ﴾ أي من سائر البلاد شرقاً وغرباً، وسميت مكة ( أم القرى ) لأنها أشرف من سائر البلاد لأدله كثيرة منها قول رسول الله ﷺ :« والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت » وقوله عزّ وجلّ :﴿ وَتُنذِرَ يَوْمَ الجمع ﴾ وهو يوم القيامة يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد، وقوله تعالى :﴿ لاَ رَيْبَ فِيهِ ﴾ أي لا شك في وقوعه وأنه كائن لا محالة ﴿ فَرِيقٌ فِي الجنة وَفَرِيقٌ فِي السعير ﴾، كقوله تعالى :﴿ يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الجمع ذَلِكَ يَوْمُ التغابن ﴾ [ التغابن : ٩ ] أي يغبن أهل الجنة أهل النار، وكقوله عزّ وجل :﴿ يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ ﴾ [ هود : ١٠٥ ]. روى الإمام أحمد، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال :« خرج علينا رسول الله ﷺ وفي يده كتابان، فقال :» أتدرون ما هذان الكتابان «؟ قلنا : لا، إلا أن تخبرنا يا رسول الله، قال ﷺ للذي في يمينه :» هذا كتاب من رب العالمين بأسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وقبائلهم، وثم أجمل على آخرهم لا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبداً، ثم قال ﷺ للذي في يساره :« هذا كتاب أهل النار بأسمائهم وأسماء آبائهم وقبائلهم »، ثم أجمع على آخرهم لا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبداً، فقال أصحاب رسول الله ﷺ : فلأي شيء نعمل إن كان هذا أمر قد فرغ منه؟ قال رسول الله ﷺ :« سدّدوا وقاربوا، فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة وإن عمل أي عمل، وإن صاحب النار يختم له بعمل أهل النار وإن عمل أي عمل »، ثم قال ﷺ بيده فقبضها، ثم قال :« فرغ ربكم عزّ وجلّ من العباد، ثم قال باليمنى فنبذ بها فقال : فريق في الجنة، ونبذ باليسرى وقال : فريق في السعير » «.
وقوله تبارك وتعالى :﴿ وَلَوْ شَآءَ الله لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً ﴾ أي إما على الهداية أو على الضلالة، ولكنه تعالى فاوت بينهم، فهدى من يشاء إلى الحق، وأضل من يشاء عنه، وله الحكمة والحجة البالغة، ولهذا قال عزّ وجلّ :﴿ ولكن يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِي رَحْمَتِهِ والظالمون مَا لَهُمْ مِّن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ ﴾ وقال ابن جرير : إن موسى ﷺ قال : يا رب خلقك الذين خلقتهم، جعلت منهم فريقاً في الجنة وفريقاً في النار، لو ما أدختلم كلهم الجنة؟ فقال : يا موسى أرفع درعك، فرفع، قال : قد رفعت، قال : ارفع، فرفع، فلم يترك شيئاً، قال : يا رب قد رفعت، قال : ارفع، قال : قد رفعت، إلا ما لا خير فيه، قال : كذلك أدخل خلقي كلهم الجنة إلا ما لا خير فيه.
يقول تعالى منكراً على المشركين في اتخاذهم آلهة من دون الله، ومخبراً أنه الولي الحق الذي لا تنبغي العبادة إلا له وحده، فإنه هو القادر على إحياء الموتى، وهو على كل شيء قدير، ثم قال عزّ وجلّ :﴿ وَمَا اختلفتم فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى الله ﴾ أي مهما اختلفتم فيه من الأمور، وهذا عام في جميع الأشياء ﴿ فَحُكْمُهُ إِلَى الله ﴾ أي هو الحاكم فيه بكتابه وسنة نبيّه ﷺ، كقوله جلّ وعلا :﴿ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله والرسول ﴾ [ النساء : ٥٩ ]، ﴿ ذَلِكُمُ الله رَبِّي ﴾ أي الحاكم في كل شيء، ﴿ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ﴾ أي أرجع في جميع الأمور. وقوله جل جلاله :﴿ فَاطِرُ السماوات والأرض ﴾ أي خالقهما وما بينهما ﴿ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً ﴾ أي من جنسكم وشكلكم، منَّة عليكم وتفضلاً، جعل من جنسكم ذكراً وأُنثى، ﴿ وَمِنَ الأنعام أَزْواجاً ﴾ أي وخلق لكم من الأنعام ثمانية أزواج، وقوله تبارك وتعالى :﴿ يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ ﴾ أي يخلقكم فيه على هذه الصفة، لا يزال يذرؤكم فيه ذكوراً وإناثاً خلقاً من بعد خلق، وجيلاً بعد جيل، وقال البغوي ﴿ يَذْرَؤُكُمْ ﴾ أي في الرحم، وقيل : في هذا الوجه من الخلقة، قال مجاهد : نسلاً بعد نسل من الناس والأنعام. وقيل :« في » بمعنى الباء. أي يذرؤكم به. ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ﴾ أي ليس كخالق الأزواج كلها شيء، لأنه الفرد الصمد الذي لا نظير له ﴿ وَهُوَ السميع البصير ﴾، وقوله تعالى :﴿ لَهُ مَقَالِيدُ السماوات والأرض ﴾ تقدم تفسيره في سورة الزمر، وحاصل ذلك أنه المتصرف الحاكم فيهما، ﴿ يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ ﴾ أي يوسع على من يشاء ويضيّق على من يشاء، وله الحكمة والعدل التام. ﴿ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾.
يقول تعالى لهذه الأمة :﴿ شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحاً والذي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ ﴾، فذكر أول الرسل بعد آدم هو ( نوح ) عليه السلام، وآخرهم وهو ( محمد ) ﷺ، ثم ذكر من بين ذلك من أولي العزم، وهو : إبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم، وهذه الآية انتظمت ذكر الخمسة، كما اشتملت آية الآحزاب عليهم في قوله تبارك وتعالى :﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وموسى وَعِيسَى ابن مَرْيَمَ ﴾ [ الأحزاب : ٧ ] الآية، والدين الذي جاءت به الرسل كلهم، هو عبادة الله وحده لا شريك له، كما قال عزّ وجلّ :﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نوحي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ أَنَاْ فاعبدون ﴾ [ الأنبياء : ٢٥ ]، وفي الحديث :« نحن معشر الأنبياء أولاد علاّت، ديننا واحد » أي القدر المشترك بينهم هو عبادة الله وحده لا شريك له، وإن اختلفت شرائعهم ومناهجهم، كقوله جلّ جلاله :﴿ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً ﴾ [ المائدة : ٤٨ ]، ولهذا قال تعالى ههنا :﴿ أَنْ أَقِيمُواْ الدين وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ ﴾ أي أوصى الله تعالى جميع الأنبياء عليهم السلام بالائتلاف والجماعة، ونهاهم عن الافتراق والاختلاف. وقوله عزّ وجلّ :﴿ كَبُرَ عَلَى المشركين مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ ﴾ أي شق عليهم، وأنكروا ما تدعوهم إليه يا محمد من التوحيد، ثم قال جلّ جلاله :﴿ الله يجتبي إِلَيْهِ مَن يَشَآءُ ويهدي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ ﴾ أي هو الذي يقدر الهداية لمن يستحقها، ويكتب الضلالة على من آثرها على طريق الرشد، ولهذا قال تعالى :﴿ وَمَا تفرقوا إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ العلم ﴾ أي إنما كان مخالفتهم للحق بعد بلوغه إليهم، وقيام الحجة عليهم، وما حملهم على ذلك إلا البغي والعناد، ثم قال عزّ وجلّ :﴿ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى ﴾ أي لولا الكلمة السالفة من الله تعالى بإنظار العباد إلى يوم المعاد، لعجّل عليهم العقوبة في الدنيا سريعاً، وقوله جلت عظمته :﴿ وَإِنَّ الذين أُورِثُواْ الكتاب مِن بَعْدِهِمْ ﴾ يعني الجيل المتأخر بعد القرن الأول المذكب للحق ﴿ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ ﴾ أي ليسوا على يقين من أمرهم وإيمانهم، وإنما هم مقلدون لآبائهم وأسلافهم، بلا دليل ولا برهان، وهم في حيرة من أمرهم، وشك مريب وشقاق بعيد.
اشتملت هذه الآية على عشر كلمات مستقلات، كل منها منفصلة عن التي قبلها، حكم برأسها، قالوا : ولا نظير لها سوى آية الكرسي، فإنها أيضاً عشرة فصول كهذه، وقوله :﴿ فَلِذَلِكَ فادع ﴾ أي فللذي أوحينا إليك من الدين الذي وصينا به جميع المرسلين قبلك، أصحاب الشرائع المتبعة، فادع الناس إليه، وقوله عزّ وجلّ :﴿ واستقم كَمَآ أُمِرْتَ ﴾ أي واستقم أنت ومن اتبعك على عبادة الله تعالى، كما أمركم الله عزّ وجلّ. وقوله تعالى :﴿ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ ﴾ يعني المشركين فيما اختلقوه فيه وكذبوه وافتروا من عبادة الأوثان. وقوله جلّ وعلا :﴿ وَقُلْ آمَنتُ بِمَآ أَنزَلَ الله مِن كِتَابٍ ﴾ أي صدقت بجميع الكتب المنزلة من السماء على الأنبياء لا نفرق بين أحد منهم. وقوله :﴿ وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ ﴾ أي في الحكم كما أمرني الله. وقوله جلَّت عظمته ﴿ الله رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ ﴾ أي هو المعبود لا إله غيره فنحن نقر بذلك اختياراً، وأنتم وإن لم تفعلوه اختياراً فله يسجد من في العالمين طوعاً وإجباراً. وقوله تبارك وتعالى :﴿ لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ ﴾ أي نحن برآء منكم. قال سبحانه وتعالى :﴿ وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بريائون مِمَّآ أَعْمَلُ وَأَنَاْ برياء مِّمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ [ يونس : ٤١ ]، وقوله تعالى :﴿ لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ ﴾ قال مجاهد : أي لا خصومة. قال السدي : وذلك قبل نزول آية السيف، وهذا متجه، لأن هذه الآية مكية وآية السيف بعد الهجرة، وقوله عزّ وجلّ :﴿ الله يَجْمَعُ بَيْنَنَا ﴾ أي يوم القيامة كقوله :﴿ قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بالحق وَهُوَ الفتاح العليم ﴾ [ سبأ : ٢٦ ]. وقوله جلّ وعلا :﴿ وَإِلَيْهِ المصير ﴾ أي المرجع والمآب يوم الحساب.
يقول تعالى متوعداً الذين يصدون عن سبيل الله من آمن به ﴿ والذين يُحَآجُّونَ فِي الله مِن بَعْدِ مَا استجيب لَهُ ﴾ أي يجادلون المؤمنين المستجيبين لله ولرسوله، ليصدوهم عما سلكوه من طريق الهدى ﴿ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ ﴾ أي باطله عند الله ﴿ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ ﴾ أي منه ﴿ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ﴾ أي يوم القيامة، قال ابن عباس ومجاهد : جادلوا المؤمنين بعد ما استجابوا لله ولرسوله، ليصدوهم عن الهدى، وطمعوا أن تعود الجاهلية، وقال قتادة : هم اليهود والنصارى قالوا لهم : ديننا خير من دينكم، ونبينا قبل نبيكم، ونحن خير منكم وأولى بالله منكم، وقد كذبوا في ذلك. ثم قال تعالى :﴿ الله الذي أَنزَلَ الكتاب بالحق ﴾ يعني الكتب المنزلة من عنده على أنبيائه ﴿ والميزان ﴾ وهو العدل والإنصاف، وهذه كقوله تعالى :﴿ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكتاب والميزان لِيَقُومَ الناس بالقسط ﴾ [ الحديد : ٢٥ ]، وقوله :﴿ أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِي الميزان * وَأَقِيمُواْ الوزن بالقسط وَلاَ تُخْسِرُواْ الميزان ﴾ [ الرحمن : ٨-٩ ]. وقوله تعالى :﴿ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ الساعة قَرِيبٌ ﴾ فيه ترهيب منها، وتزهيد في الدنيا، وقوله عزّ وجلّ :﴿ يَسْتَعْجِلُ بِهَا الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا ﴾ أي يقولون : متى هذا الوعد؟ وإنما يقولون ذلك تكذيباً واستبعاداً وكفراً وعناداً، ﴿ والذين آمَنُواْ مُشْفِقُونَ مِنْهَا ﴾ أي خائفون وجلون من وقوعها ﴿ وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الحق ﴾ أي كائنة لا محالة، فهم مستعدون لها عاملون من أجلها، وقد روي « أن رجلاً سأل رسول الله ﷺ بصوت جهوري، وهو في بعض أسفاره، فناداه، فقال : يا محمد، فقال له رسول الله ﷺ، نحواً من صوته :» هاؤم «، فقال له : متى الساعة؟ فقال رسول الله ﷺ :» ويحك إنها كائنة فما أعددت لها «؟ فقال : حب الله ورسوله، فقال ﷺ :» أنت مع من أحببت « »، فقوله في الحديث :« المرء مع من أحب »، هذا متواتر، والغرض أنه لم يجبه عن وقت الساعة بل أمره بالاستعداد لها، وقوله تعالى :﴿ أَلاَ إِنَّ الذين يُمَارُونَ فَي الساعة ﴾ أي يجادلون في وجودها، ويدفعون وقوعها ﴿ لَفِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ ﴾ أي في جهل بيّن، لأن الذي خلق السماوات والأرض، قادر على إحياء الموتى بطريق الأولى والأحرى، كما قال تعالى :﴿ وَهُوَ الذي يَبْدَؤُاْ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ﴾ [ الروم : ٢٧ ].
يقول تعالى مخبراً عن لطفه بخلقه في رزقه إياهم سواء منهم البر والفاجر، كقوله عزّ وجلّ :﴿ وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأرض إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا ﴾ [ هود : ٦ ] الآية، وقوله جلا وعلا :﴿ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ ﴾ أي يوسع على من يشاء ﴿ وَهُوَ القوي العزيز ﴾ أي لا يعجزه شيء، ثم قال تعالى :﴿ مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة ﴾ أي عمل الآخرة ﴿ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ ﴾ أي نقويه ونعينه على ما هو بصدده، ونجزيه بالحسنة عشرة أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، إلى ما يشاء الله، ﴿ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِن نَّصِيبٍ ﴾ أي ومن كان سعيه ليحصل له شيء من الدنيا، وليس له إلى الآخرة هم بالكلية، حرمه الله الآخرة وفاز بالصفقة الخاسرة في الدنيا والآخرة، كقوله تبارك وتعالى :﴿ مَّن كَانَ يُرِيدُ العاجلة عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً ﴾ [ الإسراء : ١٨ ]، وفي الحديث :« بشر هذه الأمة بالسناء والرفعة والنصر، والتمكين في الأرض، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة من نصيب » وقوله جل وعلا :﴿ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُواْ لَهُمْ مِّنَ الدين مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ الله ﴾ أي هم لا يتبعون ما شرع الله لك من الدين القويم، بل يتبعون ما شرع لهم شياطينهم من الجن والإنس، من تحريم ما حرموا عليهم من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، وتحليل أكل الميتة والدم والقمار، إلى نحو ذلك من الضلالات والجهالات الباطلة، وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله ﷺ قال؛ « رأيت عمرو بن لحي يجر قصبه في النار »، لأنه أول من سيّب السوائب، وكان هذا الرجل أحد ملوك خزاعة، وهو أول من فعل هذه الأشياء، وهو الذي حمل قريشاً على عبادة الأصنام لعنه الله وقبحه، ولهذا قال تعالى :﴿ وَلَوْلاَ كَلِمَةُ الفصل لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ﴾ أي لعوجلوا بالعقوبة لولا ما تقدم من الإنظار إلى يوم المعاد، ﴿ وَإِنَّ الظالمين لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ أي شديد موجع في جهنم وبئس المصير، ثم قال تعالى :﴿ تَرَى الظالمين مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُواْ ﴾ أي في عرصات القيامة ﴿ وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ ﴾ أي الذي يخافون منه واقع بهم لا محالة، هذا حالهم يوم معادهم ﴿ والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فِي رَوْضَاتِ الجنات لَهُمْ مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ﴾ فأين هذا من هذا؟ أين من هو في الذل والهوان، ممن هو في روضات الجنات، فيما يشاء من مآكل ومشارب وملاذ، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر؟ ولهذا قال تعالى :﴿ ذَلِكَ هُوَ الفضل الكبير ﴾ أي الفوز العظيم والنعمة التامة، الشاملة العامة.
يقول تعالى لما ذكر روضات الجنات، لعباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات
﴿ ذَلِكَ الذي يُبَشِّرُ الله عِبَادَهُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات ﴾ أي هذا حاصل هلم كائن لا محالة، ببشارة الله تعالى لهم به، وقوله عزّ وجلّ :
﴿ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ المودة فِي القربى ﴾ أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين من كفار قريش، لا أسألكم على هذا البلاغ والنصح مالاً، وإنما أطلب أن تذروني أبلغ رسالات ربي، فلا تؤذوني بما بيني وبينكم من القرابة، روى البخاري، عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل عن قوله تعالى :
﴿ إِلاَّ المودة فِي القربى ﴾ فقال سعيد بن جبير : قربى آل محمد، فقال ابن عباس :
« عَجِلْتَ إن النبي ﷺ : لم يكن بطن من قريش إلا كان له فيهم قرابة، فقال : إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة » وروى الحافظ الطبراني، عن ابن عباس قال : قال لهم رسول الله ﷺ :
« لا أسألكم عليه أجراً إلا أن تودوني في نفسي لقرابتي منكم، وتحفظوا القرابة بيني وبينكم » وروى الإمام أحمد، عن مجاهد، عن ابن عباس :
« لا أسألكم على ما آتيتكم من البينات والهدى أجراً إلا أن توادوا الله تعالى، وأن تقربوا إليه بطاعته »، وهذا كأنه تفسير بقول ثان، كأنه يقول : إلا المودة في القربى، أي إلا أن تعملوا بالطاعة التي تقربكم عند الله زلفى، وقول ثالث وهو ما حكاه البخاري عن سعيد بن جبير أنه قال : معنى ذلك أن تودوني في قرابتي، أي تحسنوا إليهم وتبروهم، قال السدي : لما جيء بعلي بن الحسين رضي الله عنه أسيراً، فأقيم على درج دمشق، قام رجل من أهل الشام فقال : الحمد لله الذي قتلكم، وأستأصلكم، وقطع قرن الفتنة، فقال له علي بن الحسين رضي الله عنه : أقرأت القرآن؟ قال : نعم، قال : أقرأت آل حم؟ قال : قرأت القرآن ولم أقرأ آل حم، قال : ما قرأت :
﴿ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ المودة فِي القربى ﴾ ؟ قال : وإنكم لأنتم هم؟ قال : نعم
«. والحق تفسير هذه الآية بما فسرها به حبر الأمة وترجمان القرآن، عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، كما رواه عنه البخاري، ولا ننكر الوصية بأهل البيت، والأمر بالإحسان إليهم، واحترامهم وإكرامهم، فإنهم من ذرية طاهرة، من أشرف بيت وجد على وجه الأرض فخراً وحسباً ونسباً.
وقد ثبت في الصحيح » أن رسول الله ﷺ، قال في خطبته بغدير خم :
« إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي، وإنهما لم يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض »
2273
، وفي الصحيح أن الصديق رضي الله عنه قال لعلي رضي الله عنه : والله لقرابة رسول الله ﷺ أحب إليَّ أن أصل من قرابتي، وقال عمر بن الخطاب للعباس رضي الله عنهما : والله لإسلامك يوم أسلمت كان أحب إليَّ من إسلام الخطاب لو أسلم، لأن إسلامك كان أحب إلى رسول الله ﷺ من إسلام الخطاب. وروى الإمام أحمد، عن يزيد بن حيان قال :
« انطلقت أنا والحصين بن ميسرة وعمر بن مسلم إلى زيد بن أرقم رضي الله عنه، فلما جلسنا إليه قال حصين : لقد لقيت يا زيد خيراً كثيراً : رأيت رسول الله صلى الله ﷺ وسمعت حديثه وغزوت معه وصلَّيت معه. لقد رأيت يا زيد خيراً كثيراً، حدثنا يا زيد ما سمعت من رسول الله ﷺ فقال : يا ابن أخي لقد كبر سني، وقدم عهدي، ونسيت بعض الذي كنت أعي من رسول الله صلى الله عليه سلم، فما حدثتكم فاقبلوه، وما لا فلا تكلفونيه، ثم قال رضي الله عنه : قام رسول الله ﷺ يوماً خطيباً فينا بماء يدعى خماً بين مكة والمدينة، فحمد الله تعالى وأثنى عليه، وذكَّر ووعظ، ثم قال ﷺ :» أما بعد أيها الناس إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب، وإني تارك فيكم الثقلين، أولهما كتاب الله تعالى فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به
« فحث على كتاب الله ورغب فيه. وقال ﷺ :» وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي، وأذكركم الله في أهل بيتي
«، فقال له حصين : ومن أهل بيته يا زيد؟ أليس نساؤه من أهل بيته؟ قال : إن نساءه لسن من أهل بيته، ولكن أهل بيته من حرم عليه الصدقة بعده، قال : ومن هم؟ قال : هم آل علي، وآل عقيل، وآل جعفر، وآل العباس رضي الله عنهم، قال : كل هؤلاء حرم الله عليه الصدقة؟ قال : نعم » وروى الترمذي، عن زيد بن أبي أرقم رضي الله عنه قال : قال رسول الله ﷺ :
« إني تارك فيكم ما إن تمسكتم فه لن تضلوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر : كتاب الله حبل ممدود من السماء وإلى الأرض، والآخر عترتي أهل بيتي ولن يفترقا حتى يردا على الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما » وروى الترمذي أيضاً، عن جابر بن عبد الله رضي لله عنهما قال :
« رأيت رسول الله ﷺ في حجته يوم عرفة وهو على ناقته القصواء يخطب فسمعته يقول :» يا أيها الناس إني تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا كتاب الله وعتريتي أهل بيتي «.
2274
وقوله عزّ وجلّ :
﴿ وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً ﴾ أي ومن يعمل حسنة
﴿ نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً ﴾ أي أجراً وثواباً، كقوله تعالى :
﴿ إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً ﴾ [ النساء : ٤٠ ]، وقوله تعالى :
﴿ إِنَّ الله غَفُورٌ شَكُورٌ ﴾ أي يغفر الكثير من السيئات، ويكثر القليل من الحسنات، فيستر ويغفر ويضاعف فيشكر، وقوله جلّ وعلا :
﴿ أَمْ يَقُولُونَ افترى عَلَى الله كَذِباً فَإِن يَشَإِ الله يَخْتِمْ على قَلْبِكَ ﴾ أي لو افتريت عليه كذباً كما يزعم هؤلاء الجاهلون
﴿ يَخْتِمْ على قَلْبِكَ ﴾ ويسلبك ما كان آتاك من القرآن، كقوله جلّ جلاله :
﴿ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقاويل * لأَخَذْنَا مِنْهُ باليمين * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوتين * فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ﴾ [ الحاقة : ٤٤-٤٧ ]، أي لانتقمنا منه أشد الانتقام، وما قدر أحد من الناس أن يحجز عنه. وقوله جلَّت عظمته :
﴿ وَيَمْحُ الله الباطل ﴾ مرفوع على الابتداء وحذفت من كتابته الواو في رسم مصحف الإمام كما حذفت في قوله :
﴿ سَنَدْعُ الزبانية ﴾ [ العلق : ١٨ ]، وقوله عزّ وجلّ
﴿ وَيُحِقُّ الحق بِكَلِمَاتِهِ ﴾ أي يحققه ويثبته ويبينه ويوضحه
﴿ بِكَلِمَاتِهِ ﴾ أي بحججه وبراهينه،
﴿ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور ﴾ أي بما تكنه الضمائر، وتنطوي عليه السرائر.
2275
يقول تعالى ممتناً على عباده بقبول توبتهم إذا تابوا ورجعوا إليه، أنه من كرمه وحلمه يعفوا ويصفح، ويستر ويغفر، كقوله عزّ وجلّ :
﴿ وَمَن يَعْمَلْ سواءا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ الله يَجِدِ الله غَفُوراً رَّحِيماً ﴾ [ النساء : ١١٠ ]، وقد ثبت في
« صحيح مسلم »، عن أنَس بن مالك قال :
« قال رسول الله ﷺ :» لله تعالى أشد فرحاً بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كانت راحلته بأرض فلاة، فانفلتت منه ونعليها طعامه وشرابه فأيس منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها وقد أيس من راحلته، فبينما هو كذلك إذ هو بها قائمة معنده، فأخذ بخطامها، ثم قال من شدة الفرح : اللهم أنت عبدي وأبا ربك، أخطأ من شدة الفرح
« وقوله عزّ وجلّ :﴿ وَيَعْفُواْ عَنِ السيئات ﴾ أي يقبل التوبة في المستقبل ويعفو عن السيئات في الماضي، ﴿ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ﴾ أي هو عالم بجميع ما فعلتم وصنعتم وقلتم، ومع هذا يتوب على من تاب إليه، وقوله تعالى :﴿ وَيَسْتَجِيبُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات ﴾ قال السدي : يعني يستجيب لهم، أي الدعاء لأنفسهم ولأصحابهم وإخوانهم، ﴿ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ ﴾ أي يستجيب دعاءهم ويزيدهم فوق ذلك، حدثنا محمد بن المصفى، حدثنا بقية، حدثنا إسماعيل بن عبد الله الكِنْدي، حدثنا الأعمش عن شقيق عن عبد الله رضي الله عنه قال :» قال رسول الله ﷺ :
« في قوله تعالى :﴿ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ ﴾ قيل : الشفاعة لمن وجبت له النار ممن صنع إليهم معروفاً في الدنيا » « وقال إبراهيم النخعي في قوله عزّ وجلّ :﴿ وَيَسْتَجِيبُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات ﴾ قال : يشفعون في إخوانهم، ﴿ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ ﴾، قال : يشفعون في إخوان إخوانهم، وقوله عزّ وجلّ :﴿ والكافرون لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ﴾ لما ذكر المؤمنين وما لهم من الثواب الجزيل ذكر الكافرين وما لهم عنده يوم القيامة من العذاب الشديد الموجع المؤلم يوم معادهم وحسابهم.
وقوله تعالى :﴿ وَلَوْ بَسَطَ الله الرزق لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِي الأرض ﴾ أي لو أعطاهم فوق حاجتهم من الرزق لحملهم ذلك على البغي والطغيان، من بعضهم على بعض أشراً وبطراً، وقال قتادة : وكان يقال خير العيش ما لا يلهيك ولا يطغيك، وذكر قتادة حديث :» إنما أخاف عليكم ما يخرج الله تعالى من زهرة الحياة الدنيا
« وقوله عزّ وجلّ :﴿ ولكن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَآءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ ﴾ أي ولكن يرزقهم من الرقز ما يختاره مما فيه صلاحهم وهو أعلم بذلك، فيغني من يستحق الغنى، ويفقر من يستحق الفقر، كما جاء في الحديث المروي :» إن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى ولو أفقرته لأفسدت عليه دينه، وإن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر ولو أغنيته لأفسدت عليه دينه «
2276
وقوله تعالى :
﴿ وَهُوَ الذي يُنَزِّلُ الغيث مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ ﴾، أي من بعد يأس الناس من نزول المطر، ينزله عليهم في وقت حاجتهم وفقرهم إليه، كقوله عزّ وجلّ :
﴿ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِّن قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ ﴾ [ الروم : ٤٩ ] وقوله جلّ جلاله :
﴿ وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ ﴾ أي يعم بها الوجود على أهل ذلك القطر وتلك الناحية، قال قتادة : ذكر لنا أن رجلاً قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه : يا أمير المؤمنين قحط المطر، وقنط الناس، فقال عمر رضي الله عنه : مطرتم، ثم قرأ :
﴿ وَهُوَ الذي يُنَزِّلُ الغيث مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ وَهُوَ الولي الحميد ﴾ أي هو المتصرف لخلقه بما ينفعهم في دنياهم وأخراهم، وهو المحمود العاقبة في جميع ما يقدره ويفعله.
2277
يقول تعالى :﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ ﴾ الدالة على عظمته وقدرته العظيمة وسلطانه القاهر ﴿ خَلْقُ السماوات والأرض وَمَا بَثَّ فِيهِمَا ﴾، أي ذرأ فيهما، أي في السماوات والأرض ﴿ مِن دَآبَّةٍ ﴾، وهذا يشمل الملائكة والإنس والجن وسائر الحيوانات، على اختلاف أشكالهم وألوانهم ولغاتهم وطباعهم وأجناسهم وأنواعهم، وقد فرقهم في أرجاء أقطار السماوات والأرض، ﴿ وَهُوَ ﴾ مع هذا كله ﴿ على جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَآءُ قَدِيرٌ ﴾ أي يوم القيامة يجمع الأولين والآخرين وسائر الخلائق في صعيد واحد، يسمعهم الداعي وينفذهم البصر، فيحكم فيهم بحكمه العدل الحق، وقوله عزّ وجلّ :﴿ وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ﴾ أي مهما أصابكم أيها الناس من المصائب، فإنما هي عن سيئات تقدمت لكم ﴿ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ ﴾ أي من السيئات فلا يجازيكم عليها بل يعفو عنها، ﴿ وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ على ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ ﴾ [ فاطر : ٤٥ ]. وفي الحديث الصحيح :« والذي نفسي بيده ما يصيب المؤمن من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن إلا كفر الله عنه بها من خطاياه حتى الشوكة يشاكها » وعن أبي جحيفة قال : دخلت على ( علي بن أبي طالب ) رضي الله عنه فقال : ألا أحدثكم بحديث ينبغي لكل مؤمن أن يعيه؟ قال : فسألناه، فتلا هذه الآية :﴿ وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ ﴾ قال : ما عاقب الله تعالى في الدنيا، فالله أحلم من أن يثني عليه العقوبة يوم القيامة، وما عفا الله عنه في الدنيا، فالله أكرم من أن يعود في عفوه يوم القيامة. وروى الإمام أحمد، عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : قال رسول الله ﷺ :« إذا كثرت ذنوب العبد ولم يكن له ما يكفرها ابتلاه الله تعالى بالحزن ليكفرها » وقال الحسن البصري في قوله تعالى :﴿ وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ ﴾ قال : لما نزلت قال : رسول الله ﷺ :« والذي نفس محمد بيده ما من خدش عود، ولا اختلاج عرق، ولا عثرة قدم، إلا بذنب، وما يعفو الله عنه أكثر » وعن الضحاك قال : ما نعلم أحداً حفظ القرآن ثم نسبه إلا بذنب، ثم قرأ :﴿ وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ ﴾، ثم قال الضحّاك : وأي مصيبة أعظم من نسيان القرآن؟
يقول تعالى : ومن آياته الدالة على قدرته الباهرة وسلطانه، تسخيره البحر لتجري فيه الفلك بأمره ﴿ كالأعلام ﴾ أي كالجبال، أي هذه في البحر كالجبال في البر، ﴿ إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الريح ﴾ أي التي تسير في البحر بالسفن، لو شاء لسكنها حتى لاتتحرك السفن بل تبقى راكدة لا تجيء ولا تذهب، بل وافقه ﴿ على ظَهْرِهِ ﴾ أي على وجه الماء، ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ ﴾ أي في الشدائد ﴿ شَكُورٍ ﴾ أي في الرخاء. وقوله عزّ وجلّ ﴿ أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا ﴾ أي ولو شاء لأهلك السفن وغرقها، بذنوب أهلها الذين هم راكبون فيها، ﴿ وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ ﴾ أي من ذنوبهم، ولو آخذهم بجميع ذنوبهم لأهلك كل من ركب البحر، وقال بعض علماء التفسير ﴿ أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا ﴾ أي لو شاء لأرسل الريح قوية عاتبية، فأخذت السفن وأحالتها عن سيرها المستقيم، فصرفتها ذات اليمين أو ذات الشمال، آبقة لا تسير على طريق ولا إلى جهد مقصد، وهذا القول يتضمن هلاكها وهو مناسب للأول، وهو أنه تعالى لو شاء لسكن الريح فوقفت، أو لقوّاه فشردت وأبقت وهلكت، ولكن من لطفه ورحمته أنه يرسله بحسب الحاجة كما يرسل المطر بقدر الكفاية، ولو أنزله كثيراً جداً لهدم البنيان، أو قليلاً لمن أنبت الزرع والثمار، حتى إنه يرسل إلى مثل ( بلاد مصر ) سيحاً من أرض أخرى غيرها، لأنهم لا يحتاجون إلى مطر، ولو أنزل عليهم لهدم بنيانهم وأسقط جدرانهم، وقوله تعالى :﴿ وَيَعْلَمَ الذين يُجَادِلُونَ في آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ ﴾ أي لا محيد لهم عن بأسنا ونقمتنا، فإنهم مقهورون بقدرتنا.
يقول تعالى محقراً لشأن الحياة الدنيا وزينتها، وما فيها من الزهرة والنعيم الفاني بقوله تعالى :﴿ فَمَآ أُوتِيتُمْ مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الحياة الدنيا ﴾ أي مهما حصلتم وجمعتم فلا تغتروا به، فإنما هو متاع الحياة الدنيا، وهي دار دنيئة فانية زائلة لا محالة، ﴿ وَمَا عِندَ الله خَيْرٌ وأبقى ﴾ أي وثواب الله تعالى خبر من الدنيا وهو باق سرمدي، فلا تقدموا الفاني على الباقي، ولهذا قال تعالى :﴿ لِلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ أي للذين صبروا على ترك الملاذ في الدنيا ﴿ وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ أي ليعينهم على الصبر في أداء الواجبات وترك المحرمات. ثم قال تعالى :﴿ والذين يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثم والفواحش ﴾ وقد قدمنا الكلام على الإثم والفواحش في سورة الأعراف، ﴿ وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ ﴾ أي سجيتهم تقتضي الصفح والعفو عن الناس، وقد ثبت في الصحيح :« أن رسول الله ﷺ ما انتقم لنفسه قط إلا أن تنتهك حرمات الله » وفي حديث آخر كان يقول لأحدنا عند المعتبة :« ما له تربت يمينه »، وقوله عزّ وجلّ :﴿ والذين استجابوا لِرَبِّهِمْ ﴾ أي اتبعوا رسله وأطاعوا أمره واجتنبوا زجره، ﴿ وَأَقَامُواْ الصلاة ﴾ وهي أعظم العبادات الله عزّ وجلّ، ﴿ وَأَمْرُهُمْ شورى بَيْنَهُمْ ﴾ أي لا يبرمون أمراً حتى يتشاوروا فيه، ليتساعدوا بآرائهم في مثل الحروب وما جرى مجراها، كما قال تبارك وتعالى :﴿ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر ﴾ [ آل عمران : ١٥٩ ] الآية، ولهذا كان ﷺ يشاروهم في الحروب ونحوها ليطيب بذلك، قلوبهم، ﴿ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ﴾ وذلك بالإحسان إلى خلق الله الأقرب إليهم منهم فالأقرب، وقوله عزّ وجلّ :﴿ والذين إِذَآ أَصَابَهُمُ البغي هُمْ يَنتَصِرُونَ ﴾ أي فيهم قوة الأنتصار ممن ظلمهم واعتدى عليهم، ليسوا بالعاجزين ولا الأذلين، بل يقدرون على الانتقام ممن بغى عليهم، وإن كانوا مع هذا إذا قدروا عفوا، كما عفا رسول الله ﷺ عن أولئك النفر الثمانين الذين قصدوه عام الحديبية، وكذلك عفوه ﷺ عن ( غورث بن الحارث ) الذي أراد الفتك به حين اخترط سيفه وهو نائم، وكذلك عفا ﷺ عن ( لبيد بن الأعصم ) الذي سحره عليه السلام، ومع هذا لم يعرض له و لا عاتبه مع قدرته عليه؛ والأحاديث والآثار في هذا كثيرة جداً والله سبحانه وتعالى أعلم.
قوله تبارك وتعالى :
﴿ وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ﴾ كقوله تعالى :
﴿ فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ ﴾ [ البقرة : ١٩٤ ]، وكقوله :
﴿ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ ﴾ [ النحل : ١٢٦ ] الآية فشرع العدل وهو ( القصاص ) وندب إلى الفضل وهو
﴿ العفو ﴾ كقوله جلّ وعلا :
﴿ والجروح قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ ﴾ [ المائدة : ٤٥ ]، ولهذا قال هاهنا :
﴿ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى الله ﴾ أي لا يضيع ذلك عند الله كما صح في ذلك الحديث :
« وما زاد الله تعالى عبداً بعفو إلا عزاً » وقوله تعالى :
﴿ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظالمين ﴾ أي المعتدين وهو المبتدىء بالسيئة، ثم قال جلّ علا :
﴿ وَلَمَنِ انتصر بَعْدَ ظُلْمِهِ فأولئك مَا عَلَيْهِمْ مِّن سَبِيلٍ ﴾ أي ليس عليهم جناح في الانتصار ممن ظلمهم، روى النسائي، عن عروة قال :
« قالت عائشة رضي الله عنها : ما علمت حتى دخلت عليَّ زينب بغير إذن وهي غضبى، ثم قالت لرسول الله ﷺ : حسبك إذا قلبت لك ابنة أبي بكر درعها، ثم أقبلت عليَّ، فأعرضت عنها حتى قال النبي ﷺ :» دونك فانتصري
« فأقبلت عليها حتى رأيت ريقها قد يبس في فمها ما ترد علي شيئاً فرأيت النبي ﷺ يتهلل وجهه وروى البزار عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله ﷺ :» « من دعا على من ظلمه فقد انتصر » وقوله عزّ وجلّ :
﴿ إِنَّمَا السبيل ﴾ أي إنما الحرج والعنت
﴿ عَلَى الذين يَظْلِمُونَ الناس وَيَبْغُونَ فِي الأرض بِغَيْرِ الحق ﴾ أي يبدأون الناس بالظلم، كما جاء في الحديث الصحيح :
« المسبتّان ما قالا، فعلى البادىء ما لم يعتد المظلوم » ﴿ أولئك لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ أي شديد موجع، ثم إن الله تعالى لما ذم الظلم وأهله وشرع القصاص قال نادباً إلى العفو والصفح :
﴿ وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ ﴾ أي صبر على الأذى وستر السيئة
﴿ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور ﴾ أي لمن الأمور المشكورة والأفعال الحميدة، التي عليها ثواب جزيل وثناء جميل، وقال الفضيل بن عياض :
« إذا أتاك رجل يشكو إليك رجلاً فقل : يا أخي اعف عنه، فإن العفو أقرب للتقوى، فإن قال : لا يحتمل قلبي العفو، ولكن انتصر كما أمرني الله عزّ وجلّ، فقل له : إن كنت تحسن أن تنتصر، وإلا فارجع إلى باب العفو، فإن باب واسع، فإنه ﴿ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى الله ﴾، وصاحب العفو ينام على فراشه بالليل، وصاحب الانتصار يقلب الأمور ». وروى الإمام أحمد، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال :
« إن رجلاً شتم أبا بكر رضي الله عنه والنبي ﷺ جالس؛ فجعل النبي ﷺ يعجب ويبتسم، فلما أكثر رد عليه بعض قوله، فغضب النبي ﷺ، وقام فلحقه أبو بكر رضي الله عنه فقال : يا رسول الله إنه كان يشتمني وأنت جالس، فلما رددت عليه بعض قوله غضبت، وقمت، قال :» إنه كان معك ملك يرد عنك فلما رددت عليه بعض قوله حضر الشيطان فلم أكن لأقعد مع الشيطان! ثم قال : يا أبا بكر، ثلاث كلهن حق : ما من عبد ظلم بمظلمة فيغضي عنها لله إلا أعزه الله تعالى بها ونصره، وما فتح رجل باب عطية يريد بها صلة إلا زاده الله بها كثرة، وما فتح رجل باب مسألة يريد بها كثرة إلا زاده الله عزّ وجلّ بها قلة
« »
2281
، وهاذ الحديث في غاية الحسن في المعنى وهو مناسب للصديق رضي الله عنه.
2282
يقول تعالى مخبراً عن نفسه الكريمة، أنه من هداه فلا مضل له، ومن يضلل الله فلا هادي له، كما قال عزّ وجلّ :﴿ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُّرْشِداً ﴾ [ الكهف : ١٧ ]، ثم قال عزّ وجلّ مخبراً عن الظالمين وهم المشركون بالله ﴿ لَمَّا رَأَوُاْ العذاب ﴾ أي يوم القيامة تنموا الرجعة إلى الدنيا، ﴿ يَقُولُونَ هَلْ إلى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ ﴾، كما قال جلّ وعلا :﴿ وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النار فَقَالُواْ ياليتنا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ المؤمنين ﴾ [ الأنعام : ٢٧ ]، وقوله عزّ وجلّ :﴿ وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا ﴾ أي على النار، ﴿ خَاشِعِينَ مِنَ الذل ﴾ أي الذي قد اعتراهم بما أسلفوا من عصيان الله تعالى :﴿ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ ﴾ قال مجاهد : يعني ذليل، أي ينظرون إليها مسارقة خوفاً منها، والذي يحذرون منه واقع بهم لا محالة، ﴿ وَقَالَ الذين آمنوا ﴾ أي يقولون يوم القيامة ﴿ إِنَّ الخاسرين ﴾ أي الخسار الأكبر، ﴿ الذين خسروا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ القيامة ﴾ أي ذهب بهم إلى النار فعدموا لذتهم في دار الأبد، وفرق بينهم وبين أحبابهم وأصحابهم فخسروهم، ﴿ أَلاَ إِنَّ الظالمين فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ ﴾ أي دائم سرمدي أبدي، لا خروج لهم منها ولا محيد لهم عنها. وقوله تعالى :﴿ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنْ أَوْلِيَآءَ يَنصُرُونَهُم مِّن دُونِ الله ﴾ أي ينقذونهم مما هم فيه من العذاب والنكال، ﴿ وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِن سَبِيلٍ ﴾ أي ليس له الخلاص.
لما ذكر تعالى ما يكون في يوم القيامة من الأهوال والأمور العظام الهائلة حذر منه وأمر بالاستعداد له، فقال :﴿ استجيبوا لِرَبِّكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ الله ﴾ أي إذا أمر بكونه، فإنه كلمح البصر يكون، وليس له دافع ولا مانع، وقوله عزّ وجلّ :﴿ مَا لَكُمْ مِّن مَّلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِّن نَّكِيرٍ ﴾ أي ليس لكم حصن تتحصنون فيه، ولا مكان يستركم وتتنكرون فيه، فتغيبون عن بصره تبارك وتعالى، بل هو محيط بكم بعلمه وبصره وقدرته، فلا ملجأ منه إلا إليه ﴿ يَقُولُ الإنسان يَوْمَئِذٍ أَيْنَ المفر * كَلاَّ لاَ وَزَرَ * إلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المستقر ﴾ [ القيامة : ١٠-١٢ ]، وقوله تعالى :﴿ فَإِنْ أَعْرَضُواْ ﴾ يعني المشركين ﴿ فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً ﴾ أي لست عليهم بمصيطر، وقال تعالى :﴿ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ وَعَلَيْنَا الحساب ﴾ [ الرعد : ٤٠ ]، وقال جلّ وعلا هاهنا :﴿ إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ البلاغ ﴾ أي إنما كلفناك أن تبلغهم رسالة الله إليهم، ثم قال تعالى :﴿ وَإِنَّآ إِذَآ أَذَقْنَا الإنسان مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا ﴾ أي إذا أصابه رخاء ونعمة فرح بذلك ﴿ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ ﴾ يعني الناس ﴿ سَيِّئَةٌ ﴾ أي جدب ونقمة وبلاء وشدة، ﴿ فَإِنَّ الإنسان كَفُورٌ ﴾ أي يجحد ما تقدم من النعم، ولا يعرف إلا الساعة الراهنة، فإن أصابته نعمة أشر وبطر، وإن أصابته محنة يئس وقنط، فالمؤمن كما قال ﷺ :« إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، وليس ذلك لأحد إلا المؤمن ».
يخبر تعالى أنه خالق السماوات والأرض، ومالكهما والمتصرف فيهما، وأنه يعطي من يشاء ويمنع من يشاء، ولا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، وأنه يخلق ما يشاء ﴿ يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً ﴾ أي يرزقه البنات فقط ﴿ وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذكور ﴾ أي يرزقه البنين فقط، ﴿ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً ﴾ أي ويعطي لمن يشاء الزوجين ( الذكر والأنثى ) أي من هذا وهذا، ﴿ وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً ﴾ أي لا يولد له، فجعل الناس أربعة أقسام : منهم من يعطيه البنات، ومنهم من يعطيه البنين، ومنهم من يعطيه من النوعين ذكوراً وإناثاً، ومنهم من يمنعه هذا وهذا، فيجعله عقيماً لا نسل له ولا ولد له، ﴿ إِنَّهُ عَلِيمٌ ﴾ أي بمن يستحق كل قسم من هذه الأقسام، ﴿ قَدِيرٌ ﴾ أي على من يشاء من تفاوت الثاني في ذلك، فسبحان العليم القدير.
هذه مقامات الوحي بالنسبة إلى جناب الرب جل وعلا، فتارة يقذف في روع النبي ﷺ وحياً لا يتمارى فيه أنه من الله عزّ وجلّ، كما جاء في « صحيح ابن حبان » عن رسول الله ﷺ أنه قال :« إن روح القدس نفث في روعي أن نفساً لن تموت حتى تستكمل رزقها وأجلها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب »، وقوله تعالى :﴿ أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ ﴾ أي كما كلّم موسى ﷺ، فإنه سأل الرؤية بعد التكليم فحجب عنها. وفي الصحيح أن رسول الله ﷺ قال لجابر بن عبد الله رضي الله عنهما :« ما كلّم الله أحداً إلا من وراء حجاب وإنه كلَّم أباك كفاحاً » كذا جاء في الحديث، وكان قد قتل يوم أُحُد ولكن هذا في عالم البرزخ، والآية إنماهي الدار الدنيا. وقوله عزّ وجلّ :﴿ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَآءُ ﴾ كما ينزل جبريل ﷺ وغيره من الملائكة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ﴿ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ ﴾ فهو علي عليم، خبير حكيم، وقوله عزّ وجلّ :﴿ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا ﴾ يعني القرآن، ﴿ مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكتاب وَلاَ الإيمان ﴾ أي على التفصيل الذي شرع لك في القرآن، ﴿ ولكن جَعَلْنَاهُ ﴾ أي القرآن ﴿ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا ﴾، كقوله تعالى :﴿ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ والذين لاَ يُؤْمِنُونَ في آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى ﴾ [ فصلت : ٤٤ ] الآية، وقوله تعالى :﴿ وَإِنَّكَ ﴾ أي يا محمد ﴿ لتهدي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ وهو الخلق القويم، ثم فسره بقوله تعالى :﴿ صِرَاطِ الله ﴾ أي شرعه الذي أمره به الله، ﴿ الذي لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض ﴾ أي ربهما وما لكهما والمتصرف فيهما والحاكم الذي لا معقب لحكمه، ﴿ أَلاَ إِلَى الله تَصِيرُ الأمور ﴾ أي ترجع الأمور فيفصلها ويحكم فيها، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علواً كبيراً.