تفسير سورة السجدة

صفوة التفاسير
تفسير سورة سورة السجدة من كتاب صفوة التفاسير المعروف بـصفوة التفاسير .
لمؤلفه محمد علي الصابوني .

اللغَة: ﴿افتراه﴾ اختلق القرآن من تلقاء نفسه ﴿يَعْرُجُ﴾ يصعد ويرتفع إِليه ﴿يُدَبِّرُ﴾ التدبير: رعايةُ شئون الغير ﴿سُلاَلَةٍ﴾ خلاصة ﴿مَّهِينٍ﴾ ضعيف حقير ﴿سَوَّاهُ﴾ قوَّمه بتصوير أعضائه وتكيملها ﴿ضَلَلْنَا﴾ ضعنا وهلكنا وأصله من قول العرب: ضلَّ اللبن في الماء إِذا ذهب وضاع ﴿نَاكِسُواْ﴾ مطرقوا يقال: نكس رأسه إِذا أطرقه ﴿الجنة﴾ الجن.
التفسِير: ﴿الم﴾ الحروف المقطعة للتنبيه على إِعجاز القرآن ﴿تَنزِيلُ الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ العالمين﴾ أي هذا الكتاب الموحى به إِليك يا محمد هو القرآن الذي لا شك أنه من عند الله عَزَّ وَجَلَّ، تنزيلٌ من رب العالمين ﴿أَمْ يَقُولُونَ افتراه﴾ الضمير يعود لكفار قريش و ﴿أَمْ﴾ بمعنى بل والهمزة أي بل أيقول المشركون اختلق محمد القرآن وافتراه من تلقاء نفسه؟ لا ليس الأمر كما يدَّعون ﴿بَلْ هُوَ الحق مِن رَّبِّكَ﴾ أي بل هو القول الحق، ولكلام الصدق المنزل من ربك قال البيضاوي: أشار أولاً إِلى إِعجازه، ثم رتَّب عليه أنه تنزيلٌ من رب العالمين، وقرر ذلك بنفي الريب عن، ثم أضرب عن ذلك إِلى ما يقولون فيه على خلاف ذلك، إنكاراً له وتعجباً منه، ثم بين المقصود من إِنزاله بقوله ﴿لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ﴾ أي أنزله إليك لتنذر به قوماً ما جاءهم رسول قبلك يا محمد، قال المفسرون: هم أهل الفترة بين عيسى ومحمد عليهما السلام، وقد جاء الرسل قبل ذلك كإِبراهيم وهو وصالح، ولكنْ لما طالت الفترة على هؤلاء أرسل الله إِليهم محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
460
لينذرهم عذاب الله، ويقيم عليهم الحجة بذلك ﴿لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ﴾ أي كي يهتدوا إِلى الحق ويؤمنوا بالله العزيز الحميد، ثم شرع تعالى في ذكر أدلة التوحيد فقال ﴿الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ﴾ أي الله جلَّ وعلا هو الذي خلق السماوات في ارتفاعها وإِحكامها، والأرض في عجائبها وإِبداعها، وما بينهما من المخلوقات في مقدار ستة أيام قال الحسن: من أيام الدنيا ولو شاء لخلقها بلمح البصر ولكن أراد أن يعلّم عباده التأني في الأمور قال القرطبي: عرَّفهم تعالى كمال قدرته ليسمعوا القرآن ويتأملوه، ومعنى ﴿خَلَقَ﴾ أبدع وأوجد بعد العدم، وبعد أن لم تكن شيئاً ﴿ثُمَّ استوى عَلَى العرش﴾ استواء يليق بجلاله ن غير تشبيه ولا تمثيل ﴿مَا لَكُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ شَفِيعٍ﴾ أي ليس لكم أيها الناسُ من غير الله ناصرٌ يمنعكم من عذابه، ولا شفيع يشفع لكم عنده إِلا بإِذنه، بل هو الذي يتولى مصالحكم ويدبر أموركم ﴿أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ﴾ ؟ أي أفلا تتدبرون هذا فتؤمنون؟ ﴿يُدَبِّرُ الأمر مِنَ السمآء إِلَى الأرض﴾ أي يدبّر أمر الخلائق جميعاً في العالم العلوي والسفلي، لا يُهمل شأن أحد قال ابن عباس: أي ينزل القضاء والقدر من السماء إِلى الأرض، ويُنزل ما دبره وقضاه ﴿ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ﴾ أي ثم يصعد إِليه ذلك الأمر كله يوم القيامة ليفصل فيه ﴿فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ﴾ أي في يومٍ عظيم - هو يوم القيامة - طوله ألف سنة من أيام الدنيا لشدة أهواله ﴿ذلك عَالِمُ الغيب والشهادة﴾ أي ذلك المدبر لأمور الخلق هو العالم بكل شيء، يعلم ما هو غائب عن المخلوقين، وما هو مشاهد لهم قال القرطبي: وفي الآية معنى التهديد والوعيد، كأنه يقول: أخلصوا أعمالكم وأقوالكم فإِني مجازيكم عليها، ومعنى «الغيب والشهادة» ما غاب عن الخلق وما حضرهم ﴿العزيز الرحيم﴾ أي الغالب على أمره، الرحيم بعباده في تدبيره لشئونهم ﴿الذي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ﴾ أي أتقن وأحكم كل شيءٍ أوجده وخلقه قال أبو حيان: وهذا أبلغ في الامتنان ومعناه أنه وضع كل شيء في موضعه، ولهذا قال ابن عباس: ليست القردة بحسنة، ولكنها متقنةٌ محكمة قال بعض العلماء: لو تصورتَ مثلاً أن للفيل مثل رأس الجمل، وأنَّ للأرنب مثل رأس الأسد، وأنَّ للإِنسان مثل رأسِ الحمار، لوجدت في ذلك نقصاً كبيراً، وعدم تناسب وانسجام، ولكنك إِذا علمت أن طول عنق الجمل، وشقَّ شفته ليسهل تناوله الكلأ عليه أثناء السير، وأن الفيل لولا خرطومه الطويل لما استطاع أن يبرك بجسمه الكبير لتناول طعامه وشرابه، لو علمتَ كل هذا لتيقنتَ أنه صنع الله الذي أتقن كل شيء، ولقلت: تبارك الله أحسن الخالقين.
﴿وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسان مِن طِينٍ﴾ أي خلق أبا البشر آدم من طين ﴿ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ﴾ أي جعل ذريته يتناسلون من خلاصة من ماءٍ ضعيف حقير هو المنيُّ ﴿ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ﴾ أي قوَّم أعضاءه، وعدَّل خلقته في رحم أُمه، ونفخ بعد ذلك فيه الروح، فإِذا هو في أكمل صورةٍ وأحسن تقويم قال أبو السعود: وأضاف الروح إِليه تعالى تشريفاً للإنسان، وإِيذاناً بأنه خلقٌ
461
عجيب، وصنعٌ بديع، وأن شأناً جليلةً مناسبةً إِلى حضرة الربوبية ﴿وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة﴾ أي وخلق لكم هذه الحواس: السمع لتسمعوا به الأصوات، والبصر لتبصروا به الأشخاص، والعقل لتدركوا به الحق والهدى ﴿قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ﴾ أي قليلاً شكركم لربكم و ﴿مَّا﴾ لتأكيد القلة ﴿وقالوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرض﴾ أي وقال كفار مكة المنكرون للبعث والنشور: أئذا هلكنا وصارت عظامنا ولحومنا تراباً مختلطاً بتراب الأرض حتى غابت فيه ولم تتميز عنه ﴿أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ أي سوف نخلق بعد ذلك خلقاً جديداً، ونعود إِلى الحياة مرةً ثانية؟ وهو استبعادٌ للبعث مع الاستهزاء ولهذا قال تعالى ﴿بَلْ هُم بِلَقَآءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ﴾ أي بل هناك ما هو أبلغ وأشنع من الاستهزاء، وهو كفرهم وجحودهم بلقاء الله في دار الجزاء ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الموت الذي وُكِّلَ بِكُمْ﴾ أي قل لهم رداً على مزاعمهم الباطلة: يتوفاكم ملك الموت الذي وكّل بقبض أرواحكم هو وأعوانه ﴿ثُمَّ إلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ﴾ أي ثم مرجعكم إِلى الله يوم القيامة للحساب والجزاء قال ابن كثير: والظاهر أنَّ ملك الموت شخص معين، وقد سُمي في بعض الآثار ب «عزرائيل» وهو المشهور، وله أعوان - كما ورد في الحديث - ينتزعون الأرواح من سائر الجسد، حتى إِذا بلغت الحلقوم تناولها ملك الموت وقال مجاهد: جُمِعت له الأرض فجعلت مثل الطست يتناول منها حيث يشاء، ثم أخبر تعالى بحال المجرمين يوم القيامة وما لهم فيه من الذل والهوان فقال ﴿وَلَوْ ترى إِذِ المجرمون نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ﴾ أي ولو ترى أيها المخاطب حال المجرمين يوم القيامة وهم مطرقو رءوسهم أمام ربهم من الخجل والحياء لرأيت العجب العجاب قال أبو السعود: وجواب ﴿لَوْ﴾ محذوفٌ تقديره لرأيت أمراً فظيعاً لا يُقادر قدره من هوله وفظاعته ﴿رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا﴾ أي يقولون ربنا أبصرنا حقيقة الأمر وسمعنا ما كنا ننكر من أمر الرسل، وكنا عُمياً وصماً ﴿فارجعنا نَعْمَلْ صَالِحاً﴾ أي فردنا إِلى دار الدنيا لنعمل صالحاً ﴿إِنَّا مُوقِنُونَ﴾ أي فنحن الآن مصدّقون تصديقاً جازماً، وموقنون أن وعدك حق، ولقاءك حق قال الطبري: أي فنحن الآن بوحدانيتك، وأنه لا يصلح أن يُعبد سواك، ولا ينبغي أن يكون رب سواك، وأنك تحيي وتميت وتفعل ما تشاء، قال تعالى رداً عليهم ﴿وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا﴾ أي لو أردنا هداية جميع الخلق لفعلنا ولكنَّ ذلك ينافي حكمتنا، لأنا نريد منهم الإِيمان بطريق الاختيار، لا بطريق الإِكراه والإِجبار ﴿ولكن حَقَّ القول مِنِّي﴾ أي ولكن ثبت ووجب قولي بعذاب المجرمين، وتقرر وعيدي ﴿لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ﴾ أي لأملأنَّ جهنم بالعصاة من الجِنّ والإِنس جميعاً ﴿فَذُوقُواْ بِمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هاذآ﴾ أي يقال لأهل النار على سبيل التقريع والتوبيخ: ذوقوا - بسبب نسيانكم الدار الآخرة وانهماككم في الشهوات - هذا العذاب المخزي الأليم ﴿إِنَّا نَسِينَاكُمْ﴾ أي نترككم اليوم في العذاب كما تركتم العمل بآياتنا ﴿وَذُوقُواْ عَذَابَ الخلد بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ أي وذوقوا العذاب الدائم الخالد في جهنم بسبب كفركم وتكذيبكم، ثم لما ذكر حال الأشقياء وعاقبتهم الوخيمة، أبتعه بذكر حال السعداء وما أعدَّه
462
لهم من النعيم المقيم في دار الجزاء، ليظل العبد بين الرهبة والرغبة فقال ﴿إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الذين إِذَا ذُكِّرُواْ بِهَا خَرُّواْ سُجَّداً﴾ أي إِنما يصدّق بآياتنا المؤمنون المتقون الذين إِذا وعظوا بآياتنا سقطوا على وجوههم ساجدين لله تعظيماً لآياته ﴿وَسَبَّحُواْ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ﴾ أي وسبحوا ربهم على نعمائه وهم لا يستكبرون عن طاعته وعبادته ﴿تتجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ المضاجع﴾ أي تتنحى وتتباعد أطرافهم عن الفرش ومواشع النوم، والغرض أن نومهم بالليل قليل لانقطاعهم للعبادة كقوله
﴿كَانُواْ قَلِيلاً مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ [الذاريات: ١٧ - ١٨] قال مجاهد: يعني بذلك قيام الليل ﴿يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً﴾ أي يدعون ربهم خوفاً من عذابه وطمعاً في رحمته وثوابه ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾ أي ومما أعطيناهم من الرزق ينفقون في وجوه البر والحسنات ﴿فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ﴾ أي فلا يعلم أحد من الخلق مقدار ما يعطيهم الله من النعيم، مما لا عينٌ رأتْ، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر ﴿جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ أي ثواباً لما قدموه في الدنيا من صالح الأعمال.
463
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى حال المجرمين في الآخرة، وحال المؤمنين المتقين، وما أعدَّه لهم من الكرامة في دار النعيم، ذكر هنا أنه لا يتساوى الفريقان: فريق الأبرار، وفريق الفجار لأن عدالة الله تقتضي التمييز بين المؤمن الصالح، والفاسق الفاجر.
اللغَة: ﴿فَاسِقاً﴾ الفاسقُ: الخارج عن طاعة الله ﴿نُزُلاً﴾ ضيافةً وعطاءً، والنُّزل ما يهُيأ للنازل والضيف قال الشاعر:
463
﴿الجرز﴾ اليابسة الجرداء التي لا نبات فيها، والجرزُ: القطع قال الزمخشري: الجرُز: الأرضُ التي جرز نباتها أي قطع، إِمّا لعدم الماء أو لأنه رُعي وأُزيل، ولا يقال للتي لا تنبتُ كالسباخ جُرز ﴿الفتح﴾ الحاكم ويقال للحاكم: فاتح وفتاح لأنه يفصل بين الناس بحكمه ﴿يُنظَرُونَ﴾ يمهلون ويؤخرون.
سَبَبُ النّزول: روي أنه كان بين «علي بن أبي طالب» و «عُقبة بن أبي مُعيط» تنازع وخصومة، فقال الوليد بن عُقبة لعلي: أُسكت فإِنك صبيٌ، وأنا والله أبسط منك لساناً، وأشجع منك جناناً، وأملأ منك حشواً في الكتيبة، فقال له علي: اسكتْ فإِنك فاسق فنزلت ﴿أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاَّ يَسْتَوُونَ﴾.
التفسِير: ﴿أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً﴾ ؟ أي أفمن كان في الحياة الدنيا مؤمناً متقياً لل، كمن كان فاسقاً خارجاً عن طاعة الله؟ ﴿لاَّ يَسْتَوُونَ﴾ أي لا يستوون في الآخرة بالثواب والكرامة، كما لم يستووا في الدنيا بالطاعة والعبادة، وهذه الآية كقوله تعالى ﴿أَفَنَجْعَلُ المسلمين كالمجرمين﴾ [القلم: ٣٥] ؟ قال ابن كثير: يخبر تعالى عن عدله وكرمه، أنه لا يساوي في حكمه يوم القيامة، من كان مؤمناً بآياته متبعاً لرسله، بمن كان فاسقاً أي خارجاً عن طاعة ربه، مكذباً رسل الله، ثم فصَّل تعالى جزاء الفريقين فقال ﴿أَمَّا الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات﴾ أي أما المتقون الذين جمعوا بين الإِيمان والعمل الصالح ﴿فَلَهُمْ جَنَّاتُ المأوى﴾ أي لهم الجنات التي فيها المساكن والدور والغرف العالية يأوون إِليها ويستمتعون بها قال البيضاوي: فالجنة هي المأوى الحقيقي، والدنيا منزل مرتحلٌ عنه لا محالة ﴿نُزُلاً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ أي ضيافةً مهيأةً ومعدةً لإِكرامهم كما تهيأ التُحف للضيف وذلك بسبب ما قدموه من صالح الأعمال ﴿وَأَمَّا الذين فَسَقُواْ فَمَأْوَاهُمُ النار﴾ أي وأمّأ الذين خرجوا عن طاعة الله فملجؤهم ومنزلهم نار جهنم ﴿كُلَّمَآ أرادوا أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَآ أُعِيدُواْ فِيهَا﴾ أي إِذا دفعهم لهب النار إِلى أعلاها ردُّوا إِلى موضعهم فيها قال الفُضيل بن عياض: والله إِن الأيدي لموثقة، وإِنَّ الأرجل لمقيَّدة، وإِنَّ اللهب ليرفعهم والملائكة تقمعهم ﴿وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُواْ عَذَابَ النار الذي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ﴾ أي وتقول لهم خزنة جهنم تقريعاً وتوبيخاً: ذوقوا عذاب النار المخزي الذي كنتم تكذبون به في الدنيا وتهزءون منه، ثم توعدهم بعذاب عاجلٍ في الدنيا فقال ﴿وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِّنَ العذاب الأدنى﴾ أي ولنذيقنَّهم من العذاب الأقرب وهو عذاب الدنيا من القتل والأسر والبلايا والمحن قال الحسن: العذاب الأدنى: مصائب الدنيا وأسقامها مما يُبتلى به العبيد حتى يتوبوا وقال أبو مجاهد: القتل والجوع ﴿دُونَ العذاب الأكبر﴾ أي قبل العذاب الأكبر الذي ينتظرهم وهو عذاب الآخرة ﴿لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ أي لعلهم يتوبون عن الكفر والمعاصي، ثُم بعد أن توعدهم وهددهم بيَّن استحقاقهم للعذاب فقال ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَآ﴾ أي لا أحد أظلم لنفسه
464
ممَّن وعظ وذكر بآيات الرحمن، ثم ترك الإِيمان وتناساها؟ ﴿إِنَّا مِنَ المجرمين مُنتَقِمُونَ﴾ أي سأنتقم ممن كذَّب بآياتي أشدَّ الانتقام، ووضع الاسم الظاهر مكان الضمير لتسجيل الإِجرام عليهم ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب﴾ أي أعطينا موسى التوراة ﴿فَلاَ تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآئِهِ﴾ أي فلا تكن يا محمد في شكٍ من تلقي القرآن كما تلقَّى موسى التوراة، والمقصود تقرير رسالته عليه السلام، وتحقيق أن ما معه من الكتاب وحيٌ سماويٌ وكتابٌ إِلهي ﴿وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لبني إِسْرَائِيلَ﴾ أي جعلنا التوراة هدايةً لبني إِسرائيل من الضلالة ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً﴾ أي جعلا منهم قادةً وقدوة يقتدى بهم في الخير ﴿يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا﴾ أي يدعون الخلق إِلى طاعتنا ويرشدونهم إِلى الدين بأمرنا وتكليفنا ﴿لَمَّا صَبَرُواْ وَكَانُواْ بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾ أي حين صبروا على تحمل المشاق في سبيل الله، وكانوا يصدقون بآياتنا أشد التصديق وأبلغه قال ابن الجوزي: وفي هذا تنبيه لقريش أنكم إن أطعتم وآمنتم جعلت منكم أئمة ﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ أي إِن ربك يا محمد يقضي ويحكم بين المؤمنين والكفار، فيميز بين المحقِّ والمبطل يوم القيامة، ويجازي كلاً بما يستحق، فيما اختلفوا فيه من أمور الدين قال الطبري: فيما كانوا فيه يختلفون من أمور الدين، والبعث، والثواب والعقاب، ثم بنه تعالى على آثار قدرته في مخلوقاته، وأقام الحجة على الكفار بالأمم السالفة الذين كفروا فأُهلكوا فقال ﴿أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ القرون﴾ أي أغفل هؤلاء المشركون ولم يتبيَّن لهم كثرة من أهلكناهم من الأمم الماضية الذين كذبوا رسل الله؟ ﴿يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ﴾ أي حال كون أهل مكة يسيرون في دورهم، ويشاهدون في أسفارهم منازل هؤلاء المهلكين أفلا يعتبرون؟ قال ابن كثير: أي وهؤلاء المكذبون يمشون في مساكن أولئك الظالمين، فلا يرون فيها أحداً ممن كان يسكنها ويعمرها ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ أَفَلاَ يَسْمَعُونَ﴾ أي إِن في إِهلاكهم لدلالات عظيمة على قدرتنا، أفلا يسمعون سماع تدبر واتعاظ؟ ثم ذكر تعالى دلائل الوحدانية فقال ﴿أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَسُوقُ المآء إِلَى الأرض الجرز﴾ أي أولم يشاهدوا كمال قدرتنا في سوقنا الماء إِلى الأرض اليابسة التي لا نبات فيها من شدة العطش لنحييها؟ ﴿فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ﴾ أي فنخرج بذلك الماء أنواع الزروع والثمار، تأكل منه دوابهم من الكلأ والحشيش، وأنفسهم من الحب والخضر والفواكه والبقول ﴿أَفَلاَ يُبْصِرُونَ﴾ أي أفلا يبصرون ذلك فيستدلون به على كمال قدرته تعالى وفضله، ويعلمون أن الذي أحيا الأرض الميتة قادر على إِعادتهم بعد وفاتهم؟ ﴿وَيَقُولُونَ متى هذا الفتح إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ أي ويقول كفار مكة للمسلمين على سبيل السخرية والتهكم: متى ستنصرون علينا ويكون لكم الغلبة والفتح علينا؟ إٍن كنتم صادقين في دعواكم قال الصاوي: كان المسلمون إٍن الله سيفتح لنا على المشركين، ويفصل بيننا وبينهم، وكان أهل مكة إِذا سمعوهم يقولون بطريق الاستعجال تكذيباً واستهزاءً: متى هذا الفتح فنزلت {قُلْ يَوْمَ
465
الفتح لاَ يَنفَعُ الذين كفروا إِيَمَانُهُمْ} أي قل لهم يا محمد توبيخاً وتبكيتاً: إِن يوم القيامة هو يوم الفتح الحقيقي الذي يفصل تعالى فيه بيننا وبينكم، ولا ينفع فيه الإِيمان ولا الاعتذار فلماذا تستعجلون؟ ﴿وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ﴾ أي ولا هم يؤخرون ويمهلون للتوبة قال البيضاوي: ويوم الفتح هو يوم القيامة فإِنه يوم نصر المؤمنين على الكافرين والفصل بينهم، وقيل هو يوم بدر ﴿فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ﴾ أي فأعرضْ يا محمد عن هؤلاء الكفار ولا تبالِ بهم ﴿وانتظر إِنَّهُمْ مُّنتَظِرُونَ﴾ أي وانتظر ما يحل بهم من عذاب الله، إِنهم منتظرون كذلك ما يحل بكم قال القرطبي: أي ينتظرون بكم حوادث الزمان.
البَلاَغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
١ - جناس الاشتقاق مثل ﴿تُنذِرَ.. ونَّذِيرٍ﴾ وكذلك مثل ﴿انتظر.. إِنَّهُمْ مُّنتَظِرُونَ﴾.
٢ - الطباق بين ﴿الغيب.. والشهادة﴾ وبين ﴿خَوْفاً.. وَطَمَعاً﴾.
٣ - الالتفات من الغيبة إِلى الخطاب ﴿وَجَعَلَ لَكُمُ﴾ والأصل «وجعل له» والنكتة أن الخطاب إِنما يكون مع الحيّ فلما نفخ تعالى الروح فيه حسن خطابه مع ذريته.
٤ - الاستفهام الإِنكاري وغرضه الاستهزاء ﴿أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرض أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ ؟
٥ - الإِضمار ﴿رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا﴾ أي يقولون ربنا أبصرنا وسمعنا.
٦ - الاختصاص ﴿ثُمَّ إلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ﴾ أي إِليه لا إِلى غيره مرجعكم يوم القيامة.
٧ - حذف جواب لو للتهويل ﴿وَلَوْ ترى إِذِ المجرمون نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمْ﴾ أي لرأيت أمراً مهولاً.
٨ - المشاكلة وهي الاتفاق في اللفظ مع الاختلاف في المعنى ﴿نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ.. إِنَّا نَسِينَاكُمْ﴾ فإِن الله تعالى لا ينسى وإِنما المراد نترككم في العذاب ترك الشيء المنسي.
٩ - المقابلة اللطيفة بين جزاء الأبرار وجزاء الفجار ﴿أَمَّا الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فَلَهُمْ جَنَّاتُ المأوى..﴾ ﴿وَأَمَّا الذين فَسَقُواْ فَمَأْوَاهُمُ النار﴾ وهو من المحسنات البديعية.
١٠ - الكناية عن كثرة العبادة والتبتل ليلاً ﴿تتجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ المضاجع﴾.
١١ - الاستفهام للتقريع والتوبيخ ﴿أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ﴾ ؟ ﴿أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَسُوقُ المآء﴾ ؟ ﴿أَفَلاَ يَسْمَعُونَ﴾ ؟ ﴿أَفَلاَ يُبْصِرُونَ﴾ وكلها بقصد الزجر والتوبيخ.
١٢ - السجع مراعاةً للفواصل ورءوس الآيات مثل ﴿إِنَّا مُوقِنُونَ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ أَفَلاَ يَسْمَعُونَ﴾ وهذا من المحسنات البديعية وهو كثير في القرآن الكريم.
466
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2024
Icon
وكنا إِذا الجبار بالجيش ضافنا جعلنا القنا والمرهفات له نزلاً