تفسير سورة محمد

بيان المعاني
تفسير سورة سورة محمد من كتاب بيان المعاني المعروف بـبيان المعاني .
لمؤلفه ملا حويش . المتوفي سنة 1398 هـ

تفسير سورة محمد عليه السّلام عدد ٩- ٩٥ و ٤٧ وتسمى سورة القتال
نزلت بالمدينة بعد سورة الحديد عدا الآية ١٣ فإنها نزلت بالطريق أثناء الهجرة وهي ثمان وثلاثون آية، وخمسمائة وثمان وثلاثون كلمة، وألفان وخمسمائة واثنان وعشرون حرفا، ولا يوجد سورة مبدوءة بما بدئت به ولا بما ختمت به، ولا مثلها في عدد الآي.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قال تعالى «الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ» (١) أي ضيعها الله عليهم، فلم ينتفعوا بها في الآخرة، لأن ما يفعلونه من البر وإطعام الطّعام وإقراء الضّيف وصلة الرّحم وإجارة المستجير وإغاثة الملهوف وفك الأسرى وغيرها كان للسمعة والرّياء ونشر الصيت لا لوجه الله تعالى، فلذلك جعل مكافأتهم عنها في الدّنيا من بلوغهم ثناء الناس ومدحهم، وما أعطاهم الله من عافية ومال وولد وجاه وغيرها. وهذه الآية عامة في كلّ كافر مات على كفره، كما أن قوله تعالى: «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ» (٢) عام أيضا في كلّ مؤمن مات على إيمانه. والبال هو القلب والشّأن والأمر والحال «ذلِكَ» إبطال أعمال الكفرة وإصلاح بال المؤمنين «بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ» فصدوا أنفسهم وغيرهم عن الطّريق الموصل للسعادة الأبدية «وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ» فأوصلهم لسعادته الأبدية وأحلهم بدار كرامته «كَذلِكَ» مثل هذا المثل المضروب للفريقين «يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ» (٣) ليعتبروا ويتعظوا ويتدبروا حال الطّرفين في الدّنيا ومصيرهم في الآخرة «فَإِذا لَقِيتُمُ» أيها المؤمنون «الَّذِينَ كَفَرُوا» في صف القتال بعد أن طلبتم منهم الإيمان بالله ولم يفعلوا «فَضَرْبَ الرِّقابِ» (٤) لتقطعوا منهم أشرف الأعضاء وهو الرأس، وفي قطعه إهانة لهم أكثر من قطع غيره من الأعضاء المؤدية للموت، وهو أسرع في الموت من غيره «حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ» وأكثرتم فيهم القتل
20
واثقلتموهم بالجراح فاعمدوا لأسرهم «فَشُدُّوا الْوَثاقَ» من المأسورين لإظهار ذلتهم لكم، ولئلا ينفلتوا فيلتحقوا باعدائكم ويكونوا أكثر شرا من غيرهم، عليكم، لكم لم تفلتوهم ليكون لكم يد عليهم وليكن شأنكم هذا حتى انتهاء الحرب، فإذا وضعتم السّلاح وتمّ لكم ما أمثلتم «فَإِمَّا» أن تمنوا على أسراكم «مَنًّا بَعْدُ» فتركونهم كرما منكم «وَإِمَّا» أن تفدوهم «فِداءً» فتأخذون المال المتفق عليه منهم أو تبدلونهم بأسراكم، وهذه الآية محكمة غير منسوخة بآية ٥٨ من الأنفال المارة، وهي (فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ) ولا بآية السّيف وهي قاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً) عدد ٣٧ من التوبة الآتية، كما قاله بعض المفسرين، لان للامام الخيار بين أربعة أمور حسبما يراه لا معارض له في ذلك، وهي إما أن يقتل الأسرى، أو يسترقهم، أو يمن عليهم فيطلقهم بلا عوض، أو يفاديهم بالمال أو بأسرى المسلمين، وإلى هذا ذهب ابن عمر وبه قال الحسن وعطاء وأكثر أصحاب وجل العلماء، ومشى عليه الشّافعي والنّووي واحمد واسحق رحمهم الله.
تشير هذه الآية الكريمة إلى حث المسلمين على القتال لما فيه من إعلاء شأنهم وعظمة شوكتهم، وأن لا يميلوا إلى قبول فداء الأسرى إلّا بعد الإثخان في القتل من العدو، ولهذا عاقبهم الله تعالى على قبول الفداء في أسرى بدر، كما مر في الآية ٦٨ من سورة الأنفال وسبب نزولها على ما قاله ابن عباس، هو أنه لما كثر المسلمون واشتد سلطانهم أنزلها وهو الصّحيح لما روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال بعث النّبي ﷺ خيلا قبل نجد، فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة أتال، فربطوه في سارية من سواري المسجد، فخرج إليه النّبي ﷺ فقال عندك يا ثمامة؟ فقال عندي خير يا محمد، إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فاسأل تعط منه ما شئت، فتركه النّبي ﷺ حتى إذا كان من الغد قال ما عندك يا ثمامة؟ قال ما قلت لك (وكرر الألفاظ) بعينها فقال ﷺ أطلقوا ثمامة، فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل ثم دخل المسجد فقال أشهد أن لا إله إلّا الله وأشهد أن محمدا رسول الله، أو قال عبده ورسوله، والله ما كان على وجه الأرض أبغض إلي من وجهك فقد أصبح
21
وجهك أحب الوجوه إليّ، والله ما كان دين أبغض إلي من دينك فأصبح دينك أحب الدّين كله إلي، والله ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك فأصبح بلدك أحب البلاد كلها إلي، وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة فماذا ترى؟ فبشره النبي ﷺ وأمره أن يعتمر، فلما قدم مكة قال له قائل أصبوت؟ قال لا، ولكن أسلمت مع رسول الله ﷺ والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروي عن عمران بن حصين قال أسر أصحاب رسول الله ﷺ رجلا من بني عقيل فأوثقوه، وكانت ثقيف قد أسرت رجلين من أصحاب رسول الله، فقداه رسول الله بالرجلين الّذين أسرتهما ثقيف- أخرجه الشّافعي في مسنده وأخرجه مسلم وأبو داود- فعلى هذا يكون القول بالنسخ لا وجه له.
فيا أيها المؤمنون داوموا على هذه الحالة، فاقتلوا وأسروا وأبقوا الأسرى «حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها» أثقالها من سلاح وغيره من أدوات الحرب ولوازمها فيعزّ الله المسلمين بنصره ويخذل الكافرين «ذلِكَ» الحكم في الأسرى فافعلوه «وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ» فأهلكهم وأسرهم بغير قتال ولكفاكم أمرهم «وَلكِنْ» لم يفعل وقد أمركم بقتالهم «لِيَبْلُوَا» يمتحن ويختبر «بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ» وليثيب المؤمن بالشهادة أو السّعادة ويعاقب الكافر بالخيبة والنّار «وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ» منكم أيها المؤمنون أو سلموا «فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ» (٤) بل ينميها لهم ويثيبهم عليها وأنه «سَيَهْدِيهِمْ» بالدنيا إلى طرق الرّشاد «وَيُصْلِحُ بالَهُمْ» (٥) فيها ويوفقهم للسداد إذا سلموا من القتل «وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ» في الآخرة إذا قتلوا ويفيض عليهم من خيرها ونعيمها وقد «عَرَّفَها لَهُمْ» (٦) إذ وصفها لهم بالدنيا، فيكونون في الآخرة أعرف بمواقعهم فيها من دورهم في الدّنيا فلا يحتاجون إلى دليل يدلهم على منازلهم فيها، هذا إذا كان الفعل مأخودا من التعريف وإذا كان من العرف وهو الرّائحة الطّيبة فيقال طيبها لهم بالطيب، وكلاهما جائز. قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ» فتنضموا إلى حزبه لإعلاء كلمته «يَنْصُرْكُمْ» على عدوكم «وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ» (٧) عند القتال في الدّنيا وعلى الصّراط في الآخرة
22
«وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ» خيبة وسقوطا وبعدا وشقاء وعثرة في الدّنيا والآخرة «وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ» (٨) محقها وحرمهم من ثوابها وأنسى النّاس ذكرها الحسن «ذلِكَ» الإضلال والإتعاس «بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ» من الذكر على رسوله وتأففوا منه وزعموا أنه مشاق فعله عليهم «فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ» (٩) اذهب ذكرها وأجرها بالكلية، لأنها صادرة عن شهواتهم الخسيسة لم يرد بها وجه الله «أَفَلَمْ يَسِيرُوا» هؤلاء الكفرة «فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ» من كفار الأمم الماضية كيف «دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ» مساكنهم بما فيها من مال ونشب، فأهلكهم دفعة واحدة هم وما يملكون «وَلِلْكافِرِينَ» بك يا سيد الرّسل «أَمْثالُها» (١٠) أمثال تلك العاقبة والعقوبة إذا أصروا على كفرهم وماتوا عليه
«ذلِكَ» الإهلاك والتدمير يكون للكافرين فقط «بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا» يجرهم منه «وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ» (١١) في الدّنيا يتمكن وقايتهم منه، لأن مولاهم الشّيطان أو بعضهم، وكلّ منهم ضعيف لا يقدر على خلاص نفسه مما بها في الدّنيا وفي الآخرة، كذلك لا مولى لهم يخلصهم من عذاب الله أو يجيرهم منه «إِنَّ اللَّهَ» مولى المؤمنين «يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ» تمر في جوانبها يمينا وشمالا. وأماما ووراء وهم مشرفون عليها بحيث لا تخفى على من فيها «وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ» في الدّنيا فعلا «وَيَأْكُلُونَ» من نعيمها «كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ» التي لا هم لها إلا بطونها وفروجها، ساهون عما يراد منهم في الآخرة، وقد شبههم الله بها بجامع عدم التمييز بين الخير والشّر والنّفع والضّر والتدبير في العواقب في كل «وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ» (١٢) وبئس المثوى النّار.
مطلب الآية المكية وصفة الجنّة وعلامات السّاعة وحال أهل الجنّة وأهل النّار:
وهذه الآية التي نزلت في الطّريق أثناء الهجرة المنوه عنها في الآية ٨٧ من سورة العنكبوت في ج ٢ «وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ» وأعظم «قُوَّةً مِنْ» أهل «قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ» (١٣)
23
وذلك أنه ﷺ بعد أن خرج من الغار وسار مع صاحبه أبي بكر وخرج من عمران مكة التفت إليها وقال أنت أحب البلاد إلى الله وأحبها إلي، ولولا أن المشركين أخرجوني لم أخرج منك، وقد وضعت هنا كغيرها باشارة من السّيد جبريل وأمر من النّبي ﷺ كما هي في علم الله، وتعد مكية لأن المدني، ما نزل في المدينة بعد وصله إليها أو في غيرها، وكذلك المكي هو ما نزل قبل الهجرة في مكة أو غيرها كما أشرنا إليه في المقدمة، وإنما قال أخرجوني لأنهم أرادوا إخراجه حين مذاكرتهم في دار النّدوة، وقد خرج بارادة الله تعالى ليس إلّا كما أشرنا إليه في الآية الآنفة الذكر من سورة العنكبوت لأن الله تعالى قدّر على خروجه منها ظهور دينه للناس أجمع وعلو شأنه على غيره وفتح مكة على يده، ولأنه لو لم يخرج بطوعه على الصّورة المذكورة لأدى بقاؤه فيها إلى مقاتلة بينه وبين قومه وهو لا يريد قتالهم مع قوته بعشيرته، وتعهد الله له بالنصر عليهم.
قال تعالى «أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ» وهو محمد وأصحابه «كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ» من الكفار «وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ» (١٤) في إخراج حضرة الرّسول واختيار عبادة الأصنام على عبادة الملك العلام كلا لا يستوون عند الله، وبينهما كما بين ما أعده الله لكل منهما. وما قيل إن المراد بهذه الآية أبو جهل أو غيره من الكفرة المحرّضين على إخراج الرّسول من مكة لا يقيدها بهم، بل هي عامة فيهم وفي غيرهم من الكفار، على أن أبا جهل قتل في حادثة بدر الأولى الكائنة في السّنة الثانية من الهجرة وهذه السّورة نزلت في ذي القعدة السّنة السابعة منها، فبينهما خمس سنين وشهران، لأن غزوة بدر في رمضان، ولكن الآية مكية فيجوز إدخال أبو جهل واضرابه فيها، إذ نزلت على أثر ما دبروه في قصته صلى الله عليه وسلم. قال تعالى «مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ» متغير الطّعم ولا منتن من طول المكث أو طرح شيء فيها كأنهار الدّنيا، بل هي صافية طيبة عذبة «وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ» لأن التغيير من خصائص الدّنيا وما فيها، أما الآخرة فلا تغير فيها، كما أنها هي لا تتغير على كر الأزمان «وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ»
24
لا حامضة ولا مرة ولا حريقة ولم تدنس بعصر الأيدي ولا بدوس الأرجل كخمر الدنيا ولا غول فيها يذهب العقل ويصدع الرّأس ويقيء الطّعام، راجع الآية ٤٤ من سورة الصّافات ج ٢ تجد ما يتعلق بالفرق بينهما «وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى» لا شمع فيه ولم يخرج من بطون النّحل فيوجد منه ميتا فيه مما تستقذره النفس، بل هو خالص من كلّ الشّوائب جاء عن حكيم بن معاذ عن أبيه عن النبي ﷺ قال إن في الجنّة بحر الماء وبحر العسل وبحر اللّبن وبحر الخمر، ثم تشقق الأنهار بعد- أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح- وروى مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله ﷺ سيحان (نهر اورقه غير سيحون) وجيحان (نهر المصيصة في بلاد الأرمن غير جيحون) والفرات ونيل مصر كلّ من أنهار الجنّة أي مادتها من مادة أنهار الجنّة من حيث الطّعم واللّون، لا أن منبعها من هناك لأن منابعها الظّاهرة في الدّنيا مشهودة ومعلومة ومشهورة، وان قول حضرة الرسول من أنهار الجنّة لا يعني أن منابعها منها بالنسبة لما نراه وبالنظر لواقع الحال أما في الحقيقة فلا يعلمها إلّا الله لأن ظاهر علمنا يقتصر عند ظاهر منابعها ولا نعلم من أين يأتي ذلك، وليس محالا على الله أو مستحيلا عليه إن جعل أصل منبعها من الجنّة أو من فوقها أو من تحتها، والله على كلّ شىء قدير. وعلينا أن نصدق بما جاء عن الرّسول في هذه وغيرها لأنه لا ينطق عن هوى، وقد أمرنا الله بأن نأخذ ما يأتينا به وننتهي عما ينهانا عنه كما يأتي في الآية ٧ من سورة الحشر. قال تعالى «وَلَهُمْ فِيها» أي الجنّة ذات الأنهار المذكورة «مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ» مما عرفه البشر أو لم يعرفه يتفكهون فيها «وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ» أيضا زيادة على ذلك كله، ورفع التكاليف عنهم فيما يأكلون ويشربون بخلاف فواكه الدنيا فإنهم قد يحاسبون عليها هل هي من حل أم لا، وهل أسرف فيها أم لا، وهل رزق غيره منها أم لا، أما المغفرة عن الذنوب فتكون لأهل الجنّة قبل دخولها فمثل هؤلاء المؤمنين الكرام ليس «كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ» من الكفرة اللئام «وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ» (١٥) لشدة حرارته. وبعد أن بين تعالى حال أهل الجنّة وأهل النّار طفق يذكر بعض مثالب المنافقين، فقال
25
عز قوله «وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ» يا حبيبي «قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ» من أصحابك «ماذا قالَ آنِفاً» لأنهم لا يعون قوله إذ لا يلقون له بالا تهاونا به قاتلهم الله، وتغافلا عنه، لذلك لا يقهمونه «أُولئِكَ» الّذين لا يفطنون لكلام رسولهم هم «الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ» فلم ينتفعوا بها لذلك لم يصغوا لمواعظ الرّسول وهو معهم فتركوها «وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ» (١٦) الباطلة فأمات الله قلوبهم «وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا» بهداية الله وعظات رسوله، فسمعوا خطابه ووعوا قوله وانتفعوا به «زادَهُمْ هُدىً» وبصيرة وعلما لم يعلمه غيرهم لأن الله شرح صدورهم «وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ» (١٧) أي
جزاءها الدّنيوي في الآخرة وبينه لهم على لسان رسولهم. ثم شرع يهدد الكافرين والمنافقين، فقال عز قوله «فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً» على حين غفلة وغرة «فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها» علاماتها وأماراتها «فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ» (٨) أي فكيف بهم إذا جاءتهم السّاعة المذكّرة لهم بكل ما وقع منهم، وكيف يكون حالهم في ذلك الوقت عند بروز أعمالهم السّيئة، ومن أين لهم إذ ذاك التذكر والاعتذار والتوبة والإيمان لفوات محلها؟ أخرج الترمذي عن أبي هريرة قال قال رسول الله ﷺ بادروا بالأعمال سبعا، فهل تنظرون إلّا فقرا منسيا، أو غنى مطغيا، أو مرضا مفسدا، أو هرما مقعدا، أو موتا مجهزا، أو الدّجال، فشرّ غائب ينتظر، أو السّاعة والسّاعة أدهى وأمر. وروى البخاري ومسلم عن سهل بن سعد قال رأيت النّبي ﷺ قال بإصبعه هكذا الوسطى والتي تلي الإبهام وقال بعثت أنا والسّاعة كهاتين. ورويا عن أنس مثله بزيادة كفضل إحداهما على الأخرى، وضم السّبابة والوسطى. أي ما بين مبعثه ﷺ وقيام السّاعة شيء يسير كما بين الإصبعين من الطّول.
مطلب عصمة النّساء وصلة الرّحم وتدبر القرآن ومثالب المنافقين والكافرين والبخل وما نفرع عنه:
ورويا عن أنس قال عند قرب وفاته ألا أحدثكم حديثا عن النّبي ﷺ لا يحدثكم به أحد غيري، سمعت رسول الله ﷺ يقول لا تقوم السّاعة، أو قال من أشراط
26
الساعة أن يرفع العلم، ويظهر الجهل، ويشرب الخمر، ويفشو الزنى ويذهب الرجال ويبقى النّساء حتى يكون لخمسين امرأة قيم. وفي رواية: ويظهر الزنى ويقل الرّجال وتكثر النّساء. ورويا عن أبي هريرة أن من أشراط السّاعة أن يتقارب الزمان وينقص العلم وتظهر الفتن ويلقى الشّح، أي يلقى البخل والحرص في قلوب النّاس على اختلاف أحوالهم هذا على سكون اللام (فَمَنْ يُلْقى) وعلى فتحه وتشديد القاف يكون المعنى يتلقى البخل ويتعلم ويدعى إليه ويتواصى به، قاله العتبي وصوّبه ابن الأثير. ولا يقال يلقى بمعنى يترك إذ لا يستقيم المعنى لأن المقام مقام ذم، ويكثر الهرج، قالوا وما الهرج يا رسول الله؟ قال القتل.
هذا وقد أسهبنا البحث في هذا في الآية ١٥٨ من سورة الأنعام المارة في ج ٢.
واعلم أن المراد برفع العلم ونقصه موت العلماء وقلة طلبه، لا أنه يرفعه من قلوب العلماء، لأنه أكرم من أن يأخذه ممن يمنحه إياه، يؤيده خبر: إن الله لا ينتزع العلم انتزاعا وإنما يرفعه بموت العلماء. ثم التفت إلى رسوله وخاطبه بقوله «فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ» ودم على ما أنت عليه من العلم بهذا التوحيد الخالص، وأعلم أمتك بالمداومة عليه وحثهم على التمسك به، وأن يعضوا على هذه الكلمة بالنواجذ وأعلمهم أن لا خلاص لأحد من عذاب الله إلّا بها، وحرضهم على أن لا يفقوا عنها، وخاصة عند مفارقتهم الدنيا، فمن مات عليها. اللهم أمتنا عليها، وقد وصفها بعضهم بقوله:
مليحة التكرار والتنثى لا تغفلي عند الوداع عني
«وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ» مما تعده ذنبا بالنسبة لمقامك «وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ» استغفر أيها الرّسول «وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ» (١٩) أنت وإياهم في الدّنيا من جميع حركاتكم وسكناتكم وفي الآخرة يعلمه على درجاتكم فيها، وإنما أمر الله نبيه بالاستغفار تعليما لأمته، وإلّا فهو مغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، كما سيأتي أوّل سورة الفتح الآتية، وذنبه عليه السّلام ليس كذنوب أمته لأنه منزه عنها، وإنما هي على حد حسنات الأبرار سيئات المقربين. روى مسلم عن الأعز المزني قال سمعت رسول الله ﷺ يقول أنه ليغان على قلبي (أي يغطّى
27
ويغشّى كما تغشّى السّماء بالغيم) حتى أستغفر في اليوم مئة مرة، وفي رواية توبوا إلى ربكم إني لأتوب إلى ربي عز وجل مئة مرة في اليوم، وروى البخاري عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله ﷺ يقول إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم سبعين مرة. وفي رواية أكثر من سبعين مرة. وذلك بسبب ما أطلعه الله عليه من أحوال أمته بعده، فأحزنه ذلك حتى كان يستغفر لهم، أو لما كان يشغله النّظر في أمورهم ومصالحهم حتى يرى أنه اشتغل بذلك عن التفرد بربه، فيحزنه ذلك، فيستغفر ربه من أجل أمته، فعليكم باتباعه والتمسك بشريعته واهتدوا بهديه واتخذوه وسيلة لكم وحجة عند ربكم، وإياكم أن تسببوا لأنفسكم ما يكون به حجة عليكم.
وتقدم البحث في هذا في الآية ٦٥ من سورة الزمر المارة في ج ٢ وفيها ما يرشدك لمراجعة غيرها. ولهذا البحث صلة عند قوله تعالى (أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) الآية ٣٠ من سورة الرّعد الآتية. قال تعالى «وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ» تأمرنا بالجهاد حبا فيه وحرصا عليه، لأن فيه العزّ، فأجابهم بقوله «فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ» في الجهاد غير متشابهة لا تحتمل تأويلا ولا تفسيرا «وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ» وكلّ سورة فيها ذكر الجهاد من أشد القرآن على المنافقين، لذلك قال تعالى «رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ» نظر شزر وكراهية تضجرا أوجبنا عن لقاء العدو، فتراهم شاخصي أبصارهم كأنهم يعانون سكرات الموت «فَأَوْلى لَهُمْ» (٢٠) كلمة ذم ودعاء عليهم بالمكروه كما تقول ويلك قاربك ما تكره بمعنى التهديد ويقارب هذه الآية في المعنى الآية ٧ من الأنفال والآية ٧٧ من النّساء والآية ٢٠ من الأحزاب المارات فراجعها.
وهنا تم الكلام ثم ابتدأ فقال «طاعَةٌ» لله ورسوله «وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ» عند سماع كلامه بالإجابة أولى بهم من ذلك لو عقلوا وسكتوا «فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ» ودنى وقت الجهاد «فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ» وآمنوا به وأخلصوا وجاهدوا مع رسوله ولم يخالفوا أمره ويخلفوا وعده ولم يكذبوا في قولهم «لَكانَ خَيْراً لَهُمْ» (٢١) من الإيمان الكاذب والقول الفارغ والنّكث بالعهد والطّاعة المزيفة. واعلم أنه لا يوجد في القرآن
28
غير سبع آيات مبدوءة بحرف الطّاء هذه وأول طه وأول الطّواسيم والآية ٦٥ من الصافات و ٢٤ من الدّخان قال تعالى «فَهَلْ عَسَيْتُمْ» أيها المنافقون «إِنْ تَوَلَّيْتُمْ» عن سماع كلام الله واتباع أحكامه وطاعة رسوله فلعلكم «أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ» كما كنتم في الجاهلية وتسلكوا طرق البغي وسفك دماء النّاس «وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ» (٢٢) كما يفعل غيركم من الكفرة. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن النّبي ﷺ قال إن الله خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرّحم فأخذت بحقوي الرّحمن (الحقوه مشد الأزرار) فقال مه فقالت هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال نعم أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟ قالت بلى، قال فذالك لك. ثم قال ﷺ اقرأوا إن شئتم (فَهَلْ عَسَيْتُمْ) الآية. وفي رواية الرّحم شجنة (قرابة) من الرّحمن مشتبكة اشتباك العروق. ولهذا البحث صلة في الآية ٢٣ من سورة الرّعد الآتية وقد بيّنا أول سورة النّساء وآخر الأنفال المارتين ما يتعلق في بحث الأرحام وأشرنا إليه في الآية ٦ من سورة الأحزاب المارة أيضا فراجعها «أُولئِكَ» المفسدون في الأرض قاطعوا أرحامهم هم «الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ» (٢٣) عن طريق الحق وسبيل الرّشاد فتاهو في الحيرة التي أدت بهم إلى النّار «أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ» فيتأملون في معانيه ويتفكرون في مغازيه بحضور قلب فيعرفون زواجره ومواعظه ووعده ووعيده ورشده وتهديده، فلا يجسرون على مخالفة ما فيه، وينقادون لأوامره ونواهيه. ونظير هذه الآية الآية ٨١ من سورة النساء المارة، وهذا استفهام بمعنى التعجب من سوء حالهم وقبح تمردهم وشناعة جبنهم فقد تراكم الصّدأ على أفئدتهم وران عليها سوء فعلهم، ولهذا قال تعالى «أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها» (٢٤) والقفل مثل لكل مانع للانسان من تعاطي الطّاعات كما أن قفل الدّار مانع من دخولها، وهذا من التكليف الذي لا يطاق، لأن المحل المغلق لا يمكن دخوله، والإيمان محله القلب فإذا ختم عليه وأغلق فمن أين يدخله؟
وهذا من الجائزات، لأن الله أمر من سبق علمه أن لا يؤمن بالإيمان، ولهذا فلا يقال كيف يمكنهم التدبر في القرآن وقد أصمهم الله وأعمى أبصارهم وختم على
29
قلوبهم؟ وأم هنا بمعنى بل، والهمزة للتقرير، وهو إعلام بأن قلوبهم مسكرة لا يصل إليها ذكر الله، وتنكير القلوب للدلالة على أنها قاسية لا تتأثر بالوعظ والزجر والمراد بها قلوب المنافقين، لأنها على هذه الصّفة. وتقدم في الآية ٨٢ من النّساء ما يتعلق بهذا البحث فراجعه. وقيل في القفل لغزا:
وأسود عار أنحل البرد جسمه وما زال من أوصافه الحرص والمنع
وأعجب شيء كونه الدّهر حارسا وليس له عين وليس له سمع
قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ» القهقرى ورجعوا كفارا «مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى» وأصروا على ارتدادهم كان «الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ» بوساوسه حتى زين لهم القبيح ورأوا السّيء حسنا «وَأَمْلى لَهُمْ» (٢٥) بامتداد الأمل وفسحة الأجل، ورغبهم في التمتع بالدنيا وحب الرّئاسة كما يفعل بعض الجهال الآن، ويقولون سوف نتوب، وما يحسون إلّا وقد باغتهم الموت فيتدمون ولات حين مندم. وقرىء وأملي بضم الهمزة وكسر اللام وفتح الياء أي أمهلوا في العمر، ولا شك أن المملي هو الله تعالى، وإنما أسند إلى الشّيطان لمباشرته له فعلا، وإلّا فإن الله قادر على منعه، وهو الذي قدره على ذلك التسويل والإملاء واراده، وإلّا فإن كيد الشّيطان ضعيف لا يستطيع على شيء إلا بتقدير الله إياه كما تقدم غير مرة «ذلِكَ» الإملاء والتسويل «بِأَنَّهُمْ» أهل الكتاب والمنافقين «قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللَّهُ» وهم المشركون «سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ» ونتعاون معكم على عداء محمد وأصحابه فلا نجاهد معهم ونقعد عن سراياهم ولا نكثر سوادهم، وهذه كلها من الأحوال التي يذكرها المنافقون فيما بينهم سرا ولا يعلمون أن الله تعالى يفضحهم ويخبر رسوله بها «وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ» (٢٦) لا يخفى عليه شيء منها. وقرىء بكسر الهمزة أي ما يسره بعضهم لبعض. وبفتحها أي مكن في قلوبهم من ذلك ولم يفشوها بعد «فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ» يكون حالهم حين «يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ» (٢٧) إهانة له ويقرب من معنى هذه الآية ٥١، من سورة الأنفال المارة «ذلِكَ» الضرب «بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللَّهَ» وهو عدم
30
التعاون مع الرّسول وأصحابه «وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ» الذي هو التعاون لأن فيه رضاهم الذي هو من رضاء الله، ولهذا «فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ» (٢٨) التي زعموا أنها تنفعهم عند الله لأن سيئاتهم هذه محقت ثوابها ومحته فلم تبق له أثرا. قال تعالى «أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ» شك وشبهة ونفاق «أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ» (٢٩) التي في قلوبهم بل يخرجها ويبيّنها ليفضحهم بها «وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ» يا سيد الرّسل «فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ» وعلاماتهم «وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ» مقصوده ومغزاه وهو صرف الكلام من الصّواب إلى الخطأ وهو مذموم، وصرف الكلام من الخطأ إلى الصواب وهو ممدوح في اللاحن، أي فتكون كلمة اللّحن من الأضداد. قال أنس رضي الله عنه ما خفي على رسول الله ﷺ بعد نزول هذه الآية شيء من أحوال المنافقين، وكانوا يهجنون ويقبحون ويستهزئون به وبأصحابه. قال تعالى «وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ» (٣٠) فيجازيكم بمثلها
«وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ» بشيء من التكاليف الشّاقة المحتملة الوقوع وغير المحتملة اختبارا وامتحانا «حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ» حقيقة «وَالصَّابِرِينَ» على البلاء «وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ» (٣١) فنظهرها للناس ليعلموا كذبكم الذي تتظاهرون به مظهر الصّدق «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ» خالفوه وانشقوا عليه وتفرقوا عنه «مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً» بأفعالهم هذه، وإنما يضرون أنفسهم «وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ» (٣٢) يمحقها ويحرمهم ثوابها بحيث يمحوها من صحائف أعمالهم راجع الآية ٣٩ من سورة الرّعد الآتية «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ» (٣٣) مثل هؤلاء المنافقين بالرياء والسّمعة. زعم بعض المؤمنين أن لا يضرهم ذنب مع الإيمان كما لا ينفع عمل مع الشّرك فنزلت هذه الآية، ولا دليل فيها لمن يرى إحباط الطّاعات بالمعاصي، لأن الله تعالى قال فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره الآية الأخيرة من سورة الزلزلة المارة، ولا حجة فيها لمن لا يرى إبطال النوافل بأنه إذا دخل في صلاة أو حرم تطوعا لا يجوز له إبطاله، لأن السّنة مبينة
31
لكتاب الله، وقد ثبت في الصّحيحين أن النّبي صلّى الله عليه وسلم أصبح صائما، فلما رجع إلى البيت وجد حبسا فأكل منه، قالت الفقهاء إذا تلبس بالنفل من صوم أو صلاة أو غيرها فعنّ له أن يفطر فله ذلك وعليه القضاء، وإيجاب القضاء، وإيجاب القضاء لا يخالف الحديث قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ٢٤» حكم هذه الآية عام ولو أنها نزلت في أبي جهل وأضرابه أهل القليب في بدر حينما جاء ذكرهم بأن لهم أعمالا كإطعام الطّعام وصلة الأرحام وغيرها مما يفعله الجاهلية عادة لأن ما قدموه من خير وهم على كفرهم كافأهم الله عليه في الدّنيا ولم يبق لهم برّ ما يلاقون به وجه الله، وأين هؤلاء من لقائه، لأنهم يساقون إلى النّار على وجوههم «فَلا تَهِنُوا» أيها المؤمنون ولا تضعفوا إذا تخلف عنكم المنافقون أو ناوءوكم ليلجئوكم إلى الكف عن أعدائكم «وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ» الصلح. منع الله المؤمنين في هذه الآية أن يطلبوا الصّلح من الكفار لئلا تلحقهم الذلة، وخاطبهم بقوله «وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ» عليهم «وَاللَّهُ مَعَكُمْ» بالنصر والغلبة والمعونة «وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ ٣٥» لا ينقصها بل يوفّها لكم. هذا وقد أمر الله تعالى في الآية ٦٢ من الأنفال بإجابة طلب الصلح من قبل الأعداء فراجعها لتقف على الفرق بين الطّلبين، وأن ما يفعله الأجانب من طلب الصّلح وهم غالبون ليس هو طلب صلح بمعناه الحقيقي، لأن الغالب لا يطلبه من المغلوب، وإنما هو عبارة عن تكليفهم بالإذعان لشروط شاقة يفرضها الغالب على المغلوب حين اشتداد البأس وإيناس الضّعف منه ليقبلها قسرا عنه وهو راغم أنفه، فلو كان صلحا بمعناه الحقيقي لما كان منهم طلبه عند الضّيق وبلوغ القلوب الحناجر، وإنما هو أشد وقعا من الحرب فيقبلونه وهم كارهون لئلا يقضى عليهم بالاستئصال، أما الصّلح زمن السّلم فلا يكون إلّا عن رضى وطيب نفس، لأن العاقبة مجهولة لدى الفريقين، لذلك فإن كلا منهم يرى الصّلح خيرا بحقه وهذا هو الفرق بين صلح السّلم وصلح الحرب. ثم زهّدهم الله تعالى في الدّنيا بقوله «إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ» فلا تغتروا بها «وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا» فتعضدوا إيمانكم وتقووه بالتقوى «يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ» ربكم كاملة
32
يوم القيامة «وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ ٣٦» لقاء ما يعطيكم من الثواب بل يمنحكم أياما عفوا منه، لأنه تعالى يعلم بأنه «إِنْ يَسْئَلْكُمُوها» بمقابلة ثوابه «فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا» بإعطائها والاجفاء المبالغة في كلّ شيء ومنه إحفاء الشّارب أي المبالغة في قصة وأحفى في المسألة إذا ألح فيها جهده، أي إذا استقصى عليكم بها أجهدكم بطلبها كلها، فلا بد أن تبخلوا، ولهذا جعل زكاة المال ربع عشره كي لا يبخل النّاس بها على فقراء الله فلا يعطوهم شيئا منها «وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ ٣٧» ويظهر عداوتكم وبعضكم للانفاق لشدة محبتكم للمال المفروزة في قلوبهم عند الامتناع من الانفاق والله تعالى لا يريد ذلك منكم ولهذا خفف عليكم القدر الواجب لإنفاقه من أموالكم «ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ» أيها المخاطبون الموصوفون «تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ» شطرا قليلا من أموالكم في وجوه البر والخير طلبا لمرضاته «فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ» فلا تسمح نفسه بانفاق شيء مما أنعم الله عليه به «وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ» فيكون
وباله عليها، أي من يمسك ماله فلم ينفنه في طرقه المشروعة، ولهذا عدّي الفعل بعن، ولا شك أن البخل خطة ذميمة موجبة للخزي والعار بالدنيا والعذاب والنّار في الآخرة، حتى أن العقلاء حذروا مخالطة البخيل ومشورته، فقالوا لا تدخلن في مشورتك بخيلا فإنه يعدل بك عن الفضل ويعدك الفقر. - راجع الآية ٢٦٥ من البقرة المارة قالوا ولا جبانا فإنه يضعفك عن الإقدام، ولا حريصا فإنه يزين لك الشّره فالبخل والجبن والحرص غرائز شتى يجمعها سوء الظّن بالله، أجارنا الله منها «وَاللَّهُ الْغَنِيُّ» عنا وعن صدقاتنا، وإنما أمرنا بالإنفاق لما فيه من النّفع لنا في الدّنيا والآخرة «وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ» المحتاجون إلى ربكم أيها النّاس في كلّ أحوالكم، فإن فعلتم ما أمركم به نجوتم وكان خيرا لكم «وَإِنْ تَتَوَلَّوْا» وتعرضوا عن الإنفاق بالكلية وعن طاعة الله ورسوله، فلا تفعلوا ما يأمركم به ولا تجتنبوا ما ينهاكم عنه «يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ» يطيعونه ويأتمرون بأمره وينتهون عما ينهاهم عنه «ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ ٢٨» بالبخل وغيره من عدم الامتثال في أمر الجهاد ومخالفة الرّسول فيها يأمركم وينهاكم. أخرج الترمذي عن أبي هريرة قال
33
Icon