الْوَكْزُ: الضَّرْبُ بِالْيَدِ مَجْمُوعًا كَعَقْدِ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ. وَقِيلَ: بِجُمْعِ كَفِّهِ. وَقِيلَ: الْوَكْزُ وَالنَّكْزُ وَاللَّهْزُ وَاللَّكْزُ: الدَّفْعُ بِأَطْرَافِ الْأَصَابِعِ. وَقِيلَ: الْوَكْزُ عَلَى الْقَلْبِ، وَاللَّكْزُ عَلَى اللِّحَى. وَقِيلَ: الْوَكْزُ بِأَطْرَافِ الْأَصَابِعِ. ذَادَ: طَرَدَ وَدَفَعَ وَقَالَ الْفَرَّاءُ: حَبَسَ جَذَوْتُ الشَّيْءَ جَذْوًا: قَطَعْتُهُ، وَالْجَذْوَةُ: عُودٌ فِيهِ نَارٌ بِلَا لَهَبٍ. قَالَ ابْنُ مُقْبِلٍ:
الْخَوَّارُ: الَّذِي يَتَقَصَّفُ، وَالذَّعِرُ الَّذِي فِيهِ تَعَبٌ. وَقَالَ آخَرُ:
وَقِيلَ: الْجَذْوَةُ مُثَلَّثُ الْجِيمِ، الْعُودُ الْغَلِيظُ، كَانَتْ فِي رَأْسِهِ نَارٌ أَوْ لَمْ تَكُنْ. وَقَالَ السُّلَمِيُّ يَصِفُ الصَّلَى:
الشَّاطِئُ وَالشَّطُّ: حَفَّةُ الْوَادِي. الْفَصَاحَةُ: بَسْطُ اللِّسَانِ فِي إِيضَاحِ الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ، وَمُقَابِلُهُ: اللَّكْنُ. الرِّدْءُ: الْمُعِينُ الَّذِي يُشَدُّ بِهِ فِي الْأَمْرِ، فِعْلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، فَهُوَ اسْمٌ لِمَا يُعَانُ بِهِ، كَمَا أَنَّ الدِّفْءُ اسْمٌ لِمَا يُدَّفَأُ بِهِ. قَالَ سَلَامَةُ بْنُ جَنْدَلٍ:
وَيُقَالُ: رَدَأْتُ الْحَائِطَ أَرْدَؤُهُ، إِذَا دَعَمْتَهُ بِخَشَبَةٍ لِئَلَّا يَسْقُطَ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْعَوْنُ، وَيُقَالُ:
رَدَأْتُهُ عَلَى عَدُوِّهِ: أَعَنْتُهُ. الْمَقْبُوحُ: الْمَطْرُودُ، وَقَالَ الشَّاعِرُ:
لَقَدْ كَانَ فِي حَوْلٍ ثَوَاءٍ ثَوَيْتَهُ تَقَضَّى لُبَانَاتٍ وَيَسْأَمُ سَائِمُ
284
وَقَالَ الْعَجَّاجُ:
فَبَاتَ حَيْثُ يَدْخُلُ الثَّوِيُّ.
أَيِ الضَّيْفُ الْمُقِيمُ. الْبَطَرُ: الطُّغْيَانُ. السَّرْمَدُ: الدَّائِمُ الَّذِي لَا يَنْقَطِعُ.
طسم، تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ، نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ، إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ، وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ، وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ مَا كانُوا يَحْذَرُونَ.
هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا، قَالَهُ الْحَسَنُ وَعَطَاءٌ وَعِكْرِمَةُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: فِيهَا مِنَ الْمَدَنِيِّ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ إِلَى قَوْلِهِ: لَا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْجُحْفَةِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بِالْجُحْفَةِ، فِي خُرُوجِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِلْهِجْرَةِ.
وَقَالَ ابْنُ سَلَامٍ:
نَزَلَ إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ، بِالْجُحْفَةِ، وَقْتَ الْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ. وَمُنَاسَبَةُ أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ لِآخِرِ السُّورَةِ قَبْلَهَا أَنَّهُ أَمَرَهُ تَعَالَى بِحَمْدِهِ، ثُمَّ قَالَ:
سَيُرِيكُمْ آياتِهِ
«١» .
وَكَانَ مِمَّا فَسَّرَ بِهِ آيَاتِهِ تَعَالَى مُعْجِزَاتُ الرَّسُولِ، وَأَنَّهُ أَضَافَهَا تَعَالَى إِلَيْهِ، إِذْ كَانَ هُوَ الْمُخْبِرُ بِهَا عَلَى قَدَمِهِ فَقَالَ: تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ، إِذْ كَانَ الْكِتَابُ هُو أَعْظَمُ الْمُعْجِزَاتِ وَأَكْبَرُ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْكِتَابَ هُوَ الْقُرْآنُ، وَقِيلَ: اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ. نَتْلُوا:
أَيْ نَقْرَأُ عَلَيْكَ بِقِرَاءَةِ جِبْرِيلَ، أَوْ نَقُصُّ. وَمَفْعُولُ نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ: أَيْ بَعْضَ نبأ، وبالحق متعلق بنتلو، أَيْ مُحِقِّينَ، أَوْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ نَبَأِ، أَيْ مُتَلَبِّسًا بِالْحَقِّ، وَخَصَّ الْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّهُمْ هُمُ الْمُنْتَفِعُونَ بِالتِّلَاوَةِ. عَلا فِي الْأَرْضِ: أَيْ تَجَبَّرَ وَاسْتَكْبَرَ حَتَّى ادَّعَى الرُّبُوبِيَّةَ وَالْإِلَهِيَّةَ. وَالْأَرْضُ: أَرْضُ مِصْرَ، وَالشِّيَعُ: الْفِرَقُ. مَلَكَ الْقِبْطَ وَاسْتَعْبَدَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، أَيْ يُشَيِّعُونَهُ عَلَى مَا يُرِيدُ، أَوْ يُشَيِّعُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي طَاعَتِهِ، أَوْ نَاسًا فِي بِنَاءٍ وَنَاسًا فِي حَفْرٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْحِرَفِ الْمُمْتَهَنَةِ. وَمَنْ لَمْ يَسْتَخْدِمْهُ، ضَرَبَ عَلَيْهِ الْجِزْيَةَ، أَوْ أَغْرَى بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَكُونُوا لَهُ أَطْوَعَ، وَالطَّائِفَةُ الْمُسْتَضْعَفَةُ بَنُو إِسْرَائِيلَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ يَسْتَضْعِفُ اسْتِئْنَافٌ يُبَيِّنُ حَالَ بَعْضِ الشِّيَعِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنْ ضَمِيرِ، وَجَعَلَ وأن تكون صفة
285
لشيعا، وَيُذَبِّحُ تَبْيِينٌ لِلِاسْتِضْعَافِ، وَتَفْسِيرٌ أَوْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ يَسْتَضْعِفُ، أَوْ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِطَائِفَةٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يُذَبِّحُ، مُضَعَّفًا وَأَبُو حَيْوَةَ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ: بِفَتْحِ الْيَاءِ وَسُكُونِ الذَّالِ.
إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ: عِلَّةٌ لِتَجَبُّرِهِ وَلِتَذْبِيحِ الْأَبْنَاءِ، إِذْ لَيْسَ فِي ذَلِكَ إِلَّا مُجَرَّدُ الْفَسَادِ. وَنُرِيدُ: حِكَايَةُ حَالٍ مَاضِيَةٍ، وَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى قَوْلِهِ: إِنَّ فِرْعَوْنَ، لِأَنَّ كِلْتَيْهِمَا تَفْسِيرٌ لِلْبِنَاءِ، وَيَضْعُفُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي يَسْتَضْعِفُ، لِاحْتِيَاجِهِ إِلَى إِضْمَارِ مُبْتَدَأٍ، أَيْ وَنَحْنُ نُرِيدُ، وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَإِذَا كَانَتْ حَالًا، فَكَيْفَ يَجْتَمِعُ اسْتِضْعَافُ فِرْعَوْنَ وَإِرَادَةُ الْمِنَّةِ مِنَ اللَّهِ وَلَا يُمْكِنُ الِاقْتِرَانُ؟ فَقِيلَ: لَمَّا كَانَتِ الْمِنَّةُ بِخَلَاصِهِمْ مِنْ فِرْعَوْنَ قَرِينَةَ الْوُقُوعِ، جُعِلَتْ إِرَادَةُ وُقُوعِهَا كأنها مقارنة لاستضعافهم. وأَنْ نَمُنَّ: أَيْ بِخَلَاصِهِمْ مِنْ فِرْعَوْنَ وَإِغْرَاقِهِ. وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً: أَيْ مُقْتَدًى بِهِمْ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ:
دُعَاةً إِلَى الْخَيْرِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: وُلَاةً، كَقَوْلِهِمْ: وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: أَنْبِيَاءَ.
وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ: أَيْ يَرِثُونَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ، مُلْكَهُمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ.
وَعَنْ عَلِيٍّ، الْوَارِثُونَ هُمْ: يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَوَلَدُهُ
، وَعَنْ قَتَادَةَ أَيْضًا: وَرِثُوا أَرْضَ مِصْرَ وَالشَّامِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَنُمَكِّنَ، عَطْفًا عَلَى نَمُنَّ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: وَلِنُمَكِّنَ، بِلَامِ كَيْ، أَيْ وَأَرَدْنَا ذَلِكَ لِنُمَكِّنَ، أَوْ وَلِنُمَكِّنَ فَعَلْنَا ذَلِكَ. وَالتَّمْكِينُ: التَّوْطِئَةُ فِي الْأَرْضِ، هِيَ أَرْضُ مِصْرَ وَالشَّامِ، بِحَيْثُ يَنْفُذُ أَمْرُهُمْ وَيَتَسَلَّطُونَ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَنُرِيَ، مُضَارِعُ أَرَيْنَا، وَنُصِبَ مَا بَعْدَهُ. وَعَبْدُ الله، وحمزة، والكسائي: ونرى، مُضَارِعُ رَأَى، وَرُفِعَ مَا بَعْدَهُ. وَهامانَ: وَزِيرُ فِرْعَوْنَ وَأَحَدُ رِجَالِهِ، وَذُكِرَ لِنَبَاهَتِهِ فِي قَوْمِهِ وَمَحَلِّهِ مِنَ الْكُفْرِ.
أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ لَهُ: يَا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً
«١» ؟ وَيَحْذَرُونَ أَيْ زَوَالَ مُلْكِهِمْ وَإِهْلَاكَهُمْ عَلَى يَدَيْ مَوْلُودٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ.
وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ، فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ، وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ.
إِيحَاءُ اللَّهِ إِلَى أُمِّ مُوسَى: إِلْهَامٌ وَقَذْفٌ فِي الْقَلْبِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ أَوْ منام،
286
قَالَهُ قَوْمٌ أَوْ إِرْسَالُ مَلَكٍ، قَالَهُ قُطْرُبٌ وَقَوْمٌ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ لِقَوْلِهِ: إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ. وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ نَبِيَّةً، فَإِنْ كَانَ الْوَحْيُ بِإِرْسَالِ مَلَكٍ، كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ، فَهُوَ كَإِرْسَالِهِ لِلْأَقْرَعِ وَالْأَبْرَصِ وَالْأَعْمَى، وَكَمَا رُوِيَ مِنْ تَكْلِيمِ الْمَلَائِكَةِ لِلنَّاسِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْإِيحَاءَ هُوَ بَعْدَ الْوِلَادَةِ، فَيَكُونُ ثَمَّ جُمْلَةٌ مَحْذُوفَةٌ، أَيْ وَوَضَعَتْ مُوسَى أُمُّهُ فِي زَمَنِ الذَّبْحِ وَخَافَتْ عَلَيْهِ. وَأَوْحَيْنا، وأَنْ تَفْسِيرِيَّةٌ، أَوْ مَصْدَرِيَّةٌ.
وَقِيلَ: كَانَ الْوَحْيُ قَبْلَ الْوِلَادَةِ. وَقَرَأَ عَمْرُو بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: أَنِ ارْضِعِيهِ، بِكَسْرِ النُّونِ بَعْدَ حَذْفِ الْهَمْزَةُ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، لِأَنَّ الْقِيَاسَ فِيهِ نَقْلُ حَرَكَةِ الْهَمْزَةِ، وَهِيَ الْفَتْحَةُ، إِلَى النُّونِ، كَقِرَاءَةِ وَرْشٍ.
فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ مِنْ جَوَاسِيسِ فِرْعَوْنَ وَنُقَبَائِهِ الَّذِينَ يَقْتُلُونَ الْأَوْلَادَ، فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ. قَالَ الْجُنَيْدُ: إِذَا خِفْتِ حِفْظَهُ بِوَاسِطَةٍ، فَسَلِّمِيهِ إِلَيْنَا بِإِلْقَائِهِ فِي الْبَحْرِ، وَاقْطَعِي عَنْكِ شَفَقَتَكِ وَتَدْبِيرَكِ. وَزَمَانُ إِرْضَاعِهِ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ، أَوْ أَرْبَعَةٌ، أَوْ ثَمَانِيَةٌ، أَقْوَالٌ. وَالْيَمُّ هُنَا: نِيلُ مِصْرَ. وَلا تَخافِي: أَيْ مِنْ غَرَقِهِ وَضَيَاعِهِ، وَمِنِ الْتِقَاطِهِ، فَيُقْتَلُ، وَلا تَحْزَنِي لِمُفَارَقَتِكِ إِيَّاهُ، إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ، وَعْدٌ صَادِقٌ يُسَكِّنُ قَلْبَهَا وَيُبَشِّرُهَا بِحَيَاتِهِ وَجَعْلِهِ رَسُولًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ طه طَرَفٌ مِنْ حَدِيثِ التَّابُوتِ وَرَمْيِهِ فِي الْيَمِّ وَكَيْفِيَّةِ الْتِقَاطِهِ، فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. وَاسْتَفْصَحَ الْأَصْمَعِيُّ امْرَأَةً مِنَ الْعَرَبِ أَنْشَدَتْ شِعْرًا فَقَالَتْ: أَبَعْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى الْآيَةَ، فَصَاحَةٌ؟ وَقَدْ جَمَعَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ وَنَهْيَيْنِ وَخَبَرَيْنِ وَبِشَارَتَيْنِ.
فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ: فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: فَفَعَلَتْ مَا أَمَرْتُ بِهِ مِنَ إِرْضَاعِهِ وَمِنْ إِلْقَائِهِ فِي الْيَمِّ. وَاللَّامُ فِي لِيَكُونَ لِلتَّعْلِيلِ الْمَجَازِيِّ، لَمَّا كَانَ مَآلُ الْتِقَاطِهِ وَتَرْبِيَتِهِ إِلَى كَوْنِهِ عَدُوًّا لَهُمْ وَحَزَناً، وَإِنْ كَانُوا لَمْ يَلْتَقِطُوهُ إِلَّا لِلتَّبَنِّي، وَكَوْنُهُ يَكُونُ حَبِيبًا لَهُمْ، وَيُعَبَّرُ عَنْ هَذِهِ اللَّامِ بِلَامِ الْعَاقِبَةِ وَبِلَامِ الصَّيْرُورَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَحَزَنًا، بِفَتْحِ الْحَاءِ وَالزَّايِ، وَهِيَ لُغَةُ قُرَيْشٍ. وَقَرَأَ ابْنُ وَثَّابٍ، وَطَلْحَةُ، وَالْأَعْمَشُ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَابْنُ سَعْدَانَ: بِضَمِّ الْحَاءِ وَإِسْكَانِ الزَّايِ. وَالْخَاطِئُ: الْمُتَعَمِّدُ الْخَطَأِ، وَالْمُخْطِئُ: الَّذِي لَا يَتَعَمَّدُهُ. واحتمل أَنْ يَكُونَ فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، وَهُوَ الظَّاهِرُ، أَيْ فَكَانَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا، أَيْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا خَاطِئِينَ، لَمْ يَرْجِعُوا إِلَى دِينِهِ، وَتَعَمَّدُوا الْجَرَائِمَ وَالْكُفْرَ بِاللَّهِ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ:
خَاطِئِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْتِقَاطِهِ. وَقِيلَ: بِقَتْلِ أَوْلَادِ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَقِيلَ: فِي تَرْبِيَةِ عَدُوِّهِمْ.
وَأُضِيفَ الْجُنْدُ هُنَا وَفِيمَا قَبْلُ إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ، وَإِنْ كَانَ هَامَانُ لَا جُنُودَ لَهُ، لِأَنَّ أَمْرَ الْجُنُودِ لَا يَسْتَقِيمُ إِلَّا بِالْمَلِكِ وَالْوَزِيرِ، إِذْ بِالْوَزِيرِ تُحَصَّلُ الْأَمْوَالُ، وَبِالْمَلِكِ وَقَهْرِهِ يُتَوَصَّلُ
287
إِلَى تَحْصِيلِهَا، وَلَا يَكُونُ قِوَامُ الْجُنْدِ إِلَّا بِالْأَمْوَالِ. وقرىء: خَاطِيِينَ، بِغَيْرِ هَمْزٍ، فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ أَصْلُهُ الْهَمْزَ. وَحُذِفَتْ، وَهُوَ الظَّاهِرُ. وَقِيلَ: مِنْ خَطَا يَخْطُو، أَيْ خاطين الصَّوَابَ.
وَلَمَّا الْتَقَطُوهُ، هَمُّوا بِقَتْلِهِ، وَخَافُوا أَنْ يَكُونَ الْمَوْلُودَ الَّذِي يَحْذَرُونَ زَوَالَ مُلْكِهِمْ عَلَى يَدَيْهِ، فَأَلْقَى اللَّهُ مَحَبَّتَهُ فِي قَلْبِ آسِيَةَ امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ، وَنَقَلُوا أَنَّهَا رَأَتْ نُورًا فِي التَّابُوتِ، وَتَسَهَّلَ عَلَيْهَا فَتْحُهُ بَعْدَ تَعَسُّرِ فَتْحِهِ عَلَى يَدَيْ غَيْرِهَا، وَأَنَّ بِنْتَ فِرْعَوْنَ أَحَبَّتْهُ أَيْضًا لِبُرْئِهَا مِنْ دَائِهَا الَّذِي كَانَ بِهَا، وَهُوَ الْبَرَصُ، بِإِخْبَارِ مَنْ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يُبْرِئُهَا إِلَّا رِيقُ إِنْسَانٍ يُوجَدُ فِي تَابُوتٍ فِي الْبَحْرِ.
وَقُرَّةُ: خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ هُوَ قُرَّةُ، وَيَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً وَالْخَبَرُ لَا تَقْتُلُوهُ وَتَقَدَّمَ شَرْحُ قُرَّةُ فِي آخِرِ الْفُرْقَانِ. وَذُكِرَ أَنَّهَا لَمَّا قالت لفرعون: قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ، قَالَ:
لَكِ لَا لِي. وَرُوِيَ أَنَّهَا قَالَتْ لَهُ: لَعَلَّهُ مِنْ قَوْمٍ آخَرِينَ لَيْسَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَأَتْبَعَتِ النَّهْيَ عَنْ قَتْلِهِ بِرَجَائِهَا أَنْ يَنْفَعَهُمْ لِظُهُورِ مَخَايِلِ الْخَيْرِ فِيهِ مِنَ النُّورِ الذي رأته، ومن برإ الْبَرَصِ، أَوْ يَتَّخِذُوهُ وَلَدًا، فَإِنَّهُ أَهْلٌ لِذَلِكَ. وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ: جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، أَيْ لَا يَشْعُرُونَ أَنَّهُ الَّذِي يَفْسُدُ مُلْكُهُمْ عَلَى يَدَيْهِ، قَالَهُ قَتَادَةُ أَوْ أَنَّهُ عَدُوٌّ لَهُمْ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ أَوْ أَنِّي أَفْعَلُ مَا أُرِيدُ لَا مَا يُرِيدُونَ، قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقِيلَ: هُوَ مِنْ كَلَامِ امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ، أَيْ قَالَتْ ذَلِكَ لِفِرْعَوْنَ، وَالَّذِينَ أَشَارُوا بِقَتْلِهِ لَا يَشْعُرُونَ بِمَقَالَتِهَا لَهُ وَاسْتِعْطَافِ قَلْبِهِ عَلَيْهِ، لِئَلَّا يُغْرُوهُ بِقَتْلِهِ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: تَقْدِيرُ الْكَلَامِ: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً، وقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ كَذَا، وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ أَنَّهُمْ عَلَى خَطَأٍ عَظِيمٍ فِي الْتِقَاطِهِ وَرَجَاءِ النَّفْعِ مِنْهُ وَتَبَنِّيهِ. وَقَوْلُهُ: إِنَّ فِرْعَوْنَ الْآيَةَ، جُمْلَةٌ اعْتِرَاضِيَّةٌ وَاقِعَةٌ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ مُؤَكِّدَةٌ لِمَعْنَى خَطَئِهِمْ. انْتَهَى. وَمَتَى أَمْكَنَ حَمْلُ الْكَلَامِ عَلَى ظَاهِرِهِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ كَانَ أحسن.
أَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ، وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ، فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ
288
وَأَصْبَحَ: أَيْ صَارَ فَارِغًا مِنَ الْعَقْلِ، وَذَلِكَ حِينَ بَلَغَهَا أَنَّهُ وَقَعَ فِي يَدِ فِرْعَوْنَ، فَدَهَمَهَا أَمْرٌ مِثْلُهُ لَا يَثْبُتُ مَعَهُ الْعَقْلُ، لَا سِيَّمَا عَقْلُ امْرَأَةٍ خَافَتْ عَلَى وَلَدِهَا حَتَّى طَرَحَتْهُ فِي الْيَمِّ، رَجَاءَ نَجَاتِهِ مِنَ الذَّبْحِ هَذَا مَعَ الْوَحْيِ إِلَيْهَا أَنَّ اللَّهَ يَرُدُّهُ إِلَيْهَا وَيَجْعَلُهُ رَسُولًا، وَمَعَ ذَلِكَ فَطَاشَ لُبُّهَا وَغَلَبَ عَلَيْهَا مَا يَغْلِبُ عَلَى الْبَشَرِ عِنْدَ مُفَاجَأَةِ الْخَطْبِ الْعَظِيمِ، ثُمَّ اسْتَكَانَتْ بَعْدَ ذَلِكَ لِمَوْعُودِ اللَّهِ. وَقَرَأَ أَحْمَدُ بْنُ مُوسَى، عَنْ أَبِي عَمْرٍو فُوَادُ: بِالْوَاوِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
فَارِغًا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا مِنْ ذِكْرِ مُوسَى. وَقَالَ مَالِكٌ: هُوَ ذَهَابُ الْعَقْلِ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: فَارِغًا مِنَ الصَّبْرِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: فَارِغًا مِنْ وَعْدِ اللَّهِ وَوَحْيِهِ إِلَيْهَا، تَنَاسَتْهُ مِنَ الْهَمِّ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: فَارِغًا مِنَ الْحُزْنِ، إِذْ لَمْ يَغْرَقْ، وَهَذَا فِيهِ بُعْدٌ، وَتُبْعِدُهُ الْقِرَاءَاتُ الشَّوَاذُّ الَّتِي فِي اللَّفْظَةِ. وَقَرَأَ فَضَالَةُ بْنُ عُبَيْدٍ، وَالْحَسَنُ، وَيَزِيدُ بْنُ قُطَيْبٍ، وَأَبُو زُرْعَةَ بْنُ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ:
فَزِعًا، بِالزَّايِ وَالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ، مِنَ الْفَزَعِ، وَهُوَ الْخَوْفُ وَالْقَلَقُ وَابْنُ عَبَّاسٍ: قَرِعًا، بِالْقَافِ وَكَسْرِ الرَّاءِ وَإِسْكَانِهَا، مِنْ قَرَعَ رَأْسُهُ، إِذَا انْحَسَرَ شَعْرُهُ، كَأَنَّهُ خَلَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا مِنْ ذِكْرِ مُوسَى. وَقِيلَ: قَرْعًا، بِالسُّكُونِ، مَصْدَرٌ، أَيْ يَقْرَعُ قَرْعًا مِنَ الْقَارِعَةِ، وَهِيَ الْهَمُّ الْعَظِيمُ. وَقَرَأَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ: فِزْغًا، بِالْفَاءِ مَكْسُورَةٍ وَسُكُونِ الزَّايِ وَالْغَيْنِ الْمَنْقُوطَةِ، وَمَعْنَاهُ: ذَاهِبًا هَدَرًا تَالِفًا مِنَ الْهَمِّ وَالْحُزْنِ. وَمِنْهُ قَوْلُ طُلَيْحَةَ الْأَسَدِيِّ فِي أَخِيهِ حِبَالٍ:
فَإِنْ يَكُ قَتْلَى قَدْ أُصِيبَتْ نُفُوسُهُمْ فَلَنْ تَذْهَبُوا فِزْغًا بِقَتْلِ حِبَالِ
أَيْ: بِقَتْلِ حِبَالٍ فِزْغًا، أَيْ هَدَرًا لَا يُطْلَبُ لَهُ بِثَأْرٍ وَلَا يُؤْخَذُ. وَقَرَأَ الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ: فُرُغًا، بِضَمِّ الْفَاءِ وَالرَّاءِ. إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ: هِيَ إِنِ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَاللَّامُ هِيَ الْفَارِقَةُ.
وَقِيلَ: إِنْ نَافِيَةً، وَاللَّامُ بِمَعْنَى إِلَّا، وَهَذَا قَوْلٌ كُوفِيٌّ، وَالْإِبْدَاءُ: إِظْهَارُ الشَّيْءِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي به عَائِدٌ عَلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقِيلَ: الْبَاءُ زَائِدَةٌ، أَيْ: لَتُظْهِرُهُ. وَقِيلَ:
مَفْعُولُ تُبْدِي مَحْذُوفٌ، أَيْ لَتُبْدِي الْقَوْلَ بِهِ، أَيْ بِسَبَبِهِ وَأَنَّهُ وَلَدُهَا. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي بِهِ لِلْوَحْيِ، أَيْ لَتُبْدِي بِالْوَحْيِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَادَتْ تَصِيحُ عِنْدَ إِلْقَائِهِ فِي الْبَحْرِ وَا ابْنَاهُ.
وَقِيلَ: عِنْدَ رُؤْيَتِهَا تَلَاطُمَ الْأَمْوَاجِ بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها. قَالَ قَتَادَةُ: بِالْإِيمَانِ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: بِالْعِصْمَةِ. وَقَالَ الصَّادِقُ: بِالْيَقِينِ. وَقَالَ ابْنُ عَطَاءٍ: بِالْوَحْيِ، ولِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. فَعَلْنَا ذَلِكَ، أَيِ الْمُصَدِّقِينَ بِوَعْدِ اللَّهِ، وَأَنَّهُ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ. وَالرَّبْطُ عَلَى الْقَلْبِ كِنَايَةٌ عَنْ قَرَارِهِ وَاطْمِئْنَانِهِ، شُبِّهَ بِمَا يُرْبَطُ مَخَافَةَ الِانْفِلَاتِ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ: وَأَصْبَحَ فُؤَادُهَا فَارِغًا مِنَ الْهَمِّ حِينَ سَمِعَتْ أَنَّ فِرْعَوْنَ
289
عَطَفَ عَلَيْهِ وَتَبَنَّاهُ. إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِأَنَّهُ وَلَدُهَا، لِأَنَّهَا لَمْ تَمْلِكْ نَفْسَهَا فَرَحًا وَسُرُورًا بِمَا سَمِعَتْ، لولا أنا ظلمنا قَلْبَهَا وَسَكَّنَّا قَلَقَهُ الَّذِي حَدَثَ بِهِ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ وَالِابْتِهَاجِ. لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْوَاثِقِينَ بِوَعْدِ اللَّهِ، لَا بِتَبَنِّي فِرْعَوْنَ وَتَعَطُّفِهِ. انْتَهَى. وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ تَجْوِيزِ كَوْنِهِ فَارِغًا مِنَ الْهَمِّ إِلَى آخِرِهِ، خِلَافُ مَا فَهِمَهُ الْمُفَسِّرُونَ مِنَ الْآيَةِ، وَجَوَابُ لَوْلَا مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: لَكَادَتْ تُبْدِي بِهِ، وَدَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ، وَهَذَا تَشْبِيهٌ بِقَوْلِهِ: وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ
«١» .
وَقالَتْ لِأُخْتِهِ، طَمَعًا مِنْهَا فِي التَّعَرُّفِ بِحَالِهِ. قُصِّيهِ: أَيِ اتَّبِعِي أَثَرَهُ وَتَتَبَّعِي خَبَرَهُ.
فَرُوِيَ أَنَّهَا خَرَجَتْ فِي سِكَكِ الْمَدِينَةِ مُخْتَفِيَةً، فَرَأَتْهُ عِنْدَ قَوْمٍ مِنْ حَاشِيَةِ امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ يَتَطَلَّبُونَ لَهُ امْرَأَةً تُرْضِعُهُ، حِينَ لَمْ يَقْبَلِ الْمَرَاضِعَ، وَاسْمُ أُخْتِهِ مَرْيَمُ
، وَقِيلَ: كَلْثَمَةُ، وَقِيلَ:
كُلْثُومٌ، وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، أَيْ فَقَصَّتْ أَثَرَهُ. فَبَصُرَتْ بِهِ: أَيْ أَبْصَرَتْهُ عَنْ جُنُبٍ، أَيْ عَنْ بُعْدٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ بِتَطَلُّبِهَا لَهُ وَلَا بِإِبْصَارِهَا. وَقِيلَ: مَعْنَى عَنْ جُنُبٍ:
عَنْ شَوْقٍ إِلَيْهِ، حَكَاهُ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ وَقَالَ: هِيَ لُغَةُ جُذَامٍ، يَقُولُونَ: جَنَبْتُ إِلَيْكَ:
اشْتَقْتُ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: جُنُبٍ صِفَةً لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ عَنْ مَكَانٍ جنب، يريد بعيد.
وَقِيلَ: عَنْ جَانِبٍ، لِأَنَّهَا كَانَتْ تَمْشِي عَلَى الشَّطِّ، وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ أَنَّهَا تَقُصُّ. وَقِيلَ:
لَا يَشْعُرُونَ أَنَّهَا أُخْتُهُ. وَقِيلَ: لَا يَشْعُرُونَ أَنَّهُ عَدُوٌّ لَهُمْ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: عَنْ جُنُبٍ، بِضَمَّتَيْنِ. وَقَرَأَ قَتَادَةُ: فَبَصَرَتْ، بِفَتْحِ الصَّادِ وَعِيسَى: بِكَسْرِهَا. وَقَرَأَ قَتَادَةُ، وَالْحَسَنُ، وَالْأَعْرَجُ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: جَنْبٍ، بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ النُّونِ. وَعَنْ قَتَادَةَ:
بِفَتْحِهِمَا أَيْضًا. وَعَنِ الْحَسَنِ: بِضَمِّ الْجِيمِ وَإِسْكَانِ النُّونِ. وَقَرَأَ النُّعْمَانُ بْنُ سَالِمٍ: عَنْ جَانِبٍ، وَالْجَنْبُ وَالْجَانِبُ وَالْجَنَابَةُ وَالْجَنَابُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ: مَعْنَى عَنْ جُنُبٍ:
أَنَّهَا تَنْظُرُ إِلَيْهِ كَأَنَّهَا لَا تُرِيدُهُ. وَالتَّحْرِيمُ هُنَا بِمَعْنَى الْمَنْعِ، أَيْ مَنَعْنَاهُ أَنْ يَرْضَعَ ثَدْيَ امْرَأَةٍ وَالْمَرَاضِعُ جَمْعُ مُرْضِعٍ، وَهِيَ الْمَرْأَةُ الَّتِي تُرْضِعُ أَوْ جَمْعُ مَرْضَعٍ، وَهُوَ مَوْضِعُ الرَّضَاعِ، وَهُوَ الثَّدْيُ، أَوِ الْإِرْضَاعُ. مِنْ قَبْلُ: أَيْ مِنْ أَوَّلِ أَمْرِهِ. وَقِيلَ: مِنْ قَبْلِ قَصِّهَا أَثَرَهُ وَإِتْيَانِهِ عَلَى مَنْ هُوَ عِنْدَهُ.
فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ: أَيْ أُرْشِدُكُمْ إِلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ، لِكَوْنِهِمْ فِيهِمْ شَفَقَةٌ وَرَحْمَةٌ لِمَنْ يَكْفُلُونَهُ وَحُسْنُ تَرْبِيَةٍ. وَدَلَّ قوله:
290
وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ، أَنَّهُ عُرِضَ عَلَيْهِ جُمْلَةٌ مِنَ الْمُرْضِعَاتِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي لَهُ عَائِدٌ عَلَى مُوسَى. قِيلَ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَعُودَ عَلَى الْمَلِكِ الَّذِي كَانَ الطِّفْلُ فِي ظَاهِرِ أَمْرِهِ مِنْ جُمْلَتِهِ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: تَأَوَّلَ الْقَوْمُ أَنَّ الضَّمِيرَ لِلطِّفْلِ فَقَالُوا لَهَا: إِنَّكِ قَدْ عَرَفْتِيهِ، فَأَخْبِرِينَا مَنْ هُوَ؟ فَقَالَتْ: مَا أَرَدْتُ، إِلَّا أَنَّهُمْ نَاصِحُونَ لِلْمَلِكِ، فَتَخَلَّصَتْ مِنْهُمْ بِهَذَا التَّأْوِيلِ. وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: فَمَرَّتْ بِهِمْ إِلَى أُمِّهِ، فَكَلَّمُوهَا فِي إِرْضَاعِهِ أَوْ فَجَاءَتْ بِأُمِّهِ إِلَيْهِمْ، فَكَلَّمُوهَا فِي شَأْنِهِ، فَأَرْضَعَتْهُ، فَالْتَقَمَ ثَدْيَهَا.
وَيُرْوَى أَنَّ فِرْعَوْنَ قَالَ لَهَا: مَا سَبَبُ قَبُولِ هَذَا الطِّفْلِ ثَدْيَكِ، وَقَدْ أَبَى كُلَّ ثَدْيٍ؟ فَقَالَتْ: إِنِّي امْرَأَةٌ طَيِّبَةُ الرِّيحِ، طَيِّبَةُ اللَّبَنِ، لَا أُوتَى بِصَبِيٍّ إِلَّا قَبِلَنِي، فَدَفَعَهُ إِلَيْهَا، وَذَهَبَتْ بِهِ إِلَى بَيْتِهَا، وَأَجْرَى لَهَا كُلَّ يَوْمٍ دِينَارًا.
وَجَازَ لَهَا أَخْذُهُ لِأَنَّهُ مَالُ حَرْبِيٍّ، فَهُوَ مُبَاحٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ أُجْرَةَ رَضَاعٍ. فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ، وَدَمْعُ الْفَرَحِ بَارِدٌ، وَعَيْنُ الْمَهْمُومِ حَرَّى سخنة، وَقَالَ أَبُو تَمَّامٍ:
فَأَمَّا عُيُونُ الْعَاشِقِينَ فَأَسْخَنَتْ وَأَمَّا عُيُونُ الشَّامِتِينَ فَقَرَّتِ
لَمَّا أَنْجَزَ تَعَالَى وَعْدَهُ فِي الرَّدِّ، ثَبَتَ عِنْدَهَا أَنَّهُ سَيَكُونُ نَبِيًّا رَسُولًا. وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ، فَعَلْنَا ذَلِكَ. وَلَا يَعْلَمُونَ، أَيْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ، فَهُمْ مُرْتَابُونَ فِيهِ أَوْ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ الرَّدَّ إِنَّمَا كَانَ لِعِلْمِهَا بِصِدْقِ وَعْدِ اللَّهِ. وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ بِأَنَّ الرَّدَّ كَانَ لِذَلِكَ، وَفِي قَوْلِهِ: وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ دَلَالَةٌ عَلَى ضَعْفِ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْإِيحَاءَ إِلَيْهَا كَانَ إِلْهَامًا أَوْ مَنَامًا، لِأَنَّ ذَلِكَ يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ فِيهِ وَعْدٌ. وَقَوْلُهُ: وَلِتَعْلَمَ وُقُوعَ ذَلِكَ فَهُوَ عِلْمُ مُشَاهَدَةٍ، إِذْ كَانَتْ عَالِمَةً أَنَّ ذَلِكَ سَيَكُونُ، وَأَكْثَرُهُمْ هُمُ الْقِبْطُ، وَلَا يَعْلَمُونَ سِرَّ الْقَضَاءِ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: لَا يَعْلَمُونَ مَصَالِحَهُمْ وَصَلَاحَ عَوَاقِبِهِمْ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ أَيْضًا، وَمُقَاتِلٌ:
لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ وَعَدَهَا رَدَّهُ إِلَيْهَا، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ إِلَى الْمُحْسِنِينَ فِي سُورَةِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ، قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ، فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ، فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يَا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ، وَجاءَ
291
رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ، فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ.
الْمَدِينَةَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ مَنْفُ. رَكِبَ فِرْعَوْنُ يَوْمًا وَسَارَ إِلَيْهَا، فَعَلِمَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِرُكُوبِهِ، فَلَحِقَ بِتِلْكَ الْمَدِينَةِ فِي وَقْتِ الْقَائِلَةِ، وَعَنْهُ بَيْنَ الْعِشَاءِ وَالْعَتَمَةِ. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: الْمَدِينَةُ مِصْرُ بِنَفْسِهَا، وَكَانَ مُوسَى قَدْ بَدَتْ مِنْهُ مُجَاهَرَةٌ لِفِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ بِمَا يَكْرَهُونَ، فَاخْتَفَى وَخَافَ، فَدَخَلَهَا مُتَنَكِّرًا حَذِرًا مُتَغَفِّلًا لِلنَّاسِ.
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: كَانَ فِرْعَوْنُ قَدْ أَخْرَجَهُ مِنَ الْمَدِينَةِ، فَغَابَ عَنْهَا سِنِينَ، فَنَسِيَ، فَجَاءَ وَالنَّاسُ فِي غَفْلَةٍ بِنِسْيَانِهِمْ لَهُ وَبُعْدِ عَهْدِهِمْ بِهِ. وَقِيلَ: كَانَ يَوْمَ عِيدٍ، وَهُمْ مَشْغُولُونَ بِلَهْوِهِمْ. وَقِيلَ: خَرَجَ مِنْ قَصْرِ فِرْعَوْنَ وَدَخَلَ مِصْرَ.
وَقِيلَ: الْمَدِينَةُ عَيْنُ شَمْسٍ. وَقِيلَ: قَرْيَةٌ عَلَى فَرْسَخَيْنِ مِنْ مِصْرَ يُقَالُ لَهَا حَابِينَ. وَقِيلَ: الْإِسْكَنْدَرِيَّةُ. وَقَرَأَ أَبُو طَالِبٍ الْقَارِئُ: عَلى حِينِ، بِنَصْبِ نُونِ حِينَ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ أَجْرَى الْمَصْدَرَ مَجْرَى الْفِعْلِ، كَأَنَّهُ قَالَ: عَلَى حِينَ غَفَلَ أَهْلُهَا، فَبَنَاهُ كَمَا بَنَاهُ حِينَ أُضِيفَ إِلَى الْجُمْلَةِ الْمُصَدَّرَةِ بِفِعْلٍ مَاضٍ، كَقَوْلِهِ:
عَلَى حِينَ عَاتَبْتُ الْمَشِيبَ عَلَى الصِّبَا وَهَذَا تَوْجِيهُ شُذُوذٍ. وَقَرَأَ نُعَيْمُ بْنُ مَيْسَرَةَ: يَقَتِّلَانِ. بِإِدْغَامِ التَّاءِ فِي التَّاءِ وَنَقْلِ فَتْحَتِهَا إِلَى الْقَافِ. قِيلَ: كَانَا يَقْتَتِلَانِ فِي الدِّينِ، إِذْ أَحَدُهُمَا إِسْرَائِيلِيٌّ مُؤْمِنٌ وَالْآخَرُ قِبْطِيٌّ. وَقِيلَ:
يَقْتَتِلَانِ، فِي أَنْ كُلِّفَ الْقِبْطِيُّ حَمْلَ الْحَطَبِ إِلَى مَطْبَخِ فِرْعَوْنَ على ظهر الإسرائيلي، ويقتتلان صفة لرجلين. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يَقْتَتِلَانِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. انْتَهَى. وَالْحَالُ مِنَ النَّكِرَةِ أَجَازَهُ سِيبَوَيْهِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ. هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ: أَيْ مِمَّنْ شَايَعَهُ عَلَى دِينِهِ، وَهُوَ الْإِسْرَائِيلِيُّ. قِيلَ: وَهُوَ السَّامِرِيُّ، وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ، أَيْ مِنَ الْقِبْطِ. وَقِيلَ: اسْمُهُ فَاتُونُ، وَهَذَا حِكَايَةُ حَالٍ، وَقَدْ كَانَا حَاضِرَيْنِ حالة وجد أن مُوسَى لَهُمَا، أَوْ لِحِكَايَةِ الْحَالِ، عُبِّرَ عَنْ غَائِبٍ مَاضٍ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ الَّذِي هُوَ مَوْضُوعٌ لِلْحَاضِرِ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: الْعَرَبُ تُشِيرُ بِهَذَا إِلَى الْغَائِبِ. قَالَ جَرِيرٌ:
هَذَا ابْنُ عَمِّي فِي دِمَشْقَ خَلِيفَةٌ لَوْ شِئْتُ سَاقَكُمْ إِلَيَّ قَطِينَا
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَاسْتَغاثَهُ، أَيْ طَلَبِ غَوْثَهُ وَنَصْرَهُ عَلَى الْقِبْطِيِّ. وَقَرَأَ سِيبَوَيْهِ، وَابْنُ مِقْسَمٍ، وَالزَّعْفَرَانِيُّ: بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَالنُّونِ بَدَلَ الثَّاءِ، أَيْ طَلَبِ مِنْهُ الْإِعَانَةَ عَلَى الْقِبْطِيِّ.
قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ يُوسُف بْنِ عَلِيِّ بْنِ جُبَارَةَ: وَالِاخْتِيَارُ قِرَاءَةُ ابْنِ مِقْسَمٍ، لِأَنَّ الْإِعَانَةَ أَوْلَى فِي
292
هَذَا الْبَابِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ذَكَرَهَا الْأَخْفَشُ، وَهِيَ تَصْحِيفٌ لَا قِرَاءَةٌ. انْتَهَى. وَلَيْسَتْ تَصْحِيفًا، فَقَدْ نَقَلَهَا ابْنُ خَالَوَيْهِ عَنْ سِيبَوَيْهِ، وَابْنُ جُبَارَةَ عَنِ ابْنِ مِقْسَمٍ وَالزَّعْفَرَانِيِّ.
وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا اشْتَدَّ التَّنَاكُرُ بَيْنَهُمَا قَالَ الْقِبْطِيُّ لِمُوسَى: لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَحْمِلَهُ عَلَيْكَ، يَعْنِي الْحَطَبَ، فَاشْتَدَّ غَضَبُ مُوسَى، وَكَانَ قَدْ أُوتِيَ قُوَّةً، فَوَكَزَهُ، فَمَاتَ.
وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ فَلَكَزَهُ، بِاللَّامِ، وَعَنْهُ: فَنَكَزَهُ، بِالنُّونِ. قَالَ قَتَادَةُ: وَكَزَهُ بِعَصَاهُ وَغَيْرُهُ قَالَ: بِجُمْعِ كَفِّهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ فَاعِلَ فَقَضى ضَمِيرٌ عَائِدٌ عَلَى مُوسَى. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى اللَّهِ، أَيْ فَقَضَى اللَّهُ عَلَيْهِ بِالْمَوْتِ. ويحتمل أن يعود عَلَى الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنْ وَكَزَهُ، أَيْ فَقَضَى الْوَكْزُ عَلَيْهِ، وَكَانَ مُوسَى لَمْ يَتَعَمَّدْ قَتْلَهُ، وَلَكِنْ وَافَقَتْ وَكْزَتُهُ الْأَجَلَ، فَنَدِمَ مُوسَى.
وَرُوِيَ أَنَّهُ دَفَنَهُ فِي الرَّمْلِ وَقَالَ: هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ، وَهُوَ مَا لَحِقَهُ مِنَ الْغَضَبِ حَتَّى أَدَّى إِلَى الْوَكْزَةِ الَّتِي قَضَتْ عَلَى الْقِبْطِيِّ، وَجَعَلَهُ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ وَسَمَّاهُ ظُلْمًا لِنَفْسِهِ وَاسْتَغْفَرَ مِنْهُ، لِأَنَّهُ أَدَّى إِلَى قَتْلِ مَنْ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِي قَتْلِهِ.
وَعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: لَيْسَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَقْتُلَ مَا لَمْ يُؤْمَرْ. وَقَالَ كَعْبٌ: كَانَ مُوسَى إِذْ ذَاكَ ابْنُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، وَكَانَ قَتْلُهُ خَطَأً، فَإِنَّ الْوَكْزَةَ فِي الْغَالِبِ لَا تَقْتُلُ. وَقَالَ النَّقَّاشُ: كَانَ هَذَا قَبْلَ النُّبُوَّةِ، وَقَدِ انْتَهَجَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ نَهْجَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذْ قَالَ: ظَلَمْنا أَنْفُسَنا
«١» . وَالْبَاءُ فِي بِما أَنْعَمْتَ لِلْقَسَمِ، وَالتَّقْدِيرُ: أُقْسِمُ بِمَا أَنْعَمْتَ بِهِ عَلَيَّ مِنَ الْمَغْفِرَةِ، وَالْجَوَابُ مَحْذُوفٌ، أي لأتوين، فَلَنْ أَكُونَ، أَوْ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: اعْصِمْنِي بِحَقِّ مَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ مِنَ الْمَغْفِرَةِ، فَلَنْ أَكُونَ إِنْ عَصَمْتَنِي ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ. وَقِيلَ: فَلَنْ أَكُونَ دُعَاءٌ لَا خَبَرٌ، وَلَنْ بِمَعْنَى لَا فِي الدُّعَاءِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ لَنْ لَا تَكُونُ فِي الدُّعَاءِ، وَقَدِ اسْتُدِلَّ عَلَى أَنَّ لَنْ تَكُونُ فِي الدُّعَاءِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَبِقَوْلِ الشَّاعِرِ:
لَنْ تَزَالُوا كَذَاكُمْ ثُمَّ مَا زِلْ تَ لَهُمْ خَالِدًا خُلُودَ الْجِبَالِ
وَالْمُظَاهَرَةُ، إِمَّا بِصُحْبَتِهِ لِفِرْعَوْنَ وَانْتِظَامِهِ فِي جُمْلَتِهِ وَتَكْثِيرِ سَوَادِهِ حَيْثُ كَانَ يَرْكَبُ بِرُكُوبِهِ كَالْوَلَدِ مَعَ الْوَالِدِ، وَكَانَ يُسَمَّى ابْنَ فِرْعَوْنَ، وَإِمَّا أَنَّهُ أَدَّتِ الْمُظَاهَرَةُ إِلَى الْقَتْلِ الَّذِي جَرَى عَلَى يَدِهِ. وَقِيلَ: بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ مِنَ النُّبُوَّةِ، فَلَنْ أَسْتَعْمِلَهَا إِلَّا فِي مُظَاهَرَةِ أَوْلِيَائِكَ، وَلَا أَدَعُ قِبْطِيًّا يَغْلِبُ إِسْرَائِيلِيًّا. وَاحْتَجَّ أَهْلُ الْعِلْمِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى مَنْعِ مَعُونَةِ أَهْلِ الظُّلْمِ وَخِدْمَتِهِمْ، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ رَجُلٌ لِعَطَاءٍ: إِنَّ أَخِي يَضْرِبُ بِعِلْمِهِ وَلَا يَعْدُو رِزْقَهُ، قَالَ: فَمَنِ الرَّأْسُ، يَعْنِي مَنْ يَكْتُبْ لَهُ؟ قَالَ: خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
293
الْقَسْرِيُّ، قَالَ: فَأَيْنَ قَوْلُ مُوسَى؟ وَتَلَا الْآيَةَ: فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً مِنْ قبل الْقِبْطِيِّ أَنْ يُؤْخَذَ بِهِ، يَتَرَقَّبُ وُقُوعَ الْمَكْرُوهِ بِهِ، أَوِ الْإِخْبَارَ هَلْ وَقَفُوا عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ؟ وقيل: خَائِفًا مِنْ أَنَّهُ يَتَرَقَّبُ الْمَغْفِرَةَ. وَقِيلَ: خَائِفًا يَتَرَقَّبُ نُصْرَةَ رَبِّهِ، أَوْ يَتَرَقَّبُ هِدَايَةَ قَوْمِهِ، أَوْ يَنْتَظِرُ أَنْ يُسْلِمَهُ قَوْمُهُ. فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ: أَيِ الْإِسْرَائِيلِيُّ الَّذِي كَانَ قَتَلَ الْقِبْطِيَّ بِسَبَبِهِ. وَإِذَا هُنَا لِلْمُفَاجَأَةِ، وَبِالْأَمْسِ يَعْنِي الْيَوْمَ الَّذِي قَبْلَ يَوْمِ الِاسْتِصْرَاخِ، وَهُوَ مُعْرَبٌ، فَحَرَكَةُ سِينِهِ حَرَكَةُ إِعْرَابٍ لِأَنَّهُ دَخَلَتْهُ أَلْ، بِخِلَافِ حَالِهِ إِذَا عري منها، فالحجاز تنبيه إِذَا كَانَ مَعْرِفَةً، وَتَمِيمٌ تَمْنَعُهُ الصَّرْفَ حَالَةَ الرَّفْعِ فَقَطْ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْنَعُهُ الصَّرْفَ مُطْلَقًا، وَقَدْ يُبْنَى مَعَ أَلْ عَلَى سَبِيلِ النُّدُورِ. قَالَ الشَّاعِرُ:
وَإِنِّي حَسِبْتُ الْيَوْمَ وَالْأَمْسَ قَبْلَهُ إِلَى اللَّيْلِ حَتَّى كَادَتِ الشَّمْسُ تَغْرُبُ
يَسْتَصْرِخُهُ: يَصِيحُ بِهِ مُسْتَغِيثًا مِنْ قِبْطِيٍّ آخَرَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
كُنَّا إِذَا مَا أَتَانَا صَارِخٌ فَزِعٌ كَانَ الصُّرَاخُ لَهُ قَرْعُ الطَّنَابِيبِ
قَالَ لَهُ مُوسَى: الظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي لَهُ عَائِدٌ عَلَى الَّذِي إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ لِكَوْنِكَ كُنْتَ سَبَبًا فِي قَتْلِ الْقِبْطِيِّ بِالْأَمْسِ، قَالَ لَهُ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْعِتَابِ وَالتَّأْنِيبِ. وَقِيلَ:
الضَّمِيرُ فِي لَهُ، وَالْخِطَابُ لِلْقِبْطِيِّ، وَدَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: يَسْتَصْرِخُهُ، وَلَمْ يَفْهَمِ الْإِسْرَائِيلِيُّ أَنَّ الْخِطَابَ لِلْقِبْطِيِّ. فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ: الظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي أَرَادَ وَيَبْطِشُ هُوَ لِمُوسَى. بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما: أَيْ لِلْمُسْتَصْرِخِ وَمُوسَى وَهُوَ الْقِبْطِيُّ يُوهِمُ الْإِسْرَائِيلِيَّ أَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ هُوَ عَلَى سَبِيلِ إِرَادَةِ السُّوءِ بِهِ، وَظَنَّ أَنَّهُ يَسْطُو عَلَيْهِ. قَالَ، أَيِ الْإِسْرَائِيلِيُّ: يَا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ، دَفْعًا لِمَا ظَنَّهُ مِنْ سَطْوِ مُوسَى عليه، وكان تعيين القائل الْقِبْطِيِّ قَدْ خَفِيَ عَلَى النَّاسِ، فَانْتَشَرَ فِي الْمَدِينَةِ أَنَّ قَاتِلَ الْقِبْطِيِّ هُوَ مُوسَى، وَنَمَى ذَلِكَ إِلَى فِرْعَوْنَ، فَأَمَرَ بِقَتْلِ مُوسَى. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي أَرَادَ ويبطش لِلْإِسْرَائِيلِيِّ عِنْدَ ذَلِكَ مِنْ مُوسَى، وَخَاطَبَهُ بِمَا يَقْبُحُ، وَأَنَّ بَعْدَ لَمَّا يَطَّرِدُ زِيَادَتُهَا.
وَقِيلَ: لَوْ إِذَا سَبَقَ قَسَمٌ كَقَوْلِهِ:
فَأُقْسِمُ أَنْ لَوِ الْتَقَيْنَا وَأَنْتُمْ لَكَانَ لَكُمْ يَوْمٌ مِنَ الشَّرِّ مُظْلِمُ
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَبْطِشَ، بِكَسْرِ الطَّاءِ وَالْحَسَنُ، وَأَبُو جَعْفَرٍ: بِضَمِّهَا. إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ: وَشَأْنُ الْجَبَّارِ أَنْ يَقْتُلَ بِغَيْرِ حَقٍّ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: مَنْ قَتَلَ رَجُلَيْنِ فَهُوَ جَبَّارٌ، يَعْنِي بِغَيْرِ حَقٍّ، وَلَمَّا أَثْبَتَ لَهُ الْجَبَرُوتِيَّةَ نَفَى عَنْهُ الصَّلَاحَ. وَجاءَ رَجُلٌ
294
مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ
، قِيلَ: هُوَ مُؤْمِنُ آلِ فِرْعَوْنَ، وَكَانَ ابْنَ عَمِّ فِرْعَوْنَ. قَالَ الْكَلْبِيُّ:
وَاسْمُهُ جِبْرِيلُ بْنُ شَمْعُونَ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: شَمْعُونُ بْنُ إِسْحَاقَ. وَقِيلَ: هُوَ غَيْرُ مُؤْمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ. يَسْعى: يَشْتَدُّ فِي مَشْيِهِ. وَلَمَّا أَمَرَ فِرْعَوْنُ بِقَتْلِهِ، خَرَجَ الْجَلَاوِزَةُ مِنَ الشَّارِعِ الْأَعْظَمِ لِطَلَبِهِ، فَسَلَكَ هَذَا الرَّجُلُ طَرِيقًا أَقْرَبَ إلى موسى. ومن أقصى المدينة، ويسعى:
صِفَتَانِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ يَسْعَى حَالًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ مِنْ أقصى بجاء. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:
وَإِذَا جَعَلَ، يَعْنِي، مِنْ أَقْصَى حَالًا، لجاء لَمْ يَجُزْ فِي يَسْعَى إِلَّا الْوَصْفُ. انْتَهَى. يَعْنِي:
أَنَّ رَجُلًا يَكُونُ نَكِرَةً لَمْ تُوصَفْ، فَلَا يَجُوزُ مِنْهَا الْحَالِ، وَقَدْ أَجَازَ ذَلِكَ سِيبَوَيْهِ فِي كِتَابِهِ مِنْ غَيْرِ وَصْفٍ. قَالَ: إِنَّ الْمَلَأَ، وَهُمْ وُجُوهُ أَهْلِ دَوْلَةِ فِرْعَوْنَ، يَأْتَمِرُونَ: يَتَشَاوَرُونَ، قَالَ الشَّاعِرُ، وَهُوَ النَّمِرُ بْنُ تَوْلَبٍ:
أَرَى النَّاسَ قَدْ أَحْدَثُوا شِيمَةً وَفِي كُلِّ حَادِثَةٍ يُؤْتَمَرْ
وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: يَأْمُرُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِقَوْلِهِ، مِنْ قوله تعالى: وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ
«١» . فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ. وَلَكَ: مُتَعَلِّقٌ إِمَّا بِمَحْذُوفٍ، أَيْ نَاصِحٌ لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ، أَوْ بِمَحْذُوفٍ عَلَى جِهَةِ الْبَيَانِ، أَيْ لَكَ أَعْنِي، أَوْ بِالنَّاصِحِينَ، وَإِنْ كَانَ فِي صِلَةِ أَلْ، لِأَنَّهُ يُتَسَامَحُ فِي الظَّرْفِ وَالْمَجْرُورِ مَا لَا يُتَسَامَحُ فِي غَيْرِهِمَا. وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ لِلنَّحْوِيِّينَ فِيمَا أَشْبَهَ هَذَا، فَامْتَثَلَ مُوسَى مَا أَمَرَهُ بِهِ ذَلِكَ الرَّجُلُ، وَعَلِمَ صِدْقَهُ وَنُصْحَهُ، وَخَرَجَ وَقَدْ أَفْلَتَ طَالِبِيهِ فَلَمْ يَجِدُوهُ. وَكَانَ مُوسَى لَا يَعْرِفُ ذَلِكَ الطَّرِيقَ، وَلَمْ يَصْحَبْ أَحَدًا، فَسَلَكَ مَجْهَلًا، وَاثِقًا بِاللَّهِ تَعَالَى، دَاعِيًا رَاغِبًا إِلَى رَبِّهِ فِي تَنْجِيَتِهِ مِنَ الظَّالِمِينَ.
وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ، وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ مَا خَطْبُكُما قالَتا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ، فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ. فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ، قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ، قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ
295
أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ، فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ نَارًا قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ.
تَوَجَّهَ: رَدَّ وجهه. وتِلْقاءَ: تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي يُونُسَ، أَيْ نَاحِيَةَ وَجْهِهِ.
اسْتُعْمِلَ الْمَصْدَرُ اسْتِعْمَالَ الظَّرْفِ، وَكَانَ هُنَاكَ ثَلَاثُ طُرُقٍ، فَأَخَذَ مُوسَى أَوْسَطَهَا، وَأَخَذَ طَالِبُوهُ فِي الْآخَرَيْنِ وَقَالُوا: الْمُرِيبُ لَا يَأْخُذُ فِي أَعْظَمِ الطُّرُقِ وَلَا يَسْلُكُ إِلَّا بُنَيَّاتِهَا. فَبَقِيَ فِي الطَّرِيقِ ثَمَانِيَ لَيَالٍ وَهُوَ حَافٍ، لَا يَطْعَمُ إِلَّا وَرَقَ الشَّجَرِ. وَالظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ: عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ، أَنَّهُ كَانَ لَا يَعْرِفُ الطَّرِيقَ، فَسَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ أَقْصَدَ الطَّرِيقِ بِحَيْثُ أَنَّهُ لَا يُضِلُّ، إِذْ لَوْ سَلَكَ مَا لَا يُوَصِّلُهُ إِلَى الْمَقْصُودِ لَتَاهَ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:
قَصَدَ مَدْيَنَ وَأَخَذَ يَمْشِي مِنْ غَيْرِ مَعْرِفَةٍ، فَأَوْصَلَهُ اللَّهُ إِلَى مَدْيَنَ. وَقِيلَ: هَدَاهُ جِبْرِيلُ إِلَى مَدْيَنَ. وَقِيلَ: مَلَكٌ غَيْرُهُ. وَقِيلَ: أَخَذَ طَرِيقًا يَأْمَنُ فِيهِ، فَاتَّفَقَ ذَهَابُهُ إِلَى مَدْيَنَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ: وَسَطُ الطَّرِيقِ الَّذِي يَسْلُكُهُ إِلَى مَكَانِ مَأْمَنِهِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: سَوَاءَ السَّبِيلِ:
طَرِيقُ مَدْيَنَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هُوَ سَبِيلُ الْهُدَى، فَمَشَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى أَنْ وَصَلَ إِلَى مَدْيَنَ، وَلَمْ يَكُنْ فِي طَاعَةِ فِرْعَوْنَ.
وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ: أَيْ وَصَلَ إِلَيْهِ، وَالْوُرُودُ بِمَعْنَى الْوُصُولِ إِلَى الشَّيْءِ، وَبِمَعْنَى الدُّخُولِ فِيهِ. قِيلَ: وَكَانَ هَذَا الْمَاءُ بِئْرًا. وَالْأُمَّةُ: الْجَمْعُ الْكَثِيرُ، وَمَعْنَى عَلَيْهِ: أَيْ عَلَى شَفِيرِهِ وَحَاشِيَتِهِ. يَسْقُونَ: يَعْنِي مَوَاشِيَهُمْ. وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ: أَيْ مِنَ الْجِهَةِ الَّتِي وَصَلَ إِلَيْهَا قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَى الْأُمَّةِ، فَهُمَا مِنْ دُونِهِمْ بِالْإِضَافَةِ إِلَيْهِ، قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فِي مَكَانٍ أَسْفَلَ مِنْ مَكَانِهِمْ. تَذُودانِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: تَذُودَانِ غَنَمَهُمَا عَنِ الْمَاءِ خَوْفًا مِنَ السُّقَاةِ الْأَقْوِيَاءِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: تَذُودَانِ النَّاسَ عَنْ غَنَمِهِمَا. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَكَأَنَّهُمَا تَكْرَهَانِ الْمُزَاحَمَةَ عَلَى الْمَاءِ. وَقِيلَ: لِئَلَّا تَخْتَلِطَ غَنَمُهُمَا بِأَغْنَامِهِمْ.
وَقِيلَ: تَذُودَانِ عَنْ وُجُوهِهِمَا نَظَرَ النَّاظِرِ لِتَسَتُّرِهِمَا. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: تَحْبِسَانِهَا عَنْ أَنْ تَتَفَرَّقَ، وَاسْمُ الصغرى عبرا، واسم الكبر صَبُورَا.
وَلَمَّا رَآهُمَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَاقِفَتَيْنِ لَا تَتَقَدَّمَانِ لِلسَّقْيِ، سَأَلَهُمَا فَقَالَ:
مَا خَطْبُكُما؟ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالسُّؤَالُ بِالْخَطْبِ إِنَّمَا هُوَ فِي مُصَابٍ، أَوْ مُضْطَهَدٍ، أَوْ مَنْ يُشْفَقُ عَلَيْهِ، أَوْ يَأْتِي بِمُنْكَرٍ مِنَ الْأَمْرِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَحَقِيقَتُهُ: مَا مَخْطُوبُكُمَا؟ أَيْ مَا مَطْلُوبُكُمَا مِنَ الذِّيَادِ؟ سُمِّيَ الْمَخْطُوبُ خَطْبًا، كَمَا سمى الشؤون شَأْنًا فِي قَوْلِكَ:
296
مَا شَأْنُكَ؟ يُقَالُ: شَأَنْتُ شَأْنَهُ، أَيْ قَصَدْتُ قَصْدَهُ. انْتَهَى. وَفِي سُؤَالِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ مُكَالَمَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ فِيمَا يَعُنُّ وَلَمْ يَكُنْ لِأَبِيهِمَا أَجِيرٌ، فَكَانَتَا تَسُوقَانِ الْغَنَمَ إِلَى الْمَاءِ، وَلَمْ تَكُنْ لَهُمَا قُوَّةُ الِاسْتِقَاءِ، وَكَانَ الرُّعَاةُ يَسْتَقُونَ مِنَ الْبِئْرِ فَيَسْقُونَ مَوَاشِيَهُمْ، فَإِذَا صَدَرُوا، فَإِنْ بَقِيَ فِي الْحَوْضِ شَيْءٌ سَقَتَا. فَوَافَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَلِكَ الْيَوْمَ وَهُمَا يَمْنَعَانِ غَنَمَهُمَا عَنِ الْمَاءِ، فَرَقَّ عَلَيْهِمَا وَقَالَ: مَا خَطْبُكُما؟ وَقَرَأَ شِمْرٌ: بِكَسْرِ الْخَاءِ، أَيْ مَنْ زَوْجُكُمَا؟ وَلِمَ لَا يَسْقِي هُوَ؟ وَهَذِهِ قِرَاءَةٌ شَاذَّةٌ نَادِرَةٌ.
قالَتا لَا نَسْقِي. وَقَرَأَ ابْنُ مُصَرِّفٍ: لَا نُسْقِيَ، بِضَمِّ النُّونِ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ، وَشَيْبَةُ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَالْعَرَبِيَّانِ: يَصْدُرَ، بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الدَّالِ، أَيْ يَصْدُرُونَ بِأَغْنَامِهِمْ وَبَاقِي السَّبْعَةِ، وَالْأَعْرَجُ، وَطَلْحَةُ، وَالْأَعْمَشُ، وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَعِيسَى:
بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الدَّالِ، أَيْ يُصْدِرُونَ أَغْنَامَهُمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: الرِّعَاءُ، بِكَسْرِ الرَّاءِ: جَمْعَ تَكْسِيرٍ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَأَمَّا الرِّعَاءُ بِالْكَسْرِ فَقِيَاسٌ، كَصِيَامٍ وَقِيَامٍ. انْتَهَى. وَلَيْسَ بِقِيَاسٍ، لِأَنَّهُ جَمْعُ رَاعٍ وَقِيَاسُ فَاعِلِ الصِّفَةِ الَّتِي لِلْعَاقِلِ أَنْ تُكْسَرَ عَلَى فُعَلَةٍ، كَقَاضٍ وَقُضَاةٍ، وَمَا سِوَى جَمْعِهِ هَذَا فَلَيْسَ بِقِيَاسٍ. وقرىء: الرُّعَاءُ، بِضَمِّ الرَّاءِ، وَهُوَ اسم جمع، كالرخال وَالثَّنَاءِ. قَالَ أَبُو الْفَضْلِ الرَّازِيُّ: وَقَرَأَ عَيَّاشُ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو: الرَّعَاءُ، بِفَتْحِ الرَّاءِ، وَهُوَ مَصْدَرٌ أُقِيمَ مَقَامَ الصِّفَةِ، فَاسْتَوَى لَفْظُ الْوَاحِدِ وَالْجَمَاعَةِ فِيهِ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنَّهُ حُذِفَ مِنْهُ الْمُضَافُ. وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ: اعْتِذَارٌ لِمُوسَى عَنْ مُبَاشَرَتِهِمَا السَّقْيَ بِأَنْفُسِهِمَا، وَتَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ أَبَاهُمَا لَا يَقْدِرُ عَلَى السَّقْيِ لِشَيَخِهِ وَكِبَرِهِ، وَاسْتِعْطَافٌ لِمُوسَى فِي إِعَانَتِهِمَا.
فَسَقى لَهُما: أَيْ سَقَى غَنَمَهُمَا لِأَجْلِهِمَا.
وَرُوِيَ أَنَّ الرُّعَاةَ كَانُوا يَضَعُونَ عَلَى رَأْسِ الْبِئْرِ حَجَرًا لَا يُقِلُّهُ إِلَّا عَدَدٌ مِنَ الرِّجَالِ، وَاضْطَرَبَ النَّقْلُ فِي الْعَدَدِ، فَأَقَلُّ مَا قَالُوا سَبْعَةٌ، وَأَكْثَرُهُ مِائَةٌ، فَأَقَلَّهُ وَحْدَهُ.
وَقِيلَ: كَانَتْ لَهُمْ دَلْوٌ لَا يَنْزِعُ بِهَا إِلَّا أَرْبَعُونَ، فَنَزَعَ بِهَا وَحْدَهُ.
وَرُوِيَ أَنَّهُ زَاحَمَهُمْ عَلَى الْمَاءِ حَتَّى سَقَى لَهُمَا
، كُلُّ ذَلِكَ رَغْبَةً فِي الثَّوَابِ عَلَى مَا كَانَ بِهِ مِنْ نَصَبِ السَّفَرِ وَكَثْرَةِ الْجُوعِ، حَتَّى كَانَتْ تَظْهَرُ الْخُضْرَةُ فِي بَطْنِهِ مِنَ الْبَقْلِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ مَشَى حَتَّى سَقَطَ أَصْلُهُ، وَهُوَ بَاطِنُ الْقَدَمِ، وَمَعَ ذَلِكَ أَغَاثَهُمَا وَكَفَاهُمَا أَمْرَ السَّقْيِ. وَقَدْ طَابَقَ جَوَابُهُمَا لِسُؤَالِهِ. سَأَلَهُمَا عَنْ سَبَبِ الذَّوْدِ، فَأَجَابَاهُ: بِأَنَّا امْرَأَتَانِ ضَعِيفَتَانِ مَسْتُورَتَانِ، لَا نَقْدِرُ عَلَى مُزَاحَمَةِ الرِّجَالِ، فَنُؤَخِّرُ السَّقْيَ إِلَى فَرَاغِهِمْ. وَمُبَاشَرَتُهُمَا ذَلِكَ لَيْسَ بِمَحْظُورٍ، وَعَادَةُ الْعَرَبِ وَأَهْلِ الْبَدْوِ فِي ذَلِكَ غَيْرُ عَادَةِ أَهْلِ الْحَضَرِ وَالْأَعَاجِمِ، لَا سِيَّمَا إِذَا دَعَتْ إِلَى ذَلِكَ ضَرُورَةٌ. ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: ظِلُّ شَجَرَةٍ. قِيلَ: كَانَتْ سَمُرَةً. وَقِيلَ:
297
إِلَى ظِلِّ جِدَارٍ لَا سَقْفَ لَهُ. وَقِيلَ: جَعَلَ ظَهْرَهُ يَلِي مَا كَانَ يَلِي وَجْهَهُ مِنَ الشَّمْسِ. فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: تَعَرَّضَ لِمَا يَطْعَمَهُ، لِمَا نَالَهُ مِنَ الْجُوعِ، وَلَمْ يُصَرِّحْ بالسؤال وأنزلت هُنَا بِمَعْنَى تُنَزِّلُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَعُدِّيَ بِاللَّامِ فَقِيرٌ، لِأَنَّهُ ضُمِّنَ مَعْنَى سَائِلٍ وَطَالِبٍ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ، أَيْ فَقِيرٌ مِنَ الدُّنْيَا لِأَجْلِ مَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرِ الدِّينِ، وَهُوَ النَّجَاةُ مِنَ الظَّالِمِينَ، لِأَنَّهُ كَانَ عِنْدَ فِرْعَوْنَ فِي مُلْكٍ وَثَرْوَةٍ، قَالَ ذَلِكَ رِضًا بِالْبَدَلِ السَّنِيِّ وَفَرَحًا بِهِ وَشُكْرًا لَهُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: سَأَلَ الزِّيَادَةَ فِي الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ..
فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ: فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: فَذَهَبَتَا إِلَى أَبِيهِمَا مِنْ غَيْرِ إِبْطَاءٍ فِي السَّقْيِ، وَقَصَّتَا عَلَيْهِ أَمْرَ الَّذِي سَقَى لَهُمَا، فَأَمَرَ إِحْدَاهُمَا أَنْ تَدْعُوَهُ لَهُ. فَجاءَتْهُ إِحْداهُما. قَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ: فَجَاءَتْهُ احْدَاهُمَا، بِحَذْفِ الْهَمْزَةَ، تَخْفِيفًا عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، مِثْلُ: وَيْلُ امِّهِ فِي وَيْلِ أمه، ويا با فُلَانٍ، وَالْقِيَاسُ أَنْ يُجْعَلَ بين بين، وإحداهما مُبْهَمٌ. فَقِيلَ: الْكُبْرَى، وَقِيلَ: كَانَتَا تَوْأَمَتَيْنِ، وُلِدَتِ الْأُولَى قَبْلَ الْأُخْرَى بِنِصْفِ نَهَارٍ. وَعَلَى اسْتِحْيَاءٍ: فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ مُسْتَحْيِيَةً مُتَحَفِّزَةً. قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: قَدْ سَتَرَتْ وَجْهَهَا بِكُمِّ دِرْعِهَا وَالْجُمْهُورُ: عَلَى أَنَّ الدَّاعِيَ أَبَاهُمَا هُوَ شُعَيْبٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهُمَا ابْنَتَاهُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هُوَ ابْنُ أَخِي شُعَيْبٍ، وَاسْمُهُ مَرْوَانُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هَارُونُ.
وَقِيلَ: هُوَ رَجُلٌ صَالِحٌ ليس من شعيب ينسب. وَقِيلَ: كَانَ عَمَّهُمَا صَاحِبَ الْغَنَمِ، وَهُوَ الْمُزَوِّجُ، عَبَّرَتْ عَنْهُ بِالْأَبِ، إِذْ كَانَ بِمَثَابَتِهِ. لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنا، فِي ذَلِكَ مَا كَانَ عَلَيْهِ شُعَيْبٌ مِنَ الْإِحْسَانِ وَالْمُكَافَأَةِ لِمَنْ عَمِلَ لَهُ عَمَلًا، وَإِنْ لم يقصد العالم الْمُكَافَأَةَ.
فَلَمَّا جاءَهُ: أَيْ فَذَهَبَ مَعَهُمَا إِلَى أَبِيهِمَا، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى اعْتِمَادِ أَخْبَارِ الْمَرْأَةِ، إِذْ ذَهَبَ مَعَهَا مُوسَى، كَمَا يُعْتَمَدُ عَلَى أَخْبَارِهَا فِي بَابِ الرِّوَايَةِ. وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ: أَيْ مَا جَرَى لَهُ مِنْ خُرُوجِهِ مِنْ مِصْرَ، وَسَبَبَ ذَلِكَ. قالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ: أَيْ قَبِلَ اللَّهُ دُعَاءَكَ فِي قَوْلِكَ: رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، أَوْ أَخْبَرَهُ بِنَجَاتِهِ مِنْهُمْ، فَأَنَّسَهُ بِقَوْلِهِ: لَا تَخَفْ،
وَقَرَّبَ إِلَيْهِ طَعَامًا، فَقَالَ لَهُ مُوسَى: إِنَّا أَهْلُ بَيْتٍ، لَا نَبِيعُ دِينَنَا بِمَلْءِ الْأَرْضِ ذَهَبًا، فَقَالَ لَهُ شُعَيْبٌ: لَيْسَ هَذَا عِوَضَ السَّقْيِ، وَلَكِنَّ عَادَتِي وَعَادَةَ آبَائِي قِرَى الضَّيْفِ وَإِطْعَامُ الطَّعَامِ فَحِينَئِذٍ أَكَلَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ.
قالَتْ إِحْداهُما: أَبْهَمَ الْقَائِلَةَ، وَهِيَ الذَّاهِبَةُ وَالْقَائِلَةُ وَالْمُتَزَوِّجَةُ، يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ: أَيْ لِرَعْيِ الْغَنَمِ وَسَقْيِهَا. وَوَصَفَتْهُ بِالْقُوَّةِ: لِكَوْنِهِ رَفَعَ الصَّخْرَةَ عَنِ الْبِئْرِ وَحْدَهُ،
298
وَانْتَزَعَ بِتِلْكَ الدَّلْوِ، وَزَاحَمَهُمْ حَتَّى غَلَبَهُمْ عَلَى الْمَاءِ وَبِالْأَمَانَةِ: لِأَنَّهَا
حِينَ قَامَ يَتْبَعُهَا، هَبَّتِ الرِّيحُ فَلَفَّتْ ثِيَابَهَا فَوَصَفَتْهَا، فَقَالَ: ارْجِعِي خَلْفِي وَدُلِّينِي عَلَى الطَّرِيقِ.
وَقَوْلُهَا كَلَامٌ حَكِيمٌ جَامِعٌ، لِأَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَتِ الْكِفَايَةُ وَالْأَمَانَةُ فِي الْقَائِمِ بِأَمْرٍ، فَقَدْ تَمَّ الْمَقْصُودُ، وَهُوَ كَلَامٌ جَرَى مَجْرَى الْمَثَلِ، وَصَارَ مَطْرُوقًا لِلنَّاسِ، وَكَانَ ذَلِكَ تَعْلِيلًا لِلِاسْتِئْجَارِ، وَكَأَنَّهَا قَالَتِ:
اسْتَأْجِرْهُ لِأَمَانَتِهِ وَقُوَّتِهِ، وَصَارَ الْوَصْفَانِ مُنَبِّهَيْنِ عَلَيْهِ. وَنَظِيرُ هَذَا التَّرْكِيبِ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
أَلَا إِنَّ خَيْرَ النَّاسِ حَيًّا وَهَالِكًا أَسِيرُ ثَقِيفٍ عِنْدَهُمْ فِي السَّلَاسِلِ
جَعَلَ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الِاسْمَ، اعْتِنَاءً بِهِ. وَحَكَمَتْ عَلَيْهِ بِالْقُوَّةِ وَالْأَمَانَةِ. وَلَمَّا وَصَفَتْهُ بِهَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ قَالَ لَهَا أَبُوهَا: وَمِنْ أَيْنَ عَرَفْتِ هَذَا؟ فَذَكَرَتْ إِقْلَالَهُ الْحَجَرَ وَحْدَهُ، وَتَحَرُّجَهُ مِنَ النَّظَرِ إِلَيْهَا حِينَ وَصَفَتْهَا الرِّيحُ وَقَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ، وَابْنُ زَيْدٍ، وَغَيْرُهُمْ.
وَقِيلَ: قَالَ لَهَا مُوسَى ابْتِدَاءً: كُونِي وَرَائِي، فَإِنِّي رَجُلٌ لَا أَنْظُرُ إِلَى أَدْبَارِ النِّسَاءِ، وَدُلِّينِي عَلَى الطَّرِيقِ يَمِينًا أَوْ يَسَارًا.
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: أَفْرَسُ النَّاسِ ثَلَاثَةٌ: بِنْتُ شُعَيْبٍ وَصَاحِبُ يُوسُفَ فِي قَوْلِهِ: عَسى أَنْ يَنْفَعَنا
«١» ، وَأَبُو بَكْرٍ فِي عُمَرَ. وَفِي قَوْلِهَا: اسْتَأْجِرْهُ، دَلِيلٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْإِجَارَةِ عِنْدَهُمْ، وَكَذَا كَانَتْ فِي كُلِّ مِلَّةٍ، وَهِيَ ضَرُورَةُ النَّاسِ وَمَصْلَحَةُ الْخِلْطَةِ، خِلَافًا لِابْنِ عُلَيَّةَ وَالْأَصَمِّ، حَيْثُ كَانَا لَا يُجِيزَانِهَا وَهَذَا مِمَّا انْعَقَدَ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ، وَخِلَافُهُمَا خَرَقٌ.
قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ: رَغِبَ شُعَيْبٌ فِي مُصَاهَرَتِهِ، لِمَا وَصَفَتْهُ بِهِ، وَلِمَا رَأَى فِيهِ مِنْ عُزُوفِهِ عَنِ الدُّنْيَا وَتَعَلُّقِهِ بِاللَّهِ وَفِرَارِهِ مِنَ الْكَفَرَةِ. وَقَرَأَ وَرْشٌ، وَأَحْمَدُ بْنُ مُوسَى، عَنْ أَبِي عَمْرٍو: أُنْكِحَكَ احْدَى، بِحَذْفِ الْهَمْزَةِ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: أَنْ أُنْكِحَكَ، أَنَّ الْإِنْكَاحَ إِلَى الْوَلِيِّ لَا حَقَّ لِلْمَرْأَةِ فِيهِ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ فِي بَعْضِ صُوَرِهِ، بِأَنْ تَكُونَ بَالِغَةً عَالِمَةً بِمَصَالِحِ نَفْسِهَا، فَإِنَّهَا تَعْقِدُ عَلَى نَفْسِهَا بِمَحْضَرٍ مِنَ الشُّهُودِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى عَرْضِ الْوَلِيِّ وَلِيَّتَهُ عَلَى الزَّوْجِ، وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ عُمَرُ، وَدَلِيلٌ عَلَى تَزْوِيجِ ابْنَتِهِ الْبِكْرِ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْمَارٍ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا بَلَغَتِ الْبِكْرُ، فَلَا تُزَوَّجُ إِلَّا بِرِضَاهَا. قِيلَ: وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: لَا يَنْعَقِدُ إِلَّا بِلَفْظِ التَّزْوِيجِ، أَوِ الْإِنْكَاحِ، وَبِهِ قَالَ رَبِيعَةُ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وداود. وإحدى ابْنَتَيَّ: مُبْهَمٌ، وَهَذَا عَرْضٌ لَا عَقْدٌ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: إِنِّي أُرِيدُ؟ وَحِينَ الْعَقْدِ يُعَيِّنُ مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا، وَكَذَلِكَ لَمْ
299
يَحُدَّ أَوَّلَ أَمَدِ الْإِجَارَةِ. وَالظَّاهِرُ مِنَ الْآيَةِ جَوَازُ النِّكَاحِ بِالْإِجَارَةِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ وَابْنُ حَبِيبٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هاتَيْنِ، فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَتْ لَهُ غَيْرُهُمَا. انْتَهَى. وَلَا دَلِيلَ فِي ذَلِكَ، لِأَنَّهُمَا كَانَتَا هُمَا اللَّتَيْنِ رَآهُمَا تَذُودَانِ، وَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا، فَأَشَارَ إِلَيْهِمَا، وَالْإِشَارَةُ إِلَيْهِمَا لَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَهُ غَيْرَهُمَا. عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ ضَمِيرِ أُنْكِحَكَ، إِمَّا الْفَاعِلُ، وإما المفعول. وتأجرني، مِنْ أَجَرْتُهُ: كُنْتُ لَهُ أَجِيرًا، كَقَوْلِكَ:
أَبَوْتُهُ: كُنْتُ لَهُ أَبًا، وَمَفْعُولُ تَأْجُرُنِي الثَّانِي مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ نَفْسَكَ. وثَمانِيَ حِجَجٍ:
ظَرْفٌ، وَقَالَهُ أَبُو الْبَقَاءِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: حِجَجٌ: مَفْعُولٌ بِهِ، وَمَعْنَاهُ: رَعْيُهُ ثَمَانِيَ حِجَجٍ.
فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ: أَيْ هُوَ تَبَرُّعٌ وَتَفَضُّلٌ لَا اشْتِرَاطٌ. وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ بإلزام أيّم الْأَجَلَيْنِ، وَلَا فِي الْمُعَاشَرَةِ وَالْمُنَاقَشَةِ فِي مُرَاعَاةِ الْأَوْقَاتِ، وَتَكْلِيفُ الرُّعَاةِ أَشْيَاءً مِنَ الْخِدَمِ خَارِجَةً عَنِ الشَّرْطِ. سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ: وَعْدٌ صَادِقٌ مَقْرُونٌ بِالْمَشِيئَةِ مِنَ الصَّالِحِينَ فِي حُسْنِ الْمُعَامَلَةِ وَوَطَاءَةِ الْخُلُقِ، أَوْ مِنَ الصَّالِحِينَ عَلَى الْعُمُومِ، فَيَدْخُلُ تَحْتَهُ حَسَنُ الْمُعَامَلَةِ.
وَلَمَّا فَرَغَ شُعَيْبٌ مِمَّا حَاوَرَ بِهِ مُوسَى، قَالَ مُوسَى: ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ، عَلَى جِهَةِ التَّقْدِيرِ وَالتَّوَثُّقِ فِي أَنَّ الشَّرْطَ إِنَّمَا وَقَعَ فِي ثماني حجج. وذلك مبتدأ أخبره بَيْنِي وَبَيْنَكَ، إِشَارَةٌ إِلَى مَا عَاهَدَهُ عَلَيْهِ، أَيْ ذَلِكَ الَّذِي عَاهَدْتَنِي وَشَارَطْتَنِي قَائِمٌ بَيْنَنَا جَمِيعًا لَا نَخْرُجُ عَنْهُ، ثُمَّ قَالَ: أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ، أَيِ الثَّمَانِيَ أَوِ الْعَشْرَ؟ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ: أَيْ لَا يُعْتَدَى عَلَيَّ فِي طَلَبِ الزِّيَادَةِ، وأي شَرْطٌ، وَمَا زَائِدَةٌ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَالْعَبَّاسُ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو:
أَيَّمَا، بِحَذْفِ الْيَاءِ الثَّانِيَةِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
تَنَظَّرَتْ نَصْرًا وَالسِّمَاكَيْنِ أَيَّمَا عَلَيَّ مِنَ الْغَيْثِ اسْتَهَلَّتْ مَوَاطِرُهُ
وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: أَيَّ الْأَجَلَيْنِ مَا قَضَيْتُ، بِزِيَادَةِ مَا بَيْنَ الْأَجَلَيْنِ وَقَضَيْتُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فَإِنْ قُلْتَ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ مُوقِعِ مَا الْمَزِيدَةِ فِي الْقِرَاءَتَيْنِ؟ قُلْتُ: وَقَعَتْ فِي المستفيضة مؤكدة لإبهام، أَيْ زَائِدَةً فِي شِيَاعِهَا وَفِي الشَّاذِّ، تَأْكِيدًا لِلْقَضَاءِ، كَأَنَّهُ قَالَ: أَيَّ الْأَجَلَيْنِ صَمَّمْتُ عَلَى قَضَائِهِ وَجَرَّدْتُ عَزِيمَتِي لَهُ؟ وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ، وَابْنُ قُطَيْبٍ: فَلَا عِدْوَانَ، بِكَسْرِ الْعَيْنِ.
قَالَ الْمُبَرِّدُ: قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا عُدْوَانَ عَلَيْهِ فِي أَتَمِّهِمَا، وَلَكِنْ جَمَعَهُمَا، لِيَجْعَلَ الْأَوَّلَ كَالْأَتَمِّ فِي الْوَفَاءِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: تَصَوُّرُ الْعُدْوَانِ إِنَّمَا هُوَ فِي أَحَدِ الْأَجَلَيْنِ الَّذِي هُوَ أَقْصَرُ، وَهُوَ الْمُطَالَبَةُ بِتَتِمَّةِ الْعَشْرِ، فَمَا مَعْنَى تَعْلِيقِ الْعُدْوَانِ بِهِمَا جَمِيعًا؟ قُلْتُ: مَعْنَاهُ: كَمَا أَنِّي إِنْ طُولِبْتُ بِالزِّيَادَةِ عَلَى الْعَشْرِ، كَانَ عُدْوَانًا لَا شَكَّ فِيهِ، فَكَذَلِكَ إِنْ طُولِبْتُ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى
300
الثَّمَانِي. أَرَادَ بِذَلِكَ تَقْرِيرَ الْخِيَارِ، وَأَنَّهُ ثَابِتٌ مُسْتَقِرٌّ، وَأَنَّ الْأَجَلَيْنِ عَلَى السَّوَاءِ، إِمَّا هَذَا، وَإِمَّا هَذَا مِنْ غَيْرِ تَفَاوُتٍ بَيْنَهُمَا فِي الْقَضَاءِ. وَأَمَّا التَّتِمَّةُ فَمَوْكُولَةٌ إِلَى رَأْيِي، إِنْ شِئْتُ أَتَيْتُ بِهَا وَإِلَّا لَمْ أُجْبَرْ عَلَيْهَا. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ فَلَا أَكُونُ مُتَعَدِّيًا، وَهُوَ فِي نَفْيِ الْعُدْوَانِ عَنْ نَفْسِهِ، كَقَوْلِكَ: لَا إِثْمَ عَلَيَّ وَلَا تَبِعَةَ. انْتَهَى، وَجَوَابُهُ الْأَوَّلُ فِيهِ تَكْثِيرٌ. وَاللَّهُ عَلى مَا نَقُولُ: أَيْ عَلَى مَا تَعَاهَدْنَا عَلَيْهِ وَتَوَاثَقْنَا، وَكِيلٌ: أَيْ شَاهِدٌ. وَقَالَ قَتَادَةُ: حَفِيظٌ. وَقَالَ ابْنُ شَجَرَةَ: رَقِيبٌ، وَالْوَكِيلُ الَّذِي وُكِلَ إِلَيْهِ الْأَمْرُ، فَلَمَّا ضُمِّنَ مَعْنَى شَاهِدٍ وَنَحْوِهِ عُدِّيَ بِعَلَى.
فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ: جاء عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ وَفَّى أَطْوَلَ الْأَجَلَيْنِ، وَهُوَ الْعَشْرُ. وعن مجاهد: وفي عشر أَوْ عَشْرًا بَعْدَهَا، وَهَذَا ضَعِيفٌ. وَسارَ بِأَهْلِهِ: أَيْ نَحْوَ مِصْرَ بَلَدِهِ وَبَلَدِ قَوْمِهِ. وَالْخِلَافُ فِيمَنْ تَزَوَّجَ، الْكُبْرَى أَمِ الصُّغْرَى، وَكَذَلِكَ فِي اسْمِهَا.
وَتَقَدَّمَ كَيْفِيَّةُ مَسِيرِهِ، وَإِينَاسُهُ النَّارَ فِي سُورَةِ طه وَغَيْرِهَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: جِذْوَةٍ، بِكَسْرِ الْجِيمِ وَالْأَعْمَشُ، وَطَلْحَةُ، وَأَبُو حَيْوَةَ، وَحَمْزَةُ: بِضَمِّهَا وَعَاصِمٌ، غَيْرَ الْجُعْفِيِّ:
بِفَتْحِهَا. لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ: أَيْ تَتَسَخَّنُونَ بِهَا، إِذْ كَانَتْ لَيْلَةً بَارِدَةً، وَقَدْ أَضَلُّوا الطَّرِيقَ.
فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ، وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ، اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ، قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ، وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ، قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ.
مِنْ، فِي: من شاطىء، لابتداء الغاية، ومن الشَّجَرَةِ كَذَلِكَ، إِذْ هِيَ بَدَلٌ مِنَ الْأُولَى، أَيْ من قبل الشجرة. والأيمن: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً للشاطىء وَلِلْوَادِي، عَلَى مَعْنَى الْيُمْنِ وَالْبَرَكَةِ، أَوِ الْأَيْمَنِ: يُرِيدُ الْمُعَادِلَ لِلْعُضْوِ الْأَيْسَرِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مُوسَى، لا للشاطىء، وَلَا لِلْوَادِي، أَيْ أَيْمَنَ مُوسَى فِي اسْتِقْبَالِهِ حَتَّى يَهْبِطَ الْوَادِيَ، أَوْ بِعَكْسِ ذَلِكَ وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ فِي الْأَيْمَنِ مَقُولٌ. وَقَرَأَ الْأَشْهَبُ الْعُقَيْلِيُّ، وَمَسْلَمَةُ: فِي الْبَقْعَةِ، بِفَتْحِ الْبَاءِ. قَالَ أَبُو زَيْدٍ: سَمِعْتُ مِنَ الْعَرَبِ: هَذِهِ بَقْعَةٌ طَيِّبَةٌ، بِفَتْحِ الْبَاءِ، وَوُصِفَتِ الْبُقْعَةُ بِالْبَرَكَةِ، لِمَا خُصَّتْ بِهِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَأَنْوَارِهِ وَتَكْلِيمِهِ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَوِ لِمَا حَوَتْ مِنَ الْأَرْزَاقِ وَالثِّمَارِ الطَّيِّبَةِ. وَيَتَعَلَّقُ في البقعة بنودي، أَوْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ من شاطىء.
301
وَالشَّجَرَةُ عُنَّابٌ، أَوْ عُلَّيْقٌ، أَوْ سَمُرَةٌ، أَوْ عَوْسَجٌ، أقوال. وَأَنْ: يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ حَرْفَ تَفْسِيرٍ، وَأَنْ تَكُونَ مُخَفَّفَةً مِنَ الثَّقِيلَةِ. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ: إِنِّي أَنَا، بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَفِي إِعْرَابِهِ إِشْكَالٌ، لِأَنَّ إِنْ، إِنْ كَانَتْ تَفْسِيرِيَّةً، فَيَنْبَغِي كَسْرُ إِنِّي، وَإِنْ كَانَتْ مَصْدَرِيَّةً، تَتَقَدَّرُ بِالْمُفْرَدِ، وَالْمُفْرَدُ لَا يَكُونُ خَبَرًا لضمير الشَّأْنُ، فَتَخْرِيجُ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَلَى أَنَّ تَكُونَ أَنْ تَفْسِيرِيَّةً، وَإِنِّي مَعْمُولٌ لِمُضْمَرٍ تَقْدِيرُهُ: إِنِّي يَا مُوسَى أَعْلَمُ إِنِّي أَنَا اللَّهُ.
وَجَاءَ فِي طه: نُودِيَ يَا مُوسى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ
«١» ، وَفِي النَّمْلِ: نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ
«٢» ، وَهُنَا: نُودِيَ مِنْ شاطِئِ، وَلَا مُنَافَاةَ، إِذْ حَكَى فِي كُلِّ سُورَةٍ بَعْضَ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ ذَلِكَ النِّدَاءُ. وَالْجُمْهُورُ: عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى كَلَمَّهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: نَادَاهُ نِدَاءَ الْوَحْيِ، لَا نِدَاءَ الْكَلَامِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِ قَوْلِهِ: وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ، ثُمَّ أَمَرَهُ فَقَالَ: اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ، وَهُوَ فَتْحُ الْجُبَّةِ مِنْ حَيْثُ تَخْرُجُ الرَّأْسُ، وَكَانَ كُمُّ الْجُبَّةِ فِي غَايَةِ الضِّيقِ. وَتَقَدَّمُ الْكَلَامُ عَلَى: تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَفُسِّرَ الْجَنَاحُ هُنَا بِالْيَدِ وَبِالْعَضُدِ وَبِالْعِطَافِ، وَبِمَا أَسْفَلَ مِنَ الْعَضُدِ إِلَى الرُّسْغِ، وَبِجَيْبِ مِدْرَعَتِهِ. وَالرَّهْبُ: الْخَوْفُ، وَتَأْتِي الْقِرَاءَاتُ فِيهِ. وَقِيلَ: بِفَتْحِ الرَّاءِ وَالْهَاءِ: الْكُمُّ، بِلُغَةِ بَنِي حَنِيفَةَ وَحِمْيَرَ، وَسَمِعَ الْأَصْمَعِيُّ قَائِلًا يَقُولُ: أَعْطِنِي مَا فِي رَهْبِكَ، أَيْ فِي كُمِّكَ، وَالظَّاهِرُ حَمْلُ: وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ عَلَى الْحَقِيقَةِ.
قَالَ الثَّوْرِيُّ: خَافَ مُوسَى أَنْ يَكُونَ حَدَثَ بِهِ سُوءٌ، فَأَمَرَهُ تَعَالَى أَنْ يُعِيدَ يَدَهُ إِلَى جَيْبِهِ لِتَعُودَ عَلَى حَالَتِهَا الْأُولَى، فَيَعْلَمَ مُوسَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ سُوءًا بَلْ آيَةً مِنَ اللَّهِ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَابْنُ زَيْدٍ: أَمَرَهُ بِضَمِّ عَضُدِهِ وَذِرَاعِهِ، وَهُوَ الْجَنَاحُ، إِلَى جَنْبِهِ، ليخفف بِذَلِكَ فَزَعُهُ. وَمِنْ شَأْنِ الْإِنْسَانِ إِذَا فَعَلَ ذَلِكَ فِي وَقْتِ فَزَعِهِ أَنْ يَقْوَى قَلْبُهُ.
وَقِيلَ: لَمَّا انْقَلَبَتِ الْعَصَا حَيَّةً، فَزِعَ مُوسَى وَاضْطَرَبَ، فَاتَّقَاهَا بِيَدِهِ، كَمَا يَفْعَلُ الْخَائِفُ مِنَ الشَّيْءِ، فَقِيلَ لَهُ: أَدْخِلْ يَدَكَ تَحْتَ عَضُدِكَ مَكَانَ اتِّقَائِكَ بِهَا، ثُمَّ أَخْرَجَهَا بَيْضَاءَ لِتَظْهَرَ مُعْجِزَةٌ أُخْرَى
، وَهَذَا الْقَوْلُ بَسَطَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، لِأَنَّهُ كَالتَّكْرَارِ لِقَوْلِهِ: اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ. وَقَدْ قَالَ هُوَ وَالْجَنَاحُ هُنَا الْيَدُ، قَالَ: لِأَنَّ يَدَيِ الْإِنْسَانِ بِمَنْزِلَةِ جَنَاحَيِ الطَّائِرِ، وَإِذَا أَدْخَلَ يَدَهُ الْيُمْنَى تَحْتَ عَضُدِهِ الْيُسْرَى، فَقَدْ ضَمَّ جَنَاحَهُ إِلَيْهِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى إِذَا هَالَكَ أَمْرٌ لِمَا يَغْلِبُ مِنْ شُعَاعِهَا، فَاضْمُمْهَا إِلَيْكَ تَسْكُنْ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: هُوَ مُجَازٌ أَمَرَهُ بِالْعَزْمِ عَلَى مَا أَمَرَهُ بِهِ، كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ: أشدد
302
حَيَازِيمَكَ وَارْبُطْ جَأْشَكَ، أَيْ شِمِّرْ فِي أَمْرِكَ وَدَعِ الرَّهْبَ، وَذَلِكَ لَمَّا كَثُرَ تَخَوُّفُهُ وَفَزَعُهُ فِي غَيْرِ مَوْطِنٍ، قَالَهُ أَبُو عَلِيٍّ، وَكَأَنَّهُ طَيَّرَهُ الْفَزَعُ، وَآلَةُ الطَّيَرَانِ الْجَنَاحُ. فَقِيلَ لَهُ: اسْكُنْ وَلَا تَخَفْ، وَضُمَّ مَنْشُورَ جَنَاحِكَ مِنَ الْخَوْفِ إِلَيْكَ، وَذَكَرَ هَذَا الْقَوْلَ الزَّمَخْشَرِيُّ، فَقَالَ وَالثَّانِي أَنْ يُرَادَ بِضَمِّ جَنَاحِهِ إِلَيْهِ: تَجَلُّدُهُ وَضَبْطُهُ نَفْسَهُ وَتَشَدُّدُهُ عِنْدَ انْقِلَابِ الْعَصَا حَيَّةً، حَتَّى لَا يَضْطَرِبَ وَلَا يَرْهَبَ، اسْتِعَارَةً مِنْ فِعْلِ الطَّائِرِ، لِأَنَّهُ إِذَا خَافَ نَشَرَ جَنَاحَيْهِ وَأَرْخَاهُمَا، وَإِلَّا فَجَنَاحَاهُ مَضْمُومَانِ إِلَيْهِ مُشَمَّرَانِ. وَمَعْنَى مِنَ الرَّهْبِ: مِنْ أَجْلِ الرَّهْبِ، أَيْ إِذَا أَصَابَكَ الرَّهْبُ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْحَيَّةِ، فَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ. جَعَلَ الرَّهْبَ الَّذِي كَانَ يُصِيبُهُ سَبَبًا وَعِلَّةً فِيمَا أُمِرَ بِهِ مِنْ ضَمِّ جَنَاحِهِ إِلَيْهِ. وَمَعْنَى: وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ، وَقَوْلُهُ: اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ عَلَى أَحَدِ التَّفْسِيرَيْنِ وَاحِدٌ، وَلَكِنْ خُولِفَ بَيْنَ الْعِبَارَتَيْنِ، وَإِنَّمَا كُرِّرَ الْمَعْنَى الْوَاحِدُ لِاخْتِلَافِ الْغَرَضَيْنِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْغَرَضَ فِي أَحَدِهِمَا خُرُوجُ الْيَدِ بَيْضَاءَ، وَفِي الثَّانِي إِخْفَاءُ الرَّهْبِ. فَإِنْ قُلْتَ: قَدْ جُعِلَ الْجَنَاحُ، وَهُوَ الْيَدُ، فِي أَحَدِ الْمَوْضِعَيْنِ مَضْمُومًا وَفِي الْآخَرِ مَضْمُومًا إِلَيْهِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ، وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ
«١» ، فَمَا التَّوْفِيقُ بَيْنَهُمَا؟ قُلْتُ: الْمُرَادُ بِالْجَنَاحِ الْمَضْمُومِ هُوَ الْيَدُ الْيُمْنَى، وَبِالْمَضْمُومِ إِلَيْهِ الْيَدُ الْيُسْرَى، وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ يُمْنَى الْيَدَيْنِ وَيُسْرَاهُمَا جَنَاحٌ. وَمِنْ بِدَعِ التَّفَاسِيرِ أَنَّ الرَّهْبَ: الْكُمُّ، بِلُغَةِ حِمْيَرَ، وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ: أَعْطِنِي مَا فِي رَهْبِكَ وَلَيْتَ شِعْرِي كَيْفَ صِحَّتُهُ فِي اللُّغَةِ؟ وَهَلْ سُمِعَ مِنَ الْأَثْبَاتِ الثِّقَاتِ الَّتِي تُرْضَى عَرَبِيَّتُهُمْ؟ ثُمَّ لَيْتَ شِعْرِي: كَيْفَ مَوْقِعُهُ فِي الْآيَةِ؟ وَكَيْفَ يُعْطِيهِ الْفَصْلُ كَسَائِرِ كَلِمَاتِ التَّنْزِيلِ؟ عَلَى أَنَّ مُوسَى، صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ، مَا كَانَ عَلَيْهِ ليلة المناجاة إلّا زرماتقة مِنْ صُوفٍ، لَا كُمَّيْنِ لَهَا. انْتَهَى. أَمَّا قَوْلُهُ: وهل سمع من الأثبات؟ وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنِ الْأَصْمَعِيِّ، وَهُوَ ثِقَةٌ ثَبْتٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: كَيْفَ مَوْقِعُهُ مِنَ الْآيَةِ؟ فَقَالُوا: مَعْنَاهُ أَخْرِجْ يَدَكَ مِنْ كُمِّكَ، وَكَانَ قَدْ أَخَذَ الْعَصَا بِالْكُمِّ. وَقَرَأَ الْحَرَمِيَّانِ، وَأَبُو عَمْرٍو: مِنَ الرَّهَبِ، بِفَتْحِ الرَّاءِ وَالْهَاءِ وَحَفْصٌ: بِفَتْحِ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْهَاءِ وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِضَمِّ الرَّاءِ وَإِسْكَانِ الْهَاءِ. وَقَرَأَ قَتَادَةُ، وَالْحَسَنُ، وَعِيسَى، وَالْجَحْدَرِيُّ: بِضَمِّهِمَا.
فَذانِكَ: إِشَارَةٌ إِلَى الْعَصَا وَالْيَدِ، وَهُمَا مُؤَنَّثَتَانِ، وَلَكِنْ ذُكِّرَا لِتَذْكِيرِ الْخَبَرِ، كَمَا أَنَّهُ قَدْ يُؤَنَّثُ الْمُذَكَّرُ لِتَأْنِيثِ الْخَبَرِ، كَقِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: ثُمَّ لَمْ يَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا، بِالْيَاءِ فِي تَكُنْ. بُرْهانانِ: حُجَّتَانِ نَيِّرَتَانِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو: فَذَانِّكَ، بِتَشْدِيدِ النُّونِ وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِتَخْفِيفِهَا. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَعِيسَى، وَأَبُو نَوْفَلٍ، وَابْنُ هُرْمُزَ، وَشِبْلٌ:
303
فَذَانِيكَ، بِيَاءٍ بَعْدَ النُّونِ الْمَكْسُورَةِ، وَهِيَ لُغَةُ هُذَيْلٍ. وَقِيلَ: بَلْ لُغَةُ تَمِيمٍ، وَرَوَاهَا شِبْلٌ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ، وَعَنْهُ أَيْضًا: فَذَانَيْكَ، بِفَتْحِ النُّونِ قَبْلَ الْيَاءِ، عَلَى لُغَةِ مَنْ فَتَحَ نُونَ التَّثْنِيَةِ، نَحْوَ قَوْلِهِ:
عَلَى أَحْوَذِيَّيْنَ اسْتَقَلَّتْ عَشِيَّةً وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ: بِتَشْدِيدِ النُّونِ مَكْسُورَةً بَعْدَهَا يَاءٌ. قِيلَ: وَهِيَ لُغَةُ هُذَيْلٍ. وَقَالَ الَمَهْدَوِيُّ: بَلْ لُغَتُهُمْ تخفيفها. وإِلى فِرْعَوْنَ: يَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْمَعْنَى تَقْدِيرُهُ:
اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ. قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً: هُوَ الْقِبْطِيُّ الَّذِي وَكَزَهُ فَمَاتَ، فَطَلَبَ مِنْ رَبِّهِ مَا يَزْدَادُ بِهِ قُوَّةً، وَذَكَرَ أَخَاهُ وَالْعِلَّةَ الَّتِي تَكُونُ لَهُ زِيَادَةُ التَّبْلِيغِ. وأَفْصَحُ:
يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِيهِ فَصَاحَةً، وَلَكِنْ أَخُوهُ أَفْصَحُ. فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً: أَيْ مُعِينًا يُصَدِّقُنِي، لَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّهُ يَقُولُ لِي: صَدَقْتَ، إِذْ يَسْتَوِي فِي قَوْلِ هَذَا اللَّفْظِ الْعَيِيُّ وَالْفَصِيحُ، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى: أَنَّهُ لِزِيَادَةِ فَصَاحَتِهِ يُبَالِغُ فِي التِّبْيَانِ، وَفِي الْإِجَابَةِ عَنِ الشُّبَهَاتِ، وَفِي جِدَالِهِ الْكُفَّارَ. وَقَرَأَ الجمهور: ردأ، بِالْهَمْزَةِ وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَنَافِعٌ، وَالْمَدَنِّيَانِ: بِحَذْفِ الْهَمْزَةِ وَنَقْلِ حَرَكَتِهَا إِلَى الدَّالِ وَالْمَشْهُورُ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ بِالنَّقْلِ، وَلَا هَمْزَ وَلَا تَنْوِينَ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ أَجْرَى الْوَصْلَ مَجْرَى الْوَقْفِ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ: يُصَدِّقُنِي، بِضَمِّ الْقَافِ، فاحتمل الصفة لردأ، وَالْحَالُ احْتَمَلَ الِاسْتِئْنَافَ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ: بِالْإِسْكَانِ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: يُصَدِّقُونِي، وَالضَّمِيرُ لِفِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ. قَالَ ابْنُ خَالَوَيْهِ: هَذَا شَاهِدٌ لِمَنْ جَزَمَ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ رَفْعًا لَقَالَ: يُصَدِّقُونَنِي. انْتَهَى، وَالْجَزْمِ عَلَى جَوَابِ الْأَمْرِ. وَالْمَعْنَى فِي يُصَدِّقُونِي:
أَرْجُو تَصْدِيقَهُمْ إِيَّايَ، فَأَجَابَهُ تَعَالَى إِلَى طِلْبَتِهِ وَقَالَ: سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَالْحَسَنُ: عُضُدَكَ، بِضَمَّتَيْنِ. وَعَنِ الْحَسَنِ: بِضَمِّ الْعَيْنِ وَإِسْكَانِ الضَّادِ.
وَعَنْ بَعْضِهِمْ: بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَكَسْرِ الضَّادِ وَفَتْحِهِمَا، قَرَأَ بِهِ عِيسَى، وَيُقَالُ فِيهِ: عَضْدٌ، بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَسُكُونِ الضَّادِ، وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا قَرَأَ بِهِ. وَالْعَضُدُ: الْعُضْوُ الْمَعْرُوفُ، وَهِيَ قِوَامُ الْيَدِ، وَبِشِدَّتِهَا يَشْتَدُّ. قَالَ الشَّاعِرُ:
أَبَنِي لُبَيْنَى لَسْتُمَا بِيَدٍ إِلَّا يَدًا لَيْسَتْ لَهَا عَضُدُ
وَالْمَعْنَى فِيهِ: سَنُقَوِّيكَ بِأَخِيكَ. وَيُقَالُ فِي الْخَيْرِ: شَدَّ اللَّهُ عَضُدَكَ، وَفِي الشَّرِّ: فَتَّ اللَّهُ فِي عَضُدِكَ. وَالسُّلْطَانُ: الْحُجَّةُ وَالْغَلَبَةُ وَالتَّسْلِيطُ. فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما: أَيْ بِسُوءٍ، أَوْ إِلَى إِذَايَتِكُمَا. وَيُحْتَمَلُ بِآياتِنا أن يتعلق بقوله: ويجعل، أو بيصلون، أو بالغالبون، وَإِنْ كَانَ مَوْصُولًا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَجُوزُ عِنْدَهُ أَنْ يَتَقَدَّمَ الظَّرْفُ وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ عَلَى صِلَةِ أل، وَإِنْ
304
كَانَ عِنْدَهُ مَوْصُولًا عَلَى سَبِيلِ الِاتِّسَاعِ، أَوْ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ، أَيِ اذْهَبَا بِآيَاتِنَا. كَمَا عَلَّقَ فِي تِسْعِ آيات باذهب، أَوْ عَلَى الْبَيَانِ، فَالْعَامِلُ مَحْذُوفٌ، وَهَذِهِ أَعَارِيبُ مَنْقُولَةٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَسَمًا جَوَابُهُ فَلا يَصِلُونَ مُقَدَّمًا عَلَيْهِ، أَوْ مِنْ لَغْوِ الْقَسَمِ.
انْتَهَى. أَمَّا إِنَّهُ قَسَمٌ جَوَابُهُ فَلا يَصِلُونَ، فَإِنَّهُ لَا يَسْتَقِيمُ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ، لِأَنَّ جَوَابَ الْقَسَمِ لَا تَدْخُلُهُ الْفَاءُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: أَوْ مِنْ لَغْوِ الْقَسَمِ، فَكَأَنَّهُ يُرِيدُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. إِنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ لَهُ جواب، بل حذف لدلالة عَلَيْهِ، أَيْ بِآيَاتِنَا لَتَغْلِبُنَّ.
فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ، وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ، وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ، وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لَا يُرْجَعُونَ، فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ، وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لَا يُنْصَرُونَ، وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ، وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ.
بِآياتِنا: هِيَ الْعَصَا وَالْيَدُ. بَيِّناتٍ: أَيْ وَاضِحَاتِ الدَّلَالَةِ عَلَى صِدْقِهِ، وَأَنَّهُ أَمْرٌ خَارِقٌ مُعْجِزٌ، كَفُّوا عَنْ مُقَاوَمَتِهِ وَمُعَارَضَتِهِ، فَرَجَعُوا إِلَى الْبُهْتِ وَالْكَذِبِ، وَنَسَبُوهُ إِلَى أَنَّهُ سِحْرٌ، لِأَنَّهُمْ يَرَوْنَ الشَّيْءَ عَلَى حَالَةٍ، ثُمَّ يَرَوْنَهُ عَلَى حَالَةٍ أُخْرَى، ثُمَّ يَعُودُ إِلَى الْحَالَةِ الْأُولَى، فَزَعَمُوا أَنَّهُ سِحْرٌ يَفْتَعِلُهُ مُوسَى وَيَفْتَرِيهِ عَلَى اللَّهِ، فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ. ثُمَّ مَعَ دَعْوَاهُمْ أَنَّهُ سِحْرٌ مُفْتَرًى، وَكَذِبِهِمْ فِي ذَلِكَ، أَرَادُوا فِي الْكَذِبِ أَنَّهُمْ مَا سَمِعُوا بِهَذَا فِي آبَائِهِمْ، أَيْ فِي زَمَانِ آبَائِهِمْ وَأَيَّامِهِمْ. وَفِي آبَائِنَا: حَالٌ، أَيْ بِهَذَا، أَيْ بِمِثْلِ هَذَا كَائِنًا فِي أَيَّامِ آبَائِنَا. وَإِذَا نَفَوُا السَّمَاعَ لِمِثْلِ هَذَا فِي الزَّمَانِ السَّابِقِ، ثَبَتَ أَنَّ مَا ادَّعَاهُ مُوسَى هُوَ بِدْعٌ لَمْ يُسْبَقْ إِلَى مِثْلِهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مُفْتَرًى عَلَى اللَّهِ، وَقَدْ كَذَبُوا فِي ذَلِكَ، وطرق سمعهم أَخْبَارَ الرُّسُلِ السَّابِقِينَ مُوسَى فِي الزَّمَانِ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ: وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ
«١» ؟
305
وَلَمَّا رَأَى مُوسَى مَا قَابَلُوهُ بِهِ مِنْ كَوْنِ مَا أَتَى بِهِ سِحْرًا، وَانْتِفَاءَ سَمَاعِ مِثْلِهِ فِي الزَّمَانِ السَّابِقِ، قالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ، حَيْثُ أَهَّلَهُ لِلرِّسَالَةِ، وَبَعَثَهُ بِالْهُدَى، وَوَعَدَهُ حُسْنَ الْعُقْبَى، وَيَعْنِي بِذَلِكَ نَفْسَهُ، وَلَوْ كَانَ كَمَا يَزْعُمُونَ لَمْ يُرْسِلْهُ. ثُمَّ نَبَّهَ عَلَى الْعِلَّةِ الْمُوجِبَةِ لِعَدَمِ الْفَلَاحِ، وَهِيَ الظُّلْمُ. وَضْعُ الشَّيْءِ غَيْرَ مَوْضِعِهِ، حَيْثُ دُعُوا إِلَى الْإِيمَانِ بِاللَّهِ، وَأُتُوا بِالْمُعْجِزَاتِ، فَادَّعَوُا الْإِلَهِيَّةَ، وَنَسَبُوا ذَلِكَ الْمُعْجِزَ إِلَى السِّحْرِ. وَعَاقِبَةُ الدَّارِ، وَإِنْ كَانَتْ تَصْلُحُ لِلْمَحْمُودَةِ وَالْمَذْمُومَةِ، فَقَدْ كَثُرَ اسْتِعْمَالُهَا فِي الْمَحْمُودَةِ، فَإِنْ لَمْ تُقَيَّدْ، حُمِلَتْ عَلَيْهَا. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ جَنَّاتُ عَدْنٍ
«١» ؟ وَقَالَ:
وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ
«٢» وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: قَالَ مُوسَى، بِغَيْرِ وَاوٍ وَبَاقِي السَّبْعَةِ:
بِالْوَاوِ. وَمُنَاسَبَةُ قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ لَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا: كَيْتَ وَكَيْتَ، وَقَالَ مُوسَى: كَيْتَ وَكَيْتَ فَيَتَمَيَّزُ النَّاظِرُ فَصْلَ مَا بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ وَفَسَادَ أَحَدِهِمَا، إِذْ قَدْ تَقَابَلَا، فَيَعْلَمُ يَقِينًا أَنَّ قَوْلَ مُوسَى هُوَ الْحَقُّ وَالْهُدَى. وَمُنَاسَبَةُ قِرَاءَةِ ابْنِ كَثِيرٍ، أَنَّهُ مَوْضِعُ قِرَاءَةٍ لَمَّا قَالُوا: كَيْتَ وَكَيْتَ، قَالَ مُوسَى: كَيْتَ وَكَيْتَ. وَنَفَى فِرْعَوْنُ عِلْمَهُ بِإِلَهٍ غَيْرِهِ لِلْمَلَأِ، وَيُرِيدُ بِذَلِكَ نَفْيَ وَجُودِهِ، أَيْ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مَعْلُومٍ عِنْدَهُ إِلَهٌ لَهُمْ، وَلَكِنَّهُ مَظْنُونٌ، فَيَكُونُ النَّفْيُ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ، وَهُوَ الْكَاذِبُ فِي انْتِفَاءِ عِلْمِهِ بِإِلَهٍ غَيْرُهُ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ حَالَةَ غَرَقِهِ: آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ
«٣» ؟
وَاسْتَمَرَّ فِرْعَوْنُ فِي مَخْرَقَتِهِ، وَنَادَى وَزِيرَهُ هَامَانَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُوقِدَ النَّارَ عَلَى الطِّينِ. قِيلَ: وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ عَمِلَ الْآجُرَّ، وَلَمْ يَقُلِ: اطْبُخِ الْآجُرَّ، لِأَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ لِهَامَانَ عِلْمٌ بِذَلِكَ، فَفِرْعَوْنُ هُوَ الَّذِي يُعَلِّمُهُ مَا يَصْنَعُ.
فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً: أَيِ ابن لي، لعل أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى. أَوْهَمَ قَوْمَهُ أَنَّ إِلَهَ مُوسَى يُمْكِنُ الْوُصُولُ إِلَيْهِ وَالْقُدْرَةُ عَلَيْهِ، وَهُوَ عَالِمٌ مُتَيَقَّنٌ أَنَّ ذَلِكَ لَا يُمْكِنُ لَهُ وَقَوْمُهُ لِغَبَاوَتِهِمْ وَجَهْلِهِمْ وَإِفْرَاطِ عَمَايَتِهِمْ، يُمْكِنُ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ، وَنَفْسُ إِقْلِيمِ مِصْرَ يَقْتَضِي لِأَهْلِهِ تَصْدِيقَهُمْ بِالْمُسْتَحِيلَاتِ وَتَأَثُّرَهُمْ لِلْمُوهِمَاتِ وَالْخَيَالَاتِ، وَلَا يُشَكُّ إِنَّهُ كَانَ مِنْ قَوْمٍ فِرْعَوْنَ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ مُبْطِلٌ فِي دَعْوَاهُ، وَلَكِنْ يُوَافِقُهُ مَخَافَةَ سَطْوِهِ وَاعْتِدَائِهِ. كَمَا رَأَيْنَاهُ يَعْرِضُ لِكَثِيرٍ مِنَ الْعُقَلَاءِ، إِذَا حَدَّثَ رَئِيسٌ بِحَضْرَتِهِ بِحَدِيثٍ مُسْتَحِيلٍ، يُوَافِقُهُ عَلَى ذَلِكَ الْحَدِيثِ. وَلَا يَدُلُّ الْأَمْرُ بِبِنَاءِ الصَّرْحِ عَلَى أَنَّهُ بُنِيَ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ، فَقِيلَ: بَنَاهُ، وَذَكَرَ مَنْ وَصَفَهُ بِمَا
306
اللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ. وَقِيلَ: لَمْ يُبْنَ. وَاطَّلَعَ فِي معنى: اطلع، يُقَالُ: طَلَعَ إِلَى الْجَبَلِ وَاطَّلَعَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، أَيْ صَعِدَ، فَافْتَعَلَ فِيهِ بِمَعْنَى الْفِعْلِ الْمُجَرَّدِ وَبِغَيْرِ الْحَقِّ، إِذْ لَيْسَ لَهُمْ ذَلِكَ، فَهُمْ مُبْطِلُونَ فِي اسْتِكْبَارِهِمْ، حَيْثُ ادَّعَى الْإِلَهِيَّةَ وَوَافَقُوهُ عَلَى ذَلِكَ وَالْكِبْرِيَاءُ فِي الْحَقِيقَةِ إِنَّمَا هُوَ لِلَّهِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَنَافِعٌ: لا يرجون، مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ وَالْجُمْهُورُ: مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وَالْأَرْضِ هُنَا أَرْضُ مِصْرَ. فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ: كِنَايَةٌ عَنْ إِدْخَالِهِمْ فِي الْبَحْرِ حَتَّى غَرِقُوا، شُبِّهُوا بِحَصَيَاتٍ. قَذَفَهَا الرَّامِي مِنْ يَدِهِ، وَمِنْهُ نَبْذُ النَّوَاةِ، وَقَوْلُ الشَّاعِرِ:
نَظَرْتُ إِلَى عُنْوَانِهِ فَنَبَذْتُهُ كَنَبْذِكَ نَعْلًا مِنْ نِعَالِكَ بَالِيًا
وَقَوْمُ فِرْعَوْنَ وَفِرْعَوْنُ، وَإِنْ سَارُوا إِلَى الْبَحْرِ بِاخْتِيَارِهِمْ فِي طَلَبِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَإِنَّ مَا ضَمَّهُمْ مِنَ الْقَدْرِ السَّابِقِ، وَإِغْرَاقِهِمْ فِي الْبَحْرِ، هُوَ نَبْذُ اللَّهِ إِيَّاهُمْ. وَجَعَلَ هُنَا بِمَعْنَى:
صَيَّرَ، أَيْ صَيَّرْنَاهُمْ أَئِمَّةً قُدْوَةً لِلْكُفَّارِ يَقْتَدُونَ بِهِمْ فِي ضَلَالَتِهِمْ، كَمَا أَنَّ لِلْخَيْرِ أَئِمَّةً يُقْتَدَى بِهِمْ، اشْتَهَرُوا بِذَلِكَ وَبَقِيَ حَدِيثُهُمْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَجَعَلْنَاهُمْ: دَعَوْنَاهُمْ، أَئِمَّةً: دُعَاةً إِلَى النَّارِ، وَقُلْنَا: إِنَّهُمْ أئمة دعاة إلى النار، وَهُوَ مِنْ قَوْلِكَ: جَعَلَهُ بَخِيلًا وَفَاسِقًا إِذَا دَعَاهُ فَقَالَ: إِنَّهُ بَخِيلٌ وَفَاسِقٌ. وَيَقُولُ أَهْلُ اللُّغَةِ فِي تَفْسِيرِ فِسْقِهِ وَبُخْلِهِ: جَعَلَهُ بَخِيلًا وَفَاسِقًا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً
«١» . وَمَعْنَى دَعَوْتِهِمْ إِلَى النَّارِ: دَعْوَتُهُمْ إِلَى مُوجِبَاتِهَا مِنَ الْكُفْرِ. انْتَهَى. وَإِنَّمَا فَسَّرَ جَعَلْنَاهُمْ بِمَعْنَى دَعَوْنَاهُمْ، لَا بِمَعْنَى صَيَّرْنَاهُمْ، جَرْيًا عَلَى مَذْهَبِهِ مِنَ الِاعْتِزَالِ، لِأَنَّ فِي تَصْيِيرِهِمْ أَئِمَّةً، خَلْقُ ذَلِكَ لَهُمْ. وَعَلَى مذهب المعتزلة، لا يجوّزون ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ، وَلَا يَنْسُبُونَهُ إِلَيْهِ، قَالَ: وَيَجُوزُ خَذَلْنَاهُمْ حَتَّى كَانُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ، وَمَعْنَى الْخِذْلَانِ: مَنْعُ الْأَلْطَافِ، وَإِنَّمَا يُمْنَعُهَا مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَنْفَعُ فِيهِ، وَهُوَ الْمُصَمِّمُ عَلَى الْكُفْرِ، الَّذِي لَا تُغْنِي عَنْهُ الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ. انْتَهَى، وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِ أَيْضًا. لَعْنَةً: أَيْ طَرْدًا وَإِبْعَادًا، وَعُطِفَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى: فِي هذِهِ الدُّنْيا. مِنَ الْمَقْبُوحِينَ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مِنَ الْهَالِكِينَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مِنْ الْمُشَوَّهِينَ الْخِلْقَةِ، لِسَوَادِ الْوُجُوهِ وَزُرْقَةِ الْعُيُونِ. وَقِيلَ: مِنَ الْمُبْعَدِينَ.
وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَا آلَ إِلَيْهِ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ مَنْ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَإِغْرَاقِهِ، ذَكَرَ مَا امْتَنَّ بِهِ عَلَى رَسُولِهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ، وَهُوَ التَّوْرَاةُ، وَهُوَ أَوَّلُ كِتَابٍ أنزلت فيه الفرائض وَالْأَحْكَامُ. مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى: قَوْمُ نوح وهود
307
وَصَالِحٍ وَلُوطٍ، وَيُقَالُ: لَمْ تَهْلِكْ قَرْيَةٌ بَعْدَ نُزُولِ التَّوْرَاةِ غَيْرُ الْقَرْيَةِ الَّتِي مُسِخَ أَهْلُهَا قِرَدَةً.
وَانْتَصَبَ بَصَائِرَ عَلَى الْحَالِ، أَيْ طَرَائِقَ هُدًى يُسْتَبْصَرُ بِهَا.
وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ، وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ، وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ، وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ، قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ.
لَمَّا قَصَّ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ أَنْبَاءِ مُوسَى وَغَرَائِبِ مَا جَرَى لَهُ مِنْ الْحَمْلِ بِهِ فِي وَقْتِ ذَبْحِ الْأَبْنَاءِ، وَرَمْيِهِ فِي الْبَحْرِ فِي تَابُوتٍ، وَرَدِّهِ إِلَى أُمِّهِ، وَتَبَنِّي فِرْعَوْنَ لَهُ، وَإِيتَائِهِ الْحُكْمَ وَالْعِلْمَ، وَقَتْلِهِ الْقِبْطِيَّ، وَخُرُوجِهِ مِنْ مَنْشَئِهِ فَارًّا، وَتَصَاهُرِهِ مَعَ شُعَيْبٍ، وَرَعْيِهِ لِغَنَمِهِ السِّنِينَ الطَّوِيلَةَ، وَعَوْدِهِ إِلَى مِصْرَ، وَإِضْلَالِهِ الطَّرِيقَ، وَمُنَاجَاةِ اللَّهِ لَهُ، وَإِظْهَارِ تَيْنِكَ الْمُعْجِزَتَيْنِ الْعَظِيمَتَيْنِ عَلَى يَدَيْهِ، وَهِيَ الْعَصَا وَالْيَدُ، وَأَمْرِهِ بِالذَّهَابِ إِلَى فِرْعَوْنَ، وَمُحَاوَرَتِهِ مَعَهُ، وَتَكْذِيبِ فِرْعَوْنَ وَإِهْلَاكِهِ وَإِهْلَاكِ قَوْمِهِ، وَالِامْتِنَانِ عَلَى مُوسَى بِإِيتَائِهِ التَّوْرَاةَ وَأَوْحَى تَعَالَى بِجَمِيعِ ذَلِكَ إِلَى مُحَمَّدٍ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَّرَهُ بِإِنْعَامِهِ عَلَيْهِ بِذَلِكَ، وَبِمَا خَصَّهُ مِنَ الْغُيُوبِ الَّتِي كَانَ لَا يَعْلَمُهَا لَا هُوَ وَلَا قَوْمُهُ فَقَالَ: وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ.
وَالْأَمْرُ، قِيلَ: النُّبُوَّةُ وَالْحُكْمُ الَّذِي آتَاهُ اللَّهُ مُوسَى. وَقِيلَ: الْأَمْرُ: أَمْرُ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أُمَّتِهِ، وَهَذَا التَّأْوِيلُ يَلْتَئِمُ مَعَهُ مَا بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِ: وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً.
وَقِيلَ: الْأَمْرُ: هَلَاكُ فِرْعَوْنَ بِالْمَاءِ، وَيُحْمَلُ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ عَلَى الْيَمِّ، وَبَدَأَ أَوَّلًا بِنَفْيِ شَيْءٍ خَاصٍّ، وَهُوَ أَنَّهُ لَمْ يَحْضُرْ وَقْتَ قَضَاءِ اللَّهِ لِمُوسَى الْأَمْرَ، ثُمَّ ثَنَّى بِكَوْنِهِ لَمْ يَكُنْ مِنَ الشَّاهِدِينَ. وَالْمَعْنَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ مِنَ الشَّاهِدِينَ بِجَمِيعِ مَا أَعْلَمْنَاكَ بِهِ، فَهُوَ نَفْيٌ لِشَهَادَتِهِ جَمِيعَ مَا جَرَى لِمُوسَى، فَكَانَ عُمُومًا بَعْدَ خُصُوصٍ. وَبِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ: مِنْ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى صِفَتِهِ عِنْدَ قَوْمٍ، وَمِنْ حَذْفِ الْمَوْصُوفِ وَإِقَامَةِ الصِّفَةِ مَقَامَهُ عِنْدَ قَوْمٍ. فَعَلَى
308
الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَصِلُهُ بِالْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ، وَعَلَى الثَّانِي أَصْلُهُ بِجَانِبِ الْمَكَانِ الْغَرْبِيِّ، وَالتَّرْجِيحُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ مَذْكُورٌ فِي النَّحْوِ. وَالْغَرْبِيُّ، قَالَ قَتَادَةُ: غَرْبِيُّ الْجَبَلِ، وَقَالَ الْحَسَنُ: بَعَثَ اللَّهُ مُوسَى بِالْغَرْبِ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: حَيْثُ تَغْرُبُ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ. وَقِيلَ: هُنَا جَبَلٌ غَرْبِيٌّ. وَقِيلَ: الْغَرْبِيُّ مِنَ الْوَادِي، وَقِيلَ: مِنَ الْبَحْرِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْمَعْنَى: لَمْ تَحْضُرْ يَا مُحَمَّدُ هَذِهِ الْغُيُوبَ الَّتِي تُخْبَرُ بِهَا، وَلَكِنَّهَا صَارَتْ إِلَيْكَ بِوَحْيِنَا، أَيْ فَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يُسَارَعَ إِلَى الْإِيمَانِ بِكَ، وَلَكِنْ تَطَاوَلَ الْأَمْرُ عَلَى الْقُرُونِ الَّتِي أَنْشَأْنَاهَا زَمَنًا زَمَنًا، فَعَزَبَتْ حُلُومُهُمْ، وَاسْتَحْكَمَتْ جَهَالَتُهُمْ وَضَلَالَتُهُمْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْغَرْبُ: الْمَكَانُ الْوَاقِعُ فِي شِقِّ الْغَرْبِ، وَهُوَ الْمَكَانَ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ مِيقَاتُ مُوسَى مِنَ الطَّوْرِ، وَكَتَبَ اللَّهُ لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ.
وَالْأَمْرُ الْمَقْضِيُّ إِلَى مُوسَى: الْوَحْيُ الَّذِي أُوحِيَ إِلَيْهِ. وَالْخِطَابُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ:
وَمَا كُنْتَ حَاضِرًا الْمَكَانَ الَّذِي أَوْحَيْنَا فِيهِ إِلَى مُوسَى، وَلَا كُنْتَ مِنْ جُمْلَةِ الشَّاهِدِينَ لِلْوَحْيِ إِلَيْهِ، أَوْ عَلَى الْوَحْيِ إِلَيْهِ، وَهُمْ نُقَبَاؤُهُ الَّذِينَ اخْتَارَهُمْ لِلْمِيقَاتِ، حَتَّى نَقِفَ مِنْ جُمْلَةِ الْمُشَاهَدَةِ عَلَى مَا جَرَى مِنْ أَمْرِ مُوسَى فِي مِيقَاتِهِ، وَكَتْبِ التَّوْرَاةِ لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.
فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ يَتَّصِلُ قَوْلُهُ: وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً بِهَذَا الْكَلَامِ، وَمِنْ أَيِّ جِهَةٍ يَكُونُ اسْتِدْرَاكًا؟ قُلْتُ: اتِّصَالُهُ بِهِ وَكَوْنُهُ اسْتِدْرَاكًا مِنْ حَيْثُ إِنَّ مَعْنَاهُ: وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا بَعْدَ عَهْدِ الْوَحْيِ إِلَى عَهْدِكَ قُرُونًا كَثِيرَةً، فَتَطَاوَلَ عَلَى آخِرِهِمْ، وَهُوَ الْقَرْنُ الَّذِي أَنْتَ فِيهِمْ.
الْعُمُرُ: أَيْ أَمَدُ انْقِطَاعِ الْوَحْيِ، وَانْدَرَسَتِ الْعُلُومُ، فَوَجَبَ إِرْسَالُكَ إِلَيْهِمْ، فَأَرْسَلْنَاكَ وَكَسَّبْنَاكَ الْعِلْمَ بِقَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ وَقِصَّةِ مُوسَى، كَأَنَّهُ قَالَ: وَمَا كُنْتَ شَاهِدًا لِمُوسَى وَمَا جَرَى عَلَيْهِ، وَلَكِنَّا أَوْحَيْنَاهُ إِلَيْكَ، فَذَكَرَ سَبَبَ الْوَحْيِ الَّذِي هُوَ إِطَالَةُ النَّظِرَةِ، وَدَلَّ بِهِ عَلَى الْمُسَبَّبِ عَلَى عَادَةِ اللَّهِ فِي اخْتِصَارِهِ. فَإِذَنْ، هَذَا الِاسْتِدْرَاكُ شَبِيهٌ لِلِاسْتِدْرَاكَيْنِ بَعْدَهُ. وَما كُنْتَ ثاوِياً: أَيْ مُقِيمًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ، هُمْ شُعَيْبٌ وَالْمُؤْمِنُونَ. تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا: تَقْرَأُ عَلَيْهِمْ تَعَلُّمًا مِنْهُمْ، يُرِيدُ الْآيَاتِ الَّتِي فِيهَا قِصَّةُ شُعَيْبٍ وَقَوْمِهِ. وَلَكِنَّا أَرْسَلْنَاكَ وَأَخْبَرْنَاكَ بِهَا وَعَلَّمْنَاكَهَا. إِذْ نادَيْنا، يُرِيدُ مُنَادَاةَ مُوسَى لَيْلَةَ الْمُنَاجَاةِ وَتَكْلِيمِهِ، وَلَكِنْ عَلَّمْنَاكَ. وَقِيلَ:
فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ، وَفَتَرَتِ النُّبُوَّةُ، وَدَرَسَتِ الشَّرَائِعُ، وَحُرِّفَ كَثِيرٌ مِنْهَا وَتَمَامُ الْكَلَامِ مُضْمَرٌ تَقْدِيرُهُ: وَأَرْسَلْنَاكَ مُجَدِّدًا لِتِلْكَ الْأَخْبَارِ، مُمَيِّزًا لِلْحَقِّ بِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنْهَا، رَحْمَةً مِنَّا. وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ المعنى: وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَكَانَتْ بَيْنَكَ وَبَيْنَ مُوسَى قُرُونٌ تَطَاوَلَتْ أَعْمَارُهُمْ، وَأَنْتَ تُخْبِرُ الْآنَ عَنْ تِلْكَ الْأَحْوَالِ إِخْبَارَ مُشَاهَدَةٍ وَعَيَانٍ بِإِيحَائِنَا، مُعْجِزَةً لَكَ. وَقِيلَ: تَتْلُو حَالٌ، وَقِيلَ: مُسْتَأْنِفٌ، أَيْ أَنْتَ الْآنَ تَتْلُو قِصَّةَ
309
شُعَيْبٍ، وَلَكِنَّا أَرْسَلْنَاكَ رَسُولًا، وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِيهِ هَذِهِ الْأَخْبَارُ الْمَنْسِيَّةُ تَتْلُوهَا عَلَيْهِمْ، وَلَوْلَاكَ مَا أَخْبَرْتُهُمْ بِمَا لَمْ يُشَاهِدُوهُ.
وَقَالَ الْفَرَّاءُ: وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ مَعَ مُوسَى، فَتَرَاهُ وَتَسْمَعُ كَلَامَهُ، وها أنت تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا: أَيْ عَلَى أُمَّتِكَ، فَهُوَ مُنْقَطِعٌ. انْتَهَى. قِيلَ: وَإِذَا لَمْ يَكُنْ حَاضِرًا فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ، فَمَا مَعْنَى: وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
التَّقْدِيرُ: لَمْ تَحْضُرْ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ، وَلَوْ حَضَرْتَ، فَمَا شَاهَدْتَ تِلْكَ الْوَقَائِعَ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ: وَلَا يَشْهَدُ وَلَا يَرَى. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: لَمْ يَشْهَدْ أَهْلَ مَدْيَنَ فَيَقْرَأُ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ خَبَرَهُمْ، وَلَكِنَّا أَرْسَلْنَاكَ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ، وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ هَذِهِ الْأَخْبَارَ، وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا عَلِمْتَ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: يَقُولُ إِنَّكَ يَا مُحَمَّدُ لَمْ تَكُنِ الرَّسُولَ إِلَى أَهْلِ مَدْيَنَ، تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِ الْكِتَابِ، وَإِنَّمَا كَانَ غَيْرُكَ، وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسَلِينَ فِي كُلِّ زَمَانٍ رَسُولًا، فَأَرْسَلْنَا إِلَى مَدْيَنَ شُعَيْبًا، وَأَرْسَلْنَاكَ إِلَى الْعَرَبِ لِتَكُونَ خَاتَمَ الْأَنْبِيَاءِ. انْتَهَى.
وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: إِذْ نادَيْنا بأن: فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ
«١» الآية.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّهُ نُودِيَ مِنَ السَّمَاءِ حِينَئِذٍ يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ اسْتَجَبْتُ لَكُمْ قَبْلَ أَنْ تَدْعُونِي، وَغَفَرْتُ لَكُمْ قَبْلَ أَنْ تَسْأَلُونِي، فَحِينَئِذٍ قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ.
فَالْمَعْنَى: إِذْ نَادَيْنَا بِأَمْرِكَ، وَأَخْبَرْنَاكَ بِنُبُوَّتِكَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: رَحْمَةً، بِالنَّصْبِ، فَقُدِّرَ: وَلَكِنْ جَعَلْنَاكَ رَحْمَةً، وَقُدِّرَ أَعْلَمْنَاكَ وَنَبَّأْنَاكَ رحمة. وقرأ عيسى، وَأَبُو حَيْوَةَ: بِالرَّفْعِ، وَقَدَّرَ: وَلَكِنْ هُوَ رَحْمَةٌ، أَوْ هُوَ رَحْمَةٌ، أَوْ أَنْتَ رَحْمَةٌ. لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ: أَيْ فِي زَمَنِ الْفَتْرَةِ بَيْنَكَ وَبَيْنَ عِيسَى، وَهُوَ خَمْسُمِائَةٍ وَخَمْسُونَ عَامًا وَنَحْوُهُ. وَجَوَابُ لَوْلا مَحْذُوفٌ.
وَالْمَعْنَى: لَوْلَا أَنَّهُمْ قَائِلُونَ، إِذْ عُوقِبُوا بِمَا قَدَّمُوا مِنَ الشِّرْكِ وَالْمَعَاصِي، هَلَّا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا؟ مُحْتَجِّينَ بِذَلِكَ عَلَيْنَا مَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ: أَيْ إِنَّمَا أَرْسَلْنَا الرُّسُلَ إِزَالَةً لِهَذَا الْعُذْرِ، كَمَا قَالَ: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ
«٢» ، أَنْ تَقُولُوا مَا جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ
«٣» . وَتَقْدِيرُ الْجَوَابِ: مَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ الرُّسُلَ، هُوَ قَوْلُ الزَّجَّاجُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
تَقْدِيرُهُ: لَعَاجَلْنَاهُمْ بِمَا يَسْتَحِقُّونَهُ. وَالْمُصِيبَةُ: الْعَذَابُ. وَلَمَّا كَانَ أَكْثَرُ الْأَعْمَالِ تُزَاوَلُ بِالْأَيْدِي، عُبِّرَ عَنْ كُلِّ عَمَلٍ بِاجْتِرَاحِ الْأَيْدِي، حَتَّى أَعْمَالُ الْقُلُوبِ، اتِّسَاعًا فِي الْكَلَامِ، وَتَصْيِيرَ الْأَقَلِّ تَابِعًا لِلْأَكْثَرِ، وَتَغْلِيبَ الْأَكْثَرِ عَلَى الْأَقَلِّ. وَالْفَاءُ فِي فَيَقُولُوا لِلْعَطْفِ على نصيبهم، ولولا الثانية للتحضيض. وفنتبع: الْفَاءُ فِيهِ جَوَابٌ لِلتَّحْضِيضِ.
310
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ اسْتَقَامَ هَذَا الْمَعْنَى، وَقَدْ جُعِلَتِ الْعُقُوبَةُ هِيَ السَّبَبُ فِي الْإِرْسَالِ لَا الْقَوْلُ لِدُخُولِ حَرْفِ الِامْتِنَاعِ عَلَيْهَا دُونَهُ؟ قُلْتُ: الْقَوْلُ هُوَ الْمَقْصُودُ بِأَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِإِرْسَالِ الرُّسُلِ، وَلَكِنَّ الْعُقُوبَةَ، لِمَا كَانَتْ هِيَ السَّبَبَ لِلْقَوْلِ، فَكَانَ وُجُودُهُ بِوُجُودِهَا، جُعِلَتِ الْعُقُوبَةُ كَأَنَّهَا سَبَبُ الْإِرْسَالِ بِوَاسِطَةِ الْقَوْلِ، فَأُدْخِلَتْ عَلَيْهَا لَوْلَا، وَجِيءَ بِالْقَوْلِ مَعْطُوفًا عَلَيْهَا بِالْفَاءِ الْمُعْطِيَةِ مَعْنَى السَّبَبِيَّةِ، وَيُؤَوَّلُ مَعْنَاهَا إِلَى قَوْلِكَ: وَلَوْلَا قَوْلُهُمْ هَذَا، إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ
«١» لَمَا أَرْسَلْنَا، وَلَكِنِ اخْتِيرَتْ هَذِهِ الطَّرِيقَةُ لِنُكْتَةٍ، وَهُوَ أَنَّهُمْ لَمْ يُعَاقَبُوا مَثَلًا عَلَى كُفْرِهِمْ، وَقَدْ عَايَنُوا مَا أُلْجِئُوا بِهِ إِلَى الْعِلْمِ الْيَقِينِ. لَمْ يقولو: لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا، وَإِنَّمَا السَّبَبُ فِي قَوْلِهِمْ هَذَا هُوَ الْعِقَابُ لَا غَيْرَ، لَا التَّأَسُّفُ عَلَى مَا فَاتَهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ بِخَالِقِهِمْ. وَفِي هَذَا مِنَ الشَّهَادَةِ الْقَوِيَّةِ عَلَى اسْتِحْكَامِ كُفْرِهِمْ وَرُسُوخِهِمْ فِيهِ مَا لَا يَخْفَى، كَقَوْلِهِمْ: وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ
«٢» . انتهى.
الْحَقُّ: هُوَ الرَّسُولُ، مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، جَاءَ بِالْكِتَابِ الْمُعْجِزِ الَّذِي قَطَعَ مَعَاذِيرَهُمْ.
وَقِيلَ: الْقُرْآنُ، مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسى. مِنْ قَبْلُ: أَيْ مِنْ قَبْلُ الْكِتَابَ الْمُنَزَّلَ جُمْلَةً وَاحِدَةً، وَانْقِلَابَ الْعَصَا حَيَّةً، وَفَلْقَ الْبَحْرِ، وَغَيْرَهَا مِنَ الْآيَاتِ. اقْتَرَحُوا ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّعَنُّتِ وَالْعِنَادِ، كَمَا قَالُوا: لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْمُقْتَرَحَاتِ لَهُمْ. وَهَذِهِ الْمَقَالَةُ الَّتِي قَالُوهَا هِيَ مِنْ تَعْلِيمِ الْيَهُودِ لِقُرَيْشٍ، قَالُوا لَهُمْ. أَلَا يَأْتِيَ بِآيَةٍ بَاهِرَةٍ كَآيَاتِ مُوسَى، فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ مُوسَى، وَقَدْ وَقَعَ مِنْهُمْ فِي آيَاتِ مُوسَى مَا وَقَعَ مِنْ هَؤُلَاءِ فِي آيَاتِ الرَّسُولِ. فَالضَّمِيرُ فِي: أَوَلَمْ يَكْفُرُوا لِلْيَهُودِ، قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَقِيلَ:
قَائِلُ ذَلِكَ الْعَرَبُ بِالتَّعْلِيمِ، كَمَا قُلْنَا. وَقِيلَ: قَائِلُ ذَلِكَ الْيَهُودُ، وَيَظْهَرُ عِنْدِي أَنَّهُ عَائِدٌ عَلَى قُرَيْشٍ الَّذِينَ قَالُوا: لَوْلا أُوتِيَ: أي محمد، بِما أُوتِيَ مُوسى، وَذَلِكَ أَنَّ تكذبيهم لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَكْذِيبٌ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَنِسْبَتُهُمُ السِّحْرَ لِلرَّسُولِ نِسْبَةُ السِّحْرِ لِمُوسَى، إِذِ الْأَنْبِيَاءُ هُمْ مِنْ وَادٍ وَاحِدٍ. فَمَنْ نَسَبَ إِلَى أَحَدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مَا لَا يَلِيقُ، كَانَ نَاسِبًا ذَلِكَ إِلَى جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ. وَتَتَنَاسَقُ الضَّمَائِرُ كُلُّهَا فِي هَذَا، فِي قَوْلِهِ: قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ الظَّاهِرُ مِنَ الْقَوْلِ أَنَّهُ النُّطْقُ اللِّسَانِيُّ، فَقَدْ يَنْطَلِقُ عَلَى الِاعْتِقَادِ وَهُمْ مِنْ حَيْثُ إِنْكَارُ النُّبُوَّاتِ، مُعْتَقِدُونَ أَنَّ مَا ظَهَرَ عَلَى أَيْدِي الْأَنْبِيَاءِ مِنَ الْآيَاتِ إِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ السِّحْرِ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوَلَمْ يَكْفُرُوا، يَعْنِي آبَاءَ جِنْسِهِمْ، وَمَنْ مَذْهَبُهُمْ مَذْهَبُهُمْ، وَعِنَادُهُمْ عِنَادُهُمْ، وَهُمُ الْكَفَرَةُ فِي زَمَنِ مُوسَى بِما أُوتِيَ مُوسى. وَعَنِ الْحَسَنِ: قَدْ كَانَ
311
لِلْعَرَبِ أَصْلٌ فِي أَيَّامِ مُوسَى، فَمَعْنَاهُ عَلَى هَذَا: أو لم يَكْفُرْ آبَاؤُهُمْ؟ قَالُوا فِي موسى وهارون: سِحْرانِ تَظاهَرا، أَيْ تَعَاوَنَا. انْتَهَى. ومن قيل: يُحْتَمَلُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِ يَكْفُرُوا، وبِما أُوتِيَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: سَاحِرَانِ.
قَالَ مُجَاهِدٌ: مُوسَى وَهَارُونُ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: مُوسَى وَعِيسَى.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مُوسَى وَمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ الْحَسَنُ أَيْضًا: عِيسَى وَمُحَمَّدٍ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَالْكُوفِيُّونَ: سِحْرَانِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
التَّوْرَاةُ وَالْقُرْآنُ. وَقِيلَ: التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ، أَوْ مُوسَى وَهَارُونُ جُعِلَا سِحْرَيْنِ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ. تَظاهَرا: تَعَاوَنَا. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: تَظَاهَرَا: فِعْلًا مَاضِيًا عَلَى وَزْنِ تَفَاعَلَ.
وَقَرَأَ طَلْحَةُ، وَالْأَعْمَشُ: اظَّاهَرَا، بِهَمْزَةِ الْوَصْلِ وَشَدِّ الظَّاءِ، وَكَذَا هِيَ فِي حَرْفِ عَبْدِ اللَّهِ، وَأَصْلُهُ تَظَاهَرَا، فَأَدْغَمَ التَّاءَ فِي الظَّاءِ، فَاجْتُلِبَتْ هَمْزَةُ الْوَصْلِ لِأَجْلِ سُكُونِ التَّاءِ الْمُدْغَمَةِ.
وَقَرَأَ مَحْبُوبٌ عَنِ الْحَسَنِ، وَيَحْيَى بْنِ الْحَارِثِ الذِّمَارِيُّ، وَأَبُو حَيْوَةَ، وَأَبُو خَلَّادٍ عَنِ الْيَزِيدِيِّ: تَظَاهَرَا بِالتَّاءِ، وَتَشْدِيدِ الظَّاءِ. قَالَ ابْنُ خَالَوَيْهِ: وَتَشْدِيدُهُ لَحْنٌ لِأَنَّهُ فِعْلٌ مَاضٍ، وَإِنَّمَا يُشَدِّدُ فِي الْمُضَارِعِ. وَقَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: وَلَا أَعْرِفُ وَجْهَهُ. وَقَالَ صَاحِبُ الْكَامِلِ فِي الْقِرَاءَاتِ: وَلَا مَعْنَى لَهُ. انْتَهَى. وَلَهُ تَخْرِيجٌ فِي اللِّسَانِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ مُضَارِعٌ حُذِفَتْ مِنْهُ النُّونَ، وَقَدْ جَاءَ حَذْفُهَا فِي قَلِيلٍ مِنَ الْكَلَامِ وَفِي الشِّعْرِ، وَسَاحِرَانِ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: أَنْتُمَا سَاحِرَانِ تَتَظَاهَرَانِ ثُمَّ أُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الظَّاءِ وَحُذِفَتِ النُّونُ، وَرُوعِيَ ضَمِيرُ الْخِطَابِ. ولو قرىء: يَظَّاهَرَا، بِالْيَاءِ، حَمْلًا عَلَى مُرَاعَاةِ سَاحِرَانِ، لَكَانَ لَهُ وجه، أو على تقدير هما سَاحِرَانِ تَظَاهَرَا.
وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ: أَيْ بِكُلٍّ مِنَ السَّاحِرَيْنِ أَوِ السِّحْرَيْنِ، ثُمَّ أَمَرَهُ تَعَالَى أَنْ يَصْدَعَ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَهِيَ قَوْلُهُ: قُلْ فَأْتُوا: أَيْ أَنْتُمْ أَيُّهَا الْمُكَذِّبُونَ، بِهَذِهِ الْكُتُبِ الَّتِي تَضَمَّنَتِ الْأَمْرَ بِالْعِبَادَاتِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَنَهَتْ عَنِ الْكُفْرِ وَالنَّقَائِصِ، وَوَعَدَ اللَّهُ عَلَيْهَا الثَّوَابَ الْجَزِيلَ. إِنْ كَانَ تَكْذِيبُكُمْ لِمَعْنًى فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يَهْدِي أَكْثَرَ مِنْ هُدَى هَذِهِ، أَتَّبِعْهُ مَعَكُمْ. وَالضَّمِيرُ فِي مِنْهَا عَائِدٌ عَلَى مَا أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى، وَعَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ، وَتَعْلِيقُ إِتْيَانِهِمْ بِشَرْطِ الصِّدْقِ أَمْرٌ مُتَحَقِّقٌ مُتَيَقَّنٌ، أَنَّهُ لَا يَكُونُ وَلَا يُمْكِنُ صِدْقُهُمْ، كَمَا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يَكُونُ أَهْدَى مِنَ الْكِتَابَيْنِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالشَّرْطِ التَّهَكُّمُ بِهِمْ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: أتبعه، برفع العين الِاسْتِئْنَافِ، أَيْ أَنَا أَتَّبِعُهُ.
فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ فَإِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِمَا جِئْتَ بِهِ مِنَ الْحُجَجِ، وَلَمْ يُمْكِنْهُمْ أَنْ يَأْتُوا بِكِتَابٍ هُوَ أَفْضَلُ، وَالِاسْتِجَابَةُ تَقْتَضِي دُعَاءً، وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو دَائِمًا إِلَى
312
الْإِيمَانِ، أَيْ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ بَعْدَ مَا وَضَحَ لَهُمْ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا كِتَابُكَ الَّذِي أُنْزِلَ، أَوْ يَكُونُ قَوْلُهُ: فَأْتُوا بِكِتابٍ، هُوَ الدُّعَاءَ إِذْ هُوَ طَلَبٌ مِنْهُمْ وَدُعَاءٌ لَهُمْ بِأَنْ يَأْتُوا بِهِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ لَا يَسْتَجِيبُونَ لِأَنْ يَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ إِلَّا اتِّبَاعُ هَوًى مُجَرَّدٍ، لَا اتِّبَاعَ دَلِيلٍ. وَاسْتَجَابَ: بِمَعْنَى أَجَابَ، وَيُعَدَّى لِلدَّاعِي بِاللَّامِ وَدُونِهَا، كَمَا قَالَ: فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ
«١» ، فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى
«٢» ، فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ
«٣» . وَقَالَ الشَّاعِرُ:
فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُجِيبٌ فَعَدَّاهُ بِغَيْرِ لَامٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هَذَا الْفِعْلُ يَتَعَدَّى إِلَى الدُّعَاءِ وَإِلَى الدَّاعِي بِاللَّامِ، وَيُحْذَفُ الدُّعَاءُ إِذَا عُدِّيَ إِلَى الدَّاعِي فِي الْغَالِبِ، فَيُقَالُ: اسْتَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَهُ، وَاسْتَجَابَ لَهُ، فَلَا يَكَادُ يُقَالُ اسْتَجَابَ لَهُ دُعَاءَهُ. وَأَمَّا الْبَيْتُ فَمَعْنَاهُ: فَلَمْ يَسْتَجِبْ دُعَاءً، عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ. انْتَهَى. وَمَنْ أَضَلُّ: أَيْ لَا أحد أضل، وبِغَيْرِ هُدىً: فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَهَذَا الْحَالُ قَيْدٌ فِي اتِّبَاعِ الْهَوَى، لِأَنَّهُ قَدْ يَتَّبِعُ الْإِنْسَانُ مَا يَهْوَاهُ، وَيَكُونُ ذَلِكَ الَّذِي يَهْوَاهُ فِيهِ هُدًى مِنَ اللَّهِ، لِأَنَّ الْأَهْوَاءَ كُلَّهَا تَنْقَسِمُ إِلَى مَا يَكُونُ فِيهِ هُدًى وَمَا لَا يَكُونُ فِيهِ هُدًى، فَلِذَلِكَ قُيِّدَ بِهَذِهِ الْحَالِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَعْنِي مَخْذُولًا مُخْلًى بَيْنَهُ وَبَيْنَ هَوَاهُ. انْتَهَى، وَهُوَ عَلَى طَرِيقِ الِاعْتِزَالِ.
وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ، الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ، وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ، أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ، وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ، إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ، وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ.
قَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَصَّلْنا، مُشَدَّدُ الصَّادِ وَالْحَسَنُ: بِتَخْفِيفِهَا، وَالضَّمِيرُ فِي لَهُمْ لِقُرَيْشٍ. وَقَالَ رِفَاعَةُ الْقُرَظِيُّ: نَزَلَتْ فِي عَشَرَةٍ مِنَ الْيَهُودِ، أَنَا أَحَدُهُمْ. قَالَ الْجُمْهُورُ:
وَصَّلْنَا: تَابَعْنَا الْقُرْآنَ مَوْصُولًا بَعْضُهُ بِبَعْضٍ فِي الْمَوَاعِظِ وَالزَّجْرِ وَالدُّعَاءِ إِلَى الإسلام. وقال
313
الْحَسَنُ: وَفِي ذِكْرِ الْأُمَمِ الْمُهْلَكَةِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: جَعَلْنَاهُ أَوْصَالًا مِنْ حَيْثُ كَانَ أَنْوَاعًا مِنَ الْقَوْلِ فِي مَعَانٍ مُخْتَلِفَةٍ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: وَصَّلْنَا لَهُمْ خَبَرَ الْآخِرَةِ بِخَبَرِ الدُّنْيَا، حَتَّى كَأَنَّهُمْ عَايَنُوا الْآخِرَةَ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: أَتْمَمْنَا لِوَصْلِكَ الشَّيْءَ بِالشَّيْءِ، وَأَصْلُ التَّوَصُّلِ فِي الْحَبْلِ، يُوَصَّلُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
فَقُلْ لِبَنِي مَرْوَانَ مَا بَالُ ذِمَّتِي بِحَبْلٍ ضَعِيفٍ لَا يَزَالُ يُوَصَّلُ
وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ مَعْنَاهَا: تَوْصِيلُ الْمَعَانِي فِيهِ بِهَا إِلَيْهِمْ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: التَّوْصِيلُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَلْفَاظِ، أَيْ وَصَّلْنَا لَهُمْ قَوْلًا مُعْجِزًا دَالًّا عَلَى نُبُوَّتِكَ. وَأَهْلُ الْكِتَابِ هُنَا جَمَاعَةٌ مِنَ الْيَهُودِ أَسْلَمَتْ، وَكَانَ الْكُفَّارُ يُؤْذُونَهُمْ. أَوْ بَحِيرَا الرَّاهِبُ، أَوِ النَّجَاشِيُّ، أَوْ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ. وَابْنُ سَلَامٍ، وَأَبُو رَفَاعَةَ، وَابْنُهُ فِي عَشَرَةٍ مِنَ الْيَهُودِ أَسْلَمُوا. أَوْ أَرْبَعُونَ مِنْ أَهْلِ الْإِنْجِيلِ كَانُوا مُؤْمِنِينَ بِالرَّسُولِ قَبْلَ مَبْعَثِهِ، اثْنَانِ وَثَلَاثُونَ مِنَ الْحَبَشَةِ أَقْبَلُوا مَعَ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَثَمَانِيَةٌ قَدِمُوا مِنَ الشَّامِ: بَحِيرَا، وَأَبْرَهَةُ، وَأَشْرَفُ، وَأَرْبَدُ، وَتَمَّامٌ، وإدريس، ونافع، وتميم وقيل ابْنُ سَلَامٍ، وَتَمِيمٌ الدَّارِيُّ، وَالْجَارُودُ الْعَبْدِيُّ، وَسَلْمَانُ، سَبْعَةُ أَقْوَالٍ آخِرُهَا لِقَتَادَةَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا أَمْثِلَةٌ لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ، وَالضَّمِيرُ فِي بِهِ عَائِدٌ عَلَى الْقَوْلِ، وَهُوَ الْقُرْآنُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: عَائِدٌ عَلَى الرَّسُولِ، وَقَالَ أَيْضًا: إِنْ عَادَ عَلَى الْقُرْآنِ، كَانَ صَوَابًا، لِأَنَّهُمْ قَدْ قَالُوا: إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا. انْتَهَى.
إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا: تَعْلِيلٌ لِلْإِيمَانِ بِهِ، لِأَنَّ كَوْنَهُ حَقًّا مِنَ اللَّهِ حَقِيقٌ بِأَنْ نُؤْمِنَ بِهِ.
إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ: بَيَانٌ لِقَوْلِهِ: آمَنَّا بِهِ، أَيْ إِيمَانُنَا بِهِ مُتَقَادِمٌ، إِذْ كَانَ الْآبَاءُ الْأَقْدَمُونَ إِلَى آبائنا قرأوا مَا فِي الْكِتَابِ الْأَوَّلِ، وَأَعْلَمُوا بِذَلِكَ الْأَبْنَاءَ، فَنَحْنُ مُسْلِمُونَ مِنْ قَبْلِ نُزُولِهِ وَتِلَاوَتِهِ عَلَيْنَا، وَالْإِسْلَامُ صِفَةُ كُلِّ مُوَحِّدٍ مُصَدِّقٍ بِالْوَحْيِ. وَإِيتَاءُ الْأَجْرِ مَرَّتَيْنِ، لِكَوْنِهِ آمَنَ بِكِتَابِهِ وَبِالْقُرْآنِ وَعُلِّلَ ذَلِكَ بِصَبْرِهِمْ: أَيْ عَلَى تَكَالِيفِ الشَّرِيعَةِ السَّابِقَةِ لَهُمْ، وَهَذِهِ الشَّرِيعَةُ وَمَا يَلْقَوْنَ مِنَ الْأَذَى.
وَفِي الْحَدِيثِ:
«ثَلَاثَةٌ يُؤْتِيهِمُ اللَّهُ أَجَرَهُمْ مَرَّتَيْنِ: رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الكتاب آمن بنبيه وآمن بي»
، الحديث. وَيَدْرَؤُنَ: يَدْفَعُونَ، بِالْحَسَنَةِ:
بِالطَّاعَةِ، السَّيِّئَةَ: الْمَعْصِيَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ، أَوْ بِالْحِلْمِ الْأَذَى، وَذَلِكَ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ.
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: يَدْفَعُونَ بِشَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الشِّرْكِ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: بِالْمَعْرُوفِ الْمُنْكَرَ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: بِالْخَيْرِ الشَّرَّ. وَقَالَ ابْنُ سَلَامٍ: بِالْعِلْمِ الْجَهْلَ، وَبِالْكَظْمِ الْغَيْظَ.
وَفِي وَصِيَّةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِمُعَاذٍ:
«أَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حسن» .
واللَّغْوَ: سَقْطُ الْقَوْلِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْأَذَى وَالسَّبُّ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الشِّرْكُ. وَقَالَ ابْنُ
314
زَيْدٍ: مَا غَيَّرَتْهُ الْيَهُودُ مِنْ وَصْفِ الرَّسُولِ، سَمِعَهُ قَوْمٌ مِنْهُمْ، فَكَرِهُوا ذَلِكَ وَأَعْرَضُوا. وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ: خِطَابٌ لِقَائِلِ اللَّغْوِ الْمَفْهُومِ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ.
سَلامٌ عَلَيْكُمْ، قَالَ الزَّجَّاجُ: سَلَامُ متاركة لإسلام تَحِيَّةٍ. لَا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ:
أَيْ لَا نَطْلُبُ مُخَالَطَتَهُمْ. إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ: أَيْ لَا تَقْدِرُ عَلَى خَلْقِ الْهِدَايَةِ فِيهِ، وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ قَوْلِهِ: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ
«١» ، لِأَنَّ مَعْنَى هَذَا: وَإِنَّكَ لَتُرْشِدُ. وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَبِي طَالِبٍ، وَحَدِيثُهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَالَةَ أَنْ مَاتَ، مَشْهُورٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَا تَقْدِرُ أَنْ تُدْخِلَ فِي الْإِسْلَامِ كُلَّ مَنْ أَحْبَبْتَ، لِأَنَّكَ لَا تَعْلَمُ الْمَطْبُوعَ عَلَى قَلْبِهِ مِنْ غَيْرِهِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ فِي الْإِسْلَامِ مَنْ يَشَاءُ، وَهُوَ الَّذِي عَلِمَ أَنَّهُ غَيْرُ مَطْبُوعٍ عَلَى قَلْبِهِ، وَأَنَّ الْأَلْطَافَ تَنْفَعُ فِيهِ، فَتُقَرِّبُ بِهِ أَلْطَافُهُ حَتَّى يَدْعُوهُ إِلَى الْقَبُولِ. وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ: بِالْقَابِلِينَ مِنَ الَّذِينَ لَا يَقْبَلُونَ. انْتَهَى، وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِ فِي أَمْرِ الْأَلْطَافِ. وَقَالُوا: الضَّمِيرُ فِي وَقَالُوا لِقُرَيْشٍ. وَقِيلَ، القائل الحارث بْنُ عُثْمَانَ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ: إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ، وَلَكِنَّا نَخَافُ إِنِ اتَّبَعْنَاكَ وَخَالَفْنَا الْعَرَبَ، فَذَلِكَ وَإِنَّمَا نَحْنُ أَكَلَةُ رَأْسٍ، أَيْ قَلِيلُونَ أَنْ يَتَخَطَّفُونَا مِنْ أَرْضِنَا.
وَقَوْلُهُمْ: الْهُدى مَعَكَ: أَيْ عَلَى زعمك، فقطع الله حجتهمم، إِذْ كَانُوا، وَهُمْ كُفَّارٌ بِاللَّهِ، عُبَّادَ أَصْنَامٍ قَدْ أَمِنُوا فِي حَرَمِهِمْ، وَالنَّاسُ فِي غَيْرِهِ يَتَقَاتَلُونَ، وَهُمْ مُقِيمُونَ فِي بَلَدٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ، يَجِيءُ إِلَيْهِمْ مَا يَحْتَاجُونَ مِنَ الْأَقْوَاتِ، فَكَيْفَ إِذَا آمَنُوا وَاهْتَدَوْا؟ فَهُوَ تَعَالَى يُمَهِّدُ لَهُمُ الْأَرْضَ، وَيُمَلِّكُهُمُ الْأَرْضَ، كَمَا وَعَدَهُمْ تَعَالَى، وَوَقَعَ مَا وَعَدَ بِهِ وَوَصْفُ الْحَرَمِ بِالْأَمْنِ مَجَازٌ، إِذِ الْآمِنُونَ فيه هم ساكنوه. وثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ: عَامٌّ مَخْصُوصٌ، يُرَادُ بِهِ الْكَثْرَةُ. وَقَرَأَ الْمِنْقَرِيُّ: يُتَخَطَّفُ، بِرَفْعِ الْفَاءِ، مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ
«٢» ، بِرَفْعِ الْكَافِ، أَيْ فَيُدْرِكُكُمْ، أَيْ فَهُوَ يُدْرِكُكُمْ. وَقَوْلُهُ: مَنْ يَفْعَلِ الْحَسَنَاتِ اللَّهُ يَشْكُرُهَا: أَيْ فَيُتَخَطَّفُ، وَفَاللَّهُ يَشْكُرُهَا، وَهُوَ تَخْرِيجُ شُذُوذٍ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَجَمَاعَةٌ، عَنْ يَعْقُوبَ وَأَبُو حَاتِمٍ، عَنْ عَاصِمٍ: تُجْبَى، بِتَاءِ التَّأْنِيثِ، وَالْبَاقُونَ بِالْيَاءِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ:
ثَمَرَاتُ، بِفَتْحَتَيْنِ وَأَبَانُ بْنُ تَغْلِبَ: بِضَمَّتَيْنِ وَبَعْضُهُمْ: بِفَتْحِ الثَّاءِ وَإِسْكَانِ الْمِيمِ.
وَانْتَصَبَ رِزْقًا عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ مِنَ الْمَعْنَى، لِأَنَّ قَوْلِهِ: يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ: أَيْ بِرِزْقِ ثَمَرَاتٍ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ، وَفَاعِلُ الْفِعْلِ الْمُعَلَّلِ مَحْذُوفٌ، أَيْ نَسُوقُ إِلَيْهِ ثمرات كل
315
شَيْءٍ، وَإِنْ كَانَ الرِّزْقُ لَيْسَ مَصْدَرًا، بَلْ بِمَعْنَى الْمَرْزُوقِ، جَازِ انْتِصَابُهُ عَلَى الْحَالِ مِنْ ثَمَرَاتٍ، وَيَحْسُنُ ذلك تخصيصا بالإضافة. وأَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ: أَيْ جَهَلَةٌ، بِأَنَّ ذَلِكَ الرِّزْقَ هُوَ مِنْ عِنْدِنَا.
وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ، وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ، وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى أَفَلا تَعْقِلُونَ، أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ.
هَذَا تَخْوِيفٌ لِأَهْلِ مَكَّةَ مِنْ سُوءِ عَاقِبَةِ قَوْمٍ كَانُوا فِي مِثْلِ حَالِهِمْ مِنْ إِنْعَامِ اللَّهِ عليم بِالرُّقُودِ فِي ظِلَالِ الْأَمْنِ وخفض العيش، فعظموا النِّعْمَةَ، وَقَابَلُوهَا بِالْأَشَرِ وَالْبَطَرِ، فَدَمَّرَهُمُ اللَّهُ وَخَرَّبَ دِيَارَهُمْ. ومَعِيشَتَها مَنْصُوبٌ عَلَى التَّمْيِيزِ، عَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ أَوْ مُشَبَّهٌ بِالْمَفْعُولِ، عَلَى مَذْهَبِ بَعْضِهِمْ أَوْ مَفْعُولٌ بِهِ عَلَى تَضْمِينِ بَطِرَتْ مَعْنَى فِعْلٍ مُتَعَدٍّ، أَيْ خَسِرَتْ مَعِيشَتَهَا، عَلَى مَذْهَبِ أَكْثَرِ الْبَصْرِيِّينَ أَوْ عَلَى إِسْقَاطِ فِي، أَي فِي مَعِيشَتِهَا، عَلَى مَذْهَبِ الْأَخْفَشِ أَوْ عَلَى الظَّرْفِ، عَلَى تَقْدِيرِ أَيَّامَ مَعِيشَتِهَا، كَقَوْلِكَ: جِئْتُ خَفُوقَ النَّجْمِ، عَلَى قَوْلِ الزَّجَّاجِ. فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ: أَشَارَ إِلَيْهَا، أَيْ تَرَوْنَهَا خَرَابًا، تَمُرُّونَ عَلَيْهَا كَحِجْرِ ثَمُودَ، هَلَكُوا وَفَنَوْا، وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ الْمَسَاكِنِ. وتُسْكَنْ، فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا قَلِيلًا مِنَ الْمَسَاكِنِ، أَيْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهَا سُكِنَ، وَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ: لَمْ تُسْكَنْ: أَيْ إِلَّا سُكْنَى قَلِيلًا، أَيْ لَمْ يَسْكُنْهَا إِلَّا الْمُسَافِرُ وَمَارُّ الطَّرِيقِ. وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ: أَيْ لِتِلْكَ الْمَسَاكِنِ وَغَيْرِهَا، كَقَوْلِهِ: إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ
«١» ، خَلَتْ مِنْ سَاكِنِيهَا فَخَرِبَتْ.
تَتَخَلَّفُ الْآثَارُ عَنْ أَصْحَابِهَا حِينًا وَيُدْرِكُهَا الْفَنَاءُ فَتَتْبَعُ
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْقُرَى عَامَّةٌ فِي الْقُرَى الَّتِي هَلَكَتْ، فَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُهْلِكُهَا فِي كُلِّ وَقْتٍ. حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّ تِلْكَ الْقُرَى، أَيْ كَبِيرَتِهَا، الَّتِي تَرْجِعُ تِلْكَ الْقُرَى إِلَيْهَا، وَمِنْهَا يَمْتَارُونَ، وَفِيهَا عَظِيمُهُمُ الْحَاكِمُ عَلَى تِلْكَ الْقُرَى. حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولًا، لِإِلْزَامِ الْحُجَّةِ وَقَطْعِ الْمَعْذِرَةِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالْقُرَى: الْقُرَى الَّتِي فِي عَصْرِ الرَّسُولِ، فَيَكُونُ أم
316
الْقُرَى: مَكَّةَ، وَيَكُونُ الرَّسُولُ: مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، خَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ، وَظُلْمُ أَهْلِهَا: هُوَ بِالْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي. وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ: أَيْ حَسَنٍ يَسُرُّكُمْ وَتَفْخَرُونَ بِهِ، فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها: تُمَتَّعُونَ أَيَّامًا قَلَائِلَ، وَما عِنْدَ اللَّهِ: مِنَ النَّعِيمِ الدَّائِمِ الْبَاقِي الْمُعَدِّ لِلْمُؤْمِنِينَ، خَيْرٌ. مِنْ مَتَاعِكُمْ، أَفَلا تَعْقِلُونَ: تَوْبِيخٌ لَهُمْ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو: يَعْقِلُونَ، بِالْيَاءِ، إِعْرَاضٌ عَنْ خِطَابِهِمْ وَخِطَابٌ لِغَيْرِهِمْ، كَأَنَّهُ قَالَ: انْظُرُوا إِلَى هَؤُلَاءِ وَسَخَافَةِ عُقُولِهِمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِالتَّاءِ مِنْ فَوْقُ، عَلَى خِطَابِهِمْ وَتَوْبِيخِهِمْ، فِي كَوْنِهِمْ أَهْمَلُوا الْعَقْلَ فِي الْعَاقِبَةِ.
وَنَسَبَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو عَلِيٍّ فِي الْحُجَّةِ إلى أبو عَمْرٍو وَحْدَهُ، وَفِي التَّحْرِيرِ وَالتَّحْبِيرِ بَيْنَ الْيَاءِ وَالتَّاءِ، عن أبي عمرو. وقرىء: مَتَاعًا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، أَيْ يُمَتَّعُونَ مَتَاعًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، فَانْتَصَبَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الظَّرْفِ.
أَفَمَنْ وَعَدْناهُ: يَذْكُرُ تَفَاوُتَ مَا بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ مَنْ وُعِدَ، وَعْداً حَسَناً، وَهُوَ الثَّوَابُ، فَلَاقَاهُ، وَمَنْ مُتِّعَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، ثُمَّ أُحْضِرَ إِلَى النَّارِ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ الْعُمُومُ فِي الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ.
قِيلَ: وَنَزَلَتْ فِي الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبِي جَهْلٍ.
وَقِيلَ: فِي حَمْزَةَ وَأَبِي جَهْلٍ.
وَقِيلَ: فِي عَلِيٍّ وَأَبِي جَهْلٍ.
وَقِيلَ: فِي عَمَّارٍ وَالْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، وَغَلَبَ لَفْظُ الْمُحْضَرِ فِي الْمُحْضَرِ إِلَى النَّارِ كَقَوْلِهِ: لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ
«١» ، فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ
«٢» . وَالْفَاءُ فِي: أَفَمَنْ، لِلْعَطْفِ، لَمَّا ذَكَرَ تَفَاوُتَ مَا بَيْنَ مَا أُوتُوا مِنَ الْمَتَاعِ وَالزِّينَةِ، وَمَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الثَّوَابِ، قَالَ: أَفَبَعْدَ هَذَا التَّفَاوُتِ الظَّاهِرِ يُسَوَّى بَيْنَ أَبْنَاءِ الْآخِرَةِ وَأَبْنَاءِ الدُّنْيَا؟ وَالْفَاءُ فِي: فَهُوَ لاقِيهِ، لِلتَّسْبِيبِ، لِأَنَّ لِقَاءَ الْمَوْعُودِ مُسَبَّبٌ عَنِ الْوَعْدِ الَّذِي هُوَ الضَّمَانُ فِي الْخَبَرِ، وَثُمَّ لِلتَّرَاخِي حَالَ الْإِحْضَارِ عَنْ حَالِ التَّمَتُّعِ بِتَرَاخِي وَقْتِهِ عَنْ وَقْتِهِ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ: أَمَنْ وَعَدْنَاهُ، بِغَيْرِ فَاءٍ.
وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ، قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ مَا كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ، وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ، وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ، فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَساءَلُونَ، فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ، وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ وَيَخْتارُ مَا كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللَّهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ، وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ، وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ، قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ
317
جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ، قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ، وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ.
لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ الْمُمَتَّعِينَ فِي الدُّنْيَا يُحْضَرُونَ إِلَى النَّارِ، ذَكَرَ شَيْئًا مِنْ أَحْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، أَيْ وَاذْكُرْ حَالَهُمْ يَوْمَ يُنَادِيهِمُ اللَّهُ، وَنِدَاؤُهُ إِيَّاهُمْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِوَاسِطَةٍ وَبِغَيْرِ وَاسِطَةٍ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ؟ أَيْ عَلَى زَعْمِكُمْ، وَهَذَا الِاسْتِفْهَامُ عَلَى جِهَةِ التَّوْبِيخِ وَالتَّقْرِيعِ وَالشُّرَكَاءُ هُمْ مَنْ عَبَدُوهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ، مِنْ مَلَكٍ، أَوْ جِنٍّ، أَوْ إِنْسٍ، أَوْ كَوْكَبٍ، أَوْ صَنَمٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. وَمَفْعُولَا تَزْعُمُونَ مَحْذُوفَانِ، أَحَدُهُمَا الْعَائِدُ عَلَى الْمَوْصُولِ، وَالتَّقْدِيرُ:
تَزْعُمُونَهُمْ شُرَكَاءَ. وَلَمَّا كَانَ هَذَا السُّؤَالُ مُسْكِتًا لَهُمْ، إِذْ تلك الشركاء التي عمدوها مَفْقُودُونَ، هُمْ أُوجِدُوا هُمْ فِي الْآخِرَةِ حَادُوا عَنِ الْجَوَابِ إِلَى كَلَامٍ لَا يُجْدِي.
قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ: أَيِ الشَّيَاطِينُ، وأئمة الكفر ورؤوسه وحق: أَيْ وَجَبَ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ، أَيْ مُقْتَضَاهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ
«١» . وهؤُلاءِ: مبتدأ، والَّذِينَ أَغْوَيْنا: هم صفة، وأَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا: الخبر، وكَما غَوَيْنا: صِفَةٌ لِمُطَاوِعِ أَغْوَيْنَاهُمْ، أَيْ فَغَوَوْا كَمَا غَوَيْنَا، أَيْ تَسَبَّبْنَا لَهُمْ فِي الْغَيِّ فَقَبِلُوا مِنَّا. وَهَذَا الْإِعْرَابُ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَلَا يَجُوزُ هَذَا الْوَجْهُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْخَبَرِ زِيَادَةٌ عَلَى مَا فِي صِفَةِ الْمُبْتَدَإِ. قَالَ: فَإِنْ قُلْتَ: قَدْ وُصِلَتْ بِقَوْلِهِ: كَما غَوَيْنا، وَفِيهِ زِيَادَةٌ. قِيلَ: الزِّيَادَةُ بِالظَّرْفِ لَا تُصَيِّرُهُ أَصْلًا فِي الْجُمْلَةِ، لِأَنَّ الظُّرُوفَ صِلَاتٌ، وَقَالَ هُوَ: الَّذِينَ أَغْوَيْنا هو الخبر، وأَغْوَيْناهُمْ: مُسْتَأْنَفٌ. وَقَالَ غَيْرُ أَبِي عَلِيٍّ: لَا يَمْتَنِعُ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ، لِأَنَّ الْفَضَلَاتِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ تَلْزَمُ، كَقَوْلِكَ:
زَيْدٌ عَمْرٌو قَائِمٌ فِي دَارِهِ. انْتَهَى. وَالْمَعْنَى: هَؤُلَاءِ أَتْبَاعُنَا آثَرُوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ، كَمَا آثَرْنَاهُ نَحْنُ، وَنَحْنُ كُنَّا السَّبَبَ فِي كُفْرِهِمْ، فَقَبِلُوا مِنَّا. وَقَرَأَ أَبَانٌ، عَنْ عَاصِمٍ وَبَعْضُ الشَّامِيِّينَ: كَمَا غَوِينَا، بِكَسْرِ الْوَاوِ. قَالَ ابْنُ خَالَوَيْهِ: وَلَيْسَ ذَلِكَ مُخْتَارًا، لِأَنَّ كَلَامَ الْعَرَبِ:
غَوَيْتُ مِنَ الضَّلَالَةِ، وَغَوِيتَ مِنَ الْبَشَمِ. ثُمَّ قَالُوا: تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ، مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْبُدُونَنَا، إنما عبدوا غيرنا، وإِيَّانا: مَفْعُولُ يَعْبُدُونَ، لَمَّا تَقَدَّمَ الفصل، وانفصاله لكون
318
يَعْبُدُونَ فَاصِلَةً، وَلَوِ اتَّصَلَ، ثُمَّ لَمْ يَكُنْ فَاصِلَةً. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِنَّمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَيُطِيعُونَ شَهَوَاتِهِمْ وَإِخْلَاءُ الْجُمْلَتَيْنِ مِنَ الْعَاطِفِ، لكونهما مقرونين لِمَعْنَى الْجُمْلَةِ الْأُولَى. انْتَهَى.
وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ: لَمَّا سُئِلُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمْ وَأَجَابُوا بِغَيْرِ جَوَابٍ، سُئِلُوا ثَانِيًا فَقِيلَ: ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ، وَأَضَافَ الشُّرَكَاءَ إِلَيْهِمْ، أَيِ الَّذِينَ جَعَلْتُمُوهُمْ شُرَكَاءَ لِلَّهِ. وَقَوْلُهُ:
ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ، عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ بِهِمْ، لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي دُعَائِهِمْ، فَدَعَوْهُمْ، هَذَا لِسَخَافَةِ عُقُولِهِمْ فِي ذَلِكَ الْمَوْطِنِ أَيْضًا، إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ مَنْ كَانَ مَوْجُودًا مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ الْمَوْطِنِ لَا يُجِيبُهُمْ، وَالضَّمِيرُ فِي وَرَأَوُا. قَالَ الضَّحَّاكُ وَمُقَاتِلٌ:
هُوَ لِلتَّابِعِ وَالْمَتْبُوعِ، وَجَوَابُ لَوْ مَحْذُوفٌ، وَالظَّاهِرُ أَنْ يُقَدَّرَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ مِمَّا يَلِيهِ، أَيْ لَوْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ فِي الدُّنْيَا، مَا رَأَوُا الْعَذَابَ فِي الْآخِرَةِ. وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ: لَوْ كَانُوا مُهْتَدِينَ بِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الْحِيَلِ، لَدَفَعُوا بِهِ الْعَذَابَ. وَقِيلَ: لَعَلِمُوا أَنَّ الْعَذَابَ حَقٌّ. وَقِيلَ: لَتَحَيَّرُوا عِنْدَ رُؤْيَتِهِ مِنْ فَظَاعَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يُعَذَّبُوا بِهِ، وَقِيلَ: مَا كَانُوا فِي الدُّنْيَا عَابِدِينَ الْأَصْنَامَ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: وَعِنْدِي أَنَّ الْجَوَابَ غَيْرُ مَحْذُوفٍ، وَفِي تَقْرِيرِهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّهَ إِذَا خَاطَبَهُمْ بِقَوْلِهِ: ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ، اشْتَدَّ خَوْفُهُمْ وَلَحِقَهُمْ شَيْءٌ بِحَيْثُ لَا يُبْصِرُونَ شَيْئًا، لَاَ جَرَمَ مَا رَأَوُا الْعَذَابَ. وَثَانِيهَا: لَمَّا ذَكَرَ الشُّرَكَاءَ، وَهِيَ الْأَصْنَامُ، وَأَنَّهُمْ لَا يُجِيبُونَ الَّذِينَ دَعَوْهُمْ، قَالَ فِي حَقِّهِمْ: وَرَأَوُا الْعَذابَ، لَوْ كَانُوا مِنَ الْأَحْيَاءِ الْمُهْتَدِينَ، وَلَكِنَّهَا لَيْسَتْ كَذَلِكَ، وَلَا جَرَمَ مَا رَأَتِ الْعَذَابَ. وَالضَّمِيرُ فِي رَأَوُا، وَإِنْ كَانَ لِلْعُقَلَاءِ، فَقَدْ قَالَ: وَدَعَوْهُمْ وَهُمْ لِلْعُقَلَاءِ. انْتَهَى، وَفِيهِ بَعْضُ تَلْخِيصٍ. وَقَدْ أَثْنَى عَلَى هَذَا الَّذِي اخْتَارَهُ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّهُ بَنَاهُ عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ فِي رَأَوُا عَائِدٌ عَلَى الْمَدْعُوِّينَ، قَالَ: وَهُمُ الْأَصْنَامُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ عَائِدٌ عَلَى الدَّاعِينَ، كَقَوْلِهِ: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ
«١» ، وَلِأَنَّ حَمْلَ مُهْتَدِينَ عَلَى الْأَحْيَاءِ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ، لِأَنَّ مَا قَدَّرَهُ هُوَ جَوَابٌ، وَلَا يُشْعَرُ بِهِ أَنَّهُ جَوَابٌ، إِذْ صَارَ التَّقْدِيرُ عِنْدَهُ: لَوْ كَانُوا مِنَ الْأَحْيَاءِ رَأَوُا الْعَذَابَ، لَكِنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ الْأَحْيَاءِ، فَلَا تَرَى الْعَذَابَ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: فَلَا جَرَمَ مَا رَأَتِ الْعَذَابَ؟
وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ: هَذَا النِّدَاءُ أَيْضًا قَدْ يَكُونُ بِوَاسِطَةٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، أَوْ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ.
حَكَى أَوَّلًا مَا يُوَبِّخُهُمْ مِنَ اتِّخَاذِهِمْ لَهُ شُرَكَاءَ، ثُمَّ مَا يقوله رؤوس الْكُفْرِ عِنْدَ تَوْبِيخِهِمْ، ثُمَّ اسْتِعَانَتِهِمْ بِشُرَكَائِهِمْ وَخِذْلَانِهِمْ لَهُمْ وَعَجْزِهِمْ عَنْ نُصْرَتِهِمْ، ثُمَّ مَا يُبَكَّتُونَ بِهِ مِنْ الاحتجاج
319
عَلَيْهِمْ بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ وَإِزَالَةِ الْعِلَلِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَعَمِيَتْ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ، وَجَنَاحُ بْنُ حُبَيْشٍ، وَأَبُو زُرْعَةَ بْنُ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ: بِضَمِّ الْعَيْنِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ، وَالْمَعْنَى: أَظَلَمَتْ عَلَيْهِمُ الْأُمُورُ، فَلَمْ يَسْتَطِيعُوا أَنْ يُخْبِرُوا بِمَا فِيهِ نَجَاةٌ لَهُمْ، وَأَتَى بِلَفْظِ الْمَاضِي لِتَحَقُّقِ وُقُوعِهِ. فَهُمْ لَا يَتَساءَلُونَ، وَقَرَأَ طَلْحَةُ: يَسَّاءَلُونَ، بِإِدْغَامِ التَّاءِ فِي السِّينِ: أَيْ لَا يَسْأَلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِيمَا يتحاجون به، إذا أَيْقَنُوا أَنَّهُ لَا حُجَّةَ لَهُمْ، فَهُمْ فِي عَمًى وَعَجْزٍ عَنِ الْجَوَابِ. وَالْمُرَادُ بِالنَّبَأِ: الْخَبَرُ عَمَّا أَجَابَ بِهِ الْمُرْسَلُ إِلَيْهِ رَسُولَهُ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَحْوَالَ الْكُفَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَا يَكُونُ مِنْهُمْ فِيهِ، أَخْبَرَ بِأَنَّ مَنْ تَابَ مِنَ الشِّرْكِ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا، فَإِنَّهُ مَرْجُوٌّ لَهُ الْفَلَاحُ وَالْفَوْزُ فِي الْآخِرَةِ، وَهَذَا تَرْغِيبٌ لِلْكَافِرِ فِي الْإِسْلَامِ، وَضَمَانٌ لَهُ لِلْفَلَاحِ. وَيُقَالُ: إِنَّ عَسَى مِنَ اللَّهِ وَاجِبَةٌ.
وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ وَيَخْتارُ: نَزَلَتْ بِسَبَبِ مَا تَكَلَّمَتْ بِهِ قُرَيْشٌ مِنَ اسْتِغْرَابِ أَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَوْلِ بَعْضِهِمْ: لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ
«١» ، وَقَائِلُ ذَلِكَ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هَذَا مُتَّصِلٌ بِذِكْرِ الشُّرَكَاءِ الَّذِينَ دَعَوْهُمْ وَاخْتَارُوهُمْ لِلشَّفَاعَةِ، أَيْ الِاخْتِيَارُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي الشُّفَعَاءِ، لَا إِلَى الْمُشْرِكِينَ. وَقِيلَ: هُوَ جَوَابٌ لِلْيَهُودِ، إِذْ قَالُوا: لَوْ كَانَ الرَّسُولُ إِلَى مُحَمَّدٍ غَيْرَ جِبْرِيلَ، لَآمَنَّا بِهِ، وَنَصَّ الزَّجَّاجُ، وَعَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَانَ، وَالنَّحَّاسُ: عَلَى أَنَّ الْوَقْفَ عَلَى قَوْلِهِ: وَيَخْتارُ تَامٌّ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا نَافِيَةٌ، أَيْ لَيْسَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ، إِنَّمَا هِيَ لِلَّهِ تَعَالَى، كَقَوْلِهِ: مَا كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ.
وَذَهَبَ الطَّبَرِيُّ إِلَى أَنَّ مَا موصولة منصوبة بيختار، أَيْ وَيَخْتَارُ مِنَ الرُّسُلِ وَالشَّرَائِعِ مَا كَانَ خِيَرَةً لِلنَّاسِ، كَمَا لَا يَخْتَارُونَ هُمْ مَا لَيْسَ إِلَيْهِمْ، وَيَفْعَلُونَ مَا لَمْ يُؤْمَرُوا بِهِ. وَأُنْكِرُ أَنْ تَكُونَ مَا نَافِيَةً، لِئَلَّا يَكُونُ الْمَعْنَى: إِنَّهُ لَمْ تَكُنْ لَهُمُ الْخِيرَةُ فِيمَا مَضَى، وَهِيَ لَهُمْ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ كَلَامٌ يَنْفِي. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَعْنَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الطَّبَرِيُّ، وَقَدْ رُدَّ هَذَا الْقَوْلُ تَقَدُّمُ الْعَائِدِ عَلَى الْمَوْصُولِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ التَّقْدِيرَ: مَا كَانَ لَهُمْ فِيهِ الْخِيَرَةُ، وَحُذِفَ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَمَا حُذِفَ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ
«٢» ، يَعْنِي: أَنَّ التَّقْدِيرَ أَنَّ ذَلِكَ فِيهِ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ. وَأَنْشَدَ الْقَاسِمُ ابْنُ مَعْنٍ بَيْتَ عَنْتَرَةَ:
أَمِنْ سُمَيَّةَ دَمْعُ الْعَيْنِ تَذْرِيفُ لَوْ كَانَ ذَا مِنْكَ قَبْلَ الْيَوْمِ مَعْرُوفُ
وَقَرَنَ الْآيَةَ بِهَذَا الْبَيْتِ. وَالرِّوَايَةُ فِي الْبَيْتِ: لَوْ أَنَّ ذَا، وَلَكِنْ عَلَى مَا رَوَاهُ الْقَاسِمُ يَتَّجِهُ فِي
320
بَيْتِ عَنْتَرَةَ أَنْ يَكُونَ فِي كَانَ ضَمِيرُ الشَّأْنِ. فَأَمَّا فِي الْآيَةِ، فَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: تَفْسِيرُ الْأَمْرِ وَالشَّأْنِ لَا يَكُونُ بِجُمْلَةٍ فِيهَا مَحْذُوفٌ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَتَّجِهُ عِنْدِي أَنْ تَكُونَ مَا مَفْعُولَةً، إِذَا قَدَّرْنَا كَانَ تَامَّةً، أَيْ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَخْتَارُ كُلَّ كَائِنٍ، وَلَا يَكُونُ شَيْءٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ. وَقَوْلُهُ: لَهُمُ الْخِيَرَةُ: جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ مَعْنَاهَا: تَعْدِيدُ النِّعْمَةِ عَلَيْهِمْ فِي اخْتِيَارِ اللَّهِ لَهُمْ، لَوْ قَبِلُوا وَفَهِمُوا.
انْتَهَى. يَعْنِي: وَاللَّهُ أَعْلَمُ خِيرَةُ اللَّهِ لَهُمْ، أَيْ لِمَصْلَحَتِهِمْ. وَالْخِيرَةُ مِنَ التَّخَيُّرِ، كَالطِّيَرَةِ مِنَ التَّطَيُّرِ، يُسْتَعْمَلَانِ بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ وَالْجُمَلُ الَّتِي بَعْدَ هَذَا تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا. وَالْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ قَوْلُهُمْ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ
«١» ، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ
«٢» ، الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ
«٣» ، وَالتَّحْمِيدُ هُنَالِكَ عَلَى سَبِيلِ اللَّذَّةِ، لَا التَّكْلِيفِ.
وَفِي الْحَدِيثِ:
«يُلْهَمُونَ التَّسْبِيحَ وَالتَّقْدِيسَ» .
وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ: مَا تَكُنُّ، بِفَتْحِ التَّاءِ وَضَمِّ الْكَافِ.
وَلَهُ الْحُكْمُ: أَيِ الْقَضَاءُ بين عباده والفصل. وأَ رَأَيْتُمْ: بِمَعْنَى أَخْبِرُونِي، وَقَدْ يُسَلَّطُ على الليل أَرَأَيْتُمْ وجَعَلَ، إِذْ كُلٌّ مِنْهُمَا يَقْتَضِيهِ، فَأُعْمِلَ الثَّانِي. وَجُمْلَةُ أَرَأَيْتُمْ الثَّانِيَةُ هِيَ جُمْلَةُ الِاسْتِفْهَامِ، وَالْعَائِدُ عَلَى اللَّيْلِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ بَعْدَهُ، وَلَا يَلْزَمُ فِي بَابِ التَّنَازُعِ أَنْ يَسْتَوِيَ الْمُتَنَازِعَانِ فِي جِهَةِ التَّعَدِّي مُطْلَقًا، بَلْ قَدْ يَخْتَلِفُ الطَّلَبُ، فَيَطْلُبُهُ هَذَا عَلَى جِهَةِ الْفَاعِلِيَّةِ، وَهَذَا عَلَى جِهَةِ الْمَفْعُولِيَّةِ، وَهَذَا عَلَى جِهَةِ الْمَفْعُولِ، وَهَذَا عَلَى جِهَةِ الظَّرْفِ. وَكَذَلِكَ أَرَأَيْتُمْ ثَانِي مَفْعُولَيْهِ جُمْلَةٌ اسْتِفْهَامِيَّةٌ غَالِبًا، وَثَانِي جَعَلَ إِنْ كَانَتْ بِمَعْنَى صَيَّرَ لَا يَكُونُ اسْتِفْهَامًا، وَإِنْ كَانَتْ بِمَعْنَى خَلَقَ وَأَوْجَدَ وَانْتَصَبَ مَا بَعْدَ مَفْعُولِهَا، كَانَ ذَلِكَ المنتصب حالا. وسَرْمَداً، قِيلَ: مِنَ السَّرْمَدِ، فَمِيمُهُ زَائِدَةٌ، وَوَزْنُهُ فَعْمَلُ، وَلَا يُزَادُ وَسَطًا وَلَا آخِرًا بِقِيَاسٍ، وَإِنَّمَا هِيَ أَلْفَاظٌ تُحْفَظُ مَذْكُورَةٌ فِي عِلْمِ التَّصْرِيفِ. وَأَتَى بِضِياءٍ، وَهُوَ نور الشمس، ولم يجيء التَّرْكِيبُ بِنَهَارٍ يَتَصَرَّفُونَ فِيهِ، كَمَا جَاءَ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ، لِأَنَّ مَنَافِعَ الضِّيَاءِ مُتَكَاثِرَةٌ، لَيْسَ التَّصَرُّفُ فِي الْمَعَاشِ وَحْدَهُ، وَالظَّلَامُ لَيْسَ بِتِلْكَ الْمَنْزِلَةِ، وَمِنْ ثَمَّ قُرِنَ بِالضِّيَاءِ. أَفَلا تَسْمَعُونَ؟ لِأَنَّ السَّمْعَ يُدْرِكُ مَا يُدْرِكُهُ الْبَصَرُ مِنْ ذِكْرِ مَنَافِعِهِ وَوَصْفِ فَوَائِدِهِ، وَقُرِنَ بِاللَّيْلِ. أَفَلا تُبْصِرُونَ؟ لِأَنَّ غَيْرَكَ يُبْصِرُ مِنْ مَنْفَعَةِ الظَّلَامِ مَا تُبْصِرُهُ أَنْتَ مِنَ السُّكُونِ وَنَحْوِهِ، قَالَ الزمخشري. ومِنْ رَحْمَتِهِ، مِنْ هُنَا لِلسَّبَبِ، أَيْ وَبِسَبَبِ رَحْمَتِهِ إِيَّاكُمْ، جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ، ثم علل
321
جعل كل واحد منهما، فَبَدَأَ بِعِلَّةِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ اللَّيْلُ، وَهُوَ: لِتَسْكُنُوا فِيهِ، ثُمَّ بِعِلَّةِ الثَّانِي وَهُوَ: وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ، ثُمَّ بِمَا يُشْبِهُ الْعِلَّةَ لِجَعْلِ هَذَيْنِ الشَّيْئَيْنِ وَهُوَ: لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ، أَيْ هَذِهِ الرَّحْمَةَ وَالنِّعْمَةَ. وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ عِلْمِ الْبَدِيعِ يُسَمَّى التَّفْسِيرَ، وَهُوَ أَنْ تَذْكُرَ أَشْيَاءَ ثُمَّ تُفَسِّرَهَا بِمَا يُنَاسِبُهَا، وَمِنْهُ قَوْلُ ابْنِ جُيُوشٍ:
وَمُقَرْطَقٌ يُغْنِي النَّدِيمَ بِوَجْهِهِ عَنْ كَأْسِهِ الْمَلْأَى وَعَنْ إِبْرِيقِهِ فِعْلُ الْمُدَامِ وَلَوْنُهَا وَمَذَاقُهَا فِي مُقْلَتَيْهِ وَوَجْنَتَيْهِ وَرِيقِهِ
وَالضَّمِيرُ فِي فِيهِ عَائِدٌ عَلَى اللَّيْلِ، وَفِي فَضْلِهِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا عَلَى اللَّهِ، وَالتَّقْدِيرُ: مِنْ فَضْلِهِ، أَيْ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ فِيهِ، أَيْ فِي النَّهَارِ وَحُذِفَ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى، وَلِدَلَالَةِ لَفْظِ فِيهِ السَّابِقِ عَلَيْهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ عَلَى النَّهَارِ، أَيْ مِنْ فَضْلِ النَّهَارِ، وَيَكُونُ أَضَافَهُ إِلَى ضَمِير النَّهَارِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ. لَمَّا كَانَ الْفَضْلُ حَاصِلًا فِيهِ، أُضِيفَ إِلَيْهِ، كَقَوْلِهِ: بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ
«١» .
وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ، وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ، إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ، وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ، قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ، فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ، وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلَّا الصَّابِرُونَ، فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ، وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ.
تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ: وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ: وَكُرِّرَ هُنَا عَلَى جِهَةِ الْإِبْلَاغِ وَالتَّأْكِيدِ.
وَنَزَعْنا: أَيْ مَيَّزْنَا وَأَخْرَجْنَا بِسُرْعَةٍ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ. شَهِيداً: وَهُوَ نبي تلك
322
الْأُمَّةِ، لِأَنَّهُ هُوَ الشَّهِيدُ عَلَيْهَا، كَمَا قَالَ: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ، وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا؟ وَقِيلَ: عَدُولًا وَخِيَارًا. وَالشَّهِيدُ عَلَى هَذَا اسْمُ الْجِنْسِ، وَالشَّهِيدُ يَشْهَدُ عَلَى تِلْكَ الْأُمَّةِ بِمَا صَدَرَ مِنْهَا، وَمَا أَجَابَتْ بِهِ لَمَّا دُعِيَتْ إِلَى التَّوْحِيدِ، وَأَنَّهُ قَدْ بَلَّغَهُمْ رِسَالَةَ رَبِّهِمْ. فَقُلْنا: أَيْ لِلْمَلَأِ، هاتُوا بُرْهانَكُمْ: أَيْ حُجَّتَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْكُفْرِ وَمُخَالَفَةِ هَذَا الشَّهِيدِ، فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ، لَا لِأَصْنَامِهِمْ وَمَا عَبَدُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ.
وَضَلَّ عَنْهُمْ: أَيْ وَغَابَ عَنْهُمْ غَيْبَةَ الشَّيْءِ الضَّائِعِ، مَا كانُوا يَفْتَرُونَ مِنْ الْكَذِبِ وَالْبَاطِلِ.
وَقَارُونُ أَعْجَمِيٌّ: مُنِعَ الصَّرْفَ لِلْعُجْمَةِ وَالْعَلَمِيَّةِ. وَقِيلَ: وَمَعْنَى كَانَ مِنْ قَوْمِهِ: أَيْ مِمَّنْ آمَنَ بِهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهُوَ إِسْرَائِيلِيٌّ بِإِجْمَاعٍ. انْتَهَى. وَاخْتُلِفَ فِي قَرَابَتِهِ مِنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، اخْتِلَافًا مُضْطَرِبًا مُتَكَاذِبًا، وَأَوْلَاهَا: مَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّهُ ابْنُ عمه، وهو قارون ابن يَصْهُرَ بْنِ قَاهِثَ، جَدِّ مُوسَى، لِأَنَّ النَّسَّابِينَ ذَكَرُوا نَسَبَهُ كَذَلِكَ، وَكَانَ يُسَمَّى الْمُنَوَّرَ لِحُسْنِ صُورَتِهِ، وَكَانَ أَحْفَظَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِلتَّوْرَاةِ وَأَقْرَأَهُمْ، فَنَافَقَ كَمَا نَافَقَ السَّامِرِيُّ.
فَبَغى عَلَيْهِمْ: ذَكَرُوا مِنْ أَنْوَاعِ بَغْيِهِ الْكُفْرَ وَالْكِبْرَ، وَحَسَدَهُ لِمُوسَى عَلَى النُّبُوَّةِ، وَلِهَارُونَ عَلَى الذَّبْحِ وَالْقُرْبَانِ، وَظُلْمَهُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ حِينَ مَلَّكَهُ فِرْعَوْنُ عَلَيْهِمْ، وَدَسَّهُ بَغِيًّا تَكْذِبُ عَلَى مُوسَى أَنَّهُ تَعَرَّضَ لَهَا، وَتَفْضَحُهُ بِذَلِكَ فِي مَلَأٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَمَنِ تَكَبُّرِهِ أَنْ زَادَ فِي ثِيَابِهِ شِبْرًا. وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ، قِيلَ: أَظْفَرَهُ اللَّهُ بِكَنْزٍ مِنْ كُنُوزِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَقِيلَ: سُمِّيَتْ أَمْوَالُهُ كُنُوزًا، إِذْ كَانَ مُمْتَنِعًا مِنْ أَدَاءِ الزَّكَاةِ، وَبِسَبَبِ ذَلِكَ عَادَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوَّلَ عَدَاوَتِهِ. وما مَوْصُولَةٌ، صِلَتُهَا إِنَّ وَمَعْمُولَاهَا. وَقَالَ النَّحَاسُ: سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ سُلَيْمَانَ، يَعْنِي الْأَخْفَشَ الصَّغِيرَ، يَقُولُ: مَا أَقْبَحَ مَا يَقُولُهُ الْكُوفِيُّونَ فِي الصِّلَاتِ، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ صِلَةُ الَّذِي أَنَّ وَمَا عَمِلَتْ فِيهِ، وَفِي الْقُرْآنِ: مَا إِنَّ مَفاتِحَهُ. انْتَهَى.
وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي مَفَاتِحَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَقَالُوا هُنَا: مَقَالِيدُ خَزَائِنِهِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: هِيَ الْخَزَائِنُ نَفْسُهَا. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: ظُرُوفُهُ وَأَوْعِيَتُهُ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: مَفَاتِيحَهُ، بِيَاءٍ، جَمْعُ مِفْتَاحٍ، وَذَكَرُوا مِنْ كَثْرَةِ مَفَاتِحِهِ مَا هُوَ كَذِبٌ، أَوْ يُقَارِبُ الْكَذِبَ، فَلَمْ أَكْتُبْهُ. قَالَ أَبُو زَيْدٍ:
نُؤْتُ بِالْعَمَلِ إِذَا نَهَضْتَ بِهِ. قَالَ الشَّاعِرُ:
إِذَا وَجَدْنَا خَلْفًا بِئْسَ الْخَلَفْ عَبْدًا إِذَا مَا نَاءَ بِالْحِمْلِ وَقَفْ
وَيَقُولُ: نَاءَ يَنُوءُ، إِذَا نَهَضَ بِثِقَلٍ. قَالَ الشاعر:
تنوء بأحراها فلأيا قيامها وتمشي الهوينا عَنْ قَرِيبٍ فَتَبْهَرُ
323
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هُوَ مَقْلُوبٌ وَأَصْلُهُ: لَتَنُوءُ بِهَا الْعُصْبَةُ، أَيْ تَنْهَضُ، وَالْقَلْبُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا بَابُهُ الشِّعْرُ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْبَاءَ لِلتَّعْدِيَةِ، أَيْ لَتُنِيءُ الْعُصْبَةَ، كَمَا تَقُولُ: ذَهَبْتُ بِهِ وَأَذْهَبْتُهُ، وَجِئْتُ بِهِ وَأَجَأْتُهُ. وَنُقِلَ هَذَا عَنِ الْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ وَالْفَرَّاءِ، وَاخْتَارَهُ النَّحَّاسُ، وَرُوِيَ مَعْنَاهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي صَالِحٍ وَالسُّدِّيِّ، وَتَقُولُ الْعَرَبُ: نَاءَ الْحِمْلُ بِالْبَعِيرِ إِذَا أَثْقَلَهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُسْنَدَ تَنُوءُ إِلَى الْمَفَاتِحِ، لِأَنَّهَا تَنْهَضُ بِتَحَامُلٍ إِذَا فَعَلَ ذَلِكَ الَّذِي يَنْهَضُ بِهَا، وَذَا مُطَّرِدٌ فِي نَاءَ الْحِمْلُ بِالْبَعِيرِ وَنَحْوِهِ، فَتَأَمَّلْهُ. وَقَرَأَ بُدَيْلُ بْنُ مَيْسَرَةَ: لَيَنُوءُ، بِالْيَاءِ، وَتَذْكِيرِهِ رَاعَى الْمُضَافَ الْمَحْذُوفَ، التَّقْدِيرُ: مَا إِنَّ حَمْلَ مَفَاتِحِهِ، أَوْ مِقْدَارِهَا، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَوَجْهُهُ أَنْ يُفَسَّرَ الْمَفَاتِحُ بِالْخَزَائِنِ، وَيُعْطِيَهَا حُكْمَ مَا أُضِيفَ إِلَيْهِ لِلْمُلَابَسَةِ وَالْإِيصَالِ، كَقَوْلِهِ: ذَهَبَتْ أَهْلُ الْيَمَامَةِ. انْتَهَى. يَعْنِي: أَنَّهُ اكْتَسَبَ الْمَفَاتِحُ التَّذْكِيرَ مِنَ الضَّمِيرِ الَّذِي لِقَارُونَ، كَمَا اكْتَسَبَ أَهْلٌ التَّأْنِيثَ مِنْ إِضَافَتِهِ إِلَى الْيَمَامَةِ، فَقِيلَ فِيهِ، ذَهَبَتْ. وَذَكَرَ أَبُو عَمْرٍو الدَّانِيُّ إِنَّ بُدَيْلَ بْنَ مَيْسَرَةَ قَرَأَ: مَا إِنَّ مِفْتَاحَهُ، عَلَى الْإِفْرَادِ، فَلَا تَحْتَاجُ قِرَاءَتُهُ لَيَنُوءُ بِالْيَاءِ إِلَى تَأْوِيلٍ. وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْعُصْبَةِ فِي سُورَةِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَتَقَدَّمَ قَبْلَ تَفْسِيرِ الْمَفَاتِحِ، أَهِيَ الْمَقَالِيدُ، أَوِ الْخَزَائِنُ نَفْسُهَا، أَوِ الظُّرُوفُ وَالْأَوْعِيَةُ؟ وَعَنِ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ: أَنَّ الْمَفَاتِحَ هِيَ الْأَمْوَالُ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَتْ خَزَائِنُهُ تَحْمِلُهَا أَرْبَعُونَ أَقْوِيَاءُ، وَكَانَتْ أَرْبَعَمِائَةِ أَلْفٍ، يَحْمِلُ كُلُّ رَجُلٍ عَشَرَةَ آلَافٍ. وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: الْمُرَادُ مِنَ الْمَفَاتِحِ: الْعِلْمُ وَالْإِحَاطَةُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ
«١» ، وَالْمُرَادُ: وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ، مَا إِنَّ حِفْظَهَا وَالِاطِّلَاعَ عَلَيْهَا لَيَثْقُلُ عَلَى الْعُصْبَةِ، أَيْ هَذِهِ الْكُنُوزُ لِكَثْرَتِهَا وَاخْتِلَافِ أَصْنَافِهَا، يُتْعِبُ حِفْظُهَا الْقَائِمِينَ عَلَى حِفْظِهَا. إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ: نَهَوْهُ عَنِ الْفَرَحِ الْمُطْغِي الَّذِي هُوَ انْهِمَاكٌ وَانْحِلَالُ نَفْسٍ وَأَشَرٌ وَإِعْجَابٌ، وَإِنَّمَا يَفْرَحُ بِإِقْبَالِ الدُّنْيَا عَلَيْهِ مَنِ اطْمَأَنَّ إِلَيْهَا وَغَفَلَ عَنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ، وَمَنْ جَعَلَ أَنَّهُ مُفَارِقُ زَهْرَةِ الدُّنْيَا عَنْ قَرِيبٍ، فَلَا يَفْرَحُ بِهَا. وَقَالَ أَبُو الطَّيِّبِ:
أَشَدُّ الْغَمِّ عِنْدِي فِي سُرُورٍ تَيَقَّنَ عَنْهُ صَاحِبُهُ انْتِقَالًا
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَحَلٌّ إِذْ منصوب بتنوء. انْتَهَى، وَهَذَا ضَعِيفٌ جِدًّا، لِأَنَّ إِثْقَالَ الْمَفَاتِحِ الْعُصْبَةَ لَيْسَ مُقَيَّدًا بِوَقْتِ قَوْلِ قَوْمِهِ لَهُ: لَا تَفْرَحْ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: فَبَغى عَلَيْهِمْ، وَهُوَ ضَعِيفٌ أَيْضًا، لِأَنَّ بَغْيَهُ عَلَيْهِمْ لَمْ يَكُنْ مُقَيَّدًا بذلك الوقت.
324
وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: النَّاصِبُ لَهُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ اذْكُرْ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: إِذْ قالَ لَهُ ظرف لآتيناه، وَهُوَ ضَعِيفٌ أَيْضًا، لِأَنَّ الْإِيتَاءَ لَمْ يَكُنْ وَقْتَ ذَلِكَ الْقَوْلِ. وَقَالَ أَيْضًا: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ، أَيْ بَغَى عَلَيْهِمْ، إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ. انْتَهَى.
وَيَظْهَرُ أَنْ يَكُونَ تَقْدِيرُهُ: فَأَظْهَرَ التَّفَاخُرَ وَالْفَرَحَ بِمَا أُوتِيَ مِنَ الْكُنُوزِ، إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ. وَقَالَ تَعَالَى: وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ
«١» ، وَالْعَرَبُ تَمْدَحُ بِتَرْكِ الْفَرَحِ عِنْدَ إِقْبَالِ الْخَيْرِ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
وَلَسْتُ بِمِفْرَاحٍ إِذَا الدَّهْرُ سَرَّنِي وَلَا جَازِعٍ مِنْ صَرْفِهِ الْمُتَحَوِّلِ
وَقَالَ الآخر: إن تلاق منفسا لا تلقنا فرح الخير ولا نكبوا الضر
وقرىء: الْفَارِحِينَ، حَكَاهُ عِيسَى بْنُ سُلَيْمَانَ الْحِجَازِيُّ. ولا يُحِبُّ: صِفَةُ فِعْلٍ، لَا صِفَةُ ذَاتٍ، بِمَعْنَى الْإِرَادَةِ، لِأَنَّ الْفَرَحَ أَمْرٌ قَدْ وَقَعَ، فَالْمَعْنَى: لَا يُظْهِرُ عَلَيْهِمْ بَرَكَتَهُ، وَلَا يَعُمُّهُمْ رَحْمَتُهُ. وَلَمَّا نَهَوْهُ عَنِ الْفَرَحِ الْمُطْغِي، أَمَرُوهُ بِأَنْ يَطْلُبَ، فِيمَا آتَاهُ اللَّهُ مِنَ الْكُنُوزِ وَسَعَةِ الرِّزْقِ، ثَوَابَ الدَّارِ الْآخِرَةِ، بِأَنْ يَفْعَلَ فِيهِ أَفْعَالَ الْبِرِّ، وَتَجْعَلَهُ زَادَكَ إِلَى الْآخِرَةَ.
وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْجُمْهُورُ: مَعْنَاهُ: وَلَا تُضَيِّعْ عُمُرَكَ فِي أَنْ لَا تَعْمَلَ صَالِحًا فِي دُنْيَاكَ، إِذِ الْآخِرَةُ إِنَّمَا يُعْمَلُ لَهَا فِي الدُّنْيَا، فَنَصِيبُ الْإِنْسَانِ عُمُرُهُ وَعَمَلُهُ الصَّالِحُ فِيهَا، وَهَذَا التَّأْوِيلُ فِيهِ عِظَةٌ. وَقَالَ الْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ: مَعْنَاهُ: لَا تُضَيِّعْ حَظَّكَ مِنَ الدُّنْيَا فِي تَمَتُّعِكَ بالحلال وطلبك إِيَّاهُ وَنَظَرِكَ لِعَاقِبَةِ دُنْيَاكَ، وَفِي هَذَا التَّأْوِيلِ بَعْضُ رِفْقٍ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: مَعْنَاهُ: قَدِّمِ الْفَضْلَ وَأَمْسِكْ مَا تَبْلُغُ بِهِ. وَقَالَ مَالِكٌ: هُوَ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ بِلَا سَرَفٍ. وَقِيلَ: أَرَادُوا بِنَصِيبِهِ الْكَفَنَ، وَهَذَا وَعْظٌ مُتَّصِلٌ، كَأَنَّهُمْ قَالُوا: تَتْرُكُ جَمِيعَ مَالِكَ، لَا يَكُونُ نَصِيبُكَ مِنْهُ إِلَّا الْكَفَنَ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
نَصِيبُكَ مِمَّا تَجْمَعُ الدَّهْرَ كُلَّهُ رِدَاءَانِ تَأْوِي فِيهِمَا وَحَنُوطُ
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُ مَا يَكْفِيكَ وَيُصْلِحُكَ، وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِ الْحَسَنِ:
وَأَحْسِنْ إِلَى عِبَادِ اللَّهِ، أَوْ بِشُكْرِكَ وَطَاعَتِكَ لِلَّهِ. كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ بِتِلْكَ النِّعَمِ الَّتِي خَوَّلَكَهَا، وَالْكَافُ لِلتَّشْبِيهِ، وَهُوَ يَكُونُ فِي بَعْضِ الْأَوْصَافِ، لِأَنَّ مُمَاثَلَةَ إِحْسَانِ الْعَبْدِ لِإِحْسَانِ اللَّهِ مِنْ جَمِيعِ الصِّفَاتِ يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ، فَالتَّشْبِيهُ وَقَعَ فِي مُطْلَقِ الْإِحْسَانِ، أو تكون
325
الْكَافُ لِلتَّعْلِيلِ، أَيْ أَحْسِنْ لِأَجْلِ إِحْسَانِ اللَّهِ إِلَيْكَ. وَلا تَبْغِ الْفَسادَ: أَيْ مَا أَنْتَ عَلَيْهِ مِنَ الْبَغْيِ وَالظُّلْمِ. عَلى عِلْمٍ، عِلْمٍ: مَصْدَرٌ، يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُضَافًا إِلَيْهِ وَمُضَافًا إِلَى اللَّهِ. فَقَالَ الْجُمْهُورُ: ادَّعَى أَنَّ عِنْدَهُ عِلْمًا اسْتَوْجَبَ بِهِ أَنْ يَكُونَ صَاحِبَ تِلْكَ الْكُنُوزِ.
فَقِيلَ: عِلْمُ التَّوْرَاةِ وَحِفْظُهَا، وَكَانَ أَحَدَ السَبْعِينَ الَّذِينَ اخْتَارَهُمْ مُوسَى لِلْمِيقَاتِ، وَكَانَتْ هَذِهِ مُغَالَطَةً. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدَّانِيُّ: أَيْ عِلْمُ التِّجَارَةِ وَوُجُوهِ الْمَكَاسِبِ، أَيْ أُوتِيتُهُ بِإِدْرَاكِي وَسَعْيِي. وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ: عِلْمُ الْكِيمْيَاءِ،
قَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ: وَكَانَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ يَعْلَمُ الْكِيمْيَاءَ، وَهِيَ جَعْلُ الرَّصَاصِ وَالنُّحَاسِ ذَهَبًا.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: عَلَى علم الصنعة الذَّهَبِ
، وَلَعَلَّ ذَلِكَ لَا يَصِحُّ عَنْهُ وَلَا عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ. وَأَنْكَرَ الزَّجَّاجُ عِلْمَ الْكِيمْيَاءِ وَقَالَ: بَاطِلٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ. انْتَهَى.
وَكَثِيرًا مَا تُولَعُ أَهْلُ مِصْرَ بِطَلَبِ أَشْيَاءَ مِنَ الْمُسْتَحِيلَاتِ وَالْخُرَافَاتِ مِنْ ذَلِكَ: تَغْوِيرُ الْمَاءِ، وَخِدْمَةُ الصُّوَرِ الْمُمَثَّلَةِ فِي الْجُدُرِ خُطُوطًا، وادعائهم أَنَّ تِلْكَ الْخُطُوطَ تَتَحَرَّكُ إِذَا خُدِمَتْ بِأَنْوَاعٍ مِنَ الْخَدَمِ لَهُمْ، وَالْكِيمْيَاءِ حَتَّى أَنَّ مَشَايِخَ الْعِلْمِ عِنْدَهُمْ، الَّذِينَ هُمْ عِنْدَهُمْ بِصُورَةِ الْوِلَايَةِ، يَتَطَلَّبُ ذَلِكَ مِنْ أَجْهَلِ وَارِدٍ مِنَ الْمَغَارِبَةِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ وَغَيْرُهُ: أَرَادَ:
أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ مِنَ اللَّهِ وَتَخْصِيصٍ مِنْ لَدُنْهُ قَصَدَنِي بِهِ، أَيْ فَلَا يَلْزَمُنِي فِيهِ شَيْءٌ مِمَّا قُلْتُمْ، ثُمَّ جَعَلَ قَوْلَهُ: عِنْدِي، كَمَا يَقُولُ: فِي مُعْتَقَدِي وَعَلَى مَا أَرَاهُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ:
عَلى عِلْمٍ، أَيْ عَلَى خَيْرٍ عَلِمَهُ اللَّهُ عِنْدِي. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: أَوَلَمْ يَعْلَمْ، تَقْرِيرٌ لِعِلْمِهِ ذَلِكَ، وَتَنْبِيهٌ عَلَى خَطَئِهِ فِي اغْتِرَارِهِ أَيْ قَدْ عَلِمَ أَنَّ الله قد أهلك من الْقُرُونِ قَبْلَهُ مَنْ هُوَ أَقْوَى مِنْهُ وَأَغْنَى، لِأَنَّهُ قَدْ قَرَأَهُ فِي التَّوْرَاةِ، وَأَخْبَرَ بِهِ مُوسَى، وَسَمِعَهُ فِي التَّوَارِيخِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: أو لم يَعْلَمْ فِي جُمْلَةِ مَا عِنْدَهُ مِنَ الْعِلْمِ؟ هَذَا حَتَّى لَا يَغْتَرَّ بِكَثْرَةِ مَالِهِ وَقُوَّتِهِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَعْتًا لِعِلْمِهِ بِذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ: أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي، فَتَنَفَّحَ بِالْعِلْمِ وَتَعَظَّمَ بِهِ، قِيلَ: أَعِنْدَهُ مِثْلُ ذَلِكَ الْعِلْمِ الَّذِي ادَّعَاهُ؟ وَأُرِيَ نَفْسَهُ بِهِ مُسْتَوْجِبَةً لِكُلِّ نِعْمَةٍ، وَلَمْ يَعْلَمْ هَذَا الْعِلْمَ النَّافِعَ حَتَّى يَقِيَ نَفْسَهُ مَصَارِعَ الْهَالِكِينَ. انْتَهَى. وَأَكْثَرُ جَمْعاً، إِمَّا لِلْمَالِ، أَوْ جَمَاعَةٍ يَحُوطُونَهُ وَيَخْدِمُونَهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَوَلَمْ يَعْلَمْ، يرجح أَنَّ قَارُونَ تَشَبَّعَ بِعِلْمِ نَفْسِهِ عَلَى زَعْمِهِ.
وَقَرَأَ الجمهور: وَلا يُسْئَلُ، مبنيا للمفعول والْمُجْرِمُونَ: رُفِعَ بِهِ، وَهُوَ مُتَّصِلٌ بِمَا قَبْلَهُ، قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ. وَالضَّمِيرُ فِي ذُنُوبِهِمُ عَائِدٌ عَلَى مَنْ أُهْلِكَ مِنَ الْقُرُونِ، أَيْ لَا يُسْأَلُ غَيْرُهُمْ مِمَّنْ أَجْرَمَ، وَلَا مِمَّنْ لَمْ يُجْرِمْ، عَمَّنْ أَهْلَكَهُ اللَّهُ، بَلْ: كُلُّ نَفْسٍ بِما
326
كَسَبَتْ رَهِينَةٌ
«١» . وَقِيلَ: أَهْلَكَ من أهلك من القرون، عَنْ عِلْمٍ مِنْهُ بِذُنُوبِهِمْ، فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى مَسْأَلَتِهِمْ عَنْهَا. وَقِيلَ: هُوَ مُسْتَأْنَفٌ عَنْ حَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ. قَالَ قَتَادَةُ: لَا يُسْأَلُونَ عَنْ ذُنُوبِهِمْ لِظُهُورِهَا وَكَثْرَتِهَا، لِأَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ النَّارَ بِغَيْرِ حِسَابٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ أَيْضًا، وَمُجَاهِدٌ:
لَا تَسْأَلُهُمُ الْمَلَائِكَةُ عَنْ ذُنُوبِهِمْ، لِأَنَّهُمْ يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ مِنَ السَّوَادِ وَالتَّشْوِيهِ، كَقَوْلِهِ:
يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ
«٢» . وَقِيلَ: لَا يُسْأَلُونَ سُؤَالَ توبيخ وتفريع. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ فِي رِوَايَتِهِ: وَلَا تَسْأَلْ، بِالتَّاءِ وَالْجَزْمِ، الْمُجْرِمِينَ: نُصِبَ. وَقَرَأَ ابْنُ سِيرِينَ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ:
كَذَلِكَ فِي وَلَا تَسْأَلْ عَلَى النَّهْيِ لِلْمُخَاطَبِ، وَكَانَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ إِلَّا إن يَكُونَ الْمُجْرِمِينَ بِالْيَاءِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ، بِوُقُوعِ الْفِعْلِ عَلَيْهِ. قَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: فَالظَّاهِرُ مَا قَالَهُ، وَلَمْ يَبْلُغْنِي فِي نَصْبِ الْمُجْرِمِينَ شَيْءٌ، فَإِنْ تَرَكَاهُ عَلَى رَفْعِهِ، فَلَهُ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ الْهَاءُ وَالْمِيمُ فِي عَنْ ذُنُوبِهِمُ رَاجِعَةٌ إِلَى مَا تَقَدَّمَ من الْقُرُونِ، وَارْتِفَاعُ الْمُجْرِمِينَ بِإِضْمَارِ الْمُبْتَدَأِ، وَتَقْدِيرُهُ: هُمُ الْمُجْرِمُونَ، أَوْ أُولَئِكَ الْمُجْرِمُونَ، وَمِثْلُهُ:
التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ
«٣» فِي التَّوْبَةِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ أَصْلِ الْهَاءِ وَالْمِيمِ فِي ذُنُوبِهِمْ، لِأَنَّهَا، وَإِنْ كَانَتْ فِي مَحَلِّ الْجَرِّ بِالْإِضَافَةِ إِلَيْهَا، فَإِنَّ أَصْلَهَا الرَّفْعُ، لِأَنَّ الْإِضَافَةَ إِلَيْهَا بِمَنْزِلَةِ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى اسْمِ الْفَاعِلِ فَعَلَى ذَلِكَ الْمُجْرِمُونَ مَحْمُولٌ عَلَى الْأَصْلِ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ لَنَا مِنْ أَنَّ بَعْضَهُمْ قَرَأَ: أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً
«٤» بِالْجَرِّ، عَلَى أَنَّهَا بَدَلٌ مِنْ أَصْلِ الْمَثَلِ، وما زَائِدَةٌ فِيهِ، وَتَقْدِيرُهُ: لَا يَسْتَحِي بِضَرْبِ مَثَلِ بَعُوضَةٍ، أَيْ بِضَرْبِ بَعُوضَةٍ. فِي ذَلِكَ فَسَّرَ أَنَّ مَعَ الْفَصْلِ بِالْمَصْدَرِ نَاصِبٌ إِلَى الْمَفْعُولِ بِهِ، ثُمَّ أَبْدَلَ مِنْهُ الْبَعُوضَةَ مِنْ غَيْرِ أَنْ أَعْرِفَ فِيهَا أَثَرًا لِحَالٍ. فَأَمَّا قَوْلُهُ: مِنْ ذُنُوبِهِمْ، فَذُنُوبٌ جَمْعٌ، فَإِنْ كَانَ جَمْعَ مَصْدَرٍ، فَفِي إِعْمَالِهِ خِلَافٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ لَنَا مِنْ أَنَّ بَعْضَهُمْ قَرَأَ، فَقَدْ ذَكَرَ فِي الْبَقَرَةِ أَنَّهُ سَمِعَ ذَلِكَ، وَلَا نَعْرِفُ فِيهَا أَثَرًا، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجْعَلَهَا قِرَاءَةً.
وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى قَارُونَ وَنَعَتَهُ، وَمَا آتَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ، وَفَرَحَهُ بِذَلِكَ فَرَحَ الْبَطِرِينَ، وَادِّعَاءَهُ أَنَّ مَا أُوتِيَ مِنْ ذَلِكَ إِنَّمَا أُوتِيَهُ عَلَى عِلْمٍ، ذَكَرَ ما هو ناشىء عَنِ التَّكَبُّرِ وَالسُّرُورِ بِمَا أُوتِيَ فَقَالَ: فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ، وَكَانَ يَوْمَ السَّبْتِ: أَيْ أَظْهَرَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنَ الْمَلَابِسِ وَالْمَرَاكِبِ وَزِينَةِ الدُّنْيَا. قال جابر، مجاهد: فِي ثِيَابٍ حُمْرٍ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هُوَ وَحَشَمُهُ فِي ثِيَابٍ مُعَصْفَرَةٍ. وَقِيلَ: فِي ثِيَابِ الْأُرْجُوَانِ. وَقِيلَ: عَلَى بَغْلَةٍ شَهْبَاءَ عَلَيْهَا
327
الْأُرْجُوَانُ، وَعَلَيْهَا سَرْجٌ مِنْ ذَهَبٍ، وَمَعَهُ أَرْبَعَةُ آلَافٍ عَلَى زِيِّهِ. وَقِيلَ: عَلَيْهِمْ وَعَلَى خُيُولِهِمُ الدِّيبَاجُ الْأَحْمَرُ، وَعَلَى يَمِينِهِ ثَلَاثُمِائَةِ غُلَامٍ، وَعَلَى يَسَارِهِ ثَلَاثُمِائَةِ جَارِيَةٍ بِيضٍ عَلَيْهِمُ الْحُلِيُّ وَالدِّيبَاجُ. وَقِيلَ: فِي تِسْعِينَ أَلْفًا عَلَيْهِمُ الْمُعَصْفَرَاتُ، وَهُوَ أَوَّلُ يَوْمٍ رُؤِيَ فِيهِ الْمُعَصْفَرُ. وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْكَيْفِيَّاتِ.
قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا قِيلَ: كَانُوا مُؤْمِنِينَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: تَمَنَّوْهُ لِيَتَقَرَّبُوا بِهِ إِلَى اللَّهِ. وَقِيلَ: رَغْبَةً فِي الْيَسَارَةِ والثروة. وقيل: كانوا كفارة، وَتَمَنَّوْا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قارُونُ، وَلَمْ يَذْكُرُوا زَوَالَ نِعْمَتِهِ، وَهَذَا مِنَ الْغِبْطَةِ. إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ: أَيْ دَرَجَةٍ عَظِيمَةٍ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ. وَقِيلَ: نَصِيبٍ كَثِيرٍ مِنَ الدُّنْيَا وَالْحَظُّ الْبَخْتُ وَالسَّعْدُ، يُقَالُ: فُلَانٌ ذُو حَظٍّ وَحَظِيظٌ وَمَحْظُوظٌ. وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ، مِنْهُمْ: يُوشَعُ، وَالْعِلْمُ: مَعْرِفَةُ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، أَوِ التَّوَكُّلُ، أَوِ الْإِخْبَارُ، أَقْوَالٌ. وَيْلَكُمْ: دُعَاءٌ بِالشَّرِّ. ثَوابُ اللَّهِ: وَهُوَ مَا أَعَدَّهُ فِي الْآخِرَةِ لِلْمُؤْمِنِ خَيْرٌ مِمَّا أُوتِيَ قَارُونُ. وَلا يُلَقَّاها: أَيْ هَذِهِ الْحِكْمَةُ، وَهِيَ مَعْرِفَةُ ثَوَابِ اللَّهِ، وَقِيلَ: الْجَنَّةُ وَنَعِيمُهَا. وَقِيلَ: هَذِهِ الْمَقَالَةُ، وَهِيَ قَوْلُهُمْ: ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً، وَبَّخَهُمْ بِهَا. إِلَّا الصَّابِرُونَ عَلَى الطَّاعَاتِ وَعَلَى قَمْعِ أَنْفُسِهِمْ عَنِ الشَّهَوَاتِ.
تَقَدَّمَ طَرَفٌ مِنْ خَبَرِ قَارُونَ وَحَسَدِهِ لِمُوسَى. وَمِنْ حَسَدِهِ أَنَّهُ جَعَلَ لِبَغِيٍّ جُعْلًا، عَلَى أَنْ تَرْمِيَ مُوسَى بِطَلَبِهَا وَبِزِنَائِهَا، وَأَنَّهَا تَابَتْ إِلَى اللَّهِ، وَأَقَرَّتْ أَنَّ قَارُونَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَهَا جُعْلًا عَلَى رَمْيِ مُوسَى بِذَلِكَ، فَأَمَرَ اللَّهُ الْأَرْضَ أَنْ تُطِيعَهُ، فَقَالَ: يَا أَرْضُ خُذِيهِ وَأَتْبَاعَهُ، فَخُسِفَ بِهِمْ فِي حِكَايَةٍ طَوِيلَةٍ، اللَّهُ أَعْلَمُ بِهَا. وَلَمَّا خُسِفَ بِقَارُونَ وَمَنْ مَعَهُ، فَقَالَ بَنُو إِسْرَائِيلَ: إِنَّمَا دَعَا مُوسَى عَلَى قَارُونَ لِيَسْتَبِدَّ بِدَارِهِ وَكُنُوزِهِ، فَدَعَا اللَّهَ حَتَّى خسف بداره وأمواله. ومن زَائِدَةٌ، أَيْ مِنْ جَمَاعَةٍ تُفِيدُ اسْتِغْرَاقَ الْفِئَاتِ. وَإِذَا انْتَفَتِ الْجُمْلَةُ، وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى نَصْرِهِ، فَانْتِفَاءُ الْوَاحِدِ عَنْ نُصْرَتِهِ أَبْلَغُ. وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ: أَيْ لَمْ يَكُنْ فِي نَفْسِهِ مِمَّنْ يَمْتَنِعُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ.
وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ: بَدَلٌ، وَأَصْبَحَ، إِذَا حُمِلَ عَلَى ظَاهِرِهِ، أَنَّ الْخَسْفَ بِهِ وَبِدَارِهِ كَانَ لَيْلًا، وَهُوَ أَفْظَعُ الْعَذَابِ، إِذِ اللَّيْلُ مَقَرُّ الرَّاحَةِ وَالسُّكُونِ، وَالْأَمْسُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الزَّمَانِ الْمَاضِي، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ مَا قَبْلَ يَوْمِ الْخَسْفِ، وَهُوَ يَوْمُ التَّمَنِّي، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الْعَطْفُ بِالْفَاءِ الَّتِي تَقْتَضِي التَّعْقِيبَ فِي قَوْلِهِ: فَخَسَفْنا، فَيَكُونُ فِيهِ اعْتِقَابُ الْعَذَابِ خُرُوجُهُ فِي زِينَتِهِ، وَفِي ذَلِكَ تَعْجِيلُ الْعَذَابِ. وَمَكَانَهُ: مَنْزِلَتَهُ فِي الدُّنْيَا مِنَ
328
الثَّرْوَةِ وَالْحَشَمِ وَالْأَتْبَاعِ. وَ: وَيْ، عِنْدَ الْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ: اسْمُ فِعْلٍ مِثْلُ: صَهْ وَمَهْ، وَمَعْنَاهَا: أَعْجَبُ. قَالَ الْخَلِيلُ: وَذَلِكَ أَنَّ الْقَوْمَ نَدِمُوا فَقَالُوا، مُتَنَدِّمِينَ عَلَى مَا سَلَفَ مِنْهُمْ:
وَيْ، وَكُلُّ مَنْ نَدِمَ فَأَظْهَرَ نَدَامَتَهُ قَالَ: وَيْ. وَكَأَنَّ: هِيَ كَافُ التَّشْبِيهِ الدَّاخِلَةُ عَلَى أَنَّ، وَكُتِبَتْ مُتَّصِلَةً بِكَافِ التَّشْبِيهِ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ، وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ:
وَيْ كَأَنَّ مَنْ يَكُنْ لَهُ نَشَبٌ يح سب وَمَنْ يَفْتَقِرْ يَعِشْ عَيْشَ ضُرِّ
وَالْبَيْتُ لِزَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ. وَحَكَى الْفَرَّاءُ أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ لِزَوْجِهَا: أَيْنَ ابْنُكَ؟
فَقَالَ: وَيْكَأَنَّهُ وَرَاءَ الْبَيْتِ، وَعَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ يَكُونُ الْوَقْفُ عَلَى وَيْ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: هِيَ وَيْكَ، وَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الْكَافُ حَرْفَ خِطَابٍ، وَلَا مَوْضِعَ لَهُ مِنَ الْإِعْرَابِ، وَالْوَقْفُ عَلَيْهِ وَيْكَ، وَمِنْهُ قَوْلُ عَنْتَرَةَ:
وَلَقَدْ شَفَا نَفْسِي وَأَبْرَأَ سُقْمَهَا قِيلُ الْفَوَارِسِ وَيْكَ عَنْتَرَ أَقْدِمِ
قَالَ الْأَخْفَشُ: وَأَنَّ عِنْدَهُ مَفْتُوحٌ بِتَقْدِيرِ الْعِلْمِ، أَيْ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ، وَقَالَ الشَّاعِرُ:
أَلَا وَيْكَ الْمَضَرَّةَ لَا تَدُومُ وَلَا يُبْقِي عَلَى الْبُؤْسِ النَّعِيمُ
وَذَهَبُ الْكِسَائِيُّ وَيُونُسُ وَأَبُو حَاتِمٍ وَغَيْرُهُمْ إِلَى أَنَّ أَصْلَهُ وَيْلَكَ، فَحُذِفَتِ اللَّامُ وَالْكَافُ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ بِالْإِضَافَةِ. فَعَلَى الْمَذْهَبِ الْأَوَّلِ قِيلَ: تَكُونُ الْكَافُ خَالِيَةً مِنْ مَعْنَى التَّشْبِيهِ، كَمَا قِيلَ: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ
«١» . وَعَلَى الْمَذْهَبِ الثَّانِي، فَالْمَعْنَى: أَعْجَبُ لِأَنَّ اللَّهَ. وَعَلَى الْمَذْهَبِ الثَّالِثِ تَكُونُ وَيْلَكَ كَلِمَةَ تَحَزُّنٍ، وَالْمَعْنَى أَيْضًا: لِأَنَّ اللَّهَ. وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ وَفِرْقَةٌ مَعَهُ: وَيْكَأَنَّ، حَرْفٌ وَاحِدٌ بِجُمْلَتِهِ، وَهُوَ بِمَعْنَى: أَلَمْ تَرَ. وَبِمَعْنَى: أَلَمْ تَرَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو عُبَيْدٍ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: وَيْكَ، فِي كلام العرب، كقوله الرَّجُلِ: أَمَا تَرَى إِلَى صُنْعِ اللَّهِ؟ وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ، عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ قَالَ: مَعْنَى وَيْكَ: رَحْمَةً لَكَ، بِلُغَةِ حِمْيَرَ.
وَلَمَّا صَدَرَ مِنْهُمْ تَمَنِّي حَالِ قَارُونَ، وَشَاهَدُوا الْخَسْفَ، كَانَ ذَلِكَ زَاجِرًا لَهُمْ عَنْ حُبِّ الدُّنْيَا، وَدَاعِيًا إِلَى الرِّضَا بِقَدَرِ اللَّهِ، فَتَنَبَّهُوا لِخَطَئِهِمْ فَقَالُوا: وَيْ، ثُمَّ قَالُوا: كَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ، بِحَسَبِ مَشِيئَتِهِ وَحِكْمَتِهِ، لَا لِكَرَامَتِهِ عَلَيْهِ، وَيُضَيِّقُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ، لَا لِهَوَانِهِ، بَلْ لِحِكْمَتِهِ وَقَضَائِهِ ابْتِلَاءً. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: لَوْلَا مَنَّ اللَّهُ، بِحَذْفِ أَنْ، وَهِيَ مُزَادَةٌ. وَرُوِيَ عَنْهُ: مَنُّ اللَّهِ، بِرَفْعِ النُّونِ وَالْإِضَافَةِ. وَقَرَأَ الجمهور: لخسف مبنيا
329
لِلْمَفْعُولِ وَحَفْصٌ، وَعِصْمَةُ، وَأَبَانٌ عَنْ عَاصِمٍ، وَابْنِ أَبِي حَمَّادٍ عَنْ أَبِي بَكْرٍ: مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ وَابْنُ مَسْعُودٍ، وطلحة، والأعمش: لا نخسف بِنَا، كَقَوْلِكَ: انْقَطَعَ بِنَا، كَأَنَّهُ فِعْلٌ مُطَاوِعٌ، وَالْمَقَامُ مَقَامُ الْفَاعِلِ هُوَ بِنا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَصْدَرَ: أي لا نخسف الِانْخِسَافُ، وَمُطَاوِعُ فِعْلٌ لَا يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ بِهِ، فلذلك بني إما لبنا وَإِمَّا لِلْمَصْدَرِ. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَيْضًا: لَتُخُسِّفَ، بِتَاءٍ وَشَدِّ السِّينِ، مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ.
تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ، مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلَّا مَا كانُوا يَعْمَلُونَ، إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ.
لَمَّا كَانَ مِنْ قَوْلِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ، ذَكَرَ مَحَلَّ الثَّوَابِ، وَهُوَ الدَّارُ الْآخِرَةُ. وَالْمَعْنَى: تِلْكَ الَّتِي سَمِعْتَ بِذِكْرِهَا، وَبَلَغَكَ وَصْفُهَا. الدَّارُ الْآخِرَةُ: أَيْ نَعِيمُ الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَهِيَ الْجَنَّةُ، وَالْبَقَاءُ فِيهَا سَرْمَدًا، وَعَلَّقَ حُصُولَهَا عَلَى مجرد الإرادة، فكيف يمن بَاشَرَ الْعُلُوَّ وَالْفَسَادَ؟ ثُمَّ جَاءَ التَّرْكِيبُ بِلَا فِي قَوْلِهِ: وَلا فَساداً، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْعُلُوِّ وَالْفَسَادِ مَقْصُودٌ، لَا مَجْمُوعَهُمَا. قَالَ الْحَسَنُ: الْعُلُوُّ: الْعِزُّ وَالشَّرَفُ، إِنْ جَرَّ الْبَغْيَ الضَّحَّاكُ، الظُّلْمُ وَالْفَسَادُ يَعُمُّ أَنْوَاعَ الشَّرِّ.
وَعَنْ عَلِيٍّ، كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ: أَنَّ الرَّجُلَ لَيُعْجِبُهُ أَنْ يَكُونَ شِرَاكُ نَعْلِهِ أَجْوَدَ مِنْ شِرَاكِ نَعْلِ صَاحِبِهِ، فَيَدْخُلُ تَحْتَهَا.
وَعَنِ الْفُضَيْلِ، أَنَّهُ قَرَأَهَا ثُمَّ قَالَ: ذَهَبَتِ الْأَمَانِيُّ. وَعَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العزيز: أَنَّهُ كَانَ يُرَدِّدُهَا حَتَّى قُبِضَ. فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ خَيْرٌ أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ، وَأَنْ يَكُونَ وَاحِدَ الْخُيُورِ، أَيْ فَلَهُ خَيْرٌ بِسَبَبِ فِعْلِهَا، وَوَضْعِ الظَّاهِرِ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ فِي قَوْلِهِ: فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ، تَهْجِينًا لِحَالِهِمْ وَتَبْغِيضًا لِلسَّيِّئَةِ إِلَى قُلُوبِ السَّامِعِينَ، فَفِيهِ بِتَكْرَارِهِ مَا لَيْسَ فِيهِ لَوْ كَانَ: فَلَا يُجْزَوْنَ بِالصَّهْرِ، وَمَا كَانُوا عَلَى حَذْفِ مِثْلَ، أَيْ إِلَّا مِثْلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، لِأَنَّ جَزَاءَ السَّيِّئَةِ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا، وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا.
إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ، قَالَ عَطَاءٌ: الْعَمَلَ بِهِ وَمُجَاهِدٌ: أَعْطَاكَهُ وَمُقَاتِلٌ: أَنْزَلَهُ عَلَيْكَ، وَكَذَا قَالَ الْفَرَّاءُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوْجَبَ عَلَيْكَ تِلَاوَتَهُ
330
وَتَبْلِيغَهُ وَالْعَمَلَ بِمَا فِيهِ يَعْنِي أَنَّ الَّذِي حَمَّلَكَ صُعُوبَةَ هَذَا التَّكْلِيفِ لَيُثِيبُكَ عَلَيْهَا ثَوَابًا لَا يُحِيطُ بِهِ الْوَصْفُ. وَالْمَعَادُ، قَالَ الْجُمْهُورُ: فِي الْآخِرَةِ، أَيْ بَاعِثُكَ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَفِيهِ إِثْبَاتُ الْجَزَاءِ وَالْإِعْلَامِ بِوُقُوعِهِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: الْمَعَادُ: الْمَوْتُ.
وَقِيلَ: بَيْتُ الْمَقْدِسِ. وَقِيلَ: الْجَنَّةُ، وَكَانَ قَدْ دَخَلَهَا لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا، وَمُجَاهِدٌ: الْمَعَادُ: مَكَّةُ، أَرَادَ رَدَّهُ إِلَيْهَا يَوْمَ الْفَتْحِ، وَنَكَّرَهُ، وَالْمَقْصُودُ التَّعْظِيمُ، أَيْ مَعَادٍ أَيِّ مَعَادٍ، أَيْ لَهُ شَأْنٌ لغلبة الرسول عَلَيْهَا وَقَهْرِهِ لِأَهْلِهَا، وَلِظُهُورِ عِزِّ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، فَكَأَنَّ اللَّهَ وَعَدَهُ وَهُوَ بِمَكَّةَ أَنَّهُ يُهَاجِرُ مِنْهَا وَيَعُودُ إِلَيْهَا ظَافِرًا ظَاهِرًا. وَقِيلَ: نَزَلَتْ عَلَيْهِ حِينَ بَلَغَ الْجُحْفَةَ فِي مُهَاجَرِهِ، وَقَدِ اشْتَاقَ إِلَيْهَا، فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: أَتَشْتَاقُ إِلَيْهَا؟ قَالَ: نعم، فأوحاها إليه. ومن مَنْصُوبٌ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ، أَيْ يَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى، وَمَنْ أَجَازَ أَنْ يَأْتِيَ أَفْعَلُ بِمَعْنَى فَاعِلٌ، وَأَجَازَ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَنْصِبَ بِهِ، جَازَ أَنْ يَنْتَصِبَ بِهِ، إِذْ يُؤَوِّلُهُ بِمَعْنَى عَالِمٍ، وَيُعْطِيهِ حُكْمَهُ مِنَ الْعَمَلِ.
وَلَمَّا وَعَدَهُ تَعَالَى أَنَّهُ يَرُدُّهُ إِلَى مَعَادٍ، وَأَنَّهُ تَعَالَى فَرَضَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ، أَمَرَهُ أَنْ يَقُولَ لِلْمُشْرِكِينَ ذَلِكَ، أَيْ هُوَ تَعَالَى عَالِمٌ بِمَنْ جَاءَ بالهدى، وَهُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم، وَبِمَا يَسْتَحِقُّهُ مِنَ الثَّوَابِ فِي مَعَادِهِ، وَهَذَا إِذَا عَنَى بِالْمَعَادِ مَا بَعْدَ الْمَوْتِ. وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ: الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ أَمَرَهُ اللَّهُ بِأَنْ يُبَلِّغَهُمْ ذَلِكَ، هُوَ عَالِمٌ بِهِمْ، وَبِمَا يَسْتَحِقُّونَهُ مِنَ الْعِقَابِ فِي مَعَادِهِمْ، وَفِي ذَلِكَ مُتَارَكَةٌ لِلْكُفَّارِ وتوبيخ. وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ: هَذَا تَذْكِيرٌ لِنِعَمِهِ تَعَالَى عَلَى رَسُولِهِ، وَأَنَّهُ تَعَالَى رَحِمَهُ رَحْمَةً لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَا رَجَاؤُهُ. وَقِيلَ: بَلْ هُوَ مُعَلَّقٌ بِقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ، وَأَنْتَ بِحَالِ مَنْ لَا يَرْجُو ذَلِكَ، وَانْتَصَبَ رَحْمَةً عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ، أَيْ لَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ سَبَقَتْ، فَأَلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هَذَا كَلَامٌ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَعْنَى، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَمَا أُلْقِيَ عَلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ. انْتَهَى. فَيَكُونُ اسْتِثْنَاءً مُتَّصِلًا، إِمَّا مِنَ الْأَحْوَالِ، وَإِمَّا مِنَ الْمَفْعُولِ لَهُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَصُدُّنَّكَ، مُضَارِعُ صَدَّ وَشَدُّوا النُّونَ، وَيَعْقُوبُ كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ خَفَّفَهَا. وقرىء: يُصِدُّنَّكَ، مُضَارِعَ أَصَدَّ، بِمَعْنَى صَدَّ، حَكَاهُ أَبُو زَيْدٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ كَلْبٍ قَالَ: وَهِيَ لُغَةُ قَوْمِهِ، وَقَالَ الشَّاعِرُ:
أُنَاسٌ أَصَدُّوا النَّاسَ بِالسَّيْفِ عَنْهُمُ صُدُودَ السَّوَاقِي عَنْ أُنُوفِ الْحَوَائِمِ
بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ: أَيْ بَعْدَ وَقْتِ إِنْزَالِهَا، وإذ تُضَافُ إِلَيْهَا أَسْمَاءُ الزَّمَانِ كَقَوْلِهِ: بَعْدَ
331
إِذْ هَدَيْتَنا
«١» ، وَيَوْمَئِذٍ، وَحِينَئِذٍ. قَالَ الضَّحَّاكُ: وَذَلِكَ حِينَ دَعَوْهُ إِلَى دِينِ آبَائِهِ، أَيْ لَا تَلْتَفِتْ إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا تَرْكَنْ إِلَى قَوْلِهِمْ، فَيَصُدُّونَكَ عَنِ اتِّبَاعِ آيَاتِ اللَّهِ. وَادْعُ إِلى رَبِّكَ: أَيْ دِينِ رَبِّكَ، وَهَذِهِ الْمَنَاهِي كُلُّهَا ظَاهِرُهَا أَنَّهَا لِلرَّسُولِ، وَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ لِأَتْبَاعِهِ، وَالْهَلَاكُ يُطْلَقُ بِإِزَاءِ الْعَدَمِ الْمَحْضِ، فَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ يَعْدَمُ كُلُّ شَيْءٍ سِوَاهُ. وَبِإِزَاءِ نَفْيِ الِانْتِفَاعِ بِهِ، إِمَّا لِلْإِمَاتَةِ، أَوْ بِتَفْرِيقِ الْأَجْزَاءِ، وَإِنْ كَانَتْ نَافِيَةً يُقَالُ: هَلَكَ الثَّوْبُ، لَا يُرِيدُونَ فَنَاءَ أَجْزَائِهِ، وَلَكِنْ خُرُوجَهُ عَنِ الِانْتِفَاعِ بِهِ. وَمَعْنَى: إِلَّا وَجْهَهُ: إِلَّا إِيَّاهُ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَالسُّدِّيُّ: هَالِكٌ بِالْمَوْتِ إِلَّا الْعُلَمَاءَ، فَإِنَّ عِلْمَهُمْ بَاقٍ. انْتَهَى.
وَيُرِيدُونَ إِلَّا مَا قُصِدَ بِهِ وَجْهُهُ مِنَ الْعِلْمِ، فَإِنَّهُ بَاقٍ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: إِلَّا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، وَالْعَرْشَ، وَالْجَنَّةَ، وَالنَّارَ. وَقِيلَ: مُلْكَهُ، وَمِنْهُ: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ
«٢» . وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ:
الْمُرَادُ بِالْوَجْهِ: جَاهُهُ الَّذِي جَعَلَهُ فِي النَّاسِ. وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: إِلَّا وَجْهَهُ، مَا عُمِلَ لِذَاتِهِ، وَمِنْ طَاعَتِهِ، وَتُوُجِّهَ بِهِ نَحْوَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
رَبُّ الْعِبَادِ إِلَيْهِ الْوَجْهُ وَالْعَمَلُ وَقَوْلُهُ: يُرِيدُونَ وَجْهَهُ. لَهُ الْحُكْمُ: أَيْ فَصْلُ الْقَضَاءِ. إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ: أَيْ إِلَى جَزَائِهِ. وَقَرَأَ عِيسَى: تَرْجِعُونَ، مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ وَالْجُمْهُورُ: مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ.
332
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net
-
© 2024