تفسير سورة الشورى

بيان المعاني
تفسير سورة سورة الشورى من كتاب بيان المعاني المعروف بـبيان المعاني .
لمؤلفه ملا حويش . المتوفي سنة 1398 هـ

ولكن من يضلل الله فماله من هاد «حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ» القرآن المخبر عن ذلك هو «الْحَقُّ» المنزل من عند الله العاوي عن كل شائبة «أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ» يا سيد الرسل الذي أنزل عليك هذا القرآن وجعل فيه بيانا لكل شيء مما كان ويكون «أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ» ٥٣ لا يغيب عن علمه ما يقع في جميع مكوناته وإن كل ما يجري فيها يراه ويسمعه وتكون بأمره وإرادته، قال تعالى «أَلا إِنَّهُمْ» قومك يا حبيبي مع ظهور هذه الآيات المثبتة للتوحيد والتنزيه والأمر بالعدل والإحسان، لم يزالوا «فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ» في الآخرة لأنهم ينكرون البعث وسيعلمونه حين يشاهدونه «أَلا إِنَّهُ» ذلك الإله الواحد العظيم القادر على كل شيء «بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ» ٥٤ إحاطة ضافية لعلمه بواطن الأمور وظواهرها، ومن كان كذلك فلا يخفى عليه شيء البتة. ولعظم شأن معاني هذه الآية رءف فيها أداة التنبيه ليتنبّه القارئ إلى معانيها ويتذكر ويتفكر فيما انطوت عليه هذا. ومنا قيل إن هذه الآية تنبىء عن أن علوم الله تعالى غير متناعيه، قيل ولولا يلتفت إليه بل إنها تفضي أن علمه محيط بكل شيء من الأشياء، وتقيد أن كل واحد منها مثناه لا كون مجموعها متناهيا، ولا أن علوم الله متناهية تعالى عن ذلك علوا كبيرا، ولا يوجد في القرآن سورة مختومة بهذه اللفظة غير هذه السورة.
هذا، والله أعلم، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين وأتباعه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، آمين، والحمد لله رب العالمين.
تفسير سورة الشورى عدد ١٢- ٦٢ و ٤٢
نزلت بمكة بعد سورة فصلت عدا الآيات ٢٣ إلى ٢٧ فإنهن نزلن بالمدينة، وهي ثلاث وخمسون آية، وثلاثمائة وستون كلمة، وثلاثة آلاف وخمسمائة وثمانية وثمانون حرفا.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قال تعالى «حم عسق» ١ فصل بينهما بعض القراء وجاءت عليه المصاحف خطأ هكذا (حم) ١ (عسق) ٢ ولم يفصل بين (المص) و (كهيعص) و (المر) لأنه وقع بين سور أوائلها حم فقط فأجريت
26
مجرى نظائرها، ويجوز وصلها، وعلى الفصل يكون حم مبتدأ وعسق خبر، وعلى الوصل تكون كلها مبتدأ لخبر مقدر أو خبر لمبتدأ محذوف، وفيه من مبادئ أسماء الله الحسنى الحليم والمالك والعالم والسلام والقهار والقادر، ويكون اسما للسورة، ولا يعلم المراد منه على الحقيقة إلا الله تعالى، راجع تفسير ما قبله، هذا، وإن ما جاء في تفسير روح البيان لاسماعيل حقي وابن كثير في تفسيره من أن ملكا من آل النبي محمد صلّى الله عليه وسلم اسمه عبد الله أو عبد الإله يكون خراب الدولة على يده إلى آخر ما ذكراه، قيل لا ثقة به ولا عمدة عليه، ولا ينطبق على الواقع ولا يوجد ما يؤيده ولا يعرف مصدر نقله ولا من أين تلقيا ذلك، فهي خرافة لا يلتفت إليها، ولذلك لم ننقلها، وإن آل النبي الذين هم آله حقا لا يقع منهم إلا الإصلاح وهم أغير على هذه الأمة وملكها من كل أحد على الإطلاق، وإنك إذا قرأت تلك الأسطورة تمجها وتكذبها من عبارتها، سامحهم الله كم يودعون كتبهم من الغث ما لا فائدة فيه. راجع الآية ٥٨ من الإسراء في ج ١، «كَذلِكَ» مثل ما أوحي إلى الرسل قبلك يا سيدهم «يُوحِي إِلَيْكَ» ربك الذي رباك هذا القرآن «وَ» أوحى كتبا سماوية أيضا «إِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ» كموسى وداود وعيسى وصحفا إلى غيرهم كشيث وإبراهيم، وأوحى وحيا بالتكلم وبواسطة الرسل والإلهام لهؤلاء وغيرهم من كافة الأنبياء والرسل ربهم ومرسلهم ومتولي أمورهم «اللَّهُ» الواحد في ملكه «الْعَزِيزُ» الغالب بقهره «الْحَكِيمُ» ٣ المصيب في صنعه الذي «لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ» ملكا وعبيدا «وَهُوَ الْعَلِيُّ» الشأن «الْعَظِيمُ» ٤ السلطان الذي لا يشغله شأن عن شأن «تَكادُ السَّماواتُ» على عظمهنّ وقوتهنّ «يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ» من عظمته وهيبته ويكدن يتشققن أيضا من قول الكافرين إن له شريكا وإن الملائكة بناته وقول أهل الكتابين إن عزيرا وعيسى ابناه وهو منزه عن الصاحبة والولد والشريك والنظير والوزير والمعين.
هذا، والقياس أن يكون التفطر من تحت وقد بولغ فيه لكبير ما يسنده لصاحب الجلالة والعظمة فأسند إلى الفوق، فيا أيها الناس نزهوا ربّكم عن ذلك كله، وخذوا بقول أنبيائكم عنه كيف لا تفعلون ذلك «وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ»
27
وينزهونه عما يقول الظالمون مما لا يليق بكبريائه من البهت والافتراء «وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ» من المؤمنين الذين يبرثون الحضرة الإلهية مما عزي إليها فانتبهوا أيها الناس لتقديس الملائكة وقدسوا ذلك الإله القوي البرهان، ولأجل أن تنتبهوا لذلك جاء جل جلاله بأداة التنبيه، فقال عز قوله «أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ» لمن يرجع إليه تائبا منيبا «الرَّحِيمُ» ٥ بعباده كلهم ومن رحمته يريد لهم الخير ومن عميم إحسانه شاء أن يبدل سيئات من يخلص إليه التوبة حسنات بعظيم فضله وكبير كرمه وجليل رأفته راجع الآية ٧٠ من سورة الفرقان في ج ١، قال تعالى «وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ» لينصروهم ويشفعوا لهم جهلا وعنادا اتركهم الآن يا حبيبي ما عليك منهم «اللَّهُ» ربك ومالك أمرك وأمرهم «حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ» رقيب على أحوالهم محيط بهم وهو الذي يجازيهم على ذلك إذا بقوا مصرّين «وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ» ٦ تدافع عنهم وتجهد نفسك لأجلهم لأن أمرهم غير مفوض إليك وإنما أنت منذر لهم فقط وإن قولهم هذا ليس بضائرنا، ولله در القائل في هذا المعنى:
ما حطك الواشون عن رتبة... عندي ولا ضرك مغتاب
كأنهم اثنوا ولم يعلموا... عليك عندي بالذي عابوا
«وَكَذلِكَ» مثل ما أوحينا إلى غيرك من الأنبياء ما أنزلناه عليهم من الكتب والصحف والتكلم بلسانهم ولسان أقوامهم لينذروهم بلغاتهم «أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا» بلغتك ولغة قومك «لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى» مكة أي أهلها من إطلاق المحل وإرادة الحال فيه بلغتهم دون حاجة إلى ترجمة، لأن الأنبياء يترجمون الموحى المنزل إليهم بلغة قومهم ليفهموه وأنت لم يحجك ربك إلى الترجمة.
مطلب تسمية مكة أم القرى وقوله ليس كمثله شيء وإقامة الدين وعدم التفرقة فيه ومقاليد السموات:
وإنما سميت مكة أمّا لأن الأرض دحيت من تحتها أو لأنها من أشرف البقاع «وَمَنْ حَوْلَها» من البلاد بما يعم منتهى أطرافها الأربع لغاية الشرق والغرب ونهاية الجنوب والشمال، لأن رسالته عامة لجميع أهل الأرض، فلا تقيد هذه الآية
28
رسالته بمن حوالي مكة من العرب وغيرهم، بل عامة كما ذكرنا، راجع الآية ١٥٨ من الأعراف في ج ١ والآية ٢٨ من سورة سبأ المارة وغيرها من الآيات الصريحة القاطعة بعموم رسالته صلّى الله عليه وسلم، وكذلك الأحاديث الصحيحة شاهدة على عموم رسالته، ولهذا البحث صلة في الآية ٤ من سورة السجدة الآتية فراجعها. «وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ» يوم القيامة وسمي به لقوله تعالى (فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً) الآية ٩٩ من الكهف الآتية، وقوله تعالى (ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ) الآية ١٠٣ من سورة هود المارة وغيرها ولأن فيه اجتماع الأولين والآخرين وأهل الأرض والسماء «لا رَيْبَ فِيهِ» فهو كائن لا شك وفيه يفترق الناس لا محال منهم «فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ» للنعيم والسعادة «وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ» ٧ للعذاب والشقاوة وذلك بعد أن يحاسبوا في الموقف الذي جمعوا فيه «وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً» على دين واحد «وَلكِنْ» لم يشأ ذلك ل «يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ» بتوفيقه للإيمان «وَالظَّالِمُونَ» الذين خذلهم كما سبق في علمه اختيارهم للكفر يدخلهم في عذابه «ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ» ٨ يمنعهم من العذاب المقدر عليهم «أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ» أم منقطعة مقدرة ببل وهي حرف انتقال من بيان ما قبلها إلى ما بعدها، والاستفهام لإنكار الوقوع، ونفيه على أبلغ وجه وآكده لإنكار الواقع واستقباحه، كما قيل إن المراد بيان اتخاذهم الأولياء ليس بشيء لأنها أصنام لا تقدر على نصرتهم بل على الحقيقة لأن المعنى اتخذوا أصناما من دون الله وهو باطل، لأن الولي من يقدر على نصرة مواليه وهي ممتنعة في الأوثان، وإذا أرادوا أولياء على الحقيقة «فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ» وحده «وَهُوَ «يُحْيِ الْمَوْتى» وإن الأوثان لا تقدر على إحياء شيء «وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» ٩ والأصنام عاجزة عن كل شيء، وعليه يكون المعنى أن الجدير بأن يتخذوا وليا يقدر على الإحياء والإماتة وعلى كل شيء لا الأوثان العاجزة عن حفظ نفسها. قال تعالى «وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ» أيها المؤمنون مع هؤلاء الكافرين من أمر الدين كالتوحيد وإنكار البعث واتخاذ الأوثان آلهة وشركاء مع الله الواحد وجعلهم أولياء لكم من دونه، فلا تكثروا الجدال فيه معهم لأنهم عاتون
29
معاندون «فَحُكْمُهُ» أي حكم ما اختلف فيه مفوض «إِلَى اللَّهِ» وحده وهو الذي يحاسبهم عليه ويجازيهم يوم يعاقب فيه المبطلون والظالمون ويثاب فيه المحقون والمهتدون «ذلِكُمُ» الحاكم العدل الذي يقضي بينكم بالحق في ذلك اليوم العصيب هو «اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ» ١٠ أرجع في كل ما يهمني كيف لا وهو
«فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» وشافيا عن بعضهما، راجع قوله تعالى (كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما) الآية ٣١ من سورة الحج في ج ٣ «جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً» قال جل قوله من أنفسكم لأنه خلق حواء من آدم وهي أصل في الزوجات كما قال (خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ) يريد به آدم، لأنه أصل البشر والمعنى أنه استق حواء من آدم كما استق السماء من الأرض، راجع الآية ٢٧ من سورة الحج وأول آية من النساء في ج ٣ والآية ١٨٩ من الأعراف في ج ١ «وَمِنَ الْأَنْعامِ» خلق لكم «أَزْواجاً» أصنافا راجع الآية ١٤٣ من سورة الأنعام المارة «يَذْرَؤُكُمْ» يخلقكم ويكثركم، لأن ذرّ وذرأ بمعنى كثر وخلق «فِيهِ» أي التزويج المستفاد مما ذكر قبله «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ» أبدا فلا يشبه ذاته المقدسة شيء أصلا، ويطلق الشيء على جميع المكونات عرضا كان أو جوهرا، والله تعالى منزه عن ذلك، ولا كاسمه اسم، قال تعالى (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) الآية ٦٦ من سورة مريم في ج ١، والمحال كل المحال أن تكون الذات القديمة مثل المحدثة أو يكون لها صفة حادثة أيضا، وهذا لا يتوقف على تحقيق مثله في الخارج فعلا، بل يكفي تقرير المثل بالقوة فقط لأن ذاته لا يماثلها ذات في الوجود بوجه ما، وكنى بالمثل عن الذات، لأن المماثلة إذا كانت منتفية عمن يكون مثله وعلى صفته، فلأن تكون منتفية عمن يكون كذاته من باب أولى، وتقدم جواز إطلاق الشيء على الله تعالى في الآية ١٩ من سورة الأنعام المارة، وإقامة المثل مقام النفس شائع في كلام العرب، يقولون مثلك لا يبخل، وهو أبلغ من قولهم أنت لا تبخل، لأنه إذا نفي عمن يناسبه كان نفيه عنه أولى، قال القائل:
جلّ المهيمن أن تدرى حقيقته من لا له مثل لا تضرب له مثلا
لأنهم إذا نفوه عمن يسد مسدّه فقد نفوه عنه، قال أوس بن حجر:
30
ليس كمثل الفتى زهير خلق يوازيه في الفضائل
وقال الآخر:
سعد بن زيد إذا أبصرت فضلهم ما ان كمثلهم في الناس من أحد
أما قوله تعالى: (وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى) فهو الوصف الأعلى الذي ليس لغيره جلّ شأنه، كما سيأتي في الآية ٦٠ من سورة النحل والآية ٢٧ من سورة الروم الآتيتين إن شاء الله، ويجوز عقيدة إطلاق الشيء على الله تعالى، قال في بدء الأمالي:
نسمي الله شيئا لا كالاشيا وذاتا عن جهات الست خالي
«وَهُوَ السَّمِيعُ» لأقوالنا خفيها وجليها لفظها ورمزها «الْبَصِيرُ» ١١ بأعمالنا كلها «لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» مفاتحها بيده، وهي وما فيهما ملكه يتصرف فيهما كيف يشاء. وتقدم البحث في هذا في الآية ٦٣ من سورة الزمر بصورة مفصلة فراجعها، «يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ» يضيق على من يشاء بحسب الحكمة «إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» ١٢ ومن مقتصى علمه إعطاء كل ما يستحقه «شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً» أي أن الذين الذي شرعه لك ربك يا محمد ليس بشيء جديد، وإنما هو الذي شرعه لمن قبلك من الأنبياء، وقد تطابقت الشرائع على صحته وأجمعت على دعوة أممهم إليه من حيث أصوله الراسخة، لأن الكل مرسلون من قبله على نمط واحد ووتيرة واحدة، فكلهم يدعون إلى توحيد الله وعبادته والاعتراف بأنبيائه، وبالبعث بعد الموت، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. «وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ» يا أكرم الرسل من القرآن فيه ما أوحينا به لمن قبلك «وَما» أي الذي «وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى» من قبلك عبارة عن أمرنا لهم «أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ» وأمروا أممكم بالاستقامة فيه وواظبوا عليه وشيدوا أركانه يحفظه من الزيغ وقدمنا ما يتعلق في هذا البحث في الآية ١٩٤ من سورة الشعراء المارة في ج ١، وإنما ذكر تعالى هؤلاء الأنبياء دون غيرهم لأنهم من أولي العزم، ولأنهم أكثر الناس أتباعا، ولأنهم أصحاب الشرائع المعظمة، وقد ذكرهم الله تعالى في الآية ٧ من سورة الأحزاب مجتمعين أيضا، لأنهم خمسة لا سادس لهم على القول الصحيح،
31
وإن شأنهم في قدم النبوة أعلى من غيرهم وشهرتهم في الكون أكثر من غيرهم، ولأن جهادهم في استمالة قلوب الكفرة وأهل الزيغ بلغ الغاية القصوى، ولهذا فإن كلّا من الأمم متفقة على نبوتهم وحبهم عدا قسم من اليهود المنكرين نبوة عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، وتقدم البحث في هذا أيضا في الآية ٥٧ من سورة المؤمن المارة واعلم ممأنه لم يرسل نبي إلا وله شرع أمر بإقامته، وإن الدين عند الله هو دين الإسلام، دين إبراهيم عليه السلام أبي الأنبياء، وخاصة فيما لم يقع فيه اختلاف قط، وهي الأصول الثلاثة: التوحيد والنبوة والمعاد، وتوابع هذه الأصول ثلاثة أيضا: الإيمان بالكتب السماوية وبالقضاء والقدر والطاعة للرسل.
«وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ» لأن إقامته مع الاختلاف تؤدي إلى التفرقة وهي مذمومة في غير أمر الدّين فكيف به، هذا أمر الله عباده بإقامة الدين والاجتماع عليه، وتقدم بحث هذا أيضا في الآية ١٥٩ من سورة الأنعام المارة فراجعها. وأعلم أن ليس المراد من إقامة الدين هنا الشرائع الأخرى، لقوله تعالى (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) الآية ٤٨ من سورة المائدة، لذلك فإن ما يعود المرسل الأول يكون بمقتضى شرائعهم، وما يعود لنبينا محمد وأمته يكون بحسب ما أنزل الله عليه وشرعه على لسانه لأن شريعته ناسخة لما قبلها وباقية إلى الأبد وصالحة لكل زمان، ولهذا ختم بها جميع الشرائع كما ختم بصاحبها باب النبوة، إذ بلغت الكمال اللائق، ولا يصلح الكون إلا بتطبيقها، فعلى أولي الأمر السهر عليها والعمل بها ليتم لهم الأمر ويستتب الأمن، قال تعالى (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) الآية ٣ من سورة المائدة في ج ٣، وقال تعالى (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) الآية ٨٥ من آل عمران في ج ٣، فيا أيها الناس أرضوا بما رضيه الله لكم، واعملوا به، لأن العمل بغيره لا يقبله الله وتكون عاقبته الخسران «كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ» من رفض عبادة الأوثان ولم يعظم عليهم رفض عبادة الرحمن، لهذا فإنهم ليسوا بأهل لأن يختارهم الله لإقامة دينه «اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ» من عباده الصالحين لذلك الدين القويم «وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ
32
يُنِيبُ»
١٣ لجنابه ويرجعه عن خطأه لصوابه. ونظير صدر هذه الآية في المعنى الآية ١٦٣ من النساء في ج ٣، قال تعالى «وَما تَفَرَّقُوا» أي الأمم السابقة من أهل الكتابين خاصة فمن قبلهم عامة عن الدين القويم والشرع الصحيح «إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ» بصحته من قبل الله على لسان رسلهم وكان ذلك التفريق «بَغْياً بَيْنَهُمْ» على أنبيائهم وحسدا لهم ببقاء الرياسة ليس إلا «وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ» يا سيد الرسل بتأخير عذابهم «إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى» عنده لا ينقدم ولا ينأخر لأنه من الأمور المقضية المبرمة في الأزل «لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ» بتعجيل العقوبة وإنزال العذاب بسبب اختلافهم في الدين وتفريقه «وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ» من أبنائهم وأحفادهم «لَفِي شَكٍّ مِنْهُ» أي الكتاب تقليدا لما كان عليه آباؤهم وأجدادهم، ثم وصف ذلك الشك بأنه «مُرِيبٍ» ١٤ مبالغة فيه لأن الريب قلق النفس واضطرابها ويسمى الشك مريبا لأنه يزبل الطمأنينة «فَلِذلِكَ» لأجل تفرقهم وبغيهم على رسلهم وشكهم في كتبهم المنوهة بك وبنبوتك وصدق ما جئنهم به من ربك، ولأجل ما شرع لهم من الدين المستقيم الجدير بأن يتنافس فيه المتنافسون «فَادْعُ» إلى الائتلاف والتوحيد اللذين وصى بهما الأنبياء قبلك وإلى الاتفاق على الملة الحنيفية.
مطلب في الاستقامة والمراد بالميزان وآل البيت وعدم أخذ الأجرة على تعليم الدين:
«وَاسْتَقِمْ» عليها أنت وأمنك، وأدم الدعوة إليها «كَما أُمِرْتَ» من قبلنا «وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ» الباطلة المختلفة وآراءهم الفاسدة «وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ» أي بجميع الكتب المنزلة من عند الله، لأن النكرة إذا أطلقت عمت، فتشمل كل كتاب أنزله الله من لدن آدم إلى زمنه، وقدمنا ما يتعلق في بحث الاستقامة على الدين في الآيتين ١١٢/ ١١٩ من سورة هود المارة بصورة مفصلة فراجعهما. واعلم أن في هذه الآية تعريضا بالكافرين وبعض أهل الكتاب الذين يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض من الكتب السالفة والآيات القرآنية، ولهذا قال تعالى على لسان رسوله صلّى الله عليه وسلم «وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ» فيما أمرني فيه ربي من الأحكام المنزلة عليّ من لدنه فلا أخص بعضا دون بعض،
33
وأبلغ شريعته جميع خلقه الذين أراهم بنفسي، وبالواسطة لمن لم أرهم، وأعدل بينكم في الخصومات إذا تحاكمتم لدي، فلا أجور ولا أحيف على أحد، ولا أخاصم أحدا إلا بالحق ولأجل الحق، لأن الذي أدعوكم إليه هو «اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ» ورب الخلق أجمع فكما لا يختص به واحد دون آخر لا يرضى أن يتميز أحد على أحد بدون الحق، فهذه خطتي التي أمرت بها يا قوم، فإن لم تقبلوا فتكون «لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ» لا تسألون عما أعمل ولا نسأل مما تعملون.
وهذه الجملة على حد قوله تعالى (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) الآية الأخيرة من سورة الكافرون في ج ١، وعلي حد قوله (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) الآية ٢٤ من سورة سبأ المارة، وإذ ظهر الحق الصريح فأقول لكم «لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ» ولا خصومة ولا محاججة وجاءت هنا الحجة بمعنى الاحتجاج وهي الأصل «اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا» فيجازي كلا على عمله «وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ» ١٥ في الخصومات والمحاججات، ولا وجه لقول من قال بنسخ هذه الآية بآية السيف من المفسرين إذ ليس فيها ما يدل على المتاركة وإقرار الكفار على ما هم عليه من الكفر وإنما هي من باب التعريض راجع الآية ٢٥ من سورة سبأ المارة تجد مثل هذا.
قال تعالى «وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ» ويخاصمون في دينه «مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ» بعد استجابة الناس لدينه ودخولهم فيه فهولاء «حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ.» باطلة زائلة مهجورة غير مقبولة «عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ» ١٦ في الآخرة، وهذه الآية عامة في كل من هذا شأنه من الناس أجمع، وما قيل إنها نزلت في كفار بدر بعد أن استجاب الله تعالى دعاء حضرة الرسول بظفره عليهم قول لا دليل لقائله عليه، لأن هذه الآية مكية بالاتفاق وواقعة بدر بعد الهجرة وهو لم يهاجر بعد وكذلك القول بحمل الاستجابة على استجابة أهل الكتاب لا يتجه لأن أهل الكتاب لم يباحثهم حضرة الرسول إلا في المدينة ولم يجب دعوته أحد منهم إلا فيها، لذلك فحمل الاستجابة على من أجابه لدين الحق وهو في مكة من أهل مكة، والمحاججون هم روساء الكفر أولى وأنسب في المقام. قال تعالى «اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ» مفصلا فيه الدلائل
34
والأحكام ليجري عليه الناس «وَالْمِيزانَ» آلة العدل، لأن المراد به والله أعلم نفس العدل والإنصاف والتسوية بين الناس، أنزله أيضا وأمر خلقه فيه ليتحلوا به فيستقيم أمرهم ويعدلوا فيما بينهم. راجع رسالة القسطاس المستقيم للإمام الغزالي رحمه الله تجد أن المراد بالميزان ما ذكرته، لأنه يقول في قوله تعالى (وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ) الآية ٧ من سورة الرحمن في ج ٣، إن هذا الميزان الذي قابله الله بالسماء لا يتصور أنه الذي يزن به الناس الخس والبصل مثلا، بل إنما هو العدل الذي به قوام الدنيا والآخرة إلخ، ما جاء فيها. «وَما يُدْرِيكَ» يا سيد الرسل «لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ» ١٧ حدوثها ولعلّها مظلّة عليك ولا تراها، فعليك أن تأمر الناس باتباع الكتاب وإجراء العدل بينهم قبل أن يفاجئهم الأجل وقبل حلول يوم وزن العمل الذي يظهر فيه الرابح في هذه الدنيا من الخاصر.
واعلم انما «يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها» استعجال إنكار واستهزاء فيقولون لك لما تخوفهم بها متى هي، ليتها تأتي الآن حتى يظهر لنا الذي نحن عليه حق أم أنت وأصحابك. وذلك لجهلهم بها وبعظمة الله «وَالَّذِينَ آمَنُوا» بها وصدقوا بوجودها «مُشْفِقُونَ» خائفون وجلون «مِنْها» لعلمهم بحقيقتها وحقيقة ما فيها من الأهوال «وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ» الكائن لا محالة فانتبهوا أيها؟؟؟
«أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ» يجادلون «فِي السَّاعَةِ» ويخاصمون بوجودها جهلا ويشكون بحقيقتها «لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ» ١٨ عن الصواب، لأن البعث بعد الموت أقرب الغائبات بالمحسوسات، لأنه يعلم من إحياء الأرض بعد موتها وغيره من الأدلة العقلية فضلا عن السمعية «اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ» كثير الإحسان إليهم جليل النعم عليهم بالغ البرّ بهم «يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ» من كل نام بحسبه وبقدر ما يكفيه «وَهُوَ الْقَوِيُّ» باهر القوة على كل شيء «الْعَزِيزُ» ١٩ الغالب على كل شيء المنيع الذي لا يدافع ولا يرافع «مَنْ كانَ» منكم أيها الناس «يُرِيدُ» بأعماله وكسبه «حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ» من واحد إلى عشرة إلى سبعمئة إلى ما لا نهاية والله كثير الخير جليل العطاء واسع الفضل «وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا» مؤثرا لها على الآخرة فإنا أيضا «نُؤْتِهِ
35
مِنْها»
ما قدرناه وقسمناه له فيها أزلا لا نعطيه غيره «وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ» ٢٠ أبدا لأن همته كانت مقصورة على الدنيا، ومن كان كذلك فإنه يؤتى حظه المقدر له من كل ما فيها كاملا ويكافأ على أعماله الحسنة كالصدقة والصلة وقول المعروف وإماطة الأذى وغيرها من عافية ورزق وجاه وولد وغيره، فيأتي في الآخرة محروما من ثوابها، لأنه لم يقصد بها وجه الله،
قال تعالى «أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ» من الأوثان «شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ» من الشرك فيه وإنكار البعث والكتب والرسل والجنة والنار. والاستفهام هنا إنكاري أي ليس لهم شرع ولا شارع على حد قوله تعالى (أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا) الآية ٤٣ من سورة الأنبياء الآتية، قال تعالى مهددا لهؤلاء الفجرة «وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ» السابقة منا بتأخير العذاب «لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ» بإنزاله وفرغ من عذابهم وجدالهم وإنكارهم «وَإِنَّ الظَّالِمِينَ» أنفسهم بالكفر أمثال هؤلاء «لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» ٢١ في الآخرة غير عذاب الدنيا ويوم القيامة بأكرم الرسل «تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا» خائفين أشد الخوف من وبال أعمالهم الدنيوية «وَهُوَ» أي العذاب المترتب عليهم جزاء أعمالهم «واقِعٌ بِهِمْ» لا محالة لأنه محتم عليهم أزلا «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ» يكونون في أطيب بقاعها جزاء لأعمالهم الحسنة «لَهُمْ ما يَشاؤُنَ» فيها من كل ما لذّ وطاب وخطر بالبال «عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ» الجزاء الحسن «هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ» ٢٢ الذي لا أكبر منه لأنه من الإله الكبير، وهذه الآيات المدنيات في هذه السورة. قال تعالى «ذلِكَ» النعيم العظيم «الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ به عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» بأن قرنوا أعمالهم الطيبة بفعل ما هو صالح لأن الإيمان بلا عمل كالصوم بلا صلاة والحج بلا زكاة «قُلْ» يا حبيبي لمن تبلغهم أحكامي «لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ» أي التبليغ «أَجْراً» جعلا ما ليكون مدار للتهمة والظن بي، ولا أطلب منكم شيئا عما أبلغه لكم من كلام ربي ولا لموعظة ما لإرشادكم «إِلَّا» شيئا واحدا «الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى» لا غيرها أريد منكم أبدا، قال ابن عباس لم تكن بطن من قريش إلا وله صلّى الله عليه وسلم فيهم قرابة، لهذا
36
قال لا أريد منكم لقاء نصحي وإرشادي للأخذ بكلام ربي إلا أن تحفظوا قرابتي وتصلوا رحمي وتكرموهم، لأن هذه الآية نزلت في الأنصار حينما قالوا له تمنّ علينا يا رسول الله، قال لا أريد شيئا إلا المودة في القربى. قال أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه فيما يرويه البخاري عن ابن عمر ارقبوا محمدا في أهل بيته. وروى مسلم عن زيد بن أرقم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال إني تارك فيكم ثقلين أولها كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم في أهل بيتي، كررها صلّى الله عليه وسلم تأكيدا في حبهم وإكرامهم والصحيح أن أهل بيته نساؤه ومن حرمت عليهم الصدقة بعده، وآل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس رضوان الله عليهم. وهذا الطلب لا يسمى أجرا بالنسبة لقريش في الحقيقة، لأن قرابته قرابتهم، فتكون مودتهم لازمة بل يكون فيه الأجر بالنسبة للأنصار المخاطبين في هذه الآية. أخرج الترمذي عن ابن عباس قال قال صلّى الله عليه وسلم أحبّوا الله لما يغذوكم به، وأحبوني لحب الله، وأحبوا أهل بيتي لحبّي.
وعلى كل لا يقال إنه لا يجوز طلب الأجر على تبليغ الرسالة، لأن ذلك ممنوع إذا كان أجرا ماديا كالدراهم وغيرها، أما الكفّ عن أذية أهله وإرادة مودتهم فلا يسمى أجرا بالمعنى المتعارف، وعليه فإن طلب المودة في القربى ليس بأجر، فيرجع الحاصل على لا أجر البتة، ولهذا فلا ينتقد عليه إلا كما ينتقد على القول فيهم.
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب
لأن هذا ليس بعيب يلام عليه، بل يمدح فيه، ولأن المودة بين المسلمين واجبة، فهي في أهل البيت أوجب، ولهذا كان الاستثناء متصلا. أما من جعل الاستثناء منقطعا فقد ركن إلى تقدير فعل (تَوَدُّونَ) وعمد على الوقف على كلمة أجرا أي إلا أن تودوا أقاربي أو تقدير أذكركم المودة في القربى، والأول أولى كما ترى لما في الأخير من لزوم وتقدير ما الأمر في غنى عنه ولا حاجة فيه. هذا ولا معنى لقول من قال إن هذه الآية منسوخة بآية (قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ) الآية ٤٧ من سورة سبأ المارة، وهي آية مقدمة في النزول على هذه الآية لفظا ورتبة ومن المعلوم أن المقدم لا ينسخ المؤخر، راجع
37
بحث النسخ في المقدمة، وهذا من جملة المرامي التي من أجلها أقدمت على هذا التفسير المبارك ورتبته بحسب النزول ليعلم القارئ خطأ القائلين بنسخ أمثال هذه الآية متى ما عرف أنها متقدمة، لأن العلماء رحمهم الله أكثروا من أقوالهم بالنسخ ومنهم من تغالى فيه حتى خالف الأصول التي وضعت لمعرفة الناسخ والمنسوخ كهذه الآية وآيات الإخبار والوعد والوعيد وغيرها، سامحهم الله. وليعلم أن مودته صلّى الله عليه وسلم وأقاربه وكفّ الأذى عنهم من فرائض الدين، فقد روي أنه لما نزلت هذه الآية قيل يا رسول الله من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودتهم؟ قال علي وفاطمة وابناهما. وقد أجمع السلف والخلف الصالحون على مودتهم، فلا يصح القول بوجه من الوجوه بنسخ هذه الآية أبدا، وعفا الله عن هؤلاء الذين لا هم لهم إلا أن يقولوا هذا ناسخ وهذا منسوخ ولولا الراسخون في العم الواضعون أصول علم الناسخ والمنسوخ والوافقون لأمثالهم على ما يتقولون به من النسخ بالمرصاد لتوسعوا بأكثر من هذا. وأخرج بن جرير عن أبي الديلم قال لما جيء بعلي بن الحسين رضي الله عنهما أسيرا، أقيم على درج دمشق، فقام رجل من أهل الشام فقال الحمد لله الذي قتلكم واستأصلكم، فقال له علي: أقرأت القرآن؟ قال نعم، قال أقرأت آل حم؟ قال نعم، قال أما قرأت (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) ؟ قال فإنكم لأنتم هم؟ قال نعم، قال فأطرق أي ندما على ما قال وأسفا. فانظروا أيها الناس كيف قاتل من قاتل من أهل الشام أناسا لا يعرفونهم ولا يقدرون مكانتهم. راجع الآية ١٣٧ من الأعراف في ج ١، وقال علي كرم الله وجهه قال الله فينا في آل حم آية لا يحفظ مودتنا إلا مؤمن. يعني هذه الآية.
وقال الكميت:
وجدنا لكم في آل حم آية... تأولها منا تقي ومعرب
وقال عمر الهيتي:
بأية آية يأتي يزيد... غداة صحائف الأعمال تتلى
وقام رسول رب العرش يتلو- وقد صمت جميع الخلائق- قل لا وقال الآخر:
38
أترجو أمة قتلت حسينا شفاعة جدّه يوم الحساب
وأخرج ابن حبان عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده لا يبغضنا أهل البيت رجل إلا أدخله الله تعالى النار، وأخرج احمد والترمذي وصححه النسائي عن المطلب بن ربيعة قال دخل العباس على رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال إنا لنخرج فترى قريشا تتحدث، فإذا رأونا سكتوا، فغضب صلّى الله عليه وسلم ودر عرق بين جبينه، ثم قال والله لا يدخل قلب امرئ ايمان حتى يحبكم لله تعالى ولقرابتي.
وما أحسن ما قيل:
داريت أهلك في هواك وهم عدا ولأجل عين الف عين تكرم
وقد سئل ابن الجوزي في جامع دمشق هل يوجد لهذا المثل في القرآن ما يشير اليه، قال نعم قال تعالى (وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) الآية ٣٣ من سورة الأنفال في ج ٣ ولهذا أكثر الناس من الثناء عليهم إرضاء لرسول الله صلّى الله عليه وسلم وطاعة لربه، حتى أنهم أفرطوا بذلك، ومنهم من يمدحهم رياء، قال علي رضي الله عنه لرجل أفرط في الثناء عليه وكان يتهمه في مودته: أنا دون ما نقول وفوق ما في نفسك رضي الله عنه ما أعظمه وأحلمه. قالوا كان الشيخ محي الدين العربي يكره الشريف عونا ويندد به، فرأى في النوم السيدة فاطمة رضي الله عنها وهي معرضة عنه، فقال لها لماذا يا سيدتي؟ فقالت لكراهتك عونا، فقال أما تعلمين ما يفعل من المظالم؟ فقالت له أما تعلم أنه منا أهل البيت؟ فانتبه مرعوبا لشدة غيظها عليه، فذهب اليه، فلما رآه عرف الغضب في وجهه لما كان يسمعه من ذمه، فقال على رسلك يا ابن بنت رسول الله والله ما جاء بي إليك وأنت تعلم ما أنا عليه من كراهتك إلّا اني رأيت كذا وكذا، ولهذا جئتك معتذرا، فلما سمع منه الرؤيا تهلل وجهه، وقال اشهد يا محي الدين اني أشهد الله بأني تبت اليه من كل ما كنت أفعل ولا أعود اليه وحسن حاله بعد ذلك. رحم الله الجميع رحمة واسعة فهؤلاء أهل البيت أيها الناس، حبهم ايمان وبغضهم كفر اهـ ملخصا من الفتوحات المكية، وكلما كانت جهة القرابة أقوى كان طلب المودة أشد، وقد تساهل الناس في هذا الزمن في حبهم حتى انهم لم يلتفتوا إليهم، وأفرط آخرون فجعلوا
39
حبهم رفضا وسلكوا محببهم في سلك الروافض وهم فرقة من إخواننا الشيعة لا الشيعة أنفسهم الذين يفضلون عليا فضله الله على غيره من الأصحاب رضوان الله عليهم أجمعين لقرابته من رسول الله ومصاهرته له ولقوله إن عليا مني بمنزلة هرون من موسى إلا أنه لا نبيّ بعدي. ولأن نسبه بسببه، ولميزات أخرى كثيرة سنأتي عليها في غير هذا الموضع إن شاء الله. وآخرون قالوا بحبه وادعوا فيه ما هو براء منه، وهو من التفريط بمكان، أما أنا فأقول ما قاله الشافعي رحمه الله:
ان كان رفضا حب آل محمد فليشهد الثقلان أني رافضي
ولكنه ليس برفض من واجبات الدين، ولكن بلا تفريط ولا افراط، وقد سئل الإمام الجوزي عن المثل السائر (مدّ رجلك على طول فراشك) هل يوجد في القرآن ما يشير اليه؟ قال نعم قال تعالى (وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا) الآية ٤٥ من سورة الفرقان في ج ١ أي لا إفراط ولا تفريط، رحمه الله ما أكثر دقة نظره في القرآن وقدمنا ما يتعلق بهذا في الآية ٣٨ من سورة الانعام فراجعها. وعلى هذا فيجب على كل مؤمن احترامهم وتعظيمهم والقيام بحقوقهم وقضاء مصالحهم وعدم النظر إلى بعض هفواتهم، فإن غصن الشجرة منها وإن مال، والعبرة بالخاتمة نسأل الله حسنها، قال تعالى «وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً» مضاعفا «إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ» ٢٣ للمحبين الطائعين «أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً» بما جاء به من الكتاب وقد كذبوا «فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ» فينسيك القرآن أو يجعلك من المختوم على قلوبهم لو كذبت علينا يا محمد، لأنه لا يجترئ على افتراء الكذب علينا إلا من كان كذابا مثل بعض قومك، وهذا تعريض حسن بأنهم هم المفترون المطبوع على قلوبهم، لأن الكلام جاء بمثابة التعليل لقولهم، وقد أتى بأن بدل إذا مع أن عدم مشيئته تعالى مقطوع به إرخاء للعنان ليفهموا بأنه لو كان محمد نفسه فعل ذلك لختم على قلبه، وهو معصوم بعصمة الله محال عليه أن يقع منه شيء يغضبه، فكيف بغيره «وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ» وهذا تأكيد بأن ما يقوله
40
محمد صلّى الله عليه وسلم ليس بمفترى، وكيف يكون مفترى ومن عادته تعالى أن يمحق الباطل «وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ» المنزلة على رسوله بطريق الوحي «إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ» ٢٤ ودخائلها وخفيات الأمور وبواطنها فلا يخفى عليه شيء مما يحوك في صدورهم وما هو قار في قلب محمد. وهذه الآية تدل دلالة تامة على تنزيهه من الافتراء وطهارة ما هو ثابت في خلده عن أن يصره بشيء من ذلك. وقال بعض المفسرين في هذه الآية إن يشأ يربط على قلبك بالصبر حتى لا يشق عليك أذاهم، وهو حسن ولكن ما جرينا عليه أحسن وأوفى بالمرام وأنسب بالمقام وأليق لسياق الكلام، وقد مشى عليه جهابذة من العلماء، قال ابن عباس رضي الله عنهما لما نزلت (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً) الآية، قالوا يريد أن بحثنا على أقاربه من بعده فأخبره جبريل عليه السلام بأنهم لتهموه فأنزل الله تعالى هذه الآية «وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ» بالتجاوز مما تابوا عنه «وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ» صغارها وكبارها «وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ» ٢٥ سرا وعلما من خير وشر. انتهت الآيات المدنيات وهي لها مناسبة بما قبلها وبعدها كما لا يخفى بخلاف غيرها وإن كانت معترضة، فالقاعدة من كونها تأتي معترضة، وإنك إذا حذفتها وقرأت ما بعدها متصلا بما قبلها صح المعنى، أغلبية، تدبر. قال تعالى «وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» دعوة ربهم ويجيب الله دعاء المؤمنين إذا دعوه وفعل استجاب وأجاب بمعنى واحد، وكل منهما يتعدى باللام للداعي وبنفسه الدماء وعليه قوله:
وداع دعا يا من يجيب إلى الندا فلم يستجبه عند ذاك مجيب
«وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ» فوق ما يستحقون بحسب أعمالهم «وَالْكافِرُونَ» بالله تعالى الذين لا يدعون ولا يعترفون بألوهيته «لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ» ٢٦ جزاء ألفتهم عن دعاء الله وكفرهم به. تدل هذه الآية المكية بأن الله تعالى لا يجيب دعاء الكافرين، وهو كذلك، قال تعالى (وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) الآية ١٦ من سورة الرعد ج ٣، ومن قال إنه تعالى يستجيب لهم فإنه على طريق الاستدراج، والمؤمنون على طريق التشريف، وهذه الآية المدنية الرابعة، وقد
41
نزلت في أصحاب الصفّة حينما سألوا رسول الله أن يغنيهم الله من فضله ويبسط عليهم الرزق ويدر عليهم الأموال.
مطلب بسط الرزق وضيقه والتوبة وشروطها والحديث الجامع ونسبة الخير والشر:
قال جل قوله «وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ» بعضهم على بعض، وعتوا عتوا كبيرا، إذا أعطوا زيادة على حاجتهم النسبية لأن الإنسان شرير بالطبع، فإذا وجد الغنى والقدرة والصحة رجع لمقتضى طبيعته، ولو أن الله تعالى يرزق عباده من غير كسب لتفرغوا إلى الفساد، ولكن شغلهم به حكمة منه قال الشاعر:
إن الشباب والفراغ والجده مفسدة للمرء أي مفسدة
وقال الآخر:
عليك بالقصد لا تضب مكاثرة فالقصد أفضل شيء أنت طالبه
فالمرء يفرح بالدنيا وبهجتها ولا يفكر ما كانت عواقبه
حتى إذا ذهبت عنه رفارقها تبين الغين فاشتدت مصائبه
وعلى القانع أن يثق بالله فإنه لا يضيعه ويعطيه ما يكفيه وليقل كما قال:
أتتركني وقد أيقنت حقا بأنك لا تضيع من خلقت
وأنّك قاسم للرزق حتما تؤدّي ما رزقت كما قسمت
وإني واثق بك يا إلهي ولكن القلوب كما علمت
«وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ» لمن يشاء بقدر حاجته «إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ» ٢٧ بما يناسبهم يغني هذا والغناء خير له ويفقر هذا والفقر خير له بمقتضى حكمته، فلو أغناهم جميعا أو أفقرهم جميعا لتعطلت مصالح الكون، ولا يخفى ان البغي مع الفقر أقل منه مع البسط، وكلاهما سبب ظاهري للإقدام على البغي، والإحجام عنه، فلو عم البسط القلب البغي حتى ينقلب الأمر إلى عكس ما عليه الآن. ولهذا يشير قوله صلّى الله عليه وسلم إذا أحب الله عبدا حماه الدنيا كما يضل أحدكم يحمي مقيمه الماء. وإلى ذلك يوعز سبب النزول المشار اليه أعلاه، وينظر إليه قول خبّاب بن الأرت: نظرنا إلى أموال بني قريظة،
42
والنضير وبني قينقاع فتمتيناها، فنزلت هذه الآية. ولا يضرّ تعدد أسباب النزول، فقد تكون آية واحدة لأسباب كثيرة. هذا، واعلم أن التوبة واجبة في كل ذنب، وشروطها أن يقلع عن المعصية، وأن يندم على فعلها، وأن يعزم على أن لا يعود أبدا «فإن فقد أحدها لا تصح، وهذا فيما يتعلق بالذنوب التي بين العبد وربه، أما إذا كانت بين الناس يزبد عليها شرط رابع وهو الاستحلال من صاحبها وإبراء ذلك من كل حق، مثلا إذا كان غصب مالا من أحد فيجب ردّه اليه أو مسامحته من قبله، وإن قولا أو فعلا فبالمسامحة والعفو من قبله، وإن لم يعين له ما قال وما فعل إذ قد يكون مما لا يقال خشية الفتنة فيكون الإفشاء أشد ضررا من الذنب. وليعلم أن مصائب الدنيا لا تختص بواحد دون آخر فيشترك فيها الصديق والزنديق، إلا ان المؤمن أكثر مصابا من غيره، ولهذا قال صلّى الله عليه وسلم: خص البلاء بالأنبياء ثم الأمثل فالأمثل. أو ان أكثره في هؤلاء لأنه لا يتعداهم تدبر. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: والله اني لأستغفر الله وأتوب اليه في اليوم أكثر من مائة مرة، وفي رواية للغزالي انه صلّى الله عليه وسلم قال إنه ليغان على قلبي حتى أستغفر الله في اليوم والليلة سبعين مرة، وذلك لترقيه سبعين مقاما عما كان فيه حيث يرى دائما بعدا بين حالته الحاضرة والماضية بسبعين درجة، ولهذا قيل حسنات الأبرار سيّئات المقربين، لأن الأبرار إذا وصلوا إلى درجة المقربين رأوا أنفسهم مقصرين، وان عملهم الأول يحتاج إلى توبة واستغفار. وروى مسلم عن الأعز بن يسار قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: يا أيها الناس توبوا إلى الله جميعا، فاني أتوب إليه في اليوم مائة مرة. ورويا عن عبد الله بن مسعود قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول لله أفرح بتوبة عبده من المؤمن من رجل نزل في أرض دويّة مهلكة (أي فلاة لا ماء فيها ولا نبات والمفازة في الجبل والأرض الوعرة وتسميها العامة الدوّة) معه راحلته عليها طعامه وشرابه فوضع رأسه فنام، فاستيقظ وقد ذهبت راحلته فطلبها حتى إذا اشتد الحر والعطش أو ما شاء الله قال أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه فأنام حتى أموت، فوضع رأسه على ساعده فاستيقظ فإذا راحلته عنده عليها طعامه وشرابه، فالله أشد فرحا بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته وزاده. وفي رواية لهما من لفظ
43
مسلم: فأخذ بخطامها ثم قال من شدة فرحه اللهم أنت عبدي وأنا ربك من شدة الفرح، أي بدلا من أنت ربي وأنا عبدك. وروى مسلم عن أبي موسى الأشعري ان رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها. وروى انس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلم عن جبريل عن الله عز وجل من أهان لي وليا بارزني بالمحاربة، واني لأغضب لأوليائي كما يغضب الليث الحرود، وما تقرّب إليّ عبدي المؤمن بمثل ما افترضته عليه، وما يزال عبدي المؤمن يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت له سمعا وبصرا ويدا ومؤيدا إن دعاني أجبته وإن سألني أعطيته، وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض روح عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته
ولا بد له منه، وإن في عبادي المؤمنين لمن يسألني الباب من العبادة، فأكفه عنه ان لا يدخله عجب فيفسده ذلك، وان من من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا الغنى، ولو أفقرته لأفسده ذلك، وان من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانهم إلا الفقر، فلو أغنيته لأفسده ذلك، وان من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا الصحة ولو أسقمته لأفسده ذلك، وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا السقم ولو صححته لأفسده ذلك، إني أدير أمر عبادى بعلمي بقلوبهم، إني عليم خبير، أخرجه البغوي بإسناده وهذا الحديث الجامع لأحوال العباد من أحاديث الصفات، وقدمنا ما يتعلق بأمثاله في الآية ١٥٨ من الأنعام المارة، وفيها ما يرشدك إلى المواقع التي فيها ما يتعلق بذلك، فراجعها.
وجاء عن صفوان بن عسال المرادي قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم إن الله جعل بالمغرب بابا عرضه مسيرة سبعين عاما للتوبة لا يغلق ما لم تطلع الشمس من قبله، وذلك قوله تعالى (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها) الآية ١٥٨ المنوه بها أعلاه، أخرجه الترمذي حديث حسن صحيح انتهت الآية المدنية، وهي كالتي قبلها. قال تعالى:
«وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا» أي اشتد يأسهم من نزوله، الله حبسه عنهم ولا يعلمون وقت إطلاقه «وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ» بقيض الغيث عليهم
44
«وَهُوَ الْوَلِيُّ» الذي يتولى أمور عباده بإحسانه ولطفه بسائق رأفته «الْحَمِيدُ» ٢٧ على انعامه المحمود على إنزال بركات السماء وبسط منافعها، المتعطف على خلقه بما ينفعهم وكشف ما يضرهم، وقد ذكرهم الله تعالى في هذه النعمة لأن الفرح بعد الشدة بحصول النعمة اتمّ وأدعى للشكر. قال تعالى «وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ» أوجد وفرق «فِيهِما مِنْ دابَّةٍ» هي لغة ما دبّ على وجه الأرض، وعرفا ذوات الأربع من الحيوان فقط «وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ» بعد تفرقهم وتشتتهم «إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ» ٢٩ وجاز إطلاق لفظ الدابة على من في السماء لأن الدبيب لغة المشي الخفيف ويحتمل أن يكون للملائكة مشي مع الطيران أو أن الله تعالى خلق فيها أنواعا من الملائكة أو أصنافا من الحيوانات يدبون دبّا كالإنسان، أو أن الملائكة أنفسهم قد يتمثون بالبشر فيمشون مشيا، لأن لهم التشكل بصور غير صورهم، كجبريل حينما تمثل للنبي مرة بصورة أعرابي في حديث الإيمان والإسلام والإحسان، ومرة بصورة دحية الكلبي، قال تعالى «وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ» من الذنوب، لأن جل البلاء من الأوجاع والقحط والغرق والحرق وغيرها من المصائب يوجدها الله تعالى عقوبة لمقتر في الأعمال المكروهة، وقد يوجدها عفوا للثواب كما ذكر آنفا، وبما أن البشر هو المسبب لعملها نسبها الله إليه، وإلا في الحقيقة كل من عند الله، قال إبراهيم عليه السلام بعد أن نسب الهداية والطعام والشراب لله تعالى «وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) الآية ٨٠ من سورة الشعراء ج ١، نسب الشفاء لله كما نسب الإحياء والإماتة إليه، لأنها متحققة منه لا علاقة للعبد وغيره فيها البتة، ونسب المرض لنفسه لأن أكثر أسبابه من الأكل والشرب والحر والقر وإن كانت بإيجاد الله تعالى، إلا أنه هو المسبب لها باختياره ورغبته، وهذا من قبيل التأدب مع الله تعالى، إذ ينبغي للعاقل أن ينسب الخير إلى الله والشر لنفسه، لأن اقترافه له برضاه وشهوته، وإن عقابه عليها من هذه الحيثية «وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ» ٣٠ من الذنوب فلا يعاقب عليها وعن كثير من خلقه فلا يجازيهم على سيئتهم.
روى البغوي بإسناد الثعلبي عن أبي ثميلة قال: قال علي رضي الله عنه ألا أخبركم
45
بأفضل آية في كتاب الله حدثنا بها رسول الله صلّى الله عليه وسلم (وَما أَصابَكُمْ) الآية هذه وسأفسرها لكم يا علي، ما أصابكم من مصيبة أو مرض وعقوبة أو بلاء في الدنيا فيما كسبت أيديكم، والله أكرم من أن يثني عليكم عقوبته في الآخرة، وما عفا الله عنه في الدنيا فالله أحلم من أن يعود بعد عفوه. وفي هذا الحديث بشارة عظيمة للمؤمنين المصابين، اللهم إنا نسألك العفو والعافية وأن ترزقنا الصبر إذا ابتلينا، وتعظم لنا الأجر عليه. وروى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لا يصيب المؤمن شوكة فما فوقها إلا رفعه الله بها درجة وحط عنه خطيئة. وقال ابن عباس: لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده ما من خدش عود ولا عثرة قدم ولا اختلاج عرق إلا بذنب وما يعفو لله عنه أكثر. قال ابن عطاء من لم يعلم أن ما وصل إليه من الفتن والمصائب باكتسابه وأن ما عفا عنه مولاه أكثر، كان قليل النظر في إحسان ربه إليه.
مطلب أرجى آية في القرآن والقول بالتناسخ والتقمص وفي معجزات القرآن وبيان الفواحش والكبائر:
وقال علي كرم الله وجهه: هذه أرجى آية في القرآن لأن الكريم إذا عاقب مرة لا يعاقب ثانيا وإذا عفا لا يعود. راجع الآية ٨٤ من سورة الإسراء والآية ٥ من سورة الضحى في ج ١ والآية ١٦٠ من سورة الأنعام والآية ٥٣ من سورة الزمر المارتين. هذا، وقد تعلق في هذه الآية من يقول بالتناسخ بحجة أنه لو لم يكن للأطفال حالة كانوا عليها قبل هذه الحالة لما تألموا، مع أن السياق والسياق من هذه الآية يدلان على أنها مخصوصة بالمكلفين أصحاب الذنوب فإن من لا ذنب له كالأنبياء قد تصيبهم مصائب، لما جاء في الخبر: أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، كما مر آنفا، ويكون ذلك لرفع درجاتهم أو لحكم أخرى خفيت علينا، فالأطفال والمجانين غير داخلين في الخطاب لأنهم غير مكلفين، وبفرض دخولهم أخرجهم التخصيص بأصحاب الذنوب فيما يصيبهم من المصائب، فهي لحكم خفية، قيل مصائب الطفل رفع درجته ودرجة أبويه أو من يشفق عليه بحسن الصبر، لا لأن لهم حالة سابقة كما زعموا، ثم إن المصائب قد تكون عقوبة على الذنب
46
وجزاء عليه بحيث لا يعاقب عليه يوم القيامة بدليل الأحاديث المذكورة آنفا، فلا وجه إذا لما تعلق به القائل بالتناسخ ولا دلالة في الآية. والقائلون بالتناسخ هم فرقة من الفلاسفة يعتقدون أن الروح إذا ماتت ولم تستكمل فضائلها تنسخ أي تنقل إلى نطفة أخرى لاستكمال الفضائل المزعومة، ويقرب من هذه عقيدة الدروز الذين يقولون بالتقمص أي إذا مات الميت تتقمص روحه أي تنقل إلى إنسان أو حيوان ولد ساعة موته، وهذه عقائد عقلية ساذجة لا أصل لها ولعلها سرت عليهم من الخوارج الخارجين عن شرائع الإسلام (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ)، والدين عند الله هو الإسلام دين أبينا إبراهيم عليه الصلاة والسلام
«وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ» الله ولا فائتينه عن أن يصيبكم بذنوبكم بل هو قادر عليكم لا تستطيعون الهرب من قضائه والتفلّت من قبضته «وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ» إذا أراد معاجلتتكم بالعقوبة «مِنْ وَلِيٍّ» يدافع عنكم «وَلا نَصِيرٍ» ٣١ ينصركم ويحميكم منه «وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ» السفن الجاريات على الماء «فِي الْبَحْرِ» والأنهار التي هي في عظمها «كَالْأَعْلامِ» ٣٢ الجبال العالية وأصل العلم بفتح العين الأثر الذي يعلم به الشيء كعلم الطريق والجيش، ولذلك سمي الجبل علما سواء كان عليه نار كما قالت الخنساء:
وإن صخرا لنأتم الهداة به كأنه علم في رأسه نار
أو لم يكن قيل إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم لما سمع قولها هذا قال قاتلها الله ما رضيت بتشبيهه بالجبل حتى جعلت على رأسه نارا. وهذه الآية من الإخبار بالغيب أيضا، لأنه عند نزولها لم تكن هذه المراكب الضخمة، والبواخر العظيمة التي هي حقيقة في كبرها كالجبال، فسبحان من أودع كتابه ما كان وما يكون إلى يوم القيامة وما بعده، لأن فيه ما يكون من حالتي أهل الجنة والنار بعد يوم القيامة أيضا، قال تعالى «إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ» تلك السفن «رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ» أي البحر أو النهر، لأن السفن إذ ذاك والآن أيضا تجريها الرياح بالشراع «فإذا سكنت وقفت بخلاف سفينة سيدنا نوح الجسيمة التي كان سيرها ووقوفها بكلمة اسم الله راجع الآية ٤٦ من سورة هود المارة، وهذا معجزة له
47
عليه السلام، أما المراكب العظيمة ذوات المحركات وإن كانت تسير بقوة البخار فإن الرياح تؤثر فيها تأثيرا قد يلحىء ربانها إلى الوقوف إذا رأى مريا خوفا من الغرق لأنه لا يقدر أن يسيرها بانتظام لما تلعب فيها الرياح يمينا وشمالا حتى تكون كالكرة بيد الشاب، فيمشيها بتؤده لأنها مهما عظمت فهي عند اشتداد الريح وهيجان البحر كتبنة صغيرة، وقد رأيناها عيانا هكذا بسفرنا إلى الحجاز، وممن عظيم ما رأينا لم تسمح أنفسنا بالعودة بحرا ونسأل الله تعالى أن يوفقنا لزيارة بيته الحرام وضريح نبيه عليه الصلاة والسلام «إِنَّ فِي ذلِكَ» المذكور من آيات الله «لَآياتٍ» عظيمات دالات على قدرة القادر وعبرة مؤثرة «لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ» ٣٣ لنعم الله من كاملي الإيمان، لأن الإيمان نصفه صبر ونصفه شكر، وهذه صفه المؤمن يصبر في الشدة وبشكر في الرخاء فيظفر بمطلوبه كما قيل:
وقلّ من جد في أمر يطالبه واستصحب الصبر إلا فاز بالظفر
قال تعالى «أَوْ يُوبِقْهُنَّ» يغرقهن ويهلكهن «بِما كَسَبُوا» ركابها من الذنوب الموجبة لذلك، لأن السفن لا جرم لها، ولهذا عاد الضمير على راكبيها وعود الضمير على ما ليس بمذكور جائز إذا تقدم ما يدل عليه أو كان معلوما كما هنا، راجع الآية ٤ من سورة القدر في ج ١، «وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ» ٣٤ بأن ينجيهم بفضله ورحمته ومنّه وعطفه ولطفه «وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ» ٣٥ محيد يحيدون عنه ويلجأون إليه إذا وقفوا في مثل هذه الشدائد وعرفوا بطل جدالهم. واعلم أن (وَيَعْلَمَ) في صدر هذه الآية جار على الاستئناف على قراءة نافع وابن عامر، وقرأ الباقون بالنصب عطفا على تعليل محذوف، أي لينتقم منهم وليعلم الذين يجادلون إلخ، «فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ» أيها الناس من الحطام «فَمَتاعُ الْحَياةِ» في هذه «الدُّنْيا» تتمتعون فيها به لانقضاء آجالكم، ثم تتركونه، وهذا مما يستوي فيه المؤمن والكافر «وَما عِنْدَ اللَّهِ» من الثواب الذي خبأه لكم بمقابل أعمالكم الصالحة «خَيْرٌ» من زخارف الدنيا وجاهها «وَأَبْقى» منها وأدوم وأحسن «لِلَّذِينَ آمَنُوا» بنعيم الآخرة «وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» ٣٦ في أمورهم كلها،
48
وما قيل إن هذه الآيات نزلت في أبي بكر رضي الله عنه حين تصدق بكل ماله لا يتجه، لأن هذه الآية مكية وهو رضي الله عنه تصدق بالمدينة لا بمكة، لهذا فإنها عامة في كل من اتصف بما جاء فيها، ويدخل فيها الصديق دخولا أوليا، لأنها غير مقيدة بزمان فتشمل كل من هذا شأنه إلى يوم القيامة. ثم قسم الله تعالى عباده من جهة التحمل إلى ستة أقسام فقال أولا «وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ» كالشرك بالله ونسبة الولد والزوجة إليه تعالى عن ذلك «وَ» يجتنبون «الْفَواحِشَ» كل ذنب عظيم قبحه يسمى فاحشا كالزنى واللواطة والقذف والسرقة من محل محرم والقتل عمدا، راجع تفصيلها في الآية ٣٢ من سورة الأعراف في ج ١ «وَإِذا ما غَضِبُوا» على من أساء إليهم «هُمْ يَغْفِرُونَ» ٣٧ إساءته لا يعاقبونه عليها ويكظمون غيظهم حلما وعفوا، فهؤلاء داخلون في قوله تعالى:
(وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ) الآية ١٣٤ من آل عمران في ج ٣، ثانيا «وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ» لما دعاهم إلى الإيمان به «وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ» إذا أرادوا عمل شيء يهمّ المجتمع تذاكروا فيه فيما بينهم لا يستبدون برأيهم، فقد ورد: ما تشاور قوم إلا هدوا لما فيه رشدهم، «وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ» ٣٨ في سبيل الخير ووجوه البر. واعلم أن المشورة هي استخراج الرأي بمراجعة الناس بعضهم إلى بعض، فتحصل من تصادم الآراء واحتكاك الأقوال النتيجة المرضية التي يجمع عليها للتشاورون أو أكثرهم، كما تحصل النار من قدح الحجر بعضه ببعض أو بالزناد. وتشير الآية إلى مدح المشاورة والمتشاورين، وقد جاء في الخبر: ما خاب من استشار ولا ندم من استخار. أخرج البيهقي في شعب الإيمان عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: من أراد أمرا فشاور فيه وقضى هدي لأرشد الأمور. وأخرج عبد بن حميد والبخاري في الأدب وابن المنذر عن الحسن قال: ما تشاور قوم قط إلا هدوا وأرشد أمرهم، ثم تلا هذه الآية. وقد كانت الشورى بين النبي صلّى الله عليه وسلم وأصحابه فيما يتعلق بمصالح الحروب، وكذا بين الأصحاب رضي الله عنهم بعده، وكانت بينهم في الأحكام كقتال أهل الردة وميراث الجد وعدد حد الخمر وغير ذلك مما لم يرد فيه نص شرعي، لأن
49
الشورى تكون إذا لم يكن نص، ولهذا أتت القاعدة الشرعية (لا اجتهاد في مورد النص) هذا في الأحكام والحدود، أما في الأمور الإدارية والسياسية والتي مصدرها العرف والعادة فيؤخذ بما يقر عليه رأي الجماعة، لأن الأمة لا تجمع على ضلالة. وفيما يتعلق بالحروب لا بأس من اتخاذ ما لم يتخذه العدو، لأن الحرب خدعة، ولذا جاز فيه الكذب على العدو. أخرج الخطيب عن علي كرم الله وجهه قال: قلت يا رسول الله الأمر ينزل بنا بعدك لم ينزل فيه قرآن ولم يسمع منك فيه شيء؟ قال اجمعوا له العابد من أمتي واجعلوه بينكم شورى، ولا تقصوا برأي واحد.
فعلى هذا ينبغي أن يكون المستشار عاقلا عابدا وأن يؤخذ بقول الأكثر كما يستفاد من قوله ولا تقضوا برأي واحد. وأخرج الخطيب أيضا عن أبي هريرة مرفوعا:
استرشدوا العاقل ترشدوا ولا تعصوه فتندموا. والشورى على هذا الوجه من جملة أسباب صلاح الأرض، ففي الحديث: إذا كان أمراؤكم خياركم وأغنياؤكم أسخياءكم وأمركم شورى بينكم فظهر الأرض خير لكم من بطنها، وإذا كان أمراؤكم أشراركم وأغنياؤكم بخلاءكم وأمركم إلى نسائكم فبطن الأرض خير لكم من ظهرها. وقيل:
إذا استشارك عدوك فاخلص له النصيحة لأنه بها خرج من عداوتك ودخل في مودتك.
وهذه الآية عامة محكمة نافذة إلى الأبد، حكي عن ابن الفرس أن هذه الآية نزلت بالمدينة وقد انفرد وحده بهذا إذ لم يقل به غيره، وان الغرس ما احتج به على ذلك من أن وقوع المشورة في القتال وغيره لم يكن إلا في المدينة لا يؤيد كون هذه الآية مدنية، لأن كثيرا من الآيات المكيات تنطبق على حوادث وقعت في المدينة، وكثيرا من الآيات المدنيات تنطبق على وقائع حدثت في مكة، فلا يعني أن هذا مكي وذلك مدني، لأن إثبات ذلك متوقف على السماع الصحيح والقول غير المطعون فيه من الرجال الثقات، وقدمنا في الآية ٣٢ من سورة النمل في ج ١ ما يتعلق في هذا البحث وله صلة في الآية ١٥٩ من آل عمران الآتية في ج ٣ فراجعهما، وثالثا «وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ» بأن تعدي عليهم ظلما وعدوانا «هُمْ يَنْتَصِرُونَ» ٣٩ لأنفسهم ممن بغى عليهم من غير تعد عليه مراقبا قوله تعالى (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) الآية ١٩٥ من سورة
50
البقرة ج ٣، وذلك أن المؤمن خلق عزيزا يأبى الذل وسكوته في مثل هذه الحالة هوان فيه ومهانة عليه، وقال تعالى (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) الآية ٩ من سورة المنافقين ج ٣، وعلى هذا يؤول قول الإمام الشافعي: زن من وزنك، بما اتزنك. وما وزنك به فزنه. من جاء إليك، فرح إليه. ومن جفاك، فصدّ عنه. ومع هذا إذا عفا وهو قادر على الانتصار لنفسه فهو أحسن وقد أخذ بالعزيمة وهي أحسن من الرخصة إذا لم يكن فيها إغراء للسفيه إذ يكون حط من الكرامة وقد يأباها خلق المؤمن، قال:
ولا يقيم على ضيم يراد به إلا الأذلان عير الحي والوتد
هذا على الخسف مربوط برمّته وذا يشجّ فلا يرثي له أحد
وقال الآخر:
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا
وقال الآخر:
فوضع الندى في موضع السيف بالعدى مضر كوضع السيف في موضع الندى
أما إذا كان يملك نفسه كالقائل:
إذا فاه السفيه يسب عرضي كرهت أن أكون له مجيبا
يزيد سفاهة وأزيد حلما كعود زاده الإحراق طيبا
وقول الآخر:
فأعرض عن شتم الكريم ادخاره وأعرض عن شتم اللئيم تكرما
فلا بأس، فقد أخذ بالعفو والصفح المحمودين، وكان من ذوي النفوس الطاهرة النقية يأبى أن يطرأ عليها معنى الذل وخاصة إذا كان يقصد تحمل الأذى قربة إلى الله تعالى فلا يحب الانتصاف لنفسه، فهو من الكاملين ولا يظن به ما يظن بغيره من الهوان والضعف. وإذا كان الإعراض عن المقابلة تمدها كقوله في السكوت عن إجابة اللئيم في سبابه:
51
فلا بأس أيضا لأنه مهما كان يعد من مكارم الأخلاق ومحاسن الآداب. ورابعا المقابلة المعنية بقوله تعالى «وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ» عملها المساء إليه بالسيء هي أيضا «سَيِّئَةٌ مِثْلُها» لأنه إذا جازى الرجل من أساء إليه بمثل إساءته له فقد أساء أيضا، إلا أنه لا يجازى على ذلك، لأنها بالمقابلة بلا زيادة، لهذا سمى جزاء السيئة سيئة أيضا، لمشابهتها لها صورة وإلا فليست بسيئة حقيقة، وبما أن الله تعالى لا يرغب الانتصار للنفس ويحب العفو فقد سمى الانتصار سيئة، ولهذا أعقبها بقوله «فَمَنْ عَفا» عمن أساء إليه «وَأَصْلَحَ» بغض النظر عن العقوبة ولم يجابه خصمه بمثل سيئته «فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ» ومن كان أجره على الله سعد وفاز، لأن الله تعالى يكافىء عن القليل كثيرا، ومن انتقم حرم من هذا الأجر العظيم، لأن الانتقام قد يقع فيه تعدي لأنه من الصعب أن يقابل التعدّي بمثله تماما، ولهذا حذر الله تعالى عن التعدي المستلزم للظلم، فختم هذه الآية بقوله عز قوله «إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ» ٤٠ الذين يتجاوزون حد الانتصار والبادئين غيرهم بالظلم لا بالمقابلة، وعلى كل البادي أظلم.
خامسا قال تعالى «وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ» لنفسه بأن قابل الاعتداء بمثله لأن نفسه لم تسمح بالعفو وليس من أولي التحمل ولا التمدح «فَأُولئِكَ» الآخذين تارهم ذيّا عن كرامتهم وحفظا لعزّهم «ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ» ٤١ يؤاخذون به لأنهم أخذوا بالعزيمة وفعلوا ما خول لهم فلا عقاب عليهم ولا عتاب ولا عيب عليهم «إِنَّمَا السَّبِيلُ» الطريق الموجب للعقوبة يكون «عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ» مبدئيا بلا سبب «وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ» يفسدون فيها ويتكبرون على أهلها ويعملون المعاصي ويطفون على الناس «بِغَيْرِ الْحَقِّ» تجبرا وأنفة وأنانية بقصد التعاظم عليهم «أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» ٤٢ في الآخرة غير الذي يبتليهم الله به في الدنيا مما لم يعف عنه، إذ قد يسلط عليهم من هو أظلم منهم فينتقم لذلك المظلوم. وقد جاء في الخبر: الظالم سيفى انتقم به وأنتقم منه. قال تعالى في وصف الصنف السادس وهو أحسنهم «وَلَمَنْ صَبَرَ» على ما نابه من الغير «وَغَفَرَ» له تعديه عليه فضلا عن أنه لم يقابله به ولم يؤنبه عليه ولم يعاتبه به أيضا مع قدرته على الانتقام «إِنَّ ذلِكَ» الصبر على الأذى
52
مع المغفرة عمل مبرور. ولهذا أشار إليه بالصبر إعلاما بحسنه وتعاظمه على النفس إذ قل أن تجد من يتخلق بهذه الأخلاق الحميدة غير الأولياء وقليل ما هم، ولهذا أشار تعالى بجليل ثوابه وكبير أجره وجميل عمله عنده بقوله عزّ قوله «لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ٤٣ التي أمر الله تعالى بها خلّص عباده لأن الصبر على المكاره من خصال الأنبياء والغفران مع القدرة من أفعال العظماء وهاتان الخصلتان من شأن أولي العزم.
هذا، وقد ذكر الله تعالى في هذه الآيات ألست من قوله (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ) إلى هنا اثنتي عشرة خصلة متداخلة، ولذا قلنا ستة أقسام، لأن في كل قسم خصلتين، وكلها من كرائم أخلاق المؤمن وأحاسن صفاته، إرشادا لعباده للأخذ بها، وحثا لهم على التحلي بمكارم الآداب. قال:
ولقد أمرّ على اللئيم يسبّني فأكره أن أكون له مجيبا
يزيد سفاهة وأزيد حلما كعود زاده الإحراق طيبا
وإنما الأمم الأخلاق ما صلحت فإن هم فسدت أخلاقهم فسدوا
وقائله حميد بن ثور الهلالي، وإن أمير الشعراء السيد شوقي قال:
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
فانظر بين المتقدم والمتأخر تجد البون شاسعا. هذا، والتمسك بآداب الأنبياء تعليما للأمراء والحكام أن يتقبدوا بهم، فيفعلوا ما أرشدوا إليه من تلك الخصال العالية، فيكونوا أكبر شأنا من غيرهم، وعلى الناس أن تتأسى بهم، لأن العبد إذا عفا عن أخيه فالله تعالى أولى بأن يعفو عنه، إذ لا يخلو أحد من قصور تجاه مولاه، ومن هنا أخذت قاعدة إسقاط الحق العام تبعا للحق الشخصي. وأعلم أن الله تعالى جعل عباده شطرين، شطر أخذ بالعزيمة التي هي من العزم وهو عقد القلب على إمضاء الأمر بالصبر والمغفرة والصفح مما هو موافق لشريعة سيدنا عيسى عليه السلام، راجع الآية ٣٤ من سورة السجدة المارة، وهؤلاء الذين مدحهم الله تعالى فيها وقليل ما هم، وشطر أخذ بالرخصة وهي الانتصاف والمقابلة بالمثل وهذه من خصائص هذه الأمة التي جعلها الله سبحانه أمة وسطا وخير أمة أخرجت للناس وخير الأمور أوساطها، ومما خصت به من السنّة مما بوافق هذا قوله صلّى الله عليه وسلم:
أنصر أخاك ظالما أو مظلوما. ونصر الظالم ردعه عن الظلم، وخيرها في هذه الآية بين الأمرين الرخصة والعزيمة وندبها إلى ما هو الا حسن بقوله (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ
53
ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ)
الآية ٥٥ من سورة الزمر المارة، ومدح هؤلاء بقوله عز قوله (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) الآية ١٩ منها فراجع هاتين الآيتين ففيهما كفاية. قيل دخل رجل دميم على امرأته وقد تزينت له فقال لها:
لقد أصبحت رائعة في الجمال، فقالت له أبشر فإن مصيرنا الجنة، قال وكيف؟
قالت لأنك أعطيت مثلي فشكرت ولأني ابتليت بمثلك فصبرت، والشاكر والصابر في الجنة. وهذا إذا حسنت النية في الصبر والشكر وكان القصد من الانتصاف والمقابلة ما ذكرناه آنفا في تفسير الآيتين المذكورتين فيكونون ممدوحين أيضا كما يشير إليه سياق التنزيل وسياقه، إذ جاء بمعرض المدح وإلا فلا ثواب ولا عقاب، وقد أثبتنا لك أيها القارئ فيما يلي جملة أحاديث في هذا الموضوع لتلين عريكتك وتخفض جناحك وتجنح إلى العفو رغبة بما يعده الله تعالى للعافين أمثالك في يوم أنت أكثر احتياجا إليه، عنك تمتنع من الانتقام الذي فيه حظ النفس الخبيثة الأمارة بالسوء فتحرم من الأجر المقدر على العفو والصفح، فمنها ما أخرجه البيهقي في شعب الإيمان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: قال موسى ابن عمران عليه السلام يا ربّ من أعزّ عبادك عندك؟ قال من إذا قدر غفر.
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا وقف العباد للحساب نادى مناد ليقم من كان أجره على الله فليدخل الجنة، ثم نادى الثانية ليقم من أجره على الله تعالى، قالوا ومن ذا الذي أجره على الله تعالى؟ قال العافون عن الناس، فقام كذا وكذا ألفا فدخلوا الجنة بغير حساب. وأخرج أحمد وأبو داود عن أبي هريرة أن رجلا شتم أبا بكر رضي الله عنه والنبي صلّى الله عليه وسلم جالس فجعل عليه الصلاة والسلام يعجب ويتبسّم فلما أكثر رد عليه بعض قوله، فغضب النبي صلّى الله عليه وسلم وقام، فلحقه أبو بكر فقال يا رسول الله كان يشتمني وأنت جالس، فلما رددت عليه بعض قوله غضبت وقمت؟ قال إنه كان معك ملك يردّ عنك، فلما رددت عليه بعض قوله وقع الشيطان فلم أكن لأقعد مع الشيطان، ثم قال عليه الصلاة والسلام ثلاث من الحق: ما من عبد ظلم بمظلمة فيغضي عنها لله تعالى إلا أعزّ الله عز وجل بها نصره، وما فتح رجل باب عطية
54
يريد بها صلة إلا زاده الله تعالى بها كثرة، وما فتح رجل باب مسألة يريد بها كثرة إلا زاده الله تعالى بها قلة. وفي هذا الحديث تنبيه لأبي بكر رضي الله عنه على ترك الأولى والأخذ بالعزيمة، ولا وجه لقول من قال إن فيه عتبا من حضرة الرسول وهو فعل بعض ما وقع عليه، والله تعالى يقول في مثله (ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ) الآية ٤١ المارة، لأن التنبيه شيء والعتب شيء آخر، وكذلك لا يعد لوما لأنه لم يقترن بقول الرسول له لم فعلت أو لم قابلته. هذا وقد أمر صلّى الله عليه وسلم بعض الأشخاص برد الشتم فقد أخرج النسائي وابن ماجه وابن مردويه عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخلت عليّ زينب رضي الله عنها وعندي رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأقبلت عليّ تسبني، فردعها النبي صلّى الله عليه وسلم فلم تنته، فقال لي سبّيها، وفي رواية دونك فانتصري، فسببتها حتى جفّ ريقها في فمها ووجه رسول الله صلّى الله عليه وسلم يتهلهل سرورا. وهذا من قبيل التعزير لزينب بلسان عائشة، لما أن لها حقا في الرد، وقد رأى صلّى الله عليه وسلم المصلحة في ذلك ففوض إليها إقامة هذا الحق عنه. الحكم الشرعي: هو أن للقاضي أن يعزر من استحق التعزير بشتم غير القذف، وكذا للزوج أن يعزر زوجته على شتمها غير محرم، وقد يغلب في التعزير حق العبد فيجوز فيه الإبراء والعفو واليمين والشهادة على الشهادة وشهادة رجل وامرأتين، وقد يكون حقا محضا لله فلا عفو فيه إلا إذا علم الإمام انزجار الفاعل فله ذلك، وإذا لم تطاوع نفسه على العفو فعليه السكوت حالئذ لئلا يفرط منه ما لا يتلافى فهو سبيل السلامة قال أحمد بن عبيد:
لعمرك ما شهود الناس إلا بلاء والسلامة في الغياب
فغب ما استطعت إلا عن كريم يرى لقياك من خير الطلاب
يهدّي إن دللت على صواب ويهدي إن زللت إلى الصواب
ويهدي بصدر هذا البيت بمعنى يهتدي. وسيأتي لهذا البحث صلة عند قوله تعالى (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) الآية ١٧٨ من سورة البقرة في ج ٣ إن شاء الله «وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ» يتولى أمره ويهديه إلى رشده «مِنْ بَعْدِهِ» كما أن من يهديه فما له من مضل «وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ» يوم القيامة «يَقُولُونَ» يسألون ربهم ثم بين صورة سؤالهم بقوله عزّ قوله
55
«هَلْ إِلى مَرَدٍّ» إلى الدنيا لنعمل صالحا وهل «مِنْ سَبِيلٍ» ٤٤ إلى ذلك لنؤمن بالله ورسله وكتبه فلا يجابون إلى طلبهم «وَتَراهُمْ» يا سيد الرسل «يُعْرَضُونَ عَلَيْها» أي النار المستفادة من لفظ العذاب آنفا «خاشِعِينَ» متقاصرين متضائلين خاشعين «مِنَ الذُّلِّ» الذي رأوه والهوان الذي حلّ بهم «يَنْظُرُونَ» إلى النار القادمين إليها «مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ» أي بمسارقة لشدة الخوف كنظر المقتول إلى الجلاد والتيس إلى الجزار والمحكوم بالإعدام إلى المشنقة. «وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا» عند رؤيتهم أولئك «إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ» الذين اتبعوهم في الدنيا وعملوا بأعمالهم «يَوْمَ الْقِيامَةِ» إذ عرضوهم للعذاب باتباعهم أعمالهم، وكذلك خسروا الذين لم يتبعوهم من أهليهم لأنهم صاروا إلى الجنة وانفردوا عنهم في النار، فصارت خسارتهم مزدوجة فانتبهوا أيها الناس لهذه الخسارة الفظيعة «أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ» ٤٥ لا يتحول عنهم ولا يتحولون عنه «وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ» من عذاب ذلك اليوم «مِنْ دُونِ اللَّهِ» لأن الأمر كله له «وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ» ٤٦ طريق إلى النجاة فلا يصل إلى الحق في الدنيا ولا إلى الجنة في الآخرة، فيا أيها الناس «اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ» وآمنوا به وانقادوا لرسله «مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ» حين لا يستطيع من بالكون كله على دفعه أو تأخيره، واعلموا أنه «ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ» يقيكم من عذابه ولا ملتجى تلجأون إليه منه «يَوْمَئِذٍ» يوم يأتيكم وهذا التنوين عوض عن جملة وقد يكون عن كلمة ويكون عن حرف كما سنبين كلا بمحله وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ» ٤٧ مما اقترفتموه من الذنوب لأنكم إذا جحدتموها أقرت بها جوارحكم «فَإِنْ أَعْرَضُوا» عن إجابتك يا حبيبي ولم يلتفتوا إلى نصحك «فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً» حتى تهتم بشأنهم ويضيق صدرك من عدم إيمانهم «إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ» لما أرسلت به إليهم ما عليك غيره، وليس لك أن تقسرهم على الأخذ بإرشادك، وقد علمنا أنك قمت بما أمرناك به، فاتركهم الآن حتى يحين اليوم الذي قدر فيه إيمان من يؤمن منهم وتعذيب من بصر على
56
كفره «وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً» من غنى وصحة وأمن وأولاد ورياسة «فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ» من فقر ومرض وخوف وذل «بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ» من الخبائث التي جنوها «فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ» ٤٨ لما أسلفناه من النعم قبلها وكان عليه قبل أن يغمط حق النعمة أن يتأمل أن زوالها كان بسبب كفره وأنه إذا تاب وأناب فالله أكرم من أن يرد عليه نعمه لا أن يقابلها بالإعراض والجحود.
مطلب أنواع التوالد وأقسام الوحي ومن كلم الله من رسله ورآه:
قال تعالى «لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» وما فيهما لا لغيره ولا لأحد شركة معه فيهما، فهو وحده يتصرف بهما كيفما شاء وأراد «يَخْلُقُ ما يَشاءُ» لا يحق لأحد الاعتراض عليه، وليس يوجب عليه إجابة طلب أحد من خلقه «يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ» ٤٩ فقط «أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً» كثيرين بدلالة التنوين، قالوا ولد لأنس بن مالك مئة ولد، وكذلك لعبد الرحمن بن عمر الليثي، وخليفة السعدي، وجعفر بن سليمان الهاشمي، وهذا من الغرائب ولكن ليس على الله بغريب ولا عجيب «وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً» لا يولد له البتة من الذكور والإناث «إِنَّهُ عَلِيمٌ» بما يناسب كلا من خلقه فعطاؤه عن حكمة وتخصيصه عن حكمة ومنعه عن حكمة «قَدِيرٌ» ٥٠ على ما يريده من هذا وغيره. وما قيل إن هذه الآية نزلت في الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، لأن منهم لوطا وشعيا لم يرزقا إلا بنات وإبراهيم لم يرزق إلا ذكورا ومحمدا صلّى الله عليه وسلم ذكورا وإناثا وعيسى ويحيى لم يولد لهما، لا يتجه، لأن عيسى ويحيى لم يتزوجا، والآية عامة في جميع خلقه، وليس المراد من يزوجهم أن بولد ذكر وأنثى في بطن واحدة توءما كما قاله بعض المفسرين إذ لا دليل على التخصيص بل مجرد إعطائهم ذكورا وإناثا في بطن أو بطون متفرقين لا مجتمعين، كما هو الظاهر، والله أعلم. وقدم الله تعالى الإناث على الذكور في هذه الآية لا لشرفهن ولكن لسياق التنزيل بأنه يفعل ما يشاء هو لا ما يشاءونه فصار تقديمهن أهم والأهم واجب التقديم، تدبر.
قال تعالى «وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ
57
اللَّهُ»
كما يكلم أحدكم صاحبه وما يكلمه جل شأنه «إِلَّا وَحْياً» إلهاما كما روي عنه صلّى الله عليه وسلم قوله فنفث في روعي، أو مناما كما وقع لإبراهيم عليه السلام في ذبح ولده، وكما ألهمت أم موسى بقذفه في البحر، قال صلّى الله عليه وسلم رؤيا الأنبياء وحي. وما جاء أنه صلّى الله عليه وسلم كلم ربه ليلة الإسراء كما أشرنا إليه أول سورة الإسراء في ج ١ في بحث الإسراء والمعراج فهو مخصوص به دون سائر الأنبياء إذ ما من عموم إلا وخصص منه البعض، ولرؤيته صلّى الله عليه وسلم لربه عز وجل في الدنيا من خصوصياته أيضا وهي حق ثابت لا مرية فيها، ولم يره بالدنيا بعيني رأسه غيره ولم يكلمه أحد مشافهة مع الرؤية غيره أيضا. وقد ثبت لموسى عليه السلام تكليم الله فقط من غير رؤية، وليعلم أن رؤية الله تعالى وتكليمه جل شأنه لا بوصفان بوصف، ولا يكيفان بكيفية، لأن النطق عاجز عن بيان ذلك، وهذا أنكر من أنكر لسوء ظنه ويقينه، وصدّق من صدق بحسن إيمانه وعقيدته، وهذا نوع من أنواع الوحي. والثاني بيّنه بقوله «أَوْ» يسمع الموحى إليه كلامه المقدس الخالي عن الحرف والصوت المنزه عن الشبيه والمثيل «مِنْ وَراءِ حِجابٍ» يحجب السامع في الدنيا عن الرؤية لا أن يحجب الله عن رؤيته، لأنه جل شأنه لا يجوز عليه ما يجوز على الأجسام ولا يحجبه حجاب، وذلك من غير رؤية كما سمع موسى عليه السلام كلامه من الشجرة وكما سمعت الملائكة كلامه في دعوتهم للسجود لآدم عليهم السلام، راجع الآية ٤٥ من سورة الإسراء في ج ١ في بحث الحجاب، هذا. والنوع الثالث هو المذكور في قوله «أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا» من ملائكته الكرام «فَيُوحِيَ» ما يتلقاه منه بِإِذْنِهِ» عز وجل إلى المرسل إليه «ما يَشاءُ» أن بوحيه من الوحي المقدس «إِنَّهُ عَلِيٌّ» عن سمات وصفات خلقه «حَكِيمٌ» ٥١ صائب المرمى فيما بوحيه من الأمور القولية والفعلية. وسبب نزول هذه الآية على ما نقله الآلوسي رحمه الله في تفسيره روح البيان نقلا عن البحر أن قريشا قالت لرسول الله صلّى الله عليه وسلم ألا تكلم ربك وتنظر إليه إن كنت صادقا كما كلمه موسى؟ فقال لهم لم ينظر موسى ربه، فنزلت. وهذا أصح مما نقله الإمام علي بن محمد بن ابراهيم البغدادي في تفسير الخازن المسمى لباب التأويل من أن سبب نزولها هو أن اليهود قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلم ألا تكلم
58
ربك إلخ، لأن السورة مكية والآية ليست بمستثناة منها، واليهود لم يجادلوا حضرة الرسول في مكة ولم يقع معهم أخذ ورد إلا بالمدينة، وهذه الآية محمولة على عدم جواز النظر في الدنيا ولا دليل فيها على عدم جواز الرؤية في الآخرة، وقدمنا ما يتعلق في هذا البحث وتقسيم الوحي وجواز رؤية الله تعالى في الدنيا والآخرة في الآية ٥٢ من سورة المزمل، والآية ٦٠ من سورة والنجم، والآية ٦٠ من الإسراء في ج ١، وتطرقنا لها في غيرها من السور وفي الآية ٥٣ من سورة يونس، والآية ٣٦ من سورة يوسف، والآية ١٠٣ من سورة الأنعام المارات، وأشرنا إلى المواقع التي تطرقنا فيها لهذا البحث فراجعها. قال تعالى «وَكَذلِكَ» كما أوحينا للرسل من قبلك كتبّا وصحفا «أَوْحَيْنا إِلَيْكَ» يا خاتم الرسل «رُوحاً مِنْ أَمْرِنا» قرآنا فيه حياة الأرواح في الدنيا والنجاة الطيبة والنعيم الدائم في الآخرة، وما قيل إن المراد بالروح هنا جبريل عليه السلام قيل غير سديد، لأنه لو كان المقصود هو لقال جل شأنه وهو أعلم بما يقول أرسلنا إليك روحا فقط، لأن جبريل هو من أمر الله أيضا فيكون في الكلام تكرار دون حاجة. هذا، وقد اجتمعت له عليه الصلاة والسلام أنواع الوحي كلها، إذ تشرف في بداية رسالته بالرؤيا الصادقة والنفث في الروع أي القلب، ثم بإرسال الملك جبريل عليه السلام إليه، ثم تكليمه ليلة الإسراء، وزاده الله شرفا على سائر الرسل بالرؤيا الدنيوية.
قال تعالى «ما كُنْتَ تَدْرِي» يا سيد الرسل قبل أن شرفناك بالرسالة «مَا الْكِتابُ» القرآن الذي أكرمناك به «وَلَا الْإِيمانُ» بنا على وجه التفصيل الذي علمته بعد ذلك، وليس المراد بالإيمان هنا معناه الحقيقي الذي هو ضدّ الكفر، لأن الأنبياء مجمع على إيمانهم الإجمالي قبل النبوة كما علمت من ذكرهم، وكان صلّى الله عليه وسلم كغيره من الأنبياء يوحد الله تعالى قبل النبوة ويبغض الأصنام ويتعبّد على دين إبراهيم عليه السلام كما من قبله يتعبّد على دين من قبله من الأنبياء، بل المراد من الإيمان هنا والله أعلم الإيمان بتفاصيل الشرائع للذكورة في الكتاب المنزل عليه، لأنه في بداية أمره لم يعلم أنّ كتابا ينزل إليه، فكيف يعلم تفصيلات ما فيه، وقد يأتي الإيمان بمعنى الصلاة، قال تعالى (وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) الآية ١٤٩ من البقرة
59
Icon