تفسير سورة البينة

البحر المحيط في التفسير
تفسير سورة سورة البينة من كتاب البحر المحيط في التفسير .
لمؤلفه أبو حيان الأندلسي . المتوفي سنة 745 هـ
سورة البينة
هذه السورة مكية في قول الجمهور. وقال ابن الزبير وعطاء بن يسار : مدنية، قاله ابن عطية. وفي كتاب التحرير : مدنية، وهو قول الجمهور. وروى أبو صالح عن ابن عباس أنها مكية، واختاره يحيى بن سلام.

سورة البيّنة
[سورة البينة (٩٨) : الآيات ١ الى ٨]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (١) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (٢) فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (٣) وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (٤)
وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (٧) جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (٨)
لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ، رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً، فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ، وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ، وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ، إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ، إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ، جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ.
هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ وَعَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ: مَدَنِيَّةٌ، قَالَهُ
517
ابْنِ عَطِيَّةَ. وَفِي كِتَابِ التَّحْرِيرِ: مَدَنِيَّةٌ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَرُوِيَ أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ، وَاخْتَارَهُ يَحْيَى بْنُ سَلَّامٍ. وَلَمَّا ذَكَرَ إِنْزَالَ الْقُرْآنِ، وَفِي السُّورَةِ الَّتِي قَبْلَهَا اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ «١»،
ذَكَرَ هُنَا أَنَّ الْكُفَّارَ لم يكونوا منفكين عن مَا هُمْ عَلَيْهِ حَتَّى جَاءَهُمُ الرَّسُولُ يَتْلُو عَلَيْهِمْ مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مِنَ الصُّحُفِ الْمُطَهَّرَةِ الَّتِي أُمِرَ بِقِرَاءَتِهَا
، وَقَسَّمَ الْكَافِرِينَ هُنَا إِلَى أَهْلِ كِتَابٍ وَأَهْلِ إِشْرَاكٍ. وَقَرَأَ بَعْضُ الْقُرَّاءِ: وَالْمُشْرِكُونَ رَفْعًا عَطْفًا عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا.
وَالْجُمْهُورُ: بِالْجَرِّ عَطْفًا عَلَى أَهْلِ الْكِتابِ، وَأَهْلُ الْكِتَابِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَالْمُشْرِكُونَ عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ مِنَ الْعَرَبِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَهْلُ الْكِتَابِ الْيَهُودُ الَّذِينَ كَانُوا بِيَثْرِبَ هُمْ قُرَيْظَةُ وَالنَّضِيرُ وَبَنُو قَيْنُقَاعَ، وَالْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ كَانُوا بِمَكَّةَ وَحَوْلَهَا وَالْمَدِينَةِ وَحَوْلَهَا.
قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ: لَمْ يَكُونُوا مُنْفَكِّينَ عَنِ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ حَتَّى جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَغَيْرُهُ: لَمْ يَكُونُوا مُنْفَكِّينَ عَنْ مَعْرِفَةِ صِحَّةِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ وَالتَّوَكُّفِ لِأَمْرِهِ حَتَّى جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ، فَتَفَرَّقُوا عِنْدَ ذَلِكَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَانَ الْكُفَّارُ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ يَقُولُونَ قَبْلَ الْمَبْعَثِ: لَا نَنْفَكُّ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ مِنْ دِينِنَا حَتَّى يُبْعَثَ النَّبِيُّ الْمَوْعُودُ الَّذِي هُوَ مَكْتُوبٌ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَهُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، فَحَكَى اللَّهُ مَا كَانُوا يَقُولُونَهُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَتَّجِهُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ قَوْلٌ ثَالِثٌ بَارِعُ الْمَعْنَى، وَذَلِكَ أَنَّهُ يَكُونُ الْمُرَادُ: لَمْ يَكُنْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ مُنْفَكِّينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَقُدْرَتِهِ وَنَظَرِهِ لَهُمْ حَتَّى يَبْعَثَ اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِمْ رَسُولًا مُنْذِرًا تَقُومَ عَلَيْهِمْ بِهِ الْحُجَّةُ وَيُتِمُّ عَلَى مَنْ آمَنَ النِّعْمَةَ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: مَا كَانُوا لِيُتْرَكُوا سُدًى، وَلِهَذَا نَظَائِرُ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، انْتَهَى. وَقِيلَ: لَمْ يَكُونُوا مُنْفَكِّينَ عَنْ حَيَاتِهِمْ فَيَمُوتُوا حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَعْنَى: لَمْ يَكُونُوا مُنْفَكِّينَ، أَيْ مُنْفَصِلًا بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، بَلْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمْ مُقِرًّا الْآخَرَ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ مِمَّا اخْتَارَهُ لِنَفْسِهِ، هَذَا مِنِ اعْتِقَادِهِ فِي شَرِيعَتِهِ، وَهَذَا مِنِ اعْتِقَادِهِ فِي أَصْنَامِهِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ اتَّصَلَتْ مَوَدَّتُهُمْ وَاجْتَمَعَتْ كَلِمَتُهُمْ إِلَى أَنْ أَتَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ.
وَقِيلَ: مَعْنَى مُنْفَكِّينَ: هَالِكِينَ، مِنْ قَوْلِهِمْ: انْفَكَّ صِلَا الْمَرْأَةِ عِنْدَ الْوِلَادَةِ، وَأَنْ يَنْفَصِلَ فَلَا يَلْتَئِمُ، وَالْمَعْنَى: لَمْ يَكُونُوا مُعَذَّبِينَ وَلَا هَالِكِينَ إِلَّا بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ، انْتَهَى. وَمُنْفَكِّينَ اسْمُ فَاعِلٍ مِنِ انْفَكَّ، وَهِيَ التَّامَّةُ وَلَيْسَتِ الدَّاخِلَةَ عَلَى الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ. وَقَالَ بَعْضُ النُّحَاةِ: هِيَ النَّاقِصَةُ، وَيُقَدَّرُ مُنْفَكِّينَ: عَارِفِينَ أَمْرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، أَوْ نَحْوُ هَذَا، وَخَبَرُ كَانَ وَأَخَوَاتِهَا لَا يَجُوزُ حَذْفُهُ لَا اقْتِصَارًا وَلَا اخْتِصَارًا، نص
(١) سورة العلق: ٩٦/ ١. [.....]
518
عَلَى ذَلِكَ أَصْحَابُنَا، وَلَهُمْ عِلَّةٌ فِي مَنْعِ ذَلِكَ ذَكَرُوهَا فِي عِلْمِ النَّحْوِ، وَقَالُوا فِي قَوْلِهِ: حِينَ لَيْسَ مُجِيرُ، أَيْ فِي الدُّنْيَا، فَحَذَفَ الْخَبَرَ أَنَّهُ ضَرُورَةٌ، وَالْبَيِّنَةُ: الْحُجَّةُ الْجَلِيلَةُ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: رَسُولٌ بِالرَّفْعِ بَدَلًا مِنْ الْبَيِّنَةُ، وَأُبَيٌّ وَعَبْدُ اللَّهِ: بِالنَّصْبِ حَالًا من البينة. يَتْلُوا صُحُفاً: أَيْ قَرَاطِيسَ، مُطَهَّرَةً مِنَ الْبَاطِلِ. فِيها كُتُبٌ:
مَكْتُوبَاتٌ، قَيِّمَةٌ: مُسْتَقِيمَةٌ نَاطِقَةٌ بِالْحَقِّ. وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ: أَيْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَانْفَصَلَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ فَقَالَ: كُلُّ مَا يَدُلُّ عِنْدَهُ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِ. إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ: وَكَانَ يَقْتَضِي مَجِيءُ الْبَيِّنَةِ أَنْ يَجْتَمِعُوا عَلَى اتِّبَاعِهَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَانُوا يَعُدُّونَ اجْتِمَاعَ الْكَلِمَةِ وَالِاتِّفَاقَ عَلَى الْحَقِّ إِذَا جَاءَهُمُ الرَّسُولُ، ثُمَّ مَا فَرَّقَهُمْ عَنِ الْحَقِّ وَلَا أَقَرَّهُمْ عَلَى الْكُفْرِ إِلَّا مَجِيءُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ أَيْضًا: أَفْرَدَ أَهْلَ الْكِتَابِ، يَعْنِي فِي قَوْلِهِ: وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بَعْدَ جَمْعِهِمْ وَالْمُشْرِكِينَ، قِيلَ:
لِأَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى عِلْمٍ بِهِ لِوُجُودِهِ فِي كُتُبِهِمْ، فَإِذَا وُصِفُوا بِالتَّفَرُّقِ عَنْهُ، كَانَ مَنْ لَا كِتَابَ لَهُ أَدْخَلَ فِي هَذَا الْوَصْفِ. وَالْمُرَادُ بِتَفَرُّقِهِمْ: تَفَرُّقُهُمْ عَنِ الْحَقِّ، أَوْ تَفَرُّقُهُمْ فِرَقًا، فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَ. وَقَالَ: لَيْسَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ عَرَفَ وَعَانَدَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ذَكَرَ تَعَالَى مَذَمَّةَ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ أَنَّهُمْ لَمْ يَتَفَرَّقُوا فِي أَمْرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ الْوَاضِحَةَ، وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ مُتَّفِقِينَ عَلَى نُبُوَّتِهِ وَصِفَتِهِ، فَلَمَّا جَاءَ مِنَ الْعَرَبِ حَسَدُوهُ، انْتَهَى.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مُخْلِصِينَ بكسر اللام، والدين مَنْصُوبٌ بِهِ وَالْحَسَنُ: بِفَتْحِهَا، أَيْ يُخْلِصُونَ هُمْ أَنْفُسُهُمْ فِي نِيَّاتِهِمْ. وَانْتَصَبَ الدِّينَ، إِمَّا عَلَى الْمَصْدَرِ مِنْ لِيَعْبُدُوا، أَيْ لِيَدِينُوا اللَّهَ بِالْعِبَادَةِ الدِّينَ، وَإِمَّا عَلَى إِسْقَاطِ فِي، أَيْ فِي الدِّينِ، وَالْمَعْنَى: وَمَا أُمِرُوا، أَيْ فِي كِتَابَيْهِمَا، بِمَا أُمِرُوا بِهِ إِلَّا لِيَعْبُدُوا. حُنَفاءَ: أَيْ مُسْتَقِيمِي الطَّرِيقَةِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْأَشْعَبِ الطَّالْقَانِيُّ: الْقَيِّمَةُ هُنَا: الْكُتُبُ الَّتِي جَرَى ذِكْرُهَا، كَأَنَّهُ لَمَّا تَقَدَّمَ لَفْظُ قَيِّمَةٍ نَكِرَةً، كَانَتِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الْقَيِّمَةِ لِلْعَهْدِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا، فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ «١». وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: وَذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمَةُ، فَالْهَاءُ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ لِلْمُبَالَغَةِ، أَوْ أَنَّثَ، عَلَى أَنْ عَنَى بِالدِّينِ الْمِلَّةَ، كَقَوْلِهِ: مَا هَذِهِ الصَّوْتُ؟
يُرِيدُ: مَا هَذِهِ الصَّيْحَةُ: وَذَكَرَ تَعَالَى مَقَرَّ الْأَشْقِيَاءِ وَجَزَاءَ السُّعَدَاءِ، وَالْبَرِيَّةُ: جَمِيعُ الْخَلْقِ.
(١) سورة المزمل: ٧٣/ ١٥- ١٦.
519
وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ وَابْنُ عَامِرٍ ونافع: البرءة بِالْهَمْزِ مِنْ بَرَأَ، بِمَعْنَى خَلَقَ. وَالْجُمْهُورُ: بِشَدِّ الْيَاءِ، فَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ أَصْلُهُ الْهَمْزُ، ثُمَّ سُهِّلَ بِالْإِبْدَالِ وَأَدْغَمَ، وَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْبَرَاءِ، وَهُوَ التُّرَابُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا الِاشْتِقَاقُ يَجْعَلُ الْهَمْزَ خَطَأً، وَهُوَ اشْتِقَاقٌ غَيْرُ مَرْضِيٍّ، وَيَعْنِي اشْتِقَاقَ الْبَرِيَّةِ بِلَا هَمْزٍ مِنَ الْبُرَا، وَهُوَ التُّرَابُ، فَلَا يَجْعَلُهُ خَطَأً، بَلْ قِرَاءَةُ الْهَمْزِ مُشْتَقَّةٌ مِنْ بَرَأَ، وَغَيْرُ الْهَمْزِ مِنَ الْبُرَا وَالْقِرَاءَتَانِ قَدْ تَخْتَلِفَانِ فِي الِاشْتِقَاقِ نَحْوَ: أَوْ نَنْسَاهَا أَوْ نُنْسِهَا، فَهُوَ اشْتِقَاقٌ مَرْضِيٌّ. وَحُكْمٌ عَلَى الْكُفَّارِ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ بِالْخُلُودِ فِي النَّارِ وَبِكَوْنِهِمْ شَرَّ الْبَرِيَّةِ، وَبَدَأَ بِأَهْلِ الْكِتَابِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَطْعَنُونَ فِي نُبُوَّتِهِ، وَجِنَايَتُهُمْ أَعْظَمُ لِأَنَّهُمْ أَنْكَرُوهُ مَعَ الْعِلْمِ بِهِ، وَشَرُّ الْبَرِيَّةِ ظَاهِرُهُ الْعُمُومُ. وَقِيلَ: شَرُّ الْبَرِيَّةِ: الَّذِينَ عَاصَرُوا الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ فِي كُفَّارِ الْأُمَمِ مَنْ هُوَ شَرٌّ مِنْ هَؤُلَاءِ، كَفِرْعَوْنَ وَعَاقِرِ نَاقَةِ صَالِحٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: خَيْرُ الْبَرِيَّةِ مُقَابِلُ شَرُّ الْبَرِيَّةِ وَحَمِيدٌ وَعَامِرُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ: خِيَارُ الْبَرِيَّةِ جَمْعُ خَيِّرٍ، كَجِيِّدٍ وَجِيَادٍ. وَبَقِيَّةُ السُّورَةِ وَاضِحَةٌ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُ ذَلِكَ إفرادا وتركيبا.
520
Icon