تفسير سورة السجدة

بيان المعاني
تفسير سورة سورة السجدة من كتاب بيان المعاني المعروف بـبيان المعاني .
لمؤلفه ملا حويش . المتوفي سنة 1398 هـ

أن المباشر لهذا النفخ الملك الموكل بذلك، والروح جسم لطيف كالهواء سار في البدن سريان الماء في العود وماء الورد بالورد والنار بالفحم، وقد أقام العلامة ابن الجوزي على هذا مئة دليل تشهد لها ظواهر الأخبار، ولذلك اخترته على غيره من أقوال كثيرة للفلاسفة وغيرهم، وقد أوضحت ما يتعلق به في الآية ٨٤ من سورة الإسراء في ج ١ فراجعه. ثم ذكر جل ذكره ما يترتب على نفخ الروح في الجسد فقال «وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ» ٩ الله على هذه النعم والحواس العظيمة والجوارح الكريمة التي هي من أبلغ قدرة الله تعالى في الإنسان وأكبرها نفعا له، وقدم السمع لأن الإنسان بسمع أولا ثم ينظر إلى القائل ليعرفه ثم يتفكر بقلبه فيفهم معناه، ولا خلاف في أن السمع أفضل من البصر لإمكان التفاهم مع الأعمى دون الأصم «وَقالُوا» الكفرة منكر والبعث «أَإِذا ضَلَلْنا» غيّبنا وصرنا ترابا مخلوطا بتراب الأرض ووضعنا فيها فلم يبق ما نتميز به عنها بأن تغلغلنا «فِي الْأَرْضِ» حتى كنا من ترابها، قال النابغة يرثي النعمان:
وآب مضلوه بعين جليّة وغودر بالجولان حزم ونائل
«أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ» بعد ذلك استفهام إنكار وتعجب مما يقول لهم حضرة الرسول انكم تحيون بعد موتكم هذا وتحاسبون على أعمالكم، قال تعالى لا ترد عليهم يا حبيبي فتقول لهم نعم إنكم تخلقون ثانيا، لأنهم ينكرون أكثر من ذلك «بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ» ١٠ جاحدون، وهذا انتقال من بيان كفرهم بالبعث إلى ما هو أشد وأفظع وهو جحود مقابلة ربهم بالحساب والجزاء لأنهم لو صدقوا بالحياة الثانية لم يصدقوا بأنهم يعذبون ويثابون على ما وقع منهم من خير وشر ولم يصدقوا أن هناك نارا للكافر وجنة للمؤمن، لأنهم ينكرون الحشر الذي هو أول مقدمات لقاء الله وهذه تضاهي الآية ٣٣ من الأنعام المارة،
«قُلْ» لهم يا سيد الرسل بل قد «يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ» لقبض أرواحكم في الدنيا «ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ» بعد موتكم «تُرْجَعُونَ» ١١ في الآخرة لا محالة، وهذه رد لقولهم إنا لا نلاقي الله ولا نعود إليه وهو أبلغ
373
من إنكارهم البعث، ولولا تحقق الرجعة إلى الله واليقين بإثابة المحسن وعقاب المسيء لما رأيت من يفعل الخير أبدا ولتوغل الناس في الشر، لأن العامل يعمل رجاء الأجر وخوفا من العقاب. أما العبادة فهي مستحقة لله تعالى، ولو لم يثب عليها ويخلق الجنة لفاعلها والنار لجاحدها لكان جديرا بأن يعبد ويوحد وينزه ويمجّد لذاته المقدسة، إذ ينبغي أن تكون العبادة خالصة لله استحقاقا لربوبيته. قال تعالى «وَلَوْ تَرى» يا محمد في الموقف العظيم يوم الجزاء «إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ» حياء وندما على تفريطهم «عِنْدَ رَبِّهِمْ» يقولون يا «رَبَّنا أَبْصَرْنا» بأم أعيننا ما كنا نكذب به من الحياة بعد الموت «وَسَمِعْنا» الآن تصديق ما أخبرتنا به رسلك «فَارْجِعْنا» إلى الدنيا «نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ» ١٢ الآن بكل ما أتتنا به الأنبياء، فيجيبهم أن لا مجال لإجابة هذا الطلب كما مر، وجواب لو محذوف تقديره لرأيت أمرا عظيما هالك مرآه من أحوال الكافرين وما يحل بهم من أنواع العذاب. قال تعالى «وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها» بأن وفّقناها في الدنيا للإيمان بما أردناه «وَلكِنْ» لم نشأ ذلك إذ «حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» ١٣ تأكيدا لعدم استثناء أحد من العصاة. ونظير هذه الآية الآية ١١٩ من سورة هود المارة، ثم يقال لهم «فَذُوقُوا» العذاب الأليم «بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا» الذي جحدتموه في الدنيا «إِنَّا نَسِيناكُمْ» لا نلتفت إليكم أبدا فنجعلكم كالمنسيين وهو عبارة عن تركهم في العذاب لأن النسيان محال على الله فهو من باب المشاكلة على حد قوله (وجزاء سيئة سيئة مثلها) على قول بعض المفسرين.
ويقال لهم أيضا «وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ» الدائم الذي لا نهاية له «بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» ١٤ من المعاصي وذلك بعد أن يطرحوا في النار تنفيذا لعهد الله، لأن أمثالهم لا يؤمنون لسابق شقائهم «إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها» وتليت عليهم «خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ» في سجودهم ونزهوه عما يقول الكفرة «وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ» ١٥ عن الإيمان بها وتصديق من أنزلت عليه ولا يأنفون من وضع جباههم على الأرض بل ولا من تمريغ وجوههم
374
في التراب إذلالا لأنفسهم واحتراما لخالقهم وخشوعا لهيبته وخضوعا لجلاله وتعظيما لربوبيته لسابق سعادتهم. روى البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال:
كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقرأ السورة التي فيها السجدة فيسجد ويسجدون حتى ما يجد أحد مكانا لوضع جبهته في غير وقت الصلاة. وروى مسلم عن أبي هريرة قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي ويقول يا ويلتا أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار.
وقدمنا في الآية ٥٠ من سورة النحل ما يتعلق بالسجود فراجعه.
مطلب الآيات المدنيات، وقيام الليل، والحديث الجامع، وأحاديث لها صلة بهذا البحث:
قال تعالى «تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ» الفرش وما بمعناها من كل ما يضطجع عليه «يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً» من عقابه «وَطَمَعاً» في ثوابه «وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ» ١٦ من فضول أموالهم على الفقراء والمساكين وأبناء السبيل أداء لشكر ما أولاهم به من النعم وشفقة على عيال الله الذين أنعم عليهم بها من فضله وكرمه.
وهذا أول الآيات التي نزلت في الانتظار للصلاة بعد الصلاة. وقال أنس: نزلت فينا معاشر الأنصار كنا نصلي المغرب فلا نرجع حتى نصلي العشاء مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
وأخرج مسلم من حديث عثمان بن عفان: من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما قام الليل كله. وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: لو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوها ولو حبوا. والآية واردة في صلاة الليل بعد النوم، لأن سياقها يدل على ذلك، ولا تسمى صلاة الليل تهجدا إلا بعد النوم، وهي كناية عن اشتغالهم بالعبادة وتركهم النوم المستفاد من قوله (تتجافى) أي تتباعد جنوبهم عن النوم. ثم طفق جل شأنه يبين لعباده الذين هذا شأنهم ما لهم عنده من الثواب العظيم في الآخرة الذي يتنافس به المتنافسون بقوله جل قوله «فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ» وهم أولئك الكرام الذين مرت خصلتهم الحسنة التي يمجدها لهم ربهم. والتنوين في
375
كلمة نفس يشعر بأنه لا يعلم أحد غيره من نبي مرسل أو ملك مقرب ما حىء لهؤلاء الكرام عنده في الآخرة جزاء تركهم النوم وانصبابهم لطاعة الله «مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ» أي شيء عظيم تطيب به أنفسهم وتنشرح به صدورهم «جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ ١٧» في دنياهم. روي البخاري ومسلم عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: يقول الله تبارك وتعالى أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، اقرؤوا إن شئتم (فلا تعلم نفس) الآية. وروى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقوم الليل حتى تورمت قدماه، فقلت لم تصنع هذا يا رسول الله وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال أفلا أكون عبدا شكورا؟ وهذا الحديث لم تسمعه عائشة عند نزول هذه الآيات، إذ كان عمرها دون الست سنين عند نزولها، لأنه كان قبل الهجرة بسنة تقريبا وهي تزوجت برسول الله بعد الهجرة في السنة الثانية منها، وكان عمرها تسع سنين، وهذا الحديث روته بعد ذلك وجيء به هنا للمناسبة، وهكذا كثير من الأحاديث تذكر بمناسبة الآيات مع أنها قد تكون سمعت من حضرة الرسول قبل نزولها وقد يكون بعده. وروى البخاري عن الهيثم بن سنان أنه سمع أبا هريرة في قصة يذكر فيها النبي صلّى الله عليه وسلم يقول إن أخا لكم لا يقول الرفث يعني بذلك ابن راوحة قال شعرا:
وفينا رسول الله يتلو كتابه إذا انشق معروف من الفجر ساطع
أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا به موقنات ما إذا قال واقع
يبيت يجافي جنبه عن فراشه إذا استثقلت بالمشركين المضاجع
وأخرج الترمذي عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: كنت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم في سفرة فأصبحت يوما قريبا منه، فقلت يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني عن النار، قال سألت عن عظيم، وإنه ليسير عمن يسره الله عليه، تعبد الله ولا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت، ثم قال ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جنّة، والصدقة تطفئ الخطيئة، وصلاة الرجل في جوف الليل، ثم قرأ (تتجافى جنوبهم) حتى بلغ
376
(جزاء بما كانوا يعملون) ثم قال ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟
قلت بلى يا رسول الله، قال رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد. ثم قال ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ قلت بلى يا رسول الله، فأخذ بلسانه وقال اكفف عليك هذا، فقلت يا رسول الله وإنا لمؤاخذون بما يتكلم؟ فقال ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكبّ الناس في النار على وجوههم، أو قال على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم؟. وأخرج الترمذي عن أبي أمامه الباهلي عن رسول صلّى الله عليه وسلم قال: عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم، وقربة إلى ربكم، وتكفير للسيئات، ومنهاة عن الآثام، ومطردة الداء عن الجسد. وعن ابن مسعود قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم عجب ربنا من رجلين، رجل ثار عن أوطائه ولحافه من بين جنبيه وأهله إلى صلاته، فيقول الله عز وجل لملائكته أنظروا إلى عبدي ثار من فراشه ووطائه من بين جنبيه وأهله إلى صلاته رغبة فيما عندي وشفقة مما عندي، ورجل غزا في سبيل الله وانهزم مع أصحابه فعلم ما عليه في الانهزام وما له في الرجوع فرجع حتى أهريق دمه، فيقول الله تعالى أنظروا إلى عبدي رجع رغبة فيما عندي حتى أهريق دمه- أخرجه الترمذي- هذا، واعلم أن الهيثم المار ذكره في الحديث الأول ليس له في الصحيحين عن أبي هريرة غير ذلك الحديث. قال تعالى «أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ» ١٨ عند الله أبدا، وهذا استفهام إنكاري، أي لا يستوي المؤمن الموصوف بتلك الأوصاف الفاضلة مع الفاسق قط، بل بينهما بون شاسع. قالوا نزلت هذه الآية في سيدنا علي كرم الله وجهه حينما قال له الوليد بن عقبة بن أبي معيط أسكت فإنك صبيّ وأنا شيخ أبسط منك لسانا وأحدّ سنانا وأشجع جنانا وأملأ حشوا في الكتيبة، فقال له أسكت فإنك فاسق. وظاهر الآية العموم في كل مؤمن وفاسق لأنها واردة بمعرض ضرب المثل ولفظ التنكير يؤيد هذا المعنى الأخير، «أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» في دنياهم «فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى» في أخراهم، وهي نوع من الجنان تأوي إليها أرواح الشهداء «نُزُلًا بِما كانُوا يَعْمَلُونَ» ١٩ من الخير فإذا كان هذا نزلهم فما بالك بما يكرمهم الله به بعد، وهو المعطي العظيم الكريم؟،
377
راجع معنى النزل في الآية ١٠٧ من سورة الكهف المارة «وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا» وأما هنا واردة بمعرض التقسيم موضحة ما للفريقين بالآية قبلها، أي وهذه الطائفة «فَمَأْواهُمُ النَّارُ» في الآخرة فتراهم والعياذ بالله «كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها» لأنهم خالدون فيها، كما أن الطائفة الأولى خالدون في الجنة «وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ» ٢٠ في الدنيا، وهذا آخر الآيات المدنيات، ولا يوجد في القرآن آية بتأييد الكافرين في النار إلا في موضعين هذه والآية ٣٣ من سورة الجن في ج ١ هذا في القسم المكي وفي القسم المدني أيضا في موضعين في الآية ١٦٩ من سورة النساء وفي الآية ٦٥ من سورة الأحزاب ج ٣.
قال تعالى «وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى» في هذه الدنيا كالقحط والأسر والجلاء والخذلان والقتل وسائر المصائب فيها، وفسر أبو عبيدة العذاب الأدنى هذا بعذاب القبر وحكي أيضا عن مجاهد ولكن آخر الآية ينفيه ويصرفه لما ذكرناه، «دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ» الذي يوقعه فيكم يوم القيامة وهو الخلود بالنار «لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» ٢١ عن غيهم وبغيهم، أي لعل من سلم من تلك الآفات يرجع إلى الإيمان، أما من أصيب فمات فلا يدخل في هذا الترجي فلو كان المراد بالعذاب الأدنى عذاب القبر لما وجد تلاقيه بالرجوع ليرجى لهم إذ لا رجوع بعده إلى الدنيا «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ» الدالة على أنه واحد وعلى صحة وقوع البعث والجزاء «ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها» فلم يتدبرها وأصر على شركه، وثم هنا لاستبعاد الإعراض عنها عقلا مع غاية وضوحها وعليه قول جعفر بن علية الخارجي:
ولا يكشف الغماء إلا ابن حرة يرى غمرات الموت ثم يزورها
أي أن هذا لا أظلم منه فهو أظلم من كل ظالم إذ لا أكبر منه جرما «إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ» أمثاله المتوغلين في الإجرام «مُنْتَقِمُونَ» ٢٢ منهم بالعذاب الأكبر لأنهم لم يتعظوا بما لا قوه من عذاب الدنيا «وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ» التوراة «فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ» إليه ولا تشك في إلقاء مثل ذلك الكتاب وجنسه إليك من قبلنا فكما ألقينا إلى موسى وعيسى وداود الكتب
378
ألقينا إليك هذا القرآن أيضا، وإيتاء ذلك الجنس باعتبار إيتاء التوراة وإلقاء باعتبار إلقاء القرآن، ونظير هذه الآية قوله تعالى (وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً) الآية ١٤ من سورة الإسراء ج ١، وقال بعض المفسرين: إن ضمير (لقائه) يعود إلى موسى على ما جرينا عليه أولا وهو أظهر، ولكن الأكثر على الثاني أي بعوده إلى محمد كما ذكرناه، ولهذا أثبتنا الوجهين. وقال بعضهم ونسبه لابن عباس لا تشك من لقاء موسى ليلة المعراج بعود الضمير إلى موسى نفسه، واستدل صاحب هذا القول بما رواه البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: رأيت ليلة أسري بي موسى رجلا آدم طوالا جعدا كأنه من رجال شنوءة، ورأيت عيسى رجلا مربوعا مربوع الخلق إلى الحمرة وإلى البياض سبط الشعر، ورأيت مالكا خازن النار والدجال في آيات أراهنّ الله إياه، فلا تكن في مرية من لقائه. وروى مسلم عن أنس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: أتيت على موسى ليلة المعراج ليلة أسري بي عند الكثيب الأحمر وهو قائم يصلي في قبره.
وهذان الحديثان لا شك فيهما، إلا أن الأخذ فيهما يوجب عود الضمير إلى غير مذكور وهو لا يجوز إلا في المتعارف المشهور من المقام والسياق، وهنا ليس كذلك، وعليه فإن عوده إلى الكتاب أنسب وأقرب، يؤيده قوله تعالى «وَجَعَلْناهُ» ذلك الكتاب الذي طلبنا عدم الشك منك في لقائه لأخيك موسى «هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ» ٢٣ كما جعلنا كتابك هدى للخلق كافه «وَجَعَلْنا مِنْهُمْ» أي بني إسرائيل «أَئِمَّةً» أنبياء يقتدى بهم «يَهْدُونَ» الناس «بِأَمْرِنا» إياهم بذلك فيدعونهم إلى ما فيها من دين الله وشريعته «لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا» أولئك الأئمة «بِآياتِنا يُوقِنُونَ» ٢٤ أنها من عند الله إيقانا لا مرية فيه، ويا خاتم الرسل «إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ» بين الأنبياء وأممهم وبين المؤمنين والكافرين وبين الظالمين والمظلومين «يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ» ٢٥ في الدنيا بالأمور الدينية والدنيوية، وإذ ذاك يظهر المحق من المبطل. قال تعالى «أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ» وقرىء بالنون أي يبين أو نبين والفاعل على كلا الحالين يعود إلى الله «كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ»
379
الخالية وهم الآن «يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ» عند ذهابهم وإيابهم في أسفارهم ولم يعتبروا ويتعظوا «إِنَّ فِي ذلِكَ» أي إهلاك الأمم السالفة وجعل أمتك يمرحون في منازلهم «لَآياتٍ» كافيات للاتعاظ «أَفَلا يَسْمَعُونَ» ٢٦ هذه الآيات وما جرى على أسلافهم فينتبهون من غفلتهم وينتهون عن كفرهم. قال تعالى «أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ» اليابسة ذات النبات اليابس المجروز المأكول، والجرز هو القطع أي الأرض المقطوع عنها الماء أو المقطوع نباتها لعدمه. واعلم أنه لا يقال للأرض السبخة التي لا تنبت جرز لأن الله تعالى قال «فَنُخْرِجُ بِهِ» أي الماء الذي سقناه إليها «زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ» من عشه وتبنه «وَأَنْفُسُهُمْ» من حبه وثمره «أَفَلا يُبْصِرُونَ» ٢٧ ذلك فيستدلون به على كمال قدرة الله وإحيائهم بعد موتهم كما تحيا الأرض بعد موتها، أفلا يعتبرون بذلك؟ والأرض السبخة لا تنبت بالطبع ولو أنزل إليها الماء إلا بعد حين بأن تتغير عما هي عليه، وإنما قدّم الأنعام على البشر لأن أول الزرع يصلح لها، ولأنه غذاؤها، والبشر قد يكتفي بغيره. هذا وبعد أن ذكر الرسالة والتوحيد أتبعها بذكر الحشر فقال «وَيَقُولُونَ» مع ذلك كله كأن لم ينزل عليهم شيء ولم يحذرهم أحد أبدا مستفهمين استفهام استهزاء وسخرية «مَتى هذَا الْفَتْحُ» الحكم والقضاء الذي توعدنا به يا محمد أنت وأصحابك «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» ٢٨ بقولكم ووعدكم، والفتح بلغة القرآن الفصل والحكم، قال تعالى (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ) الآية ٨٩ من الأعراف ج ١، راجع الآية ١٥ من سورة إبراهيم المارة، والعرب تسمي القاضي فاتحا، فأنزل الله تعالى جوابا لهم «قُلْ» يا سيد الرسل لهؤلاء الهازئين الساخرين إذا جاء «يَوْمَ الْفَتْحِ» القضاء بين الناس يود الذين كفروا أن يؤمنوا ولكن «لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ» لفوات وقته ولو آمنوا لا يقبل منهم «وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ» ٢٩ ليعتذروا إذ يأتيهم بغتة على حين غفلة في وقت لا توبة ولا إمهال فيه «فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ» يا حبيبي «وَانْتَظِرْ» موعد نصرك عليهم وإهلاكهم كما «إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ» ٣٠ نزول حوادث الزمن فيك وليسوا بمبصرين ذلك. هذا وما قيل إن هذه الآية
380
Icon