تفسير سورة القصص

صفوة التفاسير
تفسير سورة سورة القصص من كتاب صفوة التفاسير المعروف بـصفوة التفاسير .
لمؤلفه محمد علي الصابوني .

اللغَة: ﴿شِيَعاً﴾ فِرقاً وأصنافاً ﴿يَسْتَحْيِي﴾ يتركه حيّاً ولا يقتله ﴿نَّمُنَّ﴾ نتفضل وننعم ﴿اليم﴾ البحر ﴿فَارِغاً﴾ خالياً ﴿المراضع﴾ جمع مُرضِع، وأما المرضعة فجمعها مرضعات وهي التي ترضع الطفل اللبن ﴿عَن جُنُبٍ﴾ عن بعد ومنه الأجنبي للبعيد غير القريب ﴿وَكَزَهُ﴾ الوكز: الضرب بجُمْع الكف أي بكفه مجموعةً قال أهل اللغة: الوكزُ واللكز كلاهما بمعنى واحد وهو الضرب بجمع
389
الكفّ على الصدر، وقيل: الوكز في الصدر، واللكزُ في الظهر، وجمع الكف: الكف المقوضةُ الأصابع ﴿ظَهِيراً﴾ عوناً ﴿يَسْتَصْرِخُهُ﴾ يستغيثه والاستصراخ الاستغاثة وهو من الصراخ لأن المستغيث يصرخ ويرفع صوته طلباً للغوث قال الشاعر:
كنا إذا ما أتانا صارخ فرعٌ كان الصراخ له قرع الظنابيب
﴿يَبْطِشَ﴾ البطش: الأخذ بالشدة والعنف، بطش ويبطش ويبطش بالكسر والضم.
التفسِير: ﴿طسم﴾ الحروف المقطعة للتنبيه على إعجاز القرآن الكريم، والإِشارة إلى أن هذا الكتاب المعجز في فصاحته وبيانه مركبٌ من أمثال هذه الحروف الهجائية ﴿تِلْكَ آيَاتُ الكتاب المبين﴾ أي هذه آيات القرآن الواضح الجلي، الظاهر في إعجازه، الواضح في تشريعه وأحكامه ﴿نَتْلُواْ عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ موسى وَفِرْعَوْنَ بالحق﴾ أي نقرأ عليك يا محمد بواسطةالروح الأمين من الأخبار الهامة عن موسى وفرعون من الحق الذي لا يأتيه الباطل، والصدق الذي لا ريب فيه ولا كذب ﴿لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ أي لقومٍيصدقون بالقرآن فينتفعون.. ثم بدأ بذكر قصة فرعون الطاغية فقال ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأرض﴾ أي استكبر وتجبَّر، وجاوز الحد في الطغيان في أرض مصر ﴿وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً﴾ أيجعل أهلها فرقاً وأصنافاً في استخدامه وطاعته ﴿يَسْتَضْعِفُ طَآئِفَةً مِّنْهُمْ﴾ أي يستعبد ويستذل فريقاً منهم وهم بنوا إسرائيل فيسومهم سوء العذاب ﴿يُذَبِّحُ أَبْنَآءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ﴾ أي يقتّل أبناءهم الذكور ويترك الإِناث على قيد الحياة لخدمته وخدمة الأقباط قال المفسرون: سبب تقتيله الذكور أن فرعون رأى في منامه أن ناراً عظيمةً أقبلت من بيت المقدس وجاءت إلى أرض مصر فأحرقت القبط دون بني إسرائيل، فسأل عن ذلك المنجمين والكهنة، فقالوا له: إن مولوداً يولد في بني إسرائيل، يذهب ملكك على يديه، ويكون هلاكك بسببه فأمر أن يقتل كل ذكر من أولاد بني إسرائيل ﴿إِنَّهُ كَانَ مِنَ المفسدين﴾ أي من الراسخين في الفساد، المتجبرين في الأرض، ولذلك ادعى الربوبية وأمعن في القتل وإذلال العباد ﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الذين استضعفوا فِي الأرض﴾ أي ونريد برحمتنا أن نتفضل وننعم على المستضعفين من بني إسرائيل فننجيهم من بأس فرعون وطغيانه ﴿وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً﴾ أي ونجعلهم أئمة يقتدى بهم في الخير بعد أن كانوا أذلاء مسخرين قال ابن عباس: ﴿أَئِمَّةً﴾ قادة في الخير، وقال قتادة: ولاةً وملوكاً ﴿وَنَجْعَلَهُمُ الوارثين﴾ أي ونجعل هؤلاء الضعفاء وارثين لملك فرعون وقومه، يرثون ملكهم ويسكنون مساكنهم بعد أن كان القبط أسياد مصر وأعزتها ﴿وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأرض﴾ أي ونملكهم بلاد مصر والشام يتصرفون فيها كيف يشاءون قال البيضاوي: أصل التمكين أن تجعل للشيء مكاناً يتمكن فيه ثم استعيد للتسليط وإطلاق الأمر ﴿وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَحْذَرُونَ﴾ أي ونري فرعون الطاغية، ووزيره «هامان» والأقباط من أولئك المستضعفين ما كانوا يخافونه من ذهاب ملكهم وهلاكهم على يد مولودٍ من بني إسرائيل {وَأَوْحَيْنَآ
390
إلى أُمِّ موسى أَنْ أَرْضِعِيهِ} أي قذفنا في قلبها بواسطة الإِلهام قال ابن عباس: هو وحيُ إلهام وقال مقاتل: أخبرها جبريل بذلك قال القرطبي: فعلى قول مقاتل هو وحيُ إعلام لا إلهام، وأجمع الكل على أنها لم تكن نبية، وإنما إرسال الملك إليها على نحو تكليم الملك للأقرع والأبرص والأعمى كما في الحديث المشهور، وكذلك تكليم الملائكة للناس من غير نبوة، وقد سلَّمت على «عمران بن حصين» فلم يكن نبياً ﴿فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليم﴾ أي فإذا خفت عليه من فرعون فاجعليه في صندوق وألقيه في البحر - بحر النيل - ﴿وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تحزني﴾ أي لا تخافي عليه الهلاك ولا تحزني لفراقه ﴿إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المرسلين﴾ أي فإنا سنرده إليك ونجعله رسولاً نرسله إلى هذا الطاغية لننجّي بني إسرائيل على يديه ﴿فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً﴾ أي فأخذه وأصابه أعوان فرعون لتكون عاقبة الأمر أن يصبح لهم عدواً ومصدر حزن وبلاءٍ وهلاك قال القرطبي: اللام في «ليكون» لا العاقبة ولام الصيرورة، لأنهم إنما أخذوه ليكون لهم قرة عين، فكان عاقبة ذلك أن صال لهم عدواً وحزناً، فذكر الحال بالمآل كما قال الشاعر:
وللمنايا تُربِّي كلُّ مرضعةٍ ودورُنا لخراب الدهر نبْنيها
﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُواْ خَاطِئِينَ﴾ أي كانوا عاصين مشركين آثمين، قال العلماء: الخاطئ من تعمد الذنب والإِثم، والمخطئ من فعل الذنب عن غير تعمد ﴿وَقَالَتِ امرأة فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ﴾ أي قالت زوجة فرعون لفرعون: هذا الغلام فرحة ومسرة لي ولك لعلنا نسر به فيكون قرة عين لنا قال الطبري: ذكر أن المرأة لما قالت هذا القول لفرعون قال لها: أمَّا لك فنعم، وأما لي فليس بقرة عين، وقال ابن عباس: لو قال قرة عين لي لهداه الله به ولآمن ولكنه أبى ﴿لاَ تَقْتُلُوهُ﴾ أي لا تقتله يا فرعون، خاطبته بلفظ الجمع كما يُخاطب الجبارون تعظيماً له ليساعدها فيما تريد ﴿عسى أَن يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً﴾ عسى أن ينفعنا في الكبر، أو نتبناه فنجعله لنا ولداً تقَرُّ به عيوننا قال المفسرون: وكانت لا تلد فاستوهبت موسى من فرعون فوهبه لها قال تعالى ﴿وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ﴾ أي وهم لا يشعرون أن هلاك فرعون وزبانيه سيكون على يديه وبسببه ﴿وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ موسى فَارِغاً﴾ أي صار قلبها خاليا ً من ذكر كل شيء في الدنيا إلا من ذكر موسى، وقيل المعنى: طار عقلها من فرط الجزع والغم حين سمعت بوقوعه في يد فرعون ﴿إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ﴾ أي إنها كادت ان تشف أمره وتظهر أنه ابنها من شدة الوجد والحزن قال ابن عباس: كادت تصيح واإبناه، وذلك حين سمعت بوقوعه في يد فرعون ﴿لولا أَن رَّبَطْنَا على قَلْبِهَا﴾ أي لولا أن ثبتناها وألهمناها الصبر ﴿لِتَكُونَ مِنَ المؤمنين﴾ أي لتكون من المصدقين بوعد الله برده عليها ﴿وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ﴾ أي قالت أم موسى لأخت موسى: إتبعي أثره حتى تعلمي خبره قال مجاهد: قصي أثره وانظري ماذا يفعلون به؟ ﴿فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ﴾ أي فأبصرته عن بعد وهم لا يشعرون أنها أخته،
391
لأنها كانت تمشي على ساحل البحر حتى وصل الصندوق إلى بيت فرعون وهي ترقبه مستخفيةً عنهم ﴿وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ المراضع مِن قَبْلُ﴾ أي ومنعنا موسى أن يقبل ثدي اي مرضعة من المرضعات اللاتي أحضروهن لإِرضاعه من قبل مجيء أُمه قال المفسرون: بقي أياماً كلما أُتي بمرضع لم يقبل ثديها، فأهمهم ذلك واشتد عليهم الأمر فخرجوا به يبحثون له عن مرضعة خارج القصر فرأوا أخته ﴿فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ على أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ﴾ أي هل أدلكم على مرضعة له تكفله وترعاه؟ ﴿وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ﴾ أي لا يقصرون في إرضاعه وتربيته قال السدي: فدلتهم على أم موسى فانطلقت إليها بأمرهم فجاءت بها، والصبي على يد فرعون يعلله شفقة عليه وهو يبكي يطلب الرضاع، فدفعه إليها فلما وجد ريح أُمه قبل ثديها، فقال فرعون: من أنت منه فقد أبى كل هديٍ إلا ثديك؟ فقالت: إني امرأة طيبة الريح، طيبة اللبن، لا أكاد أوتى بصبي إلا قبلني فدفعه إليها، فرجعت إلى بيتها من يومها ولم يبق أحدٌ من آل فرعون إلا أهدى إليها وأتحفها بالهدايا والجواهر فذلك قوله تعالى ﴿فَرَدَدْنَاهُ إلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلاَ تَحْزَنَ﴾ أي أعدناه إليها تحقيقاً للوعد كي تسعد وتهنأ بلقائه ولا تحزن على فراقه ﴿وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ﴾ أي ولتتحقق من صدق وعد الله برده عليها وحفظه من شر فرعون ﴿ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ أي ولكن أَكثر الناس يرتابون ويشكون في وعد الله القاطع ﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ واستوى﴾ أي ولما بلغ كمال الرشد، ونهاية القوة، وتمام العقل والاعتدال قال مجاهد: هو سنُّ الأربعين ﴿آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً﴾ أي أعطيناه الفهم والعلم والتفقه في الدين مع النبُوَّة ﴿وَكَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين﴾ أي مثل هذا الجزاء الكريم نجازي المحسنين على إحسانهم ﴿وَدَخَلَ المدينة على حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا﴾ أي دخل مصر وقت الظهيرة والناس يخلدون للراحة عند القيلولة ﴿فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ هذا مِن شِيعَتِهِ وهذا مِنْ عَدُوِّهِ﴾ أي فوجد شخصين يتقاتلان: أحدهما من بني إسرائيل من جماعة موسى، والآخر قبطي من جماعة فرعون ﴿فاستغاثه الذي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الذي مِنْ عَدُوِّهِ﴾ أي فاستنجد الإِسرائيلي بموسى وطلب غوثه ليدفع عنه شر القبطي ﴿فَوَكَزَهُ موسى فقضى عَلَيْهِ﴾ أي ضربه موسى بجمع كفه فقتله، قال القرطبي: فعل موسى ذلك وهو لا يريد قتله إنما قصد دفعه فكانت فيه نفسه وكانت القاضية ﴿قَالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشيطان﴾ أي هذا من إغواء الشيطان فهو الذي هيَّج غضبي حتى ضربت هذا ﴿إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ﴾ أي إن الشيطان عدوٌ لابن آدم على فعله ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فاغفر لِي﴾ أي إني ظلمت نفسي بقتل النفس فاعف عني ولا تؤاخذني بخطيئتي ﴿فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم﴾ أي إنه تعالى المبالغ في المغفرة للعباد، الواسع الرحمة لهم ﴿قَالَ رَبِّ بِمَآ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِّلْمُجْرِمِينَ﴾ أي بسبب إنعامك عليَّ بالقوة وبحق ما أكرمتني به من الجاه والعز، فلن أكون عوناً لأحد من المجرمين، وهذه معاهدة عاهد
392
موسى ربه عليها وقيل: هو قسم وهو ضعيف ﴿فَأَصْبَحَ فِي المدينة خَآئِفاً يَتَرَقَّبُ﴾ أي فأصبح موسى في المدينة التي قتل فيها القبطي خائفاً على نفسه يتوقع وينتظر المكروه، ويخاف أن يؤخذ بجريرته ﴿فَإِذَا الذي استنصره بالأمس يَسْتَصْرِخُهُ﴾ أي فإذا صاحبه الإِسرائيلي الذي خلَّصه بالأمس يقاتل قبطياً آخر فلما رأى موسى أخذ يصيح به مستغيثاً لينصره من عدوه ﴿قَالَ لَهُ موسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ﴾ أي قال موسى للإِسرائيلي: إنك لبيَّنُ الغواية والضلال، فإني وقعت بالأمس فيما وقعت فيه من قتل رجلٍ بسببك وتريد أن توقعني اليوم في ورطةٍ أخرى؟ ﴿فَلَمَّآ أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بالذي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا﴾ أي فحين أراد موسى أن يبطش بذلك القبطي الذي هو عدوٌ له وللإِسرائيلي ﴿قَالَ ياموسى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بالأمس﴾ أي قال القبطي: أتريد قتلي كما قتلت غيري بالأمس؟ ﴿إِن تُرِيدُ إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِي الأرض﴾ أي ما تريد يا موسى إلا أن تكون من الجبابرة المفسدين في الأرض ﴿وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ المصلحين﴾ أي وما تريد أن تكون من الذين يصلحون بين الناس.
البَلاَغَة: تضمنت الآيات من وجوه البيان والبديع ما يلي:
١ - الإِشارة بالبعيد عن القريب لبعد مرتبته في الكمال ﴿تِلْكَ آيَاتُ الكتاب المبين﴾.
٢ - حكاية الحالة الماضية ﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ﴾ لاستحضار تلك الصورة في الذهن.
٣ - إيثارالجملة الإِسمية على الفعلية ﴿إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المرسلين﴾ ولم يقل سنرده ونجعله رسولاً وذلك للاعتناء بالبشارة لأن الجملة الإِسمية تفيد الثبوت والإِستمرار.
٤ - الاستعارة ﴿لولا أَن رَّبَطْنَا على قَلْبِهَا﴾ شبه ما قذف الله في قلبها من الصبر بربط الشيء المنفلت خشية الضياع واستعار لفظ الربط للصبر.
٥ - صيغة التعظيم ﴿لاَ تَقْتُلُوهُ﴾ تخاطب فرعون ولم تقل لا تقتله تعظيماً له.
٦ - صيغة المبالغة ﴿جَبَّار، غَوِيٌّ، مُّبِينٌ﴾ لأن فعال وفعيل من صيغ المبالغة.
٧ - الطباق المعنوي ﴿جَبَّاراً.. وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ المصلحين﴾ لأن الجبار المفسد المخرّب، المكثر للقتل وسفك الدماء ففيه طباق في المعنى.
٨ - الاستعطاف ﴿رَبِّ بِمَآ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِّلْمُجْرِمِينَ﴾.
٩ - توافق الفواصل في كثير من الآيات مثل ﴿وَهُمْ لاَ يَشْعُرُون﴾ ﴿وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ﴾ ﴿ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ وهو من المحسنات البديعية.
لطيفَة: «حكى العلاَّمة القرطبي عن الأصمعي أنه قال سمعت جارية أعرابية تنشد:
أستغفر الله لذنبي كله قتلتُ إنساناً بغير حلِّه
مثل الغزال ناعماً في دله انتصف الليل ولم أُصلِّه
فقلت: قاتلك الله ما أفصحك؟ فقالت: ويحك أو يعد فصاحة مع قول الله عَزَّ وَجَلَّ {وَأَوْحَيْنَآ إلى أُمِّ موسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليم وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تحزني إِنَّا رَآدُّوهُ
393
إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المرسلين} فقد جمع في آية واحدة بين أمرين، ونهيين، وخبرين وبشارتين».
394
المنَاسَبَة: لا تزال الآيات تتحدث عن قصة موسى، وقد تناولت الآيات السابقة قصة ولادته وإرضاعه، وتربيته في بيت فرعون إلى أن شبَّ وبلغ سنَّ الرشد والكمال، ثم قتله للفرعوني، وتتحدث الآيات هنا عن هجرته إلى أرض مدين وتزوجه بابنة شعيب، ثم عودته إلى مصر، ونزول النبوة عليه، وهلاك فرعون على يديه.
اللغَة: ﴿يَأْتَمِرُونَ﴾ يتشاورون قال الأزهري: ائتمر القوم وتآمروا أي أمر بعضهم بعضاً ﴿تَذُودَانِ﴾ ذاد يذود إذا حبس ومنع، طرد قال الشاعر:
لقد سلبت عصاك بنو تميم فما تدري بأي عصى تذود
﴿خَطْبُكُمَا﴾ الخطب: الشأن قال رؤية: «يا عجباً ما خطبه وخطبي» ﴿الرعآء﴾ جمع راعٍ مثل صاحب وصحاب وهو الذي يرعى الغنم ﴿حِجَجٍ﴾ جمع حجة بكسر الحاء وهي السنة ﴿جَذْوَةٍ﴾ الجذوة: الجمرة الملتهبة ﴿رِدْءاً﴾ عوناً قال الجوهري: أرادأتُه أعنته، وكنتُ له ردءاً أي عوناً ﴿المقبوحين﴾ الهالكين المبعدين أو القبيحين في الصورة يقال: قَبَّحه إذا جعله قبيحاً.
التفسِير: ﴿وَجَآءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى المدينة يسعى﴾ أي وجاء رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه من أبعد أطراف المدينة يشتد ويسرع في مشيه قال ابن عباس: هذا الرجل هو مؤمن من آل فرعون ﴿قَالَ ياموسى إِنَّ الملأ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ﴾ أي قال له موسى: إن أشراف فرعون، ووجوه دولته يتشاورون فيك بقصد قتلك ﴿فاخرج إِنِّي لَكَ مِنَ الناصحين﴾ أي فاخرج قبل أن يدركوك فأنا ناصحٌ لك من الناصحين ﴿فَخَرَجَ مِنْهَا خَآئِفاً يَتَرَقَّبُ﴾ أي فخرج من مصر خائفاً على نفسه يترقب وينتظر الطلب أن يدركه فيأخذه، ثم التجأ إلى الله سبحانه بالدعاء لعلمه بأنه لا ملجأ سواه ﴿قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ القوم الظالمين﴾ أي خلصني من الكافرين واحفظني من شرهم - والمراد بهم فرعون وملؤُه - ﴿وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَآءَ مَدْيَنَ﴾ أي قصد بوجهه ناحية مدين وهي بلدة شعيب عليه السلام ﴿قَالَ عسى ربي أَن يَهْدِيَنِي سَوَآءَ السبيل﴾ أي لعل الله يرشدني إلى الطريق السوي الذي يوصلني إلى مقصودي قال المفسرون: خرج خائفاً بغير زاد ولا ظهر - مركب - وكان بين مصر ومدين مسيرةُ ثمانية أيام، ولم يكن له علمٌ بالطريق سوى حسن ظنه بربه، فبعث الله إليه ملكاً فأرشده إلى الطريق، ويروى أنه لما وصل مدين كانت خضرةُ البقل تتراءى من بطنه من الهزال، لأنه كان في الطريق يتقوت ورق الشجر ﴿وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ الناس يَسْقُونَ﴾ أي ولما وصل إلى مدين بلدة شعيب وجد على البئر الذي يستقي منه الرعاة جمعاً كثيفاً من الناس يسقون مواشيهم ﴿وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امرأتين تَذُودَانِ﴾ أي ووجد سوى الجماعة الرعاة امرأتين تكفَّان غنمهما عن الماء {قَالَ مَا
395
خَطْبُكُمَا} ؟ أي ما شأنكما تمنعان الغنم عن ورود الماء؟ ولم لا تسقيان مع السقاة؟ ﴿قَالَتَا لاَ نَسْقِي حتى يُصْدِرَ الرعآء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ﴾ أي من عادتنا التأني حتى ينصرف الرعاةُ مع أغنامهم عن الماء، ولا طاقة لنا على مزاحمة الأقوياء، ولا نريد مخالطة الرجال، وأبونا رجل مُسنٌّ لا يستطيع لضعفه أن يباشر سقاية الغنم، ولذلك اضطررنا إلى أن نسقي بأنفسنا قال أبو حيان: فيه اعتذار لموسى عن مباشرتهما السقي بأنفسهما، وتنبيهٌ على ان اأباهما لا يقدر على السقي لشيخوخته وكبره، واستعطافٌ لموسى في إعانتهما ﴿فسقى لَهُمَا ثُمَّ تولى إِلَى الظل﴾ أي فسقى لهما غنمهما رحمة بهما، ثم تنحى جانباً فجلس تحت ظل شجرة ﴿فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾ أي إني يا ربّ محتاجٌ إلى فضلك وإحسانك، وإلى الطعام الذي أسُدُّ به جوعي، طلب من الله ما يأكله وكان قد اشتد عليه الجوع قال الضحاك: مكث سبعة أيام لم يذق فيها طعاماً إلا بقل الأرض وقال ابن عباس: سار موسى من مصر إلأى «مدين» ليس له طعام إلا البقل وورق الشجر، وكان حافياً فما وصل إلى مدين حتى سقطت نعل قدميه، وجلس في الظل - وهو صفوة الله من خلقه - وإن بطنه للاصقٌ بظهره من الجوع، وإن خضرة البقل لتُرى من داخل جوفه، وإنه لمحتاجٌ إلى شق تمره ﴿فَجَآءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى استحيآء﴾ في الكلام اختصار تقديره: فذهبنا إلى أبيهما سريعتين، وكان من عادتهما الإِبطاء فحدثتاه بما كان من أمر الرجل، فأمر إحداهما أن تدعوه له فجاءته تمشي.
. الخ أي جاءته حال كونها تمشي مشية الحرائر بحياء وخجل قد سترت وجهها بثوبها قال عمر: لم تكن بسلفع من النساء خرَّاجه ولاَّجه ﴿قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا﴾ أي إنَّ أبي يطلبك ليعوضك عن أجر السقاية لغنمنا قال ابن كثير: وهذا تأدبٌ في العبارة لم تطلبه طلباً مطلقاً لئلا يوهم ريبة ﴿فَلَمَّا جَآءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ القصص قَالَ لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ القوم الظالمين﴾ أي فلما جاءه موسى وذكر له ما كان من أمره وسبب هربه من مصر قال له شعيب: لا تخف فأنت في بلدٍ آمن لا سلطان لفرعون عليه وقد نجاك الله من كيد المجرمين ﴿قَالَتْ إِحْدَاهُمَا ياأبت استأجره﴾ أي استأجره لرعي أغنامنا وسقايتها ﴿إِنَّ خَيْرَ مَنِ استأجرت القوي الأمين﴾ أي إنَّ أفضل من تستأجره من كان قوياً أميناً قال أبو حيان: وقولها كلام حكيم جامع لأنه إذ اجتمعت الكفاية والأمانة في القائم بأمرٍ من الأمور فقد تمَّ المقصود، روي أن شعيباً قال لها: وما أعلمك بقوته وأمانته؟ فقالت: إنه رفع الصخرةالتي لا يطيق حملها إلا عشرة رجال، وإني لما جئتُ معه تقدمتُ أمامه فقال لي: كوني من ورائي ودليني على الطريق، ولما أتيته خفض بصره فلم ينظر إليَّ، فرغب شعيب في مصاهرته وتزيجه بإحدى بناته ﴿قَالَ إني أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابنتي هَاتَيْنِ﴾ أي إني أريد أن أزوجك إحدى بنتيَّ هاتين الصغرى أو الكبرى ﴿على أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ﴾ أي بشرط أن تكون أجيراً لي ثماني سنين ترعى فيها غنمي ﴿فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ﴾ أي فإن أكملتها عشر سنين فذلك تفضل منك، وليس بواجب عليك ﴿وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ﴾ أي وما أُريد أن أوقعك
396
في المشقة باشتراط العشر ﴿سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ أي ستجدني إن شاء الله حسن المعاملة، ليِّن الجانب، وفيأ بالعهد قال القرطبي: في الآية عرضُ الوليّ ابنته على الرجل، وهذه سُنة قائمة، عرض شعيب ابنته على موسى، وعرض عمر ابنته حفصة على أبي بكر وعثمان، وعرضت الموهوبة نفسها على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فمن الحُسْن عرض الرجل وليته على الرجل الصالح، اقتداءً بالسلف الصالح ﴿قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأجلين قَضَيْتُ فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ﴾ أي قال موسى: إنَّ ما قلته وعاهدتني عليه قائم بيننا جميعاً لا نخرج عنه، وأيَّ المدتين الثماني أو العشر أديتها لك فلا إثم ولا حرج عليَّ ﴿والله على مَا نَقُولُ وَكِيلٌ﴾ أي والله شاهد على ما تعاهدنا وتواثقنا عليه ﴿فَلَمَّا قضى مُوسَى الأجل﴾ أي فلما أتم موسى المدة التي اتفقا عليها قال ابن عباس: قضى أتم الأجلين وأكملهما وأوفاهما وهو عشر سنين ﴿وَسَارَ بِأَهْلِهِ﴾ أي ومشى بزوجته مسافراً بها إلى مصر ﴿آنَسَ مِن جَانِبِ الطور نَاراً﴾ أي أبصر من بعيد ناراً تتوهج من جانب جبل الطور ﴿قَالَ لأَهْلِهِ امكثوا إني آنَسْتُ نَاراً﴾ أي قال لزوجته امكثي هنا فقد أبصرت ناراص عن بعد قال لامفسرون: كانت ليلةً باردة وقد أضلوا الطريق، وهبَّت ريح شديدة فرقت ماشيته، وأخذ أهله لاطلق فعند ذلك أبصر ناراً بعيدة فسار إليها لعله يجد من يدله على لاطريق فذلك قوله تعالى ﴿لعلي آتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ﴾ أي لعلي آتيكم بخيبر الطريق وأرى من يدلني عليه ﴿أَوْ جَذْوَةٍ مِّنَ النار لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ﴾ أي أو آتيكم بشعلة من النار لعلكم تستدفئون بها ﴿فَلَمَّآ أَتَاهَا نُودِيَ مِن شَاطِىءِ الوادي الأيمن فِي البقعة المباركة مِنَ الشجرة﴾ أي فلما وصل إلى مكان النار لم يجدها ناراً وإنما وجدها نوراً، وجاءه النداء من جانب الوادي الأيمن في ذلك المكان المبارك من ناحية الشجرة ﴿أَن ياموسى إني أَنَا الله رَبُّ العالمين﴾ اي نودي يا موسى إأن الذي يخاطبك ويكلمك هو أنا الله العظيم الكبير، المنزه عن صفات النقص، ربُّ الإِنس والجن والخلائق أجمعين ﴿وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ﴾ أي ونودي بأن اطرح عصاك التي في يدك ﴿فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ ولى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ﴾ أي فألقاها فانقلبت إلى حيّة فلما رآها تتحرك كأنها ثعبان خفيف سريع الحركة انهزم هارباً منها ولم يلتفت إليها قال ابن كثير: انقلبت العصى إلى حية وكانت كأنها جانٌّ في حركتها السَريعة مع عِطِم خلقتها، واتساع فمها، واصطكاك أنيابها بحيث لا تمر بصخرة إلا ابتلعتها تنحدر في فمها تتقعقع كأنها حادرة في واد، فعند ذلك ولَّى مدبراً ولم يلتفت، لأن طبع البشرية ينفر من ذلك {ياموسى أَقْبِلْ وَلاَ تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ
397
الآمنين} أي فنودي يا موسى: إرجع إلى حيث كنت ولا تخف فأنت آمنٌ من المخاوف، فرجع وأدخل يده في فم الحية فعادت عصا ﴿اسلك يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سواء﴾ أي أدخل يدك في جيب قميصك - وهو فتحة الثوب مكان دخول الرأس - ثم أخرجها تخرج مضيئةُ منيرة تتلألأ كأنها قطعة قمر في لمعان البرق من غير أذى ولا برص ﴿واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرهب﴾ قال ابن عباس: اضمم يدك إلى صدرك من الخوف يذهب عنك الرعب قال المفسرون: المراد بالجناح اليد لأن يدي الإِنسان بمنزلة جناح الطائر، وإذا أدخل يده اليمنى تحت عضده اليسرى فقد ضم جناحه إليه وبذلك يذهب عنه الخوف من الحية ومن كل شيء ﴿فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ إلى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ﴾ أي فهذان - العصا واليد - دليلان قاطعان، وحجتان نيرتان واضحتان من الله تعالى تدلان على صدقك، وهما آيتان إلى فرعن واشراف قومه الطُغاة المتجبرين ﴿إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ﴾ أي خارجين عن طاعتنا، مخالفين لأمرنا ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ﴾ أي قال موسى يا رب إني قتلت قبطياً من آل فرعون وأخشى إن أتيتهم أن يقتلوني به قال المفسرون: هو القبطي الذي وكزه فمات، فطلب من ربه ما يزداد به قوة على مجابهة فرعون بإرسال أخيه هارون معه فقال ﴿وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً﴾ أي هو أوضح بياناً، وأطلق لساناً، لأن موسى كان في لسانه حُبْسة من أثر الجمرة التي تناولها في صغره ﴿فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي﴾ أي فأرسلْهُ معي معيناً يبيّن لهم عني ما أكلمهم به بتوضيح الحجج والبراهين ﴿إني أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ﴾ أي أخاف إن لم يكن لي وزير ولا معين أن يكذبوني لأنهم لا يكادون يفقهون عني، قال الرازي: والمعنى أرسل معي أخي هارون حتى يعاضدني على إِظهار الحجة والبيان، وليس الغرض بتصديق هارون أن يقول ل: صدقتَ، أو يقول للناس: صدقَ موسى، وإنما هو أن يُلخّص بلسانه الفصيح وجوه الدلائل، ويجيب عن الشبهات، ويجادل به الكفار ﴿قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً﴾ أي أجابه تعالى إلى طلبه وقال له: سنقوّيك بأخيك ونعينك به، ونجعل لكما غلبةً وتسلطاً على فرعون وقومه ﴿فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَآ﴾ أي لا سبيل لهم إلى الوصول إلى أذاكما بسبب ما أيدتكما به من المعجزات الباهرات ﴿أَنتُمَا وَمَنِ اتبعكما الغالبون﴾ أي العاقبة لكما ولأتباعكما في الدنيا والآخرة، وأنتم الغالبون على القوم المجرمين كقوله تعالى
﴿كَتَبَ الله لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ ورسلي إِنَّ الله قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [المجادلة: ٢١] ﴿فَلَمَّا جَآءَهُم موسى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ﴾ أي فلما جاءهم موسى بالبراهين الساطعة، والمعجزات القاطعة، الدالة على صدقه وأنه رسولٌ من عند الله ﴿قَالُواْ مَا هاذآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّفْتَرًى﴾ أي ما هذا الذي جئتنا به من العصا واليد إلا سحرٌ مكذوب مختلق، افتريته من قبل نفسك وتنسبه إلى الله ﴿وَمَا سَمِعْنَا بهذا في آبَآئِنَا الأولين﴾ أي وما سمعنا بمثل هذه الدعوى - التوحيد - في آبائنا وأجدادنا السابقين ﴿وَقَالَ موسى ربي أَعْلَمُ بِمَن جَآءَ بالهدى مِنْ عِندِهِ وَمَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدار﴾ أجمل موسى في جوابهم تلطفاً في الخطاب، وإيثاراً لأحسن الوجوه في المجادلة معهم والمعنى: إن ما جئتكم به حقٌ وهدى وليس بسحر، وربي عالمٌ بذلك يعلم أني محقٌ وأنتم مبطلون، ويعلم من
398
تكون له العاقبة الحميدة في الدنيا والآخرة ﴿إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون﴾ أي لا يسعد ولا ينجح من كان ظالماً فاجراً، كاذباً على الله ﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ ياأيها الملأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرِي﴾ أي قال فرعون لأشراف قومه وسادتهم: ما علمتُ لكم إليهاً غيري قال ابن عباس: كان بين هذه القولة الفاجرة وبين قوله ﴿أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى﴾ [النازعات: ٢٤] أربعون سنة، وكذب عدوُّ الله بل علم أن له رباً هو خالقه وخالق قومه ﴿فَأَوْقِدْ لِي ياهامان عَلَى الطين فاجعل لِّي صَرْحاً﴾ أي فاطبخ لي يا هامان الآجر فاجعل لي منه قصراً شامخاً رفيعاً ﴿لعلي أَطَّلِعُ إلى إله موسى﴾ أي لعلي أرى وأشاهد إله موسى الذي زعم أنه أرسله، قال ذلك على سبيل التهكم ولهذا قال بعده ﴿وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنَ الكاذبين﴾ أي وإني لأظن موسى كاذباً ف يادعائه أن في السماء رباً قال تعالى ﴿واستكبر هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأرض بِغَيْرِ الحق﴾ أي وتكبر وتعظم فرعون وقومه عن الإِيمان بموسى في أرض مصر بالباطل والظلم ﴿وظنوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لاَ يُرْجَعُونَ﴾ أي واعتقدوا أن لا بعث ولا نشور، ولا حساب ولا جزاء ﴿فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي اليم﴾ أي فأخذناه مع جنوده فطرحناهم في البحر، وأغرقناهم فلم يبق منهم أحد ﴿فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظالمين﴾ أي فانظر يا محمد بعين قلبك نظر اعتبار كيف كان مآل هؤلاء الظالمين الذين بلغوا من الكفر والطغيان أقصى الغايات؟ ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النار﴾ أي وجعلناهم في الدنيا قادة وزعماء في الكفر يقتدي بهم أهلُ الضلال ﴿وَيَوْمَ القيامة لاَ يُنصَرُونَ﴾ أي ويوم القيامة ليس لهم ناصر يدفع عنهم العذاب ﴿وَأَتْبَعْنَاهُم فِي هَذِهِ الدنيا لَعْنَةً﴾ أي جعلنا اللغنة تلحقهم في هذه الحياة الدنيا من الله والملائكة والمؤمنين ﴿وَيَوْمَ القِيَامَةِ هُمْ مِّنَ المقبوحين﴾ أي وفي الآخرة هم من المبعدين المطرودين من رحمة الله عَزَّ وَجَلَّ.
البَلاَغَة: تضمنت الآيات وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
١ - التأكيد بإِنَّ واللام ﴿إِنَّ الملأ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ﴾ مناسبةً لمقتضى الحال.
٢ - الاستعطاف والترحم ﴿رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾.
٣ - جناس الاشتقاق ﴿وَقَصَّ عَلَيْهِ القصص﴾.
٤ - التشبيه المرسل المجمل ﴿تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ﴾ حذف وجه الشبه فأصبح مجملاً.
٥ - الطباق بين ﴿يُصَدِّقُنِي.. ويُكَذِّبُونِ﴾.
٦ - الكناية ﴿واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ﴾ كنى عن اليد بالجناح، لأنها للإنسان كالجناح للطائر.
٧ - المجاز المرسل ﴿سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ﴾ من إطلاق السبب وإرادة المسبب لأن شد العضد يستلزم شد اليد، وشد اليد مستلزم للقوة، قال الشهاب، ويمكن أن يكون من باب الاستعارة التمثيلية، شبه حال موسى في تقويته بأخيه بحال اليد في تقويتها بيد شديدة.
لطيفَة: قال الزمخشري: إنما ﴿فَأَوْقِدْ لِي ياهامان عَلَى الطين﴾ أي أوقد لي النار فأتخذ منه آجراً ولم يقل «أطبخ لي الآجر» لأن هذه العبارة أحسن طباقاً لفصاحة القرآن وعلو طبقته، وأشبه بكلام الجبابرة، وهامان وزيره ومدبّر رعيته.
399
ﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝ ﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱ ﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆ ﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙ ﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗ ﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥ ﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗ ﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠ ﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰ ﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽ ﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍ ﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜ ﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘ ﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬ ﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡ ﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳ ﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼ ﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑ ﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠ ﰿ ﮢﮣﮤﮥﮦﮧ ﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯ ﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜ ﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭ ﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵ ﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇ
المنَاسَبَة: بعد أن ذكر تعالى نعمته على بني إسرائيل بإهلاك فرعون رأس الطغيان وتخليصهم من شره، ذكر هنا ما أنعم عليهم من إنزال التوراه التي فيها الهدى والنور، كما ذكر نعمته على العرب بإنزال القرآن العظيم خاتمة الكتب السماوية.
اللغَة: ﴿ثَاوِياً﴾ مقيماً وثوى بالمكان أقام به قال الشاعر:
«لقد كان في حولٍ ثواءٌ ثويته»... ﴿يَدْرَؤُنَ﴾ يدفعون، والدرءُ: الدفع وفي الحديث «ادرءوا الحدود بالشبهات» ﴿يجبى﴾ يجمع، جبى الماء في الحوض جمعه، والجابية: الحوض العظيم ﴿بَطِرَتْ﴾ البطر: الطغيان في النعمة ﴿الأنبآء﴾ الأخبار جمع نبأ وهو الخبر الهام.
سَبَبُ النّزول: لما حضرت أبا طالبٍ الوفاة قال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: يا عم قل «لا إله إلا الله» أشهد لك بها يوم القيامة أبو طالب: لولا أن تعيرني قريش يقولون: إنما حمله على ذلك الجزع لأقررت بها عينك فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ ﴿إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين﴾.
التفسِير: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب مِن بَعْدِ مَآ أَهْلَكْنَا القرون الأولى﴾ اللام موطئة للقسم أي والله لقد أعطينا موسى التوراة من بعد ما أهلكنا الأمم التي كانت قبله كقوم نوحٍ وعادٍ وثمود وقوم لوطٍ وغيرهم من المكذبين لرسلهم ﴿بَصَآئِرَ لِلنَّاسِ﴾ أي ضياءً لبني إسرائيل ونوراً لقلوبهم يتبصرون بها الحقائق، ويميزون بها بين الحق والباطل ﴿وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ أي وهدى من الضلالة، ورحمة لمن آمن بها ليتعظوا بما فيها من المواعظ والإِرشادات الإِلهية ﴿وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الغربي﴾ أي وما كنت يا محمد بجانب الجبل الغربي، وهو المكان الذي كلّم الله تعالى به موسى ﴿إِذْ قَضَيْنَآ إلى مُوسَى الأمر﴾ أي حين أوحينا إلى موسى بالنبوة وأرسلناه إلى فرعون وقومه ﴿وَمَا كنتَ مِنَ الشاهدين﴾ أي وما كنت من الحاضرين في ذلك المكان، ولكن الله أوحى إليك ذلك ليكون حجة وبرهاناً على صدقك قال ابن كثير: يقول تعالى منبهاً على برهان نبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حيث أخبر بالغيوب الماضية خبراً كأنَّ سامعه شاهد وراء لما تقدَّم، وهو رجل أُميّ لا يقرأ شيئاً من الكتب، نشأ بين قوم لا يعرفون شيئاً من ذلك، والمعنى ما كنتَ حاضراً لذلك ولكنَّ الله أوحاه شيئاً من الكتب، نشأ بين قوم لا يعرفون شيئاً من ذلك، والمعنى ما كنتَ حاضراً لذلك ولكنَّ الله أوحاه إليك لتخبرهم بتلك المغيبات ﴿وَلَكِنَّآ أَنشَأْنَا قُرُوناً فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ العمر﴾ أي ولكنَّنا خلقنا أُمماً وأجيالاً من بعد موسى، فتطاول عليهم الزمان، وطالت الفترة فنسوا ذكر الله، وبدَّلوا وحرفوا الشرائع فأرسلناك يا محمد لتجدّد أمر الدين قال أبو السعود: المعنى ولكنا خلقنا بين زمانك وزمان موسى فروناً كصيرة، فتمادى عليهم الأمر، فتغيرت الشرائع والأحكام، وعميت عليهم الأنباء فأوحينا إليك، فحذف المستدرك اكتفاءً بذكر الموجب ﴿وَمَا كُنتَ ثَاوِياً في أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا﴾ أي وما كنتَ يا محمد
401
مقيماً في أهل مدين فتعلم خبر موسى وشعيب وابنتيه فتتلو ذلك على أهل مكة ﴿وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ﴾ أي ولكنا أرسلناك في أهل مكة وأخبرناك بتلك الإخبار، ولولا ذلك لما علمتها ﴿وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطور إِذْ نَادَيْنَا﴾ أي وما كنتَ أيضاً بجانب جبل الطور وقت ندائنا لموسى وتكليمنا إياه ﴿ولكن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ﴾ أي لم تشاهد شيئاً من أخبار وقصَص الأنبياء، ولكنّا أوحيناها إليك، وقصصناها عليك، رحمةً من ربك لتخوّف قوماً ما جاءهم رسول قبلك يا محمد ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ أي لعلهم يتعظون بما جئتهم به من الآيات البينات، فيدخلوا في دينك قال المفسرون: المراد بالقوم الذي نكانوا في زمن الفترة بين عيسى ومحمد صلوات الله عليهما وهي نحوٌ من ستمائة سنة ﴿ولولا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ﴾ أي ولولا قولهم إذا أصابتهم عقوبة بسبب كفرهم ومعاصيهم ﴿فَيَقُولُواْ رَبَّنَا لولا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ المؤمنين﴾ أي فيقولوا عند ذلك ربنا هلاّ أرسلت إلينا رسولاً يبلغنا آياتك فتتبعها ونكون من المصدقين بها! ﴿قال القرطبي: وجواب {لولا﴾ محذوف وتقديره لما بعثنا الرسل، وقال في التسهيل: ﴿لولا﴾ الأولى حرف امتناع، و ﴿لولا﴾ الثانية عرضٌ وتخضيض، والمعنى: لولا أن تصيبهم مصيبة بكفرهم لم نرسل الرسل، وإنما أرسلناهم على وجه الإِعذار وإقامة الحجة عليهم لئلا يقولوا ربَّنا لولا أرسلت إلينا رسولاً فنتَّبع آياتك ونكون من المؤمنين، ثم أخبر تعالى عن عناد المشركين وتعنتهم في ردِّ الحق فقال ﴿فَلَمَّا جَآءَهُمُ الحق مِنْ عِندِنَا قَالُواْ لولا أُوتِيَ مِثْلَ مَآ أُوتِيَ موسى﴾ أي فلما جاء أهل مكة الحقُّ المبين وهو محمد بالقرآن المعجز من عندنا قالوا - على وجه التعنت والعناد - هلاّ أُعطي محمد من الآيات الباهرة، والحجج القاهرة مثل ما أُعطي موسى من العصا واليد} ﴿قال تعالى رداً عليهم {أَوَلَمْ يَكْفُرُواْ بِمَآ أُوتِيَ موسى مِن قَبْلُ؟﴾ أي أو لم يكفر البشر بما أُوتي موسى من تكل الآيات الباهرة؟} قال مجاهد: أمرت اليهود قريشاً أن يقولوا لمحمد: ائتنا بمثل ما جاء به موسى من المعجزات، فردَّ الله عليهم بأنهم كفروا بآيات موسى، فالضمير في ﴿أَوَلَمْ يَكْفُرُواْ﴾ لليهود، وهذا اختيار ابن جرير وقال أبو حيان: ويظهر عندي أن الضمير عائد على قريش الذين قالوا لولا أُوتي محمد مثل ما أُوتي موسى، وذلك أن تكذيبهم لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تكذيبٌ لموسى، ونسبتهم السحر للرسول نسبة السحر لموسى، إذ الأنبياء من وادٍ واحدٍ فمن نسب إلأى أحدٍ من الأنبياء ما لا يليق كان ناسباً ذلك إلى جميع الأنبياء، وتتناسق حينئذٍ الضمائر كلُّها ﴿قَالُواْ سِحْرَانِ تَظَاهَرَا﴾ أي وقال المشركون ما التوراة والقرآن إلا من قبيل السحر، فهما سحران تعاونا بتصديق كل واحدٍ منهما الآخر قال السُدّي: صدَّق كل واحدٍ منهما الآخر ﴿وَقَالُواْ إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ﴾ أي إنّا بكل من الكتابين كافرون قال أبو السعود: وهذا تصريحٌ بكفرهم بهما وذلك لغاية عتوهم وتماديهم في الكفر والطغيان ﴿قُلْ فَأْتُواْ بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ الله هُوَ أهدى مِنْهُمَآ أَتَّبِعْهُ﴾ أمرٌ على وجه التعجيز أي قل لهم يا محمد إنكم إذْ
402
كفرتم بهذين الكتابين مع ما تضمنا من الرائع والأحكام ومكارم الأخلاق فائتوني بكتاب منزلٍ من عند الله أهدى منهما وأصلح أَتمسك به ﴿إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ أي في انهما سحران قال ابن كثير: وقد عُلم بالضرورة لذوي الألباب ان الله تعالى لم ينزل كتاباً من السماء أكمل ولا أشمل ولا أفصح ولا أعظم من الكتاب الذي أنزله على محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو القرآن، وبعده في الشرف والعظمة الكتاب الذي أنزله على موسى، وهو الكتاب الذي قال فيه
﴿إِنَّآ أَنزَلْنَا التوراة فِيهَا هُدًى وَنُورٌ﴾ [المائدة: ٤٤] والإِنجيلُ إنما أُنزل متمماً للتوراة ومُحلاً لبعض ما حُرم على بني إسرائيل ﴿فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ فاعلم أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَآءَهُمْ﴾ أي فإن لم يجيبوك إلى ما طلبته منهم فاعلم أن طفرهم عنادٌ واتباع للأهواء لا بحجةٍ وبرهان ﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتبع هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ الله﴾ أي لا أحد أضلُّ ممن اتبع هواه بغير رشادٍ ولا بيانٍ من الله ﴿إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين﴾ أي لا يوفق للحق من كان معانداً ظالماً، بالانهماك في اتباع الهوى، والإِعراض عن سبيل الهدى ﴿وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ القول لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ أي ولقد تابعنا ووالينا لقريش القرآن يتبع بعضُه بعضاً، وعداً ووعيداً، وقصصاً وعبراً، ونصائح ومواعظ ليتعظوا ويتذكروا بما فيه قال ابن الجوزي: المعنى أنزلنا القرآن يتبع بعضُه بعضاً، ويخبر عن الأمم الخالية كيف عُذبوا لعلهم يتعظون ﴿الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ﴾ أي الذين أعطيناهم التوراة والإِنجيل من قبل هذا القرآن - من مسلمي أهل الكتاب - هم بهذا القرآن يصدقون قال ابن عباس: يعني من آمن بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من أهل الكتاب ﴿وَإِذَا يتلى عَلَيْهِمْ قالوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الحق مِن رَّبِّنَآ﴾ أي وإذا قرئ عليهم القرآن قالوا صدقنا بما فيه ﴿إنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ﴾ أي كنا من قبل نزوله موحدين لله، مستسلمين لأمره، مؤمنين بأنه سيبعث محمد ونيزل عليه القرآن قال تعالى ﴿أولئك يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ﴾ أي أولئك الموصوفون بالصفات الجميلة يعطون ثوابهم مضاعفاً، مرة على إيمانهم بكتابهم، ومرةً على إيمانهم بالقرآن وفي الحديث
«ثلاثة يُؤْتون أجرهم مرتين: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيّه ثم آمن بي..» الحديث ﴿بِمَا صَبَرُواْ﴾ أي بسبب صبرهم على اتباع الحقِّ، وتحملهم الأذى في سبيل الله قال قتادة: نزلت في أناسٍ من أهل الكتاب، كانوا على شريعةٍ من الحق يأخذون بها وينتهون إليها، حتى بعث الله محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فآمنوا به وصدَّقوه، فأعطاهم الله أجرهم مرتين بما صبروا، وذُكر أن منهم سلمان وعبد الله بن سلام ﴿وَيَدْرَؤُنَ بالحسنة السيئة﴾ أي ويدفعون الكلام القبيح كالسب والشتم بالحسنة أي الكلمة الطيبة الجميلة قال ابن كثير: لا يقابلون السيء بمثله ولكن يعفون ويصفحون ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾ أي ومن الذي رزقناهم من الحلال ينفقون في سبيل الخير ﴿وَإِذَا سَمِعُواْ اللغو أَعْرَضُواْ عَنْهُ﴾ أي وإذا سمعوا الشتم والأذى من الكفار وسمعوا ساقط الكلام، لم يلتفتوا إليه ولم يردُّوا على أصحابه ﴿وَقَالُواْ لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ﴾ أي لنا طريقنا ولكم طريقكم ﴿سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ﴾ أي سلام متاركة ومباعدة قال
403
الزجاج: لم يريدوا التحية وإنما أرادوا بيننا وبينكم المتاركة ﴿لاَ نَبْتَغِي الجاهلين﴾ أي لا نطلب صحبتهم ولا نريد مخالطتهم قال الصاوي: كان المشركون يسبون مؤمني أهل الكتاب ويقولون: تباً لك أعرضتم عن دينكم وتركتموه! فيعرضون عنهم ويقولون لنا أعمالكم. مدحهم تعالى بالإِيمان، ثم مدحهم بالإِحيان، ثم مدحهم بالعفو والصفح عن أهل العدوان، ثم قال تعالى مخاطباً رسوله ﴿إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ﴾ أي إنك يا محمد لا تقدر على هداية أحد، مهما بذلت فيه من مجهود، وجاوزت في السعي كل حدٍّ معهود إنك يا محمد لا تقدر على هداية أحد، مهما بذلت فيه من مجهود، وجاوزت في السعي كل حدٍّ معهود ﴿ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ﴾ أي ولكنه تعالى بقدرته يهدي من قدر له الهداية، فسلم أمرك إليه فإنه أعلم بأهل السعادة والشقاوة ﴿وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين﴾ أي هو تعالى العالم بمن فيه استعداد للهداية والإِيمان فيهديه قال المفسرون: نزلت في عمه «أبي طالب» حين عرض عليه الإِسلام عند موته فأبى قال أبو حيان: ومعنى ﴿إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ﴾ أي لا تقدر على خلق الهداية فيه، ثم قال: ولا تنافي بين هذا وبين قوله ﴿وَإِنَّكَ لتهدي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ [الشورى: ٥٢] لأن معنى هذا: وإنك لترشد، وقد أجمع المسلمون على أنها نزلت في «أبي طالب» ثم ذكر تعالى شبهةً من شبهات المسركين وردَّ عليها بالبيان الواضح فقال ﴿وقالوا إِن نَّتَّبِعِ الهدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَآ﴾ أي وقال كفار قريش: إن اتبعناك يا محمد على دينك وتركنا ديننا نخاف أن تتخطفنا العرب فيجتمعون على محاربتنا، ويخرجوننا من ارضنا، قال المبرد: والتخطُّف الانتزاع بسرعة، قال تعالى رداً عليهم ﴿أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً﴾ أي أولم نعصمْ دماءهم ونجعل مكانهم حرماً ذا أمن، بحرمة البيت العتيق؟ فكيف يكونالحرم آمناً لهم في حال كفرهم، ولا يكون آمناً لهم في حال إسلامهم؟ ﴿يجبى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِّزْقاً مِّن لَّدُنَّا﴾ أي تُجْلب إليه الأرزاق من كل مكان مع أنه بوادٍ غيرذي زرع رزقاً لهم من عندنا ﴿ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ أي ولكن أكثرهم جهلة لا يتفكرون في ذلك ولا يتفطنون قال أبو حيان: قطع الله حجتهم بهذا البيان الناصع إذْ كانوا وهم كفارٌ بالله، عباد أصنام قد أمِنوا في حرمهم، والناصُ في غيره يتقاتلون وهم مقيمون في بلدٍ غير ذي زرع، يجيء إليهم ما يحتاجون من الأقوات، فكيف إذا آمنوا واهتدوا؟ ﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا﴾ أي وكثيرمن أهل قريةٍ طغت وأشرت وكفرت نعمة الله فدمَّر الله عليهم وخرب ديارهم ﴿فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً﴾ أي فتلك مساكنهم خاويةً بما ظلموا لم تسكن من بعد تدميرهم إلاَّ زماناً قليلاً إذْ لا يسكنها إلا المارَّةُ والمسافرون يوماً أو بعض يومٍ ﴿وَكُنَّا نَحْنُ الوارثين﴾ أي وكنا نحن الوارثين لأملاكهم ودجيارهم قال في البحر: والآية تخويف لأهل مكة من سوء عاقبة قوم كانوا في مثل حالهم، من إنعام الله عليهم بالرقود في ظلال الأمن، وخفض العيش، فكفروا النعمة وقابلوها بالاشر والبطر فدمرهم الله وخرب ديارهم ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ القرى﴾ أي ما جرت عادة الله جل شأنه أن يهلك أهل القرى الكافرة ﴿حتى يَبْعَثَ في أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا﴾ أي حتى يبعث في أصلها وعاصمتها رسولاً يبلغهم رسالة الله لقطع الحجج والمعاذير ﴿وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي القرى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ﴾ أي وما كنا لنهلك القرى إلا وقد استحق أهلها
404
الإِهلاك، لإِصرارهم على الكفر بعد الإِعذار إليهم ببعثة المرسلين قال القرطبي: أخبر تعالى أنه لا يهلكهم إلا إذا استحقوا الإِهلاك بظلمهم، وفي هذا بيانٌ لعدله وتقدّسه عن الظلم، ولا يهلكهم - مع كونهم ظالمين - إلاّ بعد تأكيد الحجة والإِلزام ببعثة الرسل، ولا يجعل علمه تعالى بأحوالهم حجة عليهم ﴿وَمَآ أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الحياة الدنيا وَزِينَتُهَا﴾ أي وما أعطيتم أيها الناس من مالٍ وخيرٍ فهو متاعٌ قليل تتمتعون به في حياتكم ثم ينقضي ويفنى قال ابن كثير: يخبر تعالى عن حقارة الدنيا وما فيها من الزينة الدنيئة، والزهرة الفانية، بالنسبة إلى ما أعده الله لعباده الصالحين في الدار الآخرة، من النعيم العظيم المقيم ﴿وَمَا عِندَ الله خَيْرٌ وأبقى﴾ أي وما عنده من الأجر والثواب، والنعيم الدائم الباقي خير وأفضل من هذا النعيم الزائل ﴿أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾ ؟ توبيخٌ لهم أي أفلا تعقلون أن الباقي أفضل من الفاني؟ قال الإِمام الفخر: بيَّن تعالى ان منافع الدنيا مشوبةٌ بالمضارِّ، بل المضارُّ فيها أكثر، ومنافع الآخرة غير منقطعة، بينما منافع الدنيا منقطعة، ومتى قوبل المتناهي بغير المتناهي كان عدماً، فكيف ونصيب كل أحدٍ من الدنيا كالذرة بالقياس إلى البحر، فمن لم يرجَّح منافع الآخرة على منافع الدنيا يكون كأنه خارجٌ عن حدّ العقل ﴿أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاَقِيهِ﴾ أي أفمن وعدناه وعداً قاطعاً بالجنة وما فيها من النعيم المقيم الخالد، فوه لا محالة مدركه لن وعد الله لا يتخلف ﴿كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الحياة الدنيا﴾ ؟ أي كمن متعناه بمتاع زائل، مشوب بالأكدار، مملوءٍ بالمتاعب، مستتبع للحسرة على انقطاعه؟ ﴿ثُمَّ هُوَ يَوْمَ القيامة مِنَ المحضرين﴾ أي ثم هو في الآخرة من المحضرين للعذاب، فهل يساوي العاقل بينهما؟ قال ابن جزي: والآية ايضاحٌ لما قبلها من البون الشاسع بين الدنيا والآخرة، والمراد بمن وعدناه المؤمنين، وبمن متعناه الكافرين ﴿وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ﴾ أي واذكر حال المشركين يوم يناديهم الله فيقول لهم على سبيل التوبيخ والتقريع: أين هؤلاء الشركاء والآلهة من الأصنام والأنداد الذين عبدتموهم من دوني، وزعمتم أنهم ينصرونكم ويشفعون لكم؟ ﴿قَالَ الذين حَقَّ عَلَيْهِمُ القول﴾ أي قال رؤساءهم وكبراؤهم الذين وجب عليهم العذاب لضلالهم وطغيانهم ﴿رَبَّنَا هؤلاء الذين أَغْوَيْنَآ﴾ أي هؤلاء أتباعنا الذين أضللناهم عن سبيلك ﴿أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا﴾ أي أضللناهم كما ضللنا، لا بالقس والإِكراه ولكن بطريق الوسوسة وتزيين القبيح فضلّوا كما ضللنا نحن ﴿تَبَرَّأْنَآ إِلَيْكَ مَا كانوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ﴾ أي بترأنا إليك يا ألله من عبادتهم إيانا، فما كانوا يعبدوننا وإنما كانوا يعبدون أهواءهم وشهواتهم ﴿وَقِيلَ ادعوا شُرَكَآءَكُمْ﴾ أي وقيل للكفار استغيثوا بالتهكم التي عبدتموها في الدنيا لتنصركم وتدفع عنكم عذاب الله، وهذا على سبيل التهكم بهم ﴿فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ﴾ أي فاستغاثوا بهم فلم يجيبوهم ولم ينتفعوا بهم، وهذا من سخافة عقولهم ﴿وَرَأَوُاْ العذاب لَوْ أَنَّهُمْ كَانُواْ يَهْتَدُونَ﴾ أي وتمنَّوا حين شاهدوا العذاب لو كانوا مهتدين قال الطبري: أي فودُّوا حين رأوا العذاب لو أنهم كانوا في الدنيا مهتدين للحق ﴿وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَآ أَجَبْتُمُ المرسلين﴾ توبيخٌ آخر للمشركين
405
أي ويم يناديهم الله ويسألهم: ماذا أجبتم رسلي؟ هل صدقتموهم أم كذبتموهم؟ ﴿فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأنبآء يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لاَ يَتَسَآءَلُونَ﴾ أي فخفيت عليهم الحجج، وأظلمت عليهم الأمور، فلم يعرفوا ما يقولون، فهم حيارى واجمون، لا يسأل بعضهم بعضاً عن الجواب لفرط الدهشة والحيرة ﴿فَأَمَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فعسى أَن يَكُونَ مِنَ المفلحين﴾ أي فأمّا من تاب من الشرك، وجمع بين الإِيمان والعمل الصالح فعسى أنيكون من الفائزين بجنات النعيم قال الصاوي: والترجي في القرآن بمنزلة التحقق، لأنه وعد كريم من ربٍّ رحيم، ومن شأنه تعالى أنه لا يخلف وعده ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ﴾ أي هو تعالى الخالق المتصرف، يخلق ما يشاء ويفعل ما يريد، فلا اعتراض لأحدٍ على حكمه قال مقاتل: نزلت في «الوليد بن المغيرة» حين قال
﴿لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ﴾ [الزخرف: ٣١] ﴿مَا كَانَ لَهُمُ الخيرة﴾ أي مان أحدٍ من العباد اختيار، إنما الاختيار والإِرادة لله وحده ﴿سُبْحَانَ الله وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ أي تنزَّه الله العظيم الجليل وتقدس أن ينازعه أحدٌ في ملكه، أو يشاركه في اختياره وحكمته قال القرطبي: المعنى وربك يخلق ما يشاء من خلقه، ويختار من يشاء لنبوته، والخيرة له تعالى في أفعاله، وهو أعلم بوجوه الحكمة، فليس لأحدٍ من خلقه أن يختار عليه ﴿وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ أي هو تعالى العالم بما تخفيه قلوبهم من الكفر والعداوة للرسول والمؤمنين، وما يظهرونه على ألسنتهم من الطعن في شخص رسوله الكريم حيث يقولون: ما أنزل الله الوحي إلا على يتيم أبي طالب! ﴿وَهُوَ الله لا إله إِلاَّ هُوَ﴾ أي هو جل وعلا اللهُ المستحقُ للعبادة، لا أحد يستحقها إلا هو ﴿لَهُ الحمد فِي الأولى والآخرة﴾ أي له الثناء الكامل في الدنيا والفصل بين العباد ﴿وَلَهُ الحكم﴾ أي وله القضاء النافذ والفصل بين العباد ﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ أي إليه وحده مرجع الخلائق يوم القيامة، فيجازي كل عاملٍ بعمله.
البَلاَغَة: تضمنت الآياتُ الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
١ - التشبيه البليغ ﴿بَصَآئِرَ لِلنَّاسِ﴾ أي أعطيناه التوراة كأنها أنوار لقلوب الناس، حذف أداة الشبه ووجه الشبه فأصبح بليغاً قال في حاشية البيضاوي: أي مشبهاً بأنوار القلوب من حيث إن القلوب لو كانت خالية عن أنوار التوراة وعلومها لكانت عمياء لا تستبصر، ولا تعرف حقاً من باطل.
٢ - المجاز العقلي ﴿أَنشَأْنَا قُرُوناً﴾ المرادبه الأمم لأنهم يخلقون في تلك الأزمنة فنسب إلأى القرون بطريق المجاز العقلي.
٣ - جناس الاشتقاق ﴿تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ﴾.
٤ - المجاز المرسل ﴿بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ﴾ والمراد بما كسبواوهو من باب إطلاق الجزء وإرادة الكل قال الزمخشري: ولما كانت أكثر الأعمال تزاول بالأيدي جعل كل عمل معبراً عنه باجتراح الأيدي.
406
٥ - حذف الجواب لدلالة السياق ﴿ولولا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ﴾ حذف منه الجواب وتقديره: ما أرسلناك يا محمد رسولاً إليهم وهو من باب الإِيجاز بالحذف.
٦ - التخضيض ﴿لولا أُوتِيَ مِثْلَ مَآ أُوتِيَ موسى﴾ أي هلاَّ أُوتي فهي للتحضيض وليست حرف امتناع لوجود.
٧ - التعجيز ﴿قُلْ فَأْتُواْ بِكِتَابٍ﴾ فالأمر خرج عن حقيقته إلى معنى التعجيز.
٨ - طباقُ السلب ﴿إِنَّكَ لاَ تَهْدِي.. ولكن الله يَهْدِي﴾.
٩ - المجاز العقلي ﴿حَرَماً آمِناً﴾ نسب الأمن إلى الحرم وهو لأهله.
١٠ - أسلوب السخرية والتهكم ﴿أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ﴾ ؟.
١١ - التشبيه المرسل ﴿أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا﴾. ١٢ - الاستعارة التصريحية التبعية ﴿فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأنبآء﴾ قال الشهاب: استعير العمى لعدم الاهتداء، فهم لا يهتدون للأنباء، ثم قلب للمبالغة فجعل الأنباء لا تهتدي إليهم وأصله «فعموا عن الأنباء» وضُمّن معنى الخفاء فعدي ب ﴿على﴾ ففيه أنواعٌ من البلاغة: الاستعارة، والقلب، واتلضمين.
١٣ - الطباق بين ﴿مَا.. ويُعْلِنُونَ﴾ وبين ﴿الأولى.. والآخرة﴾ وهو من المحسنات البديعية.
407
تنبيه: ما ذُكر أن «أبا طالب» مات على غير الإِيمان هو الصحيح الذي دلّ عليه الكتاب والسنة، ونقل عن بعض شيوخ الصوفية أنه أسلم قبل موته، وهو معارضٌ للنصوص الكريمة ولعلهم أخذوه من بعض أشعار أبي طالب حيث يقول:
ولقد علمتُ بأنَّ دين محمدٍ من خير أديان البرية ديناً
والله لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أُوسَّد في التراب دفيناً
أقول: ماذا يعني هذا الكلام بعد امتناعه عن الدخول في الإسلام والنطق بالشهادة؟
408
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى أنه هو الخالق المختار، وسفَّه المشركين في عبادتهم لغير الله، عقَّبه بذكر بعض الأدلة والبراهين الدالة على عظمته وسلطانه، تذكيراً للعباد بوجوب شكر المنعم، ثم ذكر قصة «قارون» وهي قصة الطغيان بالمال، وما كان من نهايته المشئومة حيث خسف الله به وبكنوزه الأرض، وهذه نتيجة الاستعلاء والغرور والطغيان.
اللغَة: ﴿سَرْمَداً﴾ السرمد: الدائم الذي لا ينقطع ومنه قول طرفه:
لعمرك ما أمري عليَّ بغمةٍ نهاري ولا ليلي عليَّ بسرمد
﴿مَفَاتِحَهُ﴾ جمع مفتح بالكسر وهو ما يفتح به، وأما المفتاح فجمعه مفاتيح. ﴿تَنُوءُ﴾ ناء به الحمل إذا أثقله حتى أماله قال ذو الرمَّة:
تنوء بأُخراها فلأْياً قيامها وتمشي الهُوينى عن قريبٍ فتبهر
﴿العصبة﴾ الجماعة الكثيرة ومثلها العصابة ومنه قوله تعالى ﴿وَنَحْنُ عُصْبَةٌ﴾ [يوسف: ٨] سميت الجماعة
408
عُصبة لأن بعضهم يتعصب لبعض ويتقوى به ﴿وَيْكَأَنَّ﴾ قال الجوهري: «ويْ» كلمةُ تعجب وقد تدخل على «كأن» فتقول: ويكأنَّ، وقيل إنها كلمة تستعمل عند التنبه للخطأ وإظهار الندم قال الخليل، إن القوم تنهوا وقالوا نادمين على ما سلف منهم وَيْ ﴿ظَهيراً﴾ معيناً ومساعداً.
التفسِير: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ الليل سَرْمَداً إلى يَوْمِ القيامة﴾ أي قل يا محمد لهؤلاء الجاحدين من كفار مكة: أخبروني لو جعل الله عليكم اللل دائماً مستمراً بلا انقطاع إلى يوم القيامة ﴿مَنْ إله غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِضِيَآءٍ﴾ ؟ أي من هو الإِله الذي يقدر على أن يأتيكم بالنور الذي تستضيئون به في حياتكم غيرُ الله تعالى؟ ﴿أَفَلاَ تَسْمَعُونَ﴾ أي أفلا تسمعون سماع فهمٍ وقبول فتستدلوا بذلك على وحدانية الله تعالى؟ ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ النهار سَرْمَداً إلى يَوْمِ القيامة﴾ أي أخبروني لو جعل الله عليكم النهار دائماً مستمراً بلا انقطاع ﴿مَنْ إله غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ﴾ أي من هو الإِله القادر على أن يأتيكم بليلٍ تستريحون فيه من الحركة والنصب غير الله تعالى؟ ﴿أَفلاَ تُبْصِرُونَ﴾ أي أفلا تبصرون ما أنتم عليه من الخطأ والضلال؟ ثم نبه تعالى إلى كمال رحمته بالعباد فقال ﴿وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اليل والنهار﴾ أي ومن آثار قدرته، ومظاهر رحمته أن خلق لكم الليل والنهار يتعاقبان بدقةٍ وإحكام ﴿لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ﴾ أي لتستريحوا بالليل من نصب الحياة وهمومها وأكدارها، ولتلتمسوا من رزقه بالمعاش والكسب في النهار ﴿وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ أي ولتشكروا ربكم على نعمه الجليلة التي لا تُحصى، ومنها نعمةُ الليل والنهار قال الإِمام الفخر: نبه تعالى بهذه الآية على أن الليل والنهار نعمتان يتعاقبان على الزمان، لأن المرء في الدنيا مضطر إلى أن يتعب لتحصيل ما يحتاج إليه، ولا يتم له ذلك لولا ضوء النهار، ولولا الراحة والسكون بالليل، فلا بدَّ منهما في الدنيا، وأما في الجنة فلا نصب ولا تعب فلا حاجة بهم إلى الليل، فلذلك يدوم لهم الضياء واللذات ﴿وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ﴾ قال ابن كثير: هذا نداءٌ ثانٍ على سبيل التوبيخ والتقريع لمن عبد مع الله إلهاً آخر، يناديهم الرب على رءوس الأشهاد: أين شركائي الذين زعمتموهم في الدنيا؟ ﴿وَنَزَعْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً﴾ أي أخرجنا من كل أمةٍ شهيداً منهم يشهد عليهم بأعمالهم وهو نبيُّهم ﴿فَقُلْنَا هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ﴾ أي هاتوا حجتكم على ما كنتم عليه من الكفر، هذا إعذار لهم وتوبيخٌ وتعجيز ﴿فعلموا أَنَّ الحق لِلَّهِ﴾ أي فلموا حينئذٍ أن الحقَّ لله ولرسله، وأنه لا إله إلا هو ﴿وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ﴾ أي وغاب عنهم غيبة الشيء الضائع ما كانوا يتخرصونه في الدنيا من الشركاء والأنداد، ثم ذكر تعالى قصة «قارون» ونتيجة الغرور والطغيان فقال ﴿إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ موسى﴾ أي من عشيرته وجماعته قال ابن عباس: كان ابن عم موسى ﴿فبغى عَلَيْهِمْ﴾ أي تجبر وتكبر على قومه، واستعلى عليهم بسبب ما منحه الله من الكنوز والأموال قال الطبري: أي تجاوز حدَّه في الكبر والتجبر عليهم ﴿وَآتَيْنَاهُ مِنَ الكنوز مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بالعصبة أُوْلِي القوة﴾ أي أعطيناه من الأموال الوفيرة، والكنوز الكثيرة ما يثقل على الجماعة أصحاب القوة حمل مفاتيح
409
خزائنه لكثرتها وثقلها فضلاً عن حمل الخزائن والأموال والآية تصويرٌ لما كان عليه قارون من كثرة المال والغنى والثراء ﴿إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ﴾ أي لا تأشر ولا تبطر ﴿إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الفرحين﴾ أي لا يحب البطرين الذين لا يشكرون الله على إنعامه، ويتكبرون بأموالهم على عباد الله ﴿وابتغ فِيمَآ آتَاكَ الله الدار الآخرة﴾ أي اطلب فيما أعطاك الله من الأموال رضى الله، وذلك بفعل الحسنات والصدقات والإِنفاق من الطاعات ﴿وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدنيا﴾ قال الحسن: أي لا تضيّع حظك من دنياك في تمتعك بالحلال وطلبك إيّاه ﴿وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ﴾ أي أحسن إلى عبادِ الله كما أحسن الله إليك ﴿وَلاَ تَبْغِ الفساد فِي الأرض﴾ أي لا تطلب بهذا المال البغي والتطاول على الناس، والإِفساد في الأرض بالمعاصي ﴿إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المفسدين﴾ أي لا يحب من كان مجرماً باغياً مفسداً في الأرض ﴿قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ عندي﴾ لمَّا وعظه قومه أجابهم بهذا على وجه الرد عليهم والتكبر عن قبول الموعظة والمعنى: إنما أُعطيت هذا المال على علمٍ عندي بوجوه المكاسب، ولولا رضى الله عني ومعرفته بفضلي واستحقاقي له ما أعطاني هذا المال ﴿قال تعالى رداً عليه {أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الله قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القرون مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً﴾ أي أولم يعلم هذا الأحمق المغرور أنَّ الله قد أهلك من قبله من الأمم الخالية من هو أقوى منه بدناً وأكثر مالاً؟} قال البيضاوي: والآية تعجبٌ وتوبيخ على اغتراره بقوته وكثرة ماله، مع علمه بذلك لأنه قرأه في التوراة، وسمعه من حفاظ التواريخ ﴿وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ المجرمون﴾ أي لا حاجة أن يسألهم الله عن كيفية ذنوبهم وكميتها لنه عالمٌ بكل شيء، ولا يتوقف إهلاكه إياهم على سؤالهم بل متى حقَّ عليهم العذاب أهلكهم بغتة، ثم أشار تعالى إلى أن قارون لم يعتبر بنصيحة قومه، بل تمادى في غطرسته وغيِّه فقال تعالى ﴿فَخَرَجَ على قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ﴾ أي فخرج قارون على قومه في أظهر زينةٍ وأكملها قال المفسرون: خرج ذات يوم في زينةٍ عظيمة بأتباعه الكثيرين، ركباناً متحلين بملابس الذهب والحرير، علىخيولٍ موشحةٍ بالذهب، ومعها اجواري والغلمان في موكبٍ حافلٍ باهر ﴿قَالَ الذين يُرِيدُونَ الحياة الدنيا ياليت لَنَا مِثْلَ مَآ أُوتِيَ قَارُونُ﴾ أي فلما رآه ضعفاء الإِيمان ممن تخدعهم الدنيا ببريقها وزخرفها وزينتها قالوا: يا ليت لنا مثل هذا الثراء والغنى الذي أُعطيه قارون ﴿إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ أي ذو نصيب وافرٍ من الدنيا ﴿وَقَالَ الذين أُوتُواْ العلم﴾ أي وقال لهم العقلاء من أهل العلم والفهم والاستقامة ﴿وَيْلَكُمْ ثَوَابُ الله خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً﴾ أي ارتدعوا وانزجروا عن مثل هذا الكلام فإن جزاء الله لعباده المؤمنين الصالحين خيرٌ مما ترون وتتمنَّون من حال قارون قال الزمخشري: أصل ﴿وَيْلَكُ﴾ الدعاء بالهلاك ثم استعمل في الزجر والردع، والبعث على ترك ما لا يرتضى ﴿وَلاَ يُلَقَّاهَآ إِلاَّ الصابرون﴾ أي ولا يُعطى هذه المرتبة والمنزلة في الآخرة إلا الصابرون على أمر الله قال تعالى تنبيهاً لنهايته المشئومة ﴿فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرض﴾ أي جعلنا الأرض تغور به وبكنوزه، جزاءً على عتوه وبطره ﴿فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ﴾ أي ما كان له أحد من الأنصار والأعوان يدفعون عنه
410
عذاب الله ﴿الله وَمَا كَانَ مِنَ المنتصرين﴾ أي وما كان المنتصرين بنفسه بل كان من الهالكين ﴿وَأَصْبَحَ الذين تَمَنَّوْاْ مَكَانَهُ بالأمس﴾ أي وصار الذين تمنوا منزلتُه وغناه بالأمس القريب بعد أن شاهدوا ما نزل به من الخسف ﴿يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ الله يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ﴾ أي يقولون ندماً وأسفاً على ما صدر منهم من التمني: اعجبوا أيها القوم من صنع الله، كيف أن الله يوسّع الرزق لمن يشاء من عباده - بحسب مشيئته وحكمته - لا لكرامته عليه، ويضيّق الرزق على من يشاء من عباده - لحكمته وقضائه ابتلاءً - لا لهوانه عليه!! قال الزمخشري: ﴿وَيْكَأَنَّ﴾ كلمتان «وَيْ» مفصولة عن «كأنَّ» وهي كلمة تنبيه على الخطأ وتندم، ومعناه أن القوم تنبهوا على خطئهم في تمنيهم منزلة قارون وتندموا وقالوا ﴿لولا أَن مَّنَّ الله عَلَيْنَا﴾ أل لولا أنَّ الله لطف بنا، وتفضَّل علينا بالإِيمان والرحمة، ولم يعطنا ما تمنيناه ﴿لَخَسَفَ بِنَا﴾ أي لكان مصيرنا مصير قارون، وخسف بنا الأرض كما خسفها به ﴿وَيْكَأَنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الكافرون﴾ أي أعجبُ من فعل الله حيث لا ينجح ولا يفوز بالسعادة الكافرون لا في ادنيا، ولا في الآخرة.
. وإلى هنا تنتهي «قصة قارون» وهي قصة الطغيان بالمال، بعد أن ذكر تعالى قصة الطغيان بالجاه والسلطان في قصة فرعون وموسى، ثم يأتي التعقيب المباشر في قوله تعالى ﴿تِلْكَ الدار الآخرة نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأرض وَلاَ فَسَاداً﴾ الإِشارة للتفخيم والتعظيم أي تلك الدار العالية الرفيعة التي سمعت خبرها، وبلغك وصفها هي دار النعيم الخالد السرمدي، التي فيها ما لا عينٌ رأتْ، ولا أُذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر، نجعلها للمتقين الذين لا يريدون التكبر والطغيان، ولا الظلم والعدوان في هذه الحياة الدنيا ﴿والعاقبة لِلْمُتَّقِينَ﴾ أي العاقبة المحمودة للذين يخشون الله ويراقبونه، ويبتغون رضوانه ويحذرون عقابه ﴿مَن جَآءَ بالحسنة فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا﴾ أي من جاء يوم القيامة بحسنةٍ من الحسنات فإن الله يضاعفها له أضعافاً كثيرة ﴿وَمَن جَآءَ بالسيئة فَلاَ يُجْزَى الذين عَمِلُواْ السيئات إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ أي ومن جاء يوم القيامة بالسيئات فلا يجزى إلا بمثلها، وهذا من فضل الله على عباده أنه يضاعف لهم الحسنات ولا يضاعف لهم السيئات ﴿إِنَّ الذي فَرَضَ عَلَيْكَ القرآن﴾ أي إن الذي أنزل عليك يا محمد القرآن وفرض عليك العمل به ﴿لَرَآدُّكَ إلى مَعَادٍ﴾ أي لرادُّك إلى مكة كما أخرجك منها، وهذا وعدٌ من الله بفتح مكة ورجوعه عليه السلام إليها بعد أن هاجر منها قال ابن عباس: معناه لرادك إلى مكة، وقال الضحال: لما خرج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من مكة فبلغ الجُحْفة اشتاق إلى مكة، فأنزل الله عليه هذه الآية ﴿قُل ربي أَعْلَمُ مَن جَآءَ بالهدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ﴾ أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين: ربي أعلم بالمهتدي والضال هل أنا أو أنتم؟ فهو جلَّ وعلا الذي يعلم المحسن من المسيء، ويجازي كلاً بعمله، وهو جواب لقول كفار مكة: إنك يا محمد في ضلالٍ مبين ﴿وَمَا كُنتَ ترجوا أَن يلقى إِلَيْكَ الكتاب إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ﴾ أي وما كنت تتطمع أن تنال النبوة، ولا أن ينزل عليك الكتابُ ولكن رحمك الله بذلك ورحم العباد ببعثتك قال
411
الفراء: وهذا استثناء منقطع والمعنىإلا أنّ ربك رحمك فأنزله عليك ﴿فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهيراً لِّلْكَافِرِينَ﴾ أي لا تكن عوناً لهم على دينهم، ومساعداً لهم على ضلالهم، بالمداراة والمجاملة ولكن نابذهم وخالفهم قال المفسرون: دعا المشركون الرسول إلى دين آبائه، فأُمر بالتحرز منهم وأن يصدع بالحق، والخطابُ بهذا وأمثاله له عليه السلام، والمراد أمته لئلا يظاهروا الكفار ولا يوافقوهم ﴿وَلاَ يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ الله بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ﴾ أي ولا تلتفت إلى هؤلاء المشركين، ولا تركن إلى قولهم فيصدوك عن اتباع ما أنزل الله إليك من الآيات البينات ﴿وادع إلى رَبِّكَ﴾ أي وادع الناس إلى توحيد ربك وعبادته ﴿وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين﴾ أي بمسايرتهم على أهوائهم، فإن من رضي بطريقتهم كان منهم ﴿وَلاَ تَدْعُ مَعَ الله إلها آخَرَ﴾ أي لا تعبد إلهاً سوى الله ﴿لاَ إله إِلاَّ هُوَ﴾ أي لا معبود بحقٍ إلا الله تعالى قال البيضاوي: وهذا وما قبله للتهييج وقطع أطماع المشركين عن مساعدته لهم ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ﴾ أي كل شيء يفنى وتبقى ذاتُه المقدسة، أطلق الوجه وأراد ذات الله جلَّ وعلا قال ابن كثير: وهذا إخبار بأنه تعالى الدائم الباقي، الحيُّ القيوم، الذي تموت الخلائق ولا يموت، فعبَّر بالوجه عن الذات كقوله
﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ويبقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجلال والإكرام﴾ [الرحمن: ٢٦ - ٢٧] ﴿لَهُ الحكم وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ أي له القضاء النافذ في الخلق، وإليه مرجعهم جميعاً يوم المعاد لا إلى أحدٍ سواه.
البَلاَغَة: تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
١ - التبكيت والتوبخ ﴿مَنْ إله غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِضِيَآءٍ﴾ ؟ ومثله ﴿يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ﴾ ؟.
٢ - اللَّف والنشر المرتب ﴿وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اليل والنهار﴾ جمع الليل والنهار ثم قال ﴿لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ﴾ فأعاد السكن إلى الليل، والابتغاء لطلب الرزق إلى النهار، ويسمى هذا عند علماء البديع اللف والنشر المرتب، لأن الأول عاد على الأول، والثاني عاد على الثاني وهو من المحسنات البديعية.
٣ - جناس الاشتقاق ﴿لاَ تَفْرَحْ.. الفرحين﴾ ومثله ﴿الفساد.. المفسدين﴾.
٤ - تأكيد الجملة ب ﴿إِنَّ﴾ و (اللام) ﴿إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ لأن السامع شاك ومتردّد.
٥ - الكناية ﴿تَمَنَّوْاْ مَكَانَهُ بالأمس﴾ كنَّى عن الزمن الماضي القريب بلفظ الأمس.
٦ - الطباق ﴿يَبْسُطُ الرزق.. وَيَقْدِرُ﴾.
٧ - المقابلة اللطيفة ﴿مَن جَآءَ بالحسنة فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا﴾ ﴿وَمَن جَآءَ بالسيئة فَلاَ يُجْزَى..﴾ الآية.
٨ - المجاز المرسل ﴿إِلاَّ وَجْهَهُ﴾ أطلق الجزء وأراد الكل أي ذاته المقدسة ففيه مجاز مرسل.
لطيفَة: قال بعض العلماء: من لم تشبعه القناعة لم يكفه ملك قارون وأنشدوا:
412
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2024
Icon
هي القناعة لا تبتغي بها بدلاً فيها النعيم وفيها راحةُ البدن
انظر لم ملك الدنيا بأجمعها هل راح منها بغير القطن والكفن؟